Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية بدر

الاثنين، 22 مايو 2023

ج9وج10وج11.مجموع الفتاوى لابن تيمية

 

ج9.وج10وج11. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

قُلْت : وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَلْفَاظَ اللُّغَاتِ ( مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَالتَّنُّورِ وَكَمَا يُوجَدُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَّحِدَةِ فِي اللُّغَاتِ . وَ مِنْهَا : مُتَنَوِّعٌ كَأَكْثَرِ اللُّغَاتِ وَاخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ تَنَوُّعٍ لَا تَضَادَّ ؛ كَاخْتِلَافِ الِاسْمَيْنِ لِلْمُسَمَّى الْوَاحِدِ . وَكَذَلِكَ مَعَانِي اللُّغَاتِ ؛ فَإِنَّ " الْمَعْنَى الْوَاحِدَ " الَّذِي تَعْلَمُهُ الْأُمَمُ ؛ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ كُلُّ أُمَّةٍ بِلِسَانِهَا ؛ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَاحِدًا بِالنَّوْعِ فِي الْأُمَمِ ؛ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ كَمَا يَخْتَلِفُ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ بِالْعَرَبِيَّةِ . وَقَدْ يَكُونُ تَصَوُّرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُتَنَوِّعًا فِي الْأُمَمِ مِثْلَ : أَنْ يَعْلَمَهُ أَحَدُهُمْ بِنَعْتِ وَيُعَبِّرَ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ النَّعْتِ وَتَعْلَمُهُ الْأُمَّةُ الْأُخْرَى بِنَعْتِ آخَرَ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ النَّعْتِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُعَبَّرِ بِهَا عَنْ الْأَشْيَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى عِلْمِهَا فِي الْجُمْلَةِ " فَتُكْرِي وَخَدَّايَ وَنَسَتْ شَكَّ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَتْ أَسْمَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ مَعْنَاهَا مُطَابِقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَعْنَى اسْمِ اللَّهِ ؛ وَكَذَلِكَ " بيغنير وَبِهَشِمِ " وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا إذَا تَأَمَّلْت الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُتَرْجَمُ بِهَا الْقُرْآنُ - مِنْ الْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهَا - تَجِدْ بَيْنَ الْمَعَانِي نَوْعَ فَرْقٍ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً فِي الْأَصْلِ كَمَا أَنَّ اللُّغَتَيْنِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الصَّوْتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتَا فِي تَأْلِيفِهِ ؛ وَقَدْ تَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَهَا أَكْثَرَ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ " الْمُتَكَافِئَةِ " - الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ - كَالصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ ؛ وَكَالرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالْمَوْرِ وَالْحَرَكَةِ وَالصِّرَاطِ وَالطَّرِيقِ .

وَتَخْتَلِفُ اللُّغَتَانِ أَيْضًا فِي قَدْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَعُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ ؛ كَمَا تَخْتَلِفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَنَوْعِهِ وَتَخْتَلِفُ أَيْضًا فِي كَيْفِيَّتِهِ وَصِفَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . بَلْ النَّاطِقَانِ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ بِاللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ يَتَصَوَّرُ أَحَدُهُمَا مِنْهُ مَا لَمْ يَتَصَوَّرْ الْآخَرُ حَقِيقَتَهُ وَكَمِّيَّتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ لَا يَتَّحِدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي قَلْبِ النَّاطِقِينَ ؛ بَلْ وَلَا فِي قَلْبِ النَّاطِقِ الْوَاحِدِ فِي الْوَقْتَيْنِ ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ يَجِبُ اتِّحَادُهُ فِي اللُّغَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ مَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُ لَيْسَ عَلَى حَدِّ مَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ وَمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فِيهِ لَيْسَ عَلَى حَدِّ مَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ ؛ لَكِنَّ الِاخْتِلَافَ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ لَا تَضَادَّ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ سَوَاءٌ فَفَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا لَوْ عَبَّرْنَا عَنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِالْعِبْرِيَّةِ وَعَنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ بَلْ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ تَنَوُّعُ مَعَانِي الْكُتُبِ وَاخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ تَنَوُّعٍ أَعْظَمَ مِنْ اخْتِلَافِ حُرُوفِهَا ؛ لِمَا بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعِبْرِيَّةِ مِنْ التَّفَاوُتِ ؛ وَكَذَلِكَ مَعَانِي الْبَقَرَةِ لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي آل عِمْرَانَ . وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الْأَمْرِ هُوَ الْخَبَرُ . وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُخْتَلِفَاتِ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي حَقِيقَةٍ مَا كَمَا أَنَّ اللُّغَاتِ تَشْتَرِكُ فِي حَقِيقَةٍ مَا فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا وَاحِدَةٌ مَعَ تَنَوُّعِهَا : فَكَذَلِكَ اللُّغَاتُ سَوَاءٌ بَلْ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي أَشَدُّ . أَمَّا دَعْوَى كَوْنِ أَحَدِهِمَا صِفَةً حَقِيقِيَّةً وَالْأُخْرَى وَضْعِيَّةً : فَلَيْسَ كَذَلِكَ

وَهَذَا مَوْضِعٌ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي " الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ " وَ " فِي أُصُولِ الدِّينِ " وَ " الْفِقْهِ " وَفِي مَعْرِفَةِ " تَرْجَمَةِ اللُّغَاتِ " . وَأَيْضًا : لَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِأَنَّ اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ وَاللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاطِقِينَ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَاوُتٌ أَصْلًا فَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْجَمِيعِ فَكَذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ فَإِنَّ اللُّغَاتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَقَدْ يَحْصُلُ أَصْلُ الْمَقْصُودِ بِالتَّرْجَمَةِ فَكَذَلِكَ الْمَعَانِي : فَإِنَّ التَّرْجَمَةَ تَكُونُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى . وَلِهَذَا سَمَّى الْمُسْلِمُونَ ابْنَ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُتَرْجِمُ اللَّفْظَ.

فَصْلٌ :
مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ طَرِيقَةَ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ " أَهْلِ السُّنَّةِ " هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إلَى الْحَقِّ دُونَ طَرِيقَةِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين : أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِلْمُ وَطَرِيقُهُ هُوَ الدَّلِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ جَاءُوا بِالْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ وَالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ كَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ مُفَصَّلَةً وَنَفْيِ الْكُفُؤِ عَنْهُ . وَ " الْفَلَاسِفَةُ " يَجِيئُونَ بِالنَّفْيِ الْمُفَصَّلِ : لَيْسَ بِكَذَا وَلَا كَذَا . فَإِذَا جَاءَ الْإِثْبَاتُ أَثْبَتُوا وُجُودًا مُجْمَلًا وَاضْطَرَبُوا فِي " أَوَّلِ مَقَامَاتِ ثُبُوتِهِ " وَهُوَ أَنَّ وُجُودَهُ هُوَ عَيْنُ ذَاتِهِ أَوْ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهَا أَوْ عَرَضِيَّةٌ ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعَاتِ الذِّهْنِيَّةِ اللَّفْظِيَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّفْيَ لَا وُجُودَ لَهُ وَلَا يُعْلَمُ النَّفْيُ وَالْعَدَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ نَفَوْا الْعِلْمَ بِالْمَعْدُومِ إلَّا إذَا جُعِلَ شَيْئًا لِأَنَّ الْعِلْمَ - فِيمَا زَعَمُوا - لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِشَيْءِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودِ فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " تَصَوَّرْنَا إلَهًا مَوْجُودًا . وَعَلِمْنَا عَدَمَ مَا تَصَوَّرْنَاهُ إلَّا عَنْ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا نَنْفِيهِ لَا بُدَّ أَنْ نَتَصَوَّرَهُ أَوَّلًا ثُمَّ نَنْفِيَهُ وَلَا نَتَصَوَّرَهُ إلَّا

بَعْدَ تَصَوُّرِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ ثُمَّ نَتَصَوَّرَ مَا شَابَهَهُ أَوْ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ أَجْزَائِهِ كَتَصَوُّرِ بَحْرِ زِئْبَقٍ وَجَبَلِ يَاقُوتٍ وَآلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ : ثُمَّ نَنْفِيَهُ ؛ وَإِلَّا فَتَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ مُبْتَدَعٌ لَا يُنَاسِبُ الْمَوْجُودَاتِ بِوَجْهِ لَا يُمْكِنُ الْعَقْلُ إبْدَاعَهُ ؛ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ أَوْ الْعِلْمِيَّةِ كَتَصَوُّرِ الْفَاعِلِ مَا يَفْعَلُهُ قَبْلَ فِعْلِهِ . فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ ؛ لِيُوجَدَ ؛ كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ تَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ مُمْكِنٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ يُوجَدُ أَوْ لَا يُوجَدُ فَالْمَعْدُومُ الْفِعْلِيُّ وَغَيْرُ الْفِعْلِيِّ لَا يَبْتَدِعُهُ عَقْلُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وُجُودِيَّةٍ كَمَا لَا تُبْدِعُ قُدْرَتُهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وُجُودِيَّةٍ وَإِنَّمَا الْإِبْدَاعُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ . وَكَيْفَ يَعْلَمُ ؟ وَكَيْفَ يَفْعَلُ ؟ بَابٌ آخَرُ . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا : أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَوْجُودِ وَصِفَاتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ تَبَعٌ لَهُ وَفَرْعٌ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ بِالْعَدَمِ لَا فَائِدَةَ لِلْعَالِمِ بِهِ إلَّا لِتَمَامِ الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودِ وَتَمَامِ الْمَوْجُودِ فِي نَفْسِهِ ؛ إذْ تَصَوُّرُ " لَا شَيْءَ " لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْعَالِمُ صِفَةَ كَمَالٍ لَكِنَّ عِلْمَهُ بِانْتِفَاءِ النَّقَائِصِ مَثَلًا عَنْ الْمَوْجُودِ عِلْمٌ بِكَمَالِهِ . وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ عِلْمٌ بِوَحْدَانِيِّتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ الْكَمَالِ وَكَذَلِكَ تَصَوُّرُ مَا يُرَادُ فِعْلُهُ مُفْضٍ إلَى وُجُودِ الْفِعْلِ وَتَصَوُّرُ مَا يُرَادُ تَرْكُهُ مُفْضٍ إلَى التَّرْكِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الشَّرِّ الَّذِي يَكْمُلُ الْمَوْجُودُ بِعَدَمِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْته فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْمَوْجُودِ بِنَفَسِهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ وَمُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ الْمَقْصُودِ الْمَوْجُودِ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
قَالَ السَّائِلُ : الْمَسْئُولُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَالسَّادَةِ الْأَعْلَامِ - أَحْسَنَ اللَّهُ ثَوَابَهُمْ وَأَكْرَمَ نُزُلَهُمْ وَمَآبَهُمْ - أَنْ يَرْفَعُوا حِجَابَ الْإِجْمَالِ وَيَكْشِفُوا قِنَاعَ الْإِشْكَالِ عَنْ " مُقَدِّمَةِ " جَمِيعِ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا وَمُسْتَنِدُونَ فِي آرَائِهِمْ إلَيْهَا ؛ حَاشَا مُكَابِرًا مِنْهُمْ مُعَانِدًا وَكَافِرًا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ جَاحِدًا . وَهِيَ أَنْ يُقَالَ : " هَذِهِ صِفَةُ كَمَالٍ فَيَجِبُ لِلَّهِ إثْبَاتُهَا وَهَذِهِ صِفَةُ نَقْصٍ فَيَتَعَيَّنُ انْتِفَاؤُهَا " لَكِنَّهُمْ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِهَا فِي أَفْرَادِ الصِّفَاتِ مُتَنَازِعُونَ وَفِي تَعْيِينِ الصِّفَاتِ لِأَجْلِ الْقِسْمَيْنِ مُخْتَلِفُونَ . " فَأَهْلُ السُّنَّةِ " يَقُولُونَ : إثْبَاتُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ " الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ " كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَ " الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " - كَالضَّحِكِ وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ - صِفَاتُ كَمَالٍ وَأَضْدَادُهَا صِفَاتُ نُقْصَانٍ .

" وَالْفَلَاسِفَةُ " تَقُولُ : اتِّصَافُهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ اسْتَكْمَلَ بِغَيْرِهِ فَيَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ نَقْصًا لَمْ يَجُزْ اتِّصَافُهُ بِهَا . " وَالْمُعْتَزِلَةُ " يَقُولُونَ : لَوْ قَامَتْ بِذَاتِهِ صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا وَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ الرَّبُّ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ . وَالْجِسْمُ مُرَكَّبٌ وَالْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ مُحْتَاجٌ وَذَلِكَ عَيْنُ النَّقْصِ . وَيَقُولُونَ أَيْضًا : لَوْ قَدَّرَ عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالَهُمْ وَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهَا : كَانَ ظَالِمًا وَذَلِكَ نَقْصٌ . وَخُصُومُهُمْ يَقُولُونَ : لَوْ كَانَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ لَكَانَ نَاقِصًا . " والْكُلَّابِيَة وَمَنْ تَبِعَهُمْ " يَنْفُونَ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ وَيَقُولُونَ : لَوْ قَامَتْ بِهِ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ . وَالْحَادِثُ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ عَدِمَهُ قَبْلَهُ وَهُوَ نَقْصٌ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ لَهُ كَمَالًا لَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِهِ . " وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ " يَنْفُونَ صِفَاتِهِ الْخَبَرِيَّةَ لِاسْتِلْزَامِهَا التَّرْكِيبَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ . وَهَكَذَا نَفْيُهُمْ أَيْضًا لِمَحَبَّتِهِ لِأَنَّهَا مُنَاسِبَةٌ بَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ وَمُنَاسَبَةُ الرَّبِّ لِلْخَلْقِ نَقْصٌ : وَكَذَا رَحْمَتُهُ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ رِقَّةٌ تَكُونُ فِي الرَّاحِمِ وَهِيَ ضَعْفٌ وَخَوَرٌ فِي الطَّبِيعَةِ وَتَأَلُّمٌ عَلَى الْمَرْحُومِ وَهُوَ نَقْصٌ . وَكَذَا غَضَبُهُ لِأَنَّ الْغَضَبَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ طَلَبًا لِلِانْتِقَامِ . وَكَذَا نَفْيُهُمْ لِضَحِكِهِ وَتَعَجُّبِهِ لِأَنَّ الضَّحِكَ خِفَّةُ رُوحٍ تَكُونُ لِتَجَدُّدِ مَا يَسُرُّ وَانْدِفَاعِ مَا يَضُرُّ . وَالتَّعَجُّبُ اسْتِعْظَامٌ لِلْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ .

وَ " مُنْكِرُو النُّبُوَّاتِ " يَقُولُونَ : لَيْسَ الْخَلْقُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا كَمَا أَنَّ أَطْرَافَ النَّاسِ لَيْسُوا أَهْلًا أَنْ يُرْسِلَ السُّلْطَانُ إلَيْهِمْ رَسُولًا . وَ " الْمُشْرِكُونَ " يَقُولُونَ : عَظَمَةُ الرَّبِّ وَجَلَالُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ وَحِجَابٍ فَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ ابْتِدَاءٌ مِنْ غَيْرِ شِفَاءٍ وَوَسَائِطُ غَضٍّ مِنْ جَنَابِهِ الرَّفِيعِ . هَذَا وَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ " الْمُقَدِّمَةِ " لَا يَقُولُونَ بِمُقْتَضَاهَا وَلَا يَطْرُدُونَهَا فَلَوْ قِيلَ لَهُمْ : أَيُّمَا أَكْمَلُ ؟ ذَاتٌ تُوصَفُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكَاتِ : مِنْ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ أَمْ ذَاتٌ لَا تُوصَفُ بِهَا كُلِّهَا ؟ لَقَالُوا الْأُولَى أَكْمَلُ وَلَمْ يَصِفُوا بِهَا كُلِّهَا الْخَالِقَ . وَ ( بِالْجُمْلَةِ فَالْكَمَالُ وَالنَّقْصُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْمَعَانِي الْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ الصِّفَةُ كَمَالًا لِذَاتٍ وَنَقْصًا لِأُخْرَى وَهَذَا نَحْوُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ : كَمَالٌ لِلْمَخْلُوقِ نَقْصٌ لِلْخَالِقِ وَكَذَا التَّعَاظُمُ وَالتَّكَبُّرُ وَالثَّنَاءُ عَلَى النَّفْسِ : كَمَالٌ لِلْخَالِقِ نَقْصٌ لِلْمَخْلُوقِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَعَلَّ مَا تَذْكُرُونَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ إنَّمَا يَكُونُ كَمَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّاهِدِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا لِلْغَائِبِ كَمَا بُيِّنَ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ تَبَايُنِ الذَّاتَيْنِ . وَإِنْ قُلْتُمْ : نَحْنُ نَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ مُتَعَلَّقِ الصِّفَةِ وَنَنْظُرُ فِيهَا هَلْ هِيَ كَمَالٌ أَوْ نَقْصٌ ؟ فَلِذَلِكَ نُحِيلُ الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَمَالًا لِذَاتٍ نَقْصًا لِأُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرَ .

وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ أَنَّ " مُقَدِّمَةً " وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِجْمَاعُ هِيَ مَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ وَالنِّزَاعِ فَرَضِيَ اللَّهُ عَمَّنْ بَيَّنَ لَنَا بَيَانًا يَشْفِي الْعَلِيلَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ وَإِيضَاحِ الدَّلِيلِ إنَّهُ تَعَالَى سَمِيعُ الدُّعَاءِ وَأَهْلُ الرَّجَاءِ وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى " مُقَدِّمَتَيْنِ " . ( إحْدَاهُمَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْكَمَالَ ثَابِتٌ لِلَّهِ بَلْ الثَّابِتُ لَهُ هُوَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ مِنْ الأكملية بِحَيْثُ لَا يَكُونُ وُجُودُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ إلَّا وَهُوَ ثَابِتٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى يَسْتَحِقُّهُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَثُبُوتُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ نَفْيَ نَقِيضِهِ ؛ فَثُبُوتُ الْحَيَاةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْتِ وَثُبُوتُ الْعِلْمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجَهْلِ وَثُبُوتُ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْعَجْزِ وَأَنَّ هَذَا الْكَمَالَ ثَابِتٌ لَهُ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ مَعَ دَلَالَةِ السَّمْعِ عَلَى ذَلِكَ . وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأُمُورِ ( نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا خَبَرُ اللَّهِ الصَّادِقُ فَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ . وَ ( الثَّانِي دَلَالَةُ الْقُرْآنِ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَبَيَانِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ . فَهَذِهِ دَلَالَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ فَهِيَ " شَرْعِيَّةٌ " لِأَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَيْهَا وَأَرْشَدَ إلَيْهَا ؛ وَ " عَقْلِيَّةٌ " لِأَنَّهَا تُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالْعَقْلِ . وَلَا يُقَالُ : إنَّهَا لَمْ تُعْلَمْ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ .

وَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِالشَّيْءِ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِالدَّلَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ : صَارَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِخَبَرِهِ . وَمَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلِهِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ فَيَصِيرُ ثَابِتًا بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَكِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُسَمَّى " الدَّلَالَةَ الشَّرْعِيَّةَ " . وَثُبُوتُ " مَعْنَى الْكَمَالِ " قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِعِبَارَاتِ مُتَنَوِّعَةٍ دَالَّة عَلَى مَعَانِي مُتَضَمِّنَةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى . فَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إثْبَاتِ الْحَمْدِ لَهُ وَتَفْصِيلِ مَحَامِدِهِ وَأَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى وَإِثْبَاتِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : كُلُّهُ دَالٌّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى . وَقَدْ ثَبَتَ لَفْظُ " الْكَامِلِ " فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } أَنَّ " الصَّمَدَ " هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْكَمَالِ وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ وَالْحَكَمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حُكْمِهِ وَالْغَنِيُّ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ وَالْجَبَّارُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ وَالْعَالِمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَهُوَ الشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَهَذِهِ صِفَةٌ لَا تَنْبَغِي إلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ وَلَا كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . وَهَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ نَازَعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى ؛ بَلْ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ النَّاسِ ؛ بَلْ هُمْ مَفْطُورُونَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ مَفْطُورُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ ؛ فَإِنَّهُمْ مَفْطُورُونَ عَلَى أَنَّهُ أَجَلُّ وَأَكْبَرُ وَأَعْلَى وَأَعْلَمُ وَأَعْظَمُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْخَالِقِ وَكَمَالِهِ يَكُونُ فِطْرِيًّا ضَرُورِيًّا فِي حَقِّ مَنْ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْفِطْرَةِ وَأَحْوَالٍ تَعْرِضُ لَهَا . وَأَمَّا لَفْظُ " الْكَامِلِ " : فَقَدْ نَقَلَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ الجبائي أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ كَامِلًا وَيَقُولَ : الْكَامِلُ الَّذِي لَهُ أَبْعَاضٌ مُجْتَمِعَةٌ . وَهَذَا النِّزَاعُ إنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ فَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ . وَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْكَمَالِ لَهُ وَنَفْيَ النَّقَائِصِ عَنْهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ . وَزَعَمَتْ " طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ " كَأَبِي الْمَعَالِي وَالرَّازِي والآمدي وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِ الَّذِي هُوَ " الْإِجْمَاعُ " وَأَنَّ نَفْيَ الْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ عَنْهُ لَمْ يُعْلَمْ إلَّا بِالْإِجْمَاعِ وَجَعَلُوا الطَّرِيقَ الَّتِي بِهَا نَفَوْا عَنْهُ مَا نَفَوْهُ إنَّمَا هُوَ نَفْيُ مُسَمَّى الْجِسْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَخَالَفُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ شُيُوخُ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية ؛ كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي إسْحَاقَ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي إثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ النَّقَائِصِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ . وَلِهَذَا صَارَ هَؤُلَاءِ يَعْتَمِدُونَ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى مُجَرَّدِ السَّمْعِ وَيَقُولُونَ : إذَا كُنَّا نُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ الْآفَاتِ وَنَفْيُ الْآفَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِأَدِلَّةِ سَمْعِيَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ

وَالسُّنَّةِ قَالُوا : وَالنُّصُوصُ الْمُثْبِتَةُ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ : أَعْظَمُ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَالِاعْتِمَادُ فِي إثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً عَلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَاَلَّذِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ فِي النَّفْيِ مِنْ نَفْيِ مُسَمَّى التَّحَيُّزِ وَنَحْوِهِ - مَعَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ لَمْ يَأْتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ ؛ وَلَا أَثَرٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - هُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي الْعَقْلِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْعَقْلِ ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَنْفِي شَيْئًا خَوْفًا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِهِ جِسْمًا إلَّا قِيلَ لَهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ نَظِيرَ مَا قَالَهُ فِيمَا نَفَاهُ ؛ وَقِيلَ لَهُ فِيمَا نَفَاهُ نَظِيرَ مَا يَقُولُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ ؛ كَالْمُعْتَزِلَةِ لَمَّا أَثْبَتُوا أَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ؛ وَقَالُوا : إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالصِّفَاتِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْرَاضٌ لَا يُوصَفُ بِهَا إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ ؛ وَلَا يُعْقَلُ مَوْصُوفٌ إلَّا جِسْمٌ . فَقِيلَ لَهُمْ : فَأَنْتُمْ وَصَفْتُمُوهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَلَا يُوصَفُ شَيْءٌ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ حَيٌّ قَدِيرٌ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ وَلَا يُعْقَلُ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَكُمْ عَنْ الْأَسْمَاءِ كَانَ جَوَابَنَا عَنْ الصِّفَاتِ فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ بَلْ يُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَا لَيْسَ بِجِسْمِ جَازَ أَنْ يُقَالَ : فَكَذَلِكَ يُوصَفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَأَنْ يُقَالَ : هَذِهِ الصِّفَاتُ لَيْسَتْ أَعْرَاضًا وَإِنْ قِيلَ : لَفْظُ الْجِسْمِ " مُجْمَلٌ " أَوْ " مُشْتَرِكٌ " وَأَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا يَجِب أَنْ يُمَاثِلَهُ غَيْرُهُ وَلَا أَنْ يَثْبُتَ لَهُ خَصَائِصُ غَيْرِهِ ؛ جَازَ أَنْ يُقَالَ : الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَجِب أَنْ يُمَاثِلَهُ غَيْرُهُ وَلَا أَنْ يَثْبُتَ لَهُ خَصَائِصُ غَيْرِهِ .

وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ نفاة الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ كَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْحُبِّ وَالْفَرَحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : هَذِهِ الصِّفَاتُ لَا تُعْقَلُ إلَّا لِجِسْمِ . قِيلَ لَهُمْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ : وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ فَمَا لَزِمَ فِي أَحَدِهِمَا لَزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ . وَهَكَذَا نفاة الصِّفَات مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ إذَا قَالُوا ثُبُوتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الْمَعَانِي فِيهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ جِسْمًا أَوْ مُرَكَّبًا قِيلَ لَهُمْ : هَذَا كَمَا أَثْبَتُّمْ أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَقْلٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَإِنْ قَالُوا : هَذِهِ تَرْجِعُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ قِيلَ لَهُمْ : إنْ كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا بَطَلَ الْفَرْقُ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ فِي تِلْكَ مِثْلُ هَذِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ صِفَةٍ وَصِفَةٍ . وَالْكَلَامُ عَلَى ثُبُوتِ الصِّفَاتِ وَبُطْلَانِ أَقْوَالِ الْنُّفَاةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَمَالِ لِلَّهِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَأَنَّ نَقِيضَ ذَلِكَ مُنْتَفٍ عَنْهُ فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ مُسْتَقِيمٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ ؛ دُونَ تِلْكَ خِلَافَ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ .
وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ : يُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكَمَالَ لِلَّهِ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالْفَلَاسِفَةُ تُسَمِّيهِ التَّمَامَ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ :

مِنْهَا أَنْ يُقَالَ : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ قَدِيمٌ بِنَفْسِهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ قَيُّومٌ بِنَفْسِهِ خَالِقٌ بِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ . وَالطَّرِيقَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي وُجُوبِ الْوُجُودِ تُقَالُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي . فَإِذَا قِيلَ : الْوُجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : الْمَوْجُودُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ وَالْحَادِثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْقَدِيمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَالْمَوْجُودُ إمَّا غَنِيٌّ وَإِمَّا فَقِيرٌ وَالْفَقِيرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْغَنِيِّ فَلَزِمَ وُجُودُ الْغَنِيِّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَالْمَوْجُودُ إمَّا قَيُّومٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا غَيْرُ قَيُّومٍ وَغَيْرُ الْقَيُّومِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْقَيُّومِ ؛ فَلَزِمَ ثُبُوتُ الْقَيُّومِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَالْمَوْجُودُ إمَّا مَخْلُوقٌ وَإِمَّا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمَخْلُوقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ ؛ فَلَزِمَ ثُبُوتُ الْخَالِقِ غَيْرِ الْمَخْلُوقِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ . ثُمَّ يُقَالُ : هَذَا الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ الْخَالِقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ لِلْمُمْكِنِ الْوُجُودَ مُمْكِنًا لَهُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ . وَالثَّانِي مُمْتَنِعٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُمْكِنٌ لِلْمَوْجُودِ الْمُحْدَثِ الْفَقِيرِ الْمُمْكِنِ ؛ فَلِأَنْ يُمْكِنَ لِلْوَاجِبِ الْغَنِيِّ الْقَدِيمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا مَوْجُودٌ . وَالْكَلَامُ فِي الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ الْوُجُودَ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ . فَإِذَا كَانَ الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ الْوُجُودَ مُمْكِنًا لِلْمَفْضُولِ فَلِأَنْ يُمْكِنَ لِلْفَاضِلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ نَاقِصٌ فَلِأَنْ يُمْكِنَ لِمَا هُوَ

فِي وُجُودِهِ أَكْمَلُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا سِيَّمَا وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَمْتَنِعُ اخْتِصَاصُ الْمَفْضُولِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِكَمَالِ لَا يَثْبُتُ لِلْأَفْضَلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ مَا قَدْ ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَفْضُولِ فَالْفَاضِلُ أَحَقُّ بِهِ ؛ فَلِأَنْ يَثْبُتَ لِلْفَاضِلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْكَمَالَ إنَّمَا اسْتَفَادَهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ الْخَالِقِ وَاَلَّذِي جَعَلَ غَيْرَهُ كَامِلًا هُوَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْهُ ؛ فَاَلَّذِي جَعَلَ غَيْرَهُ قَادِرًا أَوْلَى بِالْقُدْرَةِ وَاَلَّذِي عَلِمَ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالْعِلْمِ وَاَلَّذِي أَحْيَا غَيْرَهُ أَوْلَى بِالْحَيَاةِ . وَالْفَلَاسِفَةُ تُوَافِقُ عَلَى هَذَا وَيَقُولُونَ : كُلُّ كَمَالٍ لِلْمَعْلُولِ فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْعِلَّةِ وَالْعِلَّةُ أَوْلَى بِهِ . وَإِذَا ثَبَتَ إمْكَانُ ذَلِكَ لَهُ ؛ فَمَا جَازَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ الْوُجُودَ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَهُ إلَّا بِذَلِكَ الْغَيْرِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ لَزِمَ " الدُّورُ القبلي " الْمُمْتَنِعُ ؛ فَإِنَّ مَا فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ مِنْ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ فَهِيَ مِنْهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ فَاعِلًا لِلْآخَرِ وَهَذَا هُوَ " الدُّورُ القبلي " فَإِنَّ الشَّيْءَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَمْتَنِعَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِفَاعِلِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ فَاعِلًا لِمَا بِهِ يَصِيرُ الْآخَرُ فَاعِلًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ مُعْطِيًا لِلْآخَرِ كَمَالِهِ ؛ فَإِنَّ مُعْطِيَ الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَكْمَلَ مِنْ الْآخَرِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَإِنَّ كَوْنَ هَذَا أَكْمَلَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَفَضْلُ أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ مُسَاوَاةَ الْآخَرِ لَهُ فَلِأَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْآخَرِ أَفْضَلَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .

وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ : لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى فِعْلِهِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ وَعَلَى مُعَاوَنَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فِي كَمَالِهِ وَمُعَاوَنَةُ ذَلِكَ الْغَيْرِ فِي كَمَالِهِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ ؛ إذْ فِعْلُ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَأَفْعَالُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمُبْدِعِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ . فَإِذَا قِيلَ : كَمَالِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَخْلُوقِهِ : لَزِمَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى مَخْلُوقِهِ وَمَا كَانَ ثُبُوتُهُ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ كَانَ بَاطِلًا مِنْ نَفْسِهِ . وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْغَيْرُ كُلُّ كَمَالٍ لَهُ فَمِنْهُ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْهُ وَلَوْ قِيلَ يَتَوَقَّفُ كَمَالِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّفًا إلَّا عَلَى مَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ . وَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَلْ وَاجِبًا آخَرَ قَدِيمًا بِنَفْسِهِ . فَيُقَالُ : إنْ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ هُوَ الْمُعْطِي دُونَ الْعَكْسِ فَهُوَ الرَّبُّ وَالْآخَرُ عَبْدُهُ . وَإِنْ قِيلَ : بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا يُعْطِي لِلْآخَرِ الْكَمَالَ : لَزِمَ " الدُّورُ فِي التَّأْثِيرِ " وَهُوَ بَاطِلٌ وَهُوَ مِنْ " الدُّورِ القبلي " لَا مِنْ " الدُّورِ الْمَعِي الِاقْتِرَانِيِّ " فَلَا يَكُونُ هَذَا كَامِلًا حَتَّى يَجْعَلَهُ الْآخَرُ كَامِلًا وَالْآخَرُ لَا يَجْعَلُهُ كَامِلًا حَتَّى يَكُونَ فِي نَفْسِهِ كَامِلًا ؛ لِأَنَّ جَاعِلَ الْكَامِلِ كَامِلًا أَحَقُّ بِالْكَمَالِ وَلَا يَكُونُ الْآخَرُ كَامِلًا حَتَّى يَجْعَلَهُ كَامِلًا فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَامِلًا بِالضَّرُورَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ لَا يَكُونُ كَامِلًا حَتَّى يَجْعَلَ نَفْسَهُ كَامِلًا وَلَا يَجْعَلَ نَفْسَهُ كَامِلًا حَتَّى يَكُونَ كَامِلًا لَكَانَ مُمْتَنِعًا ؛ فَكَيْفَ إذَا قِيلَ حَتَّى يَجْعَلَ مَا يَجْعَلُهُ كَامِلًا كَامِلًا . وَإِنْ قِيلَ : كُلُّ وَاحِدٍ لَهُ آخَرُ يُكَمِّلُهُ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ : لَزِمَ " التَّسَلْسُلُ

فِي الْمُؤَثِّرَاتِ " وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . فَإِنَّ تَقْدِيرَ مُؤَثِّرَاتٍ لَا تَتَنَاهَى : لَيْسَ فِيهَا مُؤَثِّرٌ بِنَفْسِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا وُجُودَ جَمِيعِهَا وَلَا وُجُودَ اجْتِمَاعِهَا وَالْمُبْدِعُ لِلْمَوْجُودَاتِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا بِالضَّرُورَةِ . فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا كَامِلٌ فَكَمَالُهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ آخَرَ وَهَلُمَّ جَرَّا ؛ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ كَمَالٌ ؛ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَامِلٌ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَإِذَا كَانَ كَمَالِهِ بِنَفْسِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ : كَانَ الْكَمَالُ لَهُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَامْتَنَعَ تَخَلُّفُ شَيْءٍ مِنْ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ عَنْهُ ؛ بَلْ مَا جَازَ لَهُ مِنْ الْكَمَالِ وَجَبَ لَهُ كَمَا أَقَرَّ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ بَلْ هَذَا ثَابِتٌ فِي مَفْعُولَاتِهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ مُمْتَنِعًا بِنَفْسِهِ أَوْ مُمْتَنِعًا لِغَيْرِهِ ؛ فَمَا ثَمَّ إلَّا مَوْجُودٌ وَاجِبٌ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ أَوْ مَعْدُومٌ إمَّا لِنَفْسِهِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ وَالْمُمْكِنُ إنْ حَصَلَ مُقْتَضِيهِ التَّامُّ : وَجَبَ بِغَيْرِهِ وَإِلَّا كَانَ مُمْتَنِعًا لِغَيْرِهِ ؛ وَالْمُمْكِنُ بِنَفْسِهِ : إمَّا وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ وَإِمَّا مُمْتَنِعٌ لِغَيْرِهِ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْ غَيْرِهِ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُسَاوِيهِ فِي الْكَمَالِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } ؟ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْخَلْقَ صِفَةُ كَمَالٍ وَأَنَّ الَّذِي يَخْلُقُ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي لَا يَخْلُقُ وَأَنَّ مَنْ عَدَلَ هَذَا بِهَذَا فَقَدْ ظَلَمَ . وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ

مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا عَاجِزًا صِفَةُ نَقْصٍ وَأَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْمِلْكَ وَالْإِحْسَانَ صِفَةُ كَمَالٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا مِثْلُ هَذَا وَهَذَا لِلَّهِ وَ ذَاكَ لِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَهَذَا مَثَلٌ آخَرُ . فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْعَاجِزِ عَنْ الْكَلَامِ وَعَنْ الْفِعْلِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ . وَالْآخَرُ الْمُتَكَلِّمُ الْآمِرُ بِالْعَدْلِ الَّذِي هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَهُوَ عَادِلٌ فِي أَمْرِهِ مُسْتَقِيمٌ فِي فِعْلِهِ . فَبَيَّنَ أَنَّ التَّفْضِيلَ بِالْكَلَامِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْعَدْلِ وَالْعَمَلِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْكَلَامِ وَالْعَمَلِ قَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا وَقَدْ يَكُونُ مَذْمُومًا . فَالْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْحَمْدَ فَلَا يَسْتَوِي هَذَا وَالْعَاجِزُ عَنْ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ . وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . يَقُولُ تَعَالَى : إذَا كُنْتُمْ أَنْتُمْ لَا تَرْضَوْنَ بِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يُشَارِكُ مَالِكَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّقْصِ وَالظُّلْمِ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ ذَلِكَ لِي وَأَنَا أَحَقُّ بِالْكَمَالِ وَالْغِنَى مِنْكُمْ ؟ .

وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ تَعَالَى أَحَقُّ بِكُلِّ كَمَالٍ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ } حَيْثُ كَانُوا يَقُولُونَ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ بِنْتٌ فَيَعُدُّونَ هَذَا نَقْصًا وَعَيْبًا . وَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ مِنْكُمْ ؛ فَإِنَّ لَهُ " الْمَثَلَ الْأَعْلَى " فَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ : فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِثُبُوتِهِ مِنْهُ إذَا كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ النَّقْصِ وَكُلُّ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ نَقْصٍ وَعَيْبٍ : فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَالِمَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } { وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْبَصِيرَ أَكْمَلُ وَالنُّورَ أَكْمَلُ وَالظِّلَّ أَكْمَلُ ؛ وَحِينَئِذٍ فَالْمُتَّصِفُ بِهِ أَوْلَى . { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } فَدَلَّ

ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ التَّكَلُّمِ وَالْهِدَايَةِ نَقْصٌ وَأَنَّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَيَهْدِي : أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَهْدِي وَالرَّبُّ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطْرِ أَنَّ الَّذِي يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِمَّنْ لَا يَهْتَدِي إلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ غَيْرُهُ ؛ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْهَادِي بِنَفْسِهِ هُوَ الْكَامِلُ ؛ دُونَ الَّذِي لَا يَهْتَدِي إلَّا بِغَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْهَادِي لِغَيْرِ الْمُهْتَدِي بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْأَكْمَلُ وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ الْقَوْلُ وَيَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ : أَكْمَلُ مِنْهُ . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ الْغَنِيَّ أَكْمَلُ وَأَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ مِنْ وَصْفِ الْأَصْنَامِ بِسَلْبِ " صِفَاتِ الْكَمَالِ " كَعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَالْفِعْلِ وَعَدَمِ الْحَيَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ مُنْتَقِصٌ مَعِيبٌ كَسَائِرِ الْجَمَادَاتِ وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تُسْلَبُ إلَّا عَنْ نَاقِصٍ مَعِيبٍ .

وَأَمَّا " رَبُّ الْخَلْقِ " الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ فَهُوَ أَحَقُّ الْمَوْجُودَاتِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي الْمُتَّصِفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاَلَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِهَا ؛ وَهُوَ يَذْكُرُ أَنَّ الْجَمَادَاتِ فِي الْعَادَةِ لَا تَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ . فَمَنْ جَعَلَ الْوَاجِبَ الْوُجُودِ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ : فَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ جِنْسِ الْأَصْنَامِ الْجَامِدَةِ الَّتِي عَابَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَابَ عَابِدِيهَا . وَلِهَذَا كَانَتْ " الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ " مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شِرْكًا وَعِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ ؛ إذْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ فِي إلَهِهِمْ أَنَّهُ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ أَوْ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ النُّصُوصَ لِمُجَرَّدِ تَقْرِيرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ بَلْ ذَكَرَهَا لِبَيَانِ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ فَأَفَادَ ( الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ : وَهُمَا إثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَبَيَانِ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ . وَالشِّرْكُ فِي الْعَالَمِ أَكْثَرُ مِنْ التَّعْطِيلِ ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ " التَّوْحِيدِ " الْمُنَافِي لِلْإِشْرَاكِ إبْطَالُ قَوْلِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِثْبَاتِ الْمُبْطِلِ لِقَوْلِ الْمُعَطِّلَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إلَّا بِبَيَانِ آخَرَ . وَالْقُرْآنُ يُذْكَرُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ تَارَةً ؛ كَالرَّدِّ عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ ؛ وَيُذْكَرُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهَذَا أَكْثَرُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ . وَمَرَضُ الْإِشْرَاكِ أَكْثَرُ فِي النَّاسِ مِنْ مَرَضِ التَّعْطِيلِ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ

أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ الْحَمْدَ وَأَنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَأَنَّ لَهُ الْحَمْدَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ . وَ " الْحَمْدُ نَوْعَانِ " : حَمْدٌ عَلَى إحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ . وَهُوَ مِنْ الشُّكْرِ ؛ وَحَمْدٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ هُوَ بِنَفْسِهِ مِنْ نُعُوتِ كَمَالِهِ وَهَذَا الْحَمْدُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَهِيَ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ فَإِنَّ الْأُمُورَ الْعَدَمِيَّةَ الْمَحْضَةَ لَا حَمْدَ فِيهَا وَلَا خَيْرَ وَلَا كَمَالَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا يُحْمَدُ فَإِنَّمَا يُحْمَدُ عَلَى مَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَكُلُّ مَا يُحْمَدُ بِهِ الْخَلْقُ فَهُوَ مِنْ الْخَالِقِ وَاَلَّذِي مِنْهُ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ هُوَ أَحَقُّ بِالْحَمْدِ فَثَبَتَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمَحَامِدِ الْكَامِلَةِ وَهُوَ أَحَقُّ مَنْ كُلِّ مَحْمُودٍ بِالْحَمْدِ وَالْكَمَالِ مِنْ كُلِّ كَامِلٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " فَنَقُولُ : لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنْ النَّقْصِ ؛ فَإِنَّ النَّقْصَ مُمْتَنِعٌ عَلَى اللَّهِ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يُسَمِّي مَا لَيْسَ بِنَقْصِ نَقْصًا ؛ فَهَذَا يُقَالُ لَهُ إنَّمَا الْوَاجِبُ إثْبَاتُ مَا أَمْكَنَ ثُبُوتُهُ مِنْ الْكَمَالِ السَّلِيمِ عَنْ النَّقْصِ فَإِذَا سَمَّيْت أَنْتَ هَذَا نَقْصًا وَقُدِّرَ أَنَّ انْتِفَاءَهُ يَمْتَنِعُ لَمْ يَكُنْ نَقْصُهُ مِنْ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عِنْدَ مَنْ سَمَّاهُ نَقْصًا مِنْ النَّقْصِ الْمُمْكِنِ انْتِفَاؤُهُ . فَإِذَا قِيلَ : خَلْقُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْأَزَلِ صِفَةُ كَمَالِ فَيَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ قِيلَ : وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا أَوْ وَاحِدٍ مِنْهَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا ؛ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعٌ . وَوُجُودُ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ كُلِّهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ سَوَاءٌ قُدِّرَ ذَلِكَ الْآنَ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا وَمَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ الْمُتَعَاقِبَةَ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فِي آنٍ وَاحِدٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا فَلَيْسَ هَذَا مُمْكِنَ الْوُجُودِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا ؛ لَكِنَّ فِعْلَ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ أَكْمَلُ مِنْ التَّعْطِيلِ عَنْ فِعْلِهَا بِحَيْثُ لَا يُحْدِثُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَإِنَّ الْفَاعِلَ الْقَادِرَ عَلَى الْفِعْلِ أَكْمَلُ مِنْ الْفَاعِلِ الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ .

فَإِذَا قِيلَ : لَا يُمْكِنُهُ إحْدَاثُ الْحَوَادِثِ بَلْ مَفْعُولُهُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ : كَانَ هَذَا نَقْصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَادِرِ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : جَعْلُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مُتَحَرِّكًا سَاكِنًا مَوْجُودًا مَعْدُومًا صِفَةُ كَمَالِ قِيلَ هَذَا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : إبْدَاعُ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ صِفَةُ كَمَالِ . قِيلَ : هَذَا مُمْتَنِعٌ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ مُبْدِعًا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ ؛ بَلْ وَاجِبًا بِغَيْرِهِ ؛ فَإِذَا قِيلَ هُوَ وَاجِبٌ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بِغَيْرِهِ : كَانَ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْأَفْعَالُ الْقَائِمَةُ وَالْمَفْعُولَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ - إذَا كَانَ اتِّصَافُهُ بِهَا صِفَةَ كَمَالِ فَقَدْ فَاتَتْهُ فِي الْأَزَلِ ؛ وَإِنْ كَانَ صِفَةَ نَقْصٍ فَقَدْ لَزِمَ اتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ . قِيلَ : الْأَفْعَالُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا أَزَلِيًّا . وَأَيْضًا : فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذِهِ فِي الْأَزَلِ صِفَةَ كَمَالِ ؛ بَلْ الْكَمَالُ أَنْ تُوجَدَ حَيْثُ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ وُجُودَهَا . وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : فِيمَا حَقُّهُ أَنْ يُوجَدَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ : جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ . فَلِهَذَا قُلْنَا الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ الْوُجُودِ ؛ فَمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مَوْجُودٌ . أَوْ يُقَالَ : هُوَ كَمَالٌ لِلْمَوْجُودِ .

وَأَمَّا الشَّرْطُ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُنَا : الْكَمَالُ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ نَقْصًا - عَلَى التَّعْبِيرِ بِالْعِبَارَةِ السَّدِيدَةِ - أَوْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ نَقْصًا يُمْكِنُ انْتِفَاؤُهُ - عَلَى عِبَارَةِ مَنْ يَجْعَلُ مَا لَيْسَ بِنَقْصِ نَقْصًا . فَاحْتَرَزَ عَمَّا هُوَ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَالٌ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ نَقْصٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْخَالِقِ لِاسْتِلْزَامِهِ نَقْصًا - كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَثَلًا . فَإِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي يَشْتَهِي الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنْ الْحَيَوَانِ أَكْمَلُ مِنْ الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَشْتَهِي الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ لِأَنَّ قِوَامَهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ . فَإِذَا قُدِّرَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهُ : كَانَ نَاقِصًا عَنْ الْقَابِلِ لِهَذَا الْكَمَالِ ؛ لَكِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ حَاجَةَ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ إلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهُ كَالْفَضَلَاتِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ شَيْءٍ فِيهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ شَيْءٍ فِيهِ وَمَا يَتَوَقَّفُ كَمَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَنْقَصُ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ فِي كَمَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الْغَنِيَّ عَنْ شَيْءٍ أَعْلَى مِنْ الْغَنِيِّ بِهِ . وَالْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ أَكْمَلُ مِنْ الْغَنِيِّ بِغَيْرِهِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الكمالات مَا هُوَ كَمَالٌ لِلْمَخْلُوقِ وَهُوَ نَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِإِمْكَانِ الْعَدَمِ عَلَيْهِ الْمُنَافِي لِوُجُوبِهِ وقيوميته أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُدُوثِ الْمُنَافِي لِقِدَمِهِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِفَقْرِهِ الْمُنَافِي لِغِنَاهُ.

فَصْلٌ :
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا : تَبَيَّنَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ " الرَّسُولُ " هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ وَأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحَقِّ أَتْبَعُهُمْ لَهُ وَأَعْظَمُهُمْ لَهُ مُوَافَقَةً " وَهُمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا " الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَزَّهُوهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ . فَإِنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ . وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ : صِفَاتُ كَمَالٍ مُمْكِنَةٌ بِالضَّرُورَةِ وَلَا نَقْصَ فِيهَا فَإِنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَّصِفُ بِهَا ؛ وَالنَّقْصُ فِي انْتِفَائِهَا لَا فِي ثُبُوتِهَا ؛ وَالْقَابِلُ لِلِاتِّصَافِ بِهَا كَالْحَيَوَانِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا كَالْجَمَادَاتِ . وَأَهْلُ الْإِثْبَاتِ يَقُولُونَ للنفاة : لَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا مِنْ الْجَهْلِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ . فَقَالَ لَهُمْ الْنُّفَاةِ : هَذِهِ الصِّفَاتُ مُتَقَابِلَةٌ تُقَابِلُ الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ لَا تُقَابِلُ السَّلْبَ وَالْإِيجَابَ والمتقابلان تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لَهُمَا كَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ

يَكُونَ أَعْمَى وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لَهُمَا بِخِلَافِ الْجَمَادِ فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا . فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ : هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ : الْمَوْجُودَاتُ " نَوْعَانِ " : نَوْعٌ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْكَمَالِ كَالْحَيِّ . وَنَوْعٌ لَا يَقْبَلُهُ كَالْجَمَادِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَابِلَ لِلِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ . وَحِينَئِذٍ : فَالرَّبُّ إنْ لَمْ يَقْبَلْ الِاتِّصَافَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَزِمَ انْتِفَاءُ اتِّصَافِهِ بِهَا وَأَنْ يَكُونَ الْقَابِلُ لَهَا - وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْأَعْمَى الْأَصَمُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ - أَكْمَلَ مِنْهُ فَإِنَّ الْقَابِلَ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ - فِي حَالِ عَدَمِ ذَلِكَ - أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ . فَكَيْفَ الْمُتَّصِفُ بِهَا فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبًا لِصِفَاتِ الْكَمَالِ - عَلَى قَوْلِهِمْ - مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ . فَأَنْتُمْ فَرَرْتُمْ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْأَحْيَاءِ : فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْجَمَادَاتِ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تُنَزِّهُونَهُ عَنْ النَّقَائِصِ : فَوَصَفْتُمُوهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ النَّقْصِ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : هَذَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَبَيْنَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ : أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ ؛ وَإِلَّا فَكُلُّ مَا لَيْسَ بِحَيِّ فَإِنَّهُ يُسَمَّى مَيِّتًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ : نَفْسُ سَلْبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ هُنَاكَ ضِدٌّ ثُبُوتِيٌّ فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَا يَكُونُ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ سَمِيعٌ وَلَا أَصَمُّ كَالْجَمَادِ وَإِذَا كَانَ مُجَرَّدُ إثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ الْكَمَالِ وَمُجَرَّدُ سَلْبِهَا مِنْ النَّقْصِ : وَجَبَ ثُبُوتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ كَمَالٌ مُمْكِنٌ لِلْمَوْجُودِ وَلَا نَقْصَ فِيهِ بِحَالِ ؛ بَلْ النَّقْصُ فِي عَدَمِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا قَدَّرْنَا مَوْصُوفَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ . ( أَحَدُهُمَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ ؛ فَيَأْتِي وَيَجِيءُ وَيَنْزِلُ وَيَصْعَدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهِ ( وَالْآخَرُ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ : كَانَ هَذَا الْقَادِرُ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ صُدُورُهَا عَنْهُ . وَإِذَا قِيلَ قِيَامُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ : كَانَ كَمَا إذَا قِيلَ قِيَامُ الصِّفَاتِ بِهِ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْأَعْرَاضِ بِهِ . وَلَفْظُ ( الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ لَفْظَانِ مُجْمَلَانِ فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا يَعْقِلُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ الْأَعْرَاضَ وَالْحَوَادِثَ هِيَ الْأَمْرَاضُ وَالْآفَاتُ كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ قَدْ عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ شَدِيدٌ وَفُلَانٌ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا عَظِيمًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ }

وَقَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا } وَقَالَ : { إذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَتَوَضَّأَ } . وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ : الطَّهَارَةُ " نَوْعَانِ " طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَطَهَارَةُ الْخَبَثِ . وَيَقُولُ أَهْلُ الْكَلَامِ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي " أَهْلِ الْأَحْدَاثِ " مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ : كَالرِّبَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ . وَيُقَالُ فُلَانٌ بِهِ عَارِضٌ مِنْ الْجِنِّ وَفُلَانٌ حَدَثَ لَهُ مَرَضٌ . فَهَذِهِ مِنْ النَّقَائِصِ الَّتِي يُنَزَّهُ اللَّهُ عَنْهَا . وَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ فَإِنَّمَا أَحْدَثَ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحَ مَنْ أَحْدَثَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ لُغَةَ الْعَرَبِ وَلَا لُغَةَ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ ؛ لَا لُغَةَ الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلَا الْعُرْفِ الْعَامِّ وَلَا اصْطِلَاحِ أَكْثَرِ الْخَائِضِينَ فِي الْعِلْمِ ؛ بَلْ مُبْتَدِعُو هَذَا الِاصْطِلَاحِ : هُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ المحدثين فِي الْأُمَّةِ الدَّاخِلِينَ فِي ذَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَمُجَرَّدُ هَذَا الِاصْطِلَاحِ وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ أَعْرَاضًا وَحَوَادِثَ : لَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنَّهَا مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي يَكُونُ الْمُتَّصِفُ بِهِ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الِاتِّصَافُ بِهَا . أَوْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ وَلَا يَتَّصِفُ بِهِ . وَ " أَيْضًا " فَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ وَحَوَادِثُ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ ؛ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْفِعْلِ وَالْبَطْشِ وَالْآخَرُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضُ وَحَوَادِثُ : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ كَمَا أَنَّ الْحَيَّ الْمُتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ : أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادَاتِ .

وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ " اثْنَانِ " أَحَدُهُمَا يُحِبُّ نُعُوتَ الْكَمَالِ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيَرْضَاهَا وَالْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ ؛ فَلَا يُحِبُّ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَرْضَى لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَفْرَحُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْمُقْسِطِينَ وَيَرْضَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ . وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ اثْنَانِ : أَحَدُهُمَا بِبَعْضِ الْمُتَّصِفِ بِضِدِّ الْكَمَالِ كَالظُّلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْجَاهِلِ الْكَاذِبِ الظَّالِمِ وَبَيْنَ الْعَالِمِ الصَّادِقِ الْعَادِلِ لَا يُبْغِضُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَغْضَبُ لَا عَلَى هَذَا وَلَا عَلَى هَذَا : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ . وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ بِيَدَيْهِ وَيُقْبِلَ بِوَجْهِهِ . وَالْآخَرُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ : إمَّا لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ وَيَدَانِ وَإِمَّا لِامْتِنَاعِ الْفِعْلِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ . فَالْوَجْهُ وَالْيَدَانِ : لَا يُعَدَّانِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَوَجْهُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ مَا يُضَافُ إلَيْهِ وَهُوَ مَمْدُوحٌ بِهِ لَا مَذْمُومٌ كَوَجْهِ النَّهَارِ وَوَجْهِ الثَّوْبِ وَوَجْهِ الْقَوْمِ وَوَجْهِ الْخَيْلِ وَوَجْهِ الرَّأْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ الْوَجْهُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِهِ هُوَ نَفْسُ الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ سَوَاءٌ قُدِّرَ الِاسْتِعْمَالُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا .

" فَإِنْ قِيلَ " : مَنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِكَلَامِهِ أَوْ بِقُدْرَتِهِ بِدُونِ يَدَيْهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَفْعَلُ بِيَدَيْهِ . قِيلَ : مَنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ تَكْلِيمِهِ إذَا شَاءَ وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ : هُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إلَّا بِقُدْرَتِهِ أَوْ تَكْلِيمِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْيَدِ . وَلِهَذَا كَانَ " الْإِنْسَانُ " أَكْمَلَ مِنْ الْجَمَادَاتِ الَّتِي تَفْعَلُ بِقُوَى فِيهَا كَالنَّارِ وَالْمَاءِ فَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إلَّا بِقُوَّةِ فِيهِ وَالْآخَرُ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِقُوَّةِ فِيهِ وَبِكَلَامِهِ فَهَذَا أَكْمَلُ . فَإِذَا قُدِّرَ آخَرُ يَفْعَلُ بِقُوَّةِ فِيهِ وَبِكَلَامِهِ وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ فَهُوَ أَكْمَلُ وَأَكْمَلُ وَأَمَّا صِفَاتُ النَّقْصِ فَمِثْلَ النَّوْمِ فَإِنَّ الْحَيَّ الْيَقْظَانَ أَكْمَلُ مِنْ النَّائِمِ وَالْوَسْنَانِ . وَاَللَّهُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَكَذَلِكَ مَنْ يَحْفَظُ الشَّيْءَ بِلَا اكْتِرَاثٍ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكْرُثُهُ ذَلِكَ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا . وَكَذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُ وَلَا يَتْعَبُ : أَكْمَلُ مِمَّنْ يَتْعَبُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّهُ مِنْ لُغُوبٍ . وَلِهَذَا وُصِفَ الرَّبُّ بِالْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ وَالْقُدْرَةِ دُونَ الْعَجْزِ وَالْحَيَاةِ دُونَ الْمَوْتِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ دُونَ الصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْبُكْمِ وَالضَّحِكِ دُونَ الْبُكَاءِ وَالْفَرَحِ دُونَ الْحُزْنِ .

وَأَمَّا الْغَضَبُ مَعَ الرِّضَا وَالْبُغْضُ مَعَ الْحُبِّ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ مِنْهُ إلَّا الرِّضَا وَالْحُبُّ دُونَ الْبُغْضِ وَالْغَضَبُ لِلْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذَمَّ وَتُبْغَضَ . وَلِهَذَا كَانَ اتِّصَافُهُ بِأَنَّهُ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ : أَكْمَلَ مِنْ اتِّصَافِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِعْطَاءِ وَالْإِعْزَازِ وَالرَّفْعِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْآخَرَ - حَيْثُ تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ ذَلِكَ - أَكْمَلُ مِمَّا لَا يَفْعَلُ إلَّا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ وَيُخِلُّ بِالْآخَرِ فِي الْمَحَلِّ الْمُنَاسِبِ لَهُ وَمَنْ اعْتَبَرَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَهُ عَلَى قَانُونِ الصَّوَابِ وَاَللَّهُ الْهَادِي لِأُولِي الْأَلْبَابِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ مَلَاحِدَةِ " الْمُتَفَلْسِفَةِ " وَغَيْرِهِمْ : إنَّ اتِّصَافَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ اُسْتُكْمِلَ بِغَيْرِهِ فَيَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ نَقْصًا لَمْ يَجُزْ اتِّصَافُهُ بِهَا . فَيُقَالُ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَمَالَ الْمُعَيَّنَ هُوَ الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ الْوُجُودَ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ . وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْقَائِلِ يَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَاقِصًا فَهَذَا حَقٌّ ؛ لَكِنْ مِنْ هَذَا فَرَرْنَا وَقَدَّرْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَإِلَّا كَانَ نَاقِصًا . وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ كَامِلًا بِالصِّفَاتِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا فَلَا يَكُونُ كَامِلًا بِذَاتِهِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ . فَيُقَالُ أَوَّلًا : هَذَا إنَّمَا يَتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ وُجُودُ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ أَمْكَنَ وُجُودُ ذَاتٍ كَامِلَةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ مُمْتَنِعًا امْتَنَعَ كَمَالِهِ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُمْتَنِعًا ؟ فَإِنَّ وُجُودَ ذَاتٍ كَامِلَةٍ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ " الذَّاتَ " الَّتِي لَا تَكُونُ حَيَّةً عَلِيمَةً قَدِيرَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً مُتَكَلِّمَةً : لَيْسَتْ أَكْمَلَ مِنْ الذَّاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ حَيَّةً عَلِيمَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً مُتَكَلِّمَةً . وَإِذَا كَانَ صَرِيحُ الْعَقْلِ يَقْضِي بِأَنَّ الذَّاتَ الْمَسْلُوبَةَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ مِثْلَ

الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ أَكْمَلَ مِنْهَا وَيَقْضِي بِأَنَّ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ بِهَا أَكْمَلُ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ امْتِنَاعُ كَمَالِ الذَّاتِ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَات فَإِنْ قِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَكُونُ ذَاتُهُ نَاقِصَةً مَسْلُوبَةَ الْكَمَالِ إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَات . قِيلَ : الْكَمَالُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعٌ وَعَدَمُ الْمُمْتَنِعِ لَيْسَ نَقْصًا وَإِنَّمَا النَّقْصُ عَدَمُ مَا يُمْكِنُ . وَأَيْضًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِالْكَمَالِ وَمَا اتَّصَفَ بِهِ وَجَبَ لَهُ وَامْتَنَعَ تَجَرُّدُ ذَاتِهِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ ؛ فَكَانَ تَقْدِيرُ ذَاتِهِ مُنْفَكَّةً عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَقْدِيرًا مُمْتَنِعًا . وَإِذَا قُدِّرَ لِلذَّاتِ تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ وَقِيلَ إنَّهَا نَاقِصَةٌ بِدُونِهِ : كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ ؛ لَا عَلَى امْتِنَاعِ نَقِيضِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ : إذَا مَاتَ كَانَ نَاقِصًا فَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ كَوْنِهِ حَيًّا كَذَلِكَ إذَا كَانَ تَقْدِيرُ ذَاتِهِ خَالِيَةً عَنْ هَذِهِ الصِّفَات يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً : كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَات . وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ : اكْتَمَلَ بِغَيْرِهِ مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّا لَا نُطْلِقُ عَلَى صِفَاتِهِ أَنَّهَا غَيْرُهُ وَلَا أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ ؛ عَلَى مَا عَلَيْهِ " أَئِمَّةُ السَّلَفِ " كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ حُذَّاقِ الْمُثْبِتَةِ ؛ كَابْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَنَا لَا أُطْلِقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ هُوَ وَلَا أُطْلِقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ وَلَا أَجْمَعُ بَيْنَ السلبين فَأَقُولُ لَا هِيَ هُوَ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ . وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَة مِنْ الْمُثْبِتَةِ كَالْأَشْعَرِيِّ ؛ وَأَظُنُّ أَنَّ قَوْل أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ هُوَ هَذَا أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا .

وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ إطْلَاقَ هَذَا السَّلْبِ وَهَذَا السَّلْبِ : فِي إطْلَاقِهِمَا جَمِيعًا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَمَنْشَأُ هَذَا أَنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " يُرَادُ بِهِ الْمُغَايِرُ لِلشَّيْءِ وَيُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَكَانَ فِي إطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ إيهَامٌ لِمَعَانِي فَاسِدَةٍ . وَنَحْنُ نُجِيبُ بِجَوَابِ عِلْمِيٍّ فَنَقُولُ : قَوْل الْقَائِلِ : يَتَكَمَّلُ بِغَيْرِهِ . أَيُرِيدُ بِهِ بِشَيْءِ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ أَمْ يُرِيدُ بِصِفَةِ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُمْتَنِعٌ . وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ حَقٌّ وَلَوَازِمُ ذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ ذَاتِهِ بِدُونِهَا ؛ كَمَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا بِدُونِهِ وَهَذَا كَمَالٌ بِنَفْسِهِ لَا بِشَيْءِ مُبَايِنٍ لِنَفْسِهِ . وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - وَأَئِمَّةِ الْمُثْبِتَةِ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَوْ قَالَ : دَعَوْت اللَّهَ وَعَبَدْته . أَوْ قَالَ : بِاَللَّهِ . فَاسْمُ اللَّهِ مُتَنَاوِلٌ لِذَاتِهِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهِ ؛ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ زَائِدَةً عَلَى مُسَمَّى أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى . وَإِذَا قِيلَ : هَلْ صِفَاتُهُ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا ؟ قِيلَ : إنْ أُرِيدَ بِالذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي يُقِرُّ بِهَا نفاة الصِّفَات فَالصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا وَإِنْ أُرِيدَ بِالذَّاتِ الذَّاتُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ فَتِلْكَ لَا تَكُونُ مَوْجُودَةً إلَّا بِصِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ . وَالصِّفَاتُ لَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ الَّتِي يُقَدَّرُ تَجَرُّدُهَا عَنْ الصِّفَاتِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ قَامَتْ بِهِ صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا وَهِيَ مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ فَيَكُونُ الرَّبُّ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ . فَيُقَالُ أَوَّلًا : قَوْلُ الْقَائِلِ : " لَوْ قَامَتْ بِهِ صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا " يَقْتَضِي إمْكَانَ جَوْهَرٍ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ ؛ وَإِمْكَانَ ذَاتٍ لَا تَقُومُ بِهَا الصِّفَاتُ ؛ فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُمْتَنِعًا لَبَطَلَ هَذَا الْكَلَامُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُمْتَنِعًا ؟ فَإِنَّ تَقْدِيرَ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ إنَّمَا يُمْكِنُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ كَتَقْدِيرِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْخَارِجِ . وَلَفْظُ " ذَاتٍ " تَأْنِيثُ ذُو وَذَلِكَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا كَانَ مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ فَهُمْ يَقُولُونَ : فُلَانٌ ذُو عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَنَفْسٌ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ . وَحَيْثُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظُ " ذُو " وَلَفْظُ " ذَاتُ " لَمْ يَجِئْ إلَّا مَقْرُونًا بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وَقَوْلِهِ : { عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } .
وَقَوْلِ خَبِيبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ . . . .

وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَكِنْ لَمَّا صَارَ النُّظَّارُ يَتَكَلَّمُونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَالُوا : إنَّهُ يُقَالُ إنَّهَا ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ ثُمَّ إنَّهُمْ قَطَعُوا هَذَا اللَّفْظَ عَنْ الْإِضَافَةِ وَعَرَّفُوهُ ؛ فَقَالُوا : " الذَّاتُ " وَهِيَ لَفْظٌ مُوَلَّدٌ لَيْسَ مِنْ لَفْظِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ وَلِهَذَا أَنْكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ كَأَبِي الْفَتْحِ بْنِ بُرْهَانَ وَابْنِ الدَّهَّانِ وَغَيْرِهِمَا وَقَالُوا : لَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَرَبِيَّةً وَرَدَّ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا . ( وَفَصْلُ الْخِطَابِ : أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ الْعَرْبَاءِ بَلْ مِنْ الْمُوَلَّدَةِ كَلَفْظِ الْمَوْجُودِ وَلَفْظِ الْمَاهِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي وُجُودَ صِفَاتٍ تُضَافُ الذَّاتُ إلَيْهَا فَيُقَالُ : ذَاتُ عِلْمٍ وَذَاتُ قُدْرَةٍ وَذَاتُ كَلَامٍ وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ شَيْءٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ فِي الْخَارِجِ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ أَصْلًا ؛ بَلْ فَرْضُ هَذَا فِي الْخَارِجِ كَفَرْضِ عَرَضٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ . فَفَرْضُ عَرَضٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا صِفَةَ لَهُ كَفَرْضِ صِفَةٍ لَا تَقُومُ بِغَيْرِهَا وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ فَمَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ صِفَةٍ وَمَا كَانَ صِفَةً فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ مُتَّصِفٍ بِهِ . وَلِهَذَا سَلَّمَ الْمُنَازِعُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا صِفَةَ لَهُ سَوَاءٌ سَمَّوْهُ جَوْهَرًا أَوْ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ : وُجُودُ جَوْهَرٍ مُعَرًّى عَنْ جَمِيعِ

الْأَعْرَاضِ مُمْتَنِعٌ فَمَنْ قَدَّرَ إمْكَانَ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا صِفَةَ لَهُ فَقَدَ قَدَّرَ مَا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ وَلَا يُعْلَمُ إمْكَانُهُ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ . وَكَلَامُ نفاة الصِّفَاتِ جَمِيعُهُ يَقْتَضِي أَنَّ ثُبُوتَهُ مُمْتَنِعٌ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ فَرْضُهُ فِي الْعَقْلِ فَالْعَقْلُ يُقَدِّرُهُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يُقَدِّرُ مُمْتَنِعَاتٍ لَا يُعْقَلُ وُجُودُهَا فِي الْوُجُودِ وَلَا إمْكَانُهَا فِي الْوُجُودِ . وَأَيْضًا " فَالرَّبُّ تَعَالَى " إذَا كَانَ اتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُمْكِنًا - وَمَا أَمْكَنَ لَهُ وَجَبَ - امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبًا صِفَاتِ الْكَمَالِ فَفَرْضُ ذَاتِهِ بِدُونِ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ الْوَاجِبَةِ لَهُ فَرْضٌ مُمْتَنِعٌ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ فَرْضُ عَدَمِ هَذَا مُمْتَنِعًا عُمُومًا وَخُصُوصًا : فَقَوْلُ الْقَائِلِ : يَكُونُ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا وَتَكُونُ مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ إنَّمَا يُعْقَلُ مِثْلُ هَذَا فِي شَيْئَيْنِ . يُمْكِنُ وُجُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا بَطَلَ هَذَا التَّقْدِيرُ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : مَا تَعْنِي بِالِافْتِقَارِ ؟ أَتَعْنِي أَنَّ الذَّاتَ تَكُونُ فَاعِلَةً لِلصِّفَاتِ مُبْدِعَةً لَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ ؟ أَمْ تَعْنِي التَّلَازُمَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْآخَرِ ؟ فَإِنْ عَنَيْت افْتِقَارَ الْمَفْعُولِ إلَى الْفَاعِلِ فَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الرَّبَّ لَيْسَ بِفَاعِلِ لِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ بَلْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ . فَكَيْفَ تَجْعَلُ صِفَاتِهِ مَفْعُولَةً لَهُ وَصِفَاتُهُ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَيْسَتْ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ ؟ وَإِنْ عَنَيْت التَّلَازُمَ فَهُوَ حَقٌّ .

وَهَذَا كَمَا يُقَالُ : لَا يَكُونُ مَوْجُودًا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُهُ مُلَازِمَةً ( لِذَاتِهِ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْكَمَالِ مِنْ جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ وُجُودُهُ بِدُونِ صِفَاتِ الْكَمَالِ : لَمْ يَكُنْ الْكَمَالُ وَاجِبًا لَهُ بَلْ مُمْكِنًا لَهُ ؛ وَحِينَئِذٍ فَكَانَ يَفْتَقِرُ فِي ثُبُوتِهَا لَهُ إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ نَقْصٌ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ التَّلَازُمَ بَيْنَ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ : هُوَ كَمَالُ الْكَمَالِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْقَائِلُ : إنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ مُرَكَّبٍ وَالْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ مُحْتَاجٌ وَذَلِكَ عَيْنُ النَّقْصِ . فَلِلْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ " الْعَرَضِ " عَلَى صِفَاتِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ :
مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ أَعْرَاضًا : وَيَقُولُ : بَلْ هِيَ صِفَاتٌ وَلَيْسَتْ أَعْرَاضًا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ عَلَيْهَا لَفْظَ الْأَعْرَاضِ كَهِشَامِ وَابْنِ كَرَّامٍ وَغَيْرِهِمَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ كَمَا قَالُوا فِي لَفْظِ الْغَيْرِ وَكَمَا امْتَنَعُوا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْجِسْمِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : " الْعِلْمُ عَرَضٌ " بِدْعَةٌ وَقَوْلَهُ : لَيْسَ بِعَرَضٍ " بِدْعَةٌ " كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ " الرَّبُّ جِسْمٌ " بِدْعَةٌ وَقَوْلَهُ " لَيْسَ بِجِسْمِ " بِدْعَةٌ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَفْظُ " الْجِسْمِ " يُرَادُ بِهِ فِي اللُّغَةِ : الْبَدَنُ وَالْجَسَدُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْكَلَامِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ بِهِ الْمُرَكَّبَ وَيُطْلِقُهُ عَلَى الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ

بِشَرْطِ التَّرْكِيبِ أَوْ عَلَى الْجَوْهَرَيْنِ أَوْ عَلَى أَرْبَعَةِ جَوَاهِرَ أَوْ سِتَّةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَوْ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ الْمَوْجُودُ أَوْ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ . وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْمُشَارَ إلَيْهِ مُتَسَاوِيًا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ قَدْ صَارَ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعَانٍ بَعْضُهَا حَقٌّ وَبَعْضُهَا بَاطِلٌ : صَارَ مُجْمَلًا .
وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ الْعِلْمِيُّ أَنْ يُقَالَ : أَتَعْنِي بِقَوْلِك أَنَّهَا أَعْرَاضٌ أَنَّهَا قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ أَوْ صِفَةٌ لِلذَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ ؟ أَمْ تَعْنِي بِهَا أَنَّهَا آفَاتٌ وَنَقَائِصُ ؟ أَمْ تَعْنِي بِهَا أَنَّهَا تَعْرِضُ وَتَزُولُ وَلَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ عَنَيْت الثَّانِيَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَإِنْ عَنَيْت الثَّالِثَ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْعَرَضُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ . فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَقَالَ : هِيَ بَاقِيَةٌ قَالَ : لَا أُسَمِّيهَا أَعْرَاضًا وَمَنْ قَالَ بَلْ الْعَرَضُ يَبْقَى زَمَانَيْنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا مِنْ تَسْمِيَتِهَا أَعْرَاضًا . وَقَوْلُك : الْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ . فَيُقَالُ لَك هُوَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عِنْدَك . وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ لَا يُسَمَّى بِهَا إلَّا جِسْمٌ كَمَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَات الَّتِي جَعَلْتهَا أَعْرَاضًا لَا يُوصَفُ بِهَا إلَّا جِسْمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَك عَنْ ثُبُوتِ الْأَسْمَاءِ : كَانَ جَوَابًا لِأَهْلِ الْإِثْبَاتِ عَنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ . وَيُقَالُ لَهُ : مَا تَعْنِي بِقَوْلِك : هَذِهِ الصِّفَاتُ أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ ؟ أَتَعْنِي

بِالْجِسْمِ الْمُرَكَّبَ الَّذِي كَانَ مُفْتَرِقًا فَاجْتَمَعَ ؟ أَوْ مَا رَكَّبَهُ مُرَكِّبٌ فَجَمَعَ أَجْزَاءَهُ ؟ أَوْ مَا أَمْكَنَ تَفْرِيقُهُ وَتَبْعِيضُهُ وَانْفِصَالُ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؟ أَمْ تَعْنِي بِهِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ؟ أَوْ تَعْنِي بِهِ مَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ؟ أَوْ مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ ؟ أَوْ مَا هُوَ مَوْجُودٌ ؟ . فَإِنْ عَنَيْت " الْأَوَّلَ " لَمْ نُسَلِّمْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي سَمَّيْتهَا أَعْرَاضًا لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَإِنْ عَنَيْت بِهِ " الثَّانِيَ " لَمْ نُسَلِّمْ امْتِنَاعَ التَّلَازُمِ ؛ فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُشَارٌ إلَيْهِ عِنْدَنَا فَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ التَّلَازُمِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : الْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ إنْ أَرَادَ بِالْمُرَكَّبِ : الْمَعَانِيَ الْمُتَقَدِّمَةَ مِثْلَ كَوْنِهِ كَانَ مُفْتَرِقًا فَاجْتَمَعَ أَوْ رَكَّبَهُ مُرَكِّبٌ أَوْ يَقْبَلُ الِانْفِصَالَ : فَلَا نُسَلِّمُ الْمُقَدِّمَةَ الْأَوْلَى التلازمية وَإِنْ عَنَى بِهِ مَا يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ مَا يَكُونُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ فَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الثَّانِيَةِ فَالْقَوْلُ بِالْأَعْرَاضِ مُرَكَّبٌ مِنْ ( مُقَدِّمَتَيْنِ تلازمية واستثنائية بِأَلْفَاظِ مُجْمَلَةٍ ؛ فَإِذَا اسْتَفْصَلَ عَنْ الْمُرَادِ حَصَلَ الْمَنْعُ وَالْإِبْطَالُ لِأَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ، وَإِذَا بَطَلَتْ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ بَطَلَتْ الْحُجَّةُ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ قَامَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَالْحَادِثُ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ عَدِمَهُ قَبْلَهُ وَهُوَ نَقْصٌ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ لَهُ كَمَالًا لَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِهِ . فَيُقَالُ أَوَّلًا هَذَا مُعَارَضٌ بِنَظِيرِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي يَفْعَلُهَا فَإِنَّ كِلَيْهِمَا حَادِثٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْمَحَلِّ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَارِدٌ عَلَى الْجِهَتَيْنِ . وَإِنْ قِيلَ فِي الْفَرْقِ : الْمَفْعُولُ لَا يَتَّصِفُ بِهِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْقَائِمِ بِهِ قِيلَ فِي الْجَوَابِ : بَلْ هُمْ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ وَيُقَسِّمُونَ الصِّفَاتِ إلَى نَفْسِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ ؛ فَيَصِفُونَهُ بِكَوْنِهِ خَالِقًا وَرَازِقًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَارِدٌ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِمْ الْفَلَاسِفَةُ فِي " مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ " فَزَعَمُوا أَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ لَيْسَتْ صِفَةَ كَمَالٍ وَلَا نَقْصٍ . فَيُقَالُ لَهُمْ : كَمَا قَالُوا لِهَؤُلَاءِ " فِي الْأَفْعَالِ " الَّتِي تَقُومُ بِهِ إنَّهَا لَيْسَتْ كَمَالًا وَلَا نَقْصًا . فَإِنْ قِيلَ : لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ إمَّا بِنَقْصِ أَوْ بِكَمَالِ . قِيلَ : لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ مِنْ

الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ إمَّا بِنَقْصِ وَإِمَّا بِكَمَالِ فَإِنْ جَازَ ادِّعَاءُ خُلُوِّ أَحَدِهِمَا عَنْ الْقِسْمَيْنِ أَمْكَنَ الدَّعْوَى فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ وَإِلَّا فَالْجَوَابُ مُشْتَرَكٌ . وَأَمَّا " الْمُتَفَلْسِفَةُ " فَيُقَالُ لَهُمْ : الْقَدِيمُ لَا تُحِلُّهُ الْحَوَادِثُ وَلَا يَزَالُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ عِنْدَكُمْ فَلَيْسَ الْقِدَمُ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ ؛ بَلْ عِنْدَكُمْ هَذَا هُوَ " الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ " الَّذِي لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا نَفَوْهُ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ ؛ لِظَنِّهِمْ عَدَمَ اتِّصَافِهِ بِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ لَا سِيَّمَا وَمَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ الْمُتَعَاقِبَةُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِمَعْلُولِهَا ؛ فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْمُوجِبَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا مَعْلُولُهَا أَوْ شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا وَمَتَى تَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا كَانَتْ عِلَّةً لَهُ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ وَاحْتَاجَ مَصِيرُهَا عِلَّةً بِالْفِعْلِ إلَى سَبَبٍ آخَرَ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ هُوَ نَفْسُهُ : صَارَ فِيهِ مَا هُوَ بِالْقُوَّةِ وَهُوَ الْمُخْرِجُ لَهُ إلَى الْفِعْلِ ؛ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا أَوْ فَاعِلًا وَهُمْ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّرْكِيبَ . وَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ لَهُ غَيْرَهُ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي وُجُوبَ الْوُجُودِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ " الدُّورَ المعي " وَ " التَّسَلْسُلَ فِي الْمُؤَثِّرَاتِ " وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي صَارَ فَاعِلًا لِلْمُعَيَّنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً فَقِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْدُثَ عَنْهُ شَيْءٌ بِوَاسِطَةِ وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُودِ .

وَيُقَالُ ثَانِيًا : فِي إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعًا : - هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَجَدُّدِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِتَجَدُّدِ الْإِضَافَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَالْإِعْدَامِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَجَدُّدِ هَذِهِ الْأُمُورِ . وَفَرَّقَ الآمدي بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَقَالَ : هَذِهِ حَوَادِثُ وَهَذِهِ مُتَجَدِّدَاتٌ وَالْفُرُوقُ اللَّفْظِيَّةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ . فَيُقَالُ : تَجَدُّدُ هَذِهِ الْمُتَجَدِّدَاتِ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ عَدِمَهُ قَبْلَهُ وَهُوَ نَقْصٌ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ نَقْصًا لَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِهِ .
وَيُقَالُ ثَالِثًا : الْكَمَالُ الَّذِي يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهِ هُوَ الْمُمْكِنُ الْوُجُودَ وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ فَلَيْسَ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ مَوْجُودٌ وَالْحَوَادِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا جَمِيعًا فِي الْأَزَلِ ؛ فَلَا يَكُونُ انْتِفَاؤُهَا فِي الْأَزَلِ نَقْصًا ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمُمْتَنِعِ لَيْسَ بِنَقْصِ .
وَيُقَالُ رَابِعًا : إذَا قُدِّرَ ذَاتٌ تَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى الْفِعْلِ بِنَفْسِهَا وَذَاتٌ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَفْعَلَ بِنَفْسِهَا شَيْئًا ؛ بَلْ هِيَ كَالْجَمَادِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّك كَانَتْ الْأُولَى أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِيَةِ . فَعَدَمُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ نَقْصٌ بِالضَّرُورَةِ . وَأَمَّا وُجُودُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ الْكَمَالُ .
وَيُقَالُ خَامِسًا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ هَذِهِ مُطْلَقًا نَقْصٌ وَلَا كَمَالٌ وَلَا وُجُودُهَا مُطْلَقًا نَقْصٌ وَلَا كَمَالٌ ؛ بَلْ وُجُودُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ

وَحِكْمَتُهُ هُوَ الْكَمَالُ وَوُجُودُهَا بِدُونِ ذَلِكَ نَقْصٌ وَعَدَمُهَا مَعَ اقْتِضَاءِ الْحِكْمَةِ عَدَمُهَا كَمَالٌ وَوُجُودُهَا حَيْثُ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ وُجُودَهَا هُوَ الْكَمَالُ . وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَكُونُ وُجُودُهُ تَارَةً كَمَالًا وَتَارَةً نَقْصًا وَكَذَلِكَ عَدَمُهُ . بَطَلَ التَّقْسِيمُ الْمُطْلَقُ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ رَحْمَةً بِالْخَلْقِ إذَا احْتَاجُوا إلَيْهِ كَالْمَطَرِ . وَيَكُونُ عَذَابًا إذَا ضَرَّهُمْ فَيَكُونُ إنْزَالُهُ لِحَاجَتِهِمْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَالْمُحْسِنُ الرَّحِيمُ مُتَّصِفٌ بِالْكَمَالِ وَلَا يَكُونُ عَدَمُ إنْزَالِهِ - حَيْثُ يَضُرُّهُمْ - نَقْصًا بَلْ هُوَ أَيْضًا رَحْمَةٌ وَإِحْسَانٌ فَهُوَ مُحْسِنٌ بِالْوُجُودِ حِينَ كَانَ رَحْمَةً وَبِالْعَدَمِ حِينَ كَانَ الْعَدَمُ رَحْمَةً .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا نَفْيُ النَّافِي " لِلصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ " الْمُعَيَّنَةِ ؛ فلاستلزامها التَّرْكِيبَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ : فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ نَظِيرِهِ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالتَّرْكِيبِ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ أَوْ عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ - وَهُوَ مَا رَكَّبَهُ غَيْرُهُ - أَوْ كَانَ مُتَفَرِّقًا فَاجْتَمَعَ أَوْ مَا جَمَعَ الْجَوَاهِرَ الْفَرْدَةَ أَوْ الْمَادَّةَ وَالصُّورَةَ أَوْ مَا أَمْكَنَ مُفَارَقَةُ بَعْضِهِ لِبَعْضِ فَلَا نُسَلِّمُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إثْبَاتَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّرْكِيبِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّلَازُمُ عَلَى مَعْنَى امْتِيَازِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ فِي نَفْسِهِ وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ هَذَا : فَهَذَا لَازِمٌ لَهُمْ فِي الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَات لَيْسَتْ هِيَ الْأُخْرَى ؛ بَلْ كُلُّ صِفَةٍ مُمْتَازَةٍ بِنَفْسِهَا عَنْ الْأُخْرَى وَإِنْ كَانَتَا مُتَلَازِمَتَيْنِ يُوصَفُ بِهِمَا مَوْصُوفٌ وَاحِدٌ . وَنَحْنُ نَعْقِلُ هَذَا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَأَبْعَاضِ الشَّمْسِ وَأَعْرَاضِهَا . وَأَيْضًا : فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا بِالْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ إلَى مُبَايِنٍ لَهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ ؛ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْوَاجِبِ بِدُونِ تِلْكَ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ ،

فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الْأَحْرَى . وَإِذَا قِيلَ : هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ أَنَّ نَفْسَهُ تَفْعَلُ نَفْسَهُ ؛ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا ؛ وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ مُوهِمَةٌ مُجْمَلَةٌ فَإِذَا فُسِّرَ الْمَعْنَى زَالَ الْمَحْذُورُ . وَيُقَالُ أَيْضًا : نَحْنُ لَا نُطْلِقُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْغَيْرَ ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى الْغَيْرِ فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْإِطْلَاقِ اللَّفْظِيِّ ؛ وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الْعِلْمِيِّ فَالدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى وُجُودِ مَوْجُودٍ بِنَفْسِهِ لَا فَاعِلٍ وَلَا عِلَّةٍ فَاعِلَةٍ وَأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا يُبَايِنُهُ . وَأَمَّا الْوُجُودُ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ صِفَةٌ وَلَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ مَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي الثُّبُوتِيَّةِ : فَهَذَا إذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِوُجُوبِ الْوُجُودِ وَبِالْغَنِيِّ . قِيلَ لَهُ : لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ مَدْلُولَ الْأَدِلَّةِ ؛ وَلَكِنْ أَنْتَ قَدَّرْت أَنَّ هَذَا مُسَمَّى الِاسْمِ وَجَعْلُ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَنْفَعُك إنْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ الْمَعْنَى حَقٌّ فِي نَفْسِهِ وَلَا دَلِيلَ لَك عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ . فَهَؤُلَاءِ عَمَدُوا إلَى لَفْظِ الْغَنِيِّ وَالْقَدِيمِ وَالْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ فَصَارُوا يَحْمِلُونَهَا عَلَى مَعَانِي تَسْتَلْزِمُ مَعَانِيَ تُنَاقِضُ ثُبُوتَ الصِّفَاتِ وَتَوَسَّعُوا فِي التَّعْبِيرِ ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ هُوَ مُوجِبُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَغَيْرِهَا . وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ .

فَمُوجِبُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا يُتَلَقَّى مِنْ مُجَرَّدِ التَّعْبِيرِ وَمُوجِبُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ يُتَلَقَّى مِنْ عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْخِطَابِ لَا مِنْ الْوَضْعِ الْمُحْدَثِ ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ مَوْضُوعَةٌ لِمَعَانٍ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَسِّرَ مُرَادَ اللَّهِ بِتِلْكَ الْمَعَانِي ؛ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْمُفْتَرِينَ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ عَمَدُوا إلَى مَعَانٍ ظَنُّوهَا ثَابِتَةً ؛ فَجَعَلُوهَا هِيَ مَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْوَاجِبِ وَالْغَنِيِّ وَالْقَدِيمِ وَنَفْيِ الْمِثْلِ ؛ ثُمَّ عَمَدُوا إلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَحَدٌ وَوَاحِدٌ عَلِيٌّ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ نَفْيِ الْمِثْلِ وَالْكُفُؤِ عَنْهُ . فَقَالُوا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي سَمَّيْنَاهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ . وَكَذَلِكَ " الْمُتَفَلْسِفَةُ " عَمَدُوا إلَى لَفْظِ الْخَالِقِ وَالْفَاعِلِ وَالصَّانِعِ وَالْمُحْدِثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَوَضَعُوهَا لِمَعْنَى ابْتَدَعُوهُ وَقَسَّمُوا الْحُدُوثَ إلَى نَوْعَيْنِ : ذَاتِيٍّ وَزَمَانِيٍّ وَأَرَادُوا بِالذَّاتِيِّ كَوْنَ الْمَرْبُوبِ مُقَارِنًا لِلرَّبِّ أَزَلًا وَأَبَدًا ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ ؛ وَلَوْ جَعَلُوا هَذَا اصْطِلَاحًا لَهُمْ لَمْ تُنَازِعْهُمْ فِيهِ ؛ لَكِنْ قَصَدُوا بِذَلِكَ التَّلْبِيسَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يَقُولُوا نَحْنُ نَقُولُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لَهُ وَفَاعِلٌ لَهُ وَصَانِعٌ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا تَقْتَضِي تَأَخُّرَ الْمَفْعُولِ لَا يُطْلَقُ عَلَى مَا كَانَ قَدِيمًا بِقِدَمِ الرَّبِّ مُقَارِنًا لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا . وَكَذَلِكَ فِعْلُ مَنْ فَعَلَ بِلَفْظِ " الْمُتَكَلِّمِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَلَوْ فُعِلَ

هَذَا بِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ وبقراط : لَفَسَدَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ النَّحْوِ وَالطِّبِّ ؛ وَلَوْ فُعِلَ هَذَا بِكَلَامِ آحَادِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ : لَفَسَدَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَلَكَانَ مَلْبُوسًا عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ إذَا فُعِلَ هَذَا بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ أَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَمَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ . مِثْلَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : " الْوَاحِدُ " الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ : لَا يَنْقَسِمُ أَيْ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَيَقُولُ لَا تَقُومُ بِهِ صِفَةٌ . ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّ الْأَحَدَ وَالْوَاحِدَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ هَذَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ اسْمِ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } وَقَوْلِهِ : { قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } وَقَوْلِهِ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } وَقَوْلِهِ : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ يُنَاقِضُ مَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ أُطْلِقَتْ عَلَى قَائِمٍ بِنَفْسِهِ مُشَارٍ إلَيْهِ يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ . وَهَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ جِسْمًا . وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا : الْمَوْصُوفَاتُ تَتَمَاثَلُ وَالْأَجْسَامُ تَتَمَاثَلُ وَالْجَوَاهِرُ تَتَمَاثَلُ وَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } عَلَى نَفْيِ مُسَمَّى هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي سَمَّوْهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ الْحَادِثِ كَانَ هَذَا افْتِرَاءً عَلَى الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمَثَلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ؛ وَلَا لُغَةِ الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِمَا . قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } .

فَنَفَى مُمَاثَلَةَ هَؤُلَاءِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ تُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِثْلُ كُلِّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } { إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَكِلَاهُمَا بَلَدٌ ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مِثْلٌ لِكُلِّ جِسْمٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ حَتَّى يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٌ وَقَالَ : مَا إنْ كَمِثْلِهِمْ فِي النَّاسِ مِنْ بَشَرٍ وَلَمْ يَقْصِدْ هَذَا أَنْ يَنْفِيَ وُجُودَ جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التَّشَابُهِ " لَيْسَ هُوَ التَّمَاثُلَ فِي اللُّغَةِ قَالَ تَعَالَى : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } وَقَالَ تَعَالَى { مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } وَلَمْ يُرِدْ بِهِ شَيْئًا هُوَ مُمَاثِلٌ فِي اللُّغَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا كَوْنَ الْجَوَاهِرِ مُتَمَاثِلَةً فِي الْعَقْلِ أَوْ لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً ؛ فَإِنَّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ ؛ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَا يَجْعَلُونَ مُجَرَّدَ هَذَا مُوجِبًا لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمِثْلِ ؛ وَلَا يَجْعَلُونَ نَفْيَ الْمِثْلِ نَفْيًا لِهَذَا فَحَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَى الْقُرْآنِ .

فَصْلٌ :
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : " الْمُنَاسَبَةُ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهَا التَّوَلُّدُ وَالْقَرَابَةُ فَيُقَالُ : هَذَا نَسِيبُ فُلَانٍ وَيُنَاسِبُهُ ؛ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ قَرَابَةٌ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْوِلَادَةِ وَالْآدَمِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَيُرَادُ بِهَا الْمُمَاثَلَةُ فَيُقَالُ : هَذَا يُنَاسِبُ هَذَا : أَيْ يُمَاثِلُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . وَيُرَادُ بِهَا الْمُوَافَقَةُ فِي مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَضِدُّهَا الْمُخَالَفَةُ . وَ " الْمُنَاسَبَةُ " بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثَابِتَةٌ فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى يُوَافِقُونَهُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَيَفْعَلُونَهُ وَفِيمَا يُحِبُّهُ فَيُحِبُّونَهُ وَفِيمَا نَهَى عَنْهُ فَيَتْرُكُونَهُ وَفِيمَا يُعْطِيهِ فَيُصِيبُونَهُ . وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ عَلِيمٌ يُحِبُّ الْعِلْمَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ مُحْسِنٌ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ مُقْسِطٌ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ الْفَاقِدِ لِرَاحِلَتِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ إذَا وَجَدَهَا بَعْدَ الْيَأْسِ فَاَللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَإِذَا أُرِيدَ " بِالْمُنَاسَبَةِ " هَذَا وَأَمْثَالُهُ فَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ حَقٌّ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ يُحِبُّ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْكَمَالِ ؛ أَوْ لَا يُحِبُّ صِفَاتِ الْكَمَالِ . وَإِذَا قُدِّرَ مَوْجُودَانِ :
أَحَدُهُمَا يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالصِّدْقَ وَالْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَ الْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَبَيْنَ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُحِبُّ هَذَا وَلَا يُبْغِضُ هَذَا كَانَ الَّذِي يُحِبُّ تِلْكَ الْأُمُورَ أَكْمَلَ مِنْ هَذَا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ جَرَّدَهُ عَنْ " صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْوُجُودِ " بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ كَالْجَمَادِ فَاَلَّذِي يَعْلَمُ أَكْمَلُ مِنْهُ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُحِبُّ الْمَحْمُودَ وَيُبْغِضُ الْمَذْمُومَ : أَكْمَلُ مِمَّنْ يُحِبُّهُمَا أَوْ يُبْغِضُهُمَا . وَأَصْلُ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " الْفَرْقُ بَيْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ وَبَيْنَ إرَادَتِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَصَارَ طَائِفَةٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ قَالَتْ " الْقَدَرِيَّةُ " : هُوَ لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَا لَمْ يَشَأْ وَيَشَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ . وَقَالَتْ " الْمُثْبِتَةُ " مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَنْ قَدْ أَرَادَ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَمْ يُرِدْهُ دِينًا أَوْ أَرَادَهُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَمْ يُرِدْهُ مِنْ الْمُؤْمِنِ

فَهُوَ لِذَلِكَ يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَا يُحِبُّهُ دِينًا وَيُحِبُّهُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَا يُحِبُّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَمُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَأَنَّ الْكُفَّارَ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَاَلَّذِينَ نَفَوْا مَحَبَّتَهُ بَنَوْهَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " الرَّحْمَةُ " ضَعْفٌ وَخَوَرٌ فِي الطَّبِيعَةِ وَتَأَلُّمٌ عَلَى الْمَرْحُومِ فَهَذَا بَاطِلٌ . أَمَّا " أَوَّلًا " : فَلِأَنَّ الضِّعْفَ وَالْخَوَرَ مَذْمُومٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالرَّحْمَةَ مَمْدُوحَةٌ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عِبَادَهُ عَنْ الْوَهَنِ وَالْحُزْنِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَنَدَبَهُمْ إلَى الرَّحْمَةِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ } وَقَالَ : { مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمُ } وَقَالَ : { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ . ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } . وَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ : لَا يُنْزَعُ الضَّعْفُ وَالْخَوَرُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الرَّحْمَةُ تُقَارِنُ فِي حَقِّ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الضَّعْفَ وَالْخَوَرَ - كَمَا فِي رَحْمَةِ النِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - ظَنَّ الغالط أَنَّهَا كَذَلِكَ مُطْلَقًا .

وَ أَيْضًا : فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَلْزِمَةً لِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ ؛ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ فِينَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ النَّقْصِ وَالْحَاجَةِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ " الْوُجُودُ " وَ " الْقِيَامُ بِالنَّفْسِ " فِينَا : يَسْتَلْزِمُ احْتِيَاجًا إلَى خَالِقٍ يَجْعَلُنَا مَوْجُودِينَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ فِي وُجُودِهِ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وُجُودُنَا فَنَحْنُ وَصِفَاتُنَا وَأَفْعَالُنَا مَقْرُونُونَ بِالْحَاجَةِ إلَى الْغَيْرِ وَالْحَاجَةُ لَنَا أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَخْلُوَ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْغَنِيُّ لَهُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْهُ ؛ فَهُوَ بِنَفْسِهِ حَيٌّ قَيُّومٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَنَحْنُ بِأَنْفُسِنَا مُحْتَاجُونَ فُقَرَاءُ . فَإِذَا كَانَتْ ذَاتُنَا وَصِفَاتُنَا وَأَفْعَالُنَا وَمَا اتَّصَفْنَا بِهِ مِنْ الْكَمَالِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ مَقْرُونٌ بِالْحَاجَةِ وَالْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ : لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ ذَاتٌ وَلَا صِفَاتٌ وَلَا أَفْعَالٌ وَلَا يَقْدِرُ وَلَا يَعْلَمُ ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ مُلَازِمًا لِلْحَاجَةِ فِينَا . فَكَذَلِكَ " الرَّحْمَةُ " وَغَيْرُهَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا فِي حَقِّنَا مُلَازِمَةٌ لِلْحَاجَةِ وَالضَّعْفِ ؛ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ اللَّهِ مُلَازِمَةً لِذَلِكَ . وَأَيْضًا : فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّا إذَا فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ أَحَدُهُمَا يَرْحَمُ غَيْرَهُ فَيَجْلُبُ لَهُ الْمَنْفَعَةَ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ ؛ وَالْآخَرُ قَدْ اسْتَوَى عِنْدَهُ هَذَا وَهَذَا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَقْتَضِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعَ مَضَرَّةٍ : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " الْغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ " فَلَيْسَ بِصَحِيحِ فِي حَقِّنَا ؛ بَلْ الْغَضَبُ قَدْ يَكُونُ لِدَفْعِ الْمُنَافِي قَبْلَ وُجُودِهِ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ انْتِقَامٌ أَصْلًا . وَأَيْضًا : فَغَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ يُقَارِنُهُ الْغَضَبُ لَيْسَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْغَضَبِ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ كَمَا أَنَّ " الْحَيَاءَ " يُقَارِنُ حُمْرَةَ الْوَجْهِ وَ " الْوَجَلَ " يُقَارِنُ صُفْرَةَ الْوَجْهِ ؛ لَا أَنَّهُ هُوَ . وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا قَامَ بِهَا دَفْعُ الْمُؤْذِي فَإِنْ اسْتَشْعَرَتْ الْقُدْرَةَ فَاضَ الدَّمُ إلَى خَارِجٍ فَكَانَ مِنْهُ الْغَضَبُ وَإِنْ اسْتَشْعَرَتْ الْعَجْزَ عَادَ الدَّمُ إلَى دَاخِلٍ ؛ فَاصْفَرَّ الْوَجْهُ كَمَا يُصِيبُ الْحَزِينَ . وَأَيْضًا : فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ غَضَبِنَا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ غَضَبِنَا ؛ كَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِ اللَّهِ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَاتِنَا فَلَيْسَ هُوَ مُمَاثِلًا لَنَا : لَا لِذَاتِنَا وَلَا لِأَرْوَاحِنَا وَصِفَاتُهُ كَذَاتِهِ . وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّا إذَا قَدَّرْنَا مَوْجُودَيْنِ : أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ قُوَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا الْفَسَادَ . وَالْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ تِلْكَ الْقُوَّةِ أَكْمَلَ .

وَلِهَذَا يُذَمُّ مَنْ لَا غَيْرَةَ لَهُ عَلَى الْفَوَاحِشِ كَالدَّيُّوثِ وَيُذَمُّ مَنْ لَا حَمِيَّةَ لَهُ يَدْفَعُ بِهَا الظُّلْمَ عَنْ الْمَظْلُومِينَ وَيَمْدَحُ الَّذِي لَهُ غَيْرَةٌ يَدْفَعُ بِهَا الْفَوَاحِشَ وَحَمِيَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا الظُّلْمَ ؛ وَيُعْلَمُ أَنَّ هَذَا أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّبَّ بالأكملية فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَقَالَ : { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ أَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي } . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذِهِ انْفِعَالَاتٌ نَفْسَانِيَّةٌ . فَيُقَالُ : كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُنْفَعِلٌ وَنَحْنُ وَذَوَاتُنَا مُنْفَعِلَةٌ فَكَوْنُهَا انْفِعَالَاتٍ فِينَا لِغَيْرِنَا نَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهَا : لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُنْفَعِلًا لَهَا عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهَا وَكَانَ كُلُّ مَا يَجْرِي فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا مَا يَشَاءُ وَلَا يَشَاءُ إلَّا مَا يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ .

فَصْلٌ :
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : " إنَّ الضَّحِكَ خِفَّةُ رُوحٍ " لَيْسَ بِصَحِيحِ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يُقَارِنُهُ . ثُمَّ قَوْلُ الْقَائِلِ : " خِفَّةُ الرُّوحِ " . إنْ أَرَادَ بِهِ وَصْفًا مَذْمُومًا فَهَذَا يَكُونُ لِمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُضْحَكَ مِنْهُ وَإِلَّا فَالضَّحِكُ فِي مَوْضِعِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ صِفَةُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ وَإِذَا قُدِّرَ حَيَّانِ أَحَدُهُمَا يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُ مِنْهُ ؛ وَالْآخَرُ لَا يَضْحَكُ قَطُّ كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَنْظُرُ إلَيْكُمْ الرَّبُّ قنطين فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ العقيلي : يَا رَسُولَ اللَّهِ أو يَضْحَكُ الرَّبُّ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا } . فَجَعَلَ الْأَعْرَابِيُّ الْعَاقِلُ - بِصِحَّةِ فِطْرَتِهِ - ضَحِكَهُ دَلِيلًا عَلَى إحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مَقْرُونٌ بِالْإِحْسَانِ الْمَحْمُودِ وَأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالشَّخْصُ الْعَبُوسُ الَّذِي لَا يَضْحَكُ قَطُّ هُوَ مَذْمُومٌ بِذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْعَذَابِ : إنَّهُ { يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } .

وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ لِآدَمَ : " حَيَّاك اللَّهُ وَبَيَّاك " أَيْ أَضْحَكَك . وَالْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ضَاحِكٌ ؛ وَمَا يُمَيِّزُ الْإِنْسَانَ عَنْ الْبَهِيمَةِ صِفَةُ كَمَالٍ فَكَمَا أَنَّ النُّطْقَ صِفَةُ كَمَالٍ فَكَذَلِكَ الضَّحِكُ صِفَةُ كَمَالٍ فَمَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَمَنْ يَضْحَكُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَضْحَكُ وَإِذَا كَانَ الضَّحِكُ فِينَا مُسْتَلْزِمًا لِشَيْءِ مِنْ النَّقْصِ فَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ الْأَكْثَرُ مُخْتَصٌّ لَا عَامٌّ فَلَيْسَ حَقِيقَةُ الضَّحِكِ مُطْلَقًا مَقْرُونَةً بِالنَّقْصِ كَمَا أَنَّ ذَوَاتَنَا وَصِفَاتِنَا مَقْرُونَةٌ بِالنَّقْصِ وَوُجُودَنَا مَقْرُونٌ بِالنَّقْصِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُوجِدًا وَأَنْ لَا تَكُونَ لَهُ ذَاتٌ . وَمِنْ هُنَا ضَلَّتْ الْقَرَامِطَةُ الْغُلَاةُ كَصَاحِبِ " الْإِقْلِيدِ " وَأَمْثَالِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا عَنْهُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ الْقَلْبُ وَيَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ فَقَالُوا : لَا نَقُولُ مَوْجُودٌ وَلَا لَا مَوْجُودٌ وَلَا مَوْصُوفٌ وَلَا لَا مَوْصُوفٌ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ - عَلَى زَعْمِهِمْ - مِنْ التَّشْبِيهِ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا وَهُوَ مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ بِالْمُمْتَنِعِ وَالتَّشْبِيهُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُشَارِكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهَا وَأَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وُصِفَ بِهَا فَلَا تُمَاثِلُ صِفَةُ الْخَالِقِ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ كَالْحُدُوثِ وَالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَالْإِمْكَانِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " التَّعَجُّبُ اسْتِعْظَامٌ لِلْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ " . فَيُقَالُ : نَعَمْ . وَقَدْ يَكُونُ مَقْرُونًا بِجَهْلِ بِسَبَبِ التَّعَجُّبِ وَقَدْ يَكُونُ لِمَا خَرَجَ عَنْ نَظَائِرِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْلَمَ سَبَبَ مَا تَعَجَّبَ مِنْهُ ؛ بَلْ يَتَعَجَّبُ لِخُرُوجِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ تَعْظِيمًا لَهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُعَظِّمُ مَا هُوَ عَظِيمٌ ؛ إمَّا لِعَظَمَةِ سَبَبِهِ أَوْ لِعَظَمَتِهِ . فَإِنَّهُ وَصَفَ بَعْضَ الْخَيْرِ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ . وَوَصَفَ بَعْضَ الشَّرِّ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَقَالَ تَعَالَى : { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } وَقَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } وَقَالَ : { وَلَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } عَلَى قِرَاءَةِ الضَّمِّ فَهُنَا هُوَ عَجَبٌ مِنْ كُفْرِهِمْ مَعَ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ .

{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي آثَرَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ ضَيْفَهُمَا : لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ : { لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ مِنْ صُنْعِكُمَا الْبَارِحَةَ } . وَقَالَ : { إنَّ الرَّبَّ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ . يَقُولُ عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنَا } وَقَالَ : { عَجِبَ رَبُّك مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ } وَقَالَ : { عَجِبَ رَبُّك مِنْ رَاعِي غَنَمٍ عَلَى رَأْسِ شَظِيَّةٍ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ فَيَقُولُ اللَّهُ اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي } أَوْ كَمَا قَالَ . وَنَحْوَ ذَلِكَ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " لَوْ كَانَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ لَكَانَ نَقْصًا " . وَقَوْلُ الْآخَرِ : " لَوْ قَدَرَ وَعَذَّبَ لَكَانَ ظُلْمًا وَالظُّلْمُ نَقْصٌ " . فَيُقَالُ : أَمَّا الْمَقَالَةُ الْأُولَى فَظَاهِرَةٌ : فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ؛ وَمَا لَا يَخْلُقُهُ وَلَا يُحْدِثُهُ لَكَانَ نَقْصًا مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا أَنَّ انْفِرَادَ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ عَنْهُ بِالْأَحْدَاثِ نَقْصٌ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ مُلْكِهِ فَكَيْفَ فِي مُلْكِهِ ؟ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّا إذَا فَرَضْنَا اثْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ وَالْآخَرُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ وَيَسْتَغْنِي عَنْهُ بَعْضُهَا : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ فَنَفْسُ خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ قُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ نَقْصٌ وَهَذِهِ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ نَقْصٌ بِكُلِّ مِنْ الْمُشْتَرِكَيْنِ وَلَيْسَ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ إلَّا فِي الْوَحْدَانِيَّةِ . فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ قَدَرَ بِنَفْسِهِ كَانَ أَكْمَلَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى مُعِينٍ وَمَنْ فَعَلَ الْجَمِيعَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَهُ مُشَارِكٌ وَمُعَاوِنٌ عَلَى فِعْلِ الْبَعْضِ وَمَنْ افْتَقَرَ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ .

وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ : كَوْنُهُ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَقَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ : أَكْمَلَ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا لِلْبَعْضِ وَقَادِرًا عَلَى الْبَعْضِ . وَ " الْقَدَرِيَّةُ " لَا يَجْعَلُونَهُ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَا قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ . وَ " الْمُتَفَلْسِفَةُ " الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عِلَّةٌ غائية شَرٌّ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَجْعَلُونَهُ خَالِقًا لِشَيْءِ مِنْ حَوَادِثِ الْعَالَمِ - لَا لِحَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الْمُتَحَرِّكَاتِ وَلَا خَالِقًا لِمَا يَحْدُثُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَا قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ فِي الْعَالَمِ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا . ( وَمِنْهَا أَنَّا إذَا قَدَّرْنَا مَالِكَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا يُرِيدُ شَيْئًا فَلَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يُرِيدُ ( وَالْآخَرُ لَا يُرِيدُ شَيْئًا إلَّا كَانَ وَلَا يَكُونُ إلَّا مَا يُرِيدُ عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا أَكْمَلُ . وَفِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ " الْمُثْبِتَةِ لِلْقُدْرَةِ " يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ ؛ فَيَقْتَضِي كَمَالَ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَ " نفاة الْقَدَرِ " يَسْلُبُونَهُ هَذِهِ الكمالات . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " إنَّ التَّعْذِيبَ عَلَى الْمُقَدَّرِ ظُلْمٌ مِنْهُ " فَهَذِهِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهَا إلَّا قِيَاسُ الرَّبِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ كُلَّ مَا كَانَ نَقْصًا

مِنْ أَيِّ مَوْجُودٍ كَانَ : لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نَقْصًا مِنْ اللَّهِ ؛ بَلْ وَلَا يَقْبُحُ هَذَا مِنْ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ إذَا كَانَ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي تَعْذِيبِ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَأَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا فِيهِ تَعْذِيبٌ لَهُ حَسُنَ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ كَاَلَّذِي يَصْنَعُ الْقَزَّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي أَنَّ دُودَ الْقَزِّ يَنْسِجُهُ ثُمَّ يَسْعَى فِي أَنْ يُلْقَى فِي الشَّمْسِ لِيَحْصُلَ لَهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقَزِّ وَهُوَ هُنَا لَهُ سَعْيٌ فِي حَرَكَةِ الدُّودِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ تَعْذِيبِهِ . وَكَذَلِكَ الَّذِي يَسْعَى فِي أَنْ يَتَوَالَدَ لَهُ مَاشِيَةٌ وَتَبِيضَ لَهُ دَجَاجٌ ثُمَّ يَذْبَحُ ذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَقَدْ تَسَبَّبَ فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ تَسَبُّبًا أَفْضَى إلَى عَذَابِهِ ؛ لِمَصْلَحَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ . فَفِي " الْجُمْلَةِ " : الْإِنْسَانُ يَحْسُنُ مِنْهُ إيلَامُ الْحَيَوَانِ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ جِنْسُ هَذَا مَذْمُومًا وَلَا قَبِيحًا وَلَا ظُلْمًا وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ ظُلْمٌ . وَحِينَئِذٍ فَالظُّلْمُ مِنْ اللَّهِ إمَّا أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ تَصَرُّفُ الْمُتَصَرِّفِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَاَللَّهُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ ؛ أَوْ الظُّلْمُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ مِنْهُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ أَوْ مُخَالَفَةُ أَمْرِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ . فَإِذَا كَانَ الظُّلْمُ لَيْسَ إلَّا هَذَا أَوْ هَذَا : امْتَنَعَ الظُّلْمُ مِنْهُ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَفْعَلُهُ لِغِنَاهُ وَعِلْمِهِ بِقُبْحِهِ ؛ وَلِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ ؛ وَلِكَمَالِ نَفْسِهِ يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الظُّلْمِ مِنْهُ إذْ كَانَ الْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ؛ فَيَمْتَنِعُ اتِّصَافُهُ بِنَقِيضِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى هَذَا

الْقَوْلِ فَاَلَّذِي يَفْعَلُهُ لِحِكْمَةِ اقْتَضَتْ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِهِ لِحِكْمَةِ تَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْهُ . وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ عَلِمْنَا أَنَّ لَهُ فِيهِ حِكْمَةً ؛ وَهَذَا يَكْفِينَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ التَّفْصِيلَ وَعَدَمُ عِلْمِنَا بِتَفْصِيلِ حِكْمَتِهِ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ عِلْمِنَا بِكَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ ؛ وَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ مَعْلُومٌ لَنَا وَأَمَّا كُنْهُ ذَاتِهِ فَغَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَنَا فَلَا نُكَذِّبُ بِمَا عَلِمْنَاهُ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ . وَكَذَلِكَ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ " حَكِيمٌ " فِيمَا يَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَعَدَمُ عِلْمِنَا بِالْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ لَا يَقْدَحُ فِيمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ أَصْلِ حِكْمَتِهِ ؛ فَلَا نُكَذِّبُ بِمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ حِكْمَتِهِ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ مِنْ تَفْصِيلِهَا . وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ حِذْقَ أَهْلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِهِمْ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقْدَحَ فِيمَا قَالُوهُ ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَوْجِيهِهِ . وَالْعِبَادُ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ عَوَامِّهِمْ بِالْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ فَاعْتِرَاضُهُمْ عَلَى حِكْمَتِهِ أَعْظَمُ جَهْلًا وَتَكَلُّفًا لِلْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ مِنْ الْعَامِّيِّ الْمَحْضِ إذَا قَدَحَ فِي الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ . وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَمَالِ وَهُوَ قَوْلُنَا : إنَّ الْكَمَالَ

الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ لِلْمُمْكِنِ الْوُجُودَ يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهِ وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا يُنَاقِضُهُ فَيُقَالُ : خَلْقُ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَفِعْلُهُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِهِ هَلْ هُوَ نَقْصٌ مُطْلَقًا أَمْ يَخْتَلِفُ ؟ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ فِي خَلْقِ ذَلِكَ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ فَأَيُّمَا أَكْمَلُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَوْ تَفْوِيتُهَا ؟ وَأَيْضًا فَهَلْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِ حُصُولِ هَذَا ؟ فَهَذِهِ أُمُورٌ إذَا تَدَبَّرَهَا الْإِنْسَانُ ؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ خَلْقُ فِعْلِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِتَعْذِيبِهِ نَقْصٌ مُطْلَقًا . وَ " الْمُثْبِتَةُ لِلْقَدَرِ " قَدْ تُجِيبُ بِجَوَابِ آخَرَ ؛ لَكِنْ يُنَازِعُهُمْ الْجُمْهُورُ فِيهِ . فَيَقُولُونَ : كَوْنُهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ صِفَةَ كَمَالٍ بِخِلَافِ الَّذِي يَكُونُ مَأْمُورًا مَنْهِيًّا الَّذِي يُؤْمَرُ بِشَيْءِ وَيُنْهَى عَنْ شَيْءٍ . وَيَقُولُونَ إنَّمَا قَبُحَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ . وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : إذَا قَدَّرْنَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِلَا حِكْمَةٍ مَحْبُوبَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ وَلَا رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ يَعُودُ إلَى غَيْرِهِ : كَانَ الَّذِي يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَرَحْمَةٍ أَكْمَل مِمَّنْ يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا لِرَحْمَةِ . وَيَقُولُونَ : إذَا قَدَّرْنَا مُرِيدًا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مُرَادِهِ وَمُرَادِ غَيْرِهِ . وَمُرِيدًا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا ؛ فَيُرِيدُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ ؛ دُونَ مَا هُوَ بِالضِّدِّ : كَانَ هَذَا الثَّانِي أَكْمَلَ . وَيَقُولُونَ : الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ الَّذِي فَوْقَهُ آمِرٌ نَاهٍ هُوَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَيْسَ

فَوْقَهُ آمِرٌ نَاهٍ لَكِنْ إذَا كَانَ هُوَ الْآمِرَ لِنَفْسِهِ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَالْمُحَرِّمَ عَلَيْهَا مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَآخَرُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُهُ بِدُونِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ مِنْ نَفْسِهِ فَهَذَا الْمُلْتَزِمُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ - الْوَاقِعَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ - أَكْمَل مِنْ ذَلِكَ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَقَالَ : { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا } . وَقَالُوا أَيْضًا : إذَا قِيلَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ وَلَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مُرَادَهُ وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا كَانَ هَذَا أَكْمَلَ مِمَّنْ لَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مُرَادَهُ وَمُعِينٌ لَا يَكُونُ مُرِيدًا أَوْ فَاعِلًا لِمَا يُرِيدُ إلَّا بِهِ . وَأَمَّا إذَا قِيلَ : يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ؛ بَلْ هُوَ ( مُتَسَفِّهٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَآخَرُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ؛ لَكِنَّ إرَادَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ؛ كَانَ هَذَا الثَّانِي أَكْمَلَ . وَ ( جِمَاعُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ كَمَالَ الْقُدْرَةِ صِفَةُ كَمَالٍ وَكَوْنُ الْإِرَادَةِ نَافِذَةً لَا تَحْتَاجُ إلَى مُعَاوِنٍ وَلَا يُعَارِضُهَا مَانِعٌ وَصْفُ كَمَالٍ . وَأَمَّا كَوْنُ " الْإِرَادَةِ " لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ مُرَادٍ وَمُرَادٍ بَلْ جَمِيعُ الْأَجْنَاسِ عِنْدَهَا سَوَاءٌ فَهَذَا لَيْسَ بِوَصْفِ كَمَالٍ ؛ بَلْ الْإِرَادَةُ الْمُمَيِّزَةُ بَيْنَ مُرَادٍ وَمُرَادٍ - كَمَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ - هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالْكَمَالِ فَمَنْ نَقَصَهُ فِي قُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلَمْ يُقَدِّرْهُ قَدْرَهُ . وَمَنْ نَقَصَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فَلَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ . وَالْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ إثْبَاتُ هَذَا وَهَذَا .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا " مُنْكِرُو النُّبُوَّاتِ " وَقَوْلُهُمْ : لَيْسَ الْخَلْقُ أَهْلًا أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ رَسُولًا كَمَا أَنَّ أَطْرَافَ النَّاسِ لَيْسُوا أَهْلًا أَنْ يُرْسِلَ السُّلْطَانُ إلَيْهِمْ رَسُولًا : فَهَذَا جَهْلٌ وَاضِحٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا تُحْمَدُ بِهِ الْمُلُوكُ خِطَابَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِضُعَفَاءِ الرَّعِيَّةِ فَكَيْفَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِمْ . وَأَمَّا فِي حَقِّ الْخَالِقِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَهُوَ قَادِرٌ مَعَ كَمَالِ رَحْمَتِهِ فَإِذَا كَانَ كَامِلَ الْقُدْرَةِ كَامِلَ الرَّحْمَةِ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا رَحْمَةً مِنْهُ ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ } وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ إحْسَانِهِ إلَى الْخَلْقِ بِالتَّعْلِيمِ وَالْهِدَايَةِ وَبَيَانِ مَا يَنْفَعُهُمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا مِنْ مِنَنِهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ .

فَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ يُنْكِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا قَدْحٌ فِي كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ يُنْكِرُ إحْسَانَهُ بِذَلِكَ فَهَذَا قَدْحٌ فِي كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ . فَعُلِمَ أَنَّ إرْسَالَ الرَّسُولِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِحْسَانُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا النَّقْصِ . وَأَمَّا تَعْذِيبُ الْمُكَذِّبِينَ فَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْقَدَرِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا " قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ " : إنَّ عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ وَحِجَابٍ وَالتَّقَرُّبُ بِدُونِ ذَلِكَ غَضٌّ مِنْ جَنَابِهِ الرَّفِيعِ فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ :
مِنْهَا أَنَّ الَّذِي لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ إلَّا بِوَسَائِطَ وَحِجَابٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى سَمَاعِ كَلَامِ جُنْدِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ بِدُونِ الْوَسَائِطِ وَالْحِجَابِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا كَانَ هَذَا نَقْصًا وَاَللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِالْكَمَالِ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَ عِبَادِهِ بِلَا وَسَائِطَ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَيُحْسِنُ إلَيْهِمْ بِدُونِ حَاجَةٍ إلَى حِجَابٍ وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ أُمُورِهِ بِدُونِ الْحِجَابِ وَتَرَكَ الْحِجَابَ إحْسَانًا وَرَحْمَةً كَانَ ذَلِكَ صِفَةَ كَمَالٍ . وَأَيْضًا : فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذَا غَضٌّ مِنْهُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ يُمْكِنُ الْخَلْقُ أَنْ يَضُرُّوهُ وَيَفْتَقِرُ فِي نَفْعِهِ إلَيْهِمْ فَأَمَّا مَعَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُمْ وَأَمْنِهِ أَنْ يُؤْذُوهُ فَلَيْسَ تَقَرُّبُهُمْ إلَيْهِ غَضًّا مِنْهُ ؛ بَلْ إذَا كَانَ اثْنَانِ : أَحَدُهُمَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ الضُّعَفَاءَ إحْسَانًا إلَيْهِمْ وَلَا يَخَافُ مِنْهُمْ وَالْآخَرُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إمَّا خَوْفًا وَإِمَّا كِبْرًا وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي :

وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَا يُقَالُ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُطَاعِ ؛ بَلْ إذَا أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي التَّقَرُّبِ مِنْهُ وَدُخُولِ دَارِهِ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سُوءَ أَدَبٍ عَلَيْهِ وَلَا غَضًّا مِنْهُ فَهَذَا إنْكَارٌ عَلَى مَنْ تَعَبَّدَهُ بِغَيْرِ مَا شَرَعَ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } { وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُمْ أَيُّمَا أَكْمَلُ ؟ ذَاتٌ تُوصَفُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكَاتِ مِنْ الذَّوْقِ وَالشَّمِّ وَاللَّمْسِ ؟ أَمْ ذَاتٌ لَا تُوصَفُ بِهَا ؟ لَقَالُوا : الْأَوَّلُ أَكْمَلُ وَلَمْ يَصِفُوهُ بِهَا . فَتَقُولُ مُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ لَهُمْ : فِي هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ : أَحَدُهَا : إثْبَاتُ هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا يُوصَفُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ . وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَظُنُّهُ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَصْرِيِّينَ الَّذِينَ يَصِفُونَهُ بِالْإِدْرَاكَاتِ . وَهَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ يَقُولُونَ : تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِدْرَاكَاتُ الْخَمْسَةُ أَيْضًا كَمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّؤْيَةُ ؛ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي " الْمُعْتَمَدِ " وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَنْفِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ ؛ كَمَا يَنْفِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُثْبِتَةِ أَيْضًا مِنْ الصفاتية وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : إثْبَاتُ إدْرَاكِ اللَّمْسِ دُونَ إدْرَاكِ الذَّوْقِ ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَطْعُومِ فَلَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا مَنْ يَأْكُلُ وَلَا يُوصَفُ بِهِ إلَّا مَا يُؤْكَلُ

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْأَكْلِ بِخِلَافِ اللَّمْسِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَصِفُونَهُ بِاللَّمْسِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَصِفُونَهُ بِالذَّوْقِ . وَذَلِكَ أَنَّ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا لِلْمُثْبِتَةِ : إذَا قُلْتُمْ إنَّهُ يَرَى . فَقُولُوا إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحِسِّ . وَإِذَا قُلْتُمْ إنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فَصِفُوهُ بِالْإِدْرَاكَاتِ الْخَمْسَةِ . فَقَالَ " أَهْلُ الْإِثْبَاتِ قَاطِبَةً " نَحْنُ نَصِفُهُ بِأَنَّهُ يَرَى وَأَنَّهُ يُسْمَعُ كَلَامُهُ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ . وَكَذَلِكَ نَصِفُهُ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى . وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ : نَصِفُهُ أَيْضًا بِإِدْرَاكِ اللَّمْسِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَمَالٌ لَا نَقْصَ فِيهِ . وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ بِخِلَافِ إدْرَاكِ الذَّوْقِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَكْلِ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّقْصِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَطَائِفَةٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُثْبِتَةِ وَصَفُوهُ بِالْأَوْصَافِ الْخَمْسِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّؤْيَةُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مُصَحِّحَ الرُّؤْيَةِ الْوُجُودُ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّهُ مُتَّصِفٌ بِهَا . وَأَكْثَرُ مُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ لَمْ يَجْعَلُوا مُجَرَّدَ الْوُجُودِ هُوَ الْمُصَحِّحُ لِلرُّؤْيَةِ ؛ بَلْ قَالُوا إنَّ الْمُقْتَضَى أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ لَا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ ؛ فَإِنَّ الثَّانِيَ يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ كُلِّ مَوْجُودٍ ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ وَإِذَا كَانَ الْمُصَحِّحُ لِلرُّؤْيَةِ هِيَ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ ؛ فَمَا كَانَ أَحَقَّ بِالْوُجُودِ وَأَبْعَدَ عَنْ الْعَدَمِ كَانَ أَحَقَّ بِأَنْ تَجُوزَ رُؤْيَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى مَا سِوَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : الْكَمَالُ وَالنَّقْصُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ : فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ هُوَ الْكَمَالُ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ لِلْمَوْجُودِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْتَفِي عَنْ اللَّهِ أَصْلًا وَالْكَمَالُ النِّسْبِيُّ هُوَ الْمُسْتَلْزِمُ لِلنَّقْصِ ؛ فَيَكُونُ كَمَالًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ؛ كَالْأَكْلِ لِلْجَائِعِ كَمَالٌ لَهُ وَلِلشَّبْعَانِ نَقْصٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَمَالِ مَحْضٍ بَلْ هُوَ مَقْرُونٌ بِالنَّقْصِ . وَالتَّعَالِي وَالتَّكَبُّرُ وَالثَّنَاءُ عَلَى النَّفْسِ وَأَمْرُ النَّاسِ بِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ هَذَا كَمَالٌ مَحْمُودٌ مِنْ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ نَقْصٌ مَذْمُومٌ مِنْ الْمَخْلُوقِ . وَهَذَا كَالْخَبَرِ عَمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ ؛ كَقَوْلِهِ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } وقَوْله تَعَالَى { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } وَقَوْلِهِ : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا } وَقَوْلِهِ : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَقَوْلِهِ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ

عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَأَمْثَالُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَذْكُرُ الرَّبُّ فِيهِ عَنْ نَفْسِهِ بَعْضَ خَصَائِصِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ صَادِقٌ فِي إخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ مِنْ نُعُوتِ الْكَمَالِ : هُوَ أَيْضًا مِنْ كَمَالِهِ فَإِنَّ بَيَانَهُ لِعِبَادِهِ وَتَعْرِيفَهُمْ ذَلِكَ هُوَ أَيْضًا مِنْ كَمَالِهِ . وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَوْ أَخْبَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لَكَانَ كَاذِبًا مُفْتَرِيًا وَالْكَذِبُ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ . وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ الْمَخْلُوقُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ فَهَذَا لَا يُذَمُّ مُطْلَقًا بَلْ قَدْ يُحْمَدُ مِنْهُ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } . وَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ أَوْ مُسَاوِيَةٌ فَيُذَمُّ لِفِعْلِهِ مَا هُوَ مَفْسَدَةٌ لَا لِكَذِبِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ مَا هُوَ مَذْمُومٌ عَلَيْهِ ؛ بَلْ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ مِنْهُ حَسَنٌ جَمِيلٌ مَحْمُودٌ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الظُّلْمُ مِنْهُ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَظَاهِرٌ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ فَأَخْبَارُهُ كُلُّهَا وَأَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ مَحْمُودَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْحَمْدَ وَلَهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . فَالْكِبْرِيَاءُ وَالْعَظَمَةُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ حَيًّا قَيُّومًا قَدِيمًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُنَالُ وَأَنَّهُ قَهَّارٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ .

فَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا هُوَ ؛ فَمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا هُوَ كَيْفَ يَكُونُ كَمَالًا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ مَعْدُومٌ لِغَيْرِهِ ؟ فَمَنْ ادَّعَاهُ كَانَ مُفْتَرِيًا مُنَازِعًا لِلرُّبُوبِيَّةِ فِي خَوَاصِّهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته } . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ : أَنَّ الْكَمَالَ الْمُخْتَصَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ فَهَذَا تَحْقِيقُ اتِّصَافِهِ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا نَصِيبَ لِغَيْرِهِ فِيهِ . وَمِثْلُ هَذَا الْكَمَالِ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ فَادِّعَاؤُهُ مُنَازَعَةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَفِرْيَةٌ عَلَى اللَّهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّبُوَّةَ كَمَالٌ لِلنَّبِيِّ وَإِذَا ادَّعَاهَا الْمُفْتَرُونَ - كمسيلمة وَأَمْثَالِهِ - كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا مِنْهُمْ لَا لِأَنَّ النُّبُوَّةَ نَقْصٌ ؛ وَلَكِنَّ دَعْوَاهَا مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ هُوَ النَّقْصُ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالصَّلَاحَ مَنْ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ كَانَ مَذْمُومًا مَمْقُوتًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِكَمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِ وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ مَا كَانَ كَمَالًا لِلْمَوْجُودِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ : فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ ؛ وَلَكِنْ يُفِيدُ أَنَّ الْكَمَالَ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ بِمَا هُوَ مِنْهُ إذَا وُصِفَ الْخَالِقُ بِمَا هُوَ مِنْهُ فَاَلَّذِي لِلْخَالِقِ لَا يُمَاثِلُهُ مَا لِلْمَخْلُوقِ وَلَا يُقَارِبُهُ . وَهَذَا حَقٌّ فَالرَّبُّ تَعَالَى مُسْتَحِقٌّ لِلْكَمَالِ مُخْتَصٌّ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ فَلَيْسَ لَهُ سَمِيٌّ وَلَا كُفُؤٌ سَوَاءٌ كَانَ الْكَمَالُ مِمَّا لَا يَثْبُتُ مِنْهُ شَيْءٌ لِلْمَخْلُوقِ كَرُبُوبِيَّةِ الْعِبَادِ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ مِنْهُ نَوْعٌ لِلْمَخْلُوقِ ؛

فَاَلَّذِي يَثْبُتُ لِلْخَالِقِ مِنْهُ نَوْعٌ هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَخْلُوقِ : عَظَمَةٌ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى أَدْنَاهَا . وَ " مُلَخَّصُ ذَلِكَ " أَنَّ الْمَخْلُوقَ يُذَمُّ مِنْهُ الْكِبْرِيَاءُ وَالتَّجَبُّرُ وَتَزْكِيَةُ نَفْسِهِ أَحْيَانًا وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : فَإِنْ قُلْتُمْ نَحْنُ نَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ مُتَعَلِّقِ الصِّفَةِ وَنَنْظُرُ فِيهَا هَلْ هِيَ كَمَالٌ أَمْ نَقْصٌ ؟ وَكَذَلِكَ نُحِيلُ الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِأَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَمَالًا لِذَاتٍ نَقْصًا لِأُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرَ . فَيُقَالُ : بَلْ نَحْنُ نَقُولُ الْكَمَالُ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ لِلْمُمْكِنِ الْوُجُودَ هُوَ كَمَالٌ مُطْلَقٌ لِكُلِّ مَا يَتَّصِفُ بِهِ . وَأَيْضًا فَالْكَمَالُ الَّذِي هُوَ كَمَالٌ لِلْمَوْجُودِ - مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ - يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ نَقْصًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ نَقْصًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ تَامًّا فِي بَعْضٍ : هُوَ كَمَالٌ لِنَوْعِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ دُونَ نَوْعٍ فَلَا يَكُونُ كَمَالًا لِلْمَوْجُودِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ . وَمِنْ الطُّرُقِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ ذَلِكَ : أَنْ نُقَدِّرَ مَوْجُودَيْنِ : أَحَدُهُمَا مُتَّصِفٌ بِهَذَا وَالْآخَرُ بِنَقِيضِهِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَيُّهُمَا أَكْمَلُ وَإِذَا قِيلَ هَذَا أَكْمَلُ مَنْ وَجْهٍ وَهَذَا أَنْقَصُ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ كَمَالًا مُطْلَقًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .

وَقَالَ :
فَصْلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَ " الْحُسْنَى " : الْمُفَضَّلَةُ عَلَى الْحَسَنَةِ وَالْوَاحِدُ الْأَحَاسِنُ . ثُمَّ هُنَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " : إمَّا أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ إلَّا الْأَحْسَنُ وَلَا يُدْعَى إلَّا بِهِ ؛ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : لَا يُدْعَى إلَّا بِالْحُسْنَى ؛ وَإِنْ سُمِّيَ بِمَا يَجُوزُ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْحُسْنَى - وَهَذَانِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : بَلْ يَجُوزُ فِي الدُّعَاءِ وَالْخَبَرِ . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وَقَالَ : { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أَثْبَتَ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ بِهَا . فَظَاهِرُ هَذَا : أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى .

وَقَدْ يُقَالُ : جِنْسُ " الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى " بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ كَمَا فَعَلَهُ الْكُفَّارُ وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ بِهَا وَأَمَرَ بِدُعَائِهِ مُسَمًّى بِهَا ؛ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ دُعَائِهِ بِاسْمِهِ " الرَّحْمَنِ " . فَقَدْ يُقَالُ : قَوْلُهُ { فَادْعُوهُ بِهَا } أَمْرٌ أَنْ يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَأَنْ لَا يُدْعَى بِغَيْرِهَا ؛ كَمَا قَالَ : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } فَهُوَ نَهْيٌ أَنْ يُدْعَوْا لِغَيْرِ آبَائِهِمْ . وَيُفَرِّقُ بَيْنَ دُعَائِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ فَلَا يُدْعَى إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى ؛ وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْهُ : فَلَا يَكُونُ بِاسْمِ سَيِّئٍ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ بِاسْمِ حَسَنٍ أَوْ بِاسْمِ لَيْسَ بِسَيِّئِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِحُسْنِهِ . مِثْلَ اسْمِ شَيْءٍ وَذَاتٍ وَمَوْجُودٍ ؛ إذَا أُرِيدَ بِهِ الثَّابِتُ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ " الْمَوْجُودُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ " فَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ وَالْمُتَكَلِّمُ ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْكَلَامَ تَنْقَسِمُ إلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى بِخِلَافِ الْحَكِيمِ وَالرَّحِيمِ وَالصَّادِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَحْمُودًا . وَهَكَذَا كَمَا فِي حَقِّ الرَّسُولِ حَيْثُ قَالَ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَمَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ } لَا يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ يَا أَحْمَد يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْإِخْبَارِ - كَالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ - : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } وَقَالَ : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ } .

فَهُوَ سُبْحَانَهُ : لَمْ يُخَاطِبْ مُحَمَّدًا إلَّا بِنَعْتِ التَّشْرِيفِ : كَالرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ ؛ وَخَاطَبَ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْمَائِهِمْ مَعَ أَنَّهُ فِي مَقَامِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ قَدْ يَذْكُرُ اسْمَهُ . فَقَدْ فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ حَالَتَيْ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَأَمَرَنَا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ ؛ وَكَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي عُقُولِ النَّاسِ إذَا خَاطَبُوا الْأَكَابِرَ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالرُّؤَسَاءِ لَمْ يُخَاطِبُوهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إلَّا بِاسْمِ حَسَنٍ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْخَبَرِ عَنْ أَحَدِهِمْ يُقَالُ : هُوَ إنْسَانٌ وَحَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَجِسْمٌ وَمُحْدَثٌ وَمَخْلُوقٌ وَمَرْبُوبٌ وَمَصْنُوعٌ وَابْنُ أُنْثَى وَيَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ . لَكِنَّ كُلَّ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي حَالِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ : يُدْعَى بِهِ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصِهِ وَحُدُوثِهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصٍ وَلَا حُدُوثٍ ؛ بَلْ فِيهَا الْأَحْسَنُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ وَهِيَ الَّتِي يُدْعَى بِهَا ؛ وَإِنْ كَانَ إذَا أُخْبِرَ عَنْهُ يُخْبَرُ بِاسْمِ حَسَنٍ أَوْ بِاسْمِ لَا يَنْفِي الْحَسَنَ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا (1) .
وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَأْثُورَةِ فَمَا مِنْ اسْمٍ إلَّا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى حَسَنٍ فَيَنْبَغِي تَدَبُّرُ هَذَا لِلدُّعَاءِ وَلِلْخَبَرِ الْمَأْثُورِ وَغَيْرِ الْمَأْثُورِ الَّذِي قِيلَ لِضَرُورَةِ حُدُوثِ الْمُخَالِفِينَ - لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْخَبَرِ وَبَيْنَ الْمَأْثُورِ الَّذِي يُقَالُ - أَوْ تَعْرِيفِهِمْ لِمَا لَمْ يَكُونُوا بِهِ عَارِفِينَ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ فِي مَقَامٍ يُذْكَرُ فِي مَقَامٍ بَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ .

وَقَالَ :
فَصْلٌ :
فِي الْقَاعِدَةِ الْعَظِيمَةِ الْجَلِيلَةِ فِي " مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ " مِنْ حَيْثُ قِدَمُهَا وَوُجُوبُهَا أَوْ جَوَازُهَا وَمُشْتَقَّاتُهَا أَوْ وُجُوبُ النَّوْعِ مُطْلَقًا وَجَوَازُ الْآحَادِ مُعَيَّنًا . فَنَقُولُ : الْمُضَافَاتُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ إضَافَةَ اسْمٍ إلَى اسْمٍ أَوْ نِسْبَةَ فِعْلٍ إلَى اسْمٍ أَوْ خَبَرٍ بِاسْمِ عَنْ اسْمٍ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا إضَافَةُ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ } . وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ } فَهَذَا فِي الْإِضَافَةِ الِاسْمِيَّةِ . وَأَمَّا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَكَقَوْلِهِ : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } وَقَوْلِهِ : { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } .

وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ : فَمِثْلَ قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي تُوصَفُ بِهِ الذَّوَاتُ : إمَّا جُمْلَةٌ أَوْ مُفْرَدٌ . فَالْجُمْلَةُ إمَّا اسْمِيَّةٌ كَقَوْلِهِ : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أَوْ فِعْلِيَّةٌ كَقَوْلِهِ : { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ } . أَمَّا الْمُفْرَدُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِهِ : { بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } وَقَوْلِهِ : { هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أَوْ إضَافَةُ الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ : { ذُو الْقُوَّةِ } . وَ ( الْقِسْمُ الثَّانِي : إضَافَةُ الْمَخْلُوقَاتِ كَقَوْلِهِ : { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } وَقَوْلِهِ : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } وَقَوْلِهِ : { رَسُولَ اللَّهِ } وَ { عِبَادَ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { ذُو الْعَرْشِ } وَقَوْلِهِ : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } . فَهَذَا الْقِسْمُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَمَا أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي أَنَّهُ قَدِيمٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَقَدْ خَالَفَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي ثُبُوتِ الصِّفَاتِ ؛ لَا فِي أَحْكَامِهَا وَخَالَفَهُمْ بَعْضُهُمْ فِي قِدَمِ الْعِلْمِ وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ حُدُوثَهُ وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ . ( الثَّالِثُ - وَهُوَ مَحَلُّ الْكَلَامِ هُنَا - مَا فِيهِ مَعْنَى الصِّفَةِ وَالْفِعْلِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَوْلِهِ : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي } وَقَوْلِهِ : { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ } { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } .

وَقَوْلِهِ : { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } وَقَوْلِهِ : { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } وَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } وَقَوْلِهِ : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } . وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا } { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ } { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَقَوْلُهُ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ } . وَفِي الْأَحَادِيثِ شَيْءٌ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ " الشَّفَاعَةِ " : { إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ } وَقَوْلِهِ : { ضَحِكَ اللَّهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ } وَقَوْلِهِ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا } الْحَدِيثَ . وَأَشْبَاهُ هَذَا . وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ . وَقَوْلُهُ : { إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ : سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ } . . . (1) (*) فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ

الْحَنْبَلِيَّةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - إنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَقَ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ ؛ فَيَكُونُ : إمَّا قَدِيمًا قَائِمًا بِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَهُمْ الْكُلَّابِيَة . وَإِمَّا مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ نَعْتٌ أَوْ حَالٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ شَيْءٌ لَيْسَ بِقَدِيمِ . وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ : " مَسْأَلَةَ حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ " . وَيَقُولُونَ : يَمْتَنِعُ أَنْ تَحِلَّ الْحَوَادِثُ بِذَاتِهِ كَمَا يُسَمِّيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ : فِعْلُ الذَّاتِ بِالذَّاتِ أَوْ فِي الذَّاتِ ؛ وَرَأَوْا أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ : قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهَا ؛ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا حُدُوثُهُ أَوْ بُطْلَانُ الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ . وَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ قَالَ : دَلِيلُ حُدُوثِ الْعَالَمِ امْتِنَاعُ خُلُوِّهِ عَنْ الْحَوَادِثِ وَكَوْنُهُ لَا يَسْبِقُهَا وَأَمَّا إذَا جَازَ أَنْ يَسْبِقَهَا لَمْ يَكُنْ فِي قِيَامِهَا بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ . وَيَقُولُ آخَرُونَ : إنَّهُ لَيْسَ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ . وَلَهُمْ مَآخِذُ أُخَرُ . ثُمَّ هُمْ فَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ يَرَى امْتِنَاعَ قِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ أَيْضًا ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَأَنَّ قِيَامَ الْعَرَضِ بِهِ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ أَيْضًا وَهَؤُلَاءِ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ

الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا حِينَئِذٍ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَلَا حُبٌّ وَلَا بُغْضٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَرَدُّوا جَمِيعَ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ إلَى إضَافَةِ خَلْقٍ أَوْ إضَافَةِ وَصْفٍ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ مَعْنًى بِهِ . ( وَالثَّانِي : مَذْهَبُ الصفاتية أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يَرَوْنَ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ فَيَقُولُونَ : لَهُ مَشِيئَةٌ قَدِيمَةٌ وَكَلَامٌ قَدِيمٌ وَاخْتَلَفُوا فِي حُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَرَحْمَتِهِ وَأَسَفِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ أَوْ صِفَاتٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَشِيئَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَهَذَا الِاخْتِلَافُ عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَيَقُولُونَ : إنَّ الْخَلْقَ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَغَيْرَ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ مِنْ الْمَشِيئَةِ وَالْكَلَامِ . ثُمَّ يَقُولُونَ لِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْخَلْقِ هَلْ هُوَ الْمَخْلُوقُ ؟ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْمَخْلُوقِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ .
وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْخَالِقِ . [ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ ] (*) فَالْخَلْقُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالْمَخْلُوقُ الْمَوْجُودُ الْمُخْتَرَعُ . وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا وَأَنَّ الصِّفَاتِ النَّاشِئَةَ عَنْ الْأَفْعَالِ مَوْصُوفٌ بِهَا فِي الْقِدَمِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَفْعُولَاتُ مُحْدَثَةً . قَالَ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ . وَيَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْمَجِيءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَنْوَاعُ جِنْسِ الْحَرَكَةِ : أَحَدَ قَوْلَيْنِ : إمَّا أَنْ يَجْعَلُوهَا مِنْ بَابِ " النَّسَبِ " وَ " الْإِضَافَاتِ " الْمَحْضَةِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ بِصِفَةِ التَّحْتِ فَصَارَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَكْشِفُ الْحُجُبَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَيَصِيرُ جَائِيًا إلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَنَّ التَّكْلِيمَ إسْمَاعُ الْمُخَاطَبِ فَقَطْ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِهِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . أَوْ يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ " أَفْعَالٌ مَحْضَةٌ " فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ وَلَا نِسْبَةٍ فَهَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ هَلْ تَثْبُتُ لِلَّهِ هَذِهِ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ مَعَ اتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُدُوثِ " نِسَبٍ " وَ " إضَافَاتٍ " لِلَّهِ تَعَالَى كَالْمَعِيَّةِ وَنَحْوِهَا ؟ وَيُسَمِّي ابْنُ عَقِيلٍ هَذِهِ النِّسَبَ : " الْأَحْوَالَ " لِلَّهِ وَلَيْسَتْ هِيَ " الْأَحْوَالُ " الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْمُتَكَلِّمُونَ مِثْلَ الْعَالَمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ ؛ بَلْ هَذِهِ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ يُسَمِّيهَا الْأَحْوَالَ . وَيَقُولُ : إنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَيْسَ هُوَ حُدُوثُ الصِّفَاتِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ نِسَبٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ مَعْنًى قَائِمٍ

بِالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَصْعَدُ إلَى السَّطْحِ فَيَصِيرُ فَوْقَهُ ثُمَّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ تَحْتَهُ وَالسَّطْحُ مُتَّصِفٌ تَارَةً بِالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُلُوِّ وَتَارَةً بِالتَّحْتِيَّةِ وَالسُّفُولِ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ صِفَةٍ فِيهِ وَلَا تَغَيُّرٍ . وَكَذَلِكَ إذَا وُلِدَ لِلْإِنْسَانِ مَوْلُودٌ فَيَصِيرُ أَخُوهُ عَمًّا وَأَبُوهُ جَدًّا وَابْنُهُ أَخًا وَأَخُو زَوْجَتِهِ خَالًا وَتُنْسَبُ لَهُمْ هَذِهِ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِيهِمْ . ( وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَكَثِيرٍ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَكْثَرُ كَلَامِ السَّلَفِ وَمَنْ حَكَى مَذْهَبَهُمْ حَتَّى الْأَشْعَرِيَّ ؛ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ - أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةَ وَنَحْوَهَا ؛ الْمُضَافَةَ إلَى اللَّهِ : " قِسْمٌ ثَالِثٌ " لَيْسَتْ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ ؛ وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا مَشِيئَتُهُ : لَا بِأَنْوَاعِهَا وَلَا بِأَعْيَانِهَا . وَقَدْ يَقُولُ هَؤُلَاءِ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ وَكَلَامُهُ مِنْهُ لَيْسَ مَخْلُوقًا . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : وَإِنْ كَانَ لَهُ مَشِيئَةٌ قَدِيمَةٌ فَهُوَ يُرِيدُ إذَا شَاءَ وَيَغْضَبُ وَيَمْقُتُ . وَيُقِرُّ هَؤُلَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مَا جَاءَ مِنْ النُّصُوصِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ

وَأَنَّهُ يَدْنُو إلَى عِبَادِهِ وَيَقْرُبُ مِنْهُمْ وَيَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَيَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ جَائِيًا . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَدْ يَقُولُ : تَحِلُّ " الْحَوَادِثُ " بِذَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ هَذَا اللَّفْظَ : إمَّا لِعَدَمِ وُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ ؛ وَإِمَّا لِإِيهَامِ مَعْنًى فَاسِدٍ ؛ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَحُلُولِ " الْأَعْرَاضِ " بِالْمَخْلُوقَاتِ ؛ كَمَا يَمْتَنِعُ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ تَسْمِيَةِ صِفَاتِهِ أَعْرَاضًا ؛ وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتٍ قَائِمَةً بِالْمَوْصُوفِ كَالْأَعْرَاضِ . وَزَعَمَ ابْنُ الْخَطِيبِ أَنَّ أَكْثَرَ الطَّوَائِفِ وَالْعُقَلَاءِ يُقِرُّونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ ؛ حَتَّى الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ . أَمَّا " الْفَلَاسِفَةُ " : فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْإِضَافَاتِ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَعْيَانِ ؛ وَاَللَّهُ مَوْجُودٌ مَعَ كُلِّ حَادِثٍ . وَ " الْمَعِيَّةُ " صِفَةٌ حَادِثَةٌ فِي ذَاتِهِ وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْبَغْدَادِيُّ صَاحِبُ " الْمُعْتَبَرِ " بِحُدُوثِ عُلُومٍ وَإِرَادَاتٍ جُزْئِيَّةٍ فِي ذَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ . وَقَالَ : إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الِاعْتِرَافُ بِكَوْنِهِ إلَهًا لِهَذَا الْعَالَمِ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ : الْإِجْلَالُ مِنْ هَذَا الْإِجْلَالِ وَاجِبٌ وَالتَّنْزِيهُ مِنْ هَذَا التَّنْزِيهِ لَازِمٌ . وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " : فَإِنَّ الْبَصْرِيِّينَ كَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ الْمَرْئِيِّ وَالْمَسْمُوعِ وَبِهِ تَحْدُثُ صِفَةُ السَّمْعِيَّةِ وَالْبَصَرِيَّةِ لِلَّهِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ بِتَجَدُّدِ عُلُومٍ فِي ذَاتِهِ بِتَجَدُّدِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ أَيْضًا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْمَعْدُومَاتِ لَمْ تَكُنْ مَسْمُوعَةً وَلَا مَرْئِيَّةً ؛ ثُمَّ صَارَتْ مَسْمُوعَةً مَرْئِيَّةً بَعْدَ وُجُودِهَا وَلَيْسَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ عِنْدَهُمْ مُجَرَّدَ نِسْبَةٍ ؛ بَلْ هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ السَّمِيعِ

الْبَصِيرِ وَقَدْ يُلْزِمُونَ بِقَوْلِهِمْ : بِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ أَوْ انْتِهَاؤُهُ . وَقَوْلَهُمْ عِلْمُهُ بِالْجُزْئِيَّاتِ . وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مِنْهُ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الطَّوَائِفِ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِأَهْلِ الْحَدِيثِ . ثُمَّ " الْنُّفَاةِ " قَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَلْزَمُهُمْ إذَا أَثْبَتُوا لِلَّهِ نُعُوتًا غَيْرَ قَدِيمَةٍ ؛ فَيَصِيرُ هَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَهُمْ قَدْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ تِلْكَ اللَّوَازِمِ ؛ تَارَةً بِأَعْذَارِ صَحِيحَةٍ ؛ فَلَا يَكُونُ لَازِمًا لَهُمْ وَتَارَةً بِأَعْذَارِ غَيْرِ صَحِيحَةٍ فَيَكُونُ لَازِمًا لَهُمْ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ . وَأَمَّا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ ظَاهِرَهَا مُوَافِقٌ لِهَذَا الْقَوْلِ لَكِنْ الْأَوَّلُونَ قَدْ يَتَأَوَّلُونَهَا أَوْ يُفَوِّضُونَهَا وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَقُولُونَ : إنَّ فِيهَا نُصُوصًا لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ . وَإِنَّ مَا قَبِلَ التَّأْوِيلَ قَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ الْقَرَائِنِ وَالْضَمَائِمِ (1) (*) . مَا يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَرَادَ ذَلِكَ ؛ أَوْ أَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ . وَيَقُولُونَ : لَيْسَ للنفاة دَلِيلٌ مُعْتَمَدٌ وَإِنَّمَا مَعَهُمْ التَّقْلِيدُ لِأَسْلَافِهِمْ بِالشَّنَاعَةِ وَالتَّهْوِيلِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا دَقِيقَ الْكَلَامِ وَأَنَّ هَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَخَوَاصِّ عِبَادِ اللَّهِ وَإِنَّمَا خَالَفَ ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ فِي الْمِلَلِ وَالْأَوَّلُونَ قَدْ يَقُولُونَ : هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَهَذَا كُفْرٌ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّغَيُّرَ وَالْحُدُوثَ وَقَدْ رَأَيْت لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَجَائِبَ .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْجُزْءِ الَّذِي فِيهِ " الرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ " : وَكَذَلِكَ اللَّهُ تَكَلَّمَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ . وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خُلِقَ . وَكَلَامُهُ فِيهِ طُولٌ . قَالَ :
بَابُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى
فَقُلْنَا : لِمَ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ ؟ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ ؛ إنَّمَا كَوَّنَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْ اللَّهِ وَخَلَقَ صَوْتًا فَأَسْمَعَهُ وَزَعَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ . فَقُلْنَا : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمُكَوِّنِ غَيْرِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ : يَا مُوسَى إنِّي أَنَا رَبُّك ؟ أَوْ يَقُولَ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ فَقَدْ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ ؛ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الجهمي أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ شَيْئًا كَأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْمُكَوَّنُ : يَا مُوسَى إنَّ اللَّهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : { إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَالَ : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } وَقَالَ : { إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } فَهَذَا مَنْصُوصُ الْقُرْآنِ . وَأَمَّا مَا قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يُكَلَّمُ : فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ

خيثمة عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ } " . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ . فَنَقُولُ : أَلَيْسَ اللَّهُ قَالَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ { ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ؟ أَتُرَاهَا أَنَّهَا قَالَتْ بِجَوْفِ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ ؟ . وَقَالَ : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } أَتُرَاهَا أَنَّهَا يُسَبِّحْنَ بِجَوْفِ وَفَمٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ ؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَيْفَ شَاءَ وَكَذَلِكَ اللَّهُ تَكَلَّمَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ وَلَا لِسَانٌ . فَلَمَّا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ فَقُلْنَا : وَغَيْرُهُ مَخْلُوقٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْنَا : هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشُّنْعَةَ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ : { لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ قَالَ : يَا رَبِّ هَذَا الَّذِي سَمِعْته هُوَ كَلَامُك ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا مُوسَى هُوَ كَلَامِي وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ بَدَنُك ؛ وَلَوْ كَلَّمْتُك بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمُتّ قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ قَالُوا لَهُ صِفْ لَنَا كَلَامَ رَبِّك . فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ قَالُوا : فَشَبِّهْهُ قَالَ : سَمِعْتُمْ أَصْوَاتَ الصَّوَاعِقِ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا ؟ فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ } " . وَقُلْنَا للجهمية : مَنْ الْقَائِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ

لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ ؟ قَالُوا : يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ كَمَا كَوَّنَهُ فَعَبَّرَ لِمُوسَى . قُلْنَا : فَمَنْ الْقَائِلُ : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ } ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ ؟ قَالُوا : هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ . فَقُلْنَا : قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَزُولُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ . فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ ؛ لَكِنْ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ . قُلْنَا : قَدْ شَبَّهْتُمْ اللَّهَ بِخَلْقِهِ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ ؛ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَانُوا وَلَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ ؛ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ عُلُوًّا كَبِيرًا . بَلْ نَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ كَلَامًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ عِلْمًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا نُورَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ نُورًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا عَظَمَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عَظَمَةً وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا فِي تَقْرِيرِ الصِّفَاتِ وَأَنَّهَا لَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ .

وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الْحَرَكَةِ : كَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ هَلْ تُتَأَوَّلُ بِمَعْنَى مَجِيءِ قُدْرَتِهِ وَأَمْرِهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا هِيَ بِمَعْنَى مَجِيءِ قُدْرَتِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ حَنْبَلٍ فِي الْمِحْنَةِ . وَ الثَّانِيَةُ : تَمُرُّ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَّطَ حَنْبَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَالَهُ أَحْمَد إلْزَامًا لَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ رِوَايَةً خَاصَّةً كَابْنِ الزَّاغُونِي وَعَمَّمَ ابْنُ عَقِيلٍ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ . وَهَذَا الْأَصْلُ يَتَفَرَّعُ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ ؛ لَا سِيَّمَا مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَالصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَشِيئَةِ كَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ ؛ وَهُوَ كَانَ سَبَبَ وُقُوعِ النِّزَاعِ بَيْنَ إمَامِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة وَبَيْنَ طَائِفَةٍ مِنْ فُضَلَاءِ أَصْحَابِهِ .

فَصْلٌ :
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ : " أَحْمَدُ " فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا . غَفُورًا . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . وَوَجَدْتهَا فِي " الْمِحْنَةِ " رِوَايَةَ حَنْبَلٍ لَمَّا سَأَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ قَاضِي " الْمُعْتَصِمِ " فَلَامَهُ فَقَالَ : مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ؟ قَالَ فَقُلْت : مَا تَقُولُ فِي الْعِلْمِ ؟ فَسَكَتَ . فَقُلْت لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ قَالَ : فَسَأَلْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا وَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ : كَانَ اللَّهُ وَلَا قُرْآنَ فَقُلْت : كَانَ اللَّهُ وَلَا عِلْمَ ؟ فَأَمْسَكَ . وَلَوْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا عِلْمَ لَكَفَرَ بِاَللَّهِ . ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا يُعْبَدُ اللَّهُ بِصِفَاتِهِ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَعْلُومَةٍ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَنَرُدُّ الْقُرْآنَ إلَى عَالِمِهِ إلَى اللَّهِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ ؛ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَعَلَى كُلِّ جِهَةٍ . وَلَا يُوصَفُ اللَّهُ بِشَيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ .

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ - فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ " كِتَابِ السُّنَّةِ فِي الْمُقْنِعِ " - لَمَّا سَأَلُوهُ إنَّكُمْ إذَا قُلْتُمْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَانَ ذَلِكَ عَبَثًا . فَقَالَ : لِأَصْحَابِنَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ ضِدَّ الْكَلَامِ الْخَرَسُ كَمَا أَنَّ ضِدَّ الْعِلْمِ الْجَهْلُ . قَالَ : وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ قَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ خَالِقٌ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا فِي كُلِّ حَالٍ ؛ بَلْ قُلْنَا إنَّهُ خَالِقٌ فِي وَقْتِ إرَادَتِهِ أَنْ يَخْلُقَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يَبْطُلْ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا ؛ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فِي كُلِّ حَالٍ لَمْ يَبْطُلْ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا ؛ بَلْ هُوَ مُتَكَلِّمٌ خَالِقٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا مُتَكَلِّمًا فِي كُلِّ حَالٍ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " إيضَاحِ الْبَيَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " لَمَّا أَوْرَدَ عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ : نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَلَيْسَ بِمُكَلَّمِ وَلَا مُخَاطَبٍ وَلَا آمِرٍ وَلَا نَاهٍ ؛ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ ذَكَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَا حَكَاهُ فِي الْمُقْنِعِ ثُمَّ قَالَ : لَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ " لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ " . قَالَ : وَالْقَائِلُ بِهَذَا قَائِلٌ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ وَقَدْ تَأَوَّلْنَا كَلَامَ أَحْمَدَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا وَصْفَهُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ

يَجِبُ أَنْ تُقَدَّرَ فِيهَا ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّنَا لَوْ قَدَّرْنَا وُجُودَ الْفِعْلِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ أَفْضَى إلَى قِدَمِ الْعَالَمِ فَأَمَّا الْكَلَامُ فَهُوَ كَالْعِلْمِ . وَقَالَ الْقَاضِي فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ : قَوْلُ أَحْمَدَ : لَمْ يَزَلْ غَفُورًا بَيَانٌ أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ قَدِيمَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مُشْتَقَّةً مِنْ فِعْلٍ كَالْغُفْرَانِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مُشْتَقَّةً . وَقَوْلُهُ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ : مَعْنَاهُ إذَا شَاءَ أَنْ يَسْمَعَهُ . قُلْت وَطَرِيقَةُ الْقَاضِي هَذِهِ هِيَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِهِمْ وَغَيْرِهِمْ : كَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي . وَأَمَّا أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَيْضًا فَيُخَالِفُونَهُ فِي ذَلِكَ وَيَقُولُونَ فِي الْفِعْلِ أَحَدَ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْقَاضِي الَّذِي هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - أَمَّا أَنَّ الْفِعْلَ قَدِيمٌ وَالْمَفْعُولُ مَخْلُوقٌ ؛ كَمَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْإِرَادَةِ وَالْقَوْلِ الْمُكَوَّنِ : أَيْ الْإِرَادَةُ قَدِيمَةٌ وَالْمُرَادُ مُحْدَثٌ وَكَمَا أَنَّ الْمُنَازِعَ يَقُولُ : التَّكْوِينُ قَدِيمٌ فَالْمُكَوَّنُ مَخْلُوقٌ . ( وَالثَّانِي : أَنَّ الْفِعْلَ نَفْسَهُ عِنْدَهُمْ - كَالْقَوْلِ كِلَاهُمَا - غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ؛ إذْ هُوَ قَائِمٌ بِاَللَّهِ وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ إلَّا مُنْفَصِلًا عَنْ اللَّهِ . وَيَقُولُونَ : إنَّ قَوْلَ أَحْمَدَ مُوَافِقٌ لِمَا قُلْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ

وَلَمْ يَقُلْ لَمْ يَزَلْ مُكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْمَشِيئَةِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبٌ إنَّمَا هُوَ التَّكْلِيمُ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ جَائِزٌ لَا التَّكَلُّمُ . فَبَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا . فَذَكَرَ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَ : الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ قَدِيمَةٌ وَاجِبَةٌ وَهِيَ الْعِلْمُ وَاَلَّتِي هِيَ جَائِزَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ . فَهَذَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا . وَذَكَرَ أَيْضًا التَّكَلُّمَ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ : الَّذِي فِيهِ نِزَاعٌ وَهُوَ يُشْبِهُ الْعِلْمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَخْلُوقِ وَيُشْبِهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ كَمَا فَسَّرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ فَعُلِمَ أَنَّ قِدَمَهُ عِنْدَهُ : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ إذَا شَاءَ تَكَلَّمَ وَإِذَا شَاءَ سَكَتَ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ وَصْفُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ كَمَالٍ كَمَا لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ وَصْفُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ . وَإِنْ كَانَ الْكَمَالُ هُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتَ إذَا شَاءَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي إنَّ هَذَا قَوْلٌ بِحُدُوثِهِ فَيُجِيبُونَ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ . أَحَدُهُمَا أَلَّا يُسَمَّى مُحْدَثًا وَأَنْ يُسَمَّى حَدِيثًا ؛ إذْ الْمُحْدَثُ هُوَ الْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ حَدِيثًا وَهَذَا قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ . وَ الثَّانِي : أَنَّهُ يُسَمَّى مُحْدَثًا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ

كدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني - صَاحِبِ الْمَذْهَبِ - لَكِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَحْمَدَ إنْكَارُ ذَلِكَ وَقَدْ يُحْتَجُّ بِهِ لِأَحَدِ قَوْلَيْ أَصْحَابِنَا . قَالَ المروذي قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مِنْ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني ؟ - لَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ دَاوُد الأصبهاني قَالَ : كَذِبًا : إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : اسْتَأْذَنَ " دَاوُد " عَلَى أَبِي فَقَالَ : مَنْ هَذَا . دَاوُد ؟ لَا جَبَرَ وُدُّ اللَّهِ قَلْبَهُ وَدَوَّدَ اللَّهُ قَبْرَهُ فَمَاتَ مُدَوَّدًا . وَالْإِطْلَاقَاتُ قَدْ تُوهِمُ خِلَافَ الْمَقْصُودِ فَيُقَالُ : إنْ أَرَدْت بِقَوْلِك مُحْدَثٌ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ والنجارية فَهَذَا بَاطِلٌ لَا نَقُولُهُ ؛ وَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك : إنَّهُ كَلَامٌ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِعَيْنِهِ - وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَإِنَّا نَقُولُ بِذَلِكَ . وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ؛ وَإِنَّمَا ابْتَدَعَ الْقَوْلَ الْآخَرَ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ ؛ وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذَا الْقَوْلِ لَهُمْ قَوْلَانِ . ( أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا ؛ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ كَمَا أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ خَلَقَهُمَا وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ . وَهَذَا قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّهُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحْدَثٌ يَحْتَمِلُ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنْكَارُ أَحْمَدَ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ : قَدْ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَادِثِ وَلَا مُحْدَثٍ ؛ فَيُرِيدُونَ نَوْعَ الْكَلَامِ إذْ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ ؛ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الْعَيْنِيَّ يَتَكَلَّمُ بِهِ إذَا شَاءَ وَمَنْ قَالَ : لَيْسَتْ تَحِلُّ ذَاتَه الْحَوَادِثُ فَقَدْ يُرِيدُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى . بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ نَوْعُ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ فِي " أُصُولِهِ " وَمِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ ؛ وَأَنَّ كَلَامَهُ ( قَدِيمٌ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ بِذَلِكَ مَوْصُوفًا وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ غَيْرُ مُحْدَثٍ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَقَدْ يَجِيءُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ صِفَةَ مُتَكَلِّمٍ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ وَمُتَكَلِّمًا كُلَّمَا شَاءَ وَإِذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ : إنَّهُ سَاكِتٌ فِي حَالٍ وَمُتَكَلِّمٌ فِي حَالٍ . مِنْ حِينِ حُدُوثِ الْكَلَامِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِهِ مُتَكَلِّمًا عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ : كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ إلَّا طَائِفَةَ الضَّلَالِ " الْمُعْتَزِلَةَ " وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَذَكَرَ بَعْضَ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ

فَصْلٌ :
وَلَا خِلَافَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَقَبْلَ كُلِّ الْكَائِنَاتِ مَوْجُودًا وَأَنَّ اللَّهَ فِيمَا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ ؛ وَإِذَا شَاءَ أَنْزَلَ كَلَامَهُ وَإِذَا شَاءَ لَمْ يُنْزِلْهُ . وَأَبَى ذَلِكَ " الْمُعْتَزِلَةُ " فَقَالُوا : حَادِثٌ بَعْدَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ . قُلْت : فَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ حَامِدٍ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ يَذْكُرُ الِاتِّفَاقَ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ ؛ لَكِنَّهُ نَفَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُقَالَ : هُوَ هُوَ سَاكِتٌ فِي حَالٍ وَمُتَكَلِّمٌ فِي حَالٍ فَأَثْبَتُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُتَكَلِّمٌ كُلَّمَا شَاءَ وَإِذَا شَاءَ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ سَاكِتٌ فِي حَالٍ . وَهَكَذَا تَقُولُ الكَرَّامِيَة إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالسُّكُوتِ وَالنُّزُولِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ لَكِنْ بَيْنَ كَلَامِهِ وَكَلَامِهِمْ فَرْقٌ كَمَا سَأَحْكِيهِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ فِي " صِفَاتِ الْفِعْلِ " :

فَصْلٌ :
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِهِ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَيَنْزِلُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا مِثْلٍ وَلَا تَحْدِيدٍ وَلَا شَبَهٍ وَقَالَ : هَذَا نَصُّ إمَامِنَا . قَالَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى : قُلْت " لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ " : يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ " الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ " فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ حَنْبَلٌ : رَبُّنَا عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ وَلَا صِفَةٍ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ المروذي قِيلَ لَهُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ : يُعْرَفُ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ بِحَدِّ ؟ قَالَ : بَلَغَنِي ذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ . ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } وَقَالَ : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } . قَالَ ابْنُ حَامِدٍ : فَالْمَذْهَبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا يَخْتَلِفُ أَنَّ ذَاتَه تَنْزِلُ وَرَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَرْوِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْإِتْيَانِ أَنَّهُ قَالَ : يَأْتِي بِذَاتِهِ قَالَ : وَهَذَا عَلَى حَدِّ التَّوَهُّمِ مِنْ قَائِلِهِ وَخَطَأٌ مِنْ إضَافَتِهِ إلَيْهِ كَمَا قَرَّرْنَا عَنْهُ مِنْ النَّصِّ . قَالَ ابْنُ حَامِدٍ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فِي نُزُولِ ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ وَلَا حَدٍّ

فَإِنَّا نَقُولُ : إنَّهُ بِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إلَّا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَتْ : يَنْزِلُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانِهِ كَيْفَ شَاءَ قَالَ : وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا لَا غَيْرَهُ . قَالَ : وَقَدْ أَبَى أَصْلَ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " أَهْلُ الِاعْتِزَالِ فَقَالُوا : لَا نُزُولَ لَهُ وَلَا حَرَكَةَ وَلَا لَهُ مِنْ مَكَانِهِ زَوَالٌ وَهُوَ بِكُلِّ مَكَانٍ عَلَى مَا كَانَ ؛ قَالَ : وَهَذَا مِنْهُمْ جَهْلٌ قَبِيحٌ لِنَصِّ الْأَخْبَارِ . وَسَاقَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ :

فَصْلٌ :
وَمِمَّا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالرِّضَا : مَجِيئُهُ إلَى الْحَشْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَثَابَةِ نُزُولِهِ إلَى سَمَائِهِ وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } . قَالَ : وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَهُمْ وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَشْرَقَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا بِأَنْوَارِهِ . وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ " الْحَيْدَةِ " وَ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ " كَلَامُهُ فِي الْحَيْدَةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ مَضْمُونَ الْحَيْدَةِ أَنَّهُ أَبْطَلَ احْتِجَاجَ بِشْرٍ المريسي بِقَوْلِهِ : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وَقَوْلِهِ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } . ثُمَّ إنَّهُ احْتَجَّ عَلَى المريسي بِثَلَاثِ حُجَجٍ : ( الْأُولَى أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ مَخْلُوقًا فَإِمَّا أَنْ تَقُولَ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ خَلَقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ . قَالَ : فَإِنْ قَالَ : خَلَقَ كَلَامَهُ فِي نَفْسِهِ فَهَذَا مُحَالٌ وَلَا تَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِهِ مِنْ قِيَاسٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَا مَعْقُولٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ مَكَانًا لِلْحَوَادِثِ

وَلَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَلَا يَكُونُ نَاقِصًا فَيَزِيدُ فِيهِ شَيْءٌ إذَا خَلَقَهُ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَجَلَّ وَتَعَظَّمَ . وَإِنْ قَالَ : خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَيَلْزَمُهُ فِي النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا يُقْدَرُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا . أَفَيُجْعَلُ الشِّعْرُ كَلَامًا لِلَّهِ ؟ وَيُجْعَلُ قَوْلُ الْقَذَرِ كَلَامًا لِلَّهِ ؟ وَيُجْعَلُ كَلَامُ الْفُحْشِ وَالْكُفْرِ كَلَامًا لِلَّهِ ؟ وَكُلُّ قَوْلٍ ذَمَّهُ اللَّهُ وَذَمَّ قَائِلَهُ كَلَامًا لِلَّهِ ؟ وَهَذَا مُحَالٌ لَا يَجِدُ السَّبِيلَ إلَيْهِ وَلَا إلَى الْقَوْلِ بِهِ لِظُهُورِ الشَّنَاعَةِ وَالْفَضِيحَةِ وَالْكُفْرِ عَلَى قَائِلِهِ . وَإِنْ قَالَ خَلَقَهُ قَائِمًا بِذَاتِهِ وَنَفَسِهِ فَهَذَا هُوَ الْمُحَالُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَجِدُ إلَى الْقَوْلِ بِهِ سَبِيلًا فِي قِيَاسٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَا مَعْقُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ إلَّا مِنْ مُتَكَلِّمٍ كَمَا لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا مِنْ مُرِيدٍ وَلَا الْعِلْمُ إلَّا مِنْ عَالِمٍ وَلَا الْقُدْرَةُ إلَّا مِنْ قَدِيرٍ وَلَا رُئِيَ وَلَا يُرَى قَطُّ كَلَامٌ قَطُّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ يَتَكَلَّمُ بِذَاتِهِ . فَلَمَّا اسْتَحَالَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا ثَبَتَ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ وَصِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَ ( الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ : اتَّفَقَ هُوَ وَبِشْرٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَكَانَ وَلَمَّا يَفْعَلُ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا . قَالَ لَهُ : فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ ؟ قَالَ : أَحْدَثَهَا بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ .

قَالَ " عَبْدُ الْعَزِيزِ " : فَقُلْت صَدَقْت أَحْدَثَهَا بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ ؛ أَفَلَيْسَ تَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا ؟ قَالَ : بَلَى . فَقُلْت لَهُ : أَفَتَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ ؟ قَالَ : لَا أَقُولُ هَذَا . قُلْت لَهُ : فَلَا بُدَّ أَنْ يَلْزَمَك أَنْ تَقُولَ إنَّهُ خَلَقَ بِالْفِعْلِ الَّذِي كَانَ عَنْ الْقُدْرَةِ وَلَيْسَ الْفِعْلُ هُوَ الْقُدْرَةُ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ لِلَّهِ وَلَا يُقَالُ صِفَةُ اللَّهِ هِيَ اللَّهُ وَلَا هِيَ غَيْرُ اللَّهِ . قَال بِشْرٌ : وَيَلْزَمُك أَنْتَ أَيْضًا أَنْ تَقُولَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ وَيَخْلُقُ فَإِذَا قُلْت ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّهِ . فَقُلْت لَهُ : لَيْسَ لَك أَنْ تَحْكُمَ عَلَيَّ وَتُلْزِمَنِي مَا لَا يَلْزَمُنِي وَتَحْكِيَ عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْخَالِقُ يَخْلُقُ وَلَمْ يَزَلْ الْفَاعِلُ يَفْعَلُ فَتُلْزِمُنِي مَا قُلْت وَإِنَّمَا قُلْت إنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْفَاعِلُ سَيَفْعَلُ وَلَمْ يَزَلْ الْخَالِقُ سَيَخْلُقُ لِأَنَّ الْفِعْلَ صِفَةٌ لِلَّهِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ . قَالَ بِشْرٌ : وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهُ أَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ بِقُدْرَتِهِ . فَقُلْ أَنْتَ مَا شِئْت . قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ : فَقُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَقَرَّ بِشْرٌ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا شَيْءَ وَأَنَّهُ أَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا بِقُدْرَتِهِ وَقُلْت : إمَّا أَنَّهُ أَحْدَثَهَا بِأَمْرِهِ وَقَوْلِهِ عَنْ قُدْرَتِهِ فَلَا يَخْلُو يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ بِقَوْلِ قَالَهُ أَوْ بِإِرَادَةِ أَرَادَهَا أَوْ بِقُدْرَةِ قَدَّرَهَا وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هُنَا إرَادَةً وَمُرِيدًا وَمُرَادًا وَقَوْلًا وَقَائِلًا وَمَقُولًا لَهُ وَقُدْرَةً وَقَادِرًا وَمَقْدُورًا

عَلَيْهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُتَقَدِّمٌ قَبْلَ الْخَالِقِ وَمَا كَانَ قَبْلَ الْخَالِقِ مُتَقَدِّمٌ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْخَلْقِ . قُلْت : قَوْلُهُ قَبْلَ الْخَلْقِ هُوَ الْمُرِيدُ الْقَائِلُ الْقَادِرُ وَإِرَادَتُهُ وَقَوْلُهُ وَقُدْرَتُهُ وَأَمَّا الْمُرَادُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ الْمَقُولُ لَهُ : فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ ثُبُوتَهُ فِي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ لَهُ كُنْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي اللَّفْظِ . وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنْ . . . (1) وَقَدْ قَالَ لَمْ يَزَلْ سَيَفْعَلُ وَقَدْ فَسَّرَهُ أَيْضًا بِفِعْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة : قَضِيَّةً طَوِيلَةً فِي الْخِلَافِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ : مِثْلَ أَبِي عَلِيٍّ الثَّقَفِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَد بْنِ إسْحَاقَ الضبعي وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الزَّاهِدِ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْقَاضِي فَذَكَرَ أَنَّ طَائِفَةً رَفَعُوا إلَى الْإِمَامِ أَنَّهُ قَدْ نَبَغَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُخَالِفُونَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي وَأَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلَّابِيَة وَأَبُو بَكْرٍ الْإِمَامُ شَدِيدٌ عَلَى الْكُلَّابِيَة . قَالَ الْحَاكِمُ فَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ يَحْيَى الْمُتَكَلِّمُ قَالَ : اجْتَمَعْنَا لَيْلَةً عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَرَى ذِكْرُ كَلَامِ اللَّهِ أَقَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ ؟ أَوْ يَثْبُتُ عِنْدَ إخْبَارِهِ تَعَالَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ فَوَقَعَ بَيْنَنَا فِي ذَلِكَ خَوْضٌ . قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَّا : إنَّ كَلَامَ الْبَارِي قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَقَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِخْبَارِهِ بِكَلَامِهِ .

فَبَكَرْت أَنَا إلَى أَبِي عَلِيٍّ الثَّقَفِيِّ وَأَخْبَرْته بِمَا جَرَى فَقَالَ : مَنْ أَنْكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَقَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ وَانْتَشَرَتْ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ " فِي الْبَلَدِ وَذَهَبَ مَنْصُورٌ الطوسي فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ ؛ حَتَّى قَالَ مَنْصُورٌ : أَلَمْ أَقُلْ لِلشَّيْخِ إنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ مَذْهَبَ الْكُلَّابِيَة وَهَذَا مَذْهَبُهُمْ ؟ فَجَمَعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَهُ وَقَالَ : أَلَمْ أَنْهَكُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ عَنْ الْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ ؟ وَلَمْ يَزِدْهُمْ عَلَى هَذَا ذَلِكَ الْيَوْمَ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَنَّهُ صَنَّفَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ نَاقَضُوهُ وَنَسَبُوهُ إلَى الْقَوْلِ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ وَجَعَلَهُمْ هُوَ كلابية . قَالَ الْحَاكِمُ : سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَحْمَد الْمُقْرِي يَقُولُ : سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحَاقَ يَقُولُ : الَّذِي أَقُولُ بِهِ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ وَعَنْ وَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ مَخْلُوقٌ . أَوْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بَعْدَ مَا كَانَ تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْأَزَلِ أَوْ يَقُولُ : إنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ ؛ أَوْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ ؛ أَوْ يَقُولُ : إنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ صِفَاتُ الذَّاتِ أَوْ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ مَخْلُوقٌ : فَهُوَ عِنْدِي جهمي يُسْتَتَابُ ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ وَأُلْقِيَ عَلَى بَعْضِ الْمَزَابِلِ ؛ هَذَا مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ مَنْ رَأَيْت مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَمَنْ حَكَى عَنِّي خِلَافَ هَذَا : فَهُوَ كَاذِبٌ بَاهِتٌ وَمَنْ نَظَرَ فِي كُتُبِي الْمُصَنَّفَةِ فِي الْعِلْمِ ظَهَرَ لَهُ وَبَانَ أَنَّ الْكُلَّابِيَة - لَعَنَهُمْ اللَّهُ - كَذَبَةٌ فِيمَا يَحْكُونَ عَنِّي مِمَّا هُوَ خِلَافُ أَصْلِي وَدِيَانَتِي قَدْ عَرَفَ أَهْلُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ ؛ أَنَّهُ لَمْ يُصَنِّفْ أَحَدٌ

فِي التَّوْحِيدِ وَفِي الْقَدَرِ وَفِي أُصُولِ الْعِلْمِ مِثْلَ تَصْنِيفِي ؛ فَالْحَاكِي خِلَافَ مَا فِي كُتُبِي الْمُصَنَّفَةِ كَذَبَةٌ فَسَقَةٌ . وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ خُزَيْمَة أَنَّهُ قَالَ : زَعَمَ بَعْضُ جَهَلَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَبَغُوا فِي سنيننا هَذِهِ : أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَرِّرُ الْكَلَامَ فَلَا هُمْ يَفْهَمُونَ كِتَابَ اللَّهِ ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ فِي نَصِّ الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ وَأَنَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ ؛ فَكَرَّرَ هَذَا الذِّكْرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَرَّرَ ذِكْرَ كَلَامِهِ لِمُوسَى مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَكَرَّرَ ذِكْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي مَوَاضِعَ وَحَمِدَ نَفْسَهُ فِي مَوَاضِعَ فَقَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } و { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } الْآيَةَ . و { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } وَكَرَّرَ زِيَادَةً عَلَى ثَلَاثِينَ كَرَّةً : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وَلَمْ أَتَوَهَّمْ أَنَّ مُسْلِمًا يَتَوَهَّمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ مَرَّتَيْنِ وَهَذَا مَقَالَةُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا وَاحِدًا مَرَّتَيْنِ . وَقَالَ الْحَاكِمُ : سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ أَحْمَد بْنَ إسْحَاقَ يَقُولُ : لَمَّا وَقَعَ مِنْ أَمْرِنَا مَا وَقَعَ وَوَجَدَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ - يَعْنِي الْمُعْتَزِلَةَ - الْفُرْصَةَ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِهِمْ بِحَضْرَتِنَا وَاغْتَنَمَ بَعْضُ الْمُوَافِقِينَ السَّعْيَ فِي فَسَادِ الْحَالِ انْتَصَبَ أَبُو عَمْرٍو الحيري لِلتَّوَسُّطِ فِيمَا بَيْنَ الْجَمَاعَةِ بِلَا مَيْلٍ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا بِدَارِهِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ لِلْإِمَامِ : مَا الَّذِي أَنْكَرْت مِنْ مَذَاهِبِنَا أَيُّهَا الْإِمَامُ حَتَّى نَرْجِعَ عَنْهُ ؟ قَالَ : مَيْلُكُمْ إلَى مَذْهَبِ الْكُلَّابِيَة فَقَدْ كَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ أَشَدِّ

النَّاسِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ . وَعَلَى أَصْحَابِهِ ؛ مِثْلَ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ حَتَّى طَالَ الْخِطَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي عَلِيٍّ فِي هَذَا الْبَابِ . فَقُلْت : قَدْ جَمَعْت أَنَا أُصُولَ مَذَاهِبِنَا فِي طَبَقٍ ؛ فَأَخْرَجْت إلَيْهِ الطَّبَقَ وَقُلْت : تَأَمَّلْ مَا جَمَعْته بِخَطِّي وَبَيَّنْته مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ تُنْكِرُهُ ؛ فَبَيِّنْ لَنَا وَجْهَهُ حَتَّى نَرْجِعَ عَنْهُ فَأَخَذَ مِنِّي ذَلِكَ الطَّبَقَ وَمَا زَالَ يَتَأَمَّلُهُ وَيَنْظُرُ فِيهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ : لَسْت أَرَى شَيْئًا لَا أَقُولُ بِهِ وَكُلُّهُ مَذْهَبِي وَعَلَيْهِ رَأَيْت مَشَايِخِي . وَسَأَلْته أَنْ يُثْبِتَ بِخَطِّهِ آخِر تِلْكَ الْأَحْرُفِ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ ؛ ثُمَّ قَصَدَهُ أَبُو فُلَانٍ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَقَالُوا : إنَّ الْأُسْتَاذَ لَمْ يَتَأَمَّلْ مَا كَتَبَهُ بِخَطِّهِ وَقَدْ غَدَرُوا بِك وَغَيَّرُوا صُورَةَ الْحَالِ . قَالَ الْحَاكِمُ : وَهَذِهِ نُسْخَةُ الْخَطِّ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ إسْحَاقَ وَيَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ : كَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ؛ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ خَلْقٌ وَلَا مَخْلُوقٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا مَفْعُولٌ وَلَا مُحْدَثٌ وَلَا حَدَثٌ وَلَا أَحْدَاثٌ ؛ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهُ مَخْلُوقٌ أَوْ مُحْدَثٌ ؛ أَوْ زَعَمَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَةِ الْفِعْلِ ؛ فَهُوَ جهمي ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ . وَأَقُولُ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا وَالْكَلَامُ لَهُ صِفَةُ ذَاتٍ لَا مِثْلَ لِكَلَامِهِ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ وَلَا نَفَادَ لِكَلَامِهِ لَمْ يَزَلْ رَبُّنَا بِكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَصِفَاتِ ذَاتِهِ وَاحِدًا ؛ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ . كَلَّمَ رَبُّنَا أَنْبِيَاءَهُ وَكَلَّمَ مُوسَى ، وَاَللَّهُ الَّذِي قَالَ لَهُ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا

فَاعْبُدْنِي } وَيُكَلِّمُ أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُحَيِّيهِمْ بِالسَّلَامِ ؛ قَوْلًا فِي دَارِ عَدَنِهِ وَيُنَادِي عِبَادَهُ فَيَقُولُ : { مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } وَيَقُولُ : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } . وَيُكَلِّمُ أَهْلَ النَّارِ بِالتَّوْبِيخِ وَالْعِقَابِ وَيَقُولُ لَهُمْ : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } . وَيَخْلُو الْجَبَّارُ بِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَيُكَلِّمُهُ ؛ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ تُرْجُمَانٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَيُكَلِّمُ رَبُّنَا جَهَنَّمَ فَيَقُولُ لَهَا : هَلْ امْتَلَأْت ؟ وَيُنْطِقُهَا فَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا مَرَّةً وَلَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا مَا تَكَلَّمَ بِهِ ؛ ثُمَّ انْقَضَى كَلَامُهُ كَفَرَ بِاَللَّهِ ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا لَا مِثْلَ لِكَلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ نَفَى اللَّهُ الْمِثْلَ عَنْ كَلَامِهِ كَمَا نَفَى الْمِثْلَ عَنْ نَفْسِهِ وَنَفَى النَّفَادَ عَنْ كَلَامِهِ كَمَا نَفَى الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } وَقَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } . كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ بَائِنٍ عَنْ اللَّهِ . لَيْسَ هُوَ دُونَهُ وَلَا غَيْرَهُ وَلَا هُوَ ؛ بَلْ هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ كَعِلْمِهِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ رَبُّنَا عَالِمًا وَلَا يَزَالُ عَالِمًا وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ ؛ فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ

الْعُلَى ؛ لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ ذَاتِهِ وَاحِدًا وَلَا يَزَالُ : { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } . كَلَّمَ مُوسَى فَقَالَ لَهُ : { إنِّي أَنَا رَبُّكَ } فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ كَلَّمَهُ كَفَرَ بِاَللَّهِ . فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ ؟ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَهُ يَنْزِلُ أَوْ أَمْرَهُ ضَلَّ بَلْ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا : الْمَعْبُودُ سُبْحَانَهُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ فَيُكَلِّمُ عِبَادَهُ بِلَا كَيْفٍ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } بِلَا كَيْفٍ لَا كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ عَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى وَلَا اسْتَوْلَى ؛ بَلْ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِلَا كَيْفٍ وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ مَخْلُوقٌ أَوْ مُحْدَثٌ فَهُوَ جهمي وَاَللَّهُ يُخَاطِبُ عِبَادَهُ عَوْدًا وَبَدْءًا وَيُعِيدُ عَلَيْهِمْ قِصَصَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ قَرْنًا فَقَرْنًا مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَاطِبُ عِبَادَهُ وَلَا يُعِيدُ عَلَيْهِمْ قِصَصَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ عَوْدًا وَبَدْءًا : فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بَلْ اللَّهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَاحِدٌ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَمَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ مِمَّا هُوَ غَيْرُ بَائِنٍ عَنْ اللَّهِ فَغَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكُلُّ شَيْءٍ أُضِيفَ إلَى اللَّهِ بَائِنٍ عَنْهُ دُونَهُ مَخْلُوقٌ . وَأَقُولُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ ؛ وَأَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ وَخَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ .

وَأَقُولُ : إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ إذَا مَاتُوا إنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ ثُمَّ غَفَرَ لَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ . وَأَخْبَارُ الْآحَادِ مَقْبُولَةٌ إذَا نَقَلَهَا الْعُدُولُ وَهِيَ تُوجِبُ الْعَمَلَ وَأَخْبَارُ التَّوَاطُؤِ تُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ . وَصُورَةُ خَطِّ الْإِمَامِ ابْنِ خُزَيْمَة يَقُولُ : مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ أَقَرَّ عِنْدِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ إسْحَاقَ وَأَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ بِمَا تَضَمَّنَ بَطْنُ هَذَا الْكِتَابِ ؛ وَقَدْ ارْتَضَيْت ذَلِكَ أَجْمَعَ ؛ وَهُوَ صَوَابٌ عِنْدِي . قَالَ الْحَاكِمُ : سَمِعْت أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَد البوشنجي الزَّاهِدَ يَقُولُ فِي ضِمْنِ قِصَّةٍ : لَمَّا انْتَهَى إلَيْنَا مَا وَقَعَ بَيْنَ مَشَايِخِ نَيْسَابُورَ مِنْ الْخِلَافِ خَرَجْت مِنْ وَطَنِي حَتَّى قَصَدْت نَيْسَابُورَ ؛ فَاجْتَمَعَ عَلَيَّ جَمَاعَةٌ يَسْأَلُونَ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ ؛ فَلَمْ أَتَكَلَّمْ فِيهَا بِقَلِيلِ وَلَا كَثِيرٍ . ثُمَّ كَتَبْت : الْقَوْلُ مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ . وَدَخَلْت الرَّيَّ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ . فَأَخْبَرْته بِمَا جَرَى فِي نَيْسَابُورَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ : مَا لِأَبِي بَكْرٍ وَالْكَلَامِ إنَّمَا الْأَوْلَى بِنَا وَبِهِ أَنْ لَا نَتَكَلَّمَ فِيمَا لَمْ نَعْلَمْهُ . فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى دَخَلْت عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ الْفُلَانِيِّ فَشَرَحَ لِي تِلْكَ الْمَسَائِلَ شَرْحًا وَاضِحًا وَقَالَ : كَانَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ : دَفَعَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَوَقَعَ لِكَلَامِهِ عِنْدَهُ قَبُولٌ .

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَرَضَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ عَلَى مَنْ وَجَدَهُ بِبَغْدَادَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين فَتَابَعُوا أَبَا الْعَبَّاسِ عَلَى مَقَالَتِهِ ؛ وَاغْتَنَمُوا لِأَبِي بَكْرِ بْنِ إسْحَاقَ فِيمَا أَظْهَرَهُ ؛ وَأَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَدِمَ مِنْ نَيْسَابُورَ أَبُو عَمْرٍو النَّجَّارُ فَكَتَبَ لِأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ إلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ مَنْ خَالَفَ أَبَا بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَة إلَى السُّلْطَانِ . قَالَ الْحَاكِمُ سَمِعْت أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحَاقَ الأبيوردي يَقُولُ : حَضَرْت قَرْيَةَ فُلَانَةَ فِي تَسْلِيمٍ لِصَغِيرِ اتباعها (1) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حمشاد مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَحَضَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ وَكَانَ قَدْ حَضَرَهَا إسْحَاقُ بْنُ أَبِي الْفَرْدِ وَالِي نَيْسَابُورَ ؛ فَأَقْرَأْنَا كِتَابَ حَمَوَيْهِ بْنِ عَلِيٍّ إلَيْهِ بِأَنْ يَمْتَثِلَ فِيهِمْ أَمْرَ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ ابْنِ خُزَيْمَة مِنْ النَّفْيِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ . قَالَ : فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حمشاد مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَقَالَ : طُوبَاهُمْ إنْ كَانَ مَا يُقَالُ مَكْذُوبًا عَلَيْهِمْ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ ثُمَّ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حمشاد : مِنْ غَدٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ إنِّي رَأَيْت الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ أَحْمَد بْنَ السَّرِيِّ الزَّاهِدَ الْمَرْوَزِي لَكَمَنِي بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ : كَأَنَّك فِي شَكٍّ مِنْ أُمُورِ هَؤُلَاءِ الْكُلَّابِيَة قَالَ : ثُمَّ نَظَرَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَقَالَ : { هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } .

وَذَكَرَ الْحَاكِمُ : سَمِعْت أَبَا مُحَمَّدٍ الأنماطي الْعَبْدَ الصَّالِحَ يَقُولُ : لَمَّا اسْتَحْكَمَتْ تِلْكَ الْوَقْعَةُ وَصَارَ لَا يَجْتَمِعُ عَشَرَةٌ فِي الْبَلَدِ إلَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَشَاجُرٌ فِيهِ وَصَارَ أَكْثَرُ الْعَوَامِّ يَتَضَارَبُونَ فِيهِ ؛ خَرَجَ أَبُو عَمْرٍو الحيري إلَى الرَّيِّ وَالْأَمِيرُ الشَّهِيدُ بِهَا حَتَّى يُنْجِزَ كُتُبًا إلَى خَلِيفَتِهِ : كِتَابٌ إلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ إسْحَاقَ بِأَنْ يَنْفِيَ مِنْ الْبَلَدِ الْأَرْبَعَةَ الَّذِينَ خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ عَقَدُوا لَهُمْ مَجْلِسًا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ ؛ وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ الْأُمَّةِ .
بَابُ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ قَائِلٌ مَادِحٌ نَفْسَهُ بِالتَّكَلُّمِ ؛ إذْ عَابَ الْأَصْنَامَ وَالْعِجْلَ أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ كُلَّمَا شَاءَ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَا مَانِعَ لَهُ وَلَا مُكْرَهَ وَالْقُرْآنُ كَلَامُهُ هُوَ تَكَلَّمَ بِهِ ؛ وَقَدْ تَأَوَّلَ ابْنُ عَقِيلٍ كَلَامَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بِنَحْوِ مَا تَأَوَّلَ بِهِ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَد . وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا فِي كِتَابِ " مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ " فِي بَابِ الْإِشَارَةِ عَنْ طَرِيقَتِهِ فِي الْأُصُولِ ؛ لَمَّا ذَكَرَ كَلَامَهُ فِي مَسَائِلِ الْقُرْآنِ وَتَرْتِيبِ الْبِدَعِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهِ وَأَنَّهُمْ قَالُوا أَوَّلًا هُوَ مَخْلُوقٌ وَجَرَتْ الْمِحْنَةُ الْعَظِيمَةُ ثُمَّ ظَهَرَتْ مَسْأَلَةُ اللَّفْظِيَّةِ بِسَبَبِ حُسَيْنٍ الكرابيسي وَغَيْرِهِ . إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ جَاءَتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ : لَا يَتَكَلَّمُ بَعْدَ مَا تَكَلَّمَ ؛ فَيَكُونُ

كَلَامُهُ حَادِثًا . قَالَ : وَهَذِهِ سخارة أُخْرَى تُقْذِي فِي الدِّينِ غَيْرَ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ . فَانْتَبَهَ لَهَا أَبُو بَكْرِ بْنِ إسْحَاقَ اللنجرودي ابْنُ خُزَيْمَة وَكَانَتْ حِينَئِذٍ نَيْسَابُورُ دَارَ الْآثَارِ تُمَدُّ إلَيْهَا الرِّقَابُ وَتُشَدُّ إلَيْهَا الرِّكَابُ وَيُجْلَبُ مِنْهَا الْعِلْمُ . وَمَا ظَنُّك بِمَجَالِس يُحْبَسُ عَنْهَا الثَّقَفِيُّ والضبعي مَعَ مَا جَمَعَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالصِّدْقِ وَالْوَرَعِ وَاللِّسَانِ وَالتَّثَبُّتِ وَالْقَدَرِ ؛ وَالْمَحْفِلِ لَا يُسِرُّونَ بِالْكَلَامِ وَاشْتِمَامٍ لِأَهْلِهِ ؛ فَابْنُ خُزَيْمَة فِي بَيْتٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ السَّرَّاجُ فِي بَيْتٍ وَأَبُو حَامِدٍ بْنُ الشَّرْقِيِّ فِي بَيْتٍ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : فَطَارَ لِتِلْكَ الْفِتْنَةِ ذَاكَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ ؛ فَلَمْ يَزَلْ يَصِيحُ بِتَشْوِيهِهَا وَيُصَنِّفُ فِي رَدِّهَا ؛ كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ حَتَّى دَوَّنَ فِي الدَّفَاتِرِ وَتَمَكَّنَ فِي السَّرَائِرِ ؛ وَلَقَّنَ فِي الْكَتَاتِيبِ وَنَقَشَ فِي الْمَحَارِيبِ : أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ إنْ شَاءَ تَكَلَّمَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ ؛ فَجَزَى اللَّهُ ذَاكَ الْإِمَامَ وَأُولَئِكَ النَّفَرَ الْغُرَّ عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ وَتَوْقِيرِ نَبِيِّهِ خَيْرًا . قُلْت : فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ } " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا ؛ وَحَدَّدَ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ مَحَارِمَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا } ".

وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ وَهُوَ مَا نَطَقَ بِهِ الشَّارِعُ وَهُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ تَارَةً تَكُونُ دَلَالَةُ السُّكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ ؛ وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَتَارَةً تُخَالِفُهُ وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وَتَارَةً تُشْبِهُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ . فَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالسُّكُوتِ ؛ لَكِنَّ السُّكُوتَ يَكُونُ تَارَةً عَنْ التَّكَلُّمِ وَتَارَةً عَنْ إظْهَارِ الْكَلَامِ وَإِعْلَامِهِ ؛ كَمَا قَالَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أرأيتك سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } " إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ . فَقَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَاكِتٌ وَسَأَلَهُ مَاذَا تَقُولُ ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَقُولُ فِي حَالِ سُكُوتِهِ ؛ أَيْ سُكُوتِهِ عَنْ الْجَهْرِ وَالْإِعْلَانِ لَكِنْ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ الْمَعْرُوفَانِ فِي السُّكُوتِ لَا تَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ ؛ لَا يَتَكَلَّمُ عِنْدَ خِطَابِ عِبَادِهِ بِشَيْءِ ؛ وَإِنَّمَا يَخْلُقُ لَهُمْ إدْرَاكًا لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ الْقَدِيمَ سَوَاءٌ قِيلَ هُوَ مَعْنًى مُجَرَّدٌ أَوْ مَعْنًى وَحُرُوفٌ ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . فَهَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَمْنَعُوا السُّكُوتَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَوْ يُطْلِقُوا لَفْظَهُ وَيُفَسِّرُوهُ بِعَدَمِ خَلْقِ إدْرَاكٍ لِلْخَلْقِ يَسْمَعُونَ بِهِ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ وَالنُّصُوصُ

تُبْهِرُهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ : " إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا " . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الصُّبْحِ بالحديبية : " { أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ } " ؟ وَتَكْلِيمُهُ لِمُوسَى وَنِدَاؤُهُ لَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَعَلَى قَوْلِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ كُلُّ أَحَدٍ الْكَلَامَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى . ثُمَّ مَنْ تَفَلْسَفَ مِنْهُمْ كَالْغَزَالِيِّ فِي " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَجَدَهُ يُجَوِّزُ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الصَّفَاءِ وَالرِّيَاضَةِ ؛ وَهُوَ مَا يَتَنَزَّلُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِلْهَامَاتِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ } " . وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ : " رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ عِنْدَهُ فِي مَنَامِهِ " . فَيَجْعَلُونَ " الْإِيحَاءَ " وَالْإِلْهَامَ " الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ مِثْلَ سَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . إلَّا أَنَّ مُوسَى قَصَدَ بِذَلِكَ الْخِطَابَ وَغَيْرُهُ سَمِعَ مَا خُوطِبَ بِهِ غَيْرُهُ . ثُمَّ عِنْدَ " التَّحْقِيقِ " يَرْجِعُونَ إلَى مَحْضِ الْفَلْسَفَةِ ؛ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُوسَى وَغَيْرِهِ بِحَالِ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلَةَ الْمُتَفَلْسِفَةَ يَجْعَلُونَ خَلْعَ " النَّعْلَيْنِ " إشَارَةً إلَى تَرْكِ الْعَالَمِينَ وَ " الطُّورَ " عِبَارَةً عَنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلَاتِ

الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئَةِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَأَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَنَحْوِهِمْ . وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ - فِي الْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ المحاسبي فِي كِتَابِ " فَهْمِ الْقُرْآنِ " فَتَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ } وَنَحْوَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ ؛ وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الْمَعْلُومُ . إلَى أَنْ قَالَ : وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِينَا وَنَحْنُ جُهَّالٌ وَعِلْمُنَا مُحْدَثٌ قَدْ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ مَيِّتٌ فَكُلَّمَا مَاتَ إنْسَانٌ قُلْنَا : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَكُونَ مِنْ قَبْلِ مَوْتِهِ جَاهِلِينَ أَنَّهُ سَيَمُوتُ إلَّا أَنَّا قَدْ يَحْدُثُ لَنَا اللَّحْظُ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَحَرَكَةِ الْقَلْبِ إذَا نَظَرْنَا إلَيْهِ مَيِّتًا لِأَنَّهُ مَيِّتٌ وَاَللَّهُ لَا تَحْدُثُ فِيهِ الْحَوَادِثُ . إلَى أَنْ قَالَ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } وَقَوْلُهُ : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِبَدْءِ الْحَوَادِثِ : إرَادَةً حَدَثَتْ لَهُ وَلَا أَنْ يَسْتَأْنِفَ مَشِيئَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ ؛ وَذَلِكَ فِعْلُ الْجَاهِلِ بِالْعَوَاقِبِ الَّذِي يُرِيدُ الشَّيْءَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ الْعَوَاقِبَ فَلَمْ يَزَلْ يُرِيدُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ ؛ لَمْ يَسْتَحْدِثْ إرَادَةً لَمْ تَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَاتِ إنَّمَا تَحْدُثُ عَلَى قَدْرِ مَا يَعْلَمُ الْمُرِيدُ ؛ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ . فَقَدْ أَرَادَ مَا عَلِمَ عَلَى مَا عَلِمَ ؛ لَا يَحْدُثُ لَهُ بُدُوٌّ ؛ إذْ كَانَ لَا يَحْدُثُ فِيهِ عِلْمٌ بِهِ .

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ : وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ وَبَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ ذَلِكَ عَلَى الْحَوَادِثِ . فَأَمَّا مَنْ ادَّعَى السُّنَّةَ ؛ فَأَرَادَ إثْبَاتَ " الْقَدَرِ " فَقَالَ : " إرَادَةُ اللَّهِ " أَيْ حَدَثٌ مِنْ تَقْدِيرِهِ سَابِقُ الْإِرَادَةِ وَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ فَزَعَمُوا أَنَّ الْإِرَادَةَ إنَّمَا هِيَ خَلْقٌ حَادِثٌ وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً ؛ وَلَكِنْ بِهَا اللَّهُ كَوَّنَ الْمَخْلُوقِينَ قَالَ فَزَعَمْت أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْإِرَادَةُ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةِ لِلَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَدَثَ بِغَيْرِ إرَادَةٍ مِنْهُ وَجَلَّ عَنْ الْبَدَوَاتِ وَتَقَلُّبِ الْإِرَادَاتِ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْحَادِثَ هُوَ وَقْتُ الْمُرَادِ لَا نَفْسُ الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِمْ : مَتَى تُرِيدُ أَنْ أَجِيءَ ؟ . إلَى أَنْ قَالَ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } لَيْسَ مَعْنَاهُ : أَنْ يَحْدُثَ لَنَا سَمْعًا وَلَا تَكَلُّفَ بِسَمْعِ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَالَ : وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ لِلَّهِ اسْتِمَاعًا حَادِثًا فِي ذَاتِهِ ؛ فَذَهَبَ إلَى مَا يَعْقِلُ مِنْ الْخَلْقِ : أَنَّهُ يَحْدُثُ مِنْهُمْ عِلْمُ سَمْعٍ ؛ لَمَّا كَانَ مِنْ قَوْلِ عَمَّنْ سَمِعَهُ لِلْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا سَمِعَ الشَّيْءَ حَدَثَ لَهُ عَقْلٌ فَهِمَ عَمَّا أَدْرَكَتْهُ أُذُنُهُ مِنْ الصَّوْتِ . قَالَ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } لَا يَسْتَحْدِثُ بَصَرًا وَلَا لَحْظًا مُحْدَثًا فِي ذَاتِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الشَّيْءُ فَيَرَاهُ مُكَوَّنًا كَمَا لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُهُ قَبْلَ كَوْنِهِ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ رُؤْيَةً تَحْدُثُ وَقَالَ قَوْمٌ : إنَّمَا مَعْنَى ( سَيَرَى )

وَ ( إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) إنَّمَا الْمَسْمُوعُ وَالْمُبْصَرُ لَمْ يَخَفْ عَلَى عَيْنِي وَلَا عَلَى سَمْعِي أَنْ أُدْرِكَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا لَا بِالْحَوَادِثِ فِي اللَّهِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يَحْدُثُ لِلَّهِ اسْتِمَاعٌ مَعَ حُدُوثِ الْمَسْمُوعِ وَإِبْصَارٌ مَعَ حُدُوثِ الْمُبْصَرِ : فَقَدْ زَادَ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْ وَإِنَّمَا عَلَى الْعِبَادِ التَّسْلِيمُ لِمَا قَالَ اللَّهُ : إنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَلَا نَزِيدُ مَا لَمْ يَقُلْ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَتَّى نَعْلَمَ } حَتَّى يَكُونَ الْمَعْلُومُ وَكَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْمُبْصِرُ وَالْمَسْمُوعُ ؛ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَنْ يَعْلَمَهُ مَوْجُودًا وَيَسْمَعَهُ مَوْجُودًا ؛ كَمَا عَلِمَهُ بِغَيْرِ حَادِثِ عِلْمٍ فِي اللَّهِ وَلَا بَصَرٍ وَلَا سَمْعَ وَلَا مَعْنَى حَدَثَ فِي ذَاتِ اللَّهِ ؛ تَعَالَى عَنْ الْحَوَادِثِ فِي نَفْسِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْصَمِ الكرامي فِي كِتَابِ ( جُمَلِ الْكَلَامِ فِي أُصُولِ الدِّينِ ) لَمَّا ذَكَرَ جُمَلَ الْكَلَامِ فِي " الْقُرْآنِ " وَأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : ( أَحَدُهَا : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ ؛ فَقَدْ حَكَى عَنْ " جَهْمٍ " أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فَيُنْسَبُ إلَيْهِ كَمَا قِيلَ : سَمَاءُ اللَّهِ وَأَرْضُهُ وَكَمَا قِيلَ : بَيْتُ اللَّهِ وَشَهْرُ اللَّهِ . وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَإِنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ ثُمَّ وَافَقُوا جَهْمًا فِي الْمَعْنَى حَيْثُ قَالُوا كَلَامٌ خَلَقَهُ بَائِنًا مِنْهُ . قَالَ : وَقَالَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ .

وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ قَدِيمٍ ؛ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة وَأَصْحَابَ الْأَشْعَرِيِّ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ كَانَ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ بِالْقُرْآنِ وَقَالَ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ بَلْ إنَّهُ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ ؛ حَيْثُ خَاطَبَ بِهِ جبرائيل وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكُتُبِ . ( وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة والنجارية وَالْمُعْتَزِلَةَ زَعَمُوا أَنَّهُ مَخْلُوقٌ . وَقَالَ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ : إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . ( وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ غَيْرُ بَائِنٍ مِنْ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة وَأَشْيَاعَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا : إنَّ الْقُرْآنَ بَائِنٌ مِنْ اللَّهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِهِ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ فَسَمِعَهُ مُوسَى وَخَلَقَ كَلَامًا فِي الْهَوَاءِ فَسَمِعَهُ جبرائيل وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُوجَدَ مِنْ اللَّهِ كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ . وَقَالَ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ : بَلْ الْقُرْآنُ غَيْرُ بَائِنٍ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْهُ وَقَائِمٌ بِهِ . وَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِرَادَةِ وَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِاَللَّهِ الَّتِي لَيْسَتْ قَدِيمَةً وَلَا مَخْلُوقَةً .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ : فِي " الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى "
هَلْ هُوَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ ؟ أَوْ لَا يُقَالُ هُوَ هُوَ وَلَا يُقَالُ هُوَ غَيْرُهُ ؟ أَوْ هُوَ لَهُ ؟ أَوْ يُفْصَلُ فِي ذَلِكَ ؟ . فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ وَالنِّزَاعُ اشْتَهَرَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَاَلَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ " أَئِمَّةِ السُّنَّةِ " أَحْمَد وَغَيْرِهِ : الْإِنْكَارُ عَلَى " الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ يَقُولُونَ : أَسْمَاءُ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ .

فَيَقُولُونَ : الِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى وَأَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرُهُ وَمَا كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ ؛ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ السَّلَفُ وَغَلَّظُوا فِيهِمْ الْقَوْلَ ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ بَلْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَهُوَ الْمُسَمِّي لِنَفْسِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ . وَ " الْجَهْمِيَّة " يَقُولُونَ : كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ وَأَسْمَاؤُهُ مَخْلُوقَةٌ ؛ وَهُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلَامِ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَلَا سَمَّى نَفْسَهُ بِاسْمِ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ؛ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ ؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ نَفْسُهُ تَكَلَّمَ بِهَا الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِهِ . فَالْقَوْلُ فِي أَسْمَائِهِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْقَوْلِ فِي كَلَامِهِ . وَاَلَّذِينَ وَافَقُوا " السَّلَفَ " عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَسْمَاءَهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ يَقُولُونَ : الْكَلَامُ وَالْأَسْمَاءُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ؛ لَكِنْ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَيُسَمِّي نَفْسَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : النَّفْيُ هُوَ قَوْلُ " ابْنِ كُلَّابٍ " وَمَنْ وَافَقَهُ . وَالْإِثْبَاتُ قَوْلُ " أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ " وَكَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ كالهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . ( وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ " أَئِمَّةِ السُّنَّةِ " إنْكَارُهُمْ عَلَى مَنْ قَالَ أَسْمَاءُ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ وَكَانَ الَّذِينَ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى هَذَا

مُرَادُهُمْ ؛ فَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ : إذَا سَمِعْت الرَّجُلَ يَقُولُ : الِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَاشْهَدْ عَلَيْهِ بِالزَّنْدَقَةِ ؛ وَلَمْ يُعْرَفْ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى ؛ بَلْ هَذَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَمْسَكَ عَنْ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ؛ إذْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْإِطْلَاقَيْنِ بِدْعَةً كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ وَكَمَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطبري فِي الْجُزْءِ الَّذِي سَمَّاهُ " صَرِيحَ السُّنَّةِ " ذَكَرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورِ فِي الْقُرْآنِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ وَالصَّحَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَذَكَرَ أَنَّ " مَسْأَلَةَ اللَّفْظِ " لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا كَلَامٌ ؛ كَمَا قَالَ لَمْ نَجِدْ فِيهَا كَلَامًا عَنْ صَحَابِيٍّ مَضَى وَلَا عَنْ تَابِعِيٍّ قَفَا إلَّا عَمَّنْ فِي كَلَامِهِ الشِّفَاءُ وَالْغِنَاءُ وَمَنْ يَقُومُ لَدَيْنَا مَقَامَ الْأَئِمَّةِ الْأُولَى " أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : اللَّفْظِيَّةُ جهمية . وَيَقُولُ : مَنْ قَالَ لَفْظِيٌّ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . وَذَكَرَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى مِنْ الْحَمَاقَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ فِيهَا قَوْلٌ لِأَحَدِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَنَّ حَسْبَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الِاسْمَ لِلْمُسَمَّى . وَهَذَا الْإِطْلَاقُ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ : مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ

عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْقَاسِمِ الطبري واللالكائي وَأَبِي مُحَمَّدٍ البغوي صَاحِبِ " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَغَيْرِهِمْ ؛ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ فورك وَغَيْرُهُ . وَ ( الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ تَارَةً يَكُونُ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى كَاسْمِ الْمَوْجُودِ . وَ " تَارَةً " يَكُونُ غَيْرَ الْمُسَمَّى كَاسْمِ الْخَالِقِ . وَ " تَارَةً " لَا يَكُونُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ كَاسْمِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُؤَلَّفَ مِنْ الْحُرُوفِ هُوَ نَفْسُ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى بِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ . وَلِهَذَا يُقَالُ : لَوْ كَانَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى لَكَانَ مَنْ قَالَ " نَارٌ " احْتَرَقَ لِسَانُهُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مُرَادُهُمْ وَيُشَنِّعُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَيْهِمْ ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : اللَّفْظُ هُوَ التَّسْمِيَةُ وَالِاسْمُ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظُ ؛ بَلْ هُوَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ ؛ فَإِنَّك إذَا قُلْت : يَا زَيْدُ يَا عُمَرُ فَلَيْسَ مُرَادُك دُعَاءَ اللَّفْظِ ؛ بَلْ مُرَادُك دُعَاءُ الْمُسَمَّى بِاللَّفْظِ وَذَكَرْت الِاسْمَ فَصَارَ الْمُرَادُ بِالِاسْمِ هُوَ الْمُسَمَّى . وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ الْأَشْيَاءِ فَذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهَا فَقِيلَ : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } { وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ الرَّسُولُ وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ . وَكَذَلِكَ إذَا قيل : جَاءَ زَيْدٌ وَأَشْهَدُ عَلَى عَمْرو وَفُلَانٌ عَدْلٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّمَا تُذْكَرُ الْأَسْمَاءُ وَالْمُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّيَاتُ وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْكَلَامِ .

فَلَمَّا كَانَتْ أَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ فَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْمُسَمَّيَاتُ : قَالَ هَؤُلَاءِ : " الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى " وَجَعَلُوا اللَّفْظَ الَّذِي هُوَ الِاسْمُ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ التَّسْمِيَةُ كَمَا قَالَ البغوي : وَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَعَيْنُهُ وَذَاتُهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى } أَخْبَرَ أَنَّ اسْمَهُ يَحْيَى . ثُمَّ نَادَى الِاسْمَ فَقَالَ { يَا يَحْيَى } وَقَالَ : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا } وَأَرَادَ الْأَشْخَاصَ الْمَعْبُودَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْمُسَمَّيَاتِ . وَقَالَ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } و { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } . قَالَ : ثُمَّ يُقَالُ " لِلتَّسْمِيَةِ " أَيْضًا اسْمٌ . وَاسْتِعْمَالُهُ فِي التَّسْمِيَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسَمَّى . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَقِيقَةِ " الِاسْمِ " وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ وَلِأَهْلِ الْحَقَائِقِ فِيهِ بَيَانٌ وَبَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِ خِلَافٌ . فَأَمَّا " أَهْلُ اللُّغَةِ " فَيَقُولُونَ : الِاسْمُ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَى مَذْكُورٍ يُضَافُ إلَيْهِ ؛ يَعْنِي الْحَدِيثَ وَالْخَبَرَ . قَالَ : وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقَائِقِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اسْمُ الشَّيْءِ هُوَ ذَاتُهُ وَعَيْنُهُ وَالتَّسْمِيَةُ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَدَلَالَةٌ عَلَيْهِ فَيُسَمَّى اسْمًا تَوَسُّعًا . وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ . " الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ " هِيَ الْأَقْوَالُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَالثَّالِثُ : لَا هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ ؛ كَالْعِلْمِ وَالْعَالَمِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ اسْمُ الشَّيْءِ هُوَ صِفَتُهُ وَوَصْفُهُ .

قَالَ : وَاَلَّذِي هُوَ الْحَقُّ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ : اسْمُ الشَّيْءِ هُوَ عَيْنُهُ وَذَاتُهُ وَاسْمُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ وَتَقْدِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ : بِسْمِ اللَّهِ أَفْعَلُ أَيْ بِاَللَّهِ أَفْعَلُ وَإِنَّ اسْمَهُ هُوَ هُوَ . قَالَ : وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ " أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام " وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ لَبِيَدِ . إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ وَالْمَعْنَى ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا ؛ فَإِنَّ اسْمَ السَّلَامِ هُوَ السَّلَامُ . قَالَ : وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَهَذَا هُوَ صِفَةٌ لِلْمُسَمَّى لَا صِفَةٌ لِمَا هُوَ قَوْلٌ وَكَلَامٌ وَبِقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ } فَإِنَّ الْمُسَبَّحَ هُوَ الْمُسَمَّى وَهُوَ اللَّهُ وَبِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى } ثُمَّ قَالَ : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } فَنَادَى الِاسْمَ وَهُوَ الْمُسَمَّى . وَبِأَنَّ الْفُقَهَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ بِاسْمِ اللَّهِ كَالْحَالِفِ بِاَللَّهِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ فَلَوْ كَانَ اسْمُ اللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ لَكَانَ الْحَالِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ ؛ فَلَمَّا انْعَقَدَ وَلَزِمَ بِالْحِنْثِ فِيهَا كَفَّارَةٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ هُوَ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : مَا اسْمُ مَعْبُودِكُمْ ؟ قُلْنَا اللَّهُ . فَإِذَا قَالَ :

وَمَا مَعْبُودُكُمْ ؟ قُلْنَا اللَّهُ فَنُجِيبُ فِي الِاسْمِ بِمَا نُجِيبُ بِهِ فِي الْمَعْبُودِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَعْبُودِ هُوَ الْمَعْبُودُ لَا غَيْرَ . وَبِقَوْلِهِ . { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } وَإِنَّمَا عَبَدُوا الْمُسَمَّيَاتِ لَا الْأَقْوَالَ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ لَا تُعْبَدُ . قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ يُقَالُ : اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ وَلَهُ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ الْوَاحِدُ كَثِيرًا ؟ قِيلَ إذَا أَطْلَقَ " أَسْمَاءً " فَالْمُرَادُ بِهِ مُسَمَّيَاتُ الْمُسَمَّيْنَ وَالشَّيْءُ قَدْ يُسَمَّى بَاسِمِ دَلَالَتِهِ كَمَا يُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً . قَالَ : فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ : بِاسْمِ اللَّهِ : أَيْ بِاَللَّهِ وَالْبَاءُ مَعْنَاهَا الِاسْتِعَانَةُ وَإِظْهَارُ الْحَاجَةِ وَتَقْدِيرُهُ : بِك أَسْتَعِينُ وَإِلَيْك أَحْتَاجُ وَقِيلَ تَقْدِيرُ الْكَلِمَةِ : أَبْتَدِئُ أَوْ أَبْدَأُ بِاسْمِك فِيمَا أَقُولُ وَأَفْعَلُ . قُلْت : لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ الشَّيْءِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّيَاتُ - كَمَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ : { يَا يَحْيَى } وَنَحْوُ ذَلِكَ - لَكَانَ ذَلِكَ مَعْنًى وَاضِحًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ مَنْ فَهِمَهُ لَكِنْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ جُمْهُورُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ لِمَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ مِثْلُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ الَّذِي هُوَ " ا س م " مَعْنَاهُ ذَاتُ الشَّيْءِ وَنَفْسُهُ وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ - الَّتِي هِيَ الْأَسْمَاءُ - مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو هِيَ التَّسْمِيَاتُ ؛ لَيْسَتْ هِيَ أَسْمَاءَ الْمُسَمَّيَاتِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِمَا يَعْلَمُهُ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَلِمَا يَقُولُونَهُ . فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ هِيَ أَسْمَاءُ النَّاسِ وَالتَّسْمِيَةُ

جَعْلُ الشَّيْءِ اسْمًا لِغَيْرِهِ هِيَ مَصْدَرُ سَمَّيْته تَسْمِيَةً إذَا جَعَلْت لَهُ اسْمًا وَ " الِاسْمُ " هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى لَيْسَ الِاسْمُ الَّذِي هُوَ لَفْظُ اسْمٍ هُوَ الْمُسَمَّى ؛ بَلْ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَيْهِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا : فَهُمْ تَكَلَّفُوا هَذَا التَّكْلِيفَ ؛ لِيَقُولُوا إنَّ اسْمَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمُرَادُهُمْ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا مِمَّا لَا تُنَازِعُ فِيهِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ مَا قَالُوا الْأَسْمَاءُ مَخْلُوقَةٌ إلَّا لَمَّا قَالَ هَؤُلَاءِ هِيَ التَّسْمِيَاتُ فَوَافَقُوا الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ فِي الْمَعْنَى وَوَافَقُوا أَهْلَ السُّنَّةِ فِي اللَّفْظِ . وَلَكِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُمْ أَحَدٌ إلَى الْقَوْلِ بِهِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ وَهُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " مَعْنَاهُ إذَا أُطْلِقَ هُوَ الذَّاتُ الْمُسَمَّاةُ ؛ بَلْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ هِيَ الْأَقْوَالُ الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ . فَلَفْظُ الِاسْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ هِيَ مُسَمَّاهُ . ثُمَّ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ إذَا أَطُلِقَ الِاسْمُ فِي الْكَلَامِ الْمَنْظُومِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى ؛ فَلِهَذَا يُقَالُ : مَا اسْمُ هَذَا ؟ فَيُقَالُ : زَيْدٌ . فَيُجَابُ بِاللَّفْظِ وَلَا يُقَالُ : مَا اسْمُ هَذَا فَيُقَالُ هُوَ هُوَ ؛ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الشَّوَاهِدِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ . أَمَّا قَوْلُهُ : { إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } ثُمَّ قَالَ : { يَا يَحْيَى } فَالِاسْمُ الَّذِي هُوَ يَحْيَى هُوَ هَذَا اللَّفْظُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ ( يَا وحا وَيَا هَذَا هُوَ اسْمُهُ لَيْسَ اسْمُهُ هُوَ ذَاتُهُ ؛ بَلْ هَذَا مُكَابَرَةٌ . ثُمَّ لَمَّا نَادَاهُ فَقَالَ : { يَا يَحْيَى } . فَالْمَقْصُودُ الْمُرَادُ بِنِدَاءِ الِاسْمِ هُوَ نِدَاءُ الْمُسَمَّى ؛ لَمْ يُقْصَدْ نِدَاءُ اللَّفْظِ لَكِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يُمْكِنُهُ نِدَاءُ الشَّخْصِ الْمُنَادَى إلَّا بِذِكْرِ اسْمِهِ وَنِدَائِهِ ؛ فَيَعْرِفُ

حِينَئِذٍ أَنَّ قَصْدَهُ نِدَاءُ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى وَهَذَا مِنْ فَائِدَةِ اللُّغَاتِ وَقَدْ يُدْعَى بِالْإِشَارَةِ وَلَيْسَتْ الْحَرَكَةُ هِيَ ذَاتُهُ وَلَكِنْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى ذَاتِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ : الْأَكْثَرُونَ يَقْرَءُونَ { ذِي الْجَلَالِ } فَالرَّبُّ الْمُسَمَّى : هُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ : { ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ ؛ وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ هِيَ بِالْيَاءِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } فَهِيَ بِالْوَاوِ بِاتِّفَاقِهِمْ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرُهُ { تَبَارَكَ } تَفَاعَلَ مِنْ الْبَرَكَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَرَكَةَ تُكْتَسَبُ وَتُنَالُ بِذِكْرِ اسْمِهِ ؛ فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الِاسْمِ مَعْنَاهُ الْمُسَمَّى لَكَانَ يَكْفِي قَوْلُهُ تَبَارَكَ رَبُّك فَإِنَّ نَفْسَ الِاسْمِ عِنْدَهُمْ هُوَ نَفْسُ الرَّبِّ ؛ فَكَانَ هَذَا تَكْرِيرًا . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ ذِكْرَ الِاسْمِ هُنَا صِلَةٌ وَالْمُرَادُ تَبَارَكَ رَبُّك ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ عَنْ اسْمِهِ بِأَنَّهُ تَبَارَكَ ؛ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُ الْمُصَلِّي تَبَارَكَ اسْمُك أَيْ تَبَارَكْت أَنْتَ وَنَفْسُ أَسْمَاءِ الرَّبِّ لَا بَرَكَةَ فِيهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْسَ أَسْمَائِهِ مُبَارَكَةٌ وَبَرَكَتُهَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُسَمَّى . وَلِهَذَا فَرَّقَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ مَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَا لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ " { وَإِنْ خَالَطَ كَلْبَك كِلَابٌ أُخْرَى فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ } " . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } . فَلَيْسَ الْمُرَادُ كَمَا ذَكَرُوهُ : أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ الْمُسَمَّاةَ فَإِنَّ هَذَا هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهِ . وَالرَّبُّ تَعَالَى نَفَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ وَأَثْبَتَ ضِدَّهُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا آلِهَةً وَاعْتَقَدُوا ثُبُوتَ الْإِلَهِيَّةِ فِيهَا ؛ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ فَإِذَا عَبَدُوهَا مُعْتَقِدِينَ إلَهِيَّتَهَا مُسَمِّينَ لَهَا آلِهَةً لَمْ يَكُونُوا قَدْ عَبَدُوا إلَّا أَسْمَاءً ابْتَدَعُوهَا هُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِعِبَادَةِ هَذِهِ وَلَا جَعَلَهَا آلِهَةً كَمَا قَالَ : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } فَتَكُونُ عِبَادَتُهُمْ لِمَا تَصَوَّرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَذَلِكَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ فِي أَذْهَانِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ ؛ فَمَا عَبَدُوا إلَّا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تَصَوَّرُوهَا فِي أَذْهَانِهِمْ وَعَبَّرُوا عَنْ مَعَانِيهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ ؛ وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا عِبَادَةَ الصَّنَمِ إلَّا لِكَوْنِهِ إلَهًا عِنْدَهُمْ وَإِلَهِيَّتُهُ هِيَ فِي أَنْفُسِهِمْ ؛ لَا فِي الْخَارِجِ فَمَا عَبَدُوا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا ذَلِكَ الْخَيَالَ الْفَاسِدَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ . وَلِهَذَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ } يَقُولُ : سَمُّوهُمْ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا

هَلْ هِيَ خَالِقَةٌ رَازِقَةٌ مُحْيِيَةٌ مُمِيتَةٌ أَمْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لَا تَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ؟ ؟ فَإِذَا سَمَّوْهَا فَوَصَفُوهَا بِمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ الصِّفَاتِ تَبَيَّنَ ضَلَالُهُمْ . قَالَ تَعَالَى : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ } وَمَا لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَعَلِمَهُ مَوْجُودًا { أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ } أَمْ بِقَوْلِ ظَاهِرٍ بِاللِّسَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْقَلْبِ ؛ بَلْ هُوَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الِاسْمَ يُرَادُ بِهِ " التَّسْمِيَةُ " وَهُوَ الْقَوْلُ : فَهَذَا الَّذِي جَعَلُوهُ هُمْ تَسْمِيَةً هُوَ الِاسْمُ عِنْدَ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّسْمِيَةُ جَعْلُهُ اسْمًا وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ اسْمٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّ لَفْظَ الِاسْمِ أَكْثَرُ مَا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ وَادَّعَوْا أَنَّ لَفْظَ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " : هُوَ فِي الْأَصْلِ ذَاتُ الشَّيْءِ وَلَكِنَّ التَّسْمِيَةَ سُمِّيَتْ اسْمًا لِدَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ : تَسْمِيَةً لِلدَّالِّ بِاسْمِ الْمَدْلُولِ وَمَثَّلُوهُ بِلَفْظِ الْقُدْرَةِ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ التَّسْمِيَةُ مَصْدَرُ سَمَّى يُسَمِّي تَسْمِيَةً وَالتَّسْمِيَةُ نُطْقٌ بِالِاسْمِ وَتَكَلُّمٌ بِهِ لَيْسَتْ هِيَ الِاسْمُ نَفْسُهُ وَأَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ هِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا لَيْسَتْ هِيَ أَعْيَانُ الْأَشْيَاءِ . وَتَسْمِيَةُ الْمَقْدُورِ قُدْرَةً هُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهَذَا كَثِيرٌ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِهِمْ لِلْمَخْلُوقِ خَلْقٌ وَقَوْلِهِمْ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُ الْأَمِيرِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَابْنُ عَطِيَّةَ سَلَكَ مَسْلَكَ هَؤُلَاءِ وَقَالَ : الِاسْمُ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ وَسِينٌ وَمِيمٌ " يَأْتِي فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى وَيَأْتِي فِي مَوَاضِعَ

يُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةُ نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنْ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا } " وَغَيْرُ ذَلِكَ وَمَتَى أُرِيدَ بِهِ الْمُسَمَّى فَإِنَّمَا هُوَ صِلَةٌ كَالزَّائِدِ كَأَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : سَبِّحْ رَبَّك الْأَعْلَى أَيْ نَزِّهْهُ . قَالَ : وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ وَاحِدُ الْأَسْمَاءِ كَزَيْدِ وَعَمْرٍو فَيَجِيءُ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا قُلْت لَك . تَقُولُ : زَيْدٌ قَائِمٌ تُرِيدُ الْمُسَمَّى وَتَقُولُ : زَيْدٌ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ تُرِيدُ التَّسْمِيَةَ نَفْسَهَا عَلَى مَعْنَى نَزِّهْ اسْمَ رَبِّك عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِهِ صَنَمٌ أَوْ وَثَنٌ فَيُقَالُ لَهُ : " إلَهٌ أَوْ رَبٌّ " . قُلْت : هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ شَاهِدٌ لَا مِنْ كَلَامٍ فَصِيحٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْمُ الَّذِي يَقُولُونَ هُوَ التَّسْمِيَةُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : تَقُولُ زَيْدٌ قَائِمٌ زَيْدٌ الْمُسَمَّى . فَزَيْدٌ لَيْسَ هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " بَلْ زَيْدٌ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ فَزَيْدٌ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى وَيُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ . وَكَذَلِكَ اسْمٌ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " يُرَادُ بِهِ هَذَا اللَّفْظُ ؛ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ وَهُوَ لَفْظُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ ؛ فَتِلْكَ هِيَ الْأَسْمَاءُ الَّتِي تُرَادُ بِلَفْظِ اسْمٍ ؛ لَا يُرَادُ بِلَفْظِ اسْمٍ نَفْسُ الْأَشْخَاصِ ؛ فَهَذَا مَا أَعْرِفُ لَهُ شَاهِدًا صَحِيحًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَصْلَ كَمَا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ .

قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } . فَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى مِثْلُ : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْغَفُورِ الرَّحِيمِ فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى وَهِيَ إذَا ذُكِرَتْ فِي الدُّعَاءِ وَالْخَبَرِ يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى . إذَا قَالَ : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } فَالْمُرَادُ الْمُسَمَّى لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ أَقْوَالٌ ؛ كَمَا فِي سَائِرِ الْكَلَامِ : كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : مَا اسْمُ مَعْبُودِكُمْ ؟ قُلْنَا : اللَّهُ . فَنُجِيبُ فِي الِاسْمِ بِمَا نُجِيبُ بِهِ فِي الْمَعْبُودِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَعْبُودِ هُوَ الْمَعْبُودُ : حُجَّةٌ بَاطِلَةٌ وَهِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ . فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : مَا اسْمُ مَعْبُودِكُمْ ؟ فَقُلْنَا : اللَّهُ . فَالْمُرَادُ أَنَّ اسْمَهُ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اسْمَهُ هُوَ ذَاتُهُ وَعَيْنُهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ اسْمِهِ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ نَفْسِهِ ؛ فَكَانَ الْجَوَابُ بِذِكْرِ اسْمِهِ . وَإِذَا قَالَ : مَا مَعْبُودُكُمْ ؟ فَقُلْنَا اللَّهُ : فَالْمُرَادُ هُنَاكَ الْمُسَمَّى ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَعْبُودَ هُوَ الْقَوْلُ فَلَمَّا اخْتَلَفَ السُّؤَالُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اخْتَلَفَ الْمَقْصُودُ بِالْجَوَابِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَكِنَّهُ فِي أَحَدِهِمَا أُرِيدَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ مِنْ الْكَلَامِ وَفِي الْآخَرِ أُرِيدَ بِهِ الْمُسَمَّى بِهَذَا الْقَوْلِ . كَمَا إذَا قِيلَ : مَا اسْمُ فُلَانٍ ؟ فَقِيلَ : زَيْدٌ أَوْ عُمَرُ فَالْمُرَادُ هُوَ الْقَوْلُ . وَإِذَا قَالَ : مَنْ أَمِيرُكُمْ أَوْ مَنْ

أَنْكَحْت ؟ فَقِيلَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّخْصُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمَقْصُودُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَفْسُهُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى . وَمِنْهَا اسْمُهُ اللَّهُ . كَمَا قَالَ : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } فَاَلَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى هُوَ الْمُسَمَّى بِهَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ؛ وَتَارَةً يَقُولُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى لَهُ أَيْ الْمُسَمَّى لَيْسَ مِنْ الْأَسْمَاءِ ؛ وَلِهَذَا فِي قَوْلِهِ { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } لَمْ يَقْصِدْ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ؛ بَلْ قَصَدَ أَنَّ الْمُسَمَّى لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى . وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاَللَّهُ سَطْرٌ } وَيُرَادُ الْخَطُّ الْمَكْتُوبُ الَّذِي كُتِبَ بِهِ ذَلِكَ ؛ فَالْخَطُّ الَّذِي كُتِبَ بِهِ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَالْخَطُّ الَّذِي كُتِبَ بِهِ رَسُولُ سَطْرٌ وَالْخَطُّ الَّذِي كُتِبَ بِهِ اللَّهُ سَطْرٌ . وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ } " فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ تَحَرُّكُ شَفَتَاهُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ وَهُوَ الْقَوْلُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّفَتَيْنِ تَتَحَرَّكُ بِنَفْسِهِ تَعَالَى . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وَأَنَّ الْمُرَادَ سَبِّحْ رَبَّك الْأَعْلَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهَذَا لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ وَكِلَاهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ .

مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : " الِاسْمُ " هُنَا صِلَةٌ وَالْمُرَادُ سَبِّحْ رَبَّك وَتَبَارَكَ رَبُّك . وَإِذَا قِيلَ : هُوَ صِلَةٌ فَهُوَ زَائِدٌ لَا مَعْنَى لَهُ ؛ فَيُبْطِلُ قَوْلَهُمْ إنَّ مَدْلُولَ لَفْظِ اسْمٍ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " هُوَ الْمُسَمَّى فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَدْلُولٌ مُرَادٌ لَمْ يَكُنْ صِلَةً . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى وَأَنَّهُ صِلَةٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ؛ فَقَدْ تَنَاقَضَ فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ هُوَ صِلَةٌ لَا يَجْعَلُ لَهُ مَعْنًى ؛ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ الزَّائِدَةِ الَّتِي تَجِيءُ لِلتَّوْكِيدِ كَقَوْلِهِ : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } و { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِصِلَةِ بَلْ الْمُرَادُ تَسْبِيحُ الِاسْمِ نَفْسِهِ فَهَذَا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِمْ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ لَيْسَ بِصِلَةِ بَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ كَمَا أَمَرَ بِذِكْرِ اسْمِهِ . وَالْمَقْصُودُ بِتَسْبِيحِهِ وَذِكْرِهِ هُوَ تَسْبِيحُ الْمُسَمَّى وَذِكْرُهُ فَإِنَّ الْمُسَبِّحَ وَالذَّاكِرَ إنَّمَا يُسَبِّحُ اسْمَهُ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ ؛ فَيَقُولُ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى فَهُوَ نَطَقَ بِلَفْظِ رَبِّي الْأَعْلَى وَالْمُرَادُ هُوَ الْمُسَمَّى بِهَذَا اللَّفْظِ فَتَسْبِيحُ الِاسْمِ هُوَ تَسْبِيحُ الْمُسَمَّى . وَمَنْ جَعَلَهُ تَسْبِيحًا لِلِاسْمِ يَقُولُ الْمَعْنَى أَنَّك لَا تُسَمِّ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ وَلَا تُلْحِدُ فِي أَسْمَائِهِ فَهَذَا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ اسْمُ اللَّهِ لَكِنَّ هَذَا تَابِعٌ لِلْمُرَادِ بِالْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ بِهَا الْقَصْدَ الْأَوَّلَ . وَقَدْ ذَكَرَ " الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ " غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كالبغوي قَالَ قَوْلُهُ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } أَيْ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ

مِنْ الصَّحَابَةِ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } . فَقَالَ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى } . قُلْت : فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { لَمَّا نَزَلَ { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قَالَ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قَالَ : اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } " وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَامَ بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ : سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَسَجَدَ نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ يَقُولُ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى } " . وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا قَالَ الْعَبْدُ فِي رُكُوعِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَإِذَا قَالَ فِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ } " وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ . قَالَ البغوي : وَقَالَ قَوْمٌ مَعْنَاهُ نَزِّهْ رَبَّك الْأَعْلَى عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُلْحِدُونَ . وَجَعَلُوا الِاسْمَ صِلَةً . قَالَ : وَيَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَجْعَلُ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ سُبْحَانَ اسْمِ اللَّهِ وَسُبْحَانَ اسْمِ رَبِّنَا إنَّمَا يَقُولُونَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَسُبْحَانَ رَبِّنَا . وَكَانَ مَعْنَى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ } سَبِّحْ رَبَّك . قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا وَاَلَّذِي : يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَسُبْحَانَ رَبِّنَا

إنَّمَا نَطَقَ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ وَاَلَّذِي هُوَ رَبُّنَا : فَتَسْبِيحُهُ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى الِاسْمِ لَكِنَّ مُرَادَهُ هُوَ الْمُسَمَّى فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يُنْطَقُ بِاسْمِ الْمُسَمَّى وَالْمُرَادُ الْمُسَمَّى . وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ لَكِنْ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " الْمُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى . لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ " أَسْمَاءَ اللَّهِ " مِثْلُ اللَّهِ وَرَبُّنَا وَرَبِّي الْأَعْلَى وَنَحْوُ ذَلِكَ يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى مَعَ أَنَّهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ هِيَ الْمُسَمَّى لَكِنْ يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى فَأَمَّا اسْمُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " فَلَا هُوَ الْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ الذَّاتُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ الذَّاتُ ؛ وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ مُسَمَّاهُ الَّذِي هُوَ الْأَسْمَاءُ كَأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فِي قَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } فَلَهَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّتِي جَعَلَهَا هَؤُلَاءِ هِيَ التَّسْمِيَاتُ وَجَعَلُوا التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِالْأَسْمَاءِ تَوَسُّعًا ؛ فَخَالَفُوا إجْمَاعَ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَخَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ . وَاَلَّذِينَ شَارَكُوهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَقَالُوا : الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةٌ " قَدْ تَكُونُ هِيَ الْمُسَمَّى وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَهُ وَقَدْ تَكُونُ لَا هِيَ هُوَ وَلَا غَيْرَهُ وَجَعَلُوا الْخَالِقَ وَالرَّازِقَ وَنَحْوَهُمَا غَيْرَ الْمُسَمَّى وَجَعَلُوا الْعَلِيمَ وَالْحَكِيمَ وَنَحْوَهُمَا لِلْمُسَمَّى : غَلِطُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا سَلِمَ لَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " هُوَ مُسَمَّى الْأَسْمَاءِ ؛ فَاسْمُهُ الْخَالِقُ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ نَفْسُهُ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ وَاسْمُهُ الْعَلِيمُ هُوَ الرَّبُّ الْعَلِيمُ الَّذِي الْعِلْمُ صِفَةٌ لَهُ فَلَيْسَ الْعِلْمُ هُوَ الْمُسَمَّى ؛ بَلْ الْمُسَمَّى هُوَ الْعَلِيمُ ؛ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ عَلَى أَصْلِهِمْ : الِاسْمُ هُنَا هُوَ الْمُسَمَّى وَصِفَتُهُ .

وَفِي الْخَالِقِ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَفِعْلُهُ ؛ ثُمَّ قَوْلُهُمْ إنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَلَيْسَ الْخَلْقُ فِعْلًا قَائِمًا بِذَاتِهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ . كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا : " الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى " إنَّمَا يَسْلَمُ لَهُمْ أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ أُرِيدَ بِهِ الْمُسَمَّى وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ ؛ لَا أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ . أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ يُرَادُ بِهِ الشَّخْصُ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِ لَبِيَدِ : إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا فَمُرَادُهُ ثُمَّ النُّطْقُ بِهَذَا الِاسْمِ وَذَكَرَهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ الْمَقْصُودُ ؛ كَأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ السَّلَامَ يَحْصُلُ عَلَيْهِمَا بِدُونِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ وَيَذْكُرَ اسْمَهُ . فَإِنَّ نَفْسَ السَّلَامِ قَوْلٌ فَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ نَاطِقٌ وَيَذْكُرْهُ لَمْ يَحْصُلْ . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ إنَّ الْفِعْلَ أَمْثِلَةٌ أُخِذَتْ مِنْ لَفْظِ أَحْدَاثِ الْأَسْمَاءِ وَبُنِيَ لِمَا مَضَى وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ مَقْصُودُهُ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ الْأَلْفَاظُ . وَهَذَا اصْطِلَاحُ النَّحْوِيِّينَ سَمَّوْا الْأَلْفَاظَ بِأَسْمَاءِ مَعَانِيهَا ؛ فَسَمَّوْا قَامَ وَيَقُومُ وَقُمْ فِعْلًا ؛ وَالْفِعْلُ هُوَ نَفْسُ الْحَرَكَةِ ؛ فَسَمَّوْا اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَيْهَا بِاسْمِهَا . وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا : اسْمٌ مُعَرَّبٌ وَمَبْنِيٌّ فَمَقْصُودُهُمْ اللَّفْظُ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ الْمُسَمَّى وَإِذَا قَالُوا هَذَا الِاسْمُ فَاعِلٌ فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ فَاعِلٌ فِي اللَّفْظِ ؛ أَيْ أُسْنِدَ إلَيْهِ الْفِعْلُ وَلَمْ يُرِدْ سِيبَوَيْهِ بِلَفْظِ الْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ كَمَا زَعَمُوا ؛ وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ فَسَدَتْ صِنَاعَتُهُ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَهُمْ إذَا أَرَادُوا أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي هِيَ أَقْوَالٌ لَيْسَتْ نَفْسُهَا هِيَ الْمُسَمَّيَاتُ فَهَذَا أَيْضًا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ . وَأَرْبَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُنَازِعُونَ فِي هَذَا ؛ بَلْ عَبَّرُوا عَنْ الْأَسْمَاءِ هُنَا بِالتَّسْمِيَاتِ وَهُمْ أَيْضًا لَا يُمْكِنُهُمْ النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْلِهِ يَا آدَمَ يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا نِدَاءُ الْمُسَمِّينَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ . وَإِذَا قِيلَ : خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَالْمُرَادُ خَلَقَ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ؛ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ خَلَقَ لَفْظَ السَّمَاءِ وَلَفْظَ الْأَرْضِ وَالنَّاسُ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِهِ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِ أَحَدٍ إرَادَةُ الْأَلْفَاظِ ؛ لِمَا قَدْ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَالْأَسْمَاءَ يُرَادُ بِهَا الْمَعَانِي وَالْمُسَمَّيَاتُ ؛ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ ؛ لَكِنْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْمُرَادُ إنْ لَمْ يَنْطِقْ بِالْأَلْفَاظِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْمُرَادِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ . وَهَذَا مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي قَوْلِهِ : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } وَقَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَطْلَقُوا مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى مَقْصُودُهُمْ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ غَيْرُهُ ؛ وَمَا كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ . وَلِهَذَا قَالَتْ الطَّائِفَةَ الثَّالِثَةَ : لَا نَقُولُ هِيَ الْمُسَمَّى وَلَا غَيْرُ الْمُسَمَّى . فَيُقَالُ لَهُمْ : قَوْلُكُمْ إنَّ أَسْمَاءَهُ غَيْرُهُ مِثْلَ قَوْلِكُمْ إنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ وَإِنَّ إرَادَتَهُ غَيْرُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ وَقَدْ عَرَفْت شُبَهَهُمْ وَفَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا نُثْبِتُ قَدِيمًا غَيْرَ اللَّهِ ؛ أَوْ قَدِيمًا لَيْسَ هُوَ اللَّهُ حَتَّى كَفَّرُوا أَهْلَ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ كَمَا قَالَ أَبُو الهذيل : إنَّ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ كَانَ تَأْوِيلُهُ تَشْبِيهًا لَهُ بِخَلْقِهِ وَتَجْوِيزًا لَهُ فِي فِعْلِهِ وَتَكْذِيبًا لِخَبَرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا قَدِيمًا لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَقْصُودُهُ تَكْفِيرُ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَمَنْ يَقُولُ إنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَلَا يُخَلَّدُونَ فِيهَا . فَمِمَّا يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَنْعَكِسُ عَلَيْكُمْ فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْوِيزِ وَالتَّكْذِيبِ ؛ وَإِثْبَاتِ قَدِيمٍ لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَإِنَّكُمْ تُشَبِّهُونَهُ بِالْجَمَادَاتِ بَلْ بِالْمَعْدُومَاتِ بَلْ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَتَقُولُونَ إنَّهُ يُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ الْعَظِيمَةَ بِالذَّنْبِ الْوَاحِدِ ؛ وَيُخَلَّدُ عَلَيْهِ فِي النَّارِ وَتُكَذِّبُونَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ

وَإِخْرَاجِهِ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا وَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَ قَدِيمًا لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَإِنَّكُمْ تُثْبِتُونَ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ ؛ فَلَيْسَ هُوَ اللَّهُ فَمَنْ أَثْبَتَ ذَاتًا مُجَرَّدَةً فَقَدْ أَثْبَتَ قَدِيمًا لَيْسَ هُوَ اللَّهُ وَإِنْ قَالَ أَنَا أَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا فَهُوَ قَوْلُ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ ؛ فَنَفْسُ كَوْنِهِ حَيًّا لَيْسَ هُوَ كَوْنَهُ عَالِمًا وَنَفْسُ كَوْنِهِ عَالِمًا لَيْسَ هُوَ كَوْنَهُ قَادِرًا وَنَفْسُ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ كَوْنَهُ ذَاتًا مُتَّصِفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهَذِهِ مَعَانٍ مُتَمَيِّزَةٌ فِي الْعَقْلِ لَيْسَ هَذَا هُوَ هَذَا . فَإِنْ قُلْتُمْ هِيَ قَدِيمَةٌ فَقَدْ أَثْبَتُّمْ مَعَانِيَ قَدِيمَةً ؛ وَإِنْ قُلْتُمْ هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ جَعَلْتُمْ كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفُ فَجَعَلْتُمْ كَوْنَهُ حَيًّا هُوَ كَوْنُهُ عَالِمًا وَجَعَلْتُمْ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُ الذَّاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُكَابَرَةً وَهَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . فَهُوَ الْمُسَمِّي نَفْسَهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } { غَفُورًا رَحِيمًا } فَقَالَ هُوَ سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ؛ فَأَثْبَتَ قِدَمَ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ بِهَا . فَإِذَا قُلْتُمْ إنَّ أَسْمَاءَهُ أَوْ كَلَامَهُ غَيْرُهُ فَلَفْظُ " الْغَيْرِ " مُجْمَلٌ ؛ إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ بَائِنٌ عَنْهُ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ الشُّعُورُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَدْ

يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ اللَّهَ وَيَخْطُرُ بِقَلْبِهِ وَلَا يَشْعُرُ حِينَئِذٍ بِكُلِّ مَعَانِي أَسْمَائِهِ ؛ بَلْ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ عَزِيزٌ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فَقَدْ أَمْكَنَ الْعِلْمُ بِهَذَا دُونَ هَذَا ؛ وَإِذَا أُرِيدَ بِالْغَيْرِ هَذَا فَإِنَّمَا يُفِيدُ الْمُبَايَنَةَ فِي ذِهْنِ الْإِنْسَانِ ؛ لِكَوْنِهِ قَدْ يَعْلَمُ هَذَا دُونَ هَذَا وَذَلِكَ لَا يَنْفِي التَّلَازُمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهِيَ مَعَانٍ مُتَلَازِمَةٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الذَّاتِ دُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَلَا وُجُودُ هَذِهِ الْمَعَانِي دُونَ وُجُودِ الذَّاتِ .
وَاسْمُ " اللَّهِ " إذَا قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ قِيلَ بِسْمِ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ ذَاتَه وَصِفَاتِهِ لَا يَتَنَاوَلُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ وَلَا صِفَاتٍ مُجَرَّدَةً عَنْ الذَّاتِ وَقَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّ صِفَاتِهِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى أَسْمَائِهِ فَلَا يُقَالُ : إنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ . وَهَذَا إذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ أَهْلُ النَّفْيِ مِنْ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ قَصَّرُوا فِي الْإِثْبَاتِ فَزَادَ هَذَا عَلَيْهِمْ وَقَالَ الرَّبُّ لَهُ صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا عَلِمْتُمُوهُ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الصِّفَاتِ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا ؛ بَلْ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الذَّاتِ إلَّا بِمَا بِهِ تَصِيرُ ذَاتًا مِنْ الصِّفَاتِ وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ الصِّفَاتِ إلَّا بِمَا بِهِ تَصِيرُ صِفَاتٌ مِنْ الذَّاتِ فَتَخَيُّلُ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ثُمَّ زِيَادَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ تَخَيُّلٌ بَاطِلٌ . وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ " الِاسْمَ لِلْمُسَمَّى " كَمَا يَقُولُهُ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ

فَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْمَعْقُولَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ : { أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا } " { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ : أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْعَاقِبُ } " وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : أَهُوَ الْمُسَمَّى أَمْ غَيْرُهُ ؟ فَصَّلُوا ؛ فَقَالُوا : لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْمُسَمَّى وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى ؛ وَإِذَا قِيلَ إنَّهُ غَيْرُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لَهُ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِأَسْمَاءِ نَفْسِهِ فَلَا تَكُونُ بَائِنَةً عَنْهُ فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ وَأَسْمَاؤُهُ مِنْ كَلَامِهِ ؛ وَلَيْسَ كَلَامُهُ بَائِنًا عَنْهُ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الِاسْمُ نَفْسُهُ بَائِنًا مِثْلُ أَنْ يُسَمِّيَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ بِاسْمِ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِاسْمِهِ . فَهَذَا الِاسْمُ نَفْسُهُ لَيْسَ قَائِمًا بِالْمُسَمَّى ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُسَمَّى فَإِنَّ الِاسْمَ مَقْصُودُهُ إظْهَارُ " الْمُسَمَّى " وَبَيَانُهُ . وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ " السُّمُوِّ " وَهُوَ الْعُلُوُّ كَمَا قَالَ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ وَقَالَ النُّحَاةُ الْكُوفِيُّونَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ " السِّمَةِ " وَهِيَ الْعَلَامَةُ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي " الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ " وَهُوَ مَا يَتَّفِقُ فِيهِ حُرُوفُ اللَّفْظَيْنِ دُونَ تَرْتِيبِهِمَا فَإِنَّهُ فِي كِلَيْهِمَا ( السِّينُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ فَإِنَّ السِّمَةَ وَالسِّيمَا الْعَلَامَةُ . وَمِنْهُ يُقَالُ : وَسَمْته أَسِمُهُ كَقَوْلِهِ : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } وَمِنْهُ التَّوَسُّمُ كَقَوْلِهِ : { لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } لَكِنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ " السُّمُوِّ " هُوَ الِاشْتِقَاقُ الْخَاصُّ الَّذِي يَتَّفِقُ فِيهِ اللَّفْظَانِ فِي الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا وَمَعْنَاهُ أَخَصُّ وَأَتَمُّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ

فِي تَصْرِيفِهِ سَمَّيْت وَلَا يَقُولُونَ وَسَمْت وَفِي جَمْعِهِ أَسْمَاءٌ لَا أوسام وَفِي تَصْغِيرِهِ سمي لَا وسيم . وَيُقَالُ لِصَاحِبِهِ مُسَمَّى لَا يُقَالُ مَوْسُومٌ وَهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ . " فَإِنَّ الْعُلُوَّ مُقَارِنٌ لِلظُّهُورِ " كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَعْلَى كَانَ أَظْهَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلُوِّ وَالظُّهُورِ يَتَضَمَّنُ الْمَعْنَى الْآخَرَ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ } " وَلَمْ يَقُلْ فَلَيْسَ أَظْهَرَ مِنْك شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ يَتَضَمَّنُ الْعُلُوَّ وَالْفَوْقِيَّةَ ؛ فَقَالَ : " فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ " . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } أَيْ يَعْلُوا عَلَيْهِ . وَيُقَالُ ظَهَرَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا عَلَا عَلَيْهِ . وَيُقَالُ لِلْجَبَلِ الْعَظِيمِ عَلَمٌ ؛ لِأَنَّهُ لِعُلُوِّهِ وَظُهُورِهِ يُعْلَمُ وَيُعْلَمُ بِهِ غَيْرُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } . وَكَذَلِكَ " الرَّايَةُ الْعَالِيَةُ " الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا مَكَانُ الْأَمِيرِ وَالْجُيُوشِ يُقَالُ لَهَا عَلَمٌ وَكَذَلِكَ الْعَلَمُ فِي الثَّوْبِ لِظُهُورِهِ كَمَا يُقَالُ لِعُرْفِ الدِّيكِ وَلِلْجِبَالِ الْعَالِيَةِ أَعْرَافٌ لِأَنَّهَا لِعُلُوِّهَا تُعْرَفُ فَالِاسْمُ يَظْهَرُ بِهِ الْمُسَمَّى وَيَعْلُو ؛ فَيُقَالُ لِلْمُسَمَّى : سَمِّهِ : أَيْ أَظْهِرْهُ وَأَعْلِهِ أَيْ أَعْلِ ذِكْرَهُ بِالِاسْمِ الَّذِي يُذْكَرُ بِهِ ؛ لَكِنْ يُذْكَرُ تَارَةً بِمَا يُحْمَدُ بِهِ وَيُذْكَرُ تَارَةً بِمَا يُذَمُّ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } وَقَالَ : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } وَقَالَ : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } . وَقَالَ فِي النَّوْعِ الْمَذْمُومِ : { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ } . فَكِلَاهُمَا ظَهَرَ ذِكْرُهُ ؛ لَكِنْ هَذَا إمَامٌ فِي الْخَيْرِ وَهَذَا إمَامٌ فِي الشَّرِّ .

وَبَعْضُ النُّحَاةِ يَقُولُ : سُمِّيَ اسْمًا لِأَنَّهُ عَلَا عَلَى الْمُسَمَّى ؛ أَوْ لِأَنَّهُ عَلَا عَلَى قَسِيمَيْهِ الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ ؛ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاسْمِ هَذَا بَلْ لِأَنَّهُ يَعْلَى الْمُسَمَّى فَيَظْهَرُ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ سَمَّيْته أَيْ أَعْلَيْته وَأَظْهَرْته فَتَجْعَلُ الْمُعَلَّى الْمُظْهَرَ هُوَ الْمُسَمَّى وَهَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْمِ . وَوَزْنُهُ فُعْلٌ وَفِعْلٌ وَجَمْعُهُ أَسْمَاءٌ كَقِنْوِ وَأَقْنَاءٍ وَعُضْوٍ وَأَعْضَاءٍ . وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ سُمٌّ وَسِمٌّ بِحَذْفِ اللَّامِ . وَيُقَالُ : سَمَّى كَمَا قَالَ : وَاَللَّهُ أَسْمَاك سُمًّا مُبَارَكًا . وَمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ وَلَا يُظْهَرُ وَلَا يَعْلُو ذِكْرُهُ ؛ بَلْ هُوَ كَالشَّيْءِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يُعْرَفُ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : الِاسْمُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُسَمَّى وَعَلَمٌ عَلَى الْمُسَمَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ " أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ " الَّذِينَ يَذْكُرُونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيُظْهِرُونَ ذِكْرَهُ . " وَالْمَلَاحِدَةُ " : الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَسْمَاءَهُ وَتُعْرِضُ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَذِكْرِهِ ؛ حَتَّى يَنْسَوْا ذِكْرَهُ { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ } . وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى الْمُتَصَوَّرَ فِي الْقَلْبِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ اللَّفْظِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ مِنْ الْكَلَامِ ؛ " وَالْكَلَامُ " اسْمٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ

يُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ ذَكَرَ اللَّهِ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ فَقَدْ ذَكَرَهُ لَكِنْ ذَكَرَهُ بِهِمَا أَتَمُّ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ وَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ بِاسْمِهِ كَمَا أَمَرَ بِدُعَائِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ؛ فَيُدْعَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَيُسَبَّحُ اسْمُهُ وَتَسْبِيحُ اسْمِهِ هُوَ تَسْبِيحٌ لَهُ ؛ إذْ الْمَقْصُودُ بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى ؛ كَمَا أَنَّ دُعَاءَ الِاسْمِ هُوَ دُعَاءُ الْمُسَمَّى . قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِذِكْرِهِ تَارَةً وَبِذِكْرِ اسْمِهِ تَارَةً ؛ كَمَا يَأْمُرُ بِتَسْبِيحِهِ تَارَةً وَتَسْبِيحِ اسْمِهِ تَارَةً ؛ فَقَالَ : { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ } وَهَذَا كَثِيرٌ . وَقَالَ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } كَمَا قَالَ : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } . لَكِنْ هُنَا يُقَالُ : بِسْمِ اللَّهِ ؛ فَيَذْكُرُ نَفْسَ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " أَلِف سِينٌ مِيمٌ " وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } فَيُقَالُ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ قَوْل مَنْ جَعَلَ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى . وَقَوْلُهُ فِي الذَّبِيحَةِ { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } كَقَوْلِهِ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وَقَوْلُهُ : { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } فَقَوْلُهُ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } هُوَ قِرَاءَةُ بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ .

وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ مَأْمُورٌ أَنْ يَقْرَأَ بِسْمِ اللَّهِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ ؛ بَلْ هِيَ تَابِعَةٌ لِغَيْرِهَا وَهُنَا يَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَمَا كَتَبَ سُلَيْمَانُ وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ؛ فَيُنْطَقُ بِنَفْسِ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ مُسَمَّى لَا يَقُولُ بِاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } فَإِنَّهُ يَقُولُ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُنَا قَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } لَمْ يَقُلْ : اقْرَأْ اسْمِ رَبِّك وَقَوْلُهُ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } يَقْتَضِي أَنْ يَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ } فَقَدْ يَتَنَاوَلُ ذِكْرَ الْقَلْبِ . وَقَوْلُهُ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } هُوَ كَقَوْلِ الْآكِلِ بِاسْمِ اللَّهِ . وَالذَّابِحِ بِاسْمِ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ } " . وَأَمَّا التَّسْبِيحُ فَقَدْ قَالَ : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } وَقَالَ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وَقَالَ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } . وَفِي الدُّعَاءِ : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } فَقَوْلُهُ : { أَيًّا مَا تَدْعُوا } يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْمَدْعُوِّ لِقَوْلِهِ { أَيًّا مَا } وَقَوْلُهُ { فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } يَقْتَضِي أَنَّ الْمَدْعُوَّ وَاحِدٌ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَقَوْلُهُ { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } - وَلَمْ يَقُلْ اُدْعُوا بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ - يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمَدْعُوَّ هُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ بِذَلِكَ الِاسْمِ .

فَقَدْ جُعِلَ الِاسْمُ تَارَةً مَدْعُوًّا وَتَارَةً مَدْعُوًّا بِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } فَهُوَ مَدْعُوٌّ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَدْعُوَّ هُوَ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا يُدْعَى بِاسْمِهِ . وَجُعِلَ الِاسْمُ مَدْعُوًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ هُوَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ هُوَ الْمَدْعُوَّ الْمُنَادَى كَمَا قَالَ { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } أَيْ اُدْعُوا هَذَا الِاسْمَ أَوْ هَذَا الِاسْمَ وَالْمُرَادُ إذَا دَعَوْته هُوَ الْمُسَمَّى ؛ أَيْ الِاسْمَيْنِ دَعَوْت وَمُرَادُك هُوَ الْمُسَمَّى : { فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } . فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ اللَّطِيفَةَ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْضُ حِكَمِ الْقُرْآنِ وَأَسْرَارِهِ فَتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ فَإِنَّهُ كِتَابٌ مُبَارَكٌ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ مَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ قُرْآنٌ عَجَبٌ يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُدًى وَرَحْمَةً وَشِفَاءً وَبَيَانًا وَبَصَائِرَ وَتَذْكِرَةً . فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعَزَّ جَلَالُهُ . آخِرُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

سُئِلَ :
عَمَّنْ زَعَمَ أَنَّ " الْإِمَامَ أَحْمَد " كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْنُّفَاةِ لِلصِّفَاتِ - صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى - وَإِنَّمَا الَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَيْهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِي الْمَذْهَبِ ظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الْمُنَافِي لِلتَّعْطِيلِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا جَرَى لَهُ فَإِنَّهُ اتَّفَقَ لَهُ أَمْرٌ عَجِيبٌ : وَهُوَ أَنَّ نَاسًا مِنْ " الزَّنَادِقَةِ " قَدْ عَلِمُوا زُهْدَ أَحْمَد وَوَرَعَهُ وَتَقْوَاهُ وَأَنَّ النَّاسَ يَتْبَعُونَهُ فِيمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ ؛ فَجَمَعُوا لَهُ كَلَامًا فِي الْإِثْبَاتِ وَعَزَوْهُ إلَى تَفَاسِيرَ وَكُتُبِ أَحَادِيثَ وَأَضَافُوا أَيْضًا إلَى الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى إلَيْهِ هُوَ - شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ - وَجَعَلُوا ذَلِكَ فِي صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ وَطَلَبُوا مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنْ يَسْتَوْدِعَ ذَلِكَ الصُّنْدُوقَ مِنْهُمْ ؛ وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ عَلَى سَفَرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ غَرَضُهُمْ الرُّجُوعُ إلَيْهِ لِيَأْخُذُوا تِلْكَ الْوَدِيعَةَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَا فِي الصُّنْدُوقِ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ ؛ فَدَخَلَ أَتْبَاعُهُ وَاَلَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ الْعِلْمَ فَوَجَدُوا ذَلِكَ الصُّنْدُوقَ وَفَتَحُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ تِلْكَ " الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ " وَ " التَّفَاسِيرَ وَالنُّقُولَ " الدَّالَّةَ عَلَى الْإِثْبَاتِ . فَقَالُوا : لَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ أَحْمَد يَعْتَقِدُ مَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ لَمَا أَوْدَعَهَا هَذَا الصُّنْدُوقَ وَاحْتَرَزَ عَلَيْهَا ؛ فَقَرَءُوا تِلْكَ الْكُتُبَ وَأَشْهَرُوهَا فِي جُمْلَةِ مَا أَشْهَرُوا مِنْ تَصَانِيفِهِ وَعُلُومِهِ

وَجَهِلُوا مَقْصُودَ أُولَئِكَ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ قَصَدُوا فَسَادَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ كَمَا حَصَلَ مَقْصُودُ بُولِصَ بِإِفْسَادِ الْمِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ بِالرَّسَائِلِ الَّتِي وَضَعَهَا لَهُمْ .
فَأَجَابَ :
مَنْ قَالَ تِلْكَ الْحِكَايَةَ الْمُفْتَرَاةَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَنَّهُ أُودِعَ عِنْدَهُ صَنَادِيقُ فِيهَا كُتُبٌ لَمْ يَعْرِفْ مَا فِيهَا حَتَّى مَاتَ وَأَخَذَهَا أَصْحَابُهُ فَاعْتَقَدُوا مَا فِيهَا : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ جَهْلِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّ أَحْمَد لَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَهَا هُوَ ؛ بَلْ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يَرْوِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى : كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ الْإِمَامُ أَحْمَد . وَقَدْ رَوَاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ غَيْرُ الْإِمَامِ أَحْمَد ؛ فَلَا يَحْتَاجُ النَّاسُ فِيهَا إلَى رِوَايَةِ أَحْمَد بَلْ هِيَ مَعْرُوفَةٌ ثَابِتَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ يُخْلَقْ أَحْمَد . وَأَحْمَد إنَّمَا اُشْتُهِرَ أَنَّهُ إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالصَّابِرُ عَلَى الْمِحْنَةِ ؛ لَمَّا ظَهَرَتْ مِحَنُ " الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ يَنْفُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ ؛ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَعْرُجْ إلَى اللَّهِ وَأَضَلُّوا بَعْضَ وُلَاةِ الْأَمْرِ ؛ فَامْتَحَنُوا النَّاسَ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَابَهُمْ - رَغْبَةً - وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَابَهُمْ رَهْبَةً - وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَفَى فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ . وَصَارَ مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ قَطَعُوا رِزْقَهُ وَعَزَلُوهُ عَنْ وِلَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَسِيرًا لَمْ يَفُكُّوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَتَهُ ؛ وَرُبَّمَا قَتَلُوهُ أَوْ حَبَسُوهُ . " وَالْمِحْنَةُ " مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَانَتْ فِي إمَارَةِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ ؛

ثُمَّ رَفَعَهَا الْمُتَوَكِّلُ ؛ فَثَبَّتَ اللَّهُ الْإِمَامَ أَحْمَد فَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى تَعْطِيلِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَاظَرَهُمْ فِي الْعِلْمِ فَقَطَعَهُمْ وَعَذَّبُوهُ فَصَبَرَ عَلَى عَذَابِهِمْ فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . فَمَنْ أُعْطِيَ الصَّبْرَ وَالْيَقِينَ : جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا فِي الدِّينِ . وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ " السُّنَّةِ " فَإِنَّمَا أُضِيفَ لَهُ لِكَوْنِهِ أَظْهَرَهُ وَأَبْدَاهُ لَا لِكَوْنِهِ أَنْشَأَهُ وَابْتَدَأَهُ وَإِلَّا فَالسُّنَّةُ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصْدَقُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ ؛ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَقَوْلُ التَّابِعِينَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَخَذُوهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَادِيثُ " السُّنَّةِ " مَعْرُوفَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْإِسْلَامِ . وَالنَّقْلُ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ : مُتَوَاتِرٌ بِإِثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَؤُلَاءِ مُتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ مَا تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأَمَّا إنَّ الْمُسْلِمِينَ يُثَبِّتُونَ عَقِيدَتَهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ : فَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا جَاهِلٌ . وَ " أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " نَهَى عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْفُرُوعِ وَقَالَ : لَا تُقَلِّدْ دِينَك الرِّجَالَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْلَمُوا أَنْ يَغْلَطُوا . وَقَالَ : لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الشَّافِعِيَّ ؛ وَقَدْ جَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى سَنَنِ غَيْرِهِ

مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ فَكُلُّهُمْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ كَمَا نَهَى الشَّافِعِيُّ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ يُقَلَّدُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ ؟ وَأَصْحَابُ أَحْمَد : مِثْلُ أَبِي دَاوُد السجستاني وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وبقي بْنِ مخلد وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَابْنَيْهِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدارمي وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ وارة وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مَنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالدِّينِ . لَا يَقْبَلُونَ كَلَامَ أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِ إلَّا بِحُجَّةِ يُبَيِّنُهَا لَهُمْ وَقَدْ سَمِعُوا الْعِلْمَ كَمَا سَمِعَهُ هُوَ وَشَارَكُوهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ وَمَنْ لَمْ يَلْحَقُوهُ أَخَذُوا عَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ هُمْ نُظَرَاؤُهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُ أَحْوَالَ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَائِهِ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - :
فَصْلٌ : فِي الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ
وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ فَتَقُومُ بِذَاتِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ مِثْلُ كَلَامِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ ؛ وَمِثْلُ خَلْقِهِ وَإِحْسَانِهِ وَعَدْلِهِ ؛ وَمِثْلُ اسْتِوَائِهِ وَمَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَنُزُولِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ . " فالْجَهْمِيَّة " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ " الْمُعْتَزِلَةِ " وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا غَيْرِهَا . وَ " الْكُلَّابِيَة " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ " السالمية " وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : " تَقُومُ صِفَاتٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ : فَلَا يَكُونُ إلَّا مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ ".

وَأَمَّا " السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " فَيَقُولُونَ : إنَّهُ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ ؛ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ " أَوْ أَكْثَرُهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا أَقْوَالَهُمْ بِأَلْفَاظِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِثْلُ هَذَا : " الْكَلَامِ " . فَإِنَّ السَّلَفَ وَأَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ يَقُولُونَ : يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ وَكَلَامُهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ ؛ بَلْ كَلَامُهُ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ . وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ منده وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ حَامِدٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَأَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُمْ ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَظِيرَ هَذَا فِي " الِاسْتِوَاءِ " وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ - كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ الْأَئِمَّةِ وَذَكَرَهُ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الكرماني عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ حَدِيثًا فَقَالَ : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وَقَالَ : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } . وَقَالَ { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ } " وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَفِي غَيْرِ صَحِيحِهِ ؛ وَاحْتَجَّ بِهِ غَيْرُ الْبُخَارِيِّ كَنَعِيمِ بْنِ حَمَّادٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ .

وَمِنْ الْمَشْهُورِ عَنْ السَّلَفِ : أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . وَأَمَّا " الْجَهْمِيَّة " وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " فَيَقُولُونَ : لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ ؛ بَلْ كَلَامُهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ مَخْلُوقٌ عَنْهُ وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ : بِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ ؛ وَلَكِنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَخْلُقُ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ . وَ " الْكُلَّابِيَة والسالمية " يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ بَلْ كَلَامُهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مِثْلُ حَيَاتِهِ ؛ وَهُمْ يَقُولُونَ : الْكَلَامُ صِفَةُ ذَاتٍ ؛ لَا صِفَةُ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : هُوَ صِفَةُ فِعْلٍ ؛ لَكِنَّ الْفِعْلَ عِنْدَهُمْ : هُوَ الْمَفْعُولُ الْمَخْلُوقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَأَمَّا " السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ " وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كالهشامية والكَرَّامِيَة وَأَصْحَابِ أَبِي مُعَاذٍ التومني وَزُهَيْرِ اليامي وَطَوَائِفَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ : يَقُولُونَ : إنَّهُ " صِفَةُ ذَاتٍ وَفِعْلٍ " هُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ . وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ لِكُلِّ مُتَكَلِّمٍ فَكُلُّ مَنْ وُصِفَ بِالْكَلَامِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَغَيْرِهِمْ : فَكَلَامُهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِمَشِيئَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ . وَالْكَلَامُ صِفَةُ كَمَالٍ ؛ لَا صِفَةُ نَقْصٍ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ ؛ فَكَيْفَ يَتَّصِفُ الْمَخْلُوقُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ الْخَالِقِ

وَلَكِنَّ " الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ " بَنَوْا عَلَى " أَصْلِهِمْ " : أَنَّ الرَّبَّ لَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالتَّشْبِيهَ الْمُمْتَنِعَ ؛ إذْ الصِّفَةُ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ . وَ " الْكُلَّابِيَة " يَقُولُونَ : هُوَ مُتَّصِفٌ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا قُدْرَةٌ وَلَا تَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ ؛ فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ فَإِنَّهُ حَادِثٌ وَالرَّبُّ - تَعَالَى - لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ . وَيُسَمُّونَ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةَ " بِمَسْأَلَةِ " حُلُولِ الْحَوَادِثِ " فَإِنَّهُ إذَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَادَاهُ حِينَ أَتَاهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ كَانَ ذَلِكَ النِّدَاءُ وَالْكَلَامُ حَادِثًا . قَالُوا : فَلَوْ اتَّصَفَ الرَّبُّ بِهِ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ قَالُوا : وَلَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ ؛ قَالُوا : وَلِأَنَّ كَوْنَهُ قَابِلًا لِتِلْكَ الصِّفَةِ إنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ كَانَ قَابِلًا لَهَا فِي الْأَزَلِ فَيَلْزَمُ جَوَازُ وُجُودِهَا فِي الْأَزَلِ وَالْحَوَادِثُ لَا تَكُونُ فِي الْأَزَلِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَذَلِكَ مُحَالٌ : " لِوُجُوهِ " قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . قَالُوا : وَبِذَلِكَ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَبِهِ عَرَفْنَا حُدُوثَ الْعَالَمِ وَبِذَلِكَ أَثْبَتْنَا وُجُودَ الْمَانِعِ وَصِدْقَ رُسُلِهِ ؛ فَلَوْ قَدَحْنَا فِي تِلْكَ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي أُصُولِ " الْإِيمَانِ " وَ " التَّوْحِيدِ " . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ صَارَ قَابِلًا لَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا فَيَكُونُ

قَابِلًا لِتِلْكَ الصِّفَةِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ الْمُمْتَنِعُ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ عَلَى عَامَّةِ مَا ذَكَرُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَبَيَّنَّا فَسَادَهُ وَتَنَاقُضَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا تَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ لِمَنْ فَهِمَ هَذَا الْبَابَ . وَفُضَلَاؤُهُمْ - وَهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ : كالرَّازِي والآمدي والطوسي وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِهِمْ - مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ ؛ بَلْ ذَكَرَ الرَّازِي وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَلْزَمُ جَمِيعَ الطَّوَائِفِ وَنَصَرَهُ فِي آخِرِ كُتُبِهِ : " كَالْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " - وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ كُتُبِهِ الْكَلَامِيَّةِ الَّذِي سَمَّاهُ " نِهَايَةَ الْعُقُولِ فِي دِرَايَةِ الْأُصُولِ " - لَمَّا عَرَفَ فَسَادَ قَوْلِ الْنُّفَاةِ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى ذَلِكَ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " . فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " إذَا قَالُوا : لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ - قَالُوا - لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ حُلُولَ الْحَوَادِثِ ؛ فَلَمَّا عَرَفَ فَسَادَ هَذَا الْأَصْلِ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى ذَلِكَ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " . فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ عَلَيْهِ ؛ بَلْ اسْتَدَلَّ بِإِجْمَاعِ مُرَكَّبٍ وَهُوَ دَلِيلٌ ضَعِيفٌ إلَى الْغَايَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي نَصْرِ قَوْلِ الْكُلَّابِيَة غَيْرُهُ ؛ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ وَأَمْثَالُهُ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ قَوْلِ الْكُلَّابِيَة . وَكَذَلِكَ " الآمدي " ذَكَرَ فِي " أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ " مَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا جَوَابَ عَنْهُ وَقَدْ كَشَفْت هَذِهِ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعَ ؛ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى الْحِلِيُّ بْنُ الْمُطَهَّرِ ذَكَرَ فِي كُتُبِهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِنَفْيِ " حُلُولِ الْحَوَادِثِ " لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَالْمُنَازِعُ جَاهِلٌ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ .

وَكَذَلِكَ مَنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَذَوِيهِ إنَّمَا عُمْدَتُهُمْ أَنَّ " الكَرَّامِيَة " قَالُوا ذَلِكَ وَتَنَاقَضُوا فَيُبَيِّنُونَ تَنَاقُضَ الكَرَّامِيَة وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إذَا بَيَّنُوا تَنَاقُضَ الكَرَّامِيَة - وَهُمْ مُنَازِعُوهُمْ - فَقَدْ فَلَجُوا ؛ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّلَفَ وَأَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - بَلْ مِنْ قَبْلِ الكَرَّامِيَة مِنْ الطَّوَائِفِ - لَمْ تَكُنْ تَلْتَفِتُ إلَى الكَرَّامِيَة وَأَمْثَالِهِمْ ؛ بَلْ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الكَرَّامِيَة : فَإِنَّ ابْنَ كَرَّامٍ كَانَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي زَمَنِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَطَبَقَتِهِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ والمتكلمون تَكَلَّمُوا بِهَذِهِ قَبْلَ هَؤُلَاءِ وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَقُولُونَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ . لَكِنْ لَمَّا ظَهَرَتْ " الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ " فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ضُلَّالُهُمْ وَخُطَّاؤُهُمْ ؛ ثُمَّ ظَهَرَ رَعْنَةُ الْجَهْمِيَّة فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَامْتَحَنَ " الْعُلَمَاءُ " : الْإِمَامَ أَحْمَدُ وَغَيْرَهُ فَجَرَّدُوا الرَّدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَكَشْفِ ضُلَّالِهِمْ حَتَّى جَرَّدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْآيَاتِ الَّتِي مِنْ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا . بَلْ الْآيَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " الَّتِي يُسَمُّونَهَا " حُلُولَ الْحَوَادِثِ " كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا } فَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ ؛ لَمْ يَأْمُرْهُمْ فِي الْأَزَلِ ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فَإِنَّمَا قَالَ لَهُ : بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ؛ لَا فِي الْأَزَلِ .

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي " قِصَّةِ مُوسَى " : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا نَادَاهُ حِينَ جَاءَ لَمْ يَكُنْ النِّدَاءُ فِي الْأَزَلِ كَمَا يَقُولُهُ " الْكُلَّابِيَة " يَقُولُونَ : إنَّ النِّدَاءَ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ وَهُوَ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُنَادِيًا لَهُ لَكِنَّهُ لَمَّا أَتَى خَلَقَ فِيهِ إدْرَاكًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ . ثُمَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : سَمِعَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِأُذُنِهِ كَمَا يَقُولُ الْأَشْعَرِيُّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ أَفْهَمُ مِنْهُ مَا أَفْهَمُ ؛ كَمَا يَقُولُهُ : الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ فَقِيلَ لَهُمْ : عِنْدَكُمْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ فَمُوسَى فَهِمَ الْمَعْنَى كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ ؟ إنْ قُلْتُمْ كُلَّهُ فَقَدْ عَلِمَ عِلْمَ اللَّهِ كُلَّهُ وَإِنْ قُلْتُمْ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ وَعِنْدَكُمْ لَا يَتَبَعَّضُ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَتْبَاعِ " الْكُلَّابِيَة " : بِأَنَّ النِّدَاءَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِ الرَّبِّ كَمَا تَقُولهُ " السالمية " وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَخْلُقُ لَهُ إدْرَاكًا لِتِلْكَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ ؛ وَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامُ السَّلَفِ قَاطِبَةً يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا نَادَاهُ وَنَاجَاهُ حِينَ أَتَى ؛ لَمْ يَكُنْ النِّدَاءُ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ

الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا أَكَلَا مِنْهَا نَادَاهُمَا لَمْ يُنَادِهِمَا قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } . { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } . فَجَعَلَ النِّدَاءَ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ الْيَوْمُ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ حِينَئِذٍ يُنَادِيهِمْ ؛ لَمْ يُنَادِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } . فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَحْكُمُ فَيُحَلِّلُ مَا يُرِيدُ وَيُحَرِّمُ مَا يُرِيدُ وَيَأْمُرُ بِمَا يُرِيدُ ؛ فَجَعَلَ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُتَعَلِّقًا بِإِرَادَتِهِ وَيَنْهَى بِإِرَادَتِهِ وَيُحَلِّلُ بِإِرَادَتِهِ وَيُحَرِّمُ بِإِرَادَتِهِ ؛ وَ " الْكُلَّابِيَة " يَقُولُونَ : لَيْسَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِإِرَادَتِهِ ؛ بَلْ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ غَيْرُ مُرَادٍ لَهُ وَلَا مَقْدُورٍ . وَ " الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ الْجَهْمِيَّة " يَقُولُونَ : كُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ لَا بِإِرَادَتِهِ وَلَا بِغَيْرِ إرَادَتِهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ .

فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ فِي " الْإِرَادَةِ " وَ " الْمَحَبَّةِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَقَوْلُهُ : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَقَوْلُهُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } وَقَوْلُهُ : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ } وَقَوْلُهُ : { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا } وَقَوْلُهُ : { وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ . فَإِنَّ جَوَازِمَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَنَوَاصِبَهُ تُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ مِثْلُ " إنْ " وَ " أَنْ " وَكَذَلِكَ " إذَا " ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ ؛ فَقَوْلُهُ : { إذَا أَرَادَ } و { إنْ شَاءَ اللَّهُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ إرَادَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ وَمَشِيئَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ . وَكَذَلِكَ فِي الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا اتَّبَعُوهُ أَحَبَّهُمْ اللَّهُ ؛ فَإِنَّهُ جَزَمَ قَوْلُهُ : " يُحْبِبْكُمْ " بِهِ فَجَزَمَهُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ فَتَقْدِيرُهُ : إنْ تَتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ وَالْأَمْرِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَهُ لَا قَبْلَهُ ؛ فَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُمْ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ اتِّبَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ ؛ وَالْمُنَازِعُونَ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : مَا ثَمَّ

مَحَبَّةٌ بَلْ الْمُرَادُ ثَوَابًا مَخْلُوقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ ثَمَّ مَحَبَّةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ إمَّا الْإِرَادَةُ وَإِمَّا غَيْرُهَا وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْقَوْلَيْنِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ أَسْخَطَتْهُ فَهِيَ سَبَبٌ لِسُخْطِهِ وَسُخْطُهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْأَعْمَالِ ؛ لَا قَبْلَهَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } عَلَّقَ الرِّضَا بِشُكْرِهِمْ وَجَعَلَهُ مَجْزُومًا جَزَاءً لَهُ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } { يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } { يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ وَهِيَ جَزَاءٌ لَهَا وَالْجَزَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعَمَلِ وَالْمُسَبِّبِ .

فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ " السَّمْعُ " وَ " الْبَصَرُ " " وَالنَّظَرُ " . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } هَذَا فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَقَوْلُهُ { فَسَيَرَى اللَّهُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرَاهَا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالْمُنَازِعُ إمَّا أَنْ يَنْفِيَ الرُّؤْيَةَ ؛ وَإِمَّا أَنْ يُثْبِتَ رُؤْيَةً قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } وَلَامُ كَيْ تَقْتَضِيَ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمَعْلُولِ فَنَظَرُهُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ هُوَ بَعْدَ جَعْلِهِمْ خَلَائِفَ . وَكَذَلِكَ { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَهُمَا حِينَ كَانَتْ تُجَادِلُ وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ يَسْمَعْ اللَّهُ لَكُمْ } " فَجَعَلَ سَمْعَهُ لَنَا جَزَاءً وَجَوَابًا لِلْحَمْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَمْدِ وَالسَّمْعُ يَتَضَمَّنُ مَعَ سَمْعِ الْقَوْلِ قَبُولَهُ وَإِجَابَتَهُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ { إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } وَقَوْلُهُ لِمُوسَى : { إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } .

وَ " الْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ " يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ ؛ لَكِنْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ " السالمية " : إنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى مَوْجُودًا فِي عِلْمِهِ لَا مَوْجُودًا بَائِنًا عَنْهُ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى بَائِنًا عَنْ الرَّبِّ . فَإِذَا خَلَقَ الْعِبَادَ وَعَمِلُوا وَقَالُوا ؛ فَإِمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّهُ يَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ وَيَرَى أَعْمَالَهُمْ ؛ وَإِمَّا لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ . فَإِنْ نَفَى ذَلِكَ فَهُوَ تَعْطِيلٌ لِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَتَكْذِيبٌ لِلْقُرْآنِ وَهُمَا صِفَتَا كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ فَمَنْ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ . وَالْمَخْلُوقُ يَتَّصِفُ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ فَيَمْتَنِعُ اتِّصَافُ الْمَخْلُوقِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدْ عَابَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَعْبُدُ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ؛ وَلِأَنَّهُ حَيٌّ وَالْحَيُّ إذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ اتَّصَفَ بِضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ الْعَمَى وَالصَّمَمُ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ إذَا كَانَ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ الْأَقْوَالَ وَالْأَعْمَالَ بَعْدَ أَنْ وُجِدَتْ ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ تَجَدُّدٌ وَكَانَ لَا يَسْمَعُهَا وَلَا يُبْصِرُهَا فَهُوَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا لَا يَسْمَعُهَا وَلَا يُبْصِرُهَا . وَإِنْ تَجَدَّدَ شَيْءٌ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا ؛ فَإِنْ كَانَ عَدَمًا فَلَمْ يَتَجَدَّدْ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ وُجُودًا : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ أَوْ قَائِمًا بِذَاتِ غَيْرِهِ وَ " الثَّانِي " يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ وَيَرَى فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ السَّمْعَ وَالرُّؤْيَةَ الْمَوْجُودَيْنِ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَهَذَا لَا حِيلَةَ فِيهِ .

وَ " الْكُلَّابِيَة " يَقُولُونَ فِي جَمِيعِ هَذَا الْبَابِ : الْمُتَجَدِّدُ هُوَ تَعَلُّقٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْمَأْمُورِ وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمُرَادِ وَبَيْنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْمَسْمُوعِ وَالْمَرْئِيِّ فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذَا التَّعَلُّقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمًا فَإِنْ كَانَ عَدَمًا فَلَمْ يَتَجَدَّدْ شَيْءٌ فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا شَيْءَ وَإِنْ كَانَ وُجُودًا بَطَلَ قَوْلُهُمْ . وَأَيْضًا فَحُدُوثُ " تَعَلُّقٍ " هُوَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَلَا يَحْدُثُ نِسْبَةً وَإِضَافَةً إلَّا بِحُدُوثِ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ يُسَمُّونَ هَذِهِ النِّسْبَةَ " أَحْوَالًا " . وَ " الطَّوَائِفُ " مُتَّفِقُونَ عَلَى حُدُوثِ " نِسَبٍ " وَ " إضَافَاتٍ " وَ " تَعَلُّقَاتٍ " لَكِنْ حُدُوثُ النَّسَبِ بِدُونِ حُدُوثِ مَا يُوجِبُهَا مُمْتَنِعٌ . فَلَا يَكُونُ نِسْبَةً وَإِضَافَةً إلَّا تَابِعَةً لِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ ؛ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ وَالتَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فَإِنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَلْزِمَ أُمُورًا ثُبُوتِيَّةً . وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ " خَالِقًا " وَ " رَازِقًا " وَ " مُحْسِنًا " وَ " عَادِلًا " فَإِنَّ هَذِهِ أَفْعَالٌ فَعَلَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إذْ كَانَ يَخْلُقُ بِمَشِيئَتِهِ وَيَرْزُقُ بِمَشِيئَتِهِ . وَيَعْدِلُ بِمَشِيئَتِهِ وَيُحْسِنُ بِمَشِيئَتِهِ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ " جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ " مِنْ السَّلَفِ . وَالْخَلَفِ أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ ؛ فَالْخَلْقُ فِعْلُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقُ مَفْعُولُهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِأَفْعَالِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك . } " فَاسْتَعَاذَ بِمُعَافَاتِهِ كَمَا اسْتَعَاذَ بِرِضَاهُ .

وَقَدْ اسْتَدَلَّ " أَئِمَّةُ السُّنَّةِ " كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ " كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " بِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِهِ فَقَالَ : " { مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ } . " فَكَذَلِكَ مُعَافَاتُهُ وَرِضَاهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِهِمَا وَالْعَافِيَةُ الْقَائِمَةُ بِبَدَنِ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ فَإِنَّهَا نَتِيجَةُ مُعَافَاتِهِ . وَإِذَا كَانَ " الْخَلْقُ فِعْلَهُ " وَالْمَخْلُوقُ مَفْعُولَهُ " وَقَدْ خَلَقَ الْخَلْقَ بِمَشِيئَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَيَمْتَنِعُ قِيَامُهُ بِغَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ مَعَ كَوْنِهَا حَاصِلَةً بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَقَدْ حَكَى الْبُخَارِيُّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ " صَرِيحُ الْمَعْقُولِ " . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ " الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ " أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ اللَّهَ انْفَرَدَ بِالْقِدَمِ وَالْأَزَلِيَّةِ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } فَهُوَ حِينَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ ابْتِدَاءً ؛ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ فِعْلٌ يَكُونُ هُوَ خَلْقًا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ فِعْلٌ ؛ بَلْ وُجِدْت الْمَخْلُوقَاتُ بِلَا فِعْلٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْخَالِقُ قَبْلَ خَلْقِهَا وَمَعَ خَلْقِهَا سَوَاءً وَبَعْدَهُ سَوَاءً لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ خَلْقِهَا بِوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ بِلَا سَبَبٍ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ . وَ " أَيْضًا " فَحُدُوثُ الْمَخْلُوقِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ مُمْتَنِعٌ فِي بِدَايَةِ الْعَقْلِ وَإِذَا قِيلَ : الْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ خُصِّصَتْ . قِيلَ : نِسْبَةُ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةُ إلَى جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ سَوَاءٌ ؛ وَأَيْضًا فَلَا تُعْقَلُ إرَادَةُ تَخْصِيصِ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ إلَّا بِسَبَبِ يُوجِبُ

التَّخْصِيصَ ؛ " وَأَيْضًا " فَلَا بُدَّ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَادِ مِنْ سَبَبٍ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ كَافِيًا ؛ لَلَزِمَ وُجُودُهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعَ الْإِرَادَةِ التَّامَّةِ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَقْدُورِ . وَقَدْ احْتَجَّ مَنْ قَالَ : " الْخَلْقُ " هُوَ الْمَخْلُوقُ - كَأَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِثْلُ ابْنِ عَقِيلٍ - بِأَنْ قَالُوا : لَوْ كَانَ غَيْرُهُ لَكَانَ إمَّا قَدِيمًا وَإِمَّا حَادِثًا فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ لِأَنَّهُمَا مُتَضَايِفَانِ ؛ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا لَزِمَ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحَوَادِثُ ثُمَّ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ . فَأَجَابَهُمْ " الْجُمْهُورُ " - وَكُلُّ طَائِفَةٍ عَلَى أَصْلِهَا - فَطَائِفَةٌ قَالَتْ : الْخَلْقُ قَدِيمٌ وَإِنْ كَانَ الْمَخْلُوقُ حَادِثًا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ ؛ قَالَ هَؤُلَاءِ : أَنْتُمْ تُسَلِّمُونَ لَنَا أَنَّ الْإِرَادَةَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ ؛ وَالْمُرَادُ مُحْدَثٌ فَنَحْنُ نَقُولُ فِي الْخَلْقِ مَا قُلْتُمْ فِي الْإِرَادَةِ . وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ " : بَلْ الْخَلْقُ حَادِثٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ ؛ بَلْ يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ . وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ : إنَّ الْمَخْلُوقَ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ الْمُنْفَصِلَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ فَالْمُتَّصِلُ بِهِ أَوْلَى وَهَذَا جَوَابُ كَثِيرٍ مِنْ الكَرَّامِيَة والهشامية وَغَيْرِهِمْ . وَ " طَائِفَةٌ " يَقُولُونَ : هَبْ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلٍ قَبْلَهُ فَلِمَ قُلْتُمْ : إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ ؟ وَقَوْلُكُمْ : هَذَا تَسَلْسُلٌ . فَيُقَالُ : لَيْسَ هَذَا تَسَلْسُلًا فِي الْفَاعِلِينَ وَالْعِلَلِ

الْفَاعِلَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ ؛ بَلْ هُوَ تَسَلْسُلٌ فِي الْآثَارِ وَالْأَفْعَالِ وَهُوَ حُصُولُ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ وَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ . " فَالسَّلَفُ " يَقُولُونَ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . فَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَهَذَا تَسَلْسُلٌ جَائِزٌ كَالتَّسَلْسُلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ دَائِمٌ لَا نَفَادَ لَهُ فَمَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا وَبَعْدَهُ شَيْءٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ .

فَصْلٌ :
وَ " الْأَفْعَالُ نَوْعَانِ " : مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ . فَالْمُتَعَدِّي مِثْلُ : الْخَلْقِ وَالْإِعْطَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاللَّازِمُ : مِثْلُ الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ . قَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيَْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فَذَكَرَ الْفِعْلَيْنِ : الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِمَ وَكِلَاهُمَا حَاصِلٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ ؛ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى " هَذَا الْأَصْلِ " فِي أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ مَوْضِعٍ . وَأَمَّا " الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةِ " فَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجهني { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ بالحديبية عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ ؟ قَالَ : أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَنَوْءِ كَذَا وَكَذَا ؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ } " . وَفِي الصِّحَاحِ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ " { فَيَقُولُ كُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ إذَا أَتَوْا إلَيْهِ : إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا

لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ } " وَهَذَا بَيَانُ أَنَّ الْغَضَبَ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا قَبْلَهُ . وَفِي الصَّحِيحِ : ( { إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ } فَقَوْلُهُ : إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِهِ حِينَ يَسْمَعُونَهُ وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ أَزَلِيًّا وَأَيْضًا فَمَا يَكُونُ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا يَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَالْمَسْبُوقُ بِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ أَزَلِيًّا . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ " { يَقُولُ اللَّهُ : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ؛ فَإِذَا قَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي . فَإِذَا قَالَ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي ؛ فَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ؛ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ اللَّهُ : هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَالَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي فَإِذَا قَالَ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي الْحَدِيثُ . وَفِي الصِّحَاحِ حَدِيثُ النُّزُولِ " { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلْثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ } " فَهَذَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ " النُّزُولَ "

فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الرَّبُّ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الأوزاعي وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ والْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَلَّهُ أَشَدُّ أُذُنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ } " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْآخَرِ " { مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَإِذْنِهِ لِنَبِيِّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ } " أَذِنَ يَأْذَنُ أُذُنًا : أَيْ اسْتَمَعَ يَسْتَمِعُ اسْتِمَاعًا { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَمِعُ إلَى هَذَا وَهَذَا . وَفِي الصَّحِيحِ " { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ؛ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا } " فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ : " { قَالَ اللَّهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي ؛ إنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ } " وَحَرْفُ " إنْ " حَرْفُ الشَّرْطِ ؛ وَالْجَزَاءُ يَكُونُ بَعْدَ الشَّرْطِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَذْكُرُ الْعَبْدَ إنْ ذَكَرَهُ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي مَلَإٍ ذَكَرَهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ مَا زَالَ يَذْكُرُهُ أَزَلًا وَأَبَدًا ثُمَّ يَقُولُ : ذَكَرَهُ وَذَكَرَ غَيْرَهُ وَسَائِرُ مَا يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمْ وَلَا يَذْكُرْ أَحَدًا .

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ " { وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا : اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ؛ يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ } " فَقَوْلُهُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بَعْدَ الشَّرْطِ فَقَوْلُهُ " يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ " مَجْزُومٌ حُرِّكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْمَعُ بَعْدَ أَنْ تَحْمَدُوا .

فَصْلٌ :
وَالْمُنَازِعُونَ " الْنُّفَاةِ " كَذَلِكَ . مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ مُطْلَقًا فَهَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الصِّفَاتِ مُطْلَقًا ؛ لَا يَخْتَصُّ " بِالصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " . وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَيَقُولُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ شَيْءٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ فَيَقُولُ : إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَيَقُولُ : لَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَخْتَارُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَقُولُ : إنَّهُ لَا يَفْعَلُ فِعْلًا " هُوَ الْخَلْقُ " يَخْلُقُ بِهِ الْمَخْلُوقَ وَلَا يَقْدِرُ عِنْدَهُ عَلَى فِعْلٍ يَقُومُ بِذَاتِهِ بَلْ مَقْدُورُهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُنْفَصِلًا مِنْهُ وَهَذَا مَوْضِعٌ تَنَازَعَ فِيهِ الْنُّفَاةِ . فَقِيلَ : لَا يَكُونُ " مَقْدُورُهُ " إلَّا بَائِنًا عَنْهُ ؛ كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة والْكُلَّابِيَة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَقِيلَ : لَا يَكُونُ " مَقْدُورُهُ " إلَّا مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ ؛ كَمَا يَقُولُهُ : السالمية والكَرَّامِيَة وَالصَّحِيحُ : أَنَّ كِلَيْهِمَا مَقْدُورٌ لَهُ . أَمَّا " الْفِعْلُ " فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } وَقَوْلِهِ : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } وَقَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } وَقَوْلِهِ : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } وَقَوْلِهِ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ

بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى " الْأَفْعَالِ " كَالْإِحْيَاءِ وَالْبَعْثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا " الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَعْيَانِ " فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ : " { كُنْت أَضْرِبُ غُلَامًا لِي فَرَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْك مِنْك عَلَى هَذَا } " فَقَوْلُهُ : " لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْك مِنْك عَلَى هَذَا " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ الْمُنْفَصِلَةِ : " قُدْرَةَ الرَّبِّ " وَ " قُدْرَةَ الْعَبْدِ " . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : كِلَاهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ كالكَرَّامِيَة وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : قُدْرَةُ الرَّبِّ تَتَعَلَّقُ بِالْمُنْفَصِلِ وَأَمَّا قُدْرَةُ الْعَبْدِ فَلَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِفِعْلِ فِي مَحَلِّهَا كَالْأَشْعَرِيَّةِ . وَ " النُّصُوصُ " تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كِلَا الْقُدْرَتَيْنِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْعَبْدَ يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِهِ كَقَوْلِهِ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَّا مَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } " . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَوْلُهُ : " { إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ } وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ : " { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى عَبْدِهِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا تَقُومُ بِهِ " الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ " عُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَقَدْ نَازَعَهُمْ النَّاسُ فِي كِلَا " الْمُقَدِّمَتَيْنِ " وَأَصْحَابُهُمْ

الْمُتَأَخِّرُونَ كالرَّازِي والآمدي قَدَحُوا فِي " الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى " فِي نَفْسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدَحَ الرَّازِي فِي " الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ " فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَوْلُهُمْ : إنَّا عَرَفْنَا حُدُوثَ الْعَالَمِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ وَبِهِ أَثْبَتْنَا " الصَّانِعَ " يُقَالُ لَهُمْ : لَا جَرَمَ ابْتَدَعْتُمْ طَرِيقًا لَا يُوَافِقُ السَّمْعَ وَلَا الْعَقْلَ فَالْعَالِمُونَ بِالشَّرْعِ مُعْتَرِفُونَ أَنَّكُمْ مُبْتَدِعُونَ مُحْدِثُونَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَاَلَّذِينَ يَعْقِلُونَ مَا يَقُولُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَقْلَ يُنَاقِضُ مَا قُلْتُمْ وَأَنَّ مَا جَعَلْتُمُوهُ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ لَا يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِهِ بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى نَفْيِ " الصَّانِعِ " . وَإِثْبَاتُ " الصَّانِعِ " حَقٌّ وَهَذَا الْحَقُّ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهِ إبْطَالُ اسْتِدْلَالِكُمْ بِأَنَّ مَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ . وَأَمَّا كَوْنُ " طَرِيقِكُمْ مُبْتَدَعَةً " مَا سَلَكَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا أَتْبَاعُهُمْ وَلَا سَلَفُ الْأُمَّةِ ؛ فَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْرِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - وَإِنْ كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ مُتَوَسِّطَةً ؛ لَمْ يَصِلْ فِي ذَلِكَ إلَى الْغَايَةِ - - يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْعُ النَّاسَ فِي مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ وَأَنَّهَا حَادِثَةٌ وَلَازِمَةٌ لِلْأَجْسَامِ ؛ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . فَعُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ " هَذِهِ الطَّرِيقَ " لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا الرَّسُولُ وَلَا دَعَا إلَيْهَا وَلَا أَصْحَابُهُ وَلَا تَكَلَّمُوا بِهَا وَلَا دَعَوْا بِهَا النَّاسَ . وَهَذَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ فَإِنَّ عِنْدَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ

وَيُعْرَفُ تَوْحِيدُهُ وَصِدْقُ رُسُلِهِ بِغَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ فَدَلَّ الشَّرْعُ دَلَالَةً ضَرُورِيَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ وَدَلَّ مَا فِيهَا مِنْ مُخَالَفَةِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّهَا طَرِيقٌ بَاطِلَةٌ . فَدَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا وَأَنَّهَا بَاطِلَةٌ . وَأَمَّا الْعَقْلُ فَقَدْ بَسَطَ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ مَا قِيلَ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ أَئِمَّةَ أَصْحَابِهَا قَدْ يَعْتَرِفُونَ بِفَسَادِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ . كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ وَالرَّازِي وَغَيْرِهِمَا بَيَانُ فَسَادِهَا . وَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُهَا لِلْعَقْلِ تَسَلَّطَ " الْفَلَاسِفَةُ " عَلَى سَالِكِيهَا وَظَنَّتْ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّهُمْ إذَا قَدَحُوا فِيهَا فَقَدْ قَدَحُوا فِي دَلَالَةِ الشَّرْعِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِمُوجَبِهَا إذْ كَانُوا أَجْهَلَ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْ سَالِكِيهَا فَسَالِكُوهَا لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِأَعْدَائِهِ كَسَرُوا بَلْ سَلَّطُوا الْفَلَاسِفَةَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْإِسْلَامِ . وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ . وَإِنَّمَا " الْمَقْصُودُ هُنَا " : أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ نَفْيَهُمْ " لِلصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " الَّتِي يُسَمُّونَهَا حُلُولَ الْحَوَادِثِ لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَيْهِ وَحُذَّاقُهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَأَمَّا السَّمْعُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَمْلُوءٌ بِمَا يُنَاقِضُهُ وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ نَقِيضُهُ مِنْ وُجُوهٍ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهَا . وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ مَعَ أَصْحَابِهَا حُجَّةٌ " لَا عَقْلِيَّةٌ وَلَا سَمْعِيَّةٌ " : مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ احْتَالَ مُتَأَخِّرُوهُمْ فَسَلَكُوا " طَرِيقًا سَمْعِيَّةً " ظَنُّوا أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ فَقَالُوا : هَذِهِ الصِّفَاتُ إنْ كَانَتْ صِفَاتُ نَقْصٍ وَجَبَ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتِ

كَمَالٍ فَقَدْ كَانَ فَاقِدًا لَهَا قَبْلَ حُدُوثِهَا وَعَدَمُ الْكَمَالِ نَقْصٌ ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَانَ نَاقِصًا وَتَنْزِيهُهُ عَنْ النَّقْصِ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَفْسَدِ الْحُجَجِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : نَفْيُ النَّقْصِ عَنْهُ لَمْ يُعْلَمْ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا عُلِمَ " بِالْإِجْمَاعِ " - وَعَلَيْهِ اعْتَمَدُوا فِي نَفْيِ النَّقْصِ - فَنَعُودُ إلَى احْتِجَاجِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ ؛ فَإِنَّ الْمُنَازِعَ لَهُمْ يَقُولُ أَنَا لَمْ أُوَافِقْكُمْ عَلَى نَفْيِ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ وَافَقْتُكُمْ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ النَّقْصِ ؛ فَهَذَا الْمَعْنَى عِنْدِي لَيْسَ بِنَقْصِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَا سَلَّمْته لَكُمْ فَإِنْ بَيَّنْتُمْ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ انْتِفَاءَهُ وَإِلَّا فَاحْتِجَاجُكُمْ بِقَوْلِي مَعَ أَنِّي لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيَّ ؛ فَإِنَّكُمْ تَحْتَجُّونَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَالطَّائِفَةِ الْمُثْبِتَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَهُمْ لَمْ يُسَلِّمُوا هَذَا . الثَّانِي : أَنَّ عَدَمَ هَذِهِ الْأُمُورِ قَبْلَ وُجُودِهَا نَقْصٌ ؛ بَلْ لَوْ وُجِدَتْ قَبْلَ وُجُودِهَا لَكَانَ نَقْصًا ؛ مِثَالُ ذَلِكَ تَكْلِيمُ اللَّهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنِدَاؤُهُ لَهُ فَنِدَاؤُهُ حِينَ نَادَاهُ صِفَةُ كَمَالٍ ؛ وَلَوْ نَادَاهُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ لَكَانَ ذَلِكَ نَقْصًا ؛ فَكُلٌّ مِنْهَا كَمَالٌ حِينَ وُجُودِهِ ؛ لَيْسَ بِكَمَالِ قَبْلَ وُجُودِهِ ؛ بَلْ وَجُودُهُ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ وَجُودَهُ فِيهِ نَقْصٌ . الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ نَقْصٌ فَإِنَّ مَا كَانَ حَادِثًا

امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَمَا كَانَ مُمْتَنِعًا لَمْ يَكُنْ عَدَمُهُ نَقْصًا ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ فَوَاتُ مَا يُمْكِنُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ . ( الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا يَرِدُ فِي كُلِّ مَا فَعَلَهُ الرَّبُّ وَخَلَقَهُ . فَيُقَالُ : خَلَقَ هَذَا إنْ كَانَ نَقْصًا فَقَدْ اتَّصَفَ بِالنَّقْصِ وَإِنْ كَانَ كَمَالًا فَقَدْ كَانَ فَاقِدًا لَهُ ؛ فَإِنْ قُلْتُمْ : " صِفَاتُ الْأَفْعَالِ " عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِنَقْصِ وَلَا كَمَالٍ . قِيلَ : إذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ أَمْكَنَ الْمُنَازِعَ أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ الْحَوَادِثُ لَيْسَتْ بِنَقْصِ وَلَا كَمَالٍ . ( الْخَامِسُ : أَنْ يُقَالَ : إذَا عَرَضَ عَلَى الْعَقْلِ الصَّرِيحِ ذَاتٌ يُمْكِنُهَا أَنْ تَتَكَلَّمَ بِقُدْرَتِهَا وَتَفْعَلَ مَا تَشَاءُ بِنَفْسِهَا وَذَاتٌ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهَا وَلَا تَتَصَرَّفَ بِنَفْسِهَا أَلْبَتَّةَ بَلْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الزَّمَنِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ قَضَى الْعَقْلُ الصَّرِيحُ بِأَنَّ هَذِهِ الذَّاتَ أَكْمَلُ وَحِينَئِذٍ فَأَنْتُمْ الَّذِينَ وَصَفْتُمْ الرَّبَّ بِصِفَةِ النَّقْصِ ؛ وَالْكَمَالُ فِي اتِّصَافِهِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ؛ لَا فِي نَفْيِ اتِّصَافِهِ بِهَا . ( السَّادِسُ : أَنْ يُقَالَ : الْحَوَادِثُ الَّتِي يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا أَزَلِيًّا وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا إلَّا شَيْئًا فَشَيْئًا إذَا قِيلَ : أَيُّمَا أَكْمَلُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى فِعْلِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا أَوْ لَا يَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ ؟ كَانَ مَعْلُومًا - بِصَرِيحِ الْعَقْلِ - أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى فِعْلِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ . وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ : إنَّ الرَّبَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ ؛ وَتَقُولُونَ إنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أُمُورٍ مُبَايِنَةٍ لَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُدْرَةَ الْقَادِرِ عَلَى فِعْلِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ قَبْلَ قُدْرَتِهِ عَلَى أُمُورٍ مُبَايِنَةٍ لَهُ ؛ فَإِذَا قُلْتُمْ

لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلٍ مُتَّصِلٍ بِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْمُنْفَصِلِ ؛ فَلَزِمَ عَلَى قَوْلِكُمْ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ وَلَا أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ خَالِقًا لِشَيْءِ ؛ وَهَذَا لَازِمٌ للنفاة لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ . وَلِهَذَا قِيلَ : الطَّرِيقُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ : تُنَاقِضُ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ إلَّا بِإِبْطَالِهَا ؛ لَا بِإِثْبَاتِهَا . فَكَانَ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ وَجَعَلُوهُ أُصُولًا لِلدِّينِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلدِّينِ وَمُنَافٍ لَهُ . وَلِهَذَا كَانَ " السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ " يَعِيبُونَ كَلَامَهُمْ هَذَا وَيَذُمُّونَهُ وَيَقُولُونَ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ ؛ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ . وَيَرْوِي عَنْ مَالِكٍ . وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ : حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْعَشَائِرِ وَيُقَالَ : هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : عُلَمَاءُ الْكَلَامِ زَنَادِقَةٌ وَمَا ارْتَدَى أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ . وَقَدْ صَدَقَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَبْنُونَ أَمْرَهُمْ عَلَى " كَلَامٍ مُجْمَلٍ " يَرُوجُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ فَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَنِفَاقٌ وَرَيْبٌ وَشَكٌّ ؛ بَلْ طَعَنَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذِهِ هِيَ الزَّنْدَقَةُ . وَهُوَ " كَلَامٌ بَاطِلٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ " كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْعِلْمُ بِالْكَلَامِ هُوَ

الْجَهْلُ فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَعَهُمْ عَقْلِيَّاتٌ وَإِنَّمَا مَعَهُمْ جهليات : { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } . هَذَا هُوَ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ وَحِيرَةٍ فَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ . أَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْ نُورِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . فَإِنْ قِيلَ : أَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ يَدْخُلُ فِي " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " فَظَاهِرٌ . فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ وَأَمَّا " الْإِرَادَةُ " وَ " الْمَحَبَّةُ " وَ " الرِّضَا " وَ " الْغَضَبُ " فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ نَفْسَ " الْإِرَادَةِ " هِيَ الْمَشِيئَةُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ مَنْ يُحِبُّهُ كَالْخَلِيلِ فَإِنَّهُ يُحِبُّهُ وَيُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحِبُّونَهُ وَكَذَلِكَ إذَا عَمِلَ النَّاسُ أَعْمَالًا يَرَاهَا وَهَذَا لَازِمٌ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ . قِيلَ : كُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ عَدَمِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَمَا شَاءَ وَجَبَ كَوْنُهُ وَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ وَمَا لَمْ يَشَأْهُ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :

{ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ } { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } . فَكَوْنُ الشَّيْءِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ لِكَوْنِهِ قَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ كَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ . فَإِنَّ " إرَادَتَهُ للمستقبلات " هِيَ مَسْبُوقَةٌ " بِإِرَادَتِهِ لِلْمَاضِي " { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَهُوَ إنَّمَا أَرَادَ " هَذَا الثَّانِيَ " بَعْدَ أَنْ أَرَادَ قَبْلَهُ مَا يَقْتَضِي إرَادَتَهُ ؛ فَكَانَ حُصُولُ الْإِرَادَةِ اللَّاحِقَةِ بِالْإِرَادَةِ السَّابِقَةِ .
وَالنَّاسُ قَدْ اضْطَرَبُوا فِي " مَسْأَلَةِ إرَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى " عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهَا وَرَجَّحَ الرَّازِي هَذَا فِي " مَطَالِبِهِ الْعَالِيَةِ " لَكِنْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - نَحْنُ قَرَّرْنَاهَا وَبَيَّنَّا فَسَادَ الشُّبَهِ الْمَانِعَةِ مِنْهَا ؛ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُوَ الْحَقُّ الْمَحْضُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولَاتُ الصَّرِيحَةُ وَأَنَّ " صَرِيحَ الْمَعْقُولِ مُوَافِقٌ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ " . وَكُنَّا قَدْ بَيَّنَّا " أَوَّلًا " أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا ؛ ثُمَّ بَيَّنَّا بَعْدَ ذَلِكَ : أَنَّهَا مُتَوَافِقَةٌ مُتَنَاصِرَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ . فَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ السَّمْعِ وَالسَّمْعُ يُبَيِّنُ صِحَّةَ الْعَقْلِ وَأَنَّ مَنْ سَلَكَ أَحَدَهُمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الْآخَرِ .

وَأَنَّ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَقَالَ : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . فَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ مَنْ كَانَ يَعْقِلُ أَوْ كَانَ يَسْمَعُ : فَإِنَّهُ يَكُونُ نَاجِيًا وَسَعِيدًا وَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَقَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ :
وَفُحُولُ النُّظَّارِ " كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي وَأَبِي الْحَسَنِ الآمدي " وَغَيْرِهِمَا ذَكَرُوا حُجَجَ الْنُّفَاةِ " لِحُلُولِ الْحَوَادِثِ " وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا كُلَّهَا . فَذَكَرُوا لَهُمْ أَرْبَعَ حُجَجٍ : إحْدَاهَا : " الْحُجَّةُ الْمَشْهُورَةُ " وَهِيَ أَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمِنْ أَضْدَادِهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ . وَمَنَعُوا الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى ؛ وَالْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ ؛ ذَكَرَ الرَّازِي وَغَيْرُهُ فَسَادَهَا وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَابِلًا لَهَا فِي الْأَزَلِ لَكَانَ الْقَبُولُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَكَانَ الْقَبُولُ يَسْتَدْعِي إمْكَانَ الْمَقْبُولِ وَوُجُودُ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ وَهَذِهِ أَبْطَلُوهَا هُمْ بِالْمُعَارَضَةِ بِالْقُدْرَةِ : بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إحْدَاثِ الْحَوَادِثِ وَالْقُدْرَةُ تَسْتَدْعِي إمْكَانَ الْمَقْدُورِ وَ " وُجُودُ الْمَقْدُورِ " وَهُوَ الْحَوَادِثُ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ وَ " هَذِهِ الْحُجَّةُ " بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ " وُجُودُ الْحَوَادِثِ " إمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا ؛ فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا أَمْكَنَ قَبُولُهَا وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهَا دَائِمًا وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ وُجُودُ جِنْسِهَا فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعًا ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جِنْسُهَا مَقْدُورًا مَقْبُولًا ؛

وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فَقَدْ امْتَنَعَ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا تَكُونُ فِي الْأَزَلِ مُمْكِنَةً ؛ لَا مَقْدُورَةً وَلَا مَقْبُولَةً ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ امْتِنَاعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْحَوَادِثَ مَوْجُودَةٌ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِدَوَامِ امْتِنَاعِهَا ؛ وَهَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ يُبَيِّنُ فَسَادَ " هَذِهِ الْحُجَّةِ " .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ - لَا رَيْبَ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَادِرٌ ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا - وَهُوَ الصَّوَابُ - وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بَلْ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَزَلْ قَادِرًا فَيُقَالُ : إذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا فَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ لَمْ يَزَلْ مُمْكِنًا أَمْكَنَ دَوَامُ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ فَأَمْكَنَ دَوَامُ وُجُودِ الْحَوَادِثِ ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ قَابِلًا لَهَا فِي الْأَزَلِ . فَإِنْ قِيلَ : بَلْ كَانَ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا ثُمَّ صَارَ مُمْكِنًا . قِيلَ : هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَإِنَّ الْقَادِرَ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى مُمْتَنِعٍ فَكَيْفَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى كَوْنِ الْمَقْدُورِ مُمْتَنِعًا ثُمَّ يُقَالُ : بِتَقْدِيرِ إمْكَانِ هَذَا قِيلَ هُوَ قَادِرٌ فِي الْأَزَلِ عَلَى مَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا يَزَالُ وَكَذَلِكَ فِي الْمَقْبُولِ : يُقَالُ هُوَ قَابِلٌ فِي الْأَزَلِ لِمَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا يَزَالُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : إذَا قِيلَ - هُوَ قَابِلٌ لِمَا فِي الْأَزَلِ فَإِنَّمَا هُوَ قَابِلٌ لِمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فَأَمَّا مَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ فَهَذَا لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُ .
الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ - هُوَ قَادِرٌ عَلَى حُدُوثِ مَا هُوَ مُبَايِنٌ لَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُدْرَةَ الْقَادِرِ عَلَى فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِهِ أَوْلَى مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُبَايِنِ لَهُ ؛ وَإِذَا

كَانَ الْفِعْلُ لَا مَانِعَ مِنْهُ إلَّا مَا يَمْنَعُ مِثْلُهُ لِوُجُودِ الْمَقْدُورِ الْمُبَايِنِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْدُورَ الْمُبَايِنَ هُوَ مُمْكِنٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَالْفِعْلُ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا مَقْدُورًا أَوْلَى . ( الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ لَهُمْ : أَنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ لَلَزِمَ " تَغَيُّرُهُ " وَالتَّغَيُّرُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَأَبْطَلُوا هُمْ " هَذِهِ الْحُجَّةَ " الرَّازِي وَغَيْرُهُ ؛ بِأَنْ قَالُوا : مَا تُرِيدُونَ بِقَوْلِكُمْ : لَوْ قَامَتْ بِهِ تَغَيَّرَ أَتُرِيدُونَ بِالتَّغَيُّرِ نَفْسَ قِيَامِهَا بِهِ أَمْ شَيْئًا آخَرَ ؟ فَإِنْ أَرَدْتُمْ الْأَوَّلَ كَانَ الْمُقَدَّمُ هُوَ الثَّانِي وَالْمَلْزُومُ هُوَ اللَّازِمُ وَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ وَهَذَا كَلَامٌ لَا يُفِيدُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالتَّغَيُّرِ مَعْنًى غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَزِمَ " تَغَيُّرٌ " غَيْرُ حُلُولِ الْحَوَادِثِ فَهَذَا جَوَابُهُمْ . وَإِيضَاحُ ذَلِكَ : أَنَّ " لَفْظَ التَّغَيُّرِ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَالتَّغَيُّرُ فِي اللُّغَةِ الْمَعْرُوفَةِ لَا يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ كَوْنِ الْمَحَلِّ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَقُولُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ إذَا تَحَرَّكَتْ : إنَّهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَلَا يَقُولُونَ لِلْإِنْسَانِ إذَا تَكَلَّمَ وَمَشَى إنَّهُ تَغَيَّرَ وَلَا يَقُولُونَ إذَا طَافَ وَصَلَّى وَأَمَرَ وَنَهَى وَرَكِبَ إنَّهُ تَغَيَّرَ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَادَتُهُ بَلْ إنَّمَا يَقُولُونَ تَغَيَّرَ لِمَنْ اسْتَحَالَ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ كَالشَّمْسِ إذَا زَالَ نُورُهَا ظَاهِرًا لَا يُقَالُ إنَّهَا تَغَيَّرَتْ فَإِذَا اصْفَرَّتْ قِيلَ تَغَيَّرَتْ . وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إذَا مَرِضَ أَوْ تَغَيَّرَ جِسْمُهُ بِجُوعِ أَوْ تَعَبٍ قِيلَ قَدْ تَغَيَّرَ وَكَذَلِكَ إذَا تَغَيَّرَ خُلُقُهُ وَدِينُهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فَاجِرًا فَيَنْقَلِبَ وَيَصِيرَ بَرًّا أَوْ يَكُونَ بَرًّا فَيَنْقَلِبَ فَاجِرًا فَإِنَّهُ يُقَالُ قَدْ تَغَيَّرَ . وَفِي الْحَدِيثِ { رَأَيْت وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَغَيِّرًا لَمَّا رَأَى مِنْهُ أَثَرَ الْجُوعِ وَلَمْ يَزَلْ يَرَاهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ } " فَلَمْ يُسَمِّ حَرَكَتَهُ تَغَيُّرًا وَكَذَلِكَ يُقَالُ : فُلَانٌ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَى فُلَانٍ إذَا صَارَ يُبْغِضُهُ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ فَإِذَا كَانَ ثَابِتًا عَلَى مَوَدَّتِهِ لَمْ يُسَمِّ هَشَّتَهُ إلَيْهِ وَخِطَابَهُ لَهُ تَغَيُّرًا . وَإِذَا جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ فَلَا يُقَالُ إنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا عَلَى عَادَتِهِمْ الْمَوْجُودَةِ يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَمْ يَكُونُوا قَدْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَإِذَا انْتَقَلُوا عَنْ ذَلِكَ فَاسْتَبْدَلُوا بِقَصْدِ الْخَيْرِ قَصْدَ الشَّرِّ وَبِاعْتِقَادِ الْحَقِّ اعْتِقَادَ الْبَاطِلِ قِيلَ : قَدْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِثْلُ مَنْ كَانَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَتَغَيَّرَ قَلْبُهُ وَصَارَ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَهَذَا قَدْ غَيَّرَ مَا فِي نَفْسِهِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا " مَعْنَى التَّغَيُّرِ " فَالرَّبُّ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَكَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ نَاقِصًا بَعْدَ كَمَالِهِ . وَ " هَذَا الْأَصْلُ " عَلَيْهِ قَوْلُ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَمْ يَزَلْ قَادِرًا وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُتَغَيِّرًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : يَا مَنْ يُغَيِّرُ وَلَا يَتَغَيَّرُ فَإِنَّهُ يُحِيلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَيَسْلُبُهَا مَا كَانَتْ مُتَّصِفَةً بِهِ إذَا شَاءَ ؛ وَيُعْطِيهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ؛ وَكَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ؛ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ

الْكَمَالِ ؛ قَالَ تَعَالَى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } . وَلَكِنْ " هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ " هُمْ الَّذِينَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : كَانَ فِي الْأَزَلِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا ؛ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ وَكَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ ثُمَّ صَارَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ . وَلَهُمْ فِي " الْكَلَامِ " قَوْلَانِ : مَنْ يُثْبِتُ الْكَلَامَ الْمَعْرُوفَ وَقَالَ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ قَالَ إنَّهُ صَارَ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ ؛ وَمَنْ لَمْ يَصِفْهُ بِالْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ ؛ بَلْ قَالَ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَةٍ وَقُدْرَةٍ كَمَا تَقُولُهُ الْكُلَّابِيَة فَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا كَلَامًا لَا يُعْقَلُ وَلَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَهُمْ عَلَى " قَوْلَيْنِ " : فَالسَّلَفُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَ " الْجَهْمِيَّة " يَقُولُونَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَقَالَ هَؤُلَاءِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ : أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَ ( الْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ وَيَقُولُونَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى وَذَلِكَ مُحَالٌ فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ صَارَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ

صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّغَيُّرِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ سَبَبٌ يُوجِبُ كَوْنَهُ قَادِرًا . وَإِذَا قَالُوا : هُوَ فِي الْأَزَلِ قَادِرٌ عَلَى مَا لَا يَزَالُ . قِيلَ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَهُوَ فِي الْأَزَلِ كَانَ قَادِرًا . أَفَكَانَ الْقَوْلُ مُمْكِنًا لَهُ أَوْ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ ؟ إنْ قُلْتُمْ : مُمْكِنٌ لَهُ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ دَوَامَ كَوْنِهِ فَاعِلًا وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى حَوَادِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا . وَإِنْ قُلْتُمْ : بَلْ كَانَ مُمْتَنِعًا . قِيلَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مَعَ كَوْنِ الْفِعْلِ مُمْتَنِعًا غَيْرُ مُمْكِنٍ - لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لِلْقَادِرِ إنَّمَا الْمَقْدُورُ هُوَ الْمُمْكِنُ لَا الْمُمْتَنِعُ . فَإِذَا قُلْتُمْ : أَمْكَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ . فَقَدْ قُلْتُمْ : إنَّهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي التَّغَيُّرِ . فَهَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْمُثْبِتَةَ يَلْزَمُهُمْ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ " تَغَيُّرٌ " قَدْ بَانَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ وَأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ قَالُوا : بِمَا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ . ( الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ : قَالُوا : حُلُولُ الْحَوَادِثِ بِهِ أُفُولٌ ؛ وَالْخَلِيلُ قَدْ قَالَ : { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } وَ " الْآفِلُ " هُوَ الْمُتَحَرِّكُ الَّذِي تَقُومُ لَهُ الْحَوَادِثُ فَيَكُونُ " الْخَلِيلُ " قَدْ نَفَى الْمَحَبَّةَ عَمَّنْ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَلَا يَكُونُ إلَهًا ؛ وَإِذَا قَالَ الْمُنَازِعُ أَنَا أُرِيدُ بِكَوْنِهِ تَغَيَّرَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ يُحِبُّ مِنَّا الطَّاعَةَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ وَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ . قِيلَ : فَهَبْ أَنَّك سَمَّيْت هَذَا تَغَيُّرًا ؛ فَلِمَ قُلْت إنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ فَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ كَمَا قَالَ الرَّازِي : فَالْمُقَدَّمُ هُوَ الثَّانِي .

فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ " بِالْغَيْرَةِ " وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ " التَّغَيُّرِ " فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ } " وَقَالَ أَيْضًا " { لَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَلَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } " . وَقَالَ : " { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي } . وَ ( الْجَوَابُ : أَنَّ قِصَّةَ الْخَلِيلِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ ؛ وَهُمْ الْمُخَالِفُونَ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِنَبِيِّنَا وَلِغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } { فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } { فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : أَنَّهُ مِنْ حِينِ بَزَغَ الْكَوْكَبُ وَالْقَمَرُ وَالشَّمْسُ وَإِلَى حِينِ أُفُولِهَا لَمْ يَقُلْ الْخَلِيلُ : لَا أُحِبُّ الْبَازِغِينَ وَلَا الْمُتَحَرِّكِينَ وَلَا الْمُتَحَوِّلِينَ وَلَا أُحِبُّ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحَرَكَاتُ وَلَا الْحَوَادِثُ وَلَا قَالَ شَيْئًا مِمَّا يَقُولُهُ الْنُّفَاةِ حِينَ أَفَلَ الْكَوْكَبُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ .

وَ " الْأُفُولُ " بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ : هُوَ الْغَيْبُ وَالِاحْتِجَابُ ؛ بَلْ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَلَمْ يَقُلْ إبْرَاهِيمُ : { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } ( إلَّا حِينَ أَفَلَ وَغَابَ عَنْ الْأَبْصَارِ فَلَمْ يَبْقَ مَرْئِيًّا وَلَا مَشْهُودًا - فَحِينَئِذٍ قَالَ { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } - . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كَوْنَهُ مُتَحَرِّكًا مُنْتَقِلًا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ ؛ بَلْ كَوْنُهُ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عِنْدَ إبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْيِ مَحَبَّتِهِ . فَإِنْ كَانَ إبْرَاهِيمُ إنَّمَا اسْتَدَلَّ " بِالْأُفُولِ " عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ رَبَّ الْعَالَمِينَ - كَمَا زَعَمُوا - : لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا يَقُومُ بِهِ الْأُفُولُ - مِنْ كَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا مُنْتَقِلًا - تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ ؛ بَلْ وَمِنْ كَوْنِهِ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا : لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عِنْدَ إبْرَاهِيمَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ حُجَّةً عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِمْ ؛ لَا عَلَى تَعْيِينِ مَطْلُوبِهِمْ . وَهَكَذَا أَهْلُ الْبِدَعِ لَا يَكَادُونَ يَحْتَجُّونَ " بِحُجَّةِ " سَمْعِيَّةٍ وَلَا عَقْلِيَّةٍ إلَّا وَهِيَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ؛ لَا لَهُمْ . وَلَكِنَّ " إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَمْ يَقْصِدْ بِقَوْلِهِ { هَذَا رَبِّي } إنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ إنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ تَجْوِيزِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ؛ بَلْ كَانُوا مُشْرِكِينَ مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ ؛ وَكَانُوا يَتَّخِذُونَ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَرْبَابًا يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ وَقَدْ صَنَّفْت فِي مِثْلِ مَذْهَبِهِمْ " كُتُبٌ " : مِثْلُ " كِتَابِ السِّرِّ الْمَكْتُومِ : فِي السِّحْرِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ " وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ .

وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ فِي تَمَامِ الْكَلَامِ : { إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَهُ يُوَجِّهُ وَجْهَهُ إذَا تَوَجَّهَ قَصْدُهُ إلَيْهِ : يَتْبَعُ قَصْدُهُ وَجْهَهُ فَالْوَجْهُ تَوَجَّهَ حَيْثُ تَوَجَّهَ الْقَلْبُ فَصَارَ قَلْبُهُ وَقَصْدُهُ وَوَجْهُهُ مُتَوَجِّهًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالَ : { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُودِ الصَّانِعِ فَإِنَّ هَذَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ قَوْمِهِ لَمْ يَكُونُوا يُنَازِعُونَهُ فِي وُجُودِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَاِتِّخَاذِهِ رَبًّا ؛ فَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّمَاوِيَّةَ وَيَتَّخِذُونَ لَهَا أَصْنَامًا أَرْضِيَّةً . وَهَذَا " النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الشِّرْكِ " فَإِنَّ الشِّرْكَ فِي قَوْمِ نُوحٍ كَانَ أَصْلُهُ مِنْ عِبَادَةِ الصَّالِحِينَ - أَهْلِ الْقُبُورِ - ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَكَانَ شِرْكُهُمْ بِأَهْلِ الْأَرْضِ ؛ إذْ كَانَ الشَّيْطَانُ إنَّمَا يُضِلُّ النَّاسَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَكَانَ تَرْتِيبُهُ " أَوَّلًا " الشِّرْكُ بِالصَّالِحِينَ أَيْسَرُ عَلَيْهِ . ثُمَّ قَوْمُ إبْرَاهِيمَ انْتَقَلُوا إلَى الشِّرْكِ بِالسَّمَاوِيَّاتِ : بِالْكَوَاكِبِ وَصَنَعُوا لَهَا " الْأَصْنَامَ " بِحَسَبِ مَا رَأَوْهُ مِنْ طَبَائِعِهَا يَصْنَعُونَ لِكُلِّ كَوْكَبٍ طَعَامًا وَخَاتَمًا

وَبَخُورًا وَأَمْوَالًا تُنَاسِبُهُ وَهَذَا كَانَ قَدْ اُشْتُهِرَ عَلَى عَهْدِ إبْرَاهِيمَ إمَامِ الْحُنَفَاءِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ : { مَاذَا تَعْبُدُونَ } { أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } { فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ لَهُمْ : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } وَقِصَّةُ إبْرَاهِيمَ قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَعَ قَوْمِهِ : إنَّمَا فِيهَا نَهْيُهُمْ عَنْ الشِّرْكِ ؛ خِلَافَ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مُظْهِرًا الْإِنْكَارَ لِلْخَالِقِ وَجُحُودَهُ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ حَاجَّ الَّذِي حَاجَّهُ فِي رَبِّهِ فِي قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } فَهَذَا قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ كَانَ جَاحِدًا لِلصَّانِعِ وَمَعَ هَذَا فَالْقِصَّةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ ؛ بَلْ يَدْعُو الْإِنْسَانُ إلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَرِّحُ بِإِنْكَارِ الْخَالِقِ مِثْلَ إنْكَارِ فِرْعَوْنَ . وَبِكُلِّ حَالٍ " فَقِصَّةُ إبْرَاهِيمَ " إلَى أَنْ تَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لَهُمْ وَهَذَا بَيِّنٌ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - بَلْ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ مَا يَنْفُونَهُ عَنْ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ قَالَ : { إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } وَالْمُرَادُ بِهِ : أَنَّهُ يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ كَمَا يَقُولُ الْمُصَلِّي سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ وَيَسْتَجِيبُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ ؛ لَا قَبْلَ وُجُودِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } .

فَهِيَ تُجَادِلُ وَتَشْتَكِي حَالَ سَمْعِ اللَّهِ تَحَاوُرَهُمَا ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَمْعَهُ كَرُؤْيَتِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَقَالَ : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَنَظَرٌ مُسْتَقِلٌّ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ مُنْفَصِلًا عَنْ الرَّائِي السَّامِعِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ فَإِذَا وُجِدَتْ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ سَمِعَهَا وَرَآهَا . وَ " الرُّؤْيَةُ " وَ " السَّمْعُ " أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَوْصُوفٍ يَتَّصِفُ بِهِ فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي رَآهَا وَسَمِعَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِهَذَا السَّمْعِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةِ . وَأَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِغَيْرِهِ فَتَعَيَّنَ قِيَامُ هَذَا السَّمْعِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةِ بِهِ بَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ الْأَعْمَالُ وَالْأَقْوَالُ وَهَذَا مَطْعَنٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " وَمَا قَالَ فِيهَا عَامَّةُ الطَّوَائِفِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَحُكِيَتْ أَلْفَاظُ النَّاسِ بِحَيْثُ يَتَيَقَّنُ الْإِنْسَانُ أَنَّ النَّافِيَ لَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ لَا سَمْعِيَّةٌ وَلَا عَقْلِيَّةٌ ؛ وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ مُوَافِقَةٌ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ؛ وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ " الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ " : التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ فَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهَا نُصُوصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ وَدَلَّتْ عَلَيْهَا صَرَائِحُ الْمَعْقُولَاتِ . فَالْمُخَالِفُ فِيهَا كَالْمُخَالِفِ فِي أَمْثَالِهَا مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ لَا سَمْعِيَّةٌ وَلَا عَقْلِيَّةٌ بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بالذين قَالُوا : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وَلَكِنْ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ " وَ " مَسْأَلَةُ الزِّيَارَةِ " وَغَيْرُهُمَا حَدَثَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهَا شُبَهٌ . وَأَنَا وَغَيْرِي كُنَّا عَلَى " مَذْهَبِ الْآبَاءِ " فِي ذَلِكَ نَقُولُ فِي " الْأَصْلَيْنِ " بِقَوْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَنَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ نَتَّبِعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ نَتَّبِعَ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ ؛ وَأَنْ لَا نَكُونَ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } .
فَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ وَالنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ وَسَبِيلِ مَنْ أَنَابَ إلَى اللَّهِ فَاتَّبَعْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؛ دُونَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ الْآبَاءِ وَغَيْرِ الْآبَاءِ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَهَدَى بِهِ الْخَلْقَ وَأَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ

إلَى النُّورِ ؛ وَأُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { يَقُولُ اللَّهُ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ اللَّهُ : هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } " . فَهَذِهِ " السُّورَةُ " فِيهَا لِلَّهِ الْحَمْدُ . فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِيهَا لِلْعَبْدِ السُّؤَالُ وَفِيهَا الْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَلِلْعَبْدِ الِاسْتِعَانَةُ فَحَقُّ الرَّبِّ حَمْدُهُ وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ وَهَذَانِ " حَمْدُ الرَّبِّ وَتَوْحِيدُهُ " يَدُورُ عَلَيْهِمَا جَمِيعُ الدِّينِ
وَ " مَسْأَلَةُ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " هِيَ مِنْ تَمَامِ حَمْدِهِ فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللَّهَ مَحْمُودٌ أَلْبَتَّةَ وَلَا أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّ الْحَمْدَ ضِدُّ الذَّمِّ وَالْحَمْدُ هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَحَاسِنِ الْمَحْمُودِ مَعَ الْمَحَبَّةِ لَهُ وَالذَّمُّ هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَسَاوِئِ الْمَذْمُومِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ وَجِمَاعُ الْمَسَاوِئِ فِعْلُ الشَّرِّ كَمَا أَنَّ جِمَاعَ الْمَحَاسِنِ فِعْلُ الْخَيْرِ . فَإِذَا كَانَ يَفْعَلُ الْخَيْرَ - بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ اسْتَحَقَّ " الْحَمْدَ " . فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَقُومُ بِهِ ؛ بَلْ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ خَالِقًا وَلَا رَبًّا لِلْعَالَمِينَ .

وَقَوْلُهُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } - وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ امْتَنَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ " الْعَقْلِ " أَنَّهُ إذَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلٍ يَصِيرُ بِهِ خَالِقًا ؛ وَإِلَّا فَلَوْ اسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ - لَمْ يَحْدُثْ فِعْلٌ - لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَكُنْ الْمَخْلُوقُ مَوْجُودًا فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَخْلُوقُ مَوْجُودًا إنْ كَانَ الْحَالُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلَ مَا كَانَ فِي الْمَاضِي لَمْ يَحْدُثْ مِنْ الرَّبِّ فِعْلٌ هُوَ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ قَدْ شَهِدُوا نَفْسَ الْمَخْلُوقِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ " الْخَلْقَ " لَمْ يَشْهَدُوهُ وَهُوَ تَكْوِينُهُ لَهَا وَإِحْدَاثُهُ لَهَا ؛ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ الْبَاقِي . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } . فَالْخَلْقُ لَهَا كَانَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بَعْدَ الْمَشِيئَةِ فَاَلَّذِي اُخْتُصَّ بِالْمَشِيئَةِ غَيْرُ الْمَوْجُودِ بَعْدَ الْمَشِيئَةِ وَكَذَلِكَ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فَإِنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْعِبَادَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحْمَةٌ إلَّا نَفْسَ إرَادَةٍ قَدِيمَةٍ ؛ أَوْ صِفَةً أُخْرَى قَدِيمَةً : لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ قَالَ الْخَلِيلُ : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ

إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } فَالرَّحْمَةُ ضِدُّ التَّعْذِيبِ وَالتَّعْذِيبُ فِعْلُهُ وَهُوَ يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ ؛ كَذَلِكَ الرَّحْمَةُ تَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ ؛ كَمَا قَالَ : { وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ } . وَالْإِرَادَةُ الْقَدِيمَةُ اللَّازِمَةُ لِذَاتِهِ - أَوْ صِفَةٌ أُخْرَى لِذَاتِهِ - لَيْسَتْ بِمَشِيئَتِهِ ؛ فَلَا تَكُونُ الرَّحْمَةُ بِمَشِيئَتِهِ . وَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ بِمَشِيئَتِهِ إلَّا الْمَخْلُوقَاتُ الْمُبَايِنَةُ لَزِمَ أَنْ لَا تَكُونَ صِفَةً لِلرَّبِّ بَلْ تَكُونُ مَخْلُوقَةً لَهُ وَهُوَ إنَّمَا يَتَّصِفُ بِمَا يَقُومُ بِهِ لَا يَتَّصِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي } - وَفِي رِوَايَةٍ - تَسْبِقُ غَضَبِي " . وَمَا كَانَ سَابِقًا لِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ . وَمَنْ قَالَ : مَا ثَمَّ رَحْمَةٌ إلَّا إرَادَةٌ قَدِيمَةٌ أَوْ مَا يُشْبِهُهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ غَضَبٌ مَسْبُوقٌ بِهَا فَإِنَّ الْغَضَبَ إنْ فُسِّرَ بِالْإِرَادَةِ فَالْإِرَادَةُ لَمْ تَسْبِقْ نَفْسَهَا وَكَذَلِكَ إنْ فُسِّرَ بِصِفَةِ قَدِيمَةِ الْعَيْنِ فَالْقَدِيمُ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَإِنْ فُسِّرَ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَتَّصِفْ بِرَحْمَةِ وَلَا غَضَبٍ ؛ وَهُوَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ بِقَوْلِهِ : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } وَقَوْلُهُ : { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ :

" { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ } " . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } فَعَلَّقَ الرَّحْمَةَ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا عَلَّقَ التَّعْذِيبَ . وَمَا تَعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ مِمَّا يَتَّصِفُ بِهِ الرَّبُّ فَهُوَ مِنْ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " . وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ يَوْمَ يَدِينُ الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ يَوْمَ الدِّينِ وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْمُ الدِّينِ { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } . فَإِنَّ " الْمَلِكَ " هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ فَيُطَاعُ وَلِهَذَا إنَّمَا يُقَالُ " مَلِكٌ " لِلْحَيِّ الْمُطَاعِ الْأَمْرِ لَا يُقَالُ فِي الْجَمَادَاتِ : لِصَاحِبِهَا " مَلِكٌ " ؛ إنَّمَا يُقَالُ لَهُ : " مَالِكٌ " وَيُقَالُ لِيَعْسُوبِ النَّحْلِ : " مَلِكُ النَّحْلِ " لِأَنَّهُ يَأْمُرُ فَيُطَاعُ وَالْمَالِكُ الْقَادِرُ عَلَى التَّصْرِيفِ فِي الْمَمْلُوكِ . وَإِذَا كَانَ " الْمَلِكُ " هُوَ الْآمِرُ النَّاهِي الْمُطَاعُ فَإِنْ كَانَ يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِمَشِيئَتِهِ كَانَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ مِنْ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " وَبِهَذَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } . وَإِنْ كَانَ لَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِمَشِيئَتِهِ - بَلْ أَمْرُهُ لَازِمٌ لَهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ - لَمْ يَكُنْ هَذَا مَالِكًا أَيْضًا ؛ بَلْ هَذَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَجَعَلَ لَهُ صِفَاتٍ تَلْزَمُهُ - كَاللَّوْنِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْحَيَاءِ

وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ لِذَاتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ - فَكَانَ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ مَمْلُوكًا مَخْلُوقًا لِلرَّبِّ فَقَطْ وَإِنَّمَا يَكُونُ " مَلِكًا " إذَا كَانَ يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِاخْتِيَارِهِ فَيُطَاعُ - وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا لِفِعْلِهِ وَلِكُلِّ شَيْءٍ . وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ " مَلِكًا " إلَّا مَنْ يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَازِمٌ لَهُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ أَوْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ فَكِلَاهُمَا يَلْزَمُهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ " مَلِكًا " وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِمَشِيئَتِهِ لَمْ يَكُنْ " مَالِكًا " أَيْضًا . فَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ " فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ " لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي الْحَقِيقَةِ مَالِكًا لِشَيْءِ وَإِذَا اعْتَبَرْت سَائِرَ الْقُرْآنِ وَجَدْت أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُقِرَّ " بِالصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " لَمْ يَقُمْ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَلَا الْقُرْآنِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْفَاتِحَةَ وَغَيْرَهَا يَدُلُّ عَلَى " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " وَقَوْلُهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فِيهِ إخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَسْتَعِينُونَ إلَّا بِاَللَّهِ ؛ فَمَنْ دَعَا غَيْرَ اللَّهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ اسْتَعَانَ بِهِمْ : مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُحَقِّقْ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَلَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ " الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ " وَ " الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ " . فَإِنَّ " الزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ " عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ لِرَسُولِهِ وَتَوْحِيدٌ لِلَّهِ وَإِحْسَانٌ إلَى عِبَادِهِ وَعَمَلٌ صَالِحٌ مِنْ الزَّائِرِ يُثَابُ عَلَيْهِ . وَ " الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ " شِرْكٌ بِالْخَالِقِ وَظُلْمٌ لِلْمَخْلُوقِ وَظُلْمٌ لِلنَّفْسِ . فَصَاحِبُ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ } . أَلَا تَرَى أَنَّ اثْنَيْنِ لَوْ شَهِدَا جِنَازَةً فَقَامَ أَحَدُهُمَا يَدْعُو لِلْمَيِّتِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِمَاءِ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَنَقِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ . وَقَامَ الْآخَرُ فَقَالَ : يَا سَيِّدِي أَشْكُو لَك دُيُونِي وَأَعْدَائِي وَذُنُوبِي . أَنَا مُسْتَغِيثٌ بِك مُسْتَجِيرٌ بِك أَغِثْنِي وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ لَكَانَ الْأَوَّلُ عَابِدًا لِلَّهِ وَمُحْسِنًا إلَى خَلْقِهِ مُحْسِنًا إلَى نَفْسِهِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَنَفْعِهِ عِبَادَهُ وَهَذَا الثَّانِي مُشْرِكًا مُؤْذِيًا ظَالِمًا مُعْتَدِيًا عَلَى الْمَيِّتِ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ . فَهَذَا بَعْضُ مَا بَيْنَ " الْبِدْعِيَّةِ " وَ " الشَّرْعِيَّةِ " مِنْ الْفُرُوقِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ صَاحِبَ " الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ " إذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } كَانَ صَادِقًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ إلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ إلَّا بِهِ وَأَمَّا صَاحِبُ " الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ " فَإِنَّهُ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَاسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ . فَهَذَا بَعْضُ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ " الْفَاتِحَةَ " أُمُّ الْقُرْآنِ : اشْتَمَلَتْ عَلَى بَيَانِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِمَا : " مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " " وَمَسْأَلَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ " . وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي . فَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي فَذَكَرَ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَالْمَجْدَ . بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إلَى آخِرِهَا هَذَا فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ الصَّلَاةِ . ثُمَّ فِي آخِرِ الْقِيَامِ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَقُولُ : رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ . إلَى قَوْلِهِ : أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } . وَقَوْلُهُ : أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ . خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ : أَيْ هَذَا الْكَلَامُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ وَفِي ضِمْنِهِ تَوْحِيدُهُ لَهُ إذَا قَالَ : وَلَك الْحَمْدُ أَيْ لَك لَا لِغَيْرِك وَقَالَ فِي آخِرِهِ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَهَذَا يَقْتَضِي انْفِرَادَهُ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ فَلَا يُسْتَعَانُ إلَّا بِهِ وَلَا يُطْلَبُ إلَّا مِنْهُ . ثُمَّ قَالَ : وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ أُعْطِيَ الْمُلْكَ وَالْغِنَى وَالرِّئَاسَةَ فَهَذَا لَا يُنْجِيهِ مِنْك ؛ إنَّمَا يُنْجِيهِ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَكَانَ هَذَا الذِّكْرُ فِي آخِرِ الْقِيَامِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلَ الْقِيَامِ وَقَوْلُهُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَمْدُ اللَّهِ أَحَقَّ الْأَقْوَالِ بِأَنْ يَقُولَهُ الْعَبْدُ ؛ وَمَا كَانَ أَحَقَّ الْأَقْوَالِ كَانَ أَفْضَلَهَا وَأَوْجَبَهَا عَلَى الْإِنْسَانِ . وَلِهَذَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَفْتَتِحُوهَا بِقَوْلِهِمْ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَأَمَرَهُمْ أَيْضًا أَنْ يَفْتَتِحُوا كُلَّ خُطْبَةٍ " بالحمد لِلَّهِ " فَأَمَرَهُمْ أَنْ

يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى كُلِّ كَلَامٍ سَوَاءٌ كَانَ خِطَابًا لِلْخَالِقِ أَوْ خِطَابًا لِلْمَخْلُوقِ وَلِهَذَا يُقَدِّمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدَ أَمَامَ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِهَذَا أَمَرَنَا بِتَقْدِيمِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ فِي التَّشَهُّدِ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بالحمد لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ . وَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ } . وَقَوْلُهُ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } جَعَلَهُ ثَنَاءً . وَقَوْلُهُ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } جَعَلَهُ تَمْجِيدًا . وَقَوْلُهُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } حَمْدٌ مُطْلَقٌ . فَإِنَّ " الْحَمْدَ " اسْمُ جِنْسٍ وَالْجِنْسُ لَهُ كَمِّيَّةٌ وَكَيْفِيَّةٌ ؛ فَالثَّنَاءُ كَمِّيَّتُهُ . وَتَكْبِيرُهُ وَتَعْظِيمُهُ كَيْفِيَّتُهُ وَ " الْمَجْدُ " هُوَ السَّعَةُ وَالْعُلُوُّ فَهُوَ يُعَظِّمُ كَيْفِيَّتَهُ وَقَدْرَهُ وَكَمِّيَّتَهُ الْمُتَّصِلَةَ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا وَصْفٌ لَهُ بِالْمِلْكِ . وَ " الْمِلْكُ " يَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ وَفِعْلَ مَا يَشَاءُ وَ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَصْفٌ بِالرَّحْمَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِإِحْسَانِهِ إلَى الْعِبَادِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَيْضًا وَالْخَيْرُ يَحْصُلُ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الرَّحْمَةَ . فَإِذَا كَانَ قَدِيرًا مُرِيدًا لِلْإِحْسَانِ : حَصَلَ كُلُّ خَيْرٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ النَّقْصُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ أَوْ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْخَيْرِ " فَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ " قَدْ اتَّصَفَ بِغَايَةِ إرَادَةِ الْإِحْسَانِ وَغَايَةِ الْقُدْرَةِ ؛ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَقَوْلُهُ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } مَعَ أَنَّهُ " مَلِكُ الدُّنْيَا " لِأَنَّ يَوْمَ الدِّينِ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ فِيهِ مُنَازَعَةً وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَعْظَمُ فَمَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا كَمَا يَضَعُ أَحَدُكُمْ إصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ وَ " الدِّينُ " عَاقِبَةُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَقَدْ يَدُلُّ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَبِطْرِيقِ الْعُمُومِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ : عَلَى مِلْكِ الدُّنْيَا فَيَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ

وَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْحَمَ وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ وَصْفٌ لَهُ يَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَهُوَ مِنْ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " . وَفِي الصَّحِيحِ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ : إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ - وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ - خَيْرًا لِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي : فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ ؛ وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ } " . فَسَأَلَهُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمِنْ فَضْلِهِ وَفَضْلُهُ يَحْصُلُ بِرَحْمَتِهِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ جِمَاعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَكِنَّ " الْعِلْمَ " لَهُ عُمُومُ التَّعَلُّقِ : يَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ ؛ وَأَمَّا " الْقُدْرَةُ " فَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَخْلُوقِ ؛ وَكَذَلِكَ " الْمُلْكُ " إنَّمَا يَكُونُ مُلْكًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ . " فَالْفَاتِحَةُ " اشْتَمَلَتْ عَلَى الْكَمَالِ فِي " الْإِرَادَةِ " وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَعَلَى الْكَمَالِ فِي " الْقُدْرَةِ " وَهُوَ مُلْكُ يَوْمِ الدِّينِ وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ " بِالصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
فَصْلٌ :
وَصْفُهُ تَعَالَى " بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " - مِثْلُ الْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَالْبَاعِثِ وَالْوَارِثِ وَالْمُحْيِي وَالْمُمِيتِ - قَدِيمٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ : مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةِ . ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي حَتَّى الْحَنَفِيَّةِ والسالمية والكَرَّامِيَة . وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعَ " الْمُعْتَزِلَةِ " وَ " الْأَشْعَرِيَّةِ " . وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ " فِي الْإِرْشَادِ " وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ أَسْمَاءَهُ الْفِعْلِيَّةَ - وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً - فَإِنَّهَا مَجَازٌ قَبْلَ وُجُودِ الْفِعْلِ وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ الْقَاضِي فِي " الْمُعْتَمَدِ " فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَعَ السالمية ؛ وَالْقَاضِي إنَّمَا ذَكَرَ لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَآخِذَ : ( أَحَدُهَا : أَنَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ : خُبْزٌ مُشْبِعٌ وَمَاءٌ مَرْوِيٌّ وَسَيْفٌ قَاطِعٌ ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَجَازِ ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مَا يَصِحُّ نَفْيُهُ . كَمَا يُقَالُ عَنْ الْجَدِّ لَيْسَ بِأَبٍ ؛ وَلَا

يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَنْ السَّيْفِ الَّذِي يَقْطَعُ لَيْسَ بِقَطُوعِ وَلَا عَنْ الْخُبْزِ الْكَثِيرِ وَالْمَاءِ الْكَثِيرِ . لَيْسَ بِمُشْبِعِ وَلَا بِمَرْوِيٍّ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ . هَذَا تَعْلِيلُ الْقَاضِي . قُلْت : وَهَذَا لِأَنَّ الْوَصْفَ بِذَلِكَ يَعْتَمِدُ كَمَالَ الْوَصْفِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ الْفِعْلُ لَا ذَاتُ الْفِعْلِ الصَّادِرِ . وَعَلَى هَذَا فَيُوصَفُ بِكُلِّ مَا يَتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ . قُلْت : وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ أَحْمَدَ : " لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا غَفُورًا " هَلْ قَوْلُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا مِثْلُ قَوْلِهِ غَفُورًا أَوْ مِثْلُ قَوْلِهِ عَالِمًا ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " . الْمَأْخَذُ ( الثَّانِي : أَنَّ الْفِعْلَ مُتَحَقِّقٌ مِنْهُ فِي الثَّانِي مِنْ الزَّمَانِ كَتَحَقُّقِنَا الْآنَ أَنَّهُ بَاعِثٌ وَارِثٌ قَبْلَ الْبَعْثِ وَالْإِرْثِ وَهَذَا مَأْخَذُ أَبِي إسْحَاقَ بْنِ شاقلا وَالْقَاضِي أَيْضًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَفْعَلَ . وَهَذَا يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَصْفَ النَّبِيِّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ ؛ بِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ . وَوَصْفَ عُمَرَ بِأَنَّهُ فَاتِحُ الْأَمْصَارِ كَمَا قِيلَ وُلِدَ اللَّيْلَةَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَمَا قَالَ : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } " . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ إطْلَاقَ الصِّفَةِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَعْنَى مَجَازٌ بِالِاتِّفَاقِ وَحِينَ وُجُودِهِ حَقِيقَةٌ وَبَعْدَ وُجُودِهِ وَزَوَالِهِ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ ؛ لَكِنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ يَتَحَقَّقُ وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْهُ وَبَيْنَ مَنْ يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْهُ .

ثُمَّ قَدْ يُقَالُ : كَوْنُهُ خَالِقًا فِي الْأَزَلِ لِلْمَخْلُوقِ فِيمَا لَا يَزَالُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مُرِيدًا فِي الْأَزَلِ وَرَحِيمًا وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ إطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِطْلَاقِ الْوَصْفِ عَلَى مَنْ سَيَقُومُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ؛ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : يَكُونُ الْخَالِقُ بِمَنْزِلَةِ الْقَادِرِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْخَالِقُ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِيمِ وَهَذَا الْفَرْقُ يَعُودُ إلَى الْمَأْخَذِ الثَّالِثِ . وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ " فِي ذَاتِهِ " حَالُهُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ وَحَالُهُ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلَ سَوَاءٌ لَمْ تَتَغَيَّرْ ذَاتُهُ عَنْ أَفْعَالِهِ وَلَمْ يَكْتَسِبْ عَنْ أَفْعَالِهِ صِفَاتِ كَمَالَ كَالْمَخْلُوقِ . وَهَذَا الْمَأْخَذُ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَيْضًا فَقَالَ : وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ الْآنَ خَالِقًا وَالْخَالِقُ ذَاتُهُ وَذَاتُهُ كَانَتْ فِي الْأَزَلِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا وَصَارَ خَالِقًا لَلَزِمَهُ التَّغَيُّرُ وَالتَّحْوِيلُ وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِيمِ وَالْحَلِيمِ . الْمَأْخَذُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْخَلْقَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لَيْسَتْ هِيَ الْمَخْلُوقَ وَجَوَّزَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ قَدِيمُ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ وَيَعْنِي بِهِ أَنَّ الْإِحْسَانَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ غَيْرُ الْمُحْسِنِ بِهِ وَمَنَعَ أَنْ يُقَالَ : يَا قَدِيمَ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَالْحَنَفِيَّةِ وَتُسَمِّيهَا فِرْقَةُ التَّكْوِينِ . وَ الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ كَقَوْلِ الْأَشْعَرِيَّةِ . قَالَ الْقَاضِي فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ : مَسْأَلَةٌ وَالْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ فَالْخَلْقُ صِفَةٌ

قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُخْتَرِعُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ قَالَ : وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَأَنَّ الصِّفَاتِ الصَّادِرَةَ عَنْ الْأَفْعَالِ مَوْصُوفٌ بِهَا فِي الْقِدَمِ . قُلْت : ثُمَّ هَلْ يَحْدُثُ فِعْلٌ فِي ذَاتِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ إرَادَةٍ عِنْدَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى " الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " مِثْلُ الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا بِهَا ؛ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ صِفَةُ كَمَالٍ ؛ لَكِنَّ أَعْيَانَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَمْ الْكَمَالُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِنَوْعِهَا ؟ . ( وَتَلْخِيصُ الْكَلَامِ هُنَا أَنَّ كَوْنَهُ خَالِقًا وَكَرِيمًا هَلْ هُوَ لِأَجْلِ مَا أَبْدَعَهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ مِنْ الْخَلْقِ وَالنِّعَمِ ؟ أَمْ لِأَجْلِ مَا قَامَ بِهِ مِنْ صِفَةِ الْخَلْقِ وَالْكَرَمِ ؟ ( الثَّانِي هُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ والكَرَّامِيَة وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابِنَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ بَلْ فِي أَصَحِّهِمَا وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يَزَلْ كَرِيمًا وَغَفُورًا وَخَالِقًا . كَمَا يُقَالُ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَيَكُونُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ " قَوْلَانِ " كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْمُتَكَلِّمِ " قَوْلَانِ " هَلْ هُوَ يَلْحَقُ بِالْعَالِمِ أَوْ بِالْغَفُورِ ؟ و " الْأَوَّلُ " هُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ . وَعَلَى هَذَا : فَقَوْلُ أَصْحَابِنَا : كَانَ خَالِقًا فِي الْأَزَلِ إمَّا بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ كَمَا يُقَالُ : سَيْفٌ قَاطِعٌ أَوْ بِمَعْنَى وُجُودِ الْفِعْلِ قَطْعًا فِي الْحَالِ الثَّانِي كَمَا يُقَالُ :

هَذَا فَاتِحُ الْأَمْصَارِ وَهَذَا نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؛ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْخَلْقُ مِنْ الصِّفَاتِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ . وَإِذَا جَعَلْنَا الْخَلْقَ صِفَةً قَائِمَةً بِهِ فَهَلْ هِيَ الْمَشِيئَةُ وَالْقَوْلُ أَمْ صِفَةٌ أُخْرَى ؟ عَلَى ( قَوْلَيْنِ . " الثَّانِي " قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ ؛ كَمَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الرَّحْمَةِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ هَلْ هِيَ الْإِرَادَةُ أَمْ صِفَةٌ غَيْرُ الْإِرَادَةِ ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةَ . فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَهُوَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ . وَأَمَّا قَوْلُنَا : هُوَ مَوْصُوفٌ فِي الْأَزَلِ بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْكَرَمِ وَالْمَغْفِرَةِ ؛ فَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ أَنَّ وَصْفَهُ بِذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ وَهَذَا مِمَّا تَدْخُلُهُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ؛ وَأَمَّا اتِّصَافُهُ بِذَلِكَ فَسَوَاءٌ كَانَ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً وَرَاءَ الْقُدْرَةِ أَوْ إضَافِيَّةً . فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَا تَقَدَّمَ .

وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَبَحْرُ الْعُلُومِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ :
فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّازِي فِي ( الْأَرْبَعِينَ ) فِي مَسْأَلَةِ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " الَّتِي يُسَمُّونَهَا حُلُولَ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ قَالَ بِهِ أَكْثَرُ فِرَقِ الْعُقَلَاءِ وَإِنْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ بِاللِّسَانِ . قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّفَاتِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ " . " حَقِيقِيَّةٌ عَارِيَةٌ عَنْ الْإِضَافَاتِ " كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ . " وَثَانِيهَا " الصِّفَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تَلْزَمُهَا الْإِضَافَاتُ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . وَثَالِثُهَا الْإِضَافَاتُ الْمَحْضَةُ وَالنِّسَبُ الْمَحْضَةُ مِثْلُ كَوْنِ الشَّيْءِ قَبْلَ غَيْرِهِ

وَعِنْدَهُ وَمِثْلُ كَوْنِ الشَّيْءِ يَمِينًا لِغَيْرِهِ أَوْ يَسَارًا لَهُ ؛ فَإِنَّك إذَا جَلَسْت عَلَى يَمِينِ إنْسَانٍ ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ وَجَلَسَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْك : فَقَدْ كُنْت يَمِينًا لَهُ ؛ ثُمَّ صِرْت الْآنَ يَسَارًا لَهُ فَهُنَا لَمْ يَقَعْ التَّغَيُّرُ فِي ذَاتِك وَلَا فِي صِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مِنْ صِفَاتِك ؛ بَلْ فِي مَحْضِ الْإِضَافَاتِ . إذَا عَرَفْت هَذَا ، فَنَقُولُ : أَمَّا وُقُوعُ التَّغَيُّرِ فِي الْإِضَافَاتِ فَلَا خَلَاصَ عَنْهُ وَأَمَّا وُقُوعُ التَّغَيُّرِ فِي الصِّفَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ : فالكَرَّامِيَة يُثْبِتُونَهُ وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ يُنْكِرُونَهُ فَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ فِي هَذَا الْبَابِ بَيْنَ مَذْهَبِ الكَرَّامِيَة وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ قَالَ : وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الكَرَّامِيَة " وُجُوهٌ " : . ( الْأَوَّلُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ فَلَوْ كَانَتْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُحْدَثَةً : لَكَانَتْ ذَاتُهُ قَبْلَ حُدُوثِ تِلْكَ الصِّفَةِ خَالِيَةً عَنْ صِفَةِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ . وَالْخَالِي عَنْ صِفَةِ الْكَمَالِ نَاقِصٌ ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ ذَاتَه كَانَتْ نَاقِصَةً قَبْلَ حُدُوثِ تِلْكَ الصِّفَةِ فِيهَا وَذَلِكَ مُحَالٌ . فَثَبَتَ أَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ فِي ذَاتِ اللَّهِ مُحَالٌ . قُلْت : وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : مَا ذَكَرْته لَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ " وُجُوهٍ " . " أَحَدُهَا " أَنَّ الدَّلِيلَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ لَمْ يُقَرِّرُوا وَاحِدَةً مِنْهَا ؟ لَا بِحُجَّةِ عَقْلِيَّةٍ وَلَا سَمْعِيَّةٍ وَهُوَ أَنَّ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّ الذَّاتَ قَبْلَ تِلْكَ الصِّفَةِ تَكُونُ نَاقِصَةً وَأَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ مُحَالٌ .

وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ لَوْ قَامَ بِهِ حَادِثٌ لَامْتَنَعَ خُلُوُّهُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ . وَلَمْ يَقُمْ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةٌ . ( الثَّانِي أَنَّ وُجُوبَ اتِّصَافِهِ بِهَذَا الْكَمَالِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ النَّقْصِ لَمْ تَذْكُرْ فِي كُتُبِك عَلَيْهِ حُجَّةً عَقْلِيَّةً ؛ بَلْ أَنْتَ وَشُيُوخُك كَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِ تَقُولُونَ : إنَّ هَذَا لَمْ يُعْلَمْ بِالْعَقْلِ ؛ بَلْ بِالسَّمْعِ وَإِذَا كُنْتُمْ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لَمْ تَعْرِفُوهَا بِالْعَقْلِ . فَالسَّمْعُ إمَّا نَصٌّ وَإِمَّا إجْمَاعٌ وَأَنْتُمْ لَمْ تَحْتَجُّوا بِنَصِّ ؛ بَلْ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ نَصٍّ حُجَّةً عَلَيْكُمْ وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ . " وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ " : إذَا كَانَتْ أَزَلِيَّةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُولُ صَحِيحَ الْوُجُودِ فِي الْأَزَلِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قَابِلًا لِغَيْرِهِ : نِسْبَةً بَيْنَ الْقَابِلِ وَالْمَقْبُولِ وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْمُنْتَسِبِينَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ وَصِحَّةُ النِّسْبَةِ تَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمُنْتَسِبِينَ . فَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ اتِّصَافِ الْبَارِي بِالْحَوَادِثِ حَاصِلَةً فِي الْأَزَلِ : لَزِمَ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ وُجُودِ الْحَوَادِثِ حَاصِلَةً فِي الْأَزَلِ . فَيُقَالُ لَك : هَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي كَوْنِهِ قَادِرًا فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قَادِرًا عَلَى غَيْرِهِ نِسْبَةً بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْمَقْدُورِ وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْمُنْتَسِبِينَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى تَحْقِيقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ وَصِحَّةُ النِّسْبَةِ تَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمُنْتَسِبِينَ . فَلَمَّا

كَانَتْ صِحَّةُ اتِّصَافِ الْبَارِي بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْغَيْرِ حَاصِلَةً فِي الْأَزَلِ : لَزِمَ أَنْ يَكُونَ صِحَّةُ وُجُودِ الْمَقْدُورِ حَاصِلَةً فِي الْأَزَلِ فَهَذَا وِزَانُ مَا قُلْته سَوَاءً بِسَوَاءِ . وَحِينَئِذٍ فَإِنْ جَوَّزْت وُجُودَ أَحَدِ الْمُنْتَسِبِينَ وَهُوَ كَوْنُهُ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ مَعَ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْمَقْدُورِ فِي الْأَزَلِ فَجَوِّزْ أَحَدَ الْمُنْتَسِبِينَ وَهُوَ كَوْنُهُ قَابِلًا فِي الْأَزَلِ مَعَ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْمَقْبُولِ فِي الْأَزَلِ ؛ وَإِنْ لَمْ تُجَوِّزْ ذَلِكَ بَلْ لَا تَتَحَقَّقُ النِّسَبُ إلَّا مَعَ تَحْقِيقِ الْمُنْتَسِبِينَ جَمِيعًا ؛ لَزِمَ إمَّا تَحَقُّقُ إمْكَانِ الْمَقْدُورِ فِي الْأَزَلِ وَإِمَّا امْتِنَاعُ كَوْنِهِ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ وَأَيًّا مَا كَانَ : بَطَلَتْ حُجَّتُك سَوَاءٌ جَوَّزْت وُجُودَ أَحَدِ الْمُنْتَسِبِينَ مَعَ تَأَخُّرِ الْآخَرِ أَوْ جَوَّزْت وُجُودَ الْمَقْدُورِ فِي الْأَزَلِ أَوْ قُلْت إنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرِ فِي الْأَزَلِ . فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ لَا يَقُولُهُ لَكِنْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَحَدًا الْتَزَمَهُ وَقَالَ إنَّهُ يَصِيرُ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا ؛ كَمَا يَقُولُونَ إنَّهُ يَصِيرُ قَابِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا . قِيلَ لَهُ : كَوْنُهُ قَادِرًا إنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَجَبَ كَوْنُهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا وَامْتَنَعَ وُجُودُ الْمَلْزُومِ وَهُوَ الذَّاتُ بِدُونِ اللَّازِمِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ لَوَازِمَ الذَّاتِ كَانَتْ مِنْ عَوَارِضِهَا فَتَكُونُ الذَّاتُ قَابِلَةً لِكَوْنِهِ قَادِرًا وَكَانَتْ الذَّاتُ قَابِلَةً لِتِلْكَ الْقَابِلِيَّةِ . فَقَبُولُ كَوْنِهِ قَادِرًا إنْ كَانَ مِنْ اللَّوَازِمِ عَادَ الْمَقْصُودُ . وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَوَارِضِ افْتَقَرَ إلَى قَابِلِيَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ إمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الِانْتِهَاءُ إلَى قَادِرِيَّةٍ تَكُونُ مِنْ لَوَازِمَ الذَّاتِ .

الْجَوَابُ الثَّامِنُ (1) : أَنْ يُقَالَ : فَرْقُك بِأَنَّ وُجُودَ الْقَادِرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْدُورِ وَوُجُودُ الْقَابِلِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْبُولِ ؛ فَرْقٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَمْ تَذْكُرْ دَلِيلًا لَا عَلَى هَذَا وَلَا عَلَى هَذَا وَالنِّزَاعُ ثَابِتٌ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَادِرُ مُتَقَدِّمًا عَلَى إمْكَانِ وُجُودِ الْمَقْدُورِ بَلْ وَلَا يَجُوزُ ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ مَعَ قُدْرَةِ الْقَادِرِ . وَهَذَا كَمَا يَكُونُ الْمَقْدُورُ مَعَ الْقُدْرَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَإِنْ كَانَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ مَعَ الْقَادِرِ يُفَسَّرُ بِشَيْئَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمَقْدُورُ أَزَلِيًّا مَعَ الْقَادِرِ فِي الزَّمَانِ . فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْمِلَلِ وَجَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ . وَهُوَ الْقَدِيمُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَإِنَّمَا يَقُولُهُ شِرْذِمَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْفَلَكَ مَعَهُ بِالزَّمَانِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُ وَيَجْعَلُونَهُ مَعَ ذَلِكَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا . وَأَمَّا كَوْنُ الْمَقْدُورِ مُتَّصِلًا بِالْقَادِرِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ وَلَكِنَّهُ عَقِبُهُ ؛ فَهَذَا مِمَّا يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَيَقُولُونَ : الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يُوجَدُ أَثَرُهُ عَقِبَ تَأَثُّرِهِ . وَيَقُولُونَ : الْمُوجَبُ التَّامُّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مُوجَبِهِ عَقِبَهُ لَا مَعَهُ . فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " :

مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَثَرُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ ؛ فَلَا يَكُونُ الْمَقْدُورُ إلَّا مُتَرَاخِيًا عَنْ الْقَادِرِ وَالْأَثَرُ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْمُؤَثِّرِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ أَنْ يُقَارِنَهُ فِي الزَّمَانِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ . فَقَالُوا : إنَّ مَعْلُولَهَا يُقَارِنُهَا فِي الزَّمَانِ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَثَرَ يَتَّصِلُ بِالْمُؤَثِّرِ التَّامِّ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ وَلَا يُقَارِنُهُ فِي الزَّمَانِ فَالْقَادِرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْدُورِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ . وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : وُجُودُ الْقَادِرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْدُورِ قَالُوا : إنْ عَنَيْت بِالتَّقَدُّمِ الِانْفِصَالَ فَمَمْنُوعٌ ؛ وَإِنْ عَنَيْت عَدَمَ الْمُقَارَنَةِ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْمُقَارَنَةَ . وَذَلِكَ يَتَّضِحُ بِالْجَوَابِ التَّاسِعِ : وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُك أَمَّا وُجُوبُ وُجُودِ الْقَابِلِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْبُولِ : فَلَمْ تَذْكُرْ عَلَيْهِ دَلِيلًا . وَهِيَ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ سَالِبَةٌ ؛ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ . بَلْ الْمَقْبُولُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ ؛ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُقَارَنَ الْمَقْبُولُ لِلْقَابِلِ ؛ فَلَا يَتَقَدَّمُ الْقَابِلُ عَلَى الْمَقْبُولِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَحْدُثُ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ وَمَشِيئَتِهِ . فَهَذِهِ الْمَقْبُولَاتُ هِيَ مَقْدُورَةٌ لِلرَّبِّ وَهِيَ مَعَ كَوْنِهَا مَقْبُولَةً نَوْعٌ مِنْ

الْمَقْدُورَاتِ . وَأَنْتَ قَدْ قُلْت : إنَّ الْمَقْدُورَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْ وُجُودِ الْقَادِرِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَقْبُولَاتِ مَقْدُورٌ ؛ فَيَجِبُ عَلَى قَوْلِك أَنْ يَكُونَ الْقَابِلُ لِهَذِهِ : مُتَقَدِّمًا عَلَى وُجُودِ الْمَقْبُولِ . ثُمَّ التَّقَدُّمُ : إنْ عَنَيْت بِهِ مَعَ الِانْفِصَالِ وَالْبَيْنُونَةِ الزَّمَانِيَّةِ : فَفِيهِ نِزَاعٌ وَإِنْ عَنَيْت بِهِ الْمُتَقَدِّمَ - وَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ الْمَقْبُولُ مُتَّصِلًا بِالْقَادِرِ الْقَابِلِ مِنْ غَيْرِ بَرْزَخٍ بَيْنَهُمَا - فَهَذَا لَا يُنَازِعُك فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَجَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ ؛ بَلْ لَا يُنَازِعُك فِيهِ عَاقِلٌ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ فَإِنَّ الْمَقْدُورَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْقَادِرُ الْأَزَلِيُّ بِمَشِيئَتِهِ : يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا مَعَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ الْقَادِرُ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ قَاطِبَةً : عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَقْدُورًا مَفْعُولًا بِالِاخْتِيَارِ بَلْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا : لَمْ يَكُنْ إلَّا حَادِثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . ( الْجَوَابُ الْعَاشِرُ : أَنَّ وُجُودَ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إنْ كَانَ مُمْكِنًا كَانَتْ الذَّاتُ قَابِلَةً لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ قَابِلَةً لَهُ ؛ بَلْ وَإِنْ قِيلَ إنَّ الْقَبُولَ مِنْ لَوَازِمِهَا فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْمَقْبُولِ فَلَمْ تَزَلْ قَابِلَةً لِمَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ دُونَ مَا يَمْتَنِعُ . وَهَذَا هُوَ ( الْجَوَابُ الْحَادِيَ عَشَرَ : وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الذَّاتُ لَمْ تَزَلْ قَابِلَةً لَكِنَّ وُجُودَ الْمَقْبُولِ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِهِ ؛ فَلَمْ تَزَلْ قَابِلَةً لِمَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ لَا لِمَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ .

الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنْ يُقَالَ : عُمْدَةُ الْنُّفَاةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَابِلًا لَهَا فِي الْأَزَلِ : لَلَزِمَ وُجُودُهَا أَوْ إمْكَانَ وُجُودِهَا فِي الْأَزَلِ وَقَرَّرُوا ذَلِكَ فِي " الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ " بِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ . وَقَدْ نَازَعَهُمْ الْجُمْهُورُ فِي هَذِهِ " الْمُقَدِّمَةِ " وَنَازَعَهُمْ فِيهَا الرَّازِي والآمدي وَغَيْرُهُمَا . وَهُمْ يَقُولُونَ : كُلُّ جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ ؛ فَلِذَلِكَ عَدَلَ مَنْ عَدَلَ إلَى أَنْ يَقُولُوا : لَوْ كَانَ قَابِلًا لَهَا لَكَانَ قَبُولُهُ لَهَا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُفَسَّرَ : لَوْ كَانَ قَابِلًا لِلْحَوَادِثِ لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَادِثِ أَوْ مِنْ ضِدِّهِ . فَقَوْلُهُمْ : الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ : لَا يَخْلُو عَنْ ضِدِّهِ فَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ : إنَّ هَذَا يَخْتَصُّ بِهِ لَا بِمَا سِوَاهُ . وَقَدْ يُقَالُ : هُوَ عَامٌّ أَيْضًا . فَيَقُولُ لَهُمْ أَصْحَابُهُمْ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي حَقِّهِ مَنْقُوضٌ بِقَبُولِ سَائِرِ الْمَوْصُوفَاتِ بِمَا تَقْبَلُهُ فَإِنَّ قَبُولَهَا لِمَا تَقْبَلُهُ إنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهَا لَزِمَ أَنْ لَا تَزَالَ قَابِلَةً لَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَوَارِضِ الذَّاتِ فَهِيَ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ الْقَبُولِ . وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ إمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الِانْتِهَاءُ إلَى قَابِلِيَّةٍ تَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الذَّاتِ ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يَقْبَلُ شَيْئًا قَبُولُهُ لَهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ يَقْبَلُ صِفَاتٍ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ . وَجَوَابُ هَذَا : أَنَّ الْمَخْلُوقَ الَّذِي يَقْبَلُ بَعْضَ الصِّفَاتِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ

لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ تَغَيُّرًا أَوْجَبَ لَهُ قَبُولَ مَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَهُ كَالْإِنْسَانِ إذَا كَبُرَ حَصَلَ لَهُ مِنْ قَبُولِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ : مَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تَزَلْ ذَاتُهُ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ قَبِلَ مَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ . فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهُ لَهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ؛ إنْ ادَّعَوْا أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : هَذَا الْقَبُولُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ . وَيَقُولُونَ : لَا يَخْلُو الْجِسْمُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ وَيَكُونُ مَا ذَكَرُوهُ - مِنْ أَنَّ الْقَبُولَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِ الْقَابِلِ - دَلِيلًا لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَدْعُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْأَجْسَامُ تَتَغَيَّرُ فَتَقْبَلُ فِي حَالٍ مَا لَمْ تَكُنْ قَابِلَةً لَهُ فِي حَالَةٍ أُخْرَى وَلَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَقُولُوا الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : غَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ لَمْ تَزَلْ الْحَوَادِثُ قَائِمَةً بِهِ وَنَحْنُ نَلْتَزِمُ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ : ( بِالْوَجْهِ الثَّالِثَ عَشَرَ . وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : هَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْقَادِرِ ؛ فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرًا بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ . وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : الْمَطْلُوبُ بِالنَّهْيِ فِعْلٌ ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَقَالَ : إنَّ التَّرْكَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ ؛ هُوَ مَطْلُوبُ النَّاهِي الْقَادِرِ عَلَى الْأَضْدَادِ ؛ لَوْ أَمْكَنَ خُلُوُّهُ عَنْ

جَمِيعِ الْأَضْدَادِ لَكَانَ إذَا نَهَى عَنْ بَعْضِ الْأَضْدَادِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِشَيْءِ مِنْهَا ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ الضِّدَّ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْأَضْدَادِ . فَلَمَّا جَعَلُوهُ مَأْمُورًا بِبَعْضِهَا : عُلِمَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى أَحَدِ الضِّدَّيْنِ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الرَّبُّ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا : لَزِمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِشَيْءِ أَوْ لِضِدِّهِ ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا وَإِذَا أَمْكَنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِلْحَوَادِثِ أَمْكَنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَابِلًا لَهَا . وَيُمْكِنُ أَنْ يُذْكَرَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبَلُ النِّزَاعَ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ : فَيُقَالُ : إنْ كَانَ الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ فَالْقَادِرُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ ؛ لِأَنَّ الْقَادِرَ قَابِلٌ لِفِعْلِ الْمَقْدُورِ وَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْقَابِلِ لِلْحَوَادِثِ يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ وُجُودِهَا فِي الْأَزَلِ فَقُدْرَةُ الْقَادِرِ أَزَلِيَّةٌ عَلَى فِعْلِ الْحَوَادِثِ يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ وُجُودِهَا فِي الْأَزَلِ ؛ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا مَعَ امْتِنَاعِ الْمَقْدُورِ : أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا مَعَ امْتِنَاعِ الْمَقْبُولِ . وَإِنْ قِيلَ : قَبُولُهُ لَهَا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ : قِيلَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهَا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ . وَحِينَئِذٍ : فَإِنْ كَانَ دَوَامُ الْحَوَادِثِ مُمْكِنًا : أَمْكَنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَيْهَا قَابِلًا لَهَا ؛ وَإِنْ كَانَ دَوَامُهَا لَيْسَ بِمُمْكِنِ : فَقَدْ صَارَ قَبُولُهُ لَهَا وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهَا مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . فَإِنْ كَانَ هَذَا جَائِزًا جَازَ هَذَا وَإِنْ كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا وَعَادَ الْأَمْرُ فِي " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " إلَى نَفْسِ الْقُدْرَةِ عَلَى دَوَامِ الْحَوَادِثِ وَهُوَ "

الْأَصْلُ الْمَشْهُورُ " فَمَنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَفْعَلَ بِمَشِيئَتِهِ : جَوَّزَ ذَلِكَ وَالْتَزَمَ إمْكَانَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . فَكَانَ مَا احْتَجَّ بِهِ أَئِمَّةُ " الْفَلَاسِفَةِ " عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ : لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ ؛ بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أُصُولِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْمُعْتَنِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَانَ غَايَةُ تَحْقِيقِ مَعْقُولَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة يُوَافِقُ وَيُعِينُ وَيَخْدِمُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ - بَلْ قَالَ بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ - لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَرْقٌ بَيْنَ قَبُولِهِ لَهَا وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا . وَكَانَ قَوْلُ الَّذِينَ قَالُوا - مِنْ هَؤُلَاءِ - بِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ : كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِهِ أَقْرَبَ إلَى الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ أَوْ إنَّهُ يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ قَدِيمٌ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمْكِنَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِقُدْرَتِهِ أَوْ مَشِيئَتِهِ . وَكُلُّ قَوْلٍ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ : فَإِنَّهُ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

فَصْلٌ :
قَالَ الرَّازِي : " الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ " قِصَّةُ الْخَلِيلِ : { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } وَالْأُفُولُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّغَيُّرِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا يَكُونُ إلَهًا أَصْلًا . وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأُفُولَ هُوَ التَّغَيُّرُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةً ؛ بَلْ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا مُجَرَّدَ الدَّعْوَى .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا خِلَافَ إجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ ؛ بَلْ هُوَ خِلَافُ مَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الدِّينِ ؛ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ لِلُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ . فَإِنَّ " الْأُفُولَ " هُوَ الْمَغِيبُ . يُقَالُ : أَفَلَتْ الشَّمْسُ تَأْفُلُ وَتَأْفِلُ أُفُولًا إذَا غَابَتْ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ إنَّهُ هُوَ التَّغَيُّرُ وَلَا إنَّ الشَّمْسَ إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهَا يُقَالُ إنَّهَا أَفَلَتْ وَلَا إذَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً فِي السَّمَاءِ يُقَالُ إنَّهَا أَفَلَتْ وَلَا أَنَّ الرِّيحَ إذَا هَبَّتْ يُقَالُ إنَّهَا أَفَلَتْ وَلَا أَنَّ الْمَاءَ إذَا جَرَى يُقَالُ إنَّهُ أَفَلَ وَلَا أَنَّ الشَّجَرَ إذَا تَحَرَّكَ يُقَالُ إنَّهُ أَفَلَ وَلَا أَنَّ الْآدَمِيِّينَ إذَا تَكَلَّمُوا أَوْ مَشَوْا وَعَمِلُوا أَعْمَالَهُمْ يُقَالُ إنَّهُمْ أَفَلُوا ؛ بَلْ وَلَا قَالَ أَحَدٌ قَطُّ إنَّ مَنْ مَرِضَ أَوْ اصْفَرَّ وَجْهُهُ أَوْ احْمَرَّ يُقَالُ إنَّهُ أَفَلَ . فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَعَلَى خَلِيلِ اللَّهِ وَعَلَى

كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَلِّغِ عَنْ اللَّهِ وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ جَمِيعًا وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَعَلَى جَمِيعِ مَنْ يَعْرِفُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ قِصَّةَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى كَوْكَبًا وَتَحَرَّكَ إلَى الْغُرُوبِ فَقَدْ تَحَرَّكَ ؛ وَلَمْ يَجْعَلْهُ آفِلًا وَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا رَآهُ مُتَحَرِّكًا ؛ وَلَمْ يَجْعَلْهُ آفِلًا ؛ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً عَلِمَ أَنَّهَا مُتَحَرِّكَةً ؛ وَلَمْ يَجْعَلْهَا آفِلَةً وَلَمَّا تَحَرَّكَتْ إلَى أَنْ غَابَتْ وَالْقَمَرَ إلَى أَنْ غَابَ لَمْ يَجْعَلْهُ آفِلًا .
الرَّابِعُ : قَوْلُهُ : إنَّ الْأُفُولَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّغَيُّرِ ؛ إنْ أَرَادَ بِالتَّغَيُّرِ الِاسْتِحَالَةَ : فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ لَمْ تَسْتَحِلْ بِالْمَغِيبِ ؛ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّحَرُّكَ : فَهُوَ لَا يَزَالُ مُتَحَرِّكًا . وَقَوْلُهُ : { فَلَمَّا أَفَلَ } دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَأْفُلُ تَارَةً وَلَا يَأْفُلُ أُخْرَى . فَإِنَّ ( لَمَّا ظَرْفٌ يُقَيِّدُ هَذَا الْفِعْلَ بِزَمَانِ هَذَا الْفِعْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حِينَ أَفَلَ { قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ أُفُولِهِ . وَقَوْلُهُ : { فَلَمَّا أَفَلَ } دَلَّ عَلَى حُدُوثِ الْأُفُولِ وَتَجَدُّدِهِ ؛ وَالْحَرَكَةُ لَازِمَةٌ لَهُ ؛ فَلَيْسَ الْأُفُولُ هُوَ الْحَرَكَةُ وَلَفْظُ التَّغَيُّرِ وَالتَّحَرُّكِ مُجْمَلٌ . إنْ أُرِيدَ بِهِ التَّحَرُّكَ أَوْ حُلُولَ الْحَوَادِثِ : فَلَيْسَ هُوَ مَعْنَى التَّغَيُّرِ فِي اللُّغَةِ وَلَيْسَ الْأُفُولُ هُوَ التَّحَرُّكُ وَلَا التَّحَرُّكُ هُوَ التَّغَيُّرُ ؛ بَلْ الْأُفُولُ أَخَصُّ مِنْ التَّحَرُّكِ وَالتَّغَيُّرُ أَخَصُّ مِنْ التَّحَرُّكِ . وَبَيْنَ التَّغَيُّرِ وَالْأُفُولِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ . فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُتَغَيِّرًا غَيْرَ

آفِلٍ وَقَدْ يَكُونُ آفِلًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَقَدْ يَكُونُ مُتَحَرِّكًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَمُتَحَرِّكًا غَيْرَ آفِلٍ . وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ أَخَصَّ مِنْ التَّحَرُّكِ عَلَى أَحَدِ الِاصْطِلَاحَيْنِ : فَإِنَّ لَفْظَ الْحَرَكَةِ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْحَرَكَةُ الْمَكَانِيَّةُ وَهَذِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ التَّغَيُّرَ . وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَالْحَرَكَةِ فِي الْكَيْفِ وَالْكَمِّ ؛ مِثْلُ حَرَكَةِ النَّبَاتِ بِالنُّمُوِّ وَحَرَكَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ بِالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالذِّكْرِ . فَهَذِهِ الْحَرَكَةُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّغَيُّرِ وَقَدْ يُرَادُ بِالتَّغَيُّرِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الِاسْتِحَالَةُ . فَفِي الْجُمْلَةِ : الِاحْتِجَاجُ بِلَفْظِ التَّغَيُّرِ إنْ كَانَ سَمْعِيًّا فَالْأُفُولُ لَيْسَ هُوَ التَّغَيُّرَ ؛ وَإِنْ كَانَ عَقْلِيًّا . فَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّغَيُّرِ - الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَى الرَّبِّ - مَحَلُّ النِّزَاعِ : لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَوَاقِعُ الْإِجْمَاعِ فَلَا مُنَازَعَةَ فِيهِ . وَأَفْسَدُ مِنْ هَذَا : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الْأُفُولُ هُوَ الْإِمْكَانُ كَمَا قَالَهُ " ابْنُ سِينَا " إنَّ الْهُوِيَّ فِي حَضِيرَةِ الْإِمْكَانِ أُفُولٌ بِوَجْهِ مَا ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ آفِلًا وَلَا يَزَالُ آفِلًا فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَلَا يَزَالُ مُمْكِنًا . وَيَكُونُ الْأُفُولُ وَصْفًا لَازِمًا لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ ؛ كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ مُمْكِنًا وَفَقِيرًا إلَى اللَّهِ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ . وَحِينَئِذٍ : فَتَكُونُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ : لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ آفِلَةً

وَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَزَالُ آفِلًا . فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ مَعَ ذَلِكَ : { فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } ؟ وَعَلَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمُحَرِّفِينَ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ : هُوَ آفِلٌ قَبْلَ أَنْ يَبْزُغَ وَمِنْ حِينِ بَزَغَ وَإِلَى أَنْ غَابَ . وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى فِي الْعَالَمِ آفِلٌ وَالْقُرْآنُ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمَّا رَآهَا بَازِغَةً قَالَ : { هَذَا رَبِّي } فَلَمَّا أَفَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ . قَالَ : { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
فَصْلٌ : فِيهِ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ
" وَهِيَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُبْطِلُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ ؛ لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُبْطِلِ " . وَهَذَا ظَاهِرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ الصَّحِيحَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى حَقٍّ لَا عَلَى بَاطِلٍ . يَبْقَى الْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْأَدِلَّةِ وَبَيَانِ انْتِفَاءِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْبَاطِلِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى الْحَقِّ : هُوَ تَفْصِيلُ هَذَا الْإِجْمَالِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ : أَنَّ نَفْسَ الدَّلِيلِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ الْمُبْطِلُ هُوَ بِعَيْنِهِ إذَا أَعْطَى حَقَّهُ وَتَمَيَّزَ مَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَبَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُبْطِلِ الْمُحْتَجِّ بِهِ فِي نَفْسِ مَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا عَجِيبٌ قَدْ تَأَمَّلْته فِيمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ فَوَجَدْته كَذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ " الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ " الَّتِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا فِي الْأُصُولِ وَالْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ هِيَ كَذَلِكَ . فَأَمَّا " الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ " فَقَدْ ذَكَرْت مِنْ هَذَا

أُمُورًا مُتَعَدِّدَةً مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةُ وَغَيْرُهُمْ مِثْلُ احْتِجَاجِ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ بِقَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِمْ وَتَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة يَتَضَمَّنُ الْكَلَامَ عَلَى تَأْسِيسِ أُصُولِهِمْ الَّتِي جَمَعَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي فِي مُصَنَّفِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " تَأْسِيسَ التَّقْدِيسِ " ؛ فَإِنَّهُ جَمَعَ فِيهِ عَامَّةَ حُجَجِهِمْ وَلَمْ أَرَ لَهُمْ مِثْلَهُ . وَكَذَلِكَ احْتِجَاجَهُمْ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ بِقَوْلِهِ : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَنَفْيِ الْإِحَاطَةِ . وَكَذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُ الشِّيعَةِ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } وَبِقَوْلِهِ : " { أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ } " وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى نَقِيضِ مَذْهَبِهِمْ كَمَا بُسِطَ هَذَا فِي كِتَابِ " مِنْهَاجِ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ " فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ . وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا " الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ " ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ يَعْرِفُ أَنَّ السَّمْعِيَّاتِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ . وَأَمَّا الرَّافِضَةُ فَعُمْدَتُهُمْ السَّمْعِيَّاتُ لَكِنْ كَذَّبُوا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً جِدًّا رَاجَ كَثِيرٌ مِنْهَا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ " وَرَوَى خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهَا أَحَادِيثَ حَتَّى عَسُرَ تَمْيِيزُ الصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ إلَّا عَلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْعَارِفِينَ بِعِلَلِهِ مَتْنًا وَسَنَدًا .

كَمَا أَنَّ الْجَهْمِيَّة أَتَوْا بِحُجَجِ عَقْلِيَّةٍ اشْتَبَهَتْ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ وَرَاجَتْ عَلَيْهِمْ إلَّا عَلَى قَلِيلٍ مِمَّنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِذَلِكَ . وَالْكَلَامُ عَلَى أَحَادِيثِ الرَّافِضَةِ وَبَيَانِ الْفَرْقَانِ بَيْنَ الْحَدِيثِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَالرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى " الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ " الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْمُبْطِلُ مِنْ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ وَمِنْ الْمُمَثِّلَةِ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَهُ بِخَلْقِهِ وَعَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْقَدَرِيَّةُ النَّافِيَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُجْبِرَةُ الْجَهْمِيَّة ؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ ( الْأَصْلَيْنِ : وَهُمَا " الصِّفَاتُ " وَ " الْقَدَرُ " - وَيُسَمَّيَانِ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ - هُمَا أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مَا تُكُلِّمَ فِيهِ فِي الْأُصُولِ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِمَا أَعَمُّ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ فِيهِمَا أَنْفَعُ مِنْ غَيْرِهِمَا بَلْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ الْكَلَامِ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَقْوَالِهِ فِي " مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ " وَفِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ " . فَنَقُولُ : إذَا تَدَبَّرَ الْخَبِيرُ مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ - كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ - لَمْ تُوجَدْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَدُلُّ إلَّا عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .

وَكَذَلِكَ إذْ تَدَبَّرَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ . إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . أَمَّا ( الْأَوَّلُ : فَلِأَنَّ عُمْدَةَ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْكَلَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ حُجَّتَانِ عَلَيْهِمَا اعْتِمَادُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالِهِمَا وَهَذِهِ هِيَ عُمْدَةُ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ ؛ والقلانسي وَأَمْثَالِهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ . وَهِيَ عُمْدَةُ مَنْ لَا يَعْتَمِدُ فِي الْأُصُولِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا إلَّا عَلَى الْعَقْلِيَّاتِ : كَأَبِي الْمَعَالِي وَمُتَّبِعِيهِ . الْحُجَّةُ الْأُولَى : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ قَدِيمًا لَلَزِمَ أَنْ يَتَّصِفَ فِي الْأَزَلِ بِضِدِّ مِنْ أَضْدَادِهِ : إمَّا السُّكُوتُ وَإِمَّا الْخَرَسُ وَلَوْ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ قَدِيمًا لَامْتَنَعَ زَوَالُهُ وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا فِيمَا لَا يَزَالُ وَلَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ فِيمَا لَمْ يَزَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَأَيْضًا فَالْخَرَسُ آفَةٌ يُنَزَّهُ اللَّهُ عَنْهَا . وَ الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ قَدْ خَلَقَهُ إمَّا فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَ الْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَ الثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِلْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ وَ الثَّالِثُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةٌ وَالصِّفَةُ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا . فَلَمَّا بَطَلَتْ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ تَعَيَّنَ أَنَّهُ قَدِيمٌ . فَيُقَالُ : أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا

إذَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَوْعَ الْكَلَامِ قَدِيمٌ لَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّ الْكَلَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ قَدِيمٌ . وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُ " الْفَلَاسِفَةِ " الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ عَلَى قِدَمِ الْفَاعِلِيَّةِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ احْتَجُّوا عَلَى قِدَمِ مَفْعُولِهِ الْمُعَيَّنِ - وَهُوَ الْفَلَكُ - وَاَلَّذِينَ احْتَجُّوا عَلَى قِدَمِ كَلَامِهِ الْمُعَيَّنِ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ دَلِيلٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الْمُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ " الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ " الصَّحِيحَةَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَتَحْقِيقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَا عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ وَهِيَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } وَهِيَ مِنْ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ أَدِلَّةُ " الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة " وَغَيْرِهِمَا كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ إذْ " الْمَقْصُودُ هُنَا " الْكَلَامُ عَلَى مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النُّظَّارِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ كُلُّ طَائِفَةٍ تُقَابِلُ الْأُخْرَى بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَعَ هَؤُلَاءِ تَارَةً وَمَعَ الْأُخْرَى تَارَةً : كَالْغَزَالِيِّ وَالرَّازِي والآمدي وَنَحْوِهِمْ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ دَلَالَةِ " الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ " عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَنَقُولُ : - أَمَّا ( الْحُجَّةُ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُمْ : لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزَلِ لَكَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّهِ إمَّا السُّكُوتُ وَإِمَّا الْخَرَسُ ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ وَالْحَيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا كَانَ

سَاكِتًا أَوْ أَخْرَسَ كَمَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ سَمِيعًا كَانَ أَصَمَّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا كَانَ أَعْمَى وَلِأَنَّ ذَاتَه قَابِلَةٌ لِلْكَلَامِ وَالْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ هَكَذَا يَحْتَجُّونَ لَهُ . وَقَدْ نُوزِعُوا فِي ذَلِكَ وَخَالَفَهُمْ الْعُقَلَاءُ حَتَّى أَصْحَابُهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ : مِثْلُ الرَّازِي والآمدي ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ ادَّعَوْا أَنَّ الْجِسْمَ لَمَّا كَانَ قَابِلًا لِلْأَعْرَاضِ لَمْ يَخْلُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ مِنْ بَعْضِهَا وَقَالُوا : إنَّ الْهَوَاءَ لَهُ طَعْمٌ وَلَوْنٌ وَرِيحٌ فَخَالَفَهُمْ الْجُمْهُورُ . لَكِنْ تَقْرِيرُ " الْحُجَّةِ " بِأَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى إذَا كَانَ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِشَيْءِ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ ؛ أَوْ مِنْ ضِدِّهِ . أَوْ يُقَالَ : بِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِصِفَةِ كَمَالٍ لَزِمَ وُجُودُهَا لَهُ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ الرَّبُّ قَابِلًا لَهُ لَمْ يَتَوَقَّفْ وُجُودُهُ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يَجْعَلُهُ لَا مُتَّصِفًا وَلَا فَاعِلًا ؛ بَلْ ذَاتُهُ وَحْدَهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِمَا كَانَ قَابِلًا لَهُ وَإِذَا كَانَتْ ذَاتُهُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِمَا هُوَ قَابِلٌ لَهُ وَذَاتُهُ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ كَانَ الْمَقْبُولُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَهُ وَهُوَ إذَا قَدَّرَ أَنَّهُ قَابِلٌ لِلضِّدَّيْنِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا لَكَانَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا لَهُ مُتَوَقِّفًا عَلَى سَبَبٍ غَيْرِ ذَاتِهِ ؛ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُ قَابِلٌ لَهُ وَوُجُودُ الْمَقْبُولِ لَهُ مُمْكِنٌ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِدًا لَهُ وَلَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ مُوجِبَةً لَهُ وَإِلَّا امْتَنَعَ وَجُودُهُ ؛ فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يَجْعَلُهُ مَوْجُودًا لَهُ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ - لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ - كَانَ مُمْتَنِعًا وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ ؛ فَمَا كَانَ مُمْكِنًا لَهُ كَانَ وَاجِبًا لَهُ .

فَإِذَا قَرَّرْت " الْحُجَّةَ " عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يُحْتَجْ أَنْ يُقَالَ : كُلُّ قَابِلٍ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى الْكُلِّيَّةَ بَاطِلَةٌ ؛ بَلْ يَدَّعِي ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ خَاصَّةً ؛ لِمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ غَيْرَهُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلشَّيْءِ كَانَ وُجُودُ الْقَبُولِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِحْدَاثُ اللَّهِ لِذَلِكَ الْقَبُولِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْقَابِلِ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى شُرُوطٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ وَعَلَى مَوَانِعَ يُزِيلُهَا فَوُجُودُ الْقَبُولِ هُنَا لَيْسَ مِنْهُ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ ؛ فَلَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ كَافِيَةً فِيهِ وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى فَلَا يَفْتَقِرُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ ؛ بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الْمُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ مَصْنُوعٌ لَهُ ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ " الدَّوْرُ الْقِبْلِيُّ " الْمُمْتَنِعُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى " قِدَمِ الْكَلَامِ " وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا ؛ وَهِيَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى قِدَمِ جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَنَّ ذَاتَه الْقَدِيمَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْمُمْكِنَةِ فَكُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ فَإِنَّ الرَّبَّ يَتَّصِفُ بِهَا وَاتِّصَافُهُ بِهَا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَذَاتُهُ هِيَ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَاجَ فِي ثُبُوتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ إلَى غَيْرِهِ وَالْكَلَامُ صِفَةُ كَمَالٍ ؛ فَإِنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ وَيَقْدِرُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَقْدِرُ وَاَلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَكْمَلُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْقُولًا . وَيُمْكِنُ تَقْرِيرُهَا عَلَى أُصُولِ السَّلَفِ بِأَنْ يُقَالَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى

الْكَلَامِ أَوْ غَيْرَ قَادِرٍ ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فَهُوَ الْأَخْرَسُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَهُوَ السَّاكِتُ . وَأَمَّا " الْكُلَّابِيَة " فَالْكَلَامُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمَقْدُورِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَذِهِ . فَيُقَالُ : هَذِهِ قَدْ دَلَّتْ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ لَكِنْ مَدْلُولُهَا قِدَمُ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ؟ أَمْ مَدْلُولُهَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؟ وَ ( الْأَوَّلُ قَوْلُ الْكُلَّابِيَة وَ ( الثَّانِي قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ . فَيُقَالُ : مَدْلُولُهَا ( الثَّانِي ؛ لَا ( الْأَوَّلُ لِأَنَّ إثْبَاتَ كَلَامٍ يَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا مَعْلُومٍ وَالْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ . فَيُقَالُ لِلْمُحْتَجِّ بِهَا لَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ يَتَصَوَّرُ كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَيْفَ تَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ شَيْئًا لَا يَعْقِلُ . وَأَيْضًا فَقَوْلُك " لَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْكَلَامِ لَاتَّصَفَ بِالْخَرَسِ وَالسُّكُوتِ " . إنَّمَا يَعْقِلُ فِي الْكَلَامِ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ إذَا فَقَدَهَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَهُوَ السَّاكِتُ . وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَخْرَسُ . وَأَمَّا مَا يَدْعُونَهُ مِنْ " الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ " فَذَاكَ لَا يُعْقَلُ أَنَّ مَنْ خَلَا عَنْهُ كَانَ سَاكِتًا أَوْ أَخْرَسَ فَلَا يَدُلُّ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ عَلَى أَنَّ الْخَالِيَ عَنْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَاكِتًا أَوْ أَخْرَسَ .

وَأَيْضًا : فَالْكَلَامُ الْقَدِيمُ " النَّفْسَانِيُّ " الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ لَمْ تُثْبِتُوا مَا هُوَ ؟ بَلْ وَلَا تَصَوَّرْتُمُوهُ وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ فَرْعُ تَصَوُّرِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يُثْبِتُهُ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَهُ ؟ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ كُلَّابٍ - رَأْسُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَإِمَامُهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - لَا يَذْكُرُ فِي بَيَانِهَا شَيْئًا يُعْقَلُ بَلْ يَقُولُ : هُوَ مَعْنًى يُنَاقِضُ السُّكُوتَ وَالْخَرَسَ . وَالسُّكُوتُ وَالْخَرَسُ إنَّمَا يُتَصَوَّرَانِ إذَا تُصَوِّرُ الْكَلَامُ ؛ فَالسَّاكِتُ هُوَ السَّاكِتُ عَنْ الْكَلَامِ وَالْأَخْرَسُ هُوَ الْعَاجِزُ عَنْهُ أَوْ الَّذِي حَصَلَتْ لَهُ آفَةٌ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ تَمْنَعُهُ عَنْ الْكَلَامِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَعْرِفُ السَّاكِتَ وَالْأَخْرَسَ حَتَّى يَعْرِفَ الْكَلَامَ وَلَا يَعْرِفُ الْكَلَامَ حَتَّى يَعْرِفَ السَّاكِتَ وَالْأَخْرَسَ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَصَوَّرُوا مَا قَالُوهُ وَلَمْ يُثْبِتُوهُ ؛ بَلْ هُمْ فِي الْكَلَامِ يُشْبِهُونَ النَّصَارَى فِي الْكَلِمَةِ وَمَا قَالُوهُ فِي " الْأَقَانِيمِ " وَ التَّثْلِيثِ " وَالِاتِّحَادِ " فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَتَصَوَّرُونَهُ وَلَا يُبَيِّنُونَهُ وَ " الرُّسُلُ " عَلَيْهِمْ السَّلَامُ إذَا أَخْبَرُوا بِشَيْءِ وَلَمْ نَتَصَوَّرْهُ وَجَبَ تَصْدِيقُهُمْ . وَأَمَّا مَا يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ الْقَائِلُ بِهِ وَإِلَّا كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ فَالنَّصَارَى تَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ ؛ فَكَانَ كَلَامُهُمْ مُتَنَاقِضًا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ قَوْلٌ مَعْقُولٌ ؛ كَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي كَلَامِ اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ كَانَ كَلَامُهُ مُتَنَاقِضًا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ قَوْلٌ يُعْقَلُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِمَّا يُشَنَّعُ بِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْكَلَامِ - كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ جَمِيعِ الْخَلْقِ - بِقَوْلِ شَاعِرٍ نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ الْأَخْطَلُ :
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا * * * جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا

وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ : إنَّ هَذَا لَيْسَ مَنْ شِعْرِهِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ شِعْرِهِ فَالْحَقَائِقُ الْعَقْلِيَّةُ أَوْ مُسَمَّى لَفْظِ الْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ جَمِيعُ بَنِي آدَمَ لَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ أَلْفِ شَاعِرٍ فَاضِلٍ دَعْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا نَصْرَانِيًّا اسْمُهُ الْأَخْطَلُ وَالنَّصَارَى قَدْ عُرِفَ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي كَلِمَةِ اللَّهِ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ وَالْخَطَلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْخَطَأُ فِي الْكَلَامِ وَقَدْ أَنْشَدَ فِيهِمْ الْمُنْشِدُ :
قُبْحًا لِمَنْ نَبَذَ الْقُرْآنَ وَرَاءَهُ * * * فَإِذَا اسْتَدَلَّ يَقُولُ قَالَ الْأَخْطَلُ
وَلَمَّا احْتَجَّ الْكُلَّابِيَة بِهَذِهِ الْحُجَّةِ عَارَضَتْهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا : الْكَلَامُ عِنْدَنَا كَالْفِعْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ وَهُوَ فِي الْأَزَلِ عِنْدَنَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا ثُمَّ صَارَ فَاعِلًا وَلَا نَقُولُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ : كَانَ فِي الْأَزَلِ عَاجِزًا أَوْ سَاكِتًا فَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا وَلَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْفِعْلِ وَهُوَ الْعَجْزُ أَوْ السُّكُوتُ فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْكَلَامِ وَهُوَ السُّكُوتُ أَوْ الْخَرَسُ . فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة : الْفِعْلُ لَا يَقُومُ بِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ وَالْكَلَامُ يَقُومُ بِهِ فَكَانَ كَالصِّفَاتِ مَنَعَتْهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ وَقَالُوا : الْكَلَامُ عِنْدَنَا كَالْفِعْلِ لَا يَقُومُ بِهِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَإِذَا قَالُوا : لَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْكَلَامُ لَقَامَ بِغَيْرِهِ وَكَانَ الْكَلَامُ صِفَةً لِذَلِكَ الْغَيْرِ انْتَقَلُوا إلَى " الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ " وَلَمْ يُمْكِنْ تَقْرِيرُ الْأُولَى إلَّا بِالثَّانِيَةِ ؛ فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأُولَى وَجَعْلُهَا " حُجَّةً ثَانِيَةً " بَاطِلًا ؛ وَلِهَذَا أَعْرَضَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ وَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا عَلَى " الثَّانِيَةِ " كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ .

وَهَذَا السُّؤَالُ لَا يَلْزَمُ السَّلَفَ ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا ؛ الْكَلَامُ كَالْفِعْلِ وَهُوَ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَا عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَكُمْ مَنَعَهُمْ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ هَذَا وَقَالُوا : بَلْ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا فَاعِلًا كَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ ابْنِ خُزَيْمَة مِمَّا كَتَبُوهُ لَهُ وَكَانُوا " كلابية " فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ أَوْ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَبِهَذَا تَسْتَقِيمُ لَهُمْ هَذِهِ الْحُجَّةُ وَإِلَّا فَمَنْ سَلَّمَ أَنَّهُ صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ مُنْتَقِضَةً عَلَى أَصْلِهِ وَقَالَ مُنَازِعُوهُ : الْكَلَامُ فِي مَقَالِهِ كَالْكَلَامِ فِي فِعَالِهِ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَأَنَّهُ فِعْلٌ يَقُومُ بِالرَّبِّ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ : هُوَ قَوْلُ " الْحَنَفِيَّةِ " وَأَكْثَرِ " الْحَنْبَلِيَّةِ " وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَخِيرًا وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ البغوي عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الكلاباذي عَنْ " الصُّوفِيَّةِ " وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفِ لِمَذْهَبِ التَّصَوُّفِ " وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " أَفْعَالِ الْعِبَادِ " إجْمَاعًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ . لَكِنَّ الْفِعْلَ : هَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ قَدِيمٌ كَالْإِرَادَةِ ؟ أَوْ هُوَ حَادِثٌ بِذَاتِهِ ؟ أَوْ هُوَ نَوْعٌ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهِ . ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ كَمَا تَوَاتَرَ ذَلِكَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَعَ اللَّهِ شَيْئًا قَدِيمًا تَقَدَّمَهُ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ - بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ .

فَإِنْ قِيلَ : إذَا قُلْتُمْ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ لَزِمَ وُجُودُ كَلَامٍ لَا ابْتِدَاءَ لَهُ وَإِذَا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَجَبَ أَنْ لَا يَزَالَ كَذَلِكَ ؛ فَيَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْحَوَادِثِ فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِأُخْرَى فَهِيَ حَادِثَةٌ وَوُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى مُحَالٌ . قِيلَ لَهُ : هَذَا الِاسْتِلْزَامُ حَقٌّ وَبِذَلِكَ يَقُولُونَ : إنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : وُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْحَوَادِثِ مُحَالٌ فَهَذَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلِهِمْ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ وَحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَهُوَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَهَذَا الدَّلِيلُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَهُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَهُوَ أَصْلُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ وَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ فِي مَوَاضِعَ . وَلَكِنْ سَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ إذَا مُيِّزَ بَيْنَ حَقِّهِ وَبَاطِلِهِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَا سِوَى اللَّهِ - وَعَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ - وَكَانَ غَلْطَةً مِنْهُمْ وَقَوْلُهُمْ : كُلُّ مَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ - أَيْ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ - فَهُوَ حَادِثٌ فَأَخَذُوا هَذَا " قَضِيَّةً كُلِّيَّةً " وَقَاسُوا فِيهَا الْخَالِقَ عَلَى الْمَخْلُوقِ قِيَاسًا فَاسِدًا كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ قَالُوا : الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ أَخَذُوهَا " قَضِيَّةً كُلِّيَّةً " . وَالْغَلَطُ فِي " الْقِيَاسِ " يَقَعُ مِنْ تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِخِلَافِهِ وَأَخْذِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ نَوْعَيْهَا فَهَذَا هُوَ " الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ "

كَقِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَقِيَاسُ إبْلِيسَ . وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا بَعْضُ السَّلَفِ : أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ يَعْنِي : قِيَاسَ مَنْ يُعَارِضُ النَّصَّ وَمَنْ قَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا وَكُلُّ قِيَاسٍ عَارَضَ النَّصَّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فَاسِدًا وَأَمَّا الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ فَهُوَ مِنْ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ قَطُّ بَلْ مُوَافِقًا لَهُ . وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَيْضًا : أَنَّ مَا عِنْدَ الْمُتَفَلْسِفَةِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ فِي " قِدَمِ الْعَالَمِ " عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنْ يَصِيرَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا وَجَمِيعُ مَا احْتَجُّوا بِهِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ نَوْعِ الْفِعْلِ ؛ لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ لَا فَلَكَ وَلَا غَيْرَهُ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّ الْفِعْلَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ - كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ - كَانَ هَذَا قَوْلًا بِمُوجَبِ جَمِيعِ أَدِلَّتِهِمْ الصَّحِيحَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَكَانَ هَذَا مُوَافِقًا لِقَوْلِ السَّلَفِ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . فَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ . وَجَمِيعُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ والسالمية وَغَيْرُهُمْ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ كَلَامٍ بِلَا مَشِيئَةٍ وَلَا عَلَى قِدَمِ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ بَلْ عَلَى قِدَمِ نَوْعِ الْكَلَامِ .

وَجَمِيعُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْفَلَاسِفَةُ عَلَى قِدَمِ الْفَاعِلِيَّةُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ ؛ لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ وَلَا مَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ ؛ لَا الْفَلَكُ وَلَا غَيْرُهُ . وَالْغَلَطُ إنَّمَا نَشَأَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ اشْتِبَاهِ النَّوْعِ الدَّائِمِ بِالْعَيْنِ الْمُعَيَّنَةِ ثُمَّ إنَّ أُولَئِكَ قَالُوا : يَمْتَنِعُ قِدَمُ نَوْعِ الْحَرَكَةِ وَالْفِعْلِ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا ؛ فَأَبْطَلُوا كَوْنَ الرَّبِّ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَزَلْ فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ ؛ بَلْ يَلْزَمُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ صَارَ قَادِرًا وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : صَارَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ : كالكَرَّامِيَة ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَمْ يَصِرْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ بِمَشِيئَتِهِ قَطُّ وَهُمْ الْكُلَّابِيَة ؛ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية . وَأَمَّا " الْفَلَاسِفَةُ " فَقَالُوا مَا قَالَهُ مُقَدِّمُهُمْ أَرِسْطُو . فَكُلُّ مَنْ قَالَ : إنَّ " جِنْسَ الْحَرَكَةِ " حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَإِنَّهُ مُكَابِرٌ لِعَقْلِهِ وَقَالُوا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي جِنْسِ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَالْعَلَمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ . فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ هَذَا النَّوْعُ مَوْجُودًا لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ عَيْنِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الزَّمَانِ وَالْجِسْمِ ؛ فَإِنَّ أَدِلَّتَهُمْ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا : حَرَكَةً وَقَدْرَهَا وَهُوَ الزَّمَانُ ؛ وَفَاعِلُهَا هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْجِسْمَ ؛ لَكِنْ لَا يَقْتَضِي قِدَمَ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ ؛ كَانَ نَوْعُ الْفِعْلِ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا وَقَدْرُهُ وَهُوَ الزَّمَانُ مَوْجُودًا ؛ لَكِنَّ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعَهُ غَلِطُوا حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُ لَا زَمَانَ إلَّا قَدْرَ حَرَكَةِ الْفَلَكِ وَأَنَّهُ لَا حَرَكَةَ فَوْقَ الْفَلَكِ وَلَا قَبْلَهُ ؛ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهُ أَزَلِيَّةً .

وَهَذَا ضَلَالٌ مِنْهُمْ عَقْلًا وَشَرْعًا . فَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ حَرَكَةٍ فَوْقَ الْفَلَكِ وَقَبْلَ الْفَلَكِ وَدَلِيلُهُمْ عَلَى انْشِقَاقِ الْفَلَكِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : إنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ حَرَكَةٍ مِنْ مُحَرِّكٍ غَيْرِ مُتَحَرِّكٍ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ خُلَاصَةَ مَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقَالُ : إنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْمَعْقُولَاتِ مِنْ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ . إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَالْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي عِنْدَهُمْ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا وَلَكِنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ ؛ كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْحَقِّ مُوَافِقٌ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الْأُمِّيُّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ؛ لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ لَا تَتَنَاقَضُ ؛ وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَلَا تَتَنَاقَضُ السَّمْعِيَّاتُ وَالْعَقْلِيَّاتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ :
وَقَدْ سَلَكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ - أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ - أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ أَدِلَّةِ هَؤُلَاءِ وَأَدِلَّةِ هَؤُلَاءِ وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ وَسَمَّوْا " الْجَوَابَ " الَّذِي أَجَابُوا بِهِ الْفَلَاسِفَةَ عَنْ حُجَجِهِمْ " الْجَوَابَ الْبَاهِرَ " فَوَافَقُوا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَأَخْطَئُوا وَتَنَاقَضُوا لَمَّا جَمَعُوا بَيْنَ خَطَأِ الطَّائِفَتَيْنِ . فَكَانَ قَوْلُهُمْ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا ؛ إذْ كَانَ خَطَأُ الطَّائِفَتَيْنِ مُتَنَاقِضًا غَايَةَ التَّنَاقُضِ . وَأَمَّا مَا أَصَابَتْ فِيهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ؛ فَلَوْ جَمَعُوا بَيْنَهُمَا لَكَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَلِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْأَدِلَّةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الرُّسُلُ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ خَرَجُوا عَنْ مُوجَبِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَعَ ظَنِّهِمْ نِهَايَةَ التَّحْقِيقِ وَلَهُمْ بِذَلِكَ أُسْوَةٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ؛ فَإِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمُوجَبِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَإِنَّمَا الْحَقُّ هُوَ مَا تَصَادَقَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَلَقِّينَ لَهُ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةِ خَبَرِهِ وَمِنْ جِهَةِ تَعْلِيمِهِ وَبَيَانِهِ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ . مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّسُلَ لَمْ يُبَيِّنُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ

الرَّازِي فِي " أَوَّلِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا بِهَا خَبَرًا فَضْلًا عَنْ بَيَانِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُصَدِّقَةِ لِخَبَرِهِمْ . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَدِلَّةِ هَؤُلَاءِ وَأَدِلَّةِ هَؤُلَاءِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ " الْجَوَابِ الْبَاهِرِ " وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَدْ ذَكَرَهَا الرَّازِي فِي كُتُبِهِ وَرَجَّحَهَا وَأَخَذَهَا عَنْهُ الأرموي وَذَكَرَهَا فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ وَأَخَذَهَا عَنْهُ القشيري الْمِصْرِيُّ وَهَذَا الْقَوْلُ يُشْبِهُ مَذْهَبَ الحرنانيين الْقَائِلِينَ بِالْقُدَمَاءِ الْخَمْسَةِ الَّذِي نَصَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الرَّازِي وَصَنَّفَ فِيهِ . وَالرَّازِي " يُقَوِّي هَذَا الْمَذْهَبَ فِي مُجْمَلِهِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا مُتَنَاقِضًا كَمَا بَيَّنَ فَسَادَهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا البلخي وَأَبُو حَاتِمٍ صَاحِبُ " كِتَابِ الزِّينَةِ " وَغَيْرُهُمَا لَكِنْ بَيْنَ مَذْهَبِ الحرنانيين وَبَيْنَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ فَرْقٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . قَالَ هَؤُلَاءِ : الْمُتَكَلِّمُونَ إنَّمَا أَقَامُوا الْأَدِلَّةَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي بَيَّنُوا أَنَّهَا لَا تَخْلُوا مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ دَائِمَةٍ لَا ابْتِدَاءَ لَهَا . قَالُوا : وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُتَكَلِّمُونَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَوْجُودٍ سِوَى الْأَجْسَامِ وَسِوَى الصَّانِعِ وَالْفَلَاسِفَةُ أَثْبَتُوا مَوْجُودَاتٍ غَيْرَ ذَلِكَ وَهِيَ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ . قَالُوا : والمتكلمون لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى انْتِفَائِهَا وَدَلِيلُهُمْ عَلَى الْحُدُوثِ لَمْ يَشْمَلْهَا.

قَالُوا : وَ " الْفَلَاسِفَةُ " لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى قِدَمِ الْأَجْسَامِ ؛ بَلْ أَقَامُوا الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا وَلَمْ تَزَلْ الْحَرَكَةُ وَالزَّمَانُ مَوْجُودَيْنِ وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَجْمِعٌ لِجَمِيعِ شُرُوطِ الْفَاعِلِيَّةِ فِي الْأَزَلِ فَيَجِبُ اقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِهِ . وَقَالُوا : إنَّهُ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ ؛ وَيَمْتَنِعُ أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا عَنْ الْفِعْلِ ثُمَّ وُجِدَ الْفِعْلُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ ؛ فَيَنْتَقِلُ مِنْ الِامْتِنَاعِ الذَّاتِيِّ إلَى الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ . وَقَالُوا : كُلُّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كَوْنِ الْفَاعِلِ فَاعِلًا إنْ وُجِدَ فِي الْأَزَلِ لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ ؛ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُوجَدْ بَقِيَ مُتَوَقِّفًا عَلَى شَرْطٍ آخَرَ ؛ وَنَحْنُ قُلْنَا : كُلُّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كَوْنِ الْفَاعِلِ فَاعِلًا قَدْ وُجِدَ فِي الْأَزَلِ وَإِنْ قِيلَ : قَدْ وُجِدَ كُلُّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ كَوْنِ الْفَاعِلِ فَاعِلًا وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ ؛ ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَا سَبَبٍ لَزِمَ تَرْجِيحُ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ تَامٍّ : فَإِنَّ الْمُرَجِّحَ التَّامَّ يَجِبُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الرُّجْحَانُ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الرُّجْحَانُ : فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ؛ وَالْمُمْكِنُ يَفْتَقِرُ إلَى الْمُرَجِّحِ فَمَا دَامَ مُمْكِنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ : وَإِذَا حَصَلَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ وَجَبَ وُجُودُهُ وَلَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مُمْكِنُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ .

قَالَ هَؤُلَاءِ : فَهَذَا عُمْدَةُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ . وَأَصْلُهُ أَنَّ الْحَادِثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ وَحُدُوثُ حَادِثٍ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ مُمْتَنِعٌ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ . وَلِهَذَا لَمَّا أَجَابَهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةِ مُتَعَدِّدَةٍ كَانَتْ كُلُّهَا فَاسِدَةً مِثْلُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ : الْمُرَجِّحُ هُوَ الْعِلْمُ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ هُوَ الْإِرَادَةُ ؛ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : الْمُرَجِّحُ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ قَادِرًا ؛ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : الْمُرَجِّحُ إمْكَانُ الْفِعْلِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ ؛ لَا امْتِنَاعُهُ فِي الْأَزَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَقَالُوا هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ بَاطِلَةٌ لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ إنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ؛ وَقَدْ قُلْنَا : إنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّأْثِيرِ إنْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً لَزِمَ كَوْنُ الْأَثَرِ أَزَلِيًّا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا غَيْرَ أَزَلِيٍّ ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ رُجْحَانُ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَحَدَثَتْ الْحَوَادِثُ بِلَا مُحْدِثٍ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أُحْدِثَ تَمَامُ الْمُؤَثَّرِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ الْمُؤَثِّرُ تَامًّا فِي الْأَزَلِ : حَدَثَ ذَلِكَ بِلَا سَبَبٍ . وَ " الْوَجْهُ الثَّانِي " : أَنَّ نِسْبَةَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ وَنَفْسِ الْأَزَلِ إلَى وَقْتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ كَنِسْبَتِهِ إلَى مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةَ لِوُجُودِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ . قَالَ الرَّازِي فِي " كِتَابِهِ الْكَبِيرِ " : وَالْجَوَابُ الْبَاهِرُ أَنْ نَقُولَ : كَانَتْ النَّفْسُ أَزَلِيَّةً وَهِيَ مُتَحَرِّكَةٌ دَائِمًا ؛ ثُمَّ حَصَلَ مِنْ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ صِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ كَانَتْ هِيَ سَبَبَ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَبِهَذَا ثَبَتَ السَّبَبُ الْحَادِثُ الْمُوجِبُ لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ فِيهِ وَعَلَى هَذَا فَالْأَجْسَامُ حَادِثَةٌ وَهُوَ مُوجَبُ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْفَاعِلُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِقِدَمِ النَّفْسِ الْمَعْلُولَةِ لَهُ ؛ وَهُوَ مُوجَبُ أَدِلَّةِ

الْفَلَاسِفَةِ . وَقَدْ يَقُولُونَ : مِقْدَارُ حَرَكَتِهَا هُوَ الزَّمَانُ فَقُلْنَا بِمُوجَبِ قِدَمِ نَوْعِ الْحَرَكَةِ وَالزَّمَانِ مَعَ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ . فَهَذَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِلطَّائِفَتَيْنِ . وَقَدْ قُلْنَا : إنَّهُمْ اتَّبَعُوا كُلَّ طَائِفَةٍ فِيمَا أَخْطَأَتْ فِيهِ وَأَمَّا تَنَاقُضُهُمْ فَلِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّمَا اعْتَمَدُوا فِي حُدُوثِ الْأَجْسَامِ عَلَى امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا هَذَا عُمْدَتُهُمْ ؛ وَإِلَّا فَمَتَى جَازَ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا بِدَايَةَ لَهَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ كُلِّ حَادِثٍ حَادِثٌ فَلَا يَلْزَمُ حُدُوثُ مَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ الْمُتَعَاقِبَةُ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ أَصْلًا صَحِيحًا ثَابِتًا امْتَنَعَ وُجُودُ حَرَكَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ لِلنَّفْسِ وَغَيْرِ النَّفْسِ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ قَالَ بِمُوجَبِ هَذَا الْأَصْلِ مَعَ قَوْلِهِ بِوُجُودِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فِي النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَدْ تَنَاقَضَ . " وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ " يَمْتَنِعُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَيَجِبُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ بَاطِلًا بَطَلَتْ أَدِلَّتُهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَلَزِمَ جَوَازُ وُجُودِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا ؛ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ قِدَمُ نَوْعِهَا فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ حُدُوثِهَا كُلِّهَا - وَأَنَّ سَبَبَ الْحُدُوثِ هُوَ حَالٌ لِلنَّفْسِ - تَنَاقُضٌ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ النَّفْسَ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا بِدُونِ الْجِسْمِ وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْحَرَكَةِ فِيهَا إلَّا مَعَ الْجِسْمِ وَإِنَّمَا تَكُونُ نَفْسًا إذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْجِسْمِ كَنَفْسِ الْإِنْسَانِ مَعَ بَدَنِهِ . فَنَفْسُ الْفَلَكِ إذَا فَارَقَتْ " الْمَادَّةَ " - وَهِيَ الْهَيُولى

وَهِيَ الْجِسْمُ - مِثْلُ مُفَارَقَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ لِبَدَنِهِ بِالْمَوْتِ فَقَدْ صَارَتْ عِنْدَهُمْ عَقْلًا لَا يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ . فَمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَقْدِيرِ نَفْسٍ خَالِيَةٍ عَنْ الْجِسْمِ دَائِمَةِ الْحَرَكَةِ لَا يَقُولُونَ بِهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَيَبْقَى تَقْدِيرُهُ تَقْدِيرًا لَمْ يَقُلْ بِهِ الْمُنَازِعُ وَلَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا يُشْبِهُ مَذْهَبَ " الحرنانيين " وَلَيْسَ بِهِ . فَإِنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ : الْقُدَمَاءُ خَمْسَةٌ : الرَّبُّ وَالنَّفْسُ وَالْمَادَّةُ وَالدَّهْرُ وَالْفَضَاءُ ؛ وَلَكِنْ لَا يَقُولُونَ : إنَّ النَّفْسَ مَا زَالَتْ مُتَحَرِّكَةً ؛ بَلْ يَقُولُونَ : إنَّهُ حَدَثَ لَهَا الْتِفَاتٌ إلَى الْهَيُولَى وَهِيَ الْمَادَّةُ فَأَحَبَّتْهَا وَعَشِقَتْهَا وَلَمْ يَكُنْ الْأَوْلَى تَخْلِيصَهَا مِنْهَا إلَّا بِأَنْ تَذُوقَ وَبَالَ هَذَا التَّعَلُّقِ فَصَنَعَ الْعَالَمَ وَجَعَلَ النَّفْسَ حَاصِلَةً مَعَ الْأَجْسَامِ لِتَذُوقَ حَرَارَةَ هَذَا الِاجْتِمَاعِ وَوَبَالَهُ فَتَشْتَاقَ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ . وَلِهَذَا يَقُولُ " مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الرَّازِي " : إنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَيْسَ فِيهِ لَذَّةٌ أَصْلًا بَلْ النَّفْسُ لَا تَزَالُ مُعَذَّبَةً حَتَّى تَتَخَلَّصَ وَرَاحَتُهَا فِي الْخَلَاصِ ؛ وَكَانَ حَاضِرًا بِمَجْلِسِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ فَمَثَّلَ ذَلِكَ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مِنْ الصَّوْتِ وَجَعَلَ ذَلِكَ حَاصِلًا مِنْ ذَلِكَ الْكَبِيرِ فَقَالَ لَهُ الْكَعْبِيُّ : دَخَلْت فِي أُمُورٍ عَظِيمَةٍ وَلَمْ تَتَخَلَّصْ وَأَنْتَ إنَّمَا فَرَرْت مِنْ حُدُوثِ حَادِثٍ بِلَا سَبَبٍ فَيُقَالُ لَك : فَمَا الْمُوجِبُ لِكَوْنِهَا الْتَفَتَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ إلَى الْهَيُولَى دُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا بَعْدَهُ ؟ فَهَذَا حَادِثٌ بِلَا سَبَبٍ .

وَهَذَا الْمَذْهَبُ اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْفَسَادِ : مِنْهَا إثْبَاتُ قَدِيمٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ بِلَا حُجَّةٍ وَمِنْهَا إثْبَاتُ نَفْسٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ الْجِسْمِ وَأَنَّ لَهَا حَرَكَةً بِدُونِ الْجِسْمِ ؛ وَهَذَا خِلَافُ مَذْهَبِ " أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعِهِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : نَحْنُ نَلْتَزِمُ أَنَّ النَّفْسَ مَعَ تَجَرُّدِهَا عَنْ الْجِسْمِ لَهَا حَرَكَةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لَكِنْ يُقَالُ : أَثْبَتُّمْ قِدَمَهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ غَيْرَ مُتَحَرِّكَةٍ ثُمَّ تَحَرَّكَتْ بِلَا سَبَبٍ وَهَذَا فَاسِدٌ . وَأَنْتُمْ لَمْ تُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى قِدَمِهَا ؛ بَلْ وَلَا عَلَى وُجُودِهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِجِسْمِ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ أَثْبَتَ الْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ مِنْ " الْمُتَفَلْسِفَةِ " وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُشَارًا إلَيْهَا : أَدِلَّتُكُمْ عَلَى ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ كُلُّهَا ؛ بَلْ بَاطِلَةٌ . وَلِهَذَا صَارَ الطوسي - الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مُتَأَخِّرِيهِمْ - إلَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى إثْبَاتِهَا . وَأَمَّا " الْمُتَكَلِّمُونَ " فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ بِأَنَّهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ فَإِثْبَاتُ مَا لَا يُشَارُ إلَيْهِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَقَدْ ذَكَرُوا هَذَا فِي كُتُبِهِمْ . وَقَوْلُ الرَّازِي : إنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى انْحِصَارِ الْمُمْكِنِ فِي الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ لَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ بَلْ قَالُوا : نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ يَتَمَيَّزُ مِنْهُ جَانِبٌ عَنْ جَانِبٍ . ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ - مِنْ هَؤُلَاءِ - ذَكَرَ هَذَا مُطْلَقًا فِي الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ وَأَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هِيَ مُتَعَدِّدَةٌ ؛ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : إنَّ تِلْكَ الْأَصْوَاتَ الْأَزَلِيَّةَ : هِيَ

الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ يُسْمَعُ مِنْ الْقُرَّاءِ صَوْتَانِ : الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَصَوْتٌ مُحْدَثٌ . وَالصَّوْتُ الْقَدِيمُ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ حَلَّ فِي الْمُحْدَثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : ظَهَرَ فِيهِ وَلَمْ يَحُلَّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ فِيهِ وَلَا نَقُولُ : ظَهَرَ وَلَا حَلَّ . وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ ؛ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا . وَهَؤُلَاءِ حُلُولِيَّةٌ فِي الصِّفَاتِ دُونَ الذَّاتِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ السالمية وَالصُّوفِيَّةِ . وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ بِحُلُولِ الذَّاتِ أَيْضًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ يَتَجَلَّى لِكُلِّ شَيْءٍ بِصُورَتِهِ ؛ وَقَوْلُهُمْ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالْقَائِلِينَ " بِوِحْدَةِ الْوُجُودِ " . لَكِنْ هُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّهُ يَحُلُّ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِذَاتِهِ وَإِنَّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ؛ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَنَحْوُهُ . وَأَمَّا " الْأَشْعَرِيَّةُ " فَعَكْسُ هَؤُلَاءِ وَقَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ وَأَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَكَلَامُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَاحِدٌ وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ . وَكَذَلِكَ الْكَلِمَاتُ هِيَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ لَا رَبَّ وَلَا قُرْآنَ وَلَا إيمَانَ فَقَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ .
وَ " السالمية " حُلُولِيَّةٌ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الْقَدِيمَةَ حَلَّتْ فِي النَّاسِ : حُلُولِيَّةٌ فِي الصِّفَاتِ دُونَ الذَّاتِ

وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ أَيْضًا : إنَّ صِفَةَ الْعَبْدِ الَّتِي هِيَ إيمَانُهُ قَدِيمٌ ؛ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ عَدَّى ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِهِ دُونَ أَفْعَالِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ وَأَفْعَالُهُ الْمَأْمُورُ بِهَا قَدِيمَةٌ دُونَ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ : الْخَيْرُ وَالشَّرُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْعٌ وَقَدَرٌ وَالشَّرْعُ وَالْقَدَرُ قَدِيمٌ ؛ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَرْعِ الرَّبِّ وَمَشْرُوعِهِ وَبَيْنَ قَدَرِهِ وَمَقْدُورِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ لَيْسَتْ هِيَ الْحَرَكَاتِ بَلْ هِيَ مَا تُنْتِجُهُ الْحَرَكَاتُ ؛ كَاَلَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ . وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ - أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ - : بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ فَهَؤُلَاءِ أَسْرَفُوا فِي الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْأَفْعَالِ لِطَرْدِ قَوْلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ . وَ " طَائِفَةٌ أُخْرَى " قَالُوا : إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ الَّتِي هِيَ أَصْوَاتٌ مَسْمُوعَةٌ مِنْ الْعَبْدِ قَدِيمَةٌ فَكُلُّ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ قَدِيمَةٌ ؛ فَقَالُوا : كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ كُلُّهُ قَدِيمٌ إلَّا التَّأْلِيفَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : وَالْأَصْوَاتُ كُلُّهَا قَدِيمَةٌ حَتَّى أَصْوَاتُ الْبَهَائِمِ وَحَتَّى مَا يَخْرُجُ مِنْ بَنِي آدَمَ . وَقَالُوا أَيْضًا : حَرَكَاتُ اللِّسَانِ بِالْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ وَحَرَكَةُ الْبَنَانِ بِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : " الْمِدَادُ " مَخْلُوقٌ وَلَكِنَّ شَكْلَ الْحُرُوفِ قَدِيمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْمِدَادِ وَقَالَ : نَسْكُتُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكِنْ لَا يُقَالُ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْمِدَادُ قَدِيمٌ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ " أَرْوَاحَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ " فَصَارُوا يَقُولُونَ :

رُوحُ الْعَبْدِ مُحْدَثَةٌ وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ وَصِفَاتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ مِنْ إيمَانِهِ قَدِيمَةٌ وَإِخْوَانُهُمْ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَهُ قَدِيمَةٌ وَهَذَا أَعْظَمُ مِمَّا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ : وَأَمَّا أَفْعَالُهُ فَحَادِثَةٌ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَكَذَلِكَ كَلَامُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِقِدَمِ رُوحِ الْعَبْدِ وَبِقِدَمِ النُّورِ - نُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنُورِ السِّرَاجِ ؛ وَكُلِّ نُورٍ - فَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ : بِقِدَمِ أَرْوَاحِ الْعِبَادِ وَالْأَنْوَارِ : ضَاهَوْا فِيهِ قَوْلَ الْمَجُوسِ " وَالْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ " الَّذِينَ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ ؛ فَإِنَّ مِنْ الصَّابِئِينَ مَنْ يُشْبِهُ الْمَجُوسَ كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا عَنْ الصَّابِئِينَ : إنَّهُمْ مِثْلُ الْمَجُوسِ . وَهَؤُلَاءِ صِنْفٌ مِنْ الصَّابِئِينَ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا فِي الصَّابِئِينَ الْمَمْدُوحِينَ فِي الْقُرْآنِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ بِقِدَمِ أَرْوَاحِ الْعِبَادِ وَ " نُفُوسِهِمْ " الَّتِي تُفَارِقُ أَبْدَانَهُمْ . مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَهَا مِنْ اللَّهِ ؛ إذْ كَانَ لَا قَدِيمَ عِنْدَهُمْ إلَّا اللَّهُ وَصِفَاتُهُ وَقَوْلُهُمْ بِقِدَمِ النُّورِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمَجُوسِ . لَكِنَّ النُّورَ أَيْضًا عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ بِقِدَمِ رُوحِ الْعَبْدِ ؛ أَوْ أَقْوَالِهِ ؛ أَوْ أَفْعَالِهِ ؛ أَوْ أَصْوَاتِهِ ؛ أَوْ قِدَمِ نُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . كُلُّهَا فُرُوعٌ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ فَإِنَّ " السَّلَفَ " قَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ أَنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَالْقُرْآنُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ فَيَكُونُ قَدِيمًا ؛ وَهَذَا الْمَسْمُوعُ هُوَ الْقُرْآنُ

وَلَيْسَ إلَّا أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ فَتَكُونُ قَدِيمَةً ثُمَّ احْتَاجُوا عِنْدَ الْبَحْثِ إلَى طَرْدِ أَقْوَالِهِمْ . وَكَذَلِكَ فِي " الْإِيمَانِ " لَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ - لَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا غَيْرُهُ - إنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا قَدِيمٍ وَلَا قَالُوا عَنْ الْقُرْآنِ : قَدِيمٌ لَكِنْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ عَلَى " لَفْظِ الْقُرْآنِ أَوْ الْإِيمَانِ " بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ ؛ فَجَاءَ هَؤُلَاءِ فَفَهِمُوا مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ أَنَّهُ قَدِيمٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ إذَا أُنْكِرَ عَلَى مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ يُجِيزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّهُ قَدِيمٌ فَقَالُوا : لَفْظُ الْعَبْدِ وَصَوْتُهُ قَدِيمٌ وَإِيمَانُهُ قَدِيمٌ . ثُمَّ طَرَدُوا أَقْوَالَهُمْ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ قَدْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ ؛ سَأَلَ عَنْهَا السَّائِلُونَ وَأُجِيبُوا فِي ذَلِكَ بِأَجْوِبَةِ مَبْسُوطَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا ؛ إذْ الْمَقْصُودُ : التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَحْدُثُ عَنْ الْأَصْلِ الْمُبْتَدَعِ . وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ حُجَّةُ الْجَهْمِيَّة عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ : بِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ فَمَا يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ بِمَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا ؛ فَلَزِمَهُمْ نَفْيُ كَلَامِ الرَّبِّ وَفِعْلِهِ بَلْ وَتَعْطِيلُ ذَاتِهِ ثُمَّ آلَ الْأَمْرُ إلَى جَعْلِ الْمَخْلُوقِ قَدِيمًا وَتَعْطِيلِ صِفَاتِ الرَّبِّ الْقَدِيمَةِ ؛ بَلْ وَذَاتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْأَصْلِ الْقَائِلُونَ " بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ " يَقُولُونَ : إنَّ نَفْسَ الْأَعْيَانِ الَّتِي فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ هِيَ مُتَقَدِّمَةُ الْوُجُودِ لَا يُعْلَمُ حُدُوثُهَا

إلَّا بِالدَّلِيلِ وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَيَقُولُونَ : الْمَعْلُومُ بِالْمُشَاهَدَةِ حُدُوثُ التَّأْلِيفِ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي كَلَامِ الْعَبْدِ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ هُوَ تَأْلِيفُ الْحُرُوفِ فَقَطْ . وَالْقَائِلُونَ " بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ " يَقُولُونَ نَفْسُ وُجُودِ الْعَبْدِ هُوَ نَفْسُ وُجُودِ الرَّبِّ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَدْ بَاشَرْت أَصْحَابَهَا - وَهُمْ مِنْ أَعْيَانِ النَّاسِ - وَجَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ وَهَدَى اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْخَلْقِ فَانْظُرْ كَيْفَ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي أَنْفُسِهِمْ الَّتِي قِيلَ لَهُمْ : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } .
وَالْمُتَفَلْسِفَةُ يَقُولُونَ : مَادَّةُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْمَوَادِّ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِيهَا مُضَاهَاةٌ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَأَصْحَابِ " الْوَحْدَةِ " يُصَرِّحُونَ بِتَعْظِيمِ فِرْعَوْنَ وَأَنَّهُ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } فَفِي تَثْنِيَةِ اللَّهِ لِقِصَّةِ فِرْعَوْنَ فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةٌ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا كَمَا قَالَ : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ } .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا " حُجَّتُهُمْ الثَّانِيَةُ " وَهِيَ الْعُمْدَةُ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ فَتَقْرِيرُهَا : لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ . أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ لَا فِي مَحَلٍّ .
وَ الْأَوَّلُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَهُوَ بَاطِلٌ . وَ الثَّانِي يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الصِّفَةُ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَإِذَا قَامَ بِمَحَلِّ عِلْمٍ أَوْ حَيَاةٍ أَوْ قُدْرَةٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ مُتَكَلِّمٌ كَمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَحَرِّكٌ إذَا قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ أَوْ أَنَّهُ أَسْوَدُ وَأَبْيَضُ إذَا قَامَ بِهِ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَأَمَّا قِيَامُهُ لَا فِي مَحَلٍّ فَمُمْتَنِعٌ ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ . وَمَعْنَى " هَذِهِ الْحُجَّةِ " أَيْضًا صَحِيحَةٌ وَهِيَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فَقَطْ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَمَا تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة مُطْلَقًا ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة اخْتَارُوا مِنْ " هَذِهِ الْأَقْسَامِ " أَنَّهُ يَخْلُقُهُ فِي مَحَلٍّ . وَقَالُوا : إنَّ اللَّهَ لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى خَلَقَ صَوْتًا فِي الشَّجَرَةِ فَكَانَ ذَلِكَ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ مِنْ الشَّجَرَةِ هُوَ كَلَامَهُ .

وَهَذَا مِمَّا كَفَّرَ بِهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مَنْ قَالَ بِهَذَا وَقَالُوا : هُوَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي قَالَتْ : { أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } لِأَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ . هَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي نَظَرِ جَمِيعِ الْخَلْقِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْطَقَ كُلَّ نَاطِقٍ : كَمَا أَنْطَقَ اللَّهُ الْجُلُودَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالُوا : { أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } فَيَكُونُ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ مَخْلُوقًا لَهُ فِي مَحَلٍّ . فَلَوْ كَانَ مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ - حَتَّى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْكَذِبِ - كَلَامًا لَهُ - تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ - وَهَذَا لَازِمُ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ وَالْعَبْدُ عِنْدَهُمْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا قُدْرَةَ لَهُ مُؤَثِّرَةً فِي الْفِعْلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ - مِنْ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ : - وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَلَا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَكِنَّ الْحُجَّةَ تَلْزَمُهُمْ بِذَلِكَ . وَقَدْ اعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ : أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُوجَدُ إلَّا بِدَاعٍ يَدْعُو الْفَاعِلَ وَأَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ وَقَالَ : إنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي فِي الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِلَفْظِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . فَإِذَا قَالَ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الدَّاعِيَ وَالْقُدْرَةَ وَخَلْقُهَا يَسْتَلْزِمُ خَلْقَ الْفِعْلِ فَقَدْ سَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُسْتَقِرًّا فِي نُفُوسِ عَامَّةِ الْخَلْقِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ

دَاوُد الْهَاشِمِيُّ الْإِمَامُ - نَظِيرُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ : مَا خَلَّفْت بِبَغْدَادَ أَعْقَلَ مِنْ رَجُلَيْنِ : أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَسُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ قَالَ : مَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ كَلَامَ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي فِرْعَوْنَ قَوْلَهُ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الشَّجَرَةِ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُ لِكَوْنِهِ خَلَقَهُ فَالْآخَرُ أَيْضًا كَلَامُهُ . وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبْطَلُوا قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة بِأَنَّهُ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ بِأَنْ قَالُوا : مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْرَاضِ كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ وَعَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَمْ يَكُنْ صِفَةً لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَهَذِهِ " حُجَّةٌ جَيِّدَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ " لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ لَمْ يَطْرُدُوهَا فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِأَنَّهُ خَالِقٌ وَرَازِقٌ وَمُحْيٍ وَمُمِيتٌ عَادِلٌ مُحْسِنٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي ؛ بَلْ يَقُومُ بِغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالْإِحْيَاءُ هُوَ وُجُودُ الْحَيَاةِ فِي الْحَيِّ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَقُومُ بِالرَّبِّ فَقَدْ جَعَلُوهُ مُحْيِيًا بِوُجُودِ الْحَيَاةِ فِي غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ جَعَلُوهُ مُمِيتًا وَهَذِهِ مِمَّا عَارَضَهُمْ بِهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَلَمْ يُجِيبُوا عَنْهَا بِجَوَابِ صَحِيحٍ . وَلَكِنَّ " السَّلَفَ وَالْجُمْهُورَ " يَقُولُونَ : بِأَنَّ الْفِعْلَ يَقُومُ بِهِ أَيْضًا وَهَذِهِ " الْقَاعِدَةُ " حُجَّةٌ لَهُمْ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَالْفَرِيقَانِ يُقَسِّمُونَ الصِّفَاتِ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ أَوْ ذَاتِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ . وَهُوَ مَغْلَطَةٌ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ عِنْدَهُمْ فِعْلٌ وَلَا يَكُونُ

لَهُ عِنْدَهُمْ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَإِذَا قَالُوا بِمُوجَبِ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : هُوَ مُتَحَرِّكٌ وَأَسْوَدُ وَأَبْيَضُ وَطَوِيلٌ وَقَصِيرٌ وَحُلْوٌ وَمُرٌّ وَحَامِضٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَخْلُقُهَا فِي غَيْرِهِ . ثُمَّ هُمْ مُتَنَاقِضُونَ فَهَؤُلَاءِ يَصِفُونَهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ وَأُولَئِكَ يَصِفُونَهُ بِكُلِّ مَخْلُوقٍ فِي غَيْرِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ إلَّا بِمَا قَامَ بِهِ لَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ ؛ وَهَذَا حَقِيقَةُ الصِّفَةِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَوْصُوفٍ لَا يُوصَفُ إلَّا بِمَا قَامَ بِهِ لَا بِمَا هُوَ مُبَايِنٌ لَهُ صِفَةٌ لِغَيْرِهِ . وَإِنْ نَفَوْا مَعَ ذَلِكَ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ صِفَةٌ لَا ذَاتِيَّةٌ وَلَا فِعْلِيَّةٌ . وَإِنْ قَالُوا : إنَّمَا سَمَّيْنَا الْفِعْلَ صِفَةً لِأَنَّهُ يُوصَفُ بِالْفِعْلِ فَيُقَالُ : خَالِقٌ وَرَازِقٌ قِيلَ : هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَهُ أَحَدٌ مِنْ الصفاتية ؛ فَإِنَّ الصِّفَةَ عِنْدَهُمْ قَائِمَةٌ بِالْمَوْصُوفِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْوَاصِفِ . وَإِنْ قَالَهُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الصِّفَةَ هِيَ الْوَصْفُ وَهِيَ مُجَرَّدُ قَوْلِ الْوَاصِفِ فَالْوَاصِفُ إنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ مُطَابِقًا كَانَ كَاذِبًا وَلِهَذَا إنَّمَا يَجِيءُ الْوَصْفُ فِي الْقُرْآنِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْكَذِبِ بِأَنَّهُ وَصْفٌ يَقُومُ بِالْوَاصِفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِالْمَوْصُوفِ شَيْءٌ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } . وَقَدْ جَاءَ مُسْتَعْمَلًا فِي الصِّدْقِ فِيمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ

رَجُلًا كَانَ يُكْثِرُ قِرَاءَةَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلُوهُ لِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ } " . فَمَنْ وَصَفَ مَوْصُوفًا بِأَمْرِ لَيْسَ هُوَ مُتَّصِفًا بِهِ كَانَ كَاذِبًا ؛ فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِأَنَّهُ خَالِقٌ وَرَازِقٌ وَعَالِمٌ وَقَادِرٌ وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّهُ نَفْسَهُ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِعِلْمِ وَقُدْرَةٍ أَوْ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِفِعْلِ هُوَ الْخَلْقُ وَالْإِحْيَاءُ كَانَ قَدْ وَصَفَهُ بِأَمْرِ وَهُوَ يَقُولُ : لَيْسَ مُتَّصِفًا بِهِ ؛ فَيَكُونُ قَدْ كَذَّبَ نَفْسَهُ فِيمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ وَجَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَقَالَ : هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَذَا ؛ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِهَذَا . وَهَذَا حَقِيقَةُ أَقْوَالِ الْنُّفَاةِ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أُمُورًا هِيَ حَقٌّ وَيَقُولُونَ مَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَهَا فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَيَظْهَرُ فِي أَقْوَالِهِمْ التَّنَاقُضُ . وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ : أَنَّهُ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَوْجُودِ عَالِمٌ لَيْسَ بِعَالِمٍ حَيٌّ لَيْسَ بِحَيِّ وَلِهَذَا كَانَ غُلَاتُهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا ؛ فَلَا يَصِفُونَهُ لَا بِإِثْبَاتِ ؛ وَلَا بِنَفْيٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ خُلُوَّهُ عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَاطِلٌ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ . وَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ " الْمُقَدِّمَةَ " الصَّحِيحَةَ : أَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ فِي مَحَلٍّ لَكَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ ؛ هِيَ مُقَدِّمَةٌ صَحِيحَةٌ وَالسَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجُمْهُورُ : يَقُولُونَ بِهَا ؛ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ فَيَتَنَاقَضُونَ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ .

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَكَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا لِأَنَّهُ صِفَةٌ وَالصِّفَةُ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ : أَنَّهُ يَخْلُقُ حِبَالًا فِي مَحَلٍّ . وَالْبَصْرِيُّونَ - وَهُمْ أَجَلُّ وَأَفْضَلُ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ - يَقُولُونَ : إنَّهُ يَخْلُقُ إرَادَةً لَا فِي مَحَلٍّ فَقَدْ يُنَاقِضُونَ هَذِهِ الْحُجَّةَ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ؛ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ فَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ : لَوْ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقِ وَهُوَ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقِ . وَإِذَا قَالُوا : نَحْنُ نُسَمِّي كُلَّ حَادِثٍ مَخْلُوقًا فَهَذَا مَحَلُّ نِزَاعٍ فَالسَّلَفُ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَكَثِيرٌ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ - كالهشامية والكَرَّامِيَة وَأَبِي مُعَاذٍ التومني وَغَيْرِهِمْ - لَا يَقُولُونَ : كُلُّ حَادِثٍ مَخْلُوقٌ وَيَقُولُونَ : الْحَوَادِثُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ . وَمِنْهُ خَلْقُهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَإِلَى مَا يَقُومُ بَائِنًا عَنْهُ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَخْلُوقُ ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ : وَالْخَلْقُ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ بَلْ هُوَ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ . وَالْقُدْرَةُ فِي الْقُرْآنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذَا الْفِعْلِ لَا بِالْمَفْعُولِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } وَقَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } وَقَوْلِهِ : { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } وَقَوْلِهِ : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } .

وَعَلَى هَذَا فَهَذِهِ " الْحُجَّةُ " يَكْفِي فِيهَا أَنْ يُقَالَ : لَوْ خَلَقَهُ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي مَحَلٍّ فَيَكُونَ صِفَةً لَهُ أَوْ يَخْلُقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ . وَلَا يُذْكَرُ فِيهَا : إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَخْلُوقًا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ خَلْقًا ، وَالْخَلْقُ الْقَائِمُ بِهِ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ لَهُ خَلْقٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَلْقٍ مَخْلُوقًا ؛ فَيَكُونُ الْخَلْقُ مَخْلُوقًا بِلَا خَلْقٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ . وَهَذَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجُمْهُورِ : الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَكُونُ الْمَخْلُوقُ مَخْلُوقًا إلَّا بِخَلْقِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : يَكُونُ مَخْلُوقًا بِلَا خَلْقٍ وَالْخَلْقُ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ لَا غَيْرُهُ . فَيُقَالُ عَلَى أَصْلِهِ : إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ وَيَكُونَ الْمَخْلُوقُ نَفْسَ الْخَلْقِ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ حَادِثًا وَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ إذَا أَحْدَثَهُ فَإِمَّا أَنْ يُحْدِثَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ تَبَيَّنَ كَيْفَ تُصَاغُ هَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى أُصُولِ هَؤُلَاءِ وَأُصُولِ هَؤُلَاءِ . فَإِذَا اُحْتُجَّ بِهَا عَلَى قَوْلِ " السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ " فَلَهَا صُورَتَانِ : إنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ : إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَلَا تَقُلْ فِي نَفْسِهِ ؛ لِكَوْنِ الْمَخْلُوقِ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ . وَإِنْ شِئْت أَنْ تُدْخِلَهُ فِي التَّقْسِيمِ وَتَقُولَ : وَإِمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ تَقُولَ : وَهَذَا مُمْتَنِعٌ ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ فَلَوْ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ لَافْتَقَرَ إلَى خَلْقٍ وَكَانَ مَا حَدَثَ فِي نَفْسِهِ مَخْلُوقًا مُفْتَقِرًا إلَى خَلْقٍ ؛ فَيَكُونُ خَلْقُهُ لَهُ أَيْضًا مُفْتَقِرًا إلَى خَلْقٍ وَهَلُمَّ جَرَّا.
وَإِذَا كَانَ كُلُّ خَلْقٍ مَخْلُوقًا لَمْ يَبْقَ خَلْقٌ إلَّا مَخْلُوقٌ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ خَلْقٌ إلَّا مَخْلُوقٌ لَزِمَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ بِلَا خَلْقٍ إذْ لَيْسَ لَنَا خَلْقٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ .

وَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يَخْلُقُهُ فِي نَفْسِهِ بِخَلْقِ وَذَلِكَ الْخَلْقُ يَحْصُلُ بِلَا خَلْقٍ آخَرَ بَلْ مُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَتَكَلُّمُهُ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَنَحْنُ نَقُولُ : ذَلِكَ الْفِعْلُ هُوَ الْخَلْقُ . فَيُقَالُ لَهُمْ : فَعَلَى هَذَا صَارَ فِي التَّقْسِيمِ " حَادِثٌ " يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ ؛ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْقُرْآنِ : إنَّهُ حَادِثٌ أَوْ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ " الْقِسْمَ الْأَوَّلَ " لَمْ يَلْزَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ حَادِثًا وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَلَا تَدُلُّ الْحُجَّةُ عَلَى قَوْلِ الْكُلَّابِيَة . وَتَلْخِيصُ ذَلِكَ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَالَ : الْحُدُوثُ أَعَمُّ مِنْ الْخَلْقِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ حَادِثًا فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ مَخْلُوقًا ؛ أَوْ يُقَالَ : كُلُّ حَادِثٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ حَادِثٌ ؛ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ حَادِثًا فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ هُوَ " الْقِسْمَ الْأَوَّلَ " لَمْ يَلْزَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا بَلْ قَدْ يَكُونُ حَادِثًا وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ . وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ غَيْرَ " الْأَوَّلِ " فَحِينَئِذٍ إذَا قِيلَ : لَا يَخْلُقُهُ فِي نَفْسِهِ لَمْ تَكُنْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إلَّا إبْطَالَ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَلَكِنْ إذَا أُرِيدَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فِي نَفْسِهِ - وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بِنَفْسِهِ - فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ لَهُ خَلْقٌ وَالْخَلْقُ نَفْسُهُ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَلْ حَادِثٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ كُلُّ خَلْقٍ مَخْلُوقًا فَيَكُونُ الْمَخْلُوقُ بِلَا خَلْقٍ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ حَادِثًا غَيْرَ مَخْلُوقٍ .

وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَإِنَّمَا أُرِيدَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ تَحُلُّ فِيهِ الْحَوَادِثُ أَوْ لَا تَحُلُّ وَهُوَ أَحْسَنُ ؛ فَيَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ هَذَا الْقَوْلِ . فَيُقَالُ : لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحَوَادِثُ وَإِمَّا أَنْ لَا تَقُومَ فَإِنْ لَمْ تَقُمْ امْتَنَعَ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ حَادِثًا فَتَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ وَإِنْ كَانَتْ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَتِلْكَ الْحَوَادِثُ تَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلَا تَكُونُ كُلُّهَا مَخْلُوقَةً لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ وَالْخَلْقُ مِنْهَا ؛ فَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ مَخْلُوقًا بِخَلْقِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَلْقٍ مَخْلُوقًا فَيَكُونَ الْمَخْلُوقُ حَاصِلًا بِلَا خَلْقٍ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمَخْلُوقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ . وَإِذَا كَانَ لَا يَجِبُ فِيمَا قَامَ بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا فَلَوْ أَحْدَثَهُ فِي ذَاتِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا ؛ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ مَا لَهُ خَلْقٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ وَهُوَ إذَا تَكَلَّمَ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَانَ الْكَلَامُ اسْمًا يَتَنَاوَلُ التَّكَلُّمَ بِهِ وَنَفْسَ الْحُرُوفِ وَذَلِكَ التَّكَلُّمُ حَاصِلٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَمْ يَحْصُلْ بِخَلْقِ ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ يَحْصُلُ أَيْضًا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَهُوَ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ بِكَلَامِهِ ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ لِكَلَامِهِ خَلْقٌ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ خَلْقَهُ لِلْأَشْيَاءِ هُوَ نَفْسُ تَكَلُّمِهِ بكن فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ لَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ بَلْ الْمَخْلُوقُ يَحْصُلُ بِالْخَلْقِ ؛ وَمِنْ الْأَشْيَاءِ مَا يَخْلُقُهُ مَعَ تَكَلُّمٍ بِفِعْلِ يَفْعَلُهُ أَيْضًا ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَنَّ كَلَامَهُ إذَا أَحْدَثَهُ فِي ذَاتِهِ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَ أَنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ .

وَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى ذَلِكَ فَلَفْظُ الْحَوَادِثِ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ جِنْسٌ لَهُ نَوْعٌ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَيُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ لَا نَوْعٌ وَلَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْحَوَادِثِ فَإِذَا أُرِيدَ الثَّانِي فَالسَّلَفُ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٌ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِهِ . وَإِنْ أُرِيدَ " الْأَوَّلُ " فَالنِّزَاعُ فِيهِ مَعَ " الكَرَّامِيَة " وَنَحْوِهِمْ فَمَنْ يَقُولُ : إنَّهُ حَدَثَ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ بِذَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ حَدَثَ صَارَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَصَارَ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ الَّذِي قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : يَحْدُثُ بَائِنًا عَنْهُ قَالُوا هُمْ : يَحْدُثُ فِي ذَاتِهِ وَ " الْكُلَّابِيَة " قَالُوا : ذَلِكَ قَدِيمٌ يَحْصُلُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا : بَلْ هُوَ حَادِثُ النَّوْعِ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ الْقَدِيمَةِ فَمَشِيئَتُهُ الْقَدِيمَةُ عِنْدَهُمْ مَعَ الْقُدْرَةِ أَوْجَبَتْ مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ . فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّهُ أَحْدَثَ فِي ذَاتِهِ نَوْعَ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَلَامٌ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ السَّلَفِ بَلْ مَذْهَبُ السَّلَفِ : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا . فَتَبَيَّنَ أَنَّ خَلْقَهُ لِلْكَلَامِ مُطْلَقًا فِي ذَاتِهِ مُحَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا غَيْرُ قَوْلِهِمْ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ . فَصَارَ هُنَا لِإِبْطَالِ هَذَا الْقَوْلِ " ثَلَاثَةُ مَسَالِكَ " مَسْلَكُ الْكُلَّابِيَة وَمَسْلَكُ الكَرَّامِيَة وَمَسْلَكُ السَّلَفِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ مِمَّا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى

الْكِنَانِيُّ فِي " الْحَيْدَةِ " وَأَبْطَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَزِمَ خِلَافَ السَّلَفِ وَقَدْ كَتَبْت أَلْفَاظَهُ وَشَرَحْتهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ يُمْكِنُ إبْطَالُ كَوْنِهِ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ قَوْلِ الْكُلَّابِيَة وَلَا الكَرَّامِيَة ؛ فَإِنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا قَامَ بِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا ؛ إذْ كَانَ حَاصِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالْمَخْلُوقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ ، وَنَفْسُ تَكَلُّمِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَيْسَ خَلْقًا لَهُ بَلْ بِذَلِكَ التَّكَلُّمِ يَخْلُقُ غَيْرَهُ وَالْخَلْقُ لَا يَكُونُ خَلْقًا لِنَفْسِهِ . وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ " الْكُلَّابِيَة " : أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ : يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ : يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ .
وَأَمَّا " الكَرَّامِيَة " فَيَقُولُونَ : صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ صِفَةِ الْكَمَالِ عَنْهُ وَيَلْزَمُ حُدُوثُ الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ وَيَلْزَمُ أَنَّ ذَاتَهُ صَارَتْ مَحَلًّا لِنَوْعِ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ : كَمَا تَقَوَّلَهُ " الكَرَّامِيَة " وَهَذَا بَاطِلٌ . وَهُوَ الَّذِي أَبْطَلَهُ السَّلَفُ بِأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ نَوْعِ الْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَالْفِعْلِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةَ كَمَالٍ أَوْ صِفَةَ نَقْصٍ فَإِنْ كَانَ كَمَالًا فَلَمْ يَزَلْ نَاقِصًا حَتَّى تُجَدِّدَ لَهُ ذَلِكَ الْكَمَالَ وَإِنْ كَانَ نَقْصًا فَقَدْ نَقَصَ بَعْدَ الْكَمَالِ .
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ لَا تُبْطِلُ قِيَامَ نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ حُدُوثَ أَفْرَادِ الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ لَا حُدُوثَ النَّوْعِ وَالنَّوْعُ مَا زَالَ

قَدِيمًا وَمَا زَالَ مُتَّصِفًا بِالْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَذَلِكَ صِفَةُ كَمَالٍ فَلَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِالْكَمَالِ وَلَا يَزَالُ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ : صَارَ مُرِيدًا وَمُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَإِذَا قِيلَ فِي ذَلِكَ : الْفَرْدُ مِنْ أَفْرَادِ الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالْفِعْلِ : هَلْ هُوَ كَمَالٌ أَوْ نَقْصٌ ؟ قِيلَ : هُوَ كَمَالٌ وَقْتَ وُجُودِهِ وَنَقْصٌ قَبْلَ وُجُودِهِ ، مِثْلُ مُنَادَاتِهِ لِمُوسَى كَانَتْ كَمَالًا لَمَّا جَاءَ مُوسَى وَلَوْ نَادَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَكَانَ نَقْصًا وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّ أَفْرَادَ الْحَوَادِثِ يَمْتَنِعُ قِدَمُهَا وَمَا امْتَنَعَ قِدَمُهُ لَمْ يَكُنْ عَدَمُهُ فِي الْقِدَمِ نَقْصًا . بَلْ النَّقْصُ الْمَنْفِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَدَمَ مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بَلْ عَدَمُ مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَيَكُونُ وُجُودُهُ خَيْرًا مِنْ عَدَمِهِ ؛ فَلَا يَكُونُ عَدَمُ الشَّيْءِ نَقْصًا إلَّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ : بِأَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ مُمْكِنًا وَيَكُونَ وُجُودُهُ خَيْرًا مِنْ عَدَمِهِ فَإِذَا كَانَ عَدَمُهُ مُمْتَنِعًا : كَعَدَمِ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ فَهَذَا مَدْحٌ وَصِفَةُ كَمَالٍ وَإِذَا كَانَ عَدَمُهُ مُمْكِنًا فَالْأَوْلَى عَدَمُهُ : كَالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْهَا فَإِنَّهُ كَانَ أَنْ لَا يَخْلُقَهَا أَكْمَل مِنْ أَنْ يَخْلُقَهَا كَمَا أَنَّ مَا خَلَقَهُ كَانَ أَنْ يَخْلُقَهُ أَكْمَل مِنْ أَنْ لَا يَخْلُقَهُ . وَحِينَئِذٍ فَمَا وُجِدَ مِنْ الْحَوَادِثِ فِي ذَاتِهِ أَوْ بَائِنًا عَنْهُ كَانَ وُجُودُهُ وَقْتَ وُجُودِهِ هُوَ الْكَمَالَ وَعَدَمُهُ وَقْتَ عَدَمِهِ هُوَ الْكَمَالَ وَكَانَ عَدَمُهُ وَقْتَ وُجُودِهِ أَوْ وُجُودُهُ وَقْتَ عَدَمِهِ نَقْصًا يُنَزَّهُ اللَّهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ نَوْعِ الْحَوَادِثِ وَأَعْيَانِهَا وَأَنَّ النَّوْعَ لَوْ كَانَ حَادِثًا بِذَاتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَزِمَ كَمَالِهِ بَعْدَ نَقْصِهِ أَوْ نَقْصُهُ بَعْدَ كَمَالِهِ .

وَأَيْضًا فَالْحَادِثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَالْأَفْرَادُ يُمْكِنُ حُدُوثُهَا ؛ لِأَنَّ قَبْلَهَا أُمُورًا أُخْرَى تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا أَمَّا إذَا قُدِّرَ عَدَمُ النَّوْعِ كُلِّهِ ثُمَّ حَدَثَ لَزِمَ أَنْ يَحْدُثَ النَّوْعُ بِلَا سَبَبٍ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ . وَأَيْضًا فَهَذَا " النَّوْعُ " إمَّا أَنْ يُقَالَ : كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ ؛ أَوْ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ أَمْكَنَ وُجُودُهُ ؛ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِعَدَمِهِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَزِمَ حُدُوثُ الْقُدْرَةِ بِلَا سَبَبٍ وَانْتِقَالُ الْقُدْرَةِ وَالِامْتِنَاعُ إلَى الْإِمْكَانِ بِلَا سَبَبٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَفْرَادِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمْتَنِعًا حَتَّى يَحْصُلَ مَا يَصِيرُ بِهِ مُمْكِنًا ؛ أَوْ كَانَ مُمْكِنًا وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ وُجُودَهُ بَعْدَ تِلْكَ الْأُمُورِ . وَأَمَّا النَّوْعُ إذَا قِيلَ بِحُدُوثِهِ لَمْ يَخْتَصَّ بِوَقْتِ ؛ إذْ الْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا يُعْقَلُ فِيهِ وَقْتٌ يُمَيِّزُهُ عَنْ وَقْتٍ . وَ " أَيْضًا " فَكَذَلِكَ النَّوْعُ مُمْكِنٌ لَهُ لِوُجُودِهِ وَهُوَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ لَا مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَمَا كَانَ مُمْكِنًا لَمْ يَتَوَقَّفْ إلَّا عَلَى ذَاتِهِ لَزِمَ وُجُودُهُ بِوُجُودِ ذَاتِهِ كَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ قِدَمِ نَوْعِ هَذِهِ الصِّفَات وَلُزُومِ النَّوْعِ لِذَاتِهِ وَإِنْ قِيلَ بِحُدُوثِ الْأَفْرَادِ . وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ : لَا تَقُومُ بِذَاتِهِ الصِّفَات الْحَادِثَةُ أَيْ : لَا يَقُومُ بِهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الصِّفَات الْحَادِثَةِ بِمَعْنَى أَنَّ الْكَلَامَ صِفَةٌ وَالْإِرَادَةَ صِفَةٌ ؛ وَلَا تَحْدُثُ لَهُ هَذِهِ الصِّفَات وَلَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ هَذِهِ الصِّفَات ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا مُرِيدًا وَإِنْ حَدَثَتْ

أَفْرَادُ كُلِّ صِفَةٍ ، أَيْ : إرَادَةُ هَذَا الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ؛ فَنَفْسُ الصِّفَةِ لَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً . وَعَلَى هَذَا يُقَالُ : لَوْ خَلَقَ فِي ذَاتِهِ " الْكَلَامَ " وَلَوْ أَحْدَثَ فِي ذَاتِهِ الْكَلَامَ وَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ حَادِثًا أَوْ مُحْدَثًا ؛ فَإِنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ : أَيْ هَذِهِ الصِّفَةَ وَنَوْعَهَا لَيْسَ بِحَادِثِ وَلَا مُحْدَثٍ ؛ وَلَا مَخْلُوقٍ . وَأَمَّا الْكَلَامُ الْمُعَيَّنُ " كَالْقُرْآنِ " فَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا خَارِجًا عَنْ ذَاتِهِ ؛ بَلْ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ حَادِثٌ فِي ذَاتِهِ . وَهَلْ يُقَالُ : أَحْدَثَهُ فِي ذَاتِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُقَالُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } " وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لِهَذَا بَابًا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَاب وَالسُّنَّة . وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ : أَنَّ الْإِنْسَانَ يُسَمِّي مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ خَلْقًا لَهُ وَيَقُولُ : أَنَا خَلَقْت ذَلِكَ بَلْ يَقُولُ : أَنَا فَعَلْت وَتَكَلَّمْت وَقَدْ يَقُولُ : أَنَا أَحْدَثْت هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة } " وَقَالَ : { الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } " . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ " بِالْإِحْدَاثِ " هُنَا أَخَصّ مِنْ مَعْنَى الْإِحْدَاثِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ

وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا بِدْعَةً تُخَالِفُ مَا قَدْ سُنَّ وَشُرِعَ وَيُقَالُ لِلْجَرَائِمِ : الْأَحْدَاثُ وَلَفْظُ الْإِحْدَاثِ يُرِيدُونَ بِهِ ابْتِدَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : " إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ " { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } . وَلَا يُسَمُّونَ مَخْلُوقًا إلَّا مَا كَانَ بَائِنًا عَنْهُ كَقَوْلِهِ : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } وَإِذَا قَالُوا عَنْ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَمُخْتَلَقٌ فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى كَقَوْلِهِ : { وَتَخْلُقُونَ إفْكًا } .

فَصْلٌ :
وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي " مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ " إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . أَمَّا " الْفَلَاسِفَةُ " فَحُجَّتُهُمْ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا كَمَا أَنَّ حُجَّةَ " الْأَشْعَرِيَّةِ " إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ احْتَجَّ عَلَى قِدَمِ الْعَيْنِ بِأَدِلَّةِ لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ . وَأَمَّا " الْمُتَكَلِّمُونَ " فَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ مَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ هِيَ صَحِيحَةٌ بِاعْتِبَارِ وَتَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ ؛ فَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ الْمَحْدُودَةَ الَّتِي لَهَا أَوَّلٌ فَهُوَ حَادِثٌ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ فَكُلُّ مَا عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ حَادِثٍ لَهُ ابْتِدَاءٌ ؛ أَوْ مَعَ حَادِثٍ لَهُ ابْتِدَاءٌ : فَهُوَ أَيْضًا حَادِثٌ لَهُ ابْتِدَاءٌ بِالضَّرُورَةِ . وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَخْلُ مِنْ هَذِهِ الْحَوَادِثِ . وَأَيْضًا فَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ حَوَادِثَ يُحْدِثُهَا فِيهِ غَيْرُهُ فَهُوَ حَادِثٌ بَلْ مَا احْتَاجَ إلَى الْحَوَادِثِ مُطْلَقًا فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا قَامَتْ بِهِ حَوَادِثُ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ .

وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ " الْمُتَفَلْسِفَةِ " الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْفَلَكِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ ؛ فَإِنَّ " أَرِسْطُو " يَقُولُ : إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى لِلتَّشَبُّهِ بِهَا وبرقلس وَابْنُ سِينَا وَنَحْوُهُمَا يَقُولُونَ : إنَّهُ مَعْلُولٌ لَهُ أَيْ مُوجَبٌ لَهُ وَالْأَوَّلُ عِلَّةٌ فَاعِلَةٌ لَهُ ؛ فَالْجَمِيعُ يَقُولُونَ : إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى غَيْرِهِ مَعَ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ ؛ وَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا . وَيَقُولُونَ : هُوَ قَدِيمٌ ؛ وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ . وَيَقُولُ " ابْنُ سِينَا " إنَّهُ مُمْكِنٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ مَعَ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ . وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ كَانَ مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مُحْدَثًا مِنْ وُجُوهٍ : ( مِنْهَا : أَنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا وَأَمَّا الْقَدِيمُ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ فَلَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ . ( وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ حَاجَتِهِ تَحُلُّهُ الْحَوَادِثُ مِنْ غَيْرِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ قَاهِرٌ لَهُ تُحْدَثُ فِيهِ الْحَوَادِثُ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَا كَانَ مَقْهُورًا مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ وَلَا مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ ؛ وَلَا عَزِيزًا وَلَا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ؛ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَصْنُوعًا مَرْبُوبًا فَيَكُونُ مُحْدَثًا . وَ ( أَيْضًا فَإِذَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُحْدِثُهَا فِيهِ غَيْرُهُ وَلَمْ يَسْبِقْهَا ؛ بَلْ كَانَتْ لَازِمَةً لَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ مَقْهُورًا مَعَ الْغَيْرِ مُتَصَرَّفًا لَهُ ؛ يَدُلُّ

عَلَى أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ دَائِمًا وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ حَالَ حُدُوثِهِ فَقَطْ . كَمَا يُبْطِلُ قَوْل الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : يَفْتَقِرُ إلَيْهِ فِي دَوَامِهِ مَعَ قِدَمِهِ وَعَدَمِ حُدُوثِهِ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ مُحْدَثٌ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ حَالَ الْحُدُوثِ وَحَالَ الْبَقَاءِ . وَكَوْنُهُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ مِنْ غَيْرِهِ ؛ أَوْ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ مَعَ حَاجَتِهِ ؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ . وَأَمَّا كَوْنُهُ مَحَلًّا لِحَوَادِثَ يُحْدِثُهَا هُوَ فَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ لَا حَاجَتَهُ وَلَا حُدُوثَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ " الصَّحَابَةُ " يَذْكُرُونَ أَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ فِي الْعَالَمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْبُوبٌ ؛ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْمَرْبُوبُ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ تَحْدُثُ فِيهِ الْحَوَادِثُ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى غَيْرِهِ فَكُلُّ فَلَكٍ فَإِنَّهُ يُحَرِّكُهُ غَيْرُهُ فَتَحْدُثُ فِيهِ الْحَرَكَةُ مِنْ غَيْرِهِ فَالْفَلَكُ الْمُحِيطُ يُحَرِّكُهَا كُلَّهَا وَهُوَ مُتَحَرِّكٌ بِخِلَافِ حَرَكَتِهِ فَتَحْدُثُ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ حَادِثَةٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَهِيَ مُسْتَقِلَّةٌ بِحَرَكَتِهَا لَا تَحْتَاجُ فِيهَا إلَيْهِ ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ رَبًّا لَهَا وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ يُحَرِّكُهَا غَيْرُهَا فَكُلُّهَا مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ .

فَصْلٌ :
وَقَدْ ذَكَرْنَا " أَصْلَيْنِ " :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ مِنْ الْحُجَجِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ابْتَدَعُوهُ وَخَالَفُوا بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ .
الثَّانِي : أَنَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَقْصُودِهِمْ وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَقُولُوهُ نَوْعٌ وَكَوْنَهُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ نَوْعٌ آخَرُ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي حُجَجِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ . أَمَّا " الْمُتَفَلْسِفَةُ " فَمِثْلُ حُجَجِهِمْ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ ؛ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنْوَاعِ الْعِلَلِ الْأَرْبَعَةِ : " الْفَاعِلِيَّةِ " وَ " الغائية " وَ " الْمَادِّيَّةِ " وَ " الصورية " وَعُمْدَتُهُمْ : " الْفَاعِلِيَّةُ " وَهُوَ : أَنْ يَمْتَنِعَ أَنَّهُ يَصِيرُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَيَجِبُ أَنَّهُ مَا زَالَ فَاعِلًا وَهَذِهِ أَعْظَمُ عُمْدَةِ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ وَهِيَ أَظُنُّهَا مَنْقُولَةً عَنْ برقلس . وَأَمَّا " أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعُهُ فَهُمْ لَا يَحْتَجُّونَ بِهَا ؛ إذْ لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُمْ فَاعِلًا وَإِنَّمَا

احْتَجُّوا بِوُجُوبِ قِدَمِ الزَّمَانِ وَالْحَرَكَةِ وَهِيَ الصورية وَبِوُجُوبِ قِدَمِ الْمَادَّةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ مَسْبُوقٍ بِالْإِمْكَانِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ فَكُلُّ حَادِثٍ تَقْبَلُهُ مَادَّةٌ يَقْبَلُهُ وَأَمَّا " الْعِلَّةُ الغائية " فَمِنْ جِنْسِ " الْفَاعِلِيَّةِ " فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذِهِ الْحُجَجُ : إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ . وَأَمَّا قِدَمُ " الْفَاعِلِيَّةِ " وَهُوَ : أَنَّهُ مَا زَالَ فَاعِلًا فَيُقَالُ : هَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ ؛ فَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ بِالْفَاعِلِ أَنَّ مَفْعُولَهُ مُقَارِنٌ لَهُ فِي الزَّمَانِ ؛ وَإِذَا كَانَ فَاعِلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَجَبَ مُقَارَنَةُ مَفْعُولِهِ لَهُ فَلَا يَتَأَخَّرُ فِعْلُهُ فَهَذِهِ عُمْدَتُكُمْ وَالْفَاعِلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ وَعِنْدَ سَلَفِكُمْ وَعِنْدَكُمْ أَيْضًا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا فَيُحْدِثُهُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مُقَارِنًا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بَلْ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجِبُ تَأَخُّرُ كُلِّ مَفْعُولٍ لَهُ فَلَا يَكُونُ فِي مَفْعُولَاتِهِ شَيْءٌ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ فَيَكُونُ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثًا . ثُمَّ لِلنَّاسِ هُنَا طَرِيقَانِ : " مِنْهُمْ " مَنْ يَقُولُ : يَجِبُ تَأَخُّرُ كُلِّ مَفْعُولٍ لَهُ وَأَنْ يَبْقَى مُعَطَّلًا عَنْ الْفِعْلِ ثُمَّ يُفْعَلُ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ وَهَذَا النَّفْيُ يُنَاقِضُ دَوَامَ الْفَاعِلِيَّةِ فَهُوَ يُنَاقِضُ مُوجَبَ تِلْكَ الْحُجَجِ . وَ " الثَّانِي " : أَنْ يُقَالَ : مَا زَالَ فَاعِلًا لِشَيْءِ بَعْدَ شَيْءٍ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي اُخْتُصَّ بِالْقِدَمِ وَالْأَزَلِيَّةِ فَهُوَ " الْأَوَّلُ " الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ مَا زَالَ يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ .

فَيُقَالُ لَهُمْ : الْحُجَجُ الَّتِي تُقِيمُونَهَا فِي وُجُوبِ قِدَمِ " الْفَاعِلِيَّةِ " كَمَا أَنَّهَا تُبْطِلُ قَوْلَ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فَهِيَ أَيْضًا تُبْطِلُ قَوْلَكُمْ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ دَلَّتْ عَلَى دَوَامِ الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَيْتُمْ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَحْدُثَ فِي الْعَالَمِ حَادِثٌ ؛ إذْ كَانَ الْمَفْعُولُ الْمَعْلُولُ عِنْدَكُمْ يَجِبُ أَنْ يُقَارِنَ عِلَّتَهُ الْفَاعِلِيَّةَ فِي الزَّمَانِ وَكُلُّ مَا سِوَى الْأَوَّلِ مَفْعُولٌ مَعْلُولٌ لَهُ فَتَحْدُثُ مُقَارَنَةُ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَلَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ حَادِثٌ وَهُوَ خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ وَالْمَعْقُولِ وَبَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ بَنِي آدَمَ كُلِّهِمْ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ . وَأَيْضًا إذَا وَجَبَ فِي الْعِلَّةِ أَنْ يُقَارِنَهَا مَعْلُولُهَا فِي الزَّمَانِ فَكُلُّ حَادِثٍ يَجِبُ أَنْ يَحْدُثَ مَعَ حُدُوثِهِ حَوَادِثُ مُقْتَرِنَةٌ فِي الزَّمَانِ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَلَا نِهَايَةَ لَهَا . وَهَذَا قَوْلٌ بِوُجُودِ عِلَلٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا ؛ وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ ؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ امْتِنَاعِ ذَلِكَ فِي ذَاتِ الْعِلَّةِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا ؛ فَكَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْدُثَ عِنْدَ كُلِّ حَادِثٍ ذَاتُ عِلَلٍ لَا تَتَنَاهَى فِي آنٍ وَاحِدٍ ؛ وَكَذَلِكَ شُرُوطُ الْعِلَّةِ وَتَمَامُهَا ؛ فَإِنَّهَا إحْدَى جُزْأَيْ الْعِلَّةِ ؛ فَلَا يَجُوزُ وُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي آنٍ وَاحِدٍ لَا فِي هَذَا الْجُزْءِ وَلَا فِي هَذَا الْجُزْءِ ؛ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ . وَأَمَّا النِّزَاعُ فِي " وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ " فَقَدْ زَالَ جُزْءُ حُجَّتِهِمْ لَيْسَ هُوَ مَا قَالُوهُ ؛ بَلْ مُوجَبُهُ هُوَ " الْقَوْلُ الْآخَرُ " وَهُوَ : أَنَّ الْفَاعِلَ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَحِينَئِذٍ كَلُّ مَفْعُولٍ مُحْدَثٍ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا نَقِيضُ قَوْلِهِمْ ؛ بَلْ هَذَا مِنْ أَبْلَغِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ

خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ؛ فَإِنَّهُ بِهَذَا يَثْبُتُ أَنَّهُ لَا قَدِيمَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ كُلُّ مَا سِوَاهُ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ سَوَاءٌ سُمِّيَ عَقْلًا أَوْ نَفْسًا أَوْ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . بِخِلَافِ دَلِيلِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ عَلَى الْحُدُوثِ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَنَحْنُ أَثْبَتْنَا مَوْجُودَاتٍ غَيْرَ الْعُقُولِ وَ " أَهْلُ الْكَلَامِ " لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى انْتِفَائِهَا وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُونَ : مِثْلُ الشِّهْرِسْتَانِيّ وَالرَّازِي والآمدي . وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِلْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ وَدَلِيلُهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا ؛ وَلِهَذَا صَارَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُجِيبُونَهُمْ " بِالْجَوَابِ الْبَاهِرِ " إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّنَاقُضِ ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ نَفْسَ مَا احْتَجُّوا بِهِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ ؛ وَيَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الْقَدِيمُ دَلَالَةً صَحِيحَةً لَا مَطْعَنَ فِيهَا . فَقَدْ تَبَيَّنَ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - أَنَّ عُمْدَتَهُمْ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ وَهُوَ : حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ - . وَأَمَّا " الْحُجَّةُ " الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَزَلْ الْحَرَكَةُ مَوْجُودَةً وَالزَّمَانُ مَوْجُودًا وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ هَذَا الْجِنْسِ - وَهَذَا مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعُهُ - فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَزَمَانِهَا وَلَا مِنْ الْمُتَحَرِّكَاتِ ؛ فَلَا تَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ : وَهُوَ قِدَمُ الْفَلَكِ وَحَرَكَتُهُ وَزَمَانُهُ ؛

بَلْ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَكَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحَرِّكٍ فَجَمِيعُ الْحَرَكَاتِ تَنْتَهِي إلَى مُحَرِّكٍ أَوَّلٍ . وَهُمْ يُسَلِّمُونَ هَذَا فَذَلِكَ الْمُحَرِّكُ الْأَوَّلُ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ حَرَكَةُ مَا سِوَاهُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّكًا لَزِمَ صُدُورُ الْحَرَكَةِ عَنْ غَيْرِ مُتَحَرِّكٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ ؛ فَإِنَّ الْمَعْلُولَ إنَّمَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لِعِلَّتِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُولُ يَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ بَاقِيَةً عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ : كَمَا قُلْتُمْ : يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْدُثَ عَنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ؛ بَلْ امْتِنَاعُ دَوَامِ الْحُدُوثِ عَنْهَا أَوْلَى مِنْ امْتِنَاعِ حُدُوثٍ مُتَجَدِّدٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُمْتَنِعِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ ذَاكَ . فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ : مِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ سَبَبٌ يُوجِبُ كَوْنَهُ فَاعِلًا وَأَنَّهُ إذَا كَانَ حَالُ الْفَاعِلِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْفِعْلِ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا وَلَمْ يَحْدُثْ عَنْهُ شَيْءٌ قِيلَ لَهُمْ : وَهَذَا الْمَعْلُومُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ مُوجَبُ أَنَّهَا لَا يَحْدُثُ عَنْهَا فِي الزَّمَانِ الثَّانِي شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ إلَّا لِمَعْنَى حَدَثَ فِيهَا فَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا شَيْءٌ لَمْ يَحْدُثْ عَنْهَا شَيْءٌ . فَإِذَا قِيلَ بِدَوَامِ الْحَوَادِثِ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْدُثَ فِيهَا شَيْءٌ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِوُجُودِ الْمُمْتَنِعَاتِ دَائِمًا ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ حَادِثٍ يَحْدُثُ إلَّا قُلِبَتْ الذَّاتُ عِنْدَ حُدُوثِهِ لِمَا كَانَتْ قَبْلَ حُدُوثِهِ وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ عَنْهَا حُدُوثُهُ ؛ فَالْآنَ كَذَلِكَ يَمْتَنِعُ عَنْهَا حُدُوثُهُ .

أَوْ يُقَالُ : كَانَتْ لَا تُحْدِثُهُ فَهِيَ الْآنَ لَا تُحْدِثُ فَهِيَ عِنْدَ حُدُوثِ كُلِّ حَادِثٍ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَبْلَ حُدُوثِهِ لَمْ تَكُنْ مُحْدِثَةً لَهُ بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فَكَذَلِكَ الْحِينُ الَّذِي قُدِّرَ فِيهِ حُدُوثُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُدُوثُ فِيهِ مُمْتَنِعًا . وَهَذَا مِمَّا اعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِأَنَّهُ لَازِمٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ وَالرَّازِي وَغَيْرُهُمَا وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ حُدُوثَ المتغير عَنْ غَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ مُخَالِفٌ لِلْعُقَلَاءِ وَابْنُ سِينَا تَفَطَّنَ لِهَذَا .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ :
مَا يَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - عَنْ جَوَابِ شُبْهَةِ " الْمُعْتَزِلَةِ " فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ ؟ ادَّعَوْا أَنَّ " صِفَاتِ الْبَارِي لَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى ذَاتِهِ " لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقُومَ وُجُودُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِ عَدَمِهَا عَدَمُهُ أَوْ لَا فَإِنْ يَقُمْ فَقَدْ تَعَلَّقَ وُجُودُهُ بِهَا وَصَارَ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ إلَّا بِمَجْمُوعِهَا وَالْمُرَكَّبُ مَعْلُولٌ ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ وُجُودُهُ بِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِ عَدَمِهَا عَدَمُهُ فَهِيَ عَرَضِيَّةٌ وَالْعَرَضُ مَعْلُولٌ ؛ وَهُمَا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي غَيْرُ زَائِدَةٍ عَلَى ذَاتِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ
فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَهُ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَشِيئَةٌ وَعِزَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } وَقَوْلِهِ : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } وَقَوْلِهِ { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } .

وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ } " وَفِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي } " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " لَا وَعِزَّتِك " وَهَذَا كَثِيرٌ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ - وَهُوَ إمَامٌ - فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا ؛ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ : أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ } فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَسْمِيَتِهَا صِفَةَ الرَّحْمَنِ . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ . فَثَبَتَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُخْبَرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ فَإِنَّ الْوَصْفَ هُوَ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ لِلْبَصَرِ أَوْ السَّمْعِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ ثَوْبٌ يَصِفُ الْبَشَرَةَ أَوْ لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } وَقَالَ : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَنْعَتُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا } " وَالنَّعْتُ الْوَصْفُ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَ " الصِّفَةُ " مَصْدَرُ وَصَفْت الشَّيْءَ أَصِفُهُ وَصْفًا وَصِفَةً مِثْلُ وَعَدَ وَعْدًا وَعِدَةً وَوَزَنَ وَزْنًا وَزِنَةً ؛ وَهُمْ يُطْلِقُونَ اسْمَ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا يُسَمُّونَ الْمَخْلُوقَ خَلْقًا وَيَقُولُونَ : دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ فَإِذَا وُصِفَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا : سُمِّيَ الْمَعْنَى الَّذِي وُصِفَ بِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ صِفَةً . فَيُقَالُ لِلرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ : صِفَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، هَذَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ .

ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ " الْمُعْتَزِلَةِ " وَنَحْوِهِمْ يَقُولُونَ : الْوَصْفُ وَالصِّفَةُ اسْمٌ لِلْكَلَامِ فَقَطْ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ مَعَانٍ ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ " مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية " يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالصِّفَةِ فَيَقُولُونَ : الْوَصْفُ هُوَ الْقَوْلُ وَالصِّفَةُ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالْمَوْصُوفِ ؛ وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ تَارَةً وَعَلَى الْمَعْنَى أُخْرَى . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ قَدْ صَرَّحَا بِثُبُوتِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَغَيْرُهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ . وَأَمَّا لَفْظُ " الذَّاتِ " فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ تَأْنِيثُ ذُو وَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ مُضَافًا إلَى أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى الْوَصْفِ بِذَلِكَ . فَيُقَالُ : شَخْصٌ ذُو عِلْمٍ وَذُو مَالٍ وَشَرَفٍ وَيَعْنِي حَقِيقَتَهُ ؛ أَوْ عَيْنٌ أَوْ نَفْسٌ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَسُلْطَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ يُضَافُ إلَى الْأَعْلَامِ كَقَوْلِهِمْ ذُو عَمْرٍو وَذُو الْكُلَاعِ وَقَوْلِ عُمَرَ : الْغَنِيُّ بِلَالٌ وَذَوُوهُ . فَلَمَّا وَجَدُوا اللَّهَ قَالَ فِي الْقُرْآنِ { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } وَ { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } : وَصَفُوهَا ، فَقَالُوا : نَفْسٌ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَرَحْمَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ حَذَفُوا الْمَوْصُوفَ وَعَرَّفُوا الصِّفَةَ . فَقَالُوا : الذَّاتُ . وَهِيَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ ؛ لَيْسَتْ قَدِيمَةً وَقَدْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ لَكِنْ بِمَعْنَى آخَرَ مِثْلَ قَوْلِ خبيب الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ :

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ * * * يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ كُلُّهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ } " وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ : كُلُّنَا أَحْمَقُ فِي ذَاتِ اللَّهِ . وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ : أُصِبْنَا فِي ذَاتِ اللَّهِ . وَالْمَعْنَى فِي جِهَةِ اللَّهِ وَنَاحِيَتِهِ ؛ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ وَلِابْتِغَاءِ وَجْهِهِ ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ النَّفْسَ . وَنَحْوُهُ فِي الْقُرْآنِ { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وَقَوْلُهُ : { عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أَيْ الْخَصْلَةِ وَالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ صَاحِبَةُ بَيْنِكُمْ وَعَلِيمٌ بِالْخَوَاطِرِ وَنَحْوِهَا الَّتِي هِيَ صَاحِبَةُ الصُّدُورِ . فَاسْمُ " الذَّاتِ " فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ الْمَحْضَةِ : بِهَذَا الْمَعْنَى . ثُمَّ أَطْلَقَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى " النَّفْسِ " بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا صَاحِبَةُ الصِّفَاتِ . فَإِذَا قَالُوا الذَّاتُ فَقَدْ قَالُوا الَّتِي لَهَا الصِّفَاتُ . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَغَيْرِ مَرْفُوعٍ " { تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ ؛ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ } " فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ أَوْ نَظِيرُهُ ثَابِتًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ : فَقَدْ وُجِدَ فِي كَلَامِهِمْ إطْلَاقُ اسْمِ " الذَّاتِ " عَلَى النَّفْسِ كَمَا يُطْلِقُهُ الْمُتَأَخِّرُونَ . وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ يَبْقَى " كَالْحَرَكَةِ " وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَقَائِهَا كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَبْقَى . وَهَؤُلَاءِ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْأَعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ ؛

فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِصِفَاتِ اللَّهِ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ أَوْلَى وَأَحْرَى مَعَ أَنَّ " هَذِهِ الْحُجَّةَ " عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ فِيهَا نَظَرٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَهَكَذَا أَيْضًا يُقَالُ لِلْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ مُبْدِئٌ لِلْعَالَمِ وَسَبَبٌ لِوُجُودِهِ وَيَذْكُرُونَ لَهُ مِنْ الْعَقْلِ وَالْعِنَايَةِ أُمُورًا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إثْبَاتِهَا . فَالْكَلَامُ فِيمَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالْكَلَامِ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ لِجَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ بِالِاضْطِرَارِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ . فَإِذَا كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ فَكَذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِنَفْسِهِ مِنْ الصِّفَاتِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَسْتَحِقُّهُ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ جَوْهَرًا قَامَ بِهِ عَرَضٌ مُحْدَثٌ دَلَّ عَلَى حُدُوثِ الْجَوْهَرِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا قَامَ بِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ عَرَضًا إلَّا إذَا اسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا . فَإِنَّهُ إذَا سَاغَ لِقَائِلِ أَنْ لَا يُسَمِّيَ بَعْضَ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا : سَاغَ لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يُسَمِّيَ بَعْضَ مَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ عَرَضًا ؛ بَلْ نَفْيُ الْعَرَضِ عَنْ الْمَعَانِي الْبَاقِيَةِ أَقْرَبُ إلَى اللُّغَةِ فَإِنْ سَمَّى الْمُسَمِّي كُلَّ مَا قَامَ بِغَيْرِهِ عَرَضًا سَاغَ حِينَئِذٍ أَنْ يُسَمِّيَ كُلَّ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا .

" وَحِينَئِذٍ " فَالِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ عَرَضٍ وَصِفَةٍ عَلَى حُدُوثِ جَوْهَرِهِ وَمَوْصُوفِهِ : لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَرَضٍ وَصِفَةٍ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ جَوْهَرِهِ وَمَوْصُوفِهِ ؛ وَلَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَبَطَلَ قَوْلُهُمْ بِحُدُوثِ جَمِيعِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ لِدُخُولِ الْقَدِيمِ فِي هَذَا الْعُمُومِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ؛ بَلْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِإِمْكَانِ شَيْءٍ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ الْجَوَابُ مِنْ طَرِيقَيْنِ :
أَحَدُهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ الْمُعَارَضَةِ وَالْإِلْزَامِ وَمِنْ جِهَةِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْإِفْسَادِ . وَتَبَيَّنَ بِالْوَجْهَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فَاسِدَةٌ عَلَى أُصُولِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَفَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهَا نَفْيُهَا وَمَا لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِهِ نَفْيُهُ كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي : مِنْ جِهَةِ الْحَلِّ وَالْبَيَانِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ - وَهِيَ شُبْهَةُ " التَّرْكِيبِ " وَهِيَ فَلْسَفِيَّةٌ مُعْتَزِلِيَّةٌ وَالْأُولَى مُعْتَزِلِيَّةٌ مَحْضَةٌ - فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَجْعَلُونَ أَخَصَّ وَصْفِهِ الْقَدِيمَ وَيُثْبِتُونَ حُدُوثَ مَا سِوَاهُ . وَالْفَلَاسِفَةُ يَجْعَلُونَ أَخَصَّ وَصْفِهِ وُجُوبَ وُجُودِهِ بِنَفْسِهِ وَإِمْكَانَ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِالْحُدُوثِ عَنْ عَدَمٍ وَيَجْعَلُونَ " التَّرْكِيبَ " الَّذِي ذَكَرُوهُ مُوجِبًا لِلِافْتِقَارِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ .

فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مُشْتَمِلٌ عَلَى فَنَّيْنِ : الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ وَ الثَّانِي الْحَلُّ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَهُ عَالِمًا قَادِرًا وَيُثْبِتُونَهُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ فَاعِلًا لِغَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَفْهُومَ كَوْنِهِ عَالِمًا غَيْرُ مَفْهُومِ الْفِعْلِ لِغَيْرِهِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ ذَاتُهُ مُرَكَّبَةً مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَزِمَ " التَّرْكِيبُ " الَّذِي ادَّعَوْهُ ؛ وَإِنْ كَانَتْ عَرَضِيَّةً لَزِمَ " الِافْتِقَارُ " الَّذِي ادَّعَوْهُ . وَ بِالْجُمْلَةِ فَمَا قَالُوهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ : فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . وَأَمَّا " الْمُنَاقَضَةُ " : فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ فَلَا وَاجِبَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ التَّرْكِيبِ مُحَالٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إنَّمَا نَفَوْا الْمَعَانِيَ لِاسْتِلْزَامِهَا ثُبُوتَ " التَّرْكِيبِ " الْمُسْتَلْزِمِ لِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ ؛ فَإِنَّ نَفْيَ الْمَعَانِي مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْوُجُوبِ ؛ فَكَيْفَ يَنْفُونَهَا لِثُبُوتِهِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِهِ حَقٌّ مَوْجُودٌ عَالِمٌ قَادِرٌ فَاعِلٌ ؛ وَالْمُمْكِنُ قَدْ يَكُونُ مَوْجُودًا عَالِمًا قَادِرًا فَاعِلًا . وَلَيْسَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ ؛ بَلْ فِي مَعَانٍ مَعْقُولَةٍ مَعْلُومَةٍ بِالِاضْطِرَارِ . فَإِنْ كَانَ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمًا لِمَا بِهِ الِامْتِيَازُ : فَقَدْ صَارَ الْوَاجِبُ مُمْكِنًا وَالْمُمْكِنُ وَاجِبًا ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا : فَقَدْ صَارَ لِلْوَاجِبِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ

الْمُمْكِنِ غَيْرُ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ ؛ فَصَارَ فِيهِ جِهَةُ اشْتِرَاكٍ وَجِهَةُ امْتِيَازٍ ؛ وَهَذَا عِنْدَهُمْ " تَرْكِيبٌ " مُمْتَنِعٌ . فَإِنْ كَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِ الْوَاجِبِ فَقَدْ صَارَ ثُبُوتُ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِهِ ؛ وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ . فَثَبَتَ بِهَذَا " الْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ " أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ مُتَنَاقِضَةٌ فِي نَفْسِهَا كَمَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ عَلَى أُصُولِهِمْ لِمَا أَثْبَتُوهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي هُوَ الْحَلُّ . فَنَقُولُ : " التَّرْكِيبُ " الْمَعْقُولُ فِي عَقْلِ بَنِي آدَمَ وَلُغَةِ الْآدَمِيِّينَ هُوَ تَرْكِيبُ الْمَوْجُودِ مِنْ أَجْزَائِهِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَهُوَ تَرْكِيبُ الْجِسْمِ مِنْ أَجْزَائِهِ كَتَرْكِيبِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَأَخْلَاطِهِ وَتَرْكِيبِ الثَّوْبِ مِنْ أَجْزَائِهِ وَتَرْكِيبِ الشَّرَابِ مِنْ أَجْزَائِهِ ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ كَانْفِصَالِ الْيَدِ عَنْ الرِّجْلِ أَوْ شَائِعًا فِيهِ كَشِيَاعِ الْمَرَّةِ فِي الدَّمِ وَالْمَاءِ فِي اللَّبَنِ . وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ " الْمَنْطِقِيُّونَ " مِنْ تَرْكِيبِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ : كَتَرْكِيبِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَاطِقٍ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِمَّا بِهِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ وَمِمَّا بِهِ امْتِيَازُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْوَاعِ وَتَقْسِيمُهُمْ الصِّفَاتِ إلَى " ذَاتِيٍّ " تَتَرَكَّبُ مِنْهُ الْحَقَائِقُ وَهُوَ الْجِنْسُ وَالْفَصْلُ ؛ وَإِلَى " عَرَضِيٍّ " وَهُوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ وَالْخَاصَّةُ . ثُمَّ الْحَقِيقَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُمَيَّزِ : هِيَ " النَّوْعُ " . فَنَقُولُ : هَذَا " التَّرْكِيبُ " أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ ذِهْنِيٌّ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ ؛ كَمَا أَنَّ " ذَاتَ النَّوْعِ " مِنْ حَيْثُ هِيَ عَامَّةٌ لَيْسَ لَهَا ثُبُوتٌ فِي الْخَارِجِ بَلْ نَفْسُ

الْحَقَائِقِ الْخَارِجَةِ لَيْسَ فِيهَا عُمُومٌ خَارِجِيٌّ وَلَا تَرْكِيبٌ خَارِجِيٌّ كَمَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ " الْمَعْدُومِ " : إنَّهُ شَيْءٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ ؛ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ بِهِ . فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ فِيهِ ذَوَاتٌ مُتَمَيِّزَةٌ بَعْضُهَا حَيَوَانِيَّةٌ وَبَعْضُهَا ناطقية وَبَعْضُهَا ضاحكية وَبَعْضُهَا حَسَّاسِيَّةٌ ؛ بَلْ الْعَقْلُ يُدْرِكُ مِنْهُ مَعْنًى وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتٌ لِنَوْعِ آخَرَ . فَيَقُولُ فِيهِ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ وَيُدْرِكُ فِيهِ مَعْنًى مُخْتَصًّا ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ . فَيَقُولُ : هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْهُمَا ثُمَّ إذَا أَدْرَكَ فِيهِ الْمَعْنَيَيْنِ : لَمْ يُدْرِكْ أَنَّ أَحَدَهُمَا فِيهِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْآخَرِ مُنْفَصِلٌ ؛ كَمَا أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْوُجُودَ وَالْوُجُوبَ وَالْقِيَامَ بِالنَّفْسِ وَالْإِقَامَةَ لِلْغَيْرِ : لَمْ يُدْرِكْ أَحَدَ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ مُتَمَيِّزًا عَنْهُ . بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّعْمَ وَاللَّوْنَ وَالرِّيحَ الْقَائِمَةَ بِالْجِسْمِ : لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِمَحَالِّهَا ؛ وَإِنَّمَا الْحِسُّ يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ . فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ " التَّرْكِيبِ " : لَيْسَ مِنْ جِنْسِ تَرْكِيبِ الْجَسَدِ مِنْ أَبْعَاضِهِ وَأَخْلَاطِهِ ؛ فَلَيْسَتْ الْأَبْعَاضُ كَالْأَعْرَاضِ وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا مُرَكَّبًا فَإِنَّ هَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ . وَلَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ : لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التَّرْكِيبِ الَّذِي يَعْقِلُهُ بَنُو آدَمَ بِالْفِطْرَةِ الْأُولَى حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأَجْزَاءِ . إذَا عُرِفَ هَذَا : كَانَ الْجَوَابُ مِنْ فَنَّيْنِ فِي الْحَلِّ ؛ كَمَا كَانَ مَنْ فَنَّيْنِ فِي الْإِبْطَالِ . ( أَحَدُهُمَا : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هُنَاكَ تَرَكُّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ بِحَالِ وَإِنَّمَا هِيَ ذَاتٌ قَائِمَةٌ

بِنَفْسِهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلَوَازِمِهَا الَّتِي لَا يَصِحُّ وُجُودُهَا إلَّا بِهَا ؛ وَلَيْسَتْ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ أَجْزَاءً لَهُ وَلَا أَبْعَاضًا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ أَوْ تَتَمَيَّزُ عَنْهُ ؛ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُ أَوْ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً . فَثُبُوتُ التَّرْكِيبِ وَنَفْيُهُ فَرْعُ تَصَوُّرِهِ وَتَصَوُّرُهُ هُنَا مُنْتَفٍ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا يُسَمَّى مُرَكَّبًا : فَلَيْسَ هَذَا مُسْتَلْزِمًا لِلْإِمْكَانِ وَلَا لِلْحُدُوثِ . وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي عُلِمَ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى فَقِيرًا إلَى خَلْقِهِ ؛ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهِ وَمَوْجُودَةٌ بِذَاتِهِ وَأَنَّهُ أَحَدٌ صَمَدٌ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ لَيْسَ ثُبُوتُهُ وَغِنَاهُ مُسْتَفَادًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ حَقًّا صَمَدًا قَيُّومًا فَهَلْ يُقَالُ فِي ذَلِكَ إنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ أَوْ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَا تَقُومُ إلَّا بِنَفْسِهِ ؟ فَالْقَوْلُ فِي " صِفَاتِهِ " الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى نَفْسِهِ هُوَ الْقَوْلُ فِي نَفْسِهِ . فَإِذَا قِيلَ صِفَاتُهُ ذَاتِيَّةٌ وَقِيلَ إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا : كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةَ هِيَ مَا لَا تَكُونُ النَّفْسُ بِدُونِهَا . وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا : ذَاتُهُ مُوجِبَةٌ لِوُجُودِهِ أَوْ هُوَ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ أَوْ هُوَ مُقْتَضٍ لِوُجُوبِهِ . فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا وَالْمَعْلُولُ مُفْتَقِرٌ قِيلَ لَهُ : لَيْسَتْ الْعِلَّةُ هُنَا غَيْرَ الْمَعْلُولِ وَالْمُنْتَفِي افْتِقَارُهُ إلَى غَيْرِهِ وَكَوْنُهُ مَعْلُولًا لِسِوَاهُ . وَأَمَّا قِيَامُهُ بِنَفْسِهِ فَحَقٌّ .

ثُمَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ الَّتِي تُوهِمُ مَعْنًى فَاسِدًا : إنْ أُطْلِقَتْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ أَوْ لَمْ تُطْلَقْ بِحَالِ : لَمْ يَضُرّ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ مَعْلُومًا لَا يَنْدَفِعُ . فَهَذَا الْمَعْنَى الشَّرِيفُ يَجِبُ التَّفَطُّنُ لَهُ فَإِنَّهُ يُزِيلُ شُبَهًا خَيَالِيَّةً أَضَلَّتْ خَلْقًا كَثِيرًا . وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا " الْمَاهِيَّاتُ " مَجْعُولَةٌ : فَنَعْنِي بِذَلِكَ الْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ ؛ إذْ لَيْسَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ شَيْئًا غَيْرَ وُجُودِهِ وَذَلِكَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ هُوَ الْمُفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا . فَالْمُرَكَّبُ فِي الْخَارِجِ : لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْفَاعِلِ لِكَوْنِهِ مُرَكَّبًا بَلْ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ مُفْتَقِرَةٌ وَآنِيَّتَهُ مُضْطَرَّةٌ لَيْسَ لَهُ ثُبُوتٌ وَلَا وُجُودٌ وَلَا آنِيَّةٌ إلَّا مِنْ رَبِّهِ ؛ وَلِذَلِكَ افْتَقَرَ الْمُفْرَدُ إلَى الصَّانِعِ ؛ كَافْتِقَارِ الْمُرَكَّبِ . وَأَمَّا مَا يَعْلَمُهُ الْعَقْلُ مِنْ " الْمَاهِيَّاتِ " مُفْرَدِهَا وَمُرَكَّبِهَا : فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْفَاعِلِ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ عِلْمَ الْعَبْدِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ ؛ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُرَكَّبَ مُفْتَقِرٌ إلَى أَجْزَائِهِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْمُرَكَّبَ لَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَجْزَائِهِ ؛ لَا فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ إلَّا كَافْتِقَارِ الْمُفْرَدِ إلَى نَفْسِهِ ؛ فَجُزْءُ الْمُرَكَّبِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِ الْمُفْرَدِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُفْتَقِرٌ إلَى غَيْرِهِ فِي الْخَارِجِ .
فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ : جَازَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى وَصْفِهِ أَوْ جُزْئِهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ هَذَا . فَلَيْسَ وَصْفُ الْمَوْصُوفِ وَجُزْءُ الْمُرَكَّبِ

- الَّذِي لَا تَقُومُ ذَاتُهُ إلَّا بِهِ - إلَّا بِمَنْزِلَةِ ذَاتِهِ وَلَيْسَ فِي قَوْلِنَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ مَا يَرْفَعُ وُجُوبَهُ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا . فَظَهَرَ الْخَلَلُ فِي كُلِّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلتَّرْكِيبِ وَأَنَّ التَّرْكِيبَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَاجَةِ إلَى الْغَيْرِ وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةً : بَطَلَ هَذَا بِالْكُلِّيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَى جِيرَانِهِ سُكَّانِ " الْمَدِينَةِ طِيبَةَ " مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
إلَى الشِّيحِ الْإِمَامِ الْعَارِفِ النَّاسِكِ الْمُقْتَدِي الزَّاهِدِ الْعَابِدِ : شَمْسِ الدِّينِ كَتَبَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُ بِرُوحِ مِنْهُ وَآتَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ وَعَلَّمَهُ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا وَجَعَلَهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَخَاصَّتِهِ الْمُصْطَفَيْنَ وَرَزَقَهُ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَاللَّحَاقَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - مِنْ أَحْمَد بْنِ تَيْمِيَّة : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ : وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى صَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَخِيرَتِهِ مِنْ بَرِيَّتِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ " مُحَمَّدٍ " وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .

كِتَابِي إلَيْك - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إحْسَانًا يُنِيلُك بِهِ عَالِيَ الدَّرَجَاتِ فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ عَنْ نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٍ وَعَافِيَةٍ شَامِلَةٍ لَنَا وَلِسَائِرِ إخْوَانِنَا - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهْلُهُ وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ . وَقَدْ وَصَلَ مَا أَرْسَلْته مِنْ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى وَنَرْجُو مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا مُبَلِّغًا لِدَرَجَاتِ قَصَرَ الْعَمَلُ عَنْهَا وَسَبَقَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنَّهَا سَتُنَالُ وَأَنْ تَكُونَ الْخِيرَةُ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاءٍ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَأَنَّ النِّيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَشَوِّقَةً إلَى أَمْرٍ حَجَزَ عَنْهُ الْمَرَضُ فَإِنَّ الْخِيرَةَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَخِيرُ لَكُمْ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ خِيَرَةً تُحَصِّلُ لَكُمْ رِضْوَانَ اللَّهِ فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ وَمَا تَشْتَكِي مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْقَلْبِ وَالدِّينِ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَتَوَلَّاكُمْ بِحُسْنِ رِعَايَتِهِ تَوَلِّيًا لَا يَكِلُكُمْ فِيهِ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَيُصْلِحَ لَكُمْ شَأْنَكُمْ كُلَّهُ صَلَاحًا يَكُونُ بَدْؤُهُ مِنْهُ وَإِتْمَامُهُ عَلَيْهِ وَيُحَقِّقَ لَكُمْ مَقَامَ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . مَعَ أَنَّا نَرْجُو أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ وَشَهَادَةُ التَّأْخِيرِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّتِي يَسْتَوْجِبُ بِهَا التَّقَدُّمَ وَيُتِمُّ لَهُ بِهَا النِّعْمَةَ وَيَكْفِي بِهَا مُؤْنَةَ شَيْطَانِهِ الْمُزَيِّنِ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ وَمُؤْنَةَ نَفْسِهِ الَّتِي تُحِبُّ أَنْ تُحْمَدَ بِمَا لَمْ تَفْعَلْ وَتَفْرَحَ

بِمَا أَتَتْ . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ }.
وَفِي الْأَثَرِ - أَظُنُّهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - : مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ . وَقَالَ : وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا أَمِنَ أَحَدٌ عَلَى إيمَانٍ يُسْلَبُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَلَّا يُسْلَبَهُ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ .
وَقَالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فَذَكَرَهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَغَفَرَ لَهُمْ سَيِّئَهَا فَيَقُولُ الرَّجُلُ : أَيْنَ أَنَا مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْنِي : وَهُوَ مِنْهُمْ وَذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَقْبَحِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْبَطَ حَسَنَهَا فَيَقُولُ الْقَائِلُ لَسْت مِنْ هَؤُلَاءِ ؟ يَعْنِي : وَهُوَ مِنْهُمْ . هَذَا الْكَلَامُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ .
فَلْيَبْرُدْ الْقَلْبُ مِنْ وَهَجِ حَرَارَةِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ إنَّهَا سَبِيلٌ مَهِيعٌ لِعِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ أَطْبَقَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ اللَّهِ بِالْمَكَانَةِ الْعَالِيَةِ مَعَ أَنَّ الِازْدِيَادَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ هُوَ النَّافِعُ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ مَا لَمْ يُفْضِ إلَى تَسَخُّطٍ لِلْمَقْدُورِ أَوْ يَأْسٍ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ؛ أَوْ فُتُورٍ عَنْ الرَّجَاءِ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّاكُمْ بِوَلَايَةٍ مِنْهُ وَلَا يَكِلُكُمْ إلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ .

وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ طَلَبِ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ صَرْفِ الْكَلَامِ مِنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ فَأَنَا أَذْكُرُ مُلَخَّصَ الْكَلَامِ الَّذِي جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَا حَكَيْته لَك وَطَلَبْته وَكَانَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَلَى مَا فِي الْحِكَايَةِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَتَغْيِيرٍ . قَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ : إذَا أَرَدْنَا أَنْ نَسْلُكَ طَرِيقَ سَبِيلِ السَّلَامَةِ وَالسُّكُوتِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي تَصْلُحُ عَلَيْهَا السَّلَامَةُ قُلْنَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : آمَنْت بِاَللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَآمَنْت بِرَسُولِ اللَّهِ وَمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا سَلَكْنَا سَبِيلَ الْبَحْثِ وَالتَّحْقِيقِ فَإِنَّ الْحَقَّ مَذْهَبُ مَنْ يَتَأَوَّلُ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَ الصِّفَاتِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ . فَقُلْت لَهُ : أَمَّا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَهُ وَمَنْ اعْتَقَدَهُ وَلَمْ يَأْتِ بِقَوْلِ يُنَاقِضُهُ فَإِنَّهُ سَالِكٌ سَبِيلَ السَّلَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمَّا إذَا بَحَثَ الْإِنْسَانُ وَفَحَصَ وَجَدَ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُخَالِفُونَ بِهِ أَهْلَ الْحَدِيثِ كُلَّهُ بَاطِلًا وَتَيَقَّنَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَالَ : أَتُحِبُّ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَنَاظَرُوا فِي هَذَا ؟ فَتَوَاعَدْنَا يَوْمًا فَكَانَ فِيمَا تَفَاوَضْنَا : أَنَّ أُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا مُتَأَخِّرُو الْمُتَكَلِّمِينَ - مِمَّنْ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ - لِأَهْلِ الْحَدِيثِ " ثَلَاثُ مَسَائِلَ "

وَصْفُ اللَّهِ بِالْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ .
وَمَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ .
وَمَسْأَلَةُ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ .
فَقُلْت لَهُ : نَبْدَأُ بِالْكَلَامِ عَلَى " مَسْأَلَةِ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ " فَإِنَّهَا الْأُمُّ وَالْبَاقِي مِنْ الْمَسَائِلِ فَرْعٌ عَلَيْهَا وَقُلْت لَهُ : مَذْهَبُ " أَهْلِ الْحَدِيثِ " وَهُمْ السَّلَفُ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْخَلَفِ : أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ وَيُؤْمَنُ بِهَا وَتُصَدَّقُ وَتُصَانُ عَنْ تَأْوِيلٍ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلٍ وَتَكْيِيفٍ يُفْضِي إلَى تَمْثِيلٍ . وَقَدْ أَطْلَقَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ حَكَى إجْمَاعَ السَّلَفِ - مِنْهُمْ الخطابي - مَذْهَبَ السَّلَفِ : أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي " الصِّفَاتِ " فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي " الذَّاتِ " يُحْتَذَى حَذْوُهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ ؛ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ ؛ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ فَنَقُولُ إنَّ لَهُ يَدًا وَسَمْعًا وَلَا نَقُولُ إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَمَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ . فَقُلْت لَهُ : وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ : " مَذْهَبُ السَّلَفِ " أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ وَيَقُولُ : أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ خَطَأٌ : إمَّا لَفْظًا وَمَعْنًى أَوْ لَفْظًا لَا مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ قَدْ صَارَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ :

أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْيَدَ جَارِحَةٌ مِثْلُ جَوَارِحِ الْعِبَادِ وَظَاهِرُ الْغَضَبِ غَلَيَانُ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَظَاهِرُ كَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْمَاءِ فِي الظَّرْفِ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَشِبْهَهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَنُعُوتِ الْمُحَدِّثِينَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَقَدْ صَدَقَ وَأَحْسَنَ ؛ إذْ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ ؛ بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُكَفِّرُونَ الْمُشَبِّهَةَ وَالْمُجَسِّمَةَ . لَكِنَّ هَذَا الْقَائِلَ أَخْطَأَ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ ؛ وَحَيْثُ حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ مَا لَمْ يَقُولُوهُ ؛ فَإِنَّ " ظَاهِرَ الْكَلَامِ " هُوَ مَا يَسْبِقُ إلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ مِنْهُ لِمَنْ يَفْهَمُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ظُهُورُهُ بِمُجَرَّدِ الْوَضْعِ وَقَدْ يَكُونُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ ؛ وَلَيْسَتْ " هَذِهِ الْمَعَانِي " الْمُحْدَثَةَ الْمُسْتَحِيلَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى هِيَ السَّابِقَةَ إلَى عَقْلِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ الْيَدُ عِنْدَهُمْ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالذَّاتِ فَكَمَا كَانَ عِلْمُنَا وَقُدْرَتُنَا وَحَيَاتُنَا وَكَلَامُنَا وَنَحْوُهَا مِنْ الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا تَدُلُّ عَلَى حُدُوثَنَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمِثْلِهَا ؛ فَكَذَلِكَ أَيْدِينَا وَوُجُوهُنَا وَنَحْوُهَا أَجْسَامًا كَذَلِكَ مُحْدَثَةً يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِمِثْلِهَا . ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ : إذَا قُلْنَا إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا إنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ ثُمَّ يُفَسِّرُ بِصِفَاتِنَا . فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ ظَاهِرَ الْيَدِ وَالْوَجْهِ غَيْرُ مُرَادٍ ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِنَا جِسْمٍ أَوْ عَرَضٍ لِلْجِسْمِ .

وَمَنْ قَالَ : إنَّ ظَاهَرَ شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ غَيْرُ مُرَادٍ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ اسْمٍ يُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إلَّا وَالظَّاهِرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمَخْلُوقُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ فَكَانَ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ قَدْ أُرِيدَ بِهَا مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْفَسَادِ . ( وَالْمَعْنَى الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ إنَّمَا هِيَ صِفَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ نِسْبَتُهَا إلَى ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ كَنِسْبَةِ صِفَاتِ كُلِّ شَيْءٍ إلَى ذَاتِهِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْمَوْصُوفِ وَلَهَا خَصَائِصُ وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ . وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَاجِبَةٌ لِذَاتِهِ وَ " الْإِلَهُ " الْمَعْبُودُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ . وَلَيْسَ غَرَضُنَا الْآنَ الْكَلَامَ مَعَ نفاة الصِّفَاتِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ مَعَ مَنْ يُثْبِتُ بَعْضَ الصِّفَاتِ . وَكَذَلِكَ " فِعْلُهُ " نَعْلَمُ أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ إبْدَاعُ الْكَائِنَاتِ مِنْ الْعَدَمِ وَإِنْ كُنَّا لَا نُكَيِّفُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَلَا يُشْبِهُ أَفْعَالَنَا إذْ نَحْنُ لَا نَفْعَلُ إلَّا لِحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ . وَكَذَلِكَ " الذَّاتُ " تُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُمَاثِلُ الذَّوَاتَ الْمَخْلُوقَةَ وَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ وَلَا يُدْرِكُ لَهَا كَيْفِيَّةً فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ إطْلَاقِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَيْهِ .

فَالْمُؤْمِنُ يَعْلَمُ أَحْكَامَ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَآثَارَهَا وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ مِنْهُ فَيُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَنَّ الْأَرْضَ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إلَى وَجْهِ خَالِقِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ لَذَّةً يَنْغَمِرُ فِي جَانِبِهَا جَمِيعُ اللَّذَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا وَخَالِقًا وَمَعْبُودًا وَلَا يَعْلَمُ كُنْهَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ غَايَةُ عِلْمِ الْخَلْقِ هَكَذَا : يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ وَلَا يُحِيطُونَ بِكُنْهِهِ وَعِلْمُهُمْ بِنُفُوسِهِمْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ . قُلْت لَهُ : أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ " الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ " بِهَذَا التَّفْسِيرِ ؟ فَقَالَ : هَذَا لَا يُمْكِنُ . فَقُلْت لَهُ : مَنْ قَالَ : إنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ بِمَعْنَى أَنَّ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ غَيْرُ مُرَادَةٍ قُلْنَا لَهُ : أَصَبْت فِي " الْمَعْنَى " لَكِنْ أَخْطَأْت فِي " اللَّفْظِ " وَأَوْهَمْت الْبِدْعَةَ وَجَعَلْت للجهمية طَرِيقًا إلَى غَرَضِهِمْ وَكَانَ يُمْكِنُك أَنْ تَقُولَ : تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ كُلِّ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ حُدُوثُهُ أَوْ نَقْصُهُ . وَمَنْ قَالَ : " الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ " بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي - وَهُوَ مُرَادُ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - فَقَدْ أَخْطَأَ . ثُمَّ أَقْرَبُ هَؤُلَاءِ " الْجَهْمِيَّة " الْأَشْعَرِيَّةُ يَقُولُونَ : إنَّ لَهُ صِفَاتٍ سَبْعًا : الْحَيَاةَ

وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْكَلَامَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ . وَيَنْفُونَ مَا عَدَاهَا وَفِيهِمْ مَنْ يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ " الْيَدَ " فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَقَّفُ فِي نَفْيِ مَا سِوَاهَا وَغُلَاتُهُمْ يَقْطَعُونَ بِنَفْيِ مَا سِوَاهَا . وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا وَيُثْبِتُونَ أَحْكَامَهَا وَهِيَ تَرْجِعُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ إلَى أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا فَعِنْدَهُمْ أَنَّهَا صِفَاتٌ حَادِثَةٌ أَوْ إضَافِيَّةٌ أَوْ عَدَمِيَّةٌ . وَهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى " الصَّابِئِينَ الْفَلَاسِفَةِ " مِنْ الرُّومِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ حَيْثُ زَعَمُوا : أَنَّ الصِّفَاتِ كُلَّهَا تَرْجِعُ إلَى سَلْبٍ أَوْ إضَافَةٍ ؛ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْ سَلْبٍ وَإِضَافَةٍ ؛ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ ضُلَّالٌ مُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ . وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَبَصَرًا نَافِذًا وَعَرَفَ حَقِيقَةَ مَأْخَذِ هَؤُلَاءِ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالرُّسُلِ وَبِالْكِتَابِ وَبِمَا أُرْسِلَ بِهِ رُسُلُهُ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ وَآيِلَةٌ إلَيْهِ وَيَقُولُونَ : إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ ؛ وَالْأَشْعَرِيَّةُ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ . وَكَانَ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ يَقُولُ : الْمُعْتَزِلَةُ الْجَهْمِيَّة الذُّكُورُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ الْجَهْمِيَّة الْإِنَاثُ . وَمُرَادُهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِكِتَابِ " الْإِبَانَةِ " الَّذِي صَنَّفَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَلَمْ يُظْهِرْ مَقَالَةً تُنَاقِضُ ذَلِكَ فَهَذَا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ؛ لَكِنَّ مُجَرَّدَ الِانْتِسَابِ إلَى الْأَشْعَرِيِّ بِدْعَةٌ

لَا سِيَّمَا وَأَنَّهُ بِذَلِكَ يُوهِمُ حُسْنًا بِكُلِّ مَنْ انْتَسَبَ هَذِهِ النِّسْبَةَ وَيَنْفَتِحُ بِذَلِكَ أَبْوَابُ شَرٍّ وَالْكَلَامُ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ ظَاهِرَهَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ .
قُلْت لَهُ : إذَا وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَةِ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ - فَصَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحَقِيقَتِهَا الْمَفْهُومَةِ مِنْهَا : إلَى بَاطِنٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَمَجَازٍ يُنَافِي الْحَقِيقَةَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ :
أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَكَلَامَ السَّلَفِ جَاءَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِشَيْءِ مِنْهُ خِلَافُ لِسَانِ الْعَرَبِ أَوْ خِلَافُ الْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مَا يُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ وَإِلَّا فَيُمْكِنُ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يُفَسِّرَ أَيَّ لَفْظٍ بِأَيِّ مَعْنًى سَنَحَ لَهُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعَهُ دَلِيلٌ يُوجِبُ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنًى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَفِي مَعْنًى بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِيِّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ الصَّرْفَ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ ثُمَّ إنْ ادَّعَى وُجُوبَ صَرْفِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ عَقْلِيٍّ أَوْ سَمْعِيٍّ يُوجِبُ الصَّرْفَ . وَإِنْ ادَّعَى ظُهُورَ صَرْفِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مُرَجِّحٍ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْلَمَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ - الصَّارِفُ - عَنْ مُعَارِضٍ ؛ وَإِلَّا فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ أَوْ إيمَانِيٌّ يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُرَادَةٌ امْتَنَعَ

تَرْكُهَا ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا الدَّلِيلُ نَصًّا قَاطِعًا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى نَقِيضِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ . ( الرَّابِعُ : أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامِ وَأَرَادَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ وَضِدَّ حَقِيقَتِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْأُمَّةِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَتَهُ وَأَنَّهُ أَرَادَ مَجَازَهُ سَوَاءٌ عَيَّنَهُ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ لَا سِيَّمَا فِي الْخِطَابِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي أُرِيدَ مِنْهُمْ فِيهِ الِاعْتِقَادُ وَالْعِلْمُ ؛ دُونَ عَمَلِ الْجَوَارِحِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ نُورًا وَهُدًى وَبَيَانًا لِلنَّاسِ وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نَزَّلَ إلَيْهِمْ وَلِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ . ثُمَّ هَذَا " الرَّسُولُ " الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ بُعِثَ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ وَأَبْيَنِ الْأَلْسِنَةِ وَالْعِبَارَاتِ ثُمَّ الْأُمَّةُ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ كَانُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا وَأَنْصَحَهُمْ لِلْأُمَّةِ وَأَبْيَنَهُمْ لِلسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ هُوَ وَهَؤُلَاءِ بِكَلَامِ يُرِيدُونَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ إلَّا وَقَدْ نُصِبَ دَلِيلًا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا ظَاهِرًا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ أَنَّ الْمُرَادَ أُوتِيَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْتَاهُ مِثْلُهَا وَكَذَلِكَ : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ الْخَالِقَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ . أَوْ سَمْعِيًّا ظَاهِرًا مِثْلُ الدَّلَالَاتِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي تَصْرِفُ بَعْضَ الظَّوَاهِرِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحِيلَهُمْ عَلَى دَلِيلٍ خَفِيٍّ لَا يَسْتَنْبِطُهُ إلَّا أَفْرَادُ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانَ سَمْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى وَأَعَادَهُ مَرَّاتٍ

كَثِيرَةً ؛ وَخَاطَبَ بِهِ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ وَفِيهِمْ الذَّكِيُّ وَالْبَلِيدُ وَالْفَقِيهُ وَغَيْرُ الْفَقِيهِ وَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ الْخِطَابَ وَيَعْقِلُوهُ وَيَتَفَكَّرُوا فِيهِ وَيَعْتَقِدُوا مُوجَبَهُ ثُمَّ أَوْجَبَ أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا بِهَذَا الْخِطَابِ شَيْئًا مِنْ ظَاهِرِهِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ دَلِيلًا خَفِيًّا يَسْتَنْبِطُهُ أَفْرَادُ النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ظَاهِرَهُ كَانَ هَذَا تَدْلِيسًا وَتَلْبِيسًا وَكَانَ نَقِيضَ الْبَيَانِ وَضِدَّ الْهُدَى وَهُوَ بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِيِّ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْهُدَى وَالْبَيَانِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ دَلَالَةُ ذَلِكَ الْخِطَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَقْوَى بِدَرَجَاتِ كَثِيرَةٍ مِنْ دَلَالَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْخَفِيِّ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ أَمْ كَيْفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْخَفِيُّ شُبْهَةً لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ ؟ . فَسَلَّمَ لِي ذَلِكَ الرَّجُلُ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ .
قُلْت : وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَجْعَلُ الْكَلَامَ فِيهَا أُنْمُوذَجًا يُحْتَذَى عَلَيْهِ وَنُعَبِّرُ بِصِفَةِ " الْيَدِ " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } وَقَالَ تَعَالَى لإبليس : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } وَقَالَ { بِيَدِكَ الْخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } .

وَقَدْ تَوَاتَرَ فِي السُّنَّةِ مَجِيءُ " الْيَدِ " فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ : أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى يَدَيْنِ مُخْتَصَّتَيْنِ بِهِ ذَاتِيَّتَيْنِ لَهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ ؛ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ وَإِبْلِيسَ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْبِضُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَأَنَّ { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وَمَعْنَى بَسْطِهِمَا بَذْلُ الْجُودِ وَسَعَةُ الْعَطَاءِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ وَالْجُودَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بِبَسْطِ الْيَدِ وَمَدِّهَا ؛ وَتَرْكُهُ يَكُونُ ضَمًّا لِلْيَدِ إلَى الْعُنُقِ صَارَ مِنْ الْحَقَائِقِ الْعُرْفِيَّةِ إذَا قِيلَ هُوَ مَبْسُوطُ الْيَدِ فُهِمَ مِنْهُ يَدٌ حَقِيقَةً وَكَانَ ظَاهِرُهُ الْجُودَ وَالْبُخْلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } وَيَقُولُونَ : فُلَانٌ جَعْدُ الْبَنَانِ وَسَبْطُ الْبَنَانِ . قُلْت لَهُ : فَالْقَائِلُ ؛ إنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ مِنْ جِنْسِ أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ : وَأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ جَارِحَةً فَهَذَا حَقٌّ . وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصِّفَاتِ السَّبْعِ ؛ فَهُوَ مُبْطِلٌ . فَيَحْتَاجُ إلَى تِلْكَ الْمَقَامَاتِ الْأَرْبَعَةِ . أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَيَقُولُ : إنَّ الْيَدَ تَكُونُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْعَطِيَّةِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ كَمَا يُسَمَّى الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ سَمَاءً وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : لِفُلَانِ عِنْدَهُ أَيَادٍ وَقَوْلُ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا فَقَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
يَا رَبِّ رُدَّ رَاكِبِي مُحَمَّدًا * * * [ اردده ربي ] وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدًا

وَقَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ : لَوْلَا يَدٌ لَك عِنْدِي لَمْ أَجْزِك بِهَا لَأَجَبْتُك . وَقَدْ تَكُونُ الْيَدُ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مُسَبِّبِهِ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ هِيَ تُحَرِّكُ الْيَدَ يَقُولُونَ : فُلَانٌ لَهُ يَدٌ فِي كَذَا وَكَذَا ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ " زِيَادٍ " لِمُعَاوِيَةَ : إنِّي قَدْ أَمْسَكْت الْعِرَاقَ بِإِحْدَى يَدَيَّ وَيَدِي الْأُخْرَى فَارِغَةٌ يُرِيدُ نِصْفُ قُدْرَتِي ضَبْطُ أَمْرِ الْعِرَاقِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وَالنِّكَاحُ كَلَامٌ يُقَالُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُقْتَدِرٌ عَلَيْهِ . وَقَدْ يَجْعَلُونَ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَيْهَا إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى الشَّخْصِ نَفْسِهِ لِأَنَّ غَالِبَ الْأَفْعَالِ لَمَّا كَانَتْ بِالْيَدِ جُعِلَ ذِكْرُ الْيَدِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ فُعِلَ بِنَفْسِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } - إلَى قَوْلِهِ - { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أَيْ : بِمَا قَدَّمْتُمْ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ مَا قَدَّمُوهُ كَلَامٌ تَكَلَّمُوا بِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } وَالْعَرَبُ تَقُولُ : يَدَاك أَوْكَتَا . وَفُوك نُفِخَ : تَوْبِيخًا لِكُلِّ مَنْ جَرَّ عَلَى نَفْسِهِ جَرِيرَةً ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا قِيلَ هَذَا لِمَنْ فَعَلَ بِيَدَيْهِ وَفَمِهِ . ( قُلْت لَهُ : وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ لُغَةَ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي هَذَا كُلِّهِ والمتأولون لِلصِّفَاتِ الَّذِينَ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وَقَوْلَهُ : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } عَلَى هَذَا

كُلِّهِ فَقَالُوا : إنَّ الْمُرَادَ نِعْمَتُهُ أَيْ : نِعْمَةُ الدُّنْيَا وَنِعْمَةُ الْآخِرَةِ وَقَالُوا : بِقُدْرَتِهِ وَقَالُوا : اللَّفْظُ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسِ الْجُودِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ يَدٌ حَقِيقَةً ؛ بَلْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ صَارَتْ حَقِيقَةً فِي الْعَطَاءِ وَالْجُودِ . وَقَوْلُهُ : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } أَيْ : خَلَقْته أَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ يَدٌ حَقِيقِيَّةٌ قُلْت لَهُ فَهَذِهِ تَأْوِيلَاتُهُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ قُلْت لَهُ : فَنَنْظُرُ فِيمَا قَدَّمْنَا : ( الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : أَنَّ لَفْظَ " الْيَدَيْنِ " بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي النِّعْمَةِ وَلَا فِي الْقُدْرَةِ ؛ لِأَنَّ مِنْ لُغَةِ الْقَوْمِ اسْتِعْمَالَ الْوَاحِدِ فِي الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } وَلَفْظُ الْجَمْعِ فِي الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ } وَلَفْظُ الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ : { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } أَمَّا اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْوَاحِدِ فِي الِاثْنَيْنِ أَوْ الِاثْنَيْنِ فِي الْوَاحِدِ فَلَا أَصْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَدَدٌ وَهِيَ نُصُوصٌ فِي مَعْنَاهَا لَا يُتَجَوَّزُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : عِنْدِي رَجُلٌ وَيَعْنِي رَجُلَيْنِ وَلَا عِنْدِي رَجُلَانِ وَيَعْنِي بِهِ الْجِنْسَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ فِيهِ شِيَاعٌ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَمْعِ فِيهِ مَعْنَى الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ يَحْصُلُ بِحُصُولِ الْوَاحِدِ . فَقَوْلُهُ : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالِاثْنَيْنِ عَنْ الْوَاحِدِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النِّعْمَةُ لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ لَا تُحْصَى ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ .

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " لِمَا خَلَقْت أَنَا " لِأَنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا ذَلِكَ أَضَافُوا الْفِعْلَ إلَى الْيَدِ فَتَكُونُ إضَافَتُهُ إلَى الْيَدِ إضَافَةً لَهُ إلَى الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ : { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } . أَمَّا إذَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْفَاعِلِ وَعَدَّى الْفِعْلَ إلَى الْيَدِ بِحَرْفِ الْبَاءِ كَقَوْلِهِ : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ فَعَلَ الْفِعْلَ بِيَدَيْهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَنْ تَكَلَّمَ أَوْ مَشَى : أَنْ يُقَالَ فَعَلْت هَذَا بِيَدَيْك وَيُقَالُ : هَذَا فَعَلَتْهُ يَدَاك لِأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ : فَعَلْت كَافٍ فِي الْإِضَافَةِ إلَى الْفَاعِلِ فَلَوْ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِالْيَدِ حَقِيقَةً كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً مَحْضَةً مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَلَسْت تَجِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا الْعَجَمِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ فَصِيحًا يَقُولُ : فَعَلْت هَذَا بِيَدَيَّ أَوْ فُلَانٌ فَعَلَ هَذَا بِيَدَيْهِ إلَّا وَيَكُونُ فَعَلَهُ بِيَدَيْهِ حَقِيقَةً . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَدَ لَهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدٌ وَالْفِعْلُ وَقَعَ بِغَيْرِهَا . وَبِهَذَا الْفَرْقِ الْمُحَقَّقِ تَتَبَيَّنُ مَوَاضِعُ الْمَجَازِ وَمَوَاضِعُ الْحَقِيقَةِ ؛ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْآيَاتِ لَا تَقْبَلُ الْمَجَازَ أَلْبَتَّةَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ اللُّغَةِ . قَالَ لِي : فَقَدْ أَوْقَعُوا الِاثْنَيْنِ مَوْقِعَ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِهِ : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } وَإِنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ . قُلْت لَهُ : هَذَا مَمْنُوعٌ ؛ بَلْ قَوْلُهُ : { أَلْقِيَا } قَدْ قِيلَ تَثْنِيَةُ الْفَاعِلِ لِتَثْنِيَةِ الْفِعْلِ وَالْمَعْنَى أَلْقِ أَلْقِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ خِطَابٌ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ قَالَ : إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مَعَهُ اثْنَانِ : أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ

فَيَقُولُ : خَلِيلَيَّ خَلِيلَيَّ ثُمَّ إنَّهُ يُوقِعُ هَذَا الْخِطَابَ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنِ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ مَوْجُودَيْنِ ؛ فَقَوْلُهُ : { أَلْقِيَا } عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِاثْنَيْنِ يُقَدَّرُ وُجُودُهُمَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ . قُلْت لَهُ : ( الْمَقَامُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِالْيَدِ حَقِيقَةَ الْيَدِ وَأَنْ يَعْنِيَ بِهَا الْقُدْرَةَ أَوْ النِّعْمَةَ أَوْ يَجْعَلَ ذِكْرَهَا كِنَايَةً عَنْ الْفِعْلِ ؛ لَكِنْ مَا الْمُوجِبُ لِصَرْفِهَا عَنْ الْحَقِيقَةِ ؟ . فَإِنْ قُلْت : لِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْجَارِحَةُ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ . قُلْت لَك : هَذَا وَنَحْوُهُ يُوجِبُ امْتِنَاعَ وَصْفِهِ بِأَنَّ لَهُ يَدًا مِنْ جِنْسِ أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ ؛ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ " يَدٌ " تُنَاسِبُ ذَاتَهُ تَسْتَحِقُّ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا تَسْتَحِقُّ الذَّاتُ ؟ قَالَ : لَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مَا يُحِيلُ هَذَا ؛ " قُلْت " فَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا وَهُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ فَلِمَ يُصْرَفُ عَنْهُ اللَّفْظُ إلَى مَجَازِهِ ؟ وَكُلُّ مَا يَذْكُرُهُ الْخَصْمُ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ وَصْفِهِ بِمَا يُسَمَّى بِهِ - وَصَحَّتْ الدَّلَالَةُ - سُلِّمَ لَهُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمَخْلُوقُ مُنْتَفٍ عَنْهُ وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَظَاهِرُهُ " يَدٌ " يَسْتَحِقُّهَا الْخَالِقُ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بَلْ كَالذَّاتِ وَالْوُجُودِ . ( الْمَقَامُ الثَّالِثُ : قُلْت لَهُ : بَلَغَك أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّهُمْ قَالُوا : الْمُرَادُ بِالْيَدِ خِلَافُ ظَاهِرِهِ أَوْ الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ أَوْ هَلْ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ وَصْفِهِ

بِالْيَدِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً ؛ بَلْ أَوْ دَلَالَةً خَفِيَّةً ؟ فَإِنَّ أَقْصَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّفُ قَوْلُهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَقَوْلُهُ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وَقَوْلُهُ : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وَهَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إنَّمَا يَدْلُلْنَ عَلَى انْتِفَاءِ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ . أَمَّا انْتِفَاءُ يَدٍ تَلِيقُ بِجَلَالِهِ فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . وَكَذَلِكَ هَلْ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ لَا " يَدَ " لَهُ أَلْبَتَّةَ ؟ لَا " يَدًا " تَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَلَا " يَدًا " تُنَاسِبُ الْمُحْدَثَاتِ وَهَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا ؛ وَلَوْ بِوَجْهِ خَفِيٍّ ؟ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَنْفِي حَقِيقَةَ الْيَدِ أَلْبَتَّةَ ؛ وَإِنْ فُرِضَ مَا يُنَافِيهَا فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْوُجُوهِ الْخَفِيَّةِ - عِنْدَ مَنْ يَدَّعِيهِ - وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ شُبْهَةٌ فَاسِدَةٌ . فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُمْلَأَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذِكْرِ الْيَدِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ بِيَدِهِ وَأَنَّ { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وَأَنَّ الْمُلْكَ بِيَدِهِ وَفِي الْحَدِيثِ مَا لَا يُحْصَى ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولِي الْأَمْرِ : لَا يُبَيِّنُونَ لِلنَّاسِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَلَا ظَاهِرُهُ حَتَّى يَنْشَأَ " جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ " بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَيَتْبَعَهُ عَلَيْهِ " بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ " وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ كُلِّ مَغْمُوصٍ عَلَيْهِ بِالنِّفَاقِ . وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى " الْخِرَاءَةَ " وَيَقُولَ : { مَا تَرَكْت مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَلَا مِنْ

شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ } { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } ثُمَّ يَتْرُكَ الْكِتَاب الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِ وَسُنَّتَهُ الْغَرَّاءَ مَمْلُوءَةً مِمَّا يَزْعُمُ الْخَصْمُ أَنَّ ظَاهِرَهُ تَشْبِيهٌ وَتَجْسِيمٌ وَأَنَّ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ ضَلَالٌ وَهُوَ لَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَلَا يُوَضِّحُهُ وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلسَّلَفِ أَنْ يَقُولُوا : أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ مَعَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْمَجَازِيَّ هُوَ الْمُرَادُ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ حَتَّى يَكُونَ أَبْنَاءُ الْفُرْسِ وَالرُّومِ أَعْلَمُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؟ . ( الْمَقَامُ الرَّابِعُ ) : قُلْت لَهُ : أَنَا أَذْكُرُ لَك مِنْ الْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ وَالظَّاهِرَةِ مَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ لِلَّهِ " يَدَيْنِ " حَقِيقَةً . فَمِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُهُ لِآدَمَ : يَسْتَوْجِبُ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ وَامْتِنَاعَهُمْ عَنْ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ ؛ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ بِنِعْمَتِهِ أَوْ مُجَرَّدِ إضَافَةِ خَلْقِهِ إلَيْهِ لَشَارَكَهُ فِي ذَلِكَ إبْلِيسُ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ . قَالَ لِي : فَقَدْ يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ كَقَوْلِهِ : { نَاقَةُ اللَّهِ } وَبَيْتُ اللَّهِ . قُلْت لَهُ : لَا تَكُونُ الْإِضَافَةُ تَشْرِيفًا حَتَّى يَكُونَ فِي الْمُضَافِ مَعْنًى أَفْرَدَهُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّاقَةِ وَالْبَيْتِ مِنْ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا تَمْتَازُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ النُّوقِ وَالْبُيُوتِ لَمَا اسْتَحَقَّا هَذِهِ الْإِضَافَةَ وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ فَإِضَافَةُ خَلْقِ

آدَمَ إلَيْهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ بِيَدَيْهِ وَخَلَقَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ : كُنْ فَيَكُونُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا : بِيَدِهِ الْمُلْكُ أَوْ عَمِلَتْهُ يَدَاك فَهُمَا شَيْئَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) إثْبَاتُ الْيَدِ وَ ( الثَّانِي ) إضَافَةُ الْمُلْكِ وَالْعَمَلِ إلَيْهَا وَ ( الثَّانِي ) يَقَعُ فِيهِ التَّجَوُّزُ كَثِيرًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا الْكَلَامَ إلَّا لِجِنْسِ لَهُ " يَدٌ " حَقِيقَةً وَلَا يَقُولُونَ : " يَدُ " الْهَوَى وَلَا " يَدُ " الْمَاءِ فَهَبْ أَنَّ قَوْلَهُ : بِيَدِهِ الْمُلْكُ قَدْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقُدْرَتِهِ لَكِنْ لَا يُتَجَوَّزُ بِذَلِكَ إلَّا لِمَنْ لَهُ يَدٌ حَقِيقَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَقَوْلِهِ : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُ هُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ وَهُنَاكَ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْأَيْدِي . ( الثَّانِي ) : أَنَّ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَضَعُونَ اسْمَ الْجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ إذَا أُمِنَ اللَّبْسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أَيْ : يَدَيْهِمَا وَقَوْلِهِ : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } أَيْ : قَلْبَاكُمَا فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ

اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ؛ وَالْبُخَارِيُّ فِيمَا أَظُنُّ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يتكفؤها الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَحْكِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَأْخُذُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدَيْهِ - وَجَعَلَ يَقْبِضُ يَدَيْهِ وَيَبْسُطُهُمَا - وَيَقُولُ : أَنَا الرَّحْمَنُ حَتَّى نَظَرْت إلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّك أَسْفَلَ مِنْهُ حَتَّى إنِّي أَقُولُ : أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ ؟ } - { وَفِي رِوَايَةٍ - أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } قَالَ : يَقُولُ : أَنَا اللَّهُ أَنَا الْجَبَّارُ } وَذَكَرَهُ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟ } وَمَا يُوَافِقُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ الْحَبْرِ . وَفِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ { إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَالَ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ : اخْتَرْ

أَيَّهُمَا شِئْت قَالَ : اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَة ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِيهَا آدَمَ وَذُرِّيَّتُهُ } وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي } . وَفِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ لَمَّا تَحَاجَّ آدَمَ وَمُوسَى قَالَ آدَمَ : يَا مُوسَى اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ ؛ وَقَدْ قَالَ لَهُ مُوسَى : أَنْتَ آدَمَ الَّذِي خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ . } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ { قَالَ سُبْحَانَهُ : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي ؛ لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ : كُنْ فَكَانَ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي السُّنَنِ : { لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَمَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ فَقَالَ : خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَقَالَ : خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ } . فَذَكَرْت لَهُ " هَذِهِ الْأَحَادِيثَ " وَغَيْرَهَا ؛ ثُمَّ " قُلْت لَهُ " : هَلْ تَقْبَلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَأْوِيلًا ؛ أَمْ هِيَ نُصُوصٌ قَاطِعَةٌ ؟ وَهَذِهِ أَحَادِيثُ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَنَقَلَتْهَا مِنْ بَحْرٍ غَزِيرٍ . فَأَظْهَرَ الرَّجُلُ التَّوْبَةَ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ . فَهَذَا الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك - أَنْ أَكْتُبَهُ . وَهَذَا " بَابٌ وَاسِعٌ " { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } وَ { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } . وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَعَلَى الْمُحَمَّدَيْنِ وَأَبِي زَكَرِيَّا

وَأَبِي البقاء عَبْدِ الْمَجِيدِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ وَمَنْ تَعْرِفُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ الطَّيِّبَةِ . وَإِنْ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ لِلْمَدِينَةِ كِتَابًا يَتَضَمَّنُ أَخْبَارَهَا ؛ كَمَا صُنِّفَ أَخْبَارُ مَكَّةَ . فَلَعَلَّ تُعَرِّفُونَا بِهِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ :
فَصْلٌ :
قَالَ الْمُعْتَرِضُ فِي " الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى " النُّورُ الْهَادِي يَجِبُ تَأْوِيلُهُ قَطْعًا ؛ إذْ النُّورُ كَيْفِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْجِسْمِيَّةِ وَهُوَ ضِدُّ الظُّلْمَةِ وَجَلَّ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ ؛ وَلَوْ كَانَ نُورًا لَمْ تَجُزْ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ : { مَثَلُ نُورِهِ } فَيَكُونُ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ . وَقَوْلُهُ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : يَعْنِي هَادِيَ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْهَادِي بَعْدَهُ يَكُونُ تَكْرَارًا وَقِيلَ : مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ بِالْكَوَاكِبِ وَقِيلَ : بِالْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ . وَالنُّورُ جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفَّافٌ ؛ فَلَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ . وَالتَّأْوِيلُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَسَالِمٍ وَهَذَا يُبْطِلُ دَعْوَاهُ أَنَّ التَّأْوِيلَ يُبْطِلُ الظَّاهِرَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ . وَلَوْ كَانَ نُورًا حَقِيقَةً - كَمَا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهَةُ - لَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ لَيْلًا وَنَهَارًا عَلَى الدَّوَامِ .

وَقَوْلُهُ : { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } { وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ السِّرَاجُ الْمَعْرُوفُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ سِرَاجًا بِالْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ ؛ وَوُضُوحُ أَدِلَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ السِّرَاجِ الْمُنِيرِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ : يَعْنِي مُنَوِّرَ " السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ " : شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا . وَمِنْ كَلَامِ الْعَارِفِينَ : " النُّورُ " هُوَ الَّذِي نَوَّرَ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ بِتَوْحِيدِهِ وَنَوَّرَ أَسْرَارَ الْمُحِبِّينَ بِتَأْيِيدِهِ . وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي أَحْيَا قُلُوبَ الْعَارِفِينَ بِنُورِ مَعْرِفَتِهِ وَنُفُوسِ الْعَابِدِينَ بِنُورِ عِبَادَتِهِ . ( وَالْجَوَابُ ) : أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَأَمْثَالَهُ لَيْسَ بِاعْتِرَاضِ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءُ نَقْصِ حُرْمَتِهِ مِنْهُمْ ؛ لِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ يَلْزَمُنَا أَوْ يَظُنُّ أَنَّا نَقُولُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَكَاهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } . وَإِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ إخْبَارٌ عَنْ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ يَقُولُ أَقْوَالًا بَاطِلَةً فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَفِيهِ رَدُّ تِلْكَ الْأَقْوَالِ كَانَ هَذَا كَذِبًا وَظُلْمًا ؛ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ . ثُمَّ مَعَ كَوْنِهِ ظُلْمًا لَنَا يَا لَيْتَهُ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا فَكُنَّا نُحَلِّلُهُ مِنْ حَقِّنَا وَيُسْتَفَادُ مَا فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَلَكِنَّ فِيهِ مِنْ تَحْرِيفِ كِتَابِ اللَّهِ وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ مِمَّا فِيهِ ؛ لَكِنْ إنْ عَفَوْنَا عَنْ حَقِّنَا فَحَقُّ اللَّهِ إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ .

وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ الْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ وَنَصْرِ كِتَابِهِ وَدِينِهِ مَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ مَا لَا أَظُنُّ تَمَكُّنَهُ مِنْ ضَبْطِهِ مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِهِ : النُّورُ كَيْفِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْجِسْمِيَّةِ . ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ : جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفَّافٌ فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّهُ عَرَضٌ وَصِفَةٌ وَفِي آخِرِهِ جِسْمٌ وَهُوَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ ذَكَرَ عَنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِالْهَادِي وَضَعَّفَ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ أَنَّ مِنْ كَلَامِ الْعَارِفِينَ أَنَّ " النُّورَ " هُوَ الَّذِي نَوَّرَ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ بِتَوْحِيدِهِ ؛ وَأَسْرَارَ الْمُحِبِّينَ بِتَأْيِيدِهِ وَأَحْيَا قُلُوبَ الْعَارِفِينَ بِنُورِ مَعْرِفَتِهِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْهَادِي الَّذِي ضَعَّفَهُ أَوَّلًا فَيُضَعِّفُهُ أَوَّلًا وَيَجْعَلُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَارِفِينَ وَهِيَ كَلِمَةٌ لَهَا صَوْلَةٌ فِي الْقُلُوبِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِنَوْعِ مِنْ الْوَعْظِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَحْقِيقٌ . فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ذَكَرَ فِي حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ مِنْ الْإِشَارَاتِ الَّتِي بَعْضُهَا كَلَامٌ حَسَنٌ مُسْتَفَادٌ وَبَعْضُهَا مَكْذُوبٌ عَلَى قَائِلِهِ مُفْتَرًى كَالْمَنْقُولِ عَنْ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ وَبَعْضُهَا مِنْ الْمَنْقُولِ الْبَاطِلِ الْمَرْدُودِ . فَإِنَّ " إشَارَاتِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةَ " الَّتِي يُشِيرُونَ بِهَا : تَنْقَسِمُ إلَى إشَارَةٍ حَالِيَّةٍ - وَهِيَ إشَارَتُهُمْ بِالْقُلُوبِ - وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي امْتَازُوا بِهِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَتَنْقَسِمُ إلَى الْإِشَارَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَقْوَالِ : مِثْلُ مَا يَأْخُذُونَهَا مِنْ الْقُرْآنِ

وَنَحْوِهِ فَتِلْكَ الْإِشَارَاتُ هِيَ مِنْ بَابِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ ؛ وَإِلْحَاقِ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ مِثْلُ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ ؛ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَحْكَامِ ؛ لَكِنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَدَرَجَاتِ الرِّجَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ " الْإِشَارَةُ اعْتِبَارِيَّةً " مِنْ جِنْسِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ كَانَتْ حَسَنَةً مَقْبُولَةً ؛ وَإِنْ كَانَتْ كَالْقِيَاسِ الضَّعِيفِ كَانَ لَهَا حُكْمُهُ وَإِنْ كَانَ تَحْرِيفًا لِلْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْوِيلًا لِلْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة ؛ فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنِّي قَدْ أَوْضَحْت هَذَا فِي " قَاعِدَةِ الْإِشَارَاتِ " . ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) فِي تَنَاقُضِهِ فَإِنَّهُ قَالَ : التَّأْوِيلُ مَنْقُولٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَسَالِمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) : أَنَّهُ هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ ضَعَّفَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ هُوَ هَذَا الضَّعِيفَ فَيَا خَيْبَةَ الْمَسْعَى ؛ إذْ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ السَّلَفِ فِي جَمِيعِ كَلَامِهِ إلَى هُنَا شَيْئًا عَنْ السَّلَفِ إلَّا هَذَا الَّذِي ضَعَّفَهُ وَأَوْهَاهُ . وَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ بِالْكَوَاكِبِ كَانَ مُتَنَاقِضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّ هَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ مُنَوِّرُهَا بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالِاثْنَيْنِ أَوَّلًا غَيْرَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَعَمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الْأُولَى .

وَإِنْ كَانَ نَوَّرَهُ بِالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ وَالْأَدِلَّةِ كَانَ مُتَنَاقِضًا فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى " الْهَادِي " : إذْ نَصْبُهُ لِلْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ هِيَ مِنْ هِدَايَتِهِ وَهُوَ قَدْ ضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ فَمَا أَدْرِي مِنْ أَيِّهِمَا الْعَجَبُ أَمِنْ حِكَايَتِهِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْآخَرِ ؟ أَمْ مِنْ تَضْعِيفِهِ لِقَوْلِ السَّائِلِ الَّذِي يُوجِبُ تَضْعِيفَ الِاثْنَيْنِ - وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ قَدْ ضَعَّفَهُمَا جَمِيعًا - فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ وَيَعْرِفَ أَنَّ الَّذِي يُضَعِّفُهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي عَظَّمَهُ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَسَالِمٍ إلَّا الْقَوْلَ الَّذِي ضَعَّفَهُ أَوْ مَا يَدْخُلُ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ قَوْلُهُمْ : " الْهَادِي " فَقَدْ صَرَّحَ بِضَعْفِهِ وَإِنْ كَانَ " مُقِيمَ الْأَدِلَّةِ " فَهُوَ مِنْ مَعْنَى " الْهَادِي " ؛ وَإِنْ كَانَ " الْمُنَوِّرَ بِالْكَوَاكِبِ " فَقَدْ جَعَلَهُ قَوْلًا آخَرَ ؛ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ فَهُوَ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي " الْهَادِي " ؛ وَإِذَا كَانَ قَدْ اعْتَرَفَ بِضَعْفِ مَا حَكَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَسَالِمٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَيْنَا ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ عَنْ " السَّلَفِ " إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا فِي نَقْلِهِ أَوْ مُفْتَرِيًا بِتَضْعِيفِهِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا حُجَّةَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ . ( الْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى السَّلَفِ ؛ إذْ يَذْكُرُ عَنْهُمْ مَا يُضَعِّفُهُ وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ لِيَحْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّأْوِيلِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَدْ اعْتَرَفَ بِضَعْفِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَمَنْ احْتَجَّ بِحُجَّةِ وَقَدْ ضَعَّفَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ ضَعَّفَهَا فَقَدْ رَمَى نَفْسَهُ بِسَهْمِهِ وَمَنْ رَمَى بِسَهْمِ الْبَغْيِ صُرِعَ بِهِ { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } . ( الْوَجْهُ السَّادِسُ ) قَوْلُهُ : هَذَا يُبْطِلُ دَعْوَاهُ أَنَّ " التَّأْوِيلَ دَفَعَ الظَّاهِرَ

وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ " فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ أَقُلْهُ ؛ وَإِنْ كُنْت قُلْته فَهُوَ لَمْ يَنْقُلْ إلَّا مَا عَرَفَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَالضَّعِيفُ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا فَهَذِهِ الْوُجُوهُ فِي بَيَانِ تَنَاقُضِهِ وَحِكَايَتِهِ عَنَّا مَا لَمْ نَقُلْهُ . وَأَمَّا " بَيَانُ فَسَادِ الْكَلَامِ " فَنَقُولُ : أَمَّا قَوْلُهُ : " يَجِبُ تَأْوِيلُهُ قَطْعًا " فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَجَبَ قَطْعِيٌّ ؛ بَلْ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَأَوَّلُونَ هَذَا الِاسْمَ وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الصفاتية مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْل أَبِي سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ ذَكَرَهُ فِي الصِّفَاتِ وَرَدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّة تَأْوِيلَ " اسْمِ النُّورِ " وَهُوَ شَيْخُ الْمُتَكَلِّمِينَ الصفاتية مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ - الشَّيْخُ الْأَوَّلُ - وَحَكَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك فِي كِتَابِ " مَقَالَاتِ ابْنِ كُلَّابٍ " ، وَالْأَشْعَرِيُّ وَلَمْ يَذْكُرَا تَأْوِيلَهُ إلَّا عَنْ الْجَهْمِيَّة الْمَذْمُومِينَ بِاتِّفَاقِ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ ذَكَرَهُ فِي " الْمُوجَزِ " . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ هَذَا وَرَدَ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذَكَرَ ذَلِكَ هُوَ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ رَوَى الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهَا ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ مخلد بْنِ زِيَادٍ القطواني ؛ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ لَيْسَتَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ فَالْوَلِيدُ ذَكَرَهَا عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ الشَّامِيِّينَ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِهِ .

وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ أَعْيَانُهُمَا عَنْهُ ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ بَدَلُ مَا يُذْكَرُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوهَا قَدْ كَانُوا يَذْكُرُونَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً ؛ وَاعْتَقَدُوا - هُمْ وَغَيْرُهُمْ - أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى الَّتِي مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ شَيْئًا مُعَيَّنًا ؛ بَلْ مَنْ أَحْصَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَوْ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَالِاسْمَانِ اللَّذَانِ يَتَّفِقُ مَعْنَاهُمَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ كَالْأَحَدِ وَالْوَاحِدِ ؛ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ رَوَاهَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ " الْأَحَدُ " بَدَلَ " الْوَاحِدِ " وَ " الْمُعْطِي " بَدَلَ " الْمُغْنِي " وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَعِنْدَ الْوَلِيدِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بَعْدَ أَنْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ خليد بْنِ دَعْلَجٍ عَنْ قتادة عَنْ ابْنِ سِيرِين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . ثُمَّ قَالَ هِشَامٌ : وَحَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ : كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } . . . مِثْلَ مَا سَاقَهَا التِّرْمِذِيُّ لَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَاهَا عَنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْوَلِيدِ عَنْ شُعَيْبٍ وَقَدْ رَوَاهَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ هُوَ وَالتِّرْمِذِي خِلَافٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّهَا مِنْ الْمَوْصُولِ الْمُدْرَجِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ ؛ وَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِهِ . وَلِهَذَا جَمَعَهَا " قَوْمٌ آخَرُونَ " عَلَى غَيْرِ هَذَا الْجَمْعِ وَاسْتَخْرَجُوهَا مِنْ الْقُرْآنِ مِنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة وَالْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ ؛ كَمَا قَدْ ذَكَرْت ذَلِكَ فِيمَا تَكَلَّمْت بِهِ قَدِيمًا عَلَى هَذَا ؛ وَهَذَا كُلُّهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا عِنْدَهُمْ مِمَّا يَقْبَلُ الْبَدَلَ ؛==ج10.=

ج10. مجموع الفتاوى


المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن

 عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ . قَالُوا : - وَمِنْهُمْ الخطابي - قَوْلُهُ : { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا } التَّقْيِيدُ بِالْعَدَدِ عَائِدٌ إلَى الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُوفَةِ بِأَنَّهَا هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ . فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ : { مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ } صِفَةٌ لِلتِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ لَيْسَتْ جُمْلَةً مُبْتَدَأَةً وَلَكِنَّ مَوْضِعَهَا النَّصْبُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً وَالْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً بِقَدْرِ هَذَا الْعَدَدِ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : إنَّ لِي مِائَةَ غُلَامٍ أَعْدَدْتهمْ لِلْعِتْقِ وَأَلْفَ دِرْهَمٍ أَعْدَدْتهَا لِلْحَجِّ فَالتَّقْيِيدُ بِالْعَدَدِ هُوَ فِي الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا فِي أَصْلِ اسْتِحْقَاقِهِ لِذَلِكَ الْعَدَدِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ . قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك } فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً فَوْقَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ يُحْصِيهَا بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ } تَقْيِيدُهُ بِهَذَا الْعَدَدِ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى { تِسْعَةَ عَشَرَ } فَلَمَّا اسْتَقَلُّوهُمْ قَالَ : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } فَأَنْ لَا يَعْلَمَ أَسْمَاءَهُ إلَّا هُوَ أَوْلَى ؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ قِيلَ مُنْفَرِدًا لَمْ يُفِدْ النَّفْيَ إلَّا بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ دُونَ مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَالنِّزَاعُ فِيهِ مَشْهُورٌ وَإِنْ كَانَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ - بَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلْعُمُومِ - يُفِيدُ

الِاخْتِصَاصَ بِالْحُكْمِ فَإِنَّ الْعُدُولَ عَنْ وُجُوبِ التَّعْمِيمِ إلَى التَّخْصِيصِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلِاخْتِصَاصِ بِالْحُكْمِ وَإِلَّا كَانَ تَرْكًا لِلْمُقْتَضَى بِلَا مُعَارِضٍ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ . فَقَوْلُهُ : { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ } قَدْ يَكُونُ لِلتَّحْصِيلِ بِهَذَا الْعَدَدِ فَوَائِدُ غَيْرُ الْحَصْرِ . وَ ( مِنْهَا ) ذَكَرَ أَنَّ إحْصَاءَهَا يُورِثُ الْجَنَّةَ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُنْفَرِدَةً وَأَتْبَعَهَا بِهَذِهِ مُنْفَرِدَةً لَكَانَ حَسَنًا ؛ فَكَيْفَ وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاتِّصَالُ وَعَدَمُ الِانْفِصَالِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ صِفَةً ؛ لَا ابْتِدَائِيَّةً . فَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ . وَلِهَذَا قَالَ : { إنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } وَمَحَبَّتُهُ لِذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِحْصَاءِ ؛ أَيْ يُحِبُّ أَنْ يُحْصَى مِنْ أَسْمَائِهِ هَذَا الْعَدَدُ ؛ وَإِذَا كَانَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ إحْصَاءُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ اسْمًا يُورِثُ الْجَنَّةَ مُطْلَقًا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ ؛ فَهَذَا يُوَجِّهُ قَوْل هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَجْعَلُهَا أَسْمَاءً مُعَيَّنَةً ؛ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ إلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَطَائِفَةٍ وَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ : وَإِنْ كَانَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ أَكْثَرَ ؛ لَكِنَّ الْمَوْعُودَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَحْصَاهَا هِيَ مُعَيَّنَةٌ وَبِكُلِّ حَالٍ : فَتَعْيِينُهَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ ؛ وَلَكِنْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ أَنْوَاعٌ : مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ . وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا : فَقَوْلُهُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى " النُّورُ الْهَادِي " لَوْ نَازَعَهُ مُنَازِعٌ

فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ وَلَكِنْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ صِحَاحٍ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ } الْحَدِيثَ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { أَبِي ذَرٍّ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْت رَبَّك فَقَالَ : نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ ؟ أَوْ قَالَ : رَأَيْت نُورًا } . فَاَلَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إضَافَةُ النُّورِ كَقَوْلِهِ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أَوْ { نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَمَنْ فِيهِنَّ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " إذْ النُّورُ كَيْفِيَّةٌ قَائِمَةٌ " فَنَقُولُ : النُّورُ الْمَخْلُوقُ مَحْسُوسٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ كَيْفِيَّةٍ لَكِنَّهُ نَوْعَانِ : أَعْيَان وَأَعْرَاضٌ . " فَالْأَعْيَانُ " هُوَ نَفْسُ جِرْمِ النَّارِ حَيْثُ كَانَتْ - نُورُ السِّرَاجِ وَالْمِصْبَاحِ الَّذِي فِي الزُّجَاجَةِ وَغَيْرِهِ - وَهِيَ النُّورُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ ، وَمِثْلُ الْقَمَرِ فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ نُورًا فَقَالَ : { جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّارَ جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفَّافٌ . " وَأَعْرَاضُ " مِثْلِ مَا يَقَعُ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى الْأَجْسَامِ الصَّقِيلَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ الْمِصْبَاحَ إذَا كَانَ فِي الْبَيْتِ أَضَاءَ جَوَانِبَ الْبَيْتِ فَذَلِكَ النُّورُ وَالشُّعَاعُ الْوَاقِعُ عَلَى الْجُدُرِ وَالسَّقْفِ وَالْأَرْضِ هُوَ عَرَضٌ وَهُوَ كَيْفِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْجِسْمِ . وَقَدْ يُقَالُ : لَيْسَ الصِّفَةُ الْقَائِمَةُ بِالنَّارِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِهِمَا نُورًا فَيَكُونَ الِاسْمُ عَلَى الْجَوْهَرِ تَارَةً وَعَلَى صِفَةٍ أُخْرَى ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لِضَوْءِ النَّهَارِ نُورٌ كَمَا قَالَ

تَعَالَى : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وَمِنْ هَذَا تَسْمِيَةُ اللَّيْلِ ظُلْمَةً وَالنَّهَارِ نُورًا فَإِنَّهُمَا عَرَضَانِ وَقَدْ قِيلَ : هَمَّا جَوْهَرَانِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ النُّورِ يَتَنَاوَلُ هَذَيْنِ وَالْمُعْتَرِضُ ذَكَرَ أَوَّلًا حَدَّ " الْعَرَضِ " وَذَكَرَ ثَانِيًا حَدَّ " الْجِسْمِ " فَتَنَاقَضَ وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِي وَلَمْ يَهْتَدِ لِوَجْهِ الْجَمْعِ . وَكَذَلِكَ اسْمُ " الْحَقِّ " يَقَعُ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى صِفَاتِهِ الْقُدْسِيَّةِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُك الْحَقُّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ } .
وَأَمَّا قَوْل الْمُعْتَرِضِ : النُّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ وَجَلَّ الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ . فَيُقَالُ لَهُ : لَمْ تَفْهَمْ مَعْنَى الضِّدِّ الْمَنْفِيِّ عَنْ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ " الضِّدَّ " يُرَادُ بِهِ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْآخَرِ كَمَا يُقَالُ فِي الْأَعْرَاضِ الْمُتَضَادَّةِ مِثْلِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ . وَيَقُولُ النَّاسُ : الضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ ؛ وَهَذَا التَّضَادُّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي " الْأَعْرَاضِ " وَأَمَّا " الْأَعْيَانُ " فَلَا تَضَادَّ فِيهَا ؛ فَيَمْتَنِعُ عِنْدَ هَذَا أَنْ يُقَالَ : لِلَّهِ ضِدٌّ أَوْ لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُتَصَوَّرُ التَّضَادُّ فِيهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَوُجُودَهُ بِلَا رَيْبٍ ؛ بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ . وَقَدْ يُرَادُ " بِالضِّدِّ " الْمُعَارِضُ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ وُجُودِ ذَاتِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ

اللَّهِ فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَتَسْمِيَةُ الْمُخَالِفِ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ ضِدًّا كَتَسْمِيَتِهِ عَدُوًّا . وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالْمُعَادُونَ الْمُضَادُّونَ لِلَّهِ كَثِيرُونَ ؛ فَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُضَادٌّ لِلَّهِ ؛ لَكِنَّ التَّضَادَّ يَقَعُ فِي نَفْسِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْبَاطِلَ ضِدُّ الْحَقِّ وَالْكَذِبَ ضِدُّ الصِّدْقِ ؛ فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي اللَّهِ مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَانَ هَذَا ضِدًّا لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : النُّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ - وَجَلَّ الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ - فَيُقَالُ لَهُ : وَالْحَيُّ ضِدُّ الْمَيِّتِ وَالْعَلِيمُ ضِدُّ الْجَاهِلِ وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ وَاَلَّذِي يَتَكَلَّمُ ضِدُّ الْأَصَمِّ الْأَعْمَى الْأَبْكَمِ وَهَكَذَا سَائِر مَا سُمِّيَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ لَهَا أَضْدَادٌ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِأَضْدَادِهَا فَجَلَّ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَوْ عَاجِزًا أَوْ فَقِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا وُجُودُ مَخْلُوقٍ لَهُ مَوْصُوفٍ بِضِدِّ صِفَتِهِ : مِثْلُ وُجُودِ الْمَيِّتِ وَالْجَاهِلِ وَالْفَقِيرِ وَالظَّالِمِ فَهَذَا كَثِيرٌ ؛ بَلْ غَالِبُ أَسْمَائِهِ لَهَا أَضْدَادٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَوْجُودِينَ . وَلَا يُقَالُ لِأُولَئِكَ إنَّهُمْ أَضْدَادُ اللَّهِ وَلَكِنْ يُقَالُ إنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِضِدِّ صِفَاتِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ التَّضَادَّ بَيْنَ الصِّفَاتِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ لَا فِي مَحَلَّيْنِ فَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْمَوْتِ ضَادَّتْهُ الْحَيَاةُ وَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْحَيَاةِ ضَادَّهُ الْمَوْتُ

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمَةً أَوْ مَوْصُوفًا بِالظُّلْمَةِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَوْ مَوْصُوفًا بِالْمَوْتِ . فَهَذَا الْمُعْتَرِضُ أَخَذَ لَفْظَ " الضِّدِّ بِالِاشْتِرَاكِ " وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضِّدِّ الَّذِي يُضَادُّ ثُبُوتُهُ ثُبُوتَ الْحَقِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِضِدِّ صِفَاتِهِ وَبَيْنَ مَا يُضَادُّهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَالضِّدُّ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَوُجُودُهُمَا كَثِيرٌ ؛ لَكِنْ لَا يُقَالُ إنَّهُ ضِدٌّ لِلَّهِ فَإِنَّ الْمُتَّصِفَ بِضِدِّ صِفَاتِهِ لَمْ يُضَادَّهُ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا " النُّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ " قَالُوا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَقُولُوا : إنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ نُورٌ وَشَيْءٌ آخَرُ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ ظُلْمَةٌ ؛ فَلْيَتَدَبَّرْ الْعَاقِلُ هَذَا التَّعْطِيلَ وَالتَّخْلِيطَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَوْ كَانَ نُورًا لَمْ يَجُزْ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ : { مَثَلُ نُورِهِ } فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ نَقُولَ : النَّصُّ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ قَدْ سَمَّى اللَّهَ نُورَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّصُّ أَنَّ اللَّهَ نُورٌ وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْتَجِبُ بِالنُّورِ ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَارٍ فِي النَّصِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَوَّلِ . ( وَأَمَّا الثَّانِي ) فَهُوَ فِي قَوْلِهِ : { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } وَفِي قَوْلِهِ : { مَثَلُ نُورِهِ } وَفِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ وَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ . } وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الطَّائِفِ : { أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك } رَوَاهُ الطَّبَرَانِي وَغَيْرُهُ . وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ : إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ - أَوْ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ } . فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ حِجَابِهِ . فَإِنَّ تَرَدُّدَ الرَّاوِي فِي لَفْظِ النَّارِ وَالنُّورِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ النَّارِ الصَّافِيَةِ الَّتِي كَلَّمَ بِهَا مُوسَى يُقَالُ لَهَا نَارٌ وَنُورٌ كَمَا سَمَّى اللَّهُ نَارَ الْمِصْبَاحِ نُورًا بِخِلَافِ النَّارِ الْمُظْلِمَةِ كَنَارِ جَهَنَّمَ فَتِلْكَ لَا تُسَمَّى نُورًا . فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ : " إشْرَاقٌ بِلَا إحْرَاقٍ " وَهُوَ النُّورُ الْمَحْضُ كَالْقَمَرِ . وَ " إحْرَاقٌ بِلَا إشْرَاقٍ " وَهِيَ النَّارُ الْمُظْلِمَةُ . وَ " مَا هُوَ نَارٌ وَنُورٌ " كَالشَّمْسِ وَنَارِ الْمَصَابِيحِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا تُوصَفُ بِالْأَمْرَيْنِ ؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ

نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنْ يُضَافَ إلَيْهِ النُّورُ وَلَيْسَ الْمُضَافُ هُوَ عَيْنَ الْمُضَافِ إلَيْهِ . ( الطَّرِيقُ الثَّانِي ) أَنْ يُقَالَ : هَذَا يَرِدُ عَلَيْكُمْ لَا يَخْتَصُّ بِمَنْ يُسَمِّيهِ بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ وَبَيَّنَهُ ؛ فَأَنْتَ إذَا قُلْت : " هَادٍ " أَوْ " مُنَوِّرٌ " أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ : فَالْمُسَمَّى " نُورًا " هُوَ الرَّبُّ نَفْسُهُ ؛ لَيْسَ هُوَ النُّورَ الْمُضَافَ إلَيْهِ . فَإِذَا قُلْت : " هُوَ الْهَادِي فَنُورُهُ الْهُدَى " جَعَلْت أَحَدَ النورين عَيْنًا قَائِمَةً وَالْآخَرَ صِفَةً ؛ فَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ يُسَمِّيهِ نُورًا ؛ وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ يَرِدُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَالْقَائِلَيْنِ كَانَ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ ظُلْمًا وَلَدَدًا فِي الْمُحَاجَّةِ أَوْ جَهْلًا وَضَلَالًا عَنْ الْحَقِّ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلنَّاسِ فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ وَالْمَوْجُودُ بِأَيْدِي الْأُمَّةِ مِنْ الرِّوَايَاتِ الصَّادِقَةِ وَالْكَاذِبَةِ وَالْآرَاءِ الْمُصِيبَةِ وَالْمُخْطِئَةِ لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَالْكَلَامُ فِي " تَفْسِيرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاته وَكَلَامِهِ " فِيهِ مِنْ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْحَقِّ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَقَدْ كَتَبْت قَدِيمًا فِي بَعْضِ كُتُبِي لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ : إنَّ الْعِلْمَ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَالنَّافِعُ مِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَالشَّأْنُ فِي أَنْ نَقُولَ عِلْمًا وَهُوَ النَّقْلُ الْمُصَدَّقُ وَالْبَحْثُ الْمُحَقَّقُ فَإِنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ - وَإِنَّ زَخْرَفَ مِثْلَهُ بَعْضُ النَّاسِ - خَزَفٌ مُزَوَّقٌ وَإِلَّا فَبَاطِلٌ مُطْلَقٌ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا . وَهَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي يُسَمِّيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ " كُتُبَ التَّفْسِيرِ " فِيهَا كَثِيرٌ

مِنْ التَّفْسِيرِ مَنْقُولَاتٌ عَنْ السَّلَفِ مَكْذُوبَةٌ عَلَيْهِمْ وَقَوْلٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ ؛ بَلْ بِمُجَرَّدِ شُبْهَةٍ قِيَاسِيَّةٍ أَوْ شُبْهَةٍ أَدَبِيَّةٍ . فَالْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يُنْقَلُ عَنْهُمْ لَمْ يُسَمِّهِمْ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ ضَعَّفَ قَوْلَهُمْ بِالْبَاطِلِ فَإِنَّ الْقَوْمَ فَسَّرُوا النُّورَ فِي الْآيَةِ : بِأَنَّهُ الْهَادِي ؛ لَمْ يُفَسِّرُوا النُّورَ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَصِحُّ تَضْعِيفُ قَوْلِهِمْ بِمَا ضَعَّفَهُ . وَنَحْنُ إنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِبَيَانِ تَنَاقُضِهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ عَلَيْنَا بِشَيْءِ يَرُوجُ عَلَى ذِي لُبٍّ فَإِنَّ التَّنَاقُضَ أَوَّلُ مَقَامَاتِ الْفَسَادِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ ثَابِتًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهَذَا مِمَّا لَمْ نُثْبِتْهُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " مِنْ النَّقْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ الْكَذِبِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ النَّقْلِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ فَلْيُرَاجَعْ " كُتُبُ التَّفْسِيرِ " الَّتِي يُحَرَّرُ فِيهَا النَّقْلُ مِثْلُ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري الَّذِي يَنْقُلُ فِيهِ كَلَامَ السَّلَفِ بِالْإِسْنَادِ - وَلْيُعْرَضْ عَنْ تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ - وَقَبْلَهُ تَفْسِيرُ بقي بْنِ مخلد الْأَنْدَلُسِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دحيم الشَّامِيِّ وَعَبْدِ بْنِ حميد الكشي وَغَيْرِهِمْ إنْ لَمْ يَصْعَدْ إلَى تَفْسِيرِ الْإِمَامِ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَتَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالتَّفَاسِيرِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَمَا هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ .

فَإِمَّا أَنْ يُثْبِتَ أَصْلًا يَجْعَلُهُ قَاعِدَةً بِمُجَرَّدِ رَأْيٍ فَهَذَا إنَّمَا يَنْفُقُ عَلَى الْجُهَّالِ بِالدَّلَائِلِ الأغشام فِي الْمَسَائِلِ ؛ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْمَنْقُولَاتِ - الَّتِي لَا يُمَيَّزُ صِدْقُهَا مِنْ كَذِبِهَا وَالْمَعْقُولَاتِ الَّتِي لَا يُمَيَّزُ صَوَابُهَا مِنْ خَطَئِهَا - ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ . وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ هَذَا فِي آيَةِ النُّورِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا : { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا نُورًا . ثُمَّ نَقُولُ : هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أَيْ هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَضُرُّنَا وَلَا يُخَالِفُ مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَ النُّورُ فِيهَا مُضَافًا ؛ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي تَفْسِيرِ نُورٍ مُطْلَقٍ كَمَا ادَّعَيْت أَنْتَ مِنْ وُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ ؛ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا ؟ . ثُمَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ نُورًا : فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهِمْ أَنْ يَذْكُرُوا بَعْضَ " صِفَاتِ الْمُفَسَّرِ " مِنْ الْأَسْمَاءِ أَوْ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ ؛ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ ثُبُوتَ بَقِيَّةِ الصِّفَات لِلْمُسَمَّى بَلْ قَدْ يَكُونَانِ مُتَلَازِمَيْنِ وَلَا دُخُولَ لِبَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ فِيهِ . وَهَذَا قَدْ قَرَّرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمَنْ تَدَبَّرَهُ عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ مُتَّفِقَةٌ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ . مِثَالُ ذَلِكَ قَوْل بَعْضِهِمْ فِي { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } إنَّهُ الْإِسْلَامُ وَقَوْلٌ آخَرُ : إنَّهُ الْقُرْآنُ وَقَوْلٌ آخَرُ : إنَّهُ السُّنَّةُ

وَالْجَمَاعَةُ وَقَوْلٌ آخَرُ : إنَّهُ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ . فَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ لَهُ مُتَلَازِمَةٌ لَا مُتَبَايِنَةٌ ؛ وَتَسْمِيَتُهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ بِأَسْمَائِهِ : بَلْ بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى . وَمِثَالُ " الثَّانِي " قَوْله تَعَالَى { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } فَذَكَرَ مِنْهُمْ صِنْفًا مِنْ الْأَصْنَافِ وَالْعَبْدُ يَعُمُّ الْجَمِيعَ . فَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُخِلُّ بِبَعْضِ الْوَاجِبِ وَالْمُقْتَصِدُ الْقَائِمُ بِهِ وَالسَّابِقُ الْمُتَقَرِّبُ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ . وَكُلٌّ مِنْ النَّاسِ يَدْخُلُ فِي هَذَا بِحَسَبِ طَرِيقِهِ فِي التَّفْسِيرِ وَالتَّرْجَمَةِ : بِبَيَانِ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ ؛ لِيَقْرُبَ الْفَهْمُ عَلَى الْمُخَاطَبِ كَمَا لَوْ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ مَا الْخُبْزُ ؟ فَقِيلَ لَهُ : هَذَا وَأُشِيرَ إلَى الرَّغِيفِ . فَالْغَرَضُ الْجِنْسُ لَا هَذَا الشَّخْصُ . فَهَكَذَا تَفْسِيرُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ التَّعْلِيمِ . فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ مِنْ مَعَانِي كَوْنِهِ نُورَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لَهُمْ ؛ أَمَّا إنَّهُمْ نَفَوْا مَا سِوَى ذَلِكَ فَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَأَمَّا إنَّهُمْ أَرَادُوا ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِ نُورِ وَجْهِهِ . وَفِي رِوَايَةِ " النُّورِ " مَا فِيهِ كِفَايَةٌ ؛ فَهَذَا بَيَانُ مَعْنَى غَيْرِ الْهِدَايَةِ .

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْأَرْضَ تُشْرِقُ بِنُورِ رَبِّهَا فَإِذَا كَانَتْ تُشْرِقُ مِنْ نُورِهِ كَيْفَ لَا يَكُونُ هُوَ نُورًا ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النُّورُ الْمُضَافُ إلَيْهِ إضَافَةَ خَلْقٍ وَمِلْكٍ وَاصْطِفَاءٍ - كَقَوْلِهِ { نَاقَةُ اللَّهِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ - لِوُجُوهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ النُّورَ لَمْ يُضَفْ قَطُّ إلَى اللَّهِ إذَا كَانَ صِفَةً لِأَعْيَانِ قَائِمَةٍ فَلَا يُقَالُ فِي الْمَصَابِيحِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا ؛ إنَّهَا نُورُ اللَّهِ وَلَا فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَإِنَّمَا يُقَالُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } .
الثَّانِي : أَنَّ الْأَنْوَارَ الْمَخْلُوقَةَ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تُشْرِقُ لَهَا الْأَرْضُ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ مِنْ نُورٍ إلَّا وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يُنَافِي أَنَّهُ نُورٌ وَكُلُّ مُنَوِّرٍ نُورٌ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ مَثَلَ نُورِهِ الَّذِي فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنُّورِ الَّذِي فِي الْمِصْبَاحِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ نُورٌ وَهُوَ مُنَوِّرٌ لِغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ نُورُهُ فِي الْقُلُوبِ هُوَ نُورٌ وَهُوَ مُنَوِّرٌ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ أَحَقُّ بِذَلِكَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ نُورٌ فَهُوَ مُنَوِّرٌ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ بِالْكَوَاكِبِ : فَهَذَا إنْ أَرَادَ بِهِ قَائِلُهُ : أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ نُورَ السَّمَوَاتِ وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ نُورَ

السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعْنًى إلَّا هَذَا فَهُوَ مُبْطِلٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ؛ وَالْكَوَاكِبُ لَا يَحْصُلُ نُورُهَا فِي جَمِيعِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِنُورِهِ الْمَوْجُودِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ النُّورَ الْمَوْجُودَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ مُرَادٌ مِنْ الْآيَةِ ؛ لَمْ يَضْرِبْهَا عَلَى النُّورِ الْحِسِّيِّ الَّذِي يَكُونُ لِلْكَوَاكِبِ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ وَالظَّنِّ ضَعَّفَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي النُّورِ أَمَّا إنَّهُمْ يَقُولُونَ قَوْلَهُ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا التَّنْوِيرَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُمْيَانَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَمَنْ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ حِجَابٌ لَا حَظَّ لَهُ فِي ذَلِكَ وَالْمَوْتَى لَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ ؛ كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَعْلَمُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بِأَنْوَارِ تَظْهَرُ مِنْ الْعَرْشِ مِثْلُ ظُهُورِ الشَّمْسِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فَتِلْكَ الْأَنْوَارُ خَارِجَةٌ عَنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : قَدْ قِيلَ : بِالْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ فَهَذَا بَعْضُ مَعْنَى الْهَادِي وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ : " هَذَا يُبْطِلُ قَوْلَهُ إنَّ التَّأْوِيلَ دَفْعٌ لِلظَّاهِرِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ

السَّلَفِ " فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَكْذُوبٌ عَلَيَّ وَقَدْ ثَبَتَ تَنَاقُضُ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ السَّلَفِ إلَّا مَا اعْتَرَفَ بِضَعْفِهِ . وَأَمَّا الَّذِي أَقُولُهُ الْآنَ وَأَكْتُبُهُ - وَإِنْ كُنْت لَمْ أَكْتُبْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَجْوِبَتِي وَإِنَّمَا أَقُولُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَجَالِسِ - أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَات فَلَيْسَ عَنْ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهَا . وَقَدْ طَالَعْت التَّفَاسِيرَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَمَا رَوَوْهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَوَقَفْت مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْكُتُبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ تَفْسِيرٍ فَلَمْ أَجِدْ - إلَى سَاعَتِي هَذِهِ - عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ أَوْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ مُقْتَضَاهَا الْمَفْهُومِ الْمَعْرُوفِ ؛ بَلْ عَنْهُمْ مِنْ تَقْرِيرِ ذَلِكَ وَتَثْبِيتِهِ وَبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ مَا يُخَالِفُ كَلَامَ الْمُتَأَوِّلِينَ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . وَكَذَلِكَ فِيمَا يَذْكُرُونَهُ آثِرِينَ وَذَاكِرِينَ عَنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا . وَتَمَامُ هَذَا أَنِّي لَمْ أَجِدْهُمْ تَنَازَعُوا إلَّا فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَائِفَة أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشِّدَّةُ أَنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ الشِّدَّةِ فِي الْآخِرَةِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَطَائِفَةٍ أَنَّهُمْ عَدُّوهَا فِي الصِّفَات ؛ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ مِنْ الصِّفَات فَإِنَّهُ قَالَ : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ لَمْ يُضِفْهَا إلَى اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ

سَاقِهِ فَمَعَ عَدَمِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ إلَّا بِدَلِيلِ آخَرَ وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِتَأْوِيلِ إنَّمَا التَّأْوِيلُ صَرْفُ الْآيَةِ عَنْ مَدْلُولِهَا وَمَفْهُومِهَا وَمَعْنَاهَا الْمَعْرُوفِ ؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ اللَّفْظَ عَلَى مَا لَيْسَ مَدْلُولًا لَهُ ثُمَّ يُرِيدُونَ صَرْفَهُ عَنْهُ وَيَجْعَلُونَ هَذَا تَأْوِيلًا ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " لَوْ كَانَ نُورًا حَقِيقَةً - كَمَا تَقَوَّلَهُ الْمُشَبِّهَةُ - لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ لَيْلًا وَنَهَارًا عَلَى الدَّوَامِ " : فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ . فَإِنَّ الْمُشَبِّهَةَ يَقُولُونَ : إنَّهُ نُورٌ كَالشَّمْسِ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فَإِنَّهُ لَيْسَ كَشَيْءِ مِنْ الْأَنْوَارِ كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَتْ كَشَيْءِ مِنْ الذَّوَاتِ ؛ لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُورًا يَحْجُبُهُ عَنْ خَلْقِهِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ : { حِجَابُهُ النُّورُ - أَوْ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ } . لَكِنَّ هُنَا غَلَطٌ فِي النَّقْلِ وَهُوَ إضَافَةُ هَذَا الْقَوْلِ إلَى الْمُشَبِّهَةِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ أَيْضًا كالمريسي فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ . إنَّهُ نُورٌ وَهُوَ كَبِيرُ الْجَهْمِيَّة ؛ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ بِالْمُشَبِّهَةِ مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ نُورٌ حَقِيقَةً فَالْمُثْبِتَةُ لِلصِّفَاتِ كُلُّهُمْ عِنْدَهُ مُشَبِّهَةٌ وَهَذِهِ " لُغَةُ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ " يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ مُشَبِّهًا . فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ابْنَ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ وَغَيْرَهُمَا ذَكَرَا أَنَّ نَفْيَ كَوْنِهِ نُورًا فِي

نَفْسِهِ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّهُمَا أَثْبَتَا أَنَّهُ نُورٌ وَقَرَّرَا ذَلِكَ هُمَا وَأَكَابِرُ أَصْحَابِهِمَا فَكَيْفَ بِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ . وَأَوَّلُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ حُجِبَ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ بِحِجَابِهِ النُّورِ أَنْ تُدْرِكَهَا سُبُحَاتُ وَجْهِهِ وَأَنَّهُ لَوْ كَشَفَ ذَلِكَ الْحِجَابَ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ فَهَذَا الْحِجَابُ عَنْ إحْرَاقِ السُّبُحَات يُبَيِّنُ مَا يَرِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى فَمَعْنَاهُ بَعْضُ الْأَنْوَارِ الْحِسِّيَّةِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ الْعَارِفِينَ ؛ فَهُوَ بَعْضُ مَعَانِي هِدَايَتِهِ لِعِبَادِهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَنْوِيعُ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ بِحَسَبِ حَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ أَنْ يُفَسِّرُوهَا بِذِكْرِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَقْوَالِ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَيَيْنِ مِنْ مَعَانِي كَوْنِهِ نُورَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنُورِ .

سُئِلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - :
عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } وَقَوْلِهِ : { إنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ جِهَةِ الْيَمَنِ } وَقَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَقَوْلِهِ : { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } وَقَوْلِهِ : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ لَا يَثْبُتُ وَالْمَشْهُورُ إنَّمَا هُوَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ } وَمَنْ تَدَبَّرَ اللَّفْظَ الْمَنْقُولَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِيهِ إلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ فَإِنَّهُ قَالَ : { يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } فَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ { فِي الْأَرْضِ } وَلَمْ يُطْلِقْ فَيَقُولَ يَمِينُ اللَّهِ وَحُكْمُ اللَّفْظِ الْمُقَيَّدِ يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ . ثُمَّ قَالَ : { فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَبَّهَ غَيْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ ؛ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُصَافِحَ لَمْ يُصَافِحْ يَمِينَ اللَّهِ أَصْلًا وَلَكِنْ

شُبِّهَ بِمَنْ يُصَافِحُ اللَّهَ فَأَوَّلُ الْحَدِيثِ وَآخِرُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَجَرَ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ وَلَكِنْ يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ لِلنَّاسِ بَيْتًا يَطُوفُونَ بِهِ : جَعَلَ لَهُمْ مَا يَسْتَلِمُونَهُ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَقْبِيلِ يَدِ الْعُظَمَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِلْمُقَبِّلِ وَتَكْرِيمٌ لَهُ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا فِيهِ إضْلَالُ النَّاسِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ؛ فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ مَا يَنْفِي مِنْ التَّمْثِيلِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي : فَقَوْلُهُ { مِنْ الْيَمَنِ } يُبَيِّنُ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْيَمَنِ اخْتِصَاصٌ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُظَنَّ ذَلِكَ وَلَكِنْ مِنْهَا جَاءَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : سُئِلَ عَنْ هَؤُلَاءِ ؛ فَذَكَرَ أَنَّهُمْ قَوْمُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ؛ وَجَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ أَرَقَّ قُلُوبًا وَأَلْيَنَ أَفْئِدَةً ؛ الْإِيمَانُ يَمَانِيٌّ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ } وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ وَفَتَحُوا الْأَمْصَارَ فَبِهِمْ نَفَّسَ الرَّحْمَنُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ الْكُرُبَاتِ وَمَنْ خَصَّصَ ذَلِكَ بِأُوَيْسِ فَقَدْ أَبْعَدَ . وَأَمَّا الْآيَةُ : فَقَدْ اسْتَفَاضَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ بِرَأْسِهِ حَتَّى عَلَاهُ

الرُّحَضَا ؛ ثُمَّ قَالَ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ ؛ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ ؛ وَمَا أَرَاك إلَّا مُبْتَدِعًا . ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ . وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ الدِّينِ : كَابْنِ الماجشون وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ : كَلَامُهُمْ يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ مَالِكٍ ؛ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَاتِ لَيْسَ بِحَاصِلِ لَنَا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ فَرْعٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ فَإِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ لَا تُعْلَمُ كَيْفِيَّتُهُ امْتَنَعَ أَنْ تُعْلَمَ كَيْفِيَّةُ الصِّفَةِ . وَمَتَى جُنِّبَ الْمُؤْمِنُ طَرِيقَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ وَطَرِيقَ التَّمْثِيلِ : سَلَكَ سَوَاءَ السَّبِيلِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ : مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِشَيْءِ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِغَايَةِ الْكَمَالِ مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الْقُرْآنِ ؛ لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا يُوجِبُ وَصْفَهُ بِذَلِكَ ؛ بَلْ قَدْ يُؤْتَى الْإِنْسَانُ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِ فَيَفْهَمُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَانِيَ يَجِب تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْهَا وَلَكِنَّ حَالَ الْمُبْطِلِ مَعَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قِيلَ :
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا * * * وَآفَتُهُ مِنْ الْفَهْمِ السَّقِيمِ

وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُبَيِّنُوا نَفْيَ مَا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ مِنْ النَّقْصِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يُبَيِّنُوا صَوْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ الْقُرْآنَ بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ ؛ وَإِنْ ضَلَّ بِهِ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ تَفْرِيطِهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا } وَقَوْلُهُ : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } .

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
حَدِيثُ : { رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا } رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الدارقطني فِي كِتَابِهِ فِي الرُّؤْيَةِ - وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا جَمَعَ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْثَرَ مِنْ كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الآجري وَأَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ الأصبهاني - رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا . فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَرَوَاهُ الدارقطني مِنْ خَمْسِ طُرُقٍ أَوْ سِتِّ طُرُقٍ فِي غَالِبِهَا { إنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ بِمِقْدَارِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا } وَصَرَّحَ فِي بَعْضِهَا : { بِأَنَّ النِّسَاءَ يَرَيْنَهُ فِي الْأَعْيَادِ } . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَفِي جَمِيعِ طُرُقِهِ - مَرْفُوعِهَا وَمَوْقُوفِهَا -

التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ ؛ وَإِسْنَادُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَجْوَدُ مِنْ جَمِيعِ أَسَانِيدِ هَذَا الْبَابِ . وَرَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ " بِإِسْنَادِ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَجْوَدَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَكَرَ فِيهِ : { وَذَلِكَ مِقْدَارُ انْصِرَافِكُمْ مِنْ الْجُمُعَةِ } . وَرَوَاهُ أَبُو أَحْمَد بْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْن حَيَّانَ عَنْ ابْنِ بريدة عَنْ أَنَسٍ وَمَا أَعْلَمُ لَفْظَهُ . وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرو الزَّاهِدُ بِإِسْنَادِ آخَرَ لَمْ يَحْضُرْنِي لَفْظُهُ . وَرَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَشْيَبَ حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْن خيثمة عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَلَيْسَ فِيهِ الزِّيَادَةُ . وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الموصلي فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شيبان بْنِ فَرُّوخٍ عَنْ الصَّعْقِ بْنِ حَزْنٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ البناني عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ وَلَا أَعْلَمُ لَفْظَهُ . وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ وَابْنُ بَطَّةَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مَرْفُوعًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ : { فَلَهُمْ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ الضِّعْفُ عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ } - قَالَ - وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَرَوَاهُ الآجري وَابْنُ بَطَّةَ أَيْضًا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ : { وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا أَسْرَعُهُمْ إلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَبْكَرُهُمْ غُدُوًّا } . وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ عَنْ الأوزاعي عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ

أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَقَدْ رَوَى سويد بْنُ عَمْرٍو عَنْ الأوزاعي شَيْئًا مِنْ هَذَا وَقَالُوا : وَرَوَاهُ سويد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الأوزاعي قَالَ : قَالَ : حَدِيثٌ عَنْ سَعِيدٍ . وَرُوِيَ أَيْضًا مَعْنَاهُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ مَوْقُوفًا وَفِيهِ مَعْنَى الزِّيَادَةِ . وَأَصْلُ حَدِيثِ { سُوقِ الْجَنَّةِ } قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الرُّؤْيَةَ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَامَّتُهَا إذَا جُرِّدَ إسْنَادُ الْوَاحِدِ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ عَنْ مَقَالٍ قَرِيبٍ أَوْ شَدِيدٍ لَكِنَّ تَعَدُّدَهَا وَكَثْرَةَ طُرُقِهَا يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ ثُبُوتَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ بَلْ قَدْ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ " الصَّحَابَةِ " وَ " التَّابِعِينَ " مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ بِالتَّوْقِيفِ . فَرَوَى الدارقطني بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { سَارِعُوا إلَى الْجُمُعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ فَيَكُونُونَ فِي قُرْبٍ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا } وَأَيْضًا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ إلَى شَبَّابَةَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { سَارِعُوا إلَى الْجُمُعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ فَيَكُونُونَ فِي الدُّنُوِّ

مِنْهُ عَلَى مِقْدَارِ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَةِ فَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنْ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِيمَا خَلَا . } قَالَ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَا يَسْبِقُهُ أَحَدٌ إلَى الْجُمُعَةِ قَالَ : فَجَاءَ يَوْمًا وَقَدْ سَبَقَهُ رَجُلَانِ فَقَالَ : رَجُلَانِ وَأَنَا الثَّالِثُ إنَّ اللَّهَ يُبَارِكُ فِي الثَّالِثِ . وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَزَادَ فِيهِ : { ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ فَيُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا قَدْ أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِيمَا خَلَا } هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ . وَيُقَالُ إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ ؛ لَكِنْ هُوَ عَالِمٌ بِحَالِ أَبِيهِ مُتَلَقٍّ لِآثَارِهِ مَنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ أَبِيهِ وَهَذِهِ حَالٌ مُتَكَرِّرَةٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَكُونُ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَيَكْثُرُ الْمُتَحَدِّثُ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ فِي أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ مَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَخَافَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَاسِطَةَ فَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يَحْتَجُّونَ بِرِوَايَةِ ابْنِهِ عَنْهُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ رَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ جَنَّتِهِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ فَيَكُونُونَ فِي الدُّنُوِّ مِنْهُ كَتَسَارُعِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْكَرَامَةِ مَا لَمْ يَرَوْا قَبْلَهُ } . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ " وَجْهٍ ثَالِثٍ " رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ : حَدَّثَنَا

فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { بَكِّرُوا فِي الْغُدُوِّ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَاتِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ فَيَكُونُ النَّاسُ مِنْهُ فِي الدُّنُوِّ كَغُدُوِّهِمْ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَةِ } . وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا نَبِيٌّ أَوْ مَنْ أَخَذَهُ عَنْ نَبِيٍّ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِوُجُوهِ : ( أَحَدُهَا ) : أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا يُخْبِرُونَهُمْ بِهِ : فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحَدِّثَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الْيَهُودُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ وَيَبْنِيَ عَلَيْهِ حُكْمًا . ( الثَّانِي ) : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خُصُوصًا كَانَ مِنْ أَشَدِّ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إنْكَارًا لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ . ( الثَّالِثُ ) : أَنَّ الْجُمُعَةَ لَمْ تُشْرَعْ إلَّا لَنَا وَالتَّبْكِيرُ فِيهَا لَيْسَ إلَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَيَبْعُدُ مِثْلُ أَخْذِ هَذَا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَيَبْعُدُ أَنَّ الْيَهُودِيَّ يُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُمْ الْمَوْصُوفُونَ بِكِتْمَانِ الْعِلْمِ وَالْبُخْلِ بِهِ وَحَسَدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ { عَلْقَمَةَ قَالَ : خَرَجْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ إلَى الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ ثَلَاثَةً قَدْ سَبَقُوهُ فَقَالَ : رَابِعُ أَرْبَعَةٍ وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَقُولُ : إنَّ النَّاسَ يَجْلِسُونَ مِنْ اللَّهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ ثُمَّ قَالَ : رَابِعُ أَرْبَعَةٍ وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدِ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ إلَى الْجُمُعَةِ وَقَدْ ذَكَرُوا هَذَا الْمَعْنَى مِنْ جُمْلَةِ مَعَانِي قَوْلِهِ : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } قَالَ بَعْضُهُمْ : السَّابِقُونَ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَاتِ هُمْ السَّابِقُونَ فِي يَوْمِ الْمَزِيدِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ كَمَا قَالَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْضُرْنِي لَفْظُهُ وَتَأْيِيدُ ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { نَحْنُ الآخرون السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ قَبْلَنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ : الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَد } فَإِنَّهُ جُعِلَ سَبْقُنَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ أَنَّا أُوتِينَا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهُدِينَا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ حَتَّى صِرْنَا سَابِقِينَ لَهُمْ إلَى التَّعْبِيدِ فَكَمَا سَبَقْنَاهُمْ إلَى التَّعْبِيدِ فِي الدُّنْيَا نَسْبِقُهُمْ إلَى كَرَامَتِهِ فِي الْآخِرَةِ . وَأَمَّا " حَدِيثُ أَنَسٍ " - وَهُوَ أَشْهَرُ الْأَحَادِيثِ - فِيمَا يَكُونُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ زِيَارَةِ اللَّهِ وَرُؤْيَتِهِ وَإِتْيَانِ سُوقِ الْجَنَّةِ فَأَصَحُّ حَدِيثٍ عَنْهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ : وَاَللَّهِ لَقَدْ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا فَيَقُولُونَ : وَأَنْتُمْ وَاَللَّهِ لَقَدْ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا } .

فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ يَأْتُونَ السُّوقَ وَفِيهِ يَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا وَأَنَّ أَهْلِيهِمْ ازْدَادُوا أَيْضًا فِي غَيْبَتِهِمْ عَنْهُمْ حُسْنًا وَجَمَالًا وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَأْتُوا سُوقَ الْجَنَّةِ . وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةُ بَعْضِ الْحَدِيثِ عَلَى بَعْضٍ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ ؛ بَلْ يُجْعَلُ نَوْعَ تَعَارُضٍ ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُقَاوِمُ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ دُونَ الْجَمِيعِ ؛ بَلْ قَدْ يُقَالُ : لَوْ كَانَتْ رُؤْيَةُ اللَّهِ خَاصَّةً وَأَنَّ زِيَادَةَ الْوُجُوهِ حُسْنًا وَجَمَالًا كَانَ عَنْهَا لَأَخْبَرَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ قَدْ يُقَالُ : ظَاهِرُهُ أَنَّ زِيَادَةَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ إنَّمَا كَانَ مِنْ الرِّيحِ الَّتِي تَهُبُّ فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ . وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ : مَا فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ مِنْ الزِّيَادَاتِ لَا يُنَافِي هَذَا - وَإِنْ كَانَ هَذَا أَصَحَّ - فَإِنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّنَافِي وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ بِشَيْءِ وَأَخْبَرَ فِي الْآخَرِ بِزِيَادَةِ أُخْرَى لَا تُنَافِيهَا كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِمَنْزِلَةِ خَبَرٍ مُسْتَقِلٍّ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ هَلْ هِيَ نَسْخٌ ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي " الْأَحْكَامِ " الَّتِي هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِبَاحَةُ وَتَوَابِعُهَا : مِثْلُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَقَالَ لِآخَرَ : { عَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } فَهُنَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ نَسْخٌ لِقَوْلِهِ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } ؟ مَعَ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَسْخِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ .

وَأَمَّا زِيَادَةُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي " الْأَخْبَارِ الْمَحْضَةِ " فَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ وَأَنَّهُ لَا تُرَدُّ الزِّيَادَةُ إذَا لَمْ تُنَافِ الْمَزِيدَ ؛ فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ : رَأَيْت رَجُلًا ثُمَّ قَالَ : رَأَيْت رَجُلًا عَاقِلًا أَوْ عَالِمًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مُنَافَاةٌ ؛ فَفُرِّقَ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّجْرِيدِ وَالزِّيَادَةِ فِي " الْأُمُورِ الطَّلَبِيَّةِ " ؛ وَبَيْنَ ذَلِكَ فِي " الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ " . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُقَالُ : قَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ أَنَّ " السُّوقَ " يَكُونُ بَعْدَ " رُؤْيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ " كَمَا أَنَّ الْعَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ يَنْتَشِرُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بَعْدَ زِيَارَةِ اللَّهِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ فِي الْجُمُعَةِ . وَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ " ازْدِيَادِ وُجُوهِهِمْ حُسْنًا وَجَمَالًا " لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ ذَلِكَ فِي الرِّيحِ فَإِنَّ أَزْوَاجَهُمْ قَدْ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا وَلَمْ يَشْرَكُوهُمْ فِي الرِّيحِ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَصَلَ فِي الرِّيحِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا حَصَلَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا مِنْ بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ سَبَبَ الِازْدِيَادِ " رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى " مَعَ مَا اقْتَرَنَ بِهَا . وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ " نِسَاؤُهُمْ الْمُؤْمِنَاتُ " رَأَيْنَ اللَّهَ فِي مَنَازِلِهِنَّ فِي الْجَنَّةِ " رُؤْيَةً " اقْتَضَتْ زِيَادَةَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ - إذَا كَانَ السَّبَبُ هُوَ الرُّؤْيَةَ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ - كَمَا أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَانَ الرِّجَالُ يَرُوحُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ فَيَتَوَجَّهُونَ إلَى اللَّهِ هُنَالِكَ وَالنِّسَاءُ فِي بُيُوتِهِنَّ يَتَوَجَّهْنَ إلَى اللَّهِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ ؛ وَالرِّجَالُ يَزْدَادُونَ نُورًا فِي الدُّنْيَا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ يَزْدَدْنَ نُورًا بِصَلَاتِهِنَّ كَلٌّ بِحَسَبِهِ ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ بَلْ كُلُّ عَبْدٍ

يَرَاهُ مَخْلِيًّا بِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَمَا جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ بَلْ قَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ - وَهُوَ الْقَمَرُ - يَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مَخْلِيًّا بِهِ إذَا شَاءَ . إذَا تَلَخَّصَ ذَلِكَ . فَنَقُولُ : " الْأَحَادِيثُ الزَّائِدَةُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ " فِي بَعْضِهَا ذِكْرُ الرُّؤْيَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَقْدِيرِ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثِ سُوقِ الْجَنَّةِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمْ يَجْلِسُونَ مِنْ اللَّهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا ؛ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الرُّؤْيَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْفُوعِ - وَفِي بَعْضِهَا ذِكْرُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهِيَ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ . وَلَيْسَتْ الْأَحَادِيثُ الْمُتَضَمِّنَةُ " لِلرُّؤْيَةِ الْمُجَرَّدَةِ " عَنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِدُونِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِذَلِكَ : لَا فِي الْكَثْرَةِ وَلَا فِي قُوَّةِ الْأَسَانِيدِ ؛ بَلْ الْمُتَضَمِّنَةُ لِذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْهَا وَإِسْنَادُ بَعْضِهَا أَجْوَدُ مِنْ إسْنَادِ تِلْكَ وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ أَكْثَرَ وَرُوِيَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بِإِسْنَادِ وَاحِدٍ - مَنْ جِنْسِ تِلْكَ الْأَسَانِيدِ - لَكَانَ حُكْمُهَا فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ كَحُكْمِ الْمَزِيدِ ؛ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ . وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ " بَعْضَ الْعَامَّةِ " الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْأَحَادِيثَ مِنْ الْقُصَّاصِ أَوْ مِنْ النُّقَّادِ أَوْ بَعْضِ مَنْ يُطَالِعُ الْأَحَادِيثَ وَلَا يَعْتَنِي بِتَمْيِيزِهَا اشْتَهَرَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دُونَ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا عِبْرَةٌ أَصْلًا . فَكَمْ مِنْ أَشْيَاءَ مَشْهُورَةٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ ؛ بَلْ وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِين أَوْ

أَكْثَرِهِمْ ؛ ثُمَّ عِنْدَ حُكَّامِ الْحَدِيثِ الْعَارِفِينَ بِهِ لَا أَصْلَ لَهُ بَلْ قَدْ يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَكَمْ مِنْ أَشْيَاءَ مَشْهُورَةٍ عِنْدَ " الْعَارِفِينَ بِالْحَدِيثِ " بَلْ مُتَوَاتِرَةٍ عِنْدَهُمْ وَأَكْثَرُ الْعَامَّةِ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَعْتَنُوا بِالْحَدِيثِ مَا سَمِعُوهَا أَوْ سَمِعُوهَا مِنْ وَرَاءِ وَرَاءَ وَهُمْ إمَّا مُكَذِّبُونَ بِهَا وَإِمَّا مُرْتَابُونَ فِيهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَضْبِطُوهَا ضَبْطَ الْعَالِمِ لِعِلْمِهِ كَضَبْطِ النَّحْوِيِّ لِلنَّحْوِ وَالطَّبِيبِ لِلطِّبِّ وَإِنْ ضَبَطُوا مِنْهَا شَيْئًا : ضَبَطُوا اللَّفْظَةَ بَعْدَ اللَّفْظَةِ مِمَّا لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْضَبِطُ بِهِ دِينُ اللَّهِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ عَنْ الْأُمَّةِ الْفَرْضُ فِي حِفْظِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ وَالْفِقْهِ فِيهِ . قَالَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " : مَعْرِفَةُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِيهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حِفْظِهِ . وَأَنَا أَذْكُرُ شَوَاهِدَ مَا ذَكَرْته : فَرَوَى الدارقطني فِي " كِتَابِ الرُّؤْيَةِ " - وَهِيَ مِنْ أَوَائِلِ مَا رَوَاهُ فِي تَرْجَمَةِ أَنَسٍ - : حَدَّثَنَا أَحْمَد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَبُو الْحَسَنِ مَوْلَى بَنِي هِشَامٍ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رَأَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ فَأَحْدَثُهُمْ عَهْدًا بِالنَّظَرِ إلَيْهِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَتَرَاهُ الْمُؤْمِنَاتُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ } . وَرَوَى " الدارقطني " أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ ثِقَاتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوْحٍ الْمَدَائِنِيِّ

حَدَّثَنَا سلام بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ وَإِسْرَائِيلُ وَشُعْبَةُ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ - كُلُّهُمْ - قَالُوا : حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حميد عَنْ { أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي كَفِّهِ كَالْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ يَحْمِلُهَا فِيهَا كَالنُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ فَقُلْت : مَا هَذِهِ الَّتِي فِي يَدِك يَا جِبْرِيلُ فَقَالَ : هَذِهِ الْجُمُعَةُ . قُلْت : وَمَا الْجُمُعَةُ ؟ قَالَ : لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ قُلْت : وَمَا يَكُونُ لَنَا فِيهَا ؟ قَالَ : تَكُونُ عِيدًا لَك وَلِقَوْمِك مِنْ بَعْدِك وَتَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى تَبَعًا لَكُمْ قُلْت : وَمَا لَنَا فِيهَا ؟ قَالَ لَكُمْ فِيهَا سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ عَبْدُهُ فِيهَا شَيْئًا هُوَ لَهُ قَسْمٌ إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَلَيْسَ لَهُ بِقَسْمٍ إلَّا ادَّخَرَ لَهُ فِي آخِرَتِهِ مَا هُوَ أَعْظَم مِنْهُ قُلْت : مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ الَّتِي فِيهَا ؟ قَالَ : هِيَ السَّاعَةُ وَنَحْنُ نَدْعُوهُ يَوْمَ الْمَزِيدِ قُلْت : وَمَا ذَلِكَ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ ؛ إنَّ رَبَّك أَعَدَّ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا فِيهِ كُثْبَانٌ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هَبَطَ مِنْ عِلِّيِّينَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُرْسِيِّهِ فَيُحَفُّ الْكُرْسِيُّ بِكَرَاسِيّ مِنْ نُورٍ ؛ فَيَجِيءُ النَّبِيُّونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْكَرَاسِيِّ وَيُحَفُّ الْكُرْسِيُّ بِمَنَابِرَ : مِنْ نُورٍ وَمِنْ ذَهَبٍ . مُكَلَّلَةٍ بِالْجَوْهَرِ ثُمَّ يَجِيءُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْمَنَابِرِ ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ الْغُرَفِ مِنْ غُرَفِهِمْ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْكُثْبَانِ ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ : أَنَا الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي فَسَلُونِي فَيَسْأَلُونَهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ فَيَفْتَحُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَذَلِكَ مِقْدَارُ مُنْصَرَفِكُمْ مِنْ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يَرْتَفِعُ عَلَى كُرْسِيِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْتَفِعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَيَرْجِعُ أَهْلُ

الْغُرَفِ إلَى غُرَفِهِمْ وَهِيَ لُؤْلُؤَةٌ بَيْضَاءُ وَزُمُرُّدَةٌ خَضْرَاءُ وَيَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ غُرَفُهَا وَأَبْوَابُهَا مِنْهَا وَأَنْهَارُهَا مُطَّرِدَةٌ فِيهَا وَأَزْوَاجُهَا وَخُدَّامُهَا وَثِمَارُهَا مُتَدَلِّيَاتٌ فِيهَا فَلَيْسُوا إلَى شَيْءٍ بِأَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيَزْدَادُوا مِنْهُ نَظَرًا إلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَيَزْدَادُوا مِنْهُ كَرَامَةً } . وَرَوَى " ابْنُ بَطَّةَ " هَذَا الْحَدِيثَ مِثْلَ هَذَا عَنْ القافلاني : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الصاغاني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ أَنَسٍ وَفِيهِ { ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ تَعَالَى ثُمَّ يَقُولُ : سَلُونِي أُعْطِكُمْ فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا فَيَقُولُ : رِضَائِي أَحَلَّكُمْ دَارِي وَأَنَالَكُمْ كَرَامَتِي فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا فَيُشْهِدُهُمْ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ - قَالَ - : فَيَفْتَحُ لَهُمْ مَا لَا تَرَى عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - قَالَ - : وَذَلِكَ مِقْدَارُ انْصِرَافِكُمْ مِنْ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يَرْتَفِعُ وَيَرْتَفِعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ ؛ وَيَرْجِعُ أَهْلُ الْغُرَفِ إلَى غُرَفِهِمْ } وَذَكَرَ تَمَامَهُ .
وَهَذَا الطَّرِيقُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَحْفُوظٌ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَانْدَفَعَ بِذَلِكَ الْكَلَامُ فِي سلام بْنِ سُلَيْمٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ الثَّانِيَ كُلَّهُمْ أَئِمَّةٌ إلَى لَيْثٍ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَأَنَّ فِي الْقَلْبِ حزازة مِنْ أَجْلِ أَنَّ " سَلَّاماً " رَوَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَشَاهِيرِ وَرَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوْحٍ الْمَدَائِنِيُّ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سلام " هَذَا : فَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ مَرَّةً : لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : صَدُوقٌ صَالِحُ الْحَدِيثِ . وَسُئِلَ عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ مَرَّةً أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ : أَثِقَةٌ هُوَ ؟ فَقَالَ : لَا . وَقَالَ العقيلي لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ .

فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْجَيِّدَةِ انْدَفَعَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ .
وَرَوَاهُ الدارقطني مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ مِنْ " وَجْهٍ ثَالِثٍ " مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ : حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي جِبْرِيلُ وَفِي كَفِّهِ كَالْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِيهَا كَالنُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ } وَسَاقَ الْحَدِيثَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ : " وَذَلِكَ مِقْدَارُ انْصِرَافِكُمْ مِنْ الْجُمُعَةِ " . وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا عَنْ لَيْثٍ ؛ وَلَا يَضُرُّ تَرْكُ الزِّيَادَةِ ؛ فَإِنَّ عَمَّارَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُخْتِ سُفْيَانَ لَا يُحْتَجُّ لَا بِزِيَادَتِهِ وَلَا بِنَقْصِهِ ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْمُتَابَعَةِ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّالِحِينَ هُمْ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ فَأَمَّا النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ فَلَا يَرْجِعُونَ حِينَئِذٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى رُؤْيَةِ النِّسَاءِ ؛ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ . وَرَوَاهُ " أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ السَّرَّاجُ " حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَشْيَبَ حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خيثمة عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ { أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : أَبْطَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمَّا خَرَجَ قُلْنَا : لَقَدْ احْتَبَسْت قَالَ : فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي وَفِي كَفِّهِ كَهَيْئَةِ الْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ . فَقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْجُمُعَةَ فِيهَا خَيْرٌ لَك وَلِأُمَّتِك وَقَدْ أَرَادَهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَأَخْطَئُوهَا فَقُلْت : يَا جِبْرِيلُ مَا فِي هَذِهِ النُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ ؟ قَالَ : إنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ قَسْمِهِ إلَّا

أَعْطَاهُ إيَّاهُ أَوْ ادَّخَرَ لَهُ مِثْلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهُ وَأَنَّهُ خَيْرُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُسَمُّونَهُ يَوْمَ الْمَزِيدِ . قُلْت : يَا جِبْرِيلُ وَمَا يَوْمُ الْمَزِيدِ ؟ قَالَ : إنَّ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ تُرْبَتُهُ مِسْكٌ أَبْيَضُ يَنْزِلُ اللَّهُ إلَيْهِ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فَيُوضَعُ كُرْسِيُّهُ ثُمَّ يُجَاءُ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَتُوضَعُ خَلْفَهُ فَتَحُفُّ بِهِ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ يُجَاءُ بِكَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ فَتُوضَعُ ثُمَّ يَجِيءُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ الْغُرَفِ فَيَجْلِسُونَ ثُمَّ يَتَبَسَّمُ اللَّهُ إلَيْهِمْ فَيَقُولُ : سَلُوا فَيَقُولُونَ : نَسْأَلُك رِضْوَانَك فَيَقُولُ : قَدْ رَضِيت عَنْكُمْ فَسَلُوا فَيَسْأَلُونَ مُنَاهُمْ فَيُعْطِيهِمْ مَا سَأَلُوا وَأَضْعَافَهَا وَيُعْطِيهِمْ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ؛ ثُمَّ يَقُولُ : أَلَمْ أُنْجِزْكُمْ وَعْدِي وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إلَى غُرَفِهِمْ وَيَعُودُونَ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ قُلْت : يَا جِبْرِيلُ مَا غُرَفُهُمْ ؟ قَالَ : مِنْ لُؤْلُؤَةٍ بَيْضَاءَ وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَزَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ مُقَدَّرَةٍ مِنْهَا أَبْوَابُهَا فِيهَا أَزْوَاجُهَا مُطَّرِدَةٌ أَنْهَارُهَا } رَوَاهُ " أَبُو يَعْلَى الموصلي " فِي ( مُسْنَدِهِ ) عَنْ شيبان بْنِ فَرُّوخٍ عَنْ الصَّعْقِ بْنِ حَزْنٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ البناني عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ لَمْ يَحْضُرْنِي لَفْظُهُ . وَرَوَاهُ الدارقطني " أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَمِيمِ الرَّازِي وَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ عَنْ أَبِي شَبِيبَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ أَنَسٍ . وَمِنْ حَدِيثِ إسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِي حَدَّثَنَا عنبسة بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِنَحْوِ مِنْ السِّيَاقِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ .

وَرَوَى " ابْنُ بَطَّةَ " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : ذُكِرَ لِي عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ أَنَسٍ { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } قَالَ : يَتَجَلَّى لَهُمْ كُلَّ جُمُعَةٍ . وَرَوَاهُ أَيْضًا الدارقطني " مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ الْمُصَيِّصِي : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ وَاصِلٍ المنقري حَدَّثَنَا قتادة بْنُ دِعَامَةَ سَمِعْته يَقُولُ : حَدَّثَنَا { أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ قَالَ : أَتَانِي جِبْرِيلُ وَفِي يَدِهِ الْمِرْآةُ الْبَيْضَاءُ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ بِأَبْسَطَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَفِيهِ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ وَفِيهِ : { وَيَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى مِقْدَارِ مُتَفَرَّقِهِمْ مِنْ الْجُمُعَةِ } . وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ رَوَاهُ " أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الزَّاهِدُ غُلَامُ ثَعْلَبٍ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الدميك الْمَرْوَزِي حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَّانِي حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ يَزِيدَ الرقاشي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَذَكَرَ " الْحَدِيثَ " بِأَبْسَطَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَحْضُرْنِي سِيَاقُهُ وَلَكِنْ أَظُنُّ فِيهِ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهَذَا الْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ يَزِيدَ الرقاشي وَضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو ؛ لَكِنْ هُوَ مَضْمُومٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ . وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ أَنَسٍ رَوَاهُ " أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ " حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ حَدَّثَنَا جَدِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ سَمِعْت عَاصِمًا أَبَا عَلِيٍّ يَقُولُ : سَمِعْت حميدا الطَّوِيلَ قَالَ : سَمِعْت { أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى

كَثِيبِ كَافُورٍ أَبْيَضَ } وَقِيلَ : إنَّ جَعْفَرًا وَجَدَّهُ وَعَاصِمًا : مَجْهُولُونَ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْمُعَارَضَةَ . وَرَوَاهُ أَيْضًا " الدارقطني " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ إلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ مَزِيدٍ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ مَوْلَى عَفْرَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَفِيهِ : { فَيَفْتَحُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } . فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ " مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ وَفِي أَكْثَرِ رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ ذَكَرَ الزِّيَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا " حَدِيثُ حُذَيْفَةَ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَوَاهُ " أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ جُمْهُورٍ " حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي جِبْرِيلُ وَإِذَا فِي كَفِّهِ مِرْآةٌ كَأَصْفَى الْمَرَايَا وَأَحْسَنِهَا } وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِزِيَادَتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ أَلْفَاظٌ أُخْرَى وَلَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ . وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ وَأَحْمَد بْنُ عَمْرٍو العصفوري قَالَا : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُطَيَّبٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ : { فَيُوحِي اللَّهُ إلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ أَنْ يَفْتَحُوا الْحُجُبَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَيَكُونُ أَوَّلُ مَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ تَعَالَى : أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ أَطَاعُونِي بِالْغَيْبِ وَلَمْ يَرَوْنِي وَصَدَّقُوا

رُسُلِي وَاتَّبَعُوا أَمْرِي ؟ سَلُونِي فَهَذَا يَوْمُ الْمَزِيدِ فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ : أَنْ قَدْ رَضِينَا فَارْضَ عَنَّا - وَيَرْجِعُ فِي قَوْلِهِ - يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنِّي لَوْ لَمْ أَرْضَ عَنْكُمْ لَمْ أُسْكِنْكُمْ جَنَّتِي هَذَا يَوْمُ الْمَزِيدِ فَسَلُونِي فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ : أَرِنَا وَجْهَك رَبُّ نَنْظُرْ إلَيْهِ فَيَكْشِفُ اللَّهُ الْحُجُبَ فَيَتَجَلَّى لَهُمْ فَيَغْشَاهُمْ مِنْ نُورِهِ مَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَضَى أَنْ لَا يَمُوتُوا لَاحْتَرَقُوا ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : ارْجِعُوا إلَى مَنَازِلِكُمْ فَيَرْجِعُونَ إلَى مَنَازِلِهِمْ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمٌ وَذَلِكَ يَوْمُ الْمَزِيدِ } . وَأَمَّا " حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ صَحِيحٍ فِي ( كِتَابِ الآجري ) وَابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِمَا : عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُد السجستاني حَدَّثَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ حَدَّثَنَا ابْنُ جِسْرٍ حَدَّثَنَا أَبِي جِسْرٌ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي رِمَالِ الْكَافُورِ وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا أَسْرَعُهُمْ إلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَبْكَرُهُمْ غُدُوًّا } وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالزِّيَادَةِ الْمَطْلُوبَةِ . وَأَمَّا " حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ حَدَّثَنَا الأوزاعي حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ { سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَك فِي سُوقِ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ : أَفِيهَا سُوقٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلُوا نَزَلُوا

فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يُؤْذَنُ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فَيَزُورُونَ رَبَّهُمْ وَيُبْرِزُ لَهُمْ عَرْشَهُ وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَتُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَمَنَابِرُ مَنْ ذَهَبٍ وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ ؛ وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ - وَمَا فِيهِمْ مَنْ دَنِيٍّ - عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ ؛ مَا يَرَوْنَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ أَفْضَلُ مِنْهُمْ مَجْلِسًا - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ نَرَى رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ : نَعَمْ هَلْ تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ؟ قُلْنَا : لَا . قَالَ : كَذَلِكَ لَا تُمَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ - يَعْنِي : رَجُلًا - إلَّا حَاضَرَهُ اللَّهُ مُحَاضَرَةً حَتَّى يَقُولَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ : يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ أَتَذْكُرُ يَوْمَ قُلْت : كَذَا وَكَذَا - فَيُذَكِّرُهُ بِبَعْضِ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا - فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ؟ أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي ؟ فَيَقُولُ : بَلَى فَبِسَعَةِ مَغْفِرَتِي بَلَغْت مَنْزِلَتَك هَذِهِ . فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ غَشِيَهُمْ سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ طِيبًا لَمْ يَجِدُوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قَطُّ وَيَقُول رَبُّنَا : قُومُوا إلَى مَا أَعْدَدْت لَكُمْ مِنْ الْكَرَامَةِ فَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ فَنَأْتِي سُوقًا قَدْ حَفَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ مَا لَمْ تَنْظُرْ الْعُيُونُ إلَى مِثْلِهِ وَلَمْ تَسْمَعْ الْآذَانُ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ فَيَحْمِلُ لَنَا مَا اشْتَهَيْنَا لَيْسَ يُبَاعُ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى وَفِي ذَلِكَ السُّوقِ يَلْقَى أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا - قَالَ - : فَيُقْبِلُ الرَّجُلُ ذُو الْمَنْزِلَةِ الْمُرْتَفِعَةِ فَيَلْقَاهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ - وَمَا فِيهِمْ دَنِيٌّ - فَيَرُوعُهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ اللِّبَاسِ فَمَا يَنْقَضِي آخِرُ حَدِيثِهِ حَتَّى يَتَخَيَّلَ إلَيْهِ مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَحْزَنَ فِيهَا ثُمَّ نَنْصَرِفُ إلَى مَنَازِلِنَا فَيَتَلَقَّانَا أَزْوَاجُنَا

فَيَقُلْنَ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا لَقَدْ جِئْت وَإِنَّ بِك مِنْ الْجَمَالِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتنَا عَلَيْهِ ؛ فَيَقُولُ : إنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ وَيَحِقُّنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَقَدْ رَوَى سويد بْنُ عَمْرٍو عَنْ الأوزاعي شَيْئًا مِنْ هَذَا . قُلْت : قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ " ابْنُ بَطَّةَ " فِي ( الْإِبَانَةِ ) بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ الأوزاعي وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ الأوزاعي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي الْهِقْلُ عَنْ الأوزاعي قَالَ : نُبِّئْت أَنَّهُ لَقِيَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ : أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَك فِي سُوقِ الْجَنَّةِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْفُوظٌ عَنْ الأوزاعي لَكِنْ فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ سَمَّى مَنْ حَدَّثَهُ وَفِي الرِّوَايَاتِ الْبَوَاقِي الثَّانِيَةِ لَمْ يُسَمِّ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَ " مَضْمُونُ هَذَا الْحَدِيثِ " أَنَّ أَزْوَاجَهُمْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُمْ فِي جُمُعَةِ الْآخِرَةِ وَلَا فِي سُوقِهَا ؛ لَكِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنَّهُنَّ رَأَيْنَ اللَّهَ فِي دُورِهِنَّ ؛ فَإِنَّ الرِّجَالَ قَدْ عَلَّلُوا زِيَادَةَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ بِمُجَالَسَةِ الْجَبَّارِ وَالنِّسَاءُ قَدْ شَرِكَتْهُمْ فِي زِيَادَةِ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ .

فَصْلٌ :
الْمُقْتَضِي لِكِتَابَةِ هَذَا : أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ كَانَ قَدْ سَأَلَنِي لِأَجْلِ نِسَائِهِ مِنْ مُدَّةٍ : هَلْ تَرَى الْمُؤْمِنَاتُ اللَّهَ فِي الْآخِرَةِ ؟
فَأَجَبْت بِمَا حَضَرَنِي إذْ ذَاكَ : مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُنَّ يَرَيْنَهُ وَذَكَرْت لَهُ أَنَّهُ قَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُنَّ يَرَيْنَهُ فِي الْأَعْيَادِ وَأَنَّ أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ تَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ ؛ وَأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ حَسَبَ التَّتَبُّعِ ؛ وَمَا لَمْ يَحْضُرْنِي السَّاعَةَ . وَكَانَ قَدْ سَنَحَ لِي فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ " الرُّؤْيَةَ " الْمُعْتَادَةَ الْعَامَّةَ فِي الْآخِرَةِ تَكُونُ بِحَسَبِ الصَّلَوَاتِ الْعَامَّةِ الْمُعْتَادَةِ فَلَمَّا كَانَ الرِّجَالُ قَدْ شُرِعَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا الِاجْتِمَاعُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَتَرَائِيِهِ بِالْقُلُوبِ وَالتَّنَعُّمِ بِلِقَائِهِ فِي الصَّلَاةِ كُلَّ جُمُعَةٍ جَعَلَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ اجْتِمَاعًا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ لِمُنَاجَاتِهِ وَمُعَايَنَتِهِ وَالتَّمَتُّعِ بِلِقَائِهِ . وَلَمَّا كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ مَضَتْ بِأَنَّ النِّسَاءَ يُؤْمَرْنَ بِالْخُرُوجِ فِي الْعِيدِ حَتَّى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَكَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ عَامَّةُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْعِيدِ جُعِلَ عِيدُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ بِالرُّؤْيَةِ عَلَى مِقْدَارِ عِيدِهِنَّ فِي الدُّنْيَا .

وَأَيَّدَ ذَلِكَ عِنْدِي مَا خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ { جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ : إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا . ثُمَّ قَرَأَ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } } وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْمُتَلَقَّاةِ بِالْقَبُولِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَرَأَيْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ : { فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا } وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَعْقِيبَ الْحُكْمِ لِلْوَصْفِ ؛ أَوْ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ بِحَرْفِ الْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ ؛ لَا سِيَّمَا وَمُجَرَّدُ التَّعْقِيبِ هُنَا مُحَالٌ ؛ فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَ التَّحْضِيضِ عَلَى الصَّلَاتَيْنِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَالتَّحْضِيضُ مَوْجُودٌ قَبْلَهَا فِي الدُّنْيَا . وَالتَّعْقِيبُ الَّذِي يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ لَا يَعْنُونَ بِهِ أَنَّ اللَّفْظَ بِالثَّانِي يَكُونُ بَعْدَ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَوْجُودٌ بِالْفَاءِ وَبِدُونِهَا وَبِسَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ مَعْنَى أَنَّ التَّلَفُّظَ الثَّانِيَ يَكُونُ عَقِبَ الْأَوَّلِ فَإِذَا قُلْت : قَامَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو أَفَادَ أَنَّ قِيَامَ عَمْرٍو مَوْجُودٌ فِي نَفْسِهِ عَقِبَ قِيَامِ زَيْدٍ ؛ لَا أَنْ مُجَرَّدَ تَكَلُّمِ الْمُتَكَلِّمِ بِالثَّانِي عَقِبَ الْأَوَّلِ وَهَذَا مِمَّا هُوَ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ

اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إذَا قِيلَ : هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ فَأَكْرِمْهُ فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاحَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِإِكْرَامِهِ حَتَّى لَوْ رَأَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا لَقِيلَ كَذَلِكَ الْأَمْرُ وَهَذَا أَيْضًا رَجُلٌ صَالِحٌ أَفَلَا تُكْرِمْهُ ؟ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا بُدَّ أَنْ يُخْلَفَ الْحَكَمُ لِمُعَارِضِ وَإِلَّا عُدَّ تَنَاقُضًا . وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَمَامَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِكَلِمَةِ طَيِّبَةٍ } فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ تَحْضِيضَهُ عَلَى اتِّقَاءِ النَّارِ هُنَا لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ يَسْتَقْبِلُونَهَا وَقْتَ مُلَاقَاةِ الرَّبِّ وَإِنْ كَانَ لَهَا سَبَبٌ آخَرُ . وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " سَارِعُوا إلَى الْجُمُعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كُثُبِ الْكَافُورِ فَيَكُونُونَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ فِي الدُّنْيَا إلَى الْجُمُعَةِ " فَهِمَ النَّاسُ مِنْ هَذَا أَنَّ طَلَبَ هَذَا الثَّوَابِ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالْمُسَارَعَةِ إلَى الْجَنَّةِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ : إنَّ الْأَمِيرَ غَدًا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ يُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ فَلْيَحْضُرْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحُضُورِ لِأَخْذِ النَّصِيبِ مِنْ حُكْمِهِ أَوْ قِسْمِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ . ثُمَّ إنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُكْمِ " تَارَةً يَكُونُ سَبَبًا مُتَقَدِّمًا عَلَى

الْحُكْمِ فِي الْعَقْلِ وَفِي الْوُجُودِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } " وَتَارَةً " يَكُونُ حُكْمُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحُكْمِ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ كَمَا فِي قَوْلِك : الْأَمِيرُ يَحْضُرُ غَدًا فَإِنْ حَضَرَ كَانَ حُضُورُ الْأَمِيرِ يُتَصَوَّرُ وَيُقْصَدُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ . وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْحُضُورِ وَهَذِهِ تُسَمَّى الْعِلَّةَ الغائية وَتُسَمِّيهَا الْفُقَهَاءُ حِكْمَةَ الْحُكْمِ وَهِيَ سَبَبٌ فِي الْإِرَادَةِ بِحُكْمِهَا وَحُكْمُهَا سَبَبٌ فِي الْوُجُودِ لَهَا . وَ " التَّعْلِيلُ " تَارَةً يَقَعُ فِي اللَّفْظِ بِنَفْسِ الْحِكْمَةِ الْمَوْجُودَةِ فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْمَعْلُولِ وَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا الْعِلَّةُ طَلَبُ تِلْكَ الْحِكْمَةِ وَإِرَادَتُهَا . وَطَلَبُ الْعَافِيَةِ وَإِرَادَتُهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى طَلَبِ أَسْبَابِهَا الْمَفْعُولَةِ وَأَسْبَابُهَا الْمَفْعُولَةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهَا فِي الْوُجُودِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرٌ . كَمَا قِيلَ : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ } { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } وَيُقَالُ : إذَا حَجَجْت فَتَزَوَّدْ . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاتَيْنِ } إلَى : فَافْعَلُوا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا هُنَا لِأَجْلِ ابْتِغَاءِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَيَقْتَضِي أَنَّ الْمُحَافَظَةَ سَبَبٌ لِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ تُوجِبُ ثَوَابًا آخَرَ وَيُؤْمَرُ بِهَا لِأَجْلِهِ وَأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا سَبَبٌ لِذَلِكَ الثَّوَابِ وَأَنَّ لِلرُّؤْيَةِ سَبَبًا آخَرَ ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَلِ وَاقْتِضَاءَ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لِأَحْكَامِ جَائِزٌ . وَهَكَذَا غَالِبُ أَحَادِيثِ الْوَعْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا

نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَقَوْلِهِ : { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا ؛ فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ } وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ صَلَاةَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ سَبَبٌ لِلْمَغْفِرَةِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ وَإِنْ كَانَ لِلْمَغْفِرَةِ أَسْبَابٌ أُخَرُ . وَأَيَّدَ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وَقَدْ فُسِّرَ هَذَا الدُّعَاءُ بِصَلَاتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَلِمَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ بِهَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَتَحْضِيضُهُمْ عَلَى هَاتَيْنِ يُنَاسِبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ وَجْهَهُ نَظَرَ إلَى وَجْهِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . ثُمَّ لَمَّا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ سَبَبٌ لِلرُّؤْيَةِ فِي وَقْتِهَا وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ نَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الصَّلَاتَانِ اللَّتَانِ هُمَا أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتُهُمَا أَفْضَلُ الْأَوْقَاتِ فَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ : الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ثُمَّ مَا كَانَ مِنْهَا أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ سَبَبًا لِأَفْضَلِ الثَّوَابَاتِ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ .
لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ ثوير بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لِمَنْ يَنْظُرُ إلَى جَنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا - ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } { إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } }.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ ثوير عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ عَنْ ثوير عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ الأشجعي عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ثوير عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ : وَلَمْ يَرْفَعْهُ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ فِيهِ مُجَاهِدًا غَيْرَ ثوير وَأَظُنُّهُ قَدْ قِيلَ : فِي قَوْلِهِ : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أَنَّ مِنْهُ النَّظَرَ إلَى اللَّهِ . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ الدارقطني فِي " الرُّؤْيَةِ " : حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَاسِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الضبي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا صَالِحٌ الْمِصْرِيُّ عَنْ عَبَّادٍ المنقري عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سياه عَنْ { أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ هَذِهِ الْآيَةَ { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } { إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قَالَ : وَاَللَّهِ مَا نَسَخَهَا مُنْذُ أَنْزَلَهَا يَزُورُونَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيُطْعَمُونَ وَيُسْقَوْنَ ويطيبون وَيُحْمَلُونَ وَيُرْفَعُ الْحِجَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } . } وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي " الْمَوْضُوعَاتِ " وَقَالَ : هَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فِيهِ مَيْمُونُ بْنُ سياه . قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنْ الْمَشَاهِيرِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا انْفَرَدَ وَفِيهِ صَالِحٌ الْمِصْرِيُّ قَالَ النَّسَائِي : مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ . قُلْت : أَمَّا مَيْمُونُ بْنُ سياه فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِي وَقَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي : ثِقَةٌ وَحَسْبُك بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَعَنْ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ فِيهِ :

ضَعِيفٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقُولُهُ ابْنُ مَعِينٍ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الثِّقَاتِ . وَأَمَّا كَلَامُ ابْنِ حِبَّانَ فَفِيهِ ابْتِدَاعٌ فِي الْجَرْحِ . فَلَمَّا كَانَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ وَعْدُ أَعْلَاهُمْ " غُدْوَةً وَعَشِيًّا " وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ جَعَلَ صَلَاتَيْ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ سَبَبًا " لِلرُّؤْيَةِ " وَصَلَاةَ الْجُمُعَةِ سَبَبًا " لِلرُّؤْيَةِ " فِي وَقْتِهَا ؛ مَعَ مَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ مُنَاسَبَةِ الرُّؤْيَةِ كَانَ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ يُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبٌ لِلرُّؤْيَةِ فِي وَقْتِهِمَا فِي الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ . فَلَمَّا كَانَ هَذَا قَدْ سَنَحَ لِي وَالنِّسَاءُ يُشَارِكْنَ الرِّجَالَ فِي سَبَبِ الْعَمَلِ فَيُشَارِكُونَهُمْ فِي ثَوَابِهِ وَلَمَّا انْتَفَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي الْجُمُعَةِ انْتَفَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي النَّظَرِ فِي الْآخِرَةِ وَلَمَّا حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي الْعِيدِ حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي ثَوَابِهِ . ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ جَرَى كَلَامٌ فِي هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " وَكُنْت قَدْ نَسِيت مَا ذَكَرْته أَوَّلًا ؛ لَا بَعْضَهُ فَاقْتَضَى ذِكْرَ مَا ذَكَرْته أَوَّلًا فَقِيلَ لِي : الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ سَبَبِ " الرُّؤْيَةِ " ؛ لَا أَنَّهُ جَمِيعُ السَّبَبِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ صَلَّاهُمَا وَلَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ لَا يَسْتَحِقُّ الرُّؤْيَةَ . وَقِيلَ لِي : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الصَّلَاتَانِ سَبَبًا لِلرُّؤْيَةِ فِي الْجُمُعَةِ ؛ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ يَرَاهُ مَرَّتَيْنِ ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُحَافِظُونَ عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَعْلَاهُمْ ؟ . فَقُلْت : ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ هُوَ السَّبَبُ فِي هَذِهِ

" الرُّؤْيَةِ " لِمَا ذَكَرْته مِنْ الْقَاعِدَةِ فِي النِّسَاءِ آنِفًا ؛ ثُمَّ قَدْ يَتَخَلَّفُ الْمُقْتَضِي عَنْ الْمُقْتَضَى لِمَانِعِ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَائِهِ كَسَائِرِ أَحَادِيثِ الْوَعْدِ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ : { مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } " مَنْ فَعَلَ كَذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ " دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ لِكُفْرِ أَوْ فِسْقٍ . فَمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ فَاسِقًا وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْوَعْدِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ كَالْكَافِرِ وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الْوَعِيدِ إذَا قِيلَ : مَنْ فَعَلَ كَذَا دَخَلَ النَّارَ ؛ فَإِنَّ الْمُقْتَضَى يَتَخَلَّفُ عَنْ التَّائِبِ وَعَمَّنْ أَتَى بِحَسَنَاتِ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَعَنْ غَيْرِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلرُّؤْيَةِ سَبَبٌ آخَرُ فَكَوْنُهُ سَبَبًا لَا يَمْنَعُ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنْهُ لِمَانِعِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْتَصِبَ سَبَبٌ آخَرُ لِلرُّؤْيَةِ . ثُمَّ أَقُولُ : فِعْلُ بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ السَّبَبِ أَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي هَذَا السَّبَبِ : فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ أَتَى بِبَقِيَّةِ شُرُوطِ الْوَعْدِ وَانْتَفَتْ عَنْهُ مَوَانِعُهُ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : فَالْأُنُوثَةُ مَانِعٌ مِنْ لُحُوقِ الْوَعْدِ أَوْ الذُّكُورَةُ شَرْطٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا إنْ دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ شَرْطٌ قُلْنَا بِهِ فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَمُوجَبِهِ بِالْإِمْكَانِ ؛ بَلْ مَتَى ثَبَتَ عُمُومُ اللَّفْظِ وَعُمُومُ الْعِلَّةِ وَجَبَ تَرْتِيبُ مُقْتَضَى ذَلِكَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ بِخِلَافِهِ ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ وَلَا أَنَّ الْأُنُوثَةَ مَانِعٌ ؛ كَمَا لَمْ يَقْتَضِ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ وَالْعَجَمِيَّةَ وَالسَّوَادَ وَالْبَيَاضَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ .

وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ " الْمُقْتَصِدِينَ " يُشَارِكُونَ " السَّابِقِينَ " فِي أَصْلِ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ امْتَازَ السَّابِقُونَ عَنْهُمْ بِدَرَجَاتِ وَمَثُوبَاتٍ أَوْ شُمُولِ الْمَعْنَى لِهَؤُلَاءِ عَلَى السَّوَاءِ فَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبٌ لِلرُّؤْيَةِ وَوُجُودُ السَّبَبِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمُسَبَّبِ إلَّا إذَا تَخَلَّفَ شَرْطُهُ أَوْ حَصَلَتْ مَوَانِعُهُ وَالشُّرُوطُ وَالْمَوَانِعُ تَتَوَقَّفُ عَلَى دَلِيلٍ . وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ عَلَى كَوْنِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ سَبَبًا لِلرُّؤْيَةِ فِي الْجُمْلَةِ - وَلَوْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ - فَيُقَالُ : ذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنَّ النِّسَاءَ يَرَيْنَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ . ثُمَّ يُقَالُ : مَجْمُوعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَحْصُلُ وَقْتَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَسَبَبُهَا صَلَاةُ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ كَانَ هَذَا ظَاهِرًا فِيمَا قُلْنَاهُ . وَالْمُدَّعَى الظُّهُورُ ؛ لَا الْقَطْعُ . وَأَمَّا كَوْنُ " الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ " لِأَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ مَنْ صَلَّى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَيْسَ هَذَا بِدَافِعِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ مُمْكِنَةٌ بِهِ يَخْرُجُ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا ؛ لَكِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْهَا . يُمْكِنُ السَّبَبَ فِعْلُ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ لَا صَلَاةِ أَكْثَرِ النَّاسِ . أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إلَّا رُبُعُهَا إلَّا خُمُسُهَا إلَّا سُدُسُهَا - حَتَّى

قَالَ - : عُشْرُهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَالصَّلَاةُ الْمَقْبُولَةُ هِيَ سَبَبُ الثَّوَابِ وَالصَّلَاةُ الْمَقْبُولَةُ هِيَ الْمَكْتُوبَةُ لِصَاحِبِهَا وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ الْمُصَلِّينَ مَنْ لَا يُكْتَبُ لَهُ إلَّا بَعْضُهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُصَلِّي مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ مَنْ تَقَبَّلَ اللَّهُ صَلَاتَهُ وَكَتَبَهَا لَهُ كُلَّهَا . وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكَادُ يَنْدَرِجُ فِي الْحَدِيثِ إلَّا الصِّدِّيقُونَ أَوْ قَلِيلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فَالنِّسَاءُ مِنْهُنَّ صِدِّيقَاتٌ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ نَوَافِلُ يَجْبُرُ بِهَا نَقْصَ صِلَاتِهِ يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ : { إنَّ النَّوَافِلَ تَجْبُرُ الْفَرَائِضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْمَوْجُودُونَ بِهَذَا أَكْثَرَ الْمُصَلِّينَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَيَكُونُ هَؤُلَاءِ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُ بَعْضَهَا عَنْ وَقْتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ بَعْضَهَا وَسَائِرُ الْأُمَمِ قَبْلَنَا لَا حَظَّ لَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ . وَلَوْ قِيلَ : إنَّ كُلَّ مَنْ صَلَّى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ نَالَ هَذَا الثَّوَابَ لَأَمْكَنَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ الْحَدِيثُ نَافِيًا لِهَذَا ؛ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْعُلُوُّ وَالسُّفُولُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ فَيَصْدُقُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّاتِ الثَّلَاثِ أَنَّهُمْ مِنْ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّاتِ الْخَمْسِ الْبَاقِيَةِ وَيَصْدُقُ أَيْضًا

عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ أَعْلَى بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ تَحْتَهُمْ وَبَعْضُ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ . لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ كَانَ حَدِيثُ " الْمَرَّتَيْنِ " يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي إسْنَادِهِ.
وَلَمَّا جَرَى الْكَلَامُ ثَانِيًا فِي " رُؤْيَةِ النِّسَاءِ رَبَّهُنَّ فِي الْآخِرَةِ " اسْتَدْلَلْت بِأَشْيَاءَ أَنَا أَذْكُرُهَا وَمَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَيَّ وَمَا لَمْ يُعْتَرَضْ حَتَّى يَظْهَرَ الْأَمْرُ فَأَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُنَّ يَرَيْنَهُ أَنَّ النُّصُوصَ الْمُخْبِرَةَ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَشْمَلُ النِّسَاءَ لَفْظًا وَمَعْنًى وَلَمْ يُعَارِضْ هَذَا الْعُمُومُ مَا يَقْتَضِي إخْرَاجَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ فَيَجِبَ الْقَوْلُ بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ . وَلَوْ قِيلَ لَنَا : مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفُرْسَ يَرَوْنَ اللَّهَ ؟ أَوْ أَنَّ الطِّوَالَ مِنْ الرِّجَالِ يَرَوْنَ اللَّهَ أَوْ إيش الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ نِسَاءَ الْحَبَشَةِ يَخْرُجْنَ مِنْ النَّارِ ؟ لَكَانَ مِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ فِي ذَلِكَ بَالِغًا جِدًّا إلَّا إذَا خُصِّصَ ثُمَّ يُعْلَمُ أَنَّ الْعُمُومَ الْمُسْنَدَ الْمُجَرَّدَ عَنْ قَبُولِ التَّخْصِيصِ يَكَادُ يَكُونُ قَاطِعًا فِي شُمُولِهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ قَاطِعًا . أَمَّا " النُّصُوصُ الْعَامَّةُ " فَمِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَالَ : فَهَلْ تُمَارُونَ فِي

الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لَا قَالَ : فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الشَّمْسَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الطَّوَاغِيتَ ؛ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا فَيَدْعُوهُمْ فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظهراني جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمئِذٍ : اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ } وَسَاقَ الْحَدِيثَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ { أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا ؛ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُعَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إلَى أَنْ قَالَ : { حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ اللَّهُ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ : فَمَا تَنْتَظِرُونَ ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا يَا رَبَّنَا ؛ فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إلَيْهِمْ وَلَمْ

نُصَاحِبْهُمْ ؛ فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك لَا نُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ فَيَقُولَ : هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ ؛ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ ؛ ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ } . هَذَانِ الْحَدِيثَانِ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ فَلَمَّا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ ؛ يُحْشَرُ النَّاسُ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ } . أَلَيْسَ قَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؟ لِأَنَّ لَفْظَ النَّاسِ يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ وَلِأَنَّ الْحَشْرَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ . وَهَذَا الْعُمُومُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ وَإِنْ جَازَ جَازَ عَلَى ضَعْفٍ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ مِنْ الرِّجَالِ إذْ قَدْ صَحَّ أَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ وَقَدْ صَحَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ زَوْجَتَانِ مِنْ الْإِنْسِيَّاتِ سِوَى الْحُورِ الْعِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ النِّسَاءِ أَكْثَرُ مِنْ الرِّجَالِ وَكَذَلِكَ فِي النَّارِ فَيَكُونُ الْخَلْقُ مِنْهُمْ أَكْثَرَ وَاللَّفْظُ الْعَامُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ الصُّوَرِ دُونَ الْكَثِيرِ بِلَا قَرِينَةٍ مُتَّصِلَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَلْبِيسٌ وَعِيٌّ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ الشَّارِعِ . ثُمَّ قَوْلُهُ : فَيُقَالُ { : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ } وَصْفٌ مِنْ الصِّيَغِ الَّتِي

تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ ؛ ثُمَّ فِيهَا الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ : أَنَّ اتِّبَاعَهُ إيَّاهُ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِ عَبَدَهُ فِي الدُّنْيَا وَهَذِهِ الْعِلَّةُ شَامِلَةٌ لِلصِّنْفَيْنِ . ثُمَّ قَوْلُهُ { وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا } . وَالنِّسَاءُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُؤْمِنَاتُهُنَّ ومنافقاتهن { فَإِذَا جَاءَ عَرَفْنَاهُ } وَقَوْلُهُ : { فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا فَيَدْعُوهُمْ } تَفْسِيرٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ . وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : { فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا } قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَائِدٌ إلَى الْأُمَّةِ الَّتِي فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَإِلَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُهُ الَّذِي يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَإِلَى النَّاسِ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ ؛ وَذَلِكَ يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُزَادَ بَيَانًا . ثُمَّ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ : { فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } نَصٌّ فِي أَنَّ النِّسَاءَ مِنْ السَّاجِدِينَ الرَّافِعِينَ قَدْ رَأَوْهُ أَوَّلًا وَوَسَطًا وَآخِرًا وَالسَّاجِدُونَ قَدْ قَالَ فِيهِمْ : { لَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ } وَ " مَنْ " تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فَكُلُّ مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ مُخْلِصًا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَقَدْ سَجَدَ لِلَّهِ وَقَدْ رَآهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الثَّلَاثِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَعَدُّدِ السُّجُودِ وَالتَّحَوُّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْتَمَسُ مَعْرِفَتُهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا مَا قَصَدْنَا لَهُ . ثُمَّ فِي كِلَا الْحَدِيثَيْنِ الْإِخْبَارُ بِمُرُورِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَسُقُوطِ قَوْمٍ فِي النَّارِ

وَنَجَاةِ آخَرِينَ ثُمَّ بِالشَّفَاعَةِ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيُسَمَّوْنَ الجهنميين ؛ أَفَلَيْسَ هَذَا كُلُّهُ عَامًّا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَمْ الَّذِينَ يَجْتَازُونَ عَلَى الصِّرَاطِ وَيَسْقُطُ بَعْضُهُمْ فِي النَّارِ ثُمَّ يُشَفَّعُ فِي بَعْضِهِمْ هُمْ الرِّجَالُ ؛ وَلَوْ طَلَبَ الرَّجُلُ نَصًّا فِي النِّسَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا أَمَا كَانَ مُتَكَلِّفًا ظَاهِرَ التَّكَلُّفِ ؟ . وَكَذَلِكَ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ { أَبِي الزُّبَيْرِ : أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَسْأَلُ عَنْ الْوُرُودِ فَقَالَ : نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا اُنْظُرْ أَيُّ ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ قَالَ : فَتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ؛ ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ : مَنْ تَنْتَظِرُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : نَنْتَظِرُ رَبَّنَا فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : حَتَّى نَنْظُرَ إلَيْك فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ قَالَ : فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتْبَعُونَهُ وَيُعْطِي كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ - مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ - نُورًا ؛ ثُمَّ يَتْبَعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وحسك تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ يَنْجُوا الْمُؤْمِنُونَ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالشَّفَاعَةِ . أَفَلَيْسَ هَذَا بَيِّنًا فِي أَنَّهُ يَتَجَلَّى لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ ؟ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ تُعْطَى نُورَهَا ثُمَّ جَمِيعُ " الْمُؤْمِنِينَ " ذُكْرَانُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ يَبْقَى نُورُهُمْ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ الْمَعَانِي تَعُمُّ الطَّائِفَتَيْنِ عُمُومًا يَقِينِيًّا . وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مَرْفُوعٌ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِمِثْلِ إسْنَادِ مُسْلِمٍ

وَذَكَرَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ جَابِرًا سَمِعَ الْجَمِيعَ مِنْهُ وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْفُوعًا ؛ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْوَلُ سِيَاقِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ . وَفِي حَدِيثِ { أَبِي رَزِينٍ العقيلي الْمَشْهُورِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : أَكُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ مَخْلِيًّا بِهِ ؟ قَالُوا : بَلَى فَاَللَّهُ أَعْظَمُ } وَقَوْلُهُ : { كُلُّكُمْ يَرَى رَبَّهُ } كَقَوْلِهِ { كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي مَالِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا } مِنْ أَشْمَلِ اللَّفْظِ . وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ : { كُلُّكُمْ يَرَى رَبَّهُ مَخْلِيًّا بِهِ } { وَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ } { وَمَا مِنْكُمْ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ الَّتِي تُصَرِّحُ بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ مُشْتَرِكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ " الْمُحَاسَبَةِ " وَ " الرُّؤْيَةِ " وَ " الْخَلْوَةِ " وَ " الْكَلَامِ " . وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ فِي " رُؤْيَتِهِ - سُبْحَانَهُ - فِي الْجَنَّةِ " مِثْلُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صهيب قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ : مَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُدْخِلْنَا

الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ ؟ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَى اللَّهِ فَمَا شَيْءٌ أُعْطُوهُ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ } . قَوْلُهُ : { إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ } يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَهْلِ يَشْمَلُ الصِّنْفَيْنِ وَأَيْضًا فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النِّسَاءَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَقَوْلُهُ : { يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه } خِطَابٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ دَخَلُوهَا وَوُعِدُوا بِالْجَزَاءِ وَهَذَا قَدْ دَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ النِّسَاءِ الْمُكَلَّفَاتِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : " أَلَمْ يُثَقِّلْ وَيُبَيِّضْ وَيُدْخِلْ وَيُنْجِزْ " يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ . وَقَوْلُهُ : { فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ } الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ . ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ دَلِيلٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ مِنْ الَّذِينَ أَحْسَنُوا ثُمَّ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ : { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } يَقْتَضِي حَصْرَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فِي أُولَئِكَ وَالنِّسَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُنَّ مِنْ أُولَئِكَ وَأُولَئِكَ إشَارَةٌ إلَى الَّذِينَ لَهُمْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ؛ فَوَجَبَ دُخُولُ النِّسَاءِ فِي الَّذِينَ لَهُمْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَاقْتَضَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ مَوْعُودٌ " بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْحُسْنَى " الَّتِي هِيَ النَّظَرُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ؛ وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ إلَّا بِدَلِيلِ ؛ وَهَذِهِ " الرُّؤْيَةُ الْعَامَّةُ " لَمْ تُوَقَّتْ بِوَقْتِ بَلْ قَدْ تَكُونُ عَقِبَ الدُّخُولِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْمَنَازِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ وَقْتٍ يَكُونُ ذَلِكَ .

وَكَذَلِكَ مَا دَلَّ مِنْ الْكِتَابِ عَلَى " الرُّؤْيَةِ " كَقَوْلِهِ { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } { إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } { تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } هُوَ تَقْسِيمٌ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } { بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } وَظَاهِرُ انْقِسَامِ الْوُجُوهِ إلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ . كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ } { ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أَيْضًا إلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوُجُوهِ الْبَاسِرَةِ كَانَ مِنْ الْوُجُوهِ النَّاضِرَةِ النَّاظِرَةِ ؛ كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النِّسَاءَ يَزْدَدْنَ حُسْنًا وَجَمَالًا كَمَا يَزْدَادُ الرِّجَالُ فِي مَوَاقِيتِ النَّظَرِ ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قَدْ فُسِّرَ بِالرُّؤْيَةِ وَقَوْلُهُ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ . وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي " صِيَغِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ مُظْهَرِهِ وَمُضْمَرِهِ " مِثْلُ : الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَبْرَارِ وَهُوَ هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي مُطْلَقِ اللَّفْظِ أَوْ لَا يَدْخُلُونَ إلَّا بِدَلِيلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : ( أَشْهَرُهُمَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ إذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غَلَّبُوا الْمُذَكَّرَ وَقَدْ عَهِدْنَا مِنْ الشَّارِعِ فِي خِطَابِهِ أَنَّهُ يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ وَيَدْخُلُ النِّسَاءُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمُوعَ تَسْتَعْمِلُهَا الْعَرَبُ تَارَةً فِي الذُّكُورِ الْمُجَرَّدِينَ وَتَارَةً فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ

وَقَدْ عَهِدْنَا مِنْ الشَّارِعِ أَنَّ خِطَابَهُ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى النَّمَطِ الثَّانِي وَقَوْلُنَا : الْمُطْلَقَ احْتِرَازٌ مِنْ الْمُقَيَّدِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ يَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ . وَ ( الْقَوْلُ الثَّانِي : إنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ إلَّا بِدَلِيلِ ثُمَّ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ آيَاتِ " الْأَحْكَامِ " وَ " الْوَعْدِ " وَ " الْوَعِيدِ " الَّتِي فِي الْقُرْآنِ تَشْمَلُ الْفَرِيقَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْمُذَكَّرِ فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : دَخَلُوا فِيهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ لَا يَشْمَلُهُ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : دَخَلُوا لِأَنَّا عَلِمْنَا مِنْ الدِّينِ اسْتِوَاءَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْأَحْكَامِ فَدَخَلُوا كَمَا نَدْخُلُ نَحْنُ فِيمَا خُوطِبَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَمَا تَدْخُلُ سَائِرُ الْأُمَّةِ فِيمَا خُوطِبَ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْهَا . وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ اللَّفْظِ لَا تَشْمَلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِ . وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ اللَّفْظَ الْخَاصَّ يُسْتَعْمَلُ عَامًّا " حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً " إمَّا خَاصَّةً وَإِمَّا عَامَّةً وَرُبَّمَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ قِيَاسًا جَلِيًّا يَنْقُصُ حُكْمَ مَنْ خَالَفَهُ ؛ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُسَمُّونَهُ " قِيَاسًا " بَلْ قَدْ عُلِمَ اسْتِوَاءُ الْمُخَاطَبِ وَغَيْرِهِ فَنَحْنُ نَفْهَمُ مِنْ الْخِطَابِ لَهُ الْخِطَابَ لِلْبَاقِينَ حَتَّى لَوْ فُرِضَ انْتِفَاءُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ لِمَعْنَى يَخُصُّهُ لَمْ يَنْقُصْ انْتِفَاءَ الْخِطَابِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ " فَالْقِيَاسُ " تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ وَهُنَا لَمْ يُعَدَّ حُكْمٌ وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ ثُبُوتًا وَاحِدًا ؛ بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِتَعْدِيَةِ الْخِطَابِ بِالْحُكْمِ ؛ لَا نَفْسِ الْحُكْمِ .

وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَالدَّلَالَةُ مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ مُتَوَجِّهَةٌ ؛ كَمَا أَنَّهَا مُتَوَجِّهَةٌ بِلَا تَرَدُّدٍ مِنْ صِيغَةِ : " مَنْ " وَ " أَهْلٍ " وَ " النَّاسِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا " دَلَالَةً ثَانِيَةً " وَهِيَ دَلَالَةُ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ وَهِيَ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَدْ فُسِّرَتْ " الْقُرَّةُ " بِالنَّظَرِ وَغَيْرِهِ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّظَرَ جَزَاءٌ عَلَى عَمَلِهِمْ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ جِنْسُ الرِّجَالِ الْجَنَّةَ ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ الرِّجَالُ " كَالْإِمَارَةِ " وَ " النُّبُوَّةِ " - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تَنْحَصِرْ الرُّؤْيَةُ فِيهِ ؛ بَلْ يَدْخُلُ فِي الرُّؤْيَةِ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا يَخْتَصُّ الرِّجَالَ ؛ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ : مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } إنَّ " الْبِرَّ " سَبَبُ هَذَا الثَّوَابِ وَ " الْبِرُّ " مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا عَلِقَتْ بِهِ " الرُّؤْيَةُ " مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ وَنَحْوِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ فَيَعُمُّ الطَّائِفَتَيْنِ . وَبِهَذَا " الْوَجْهِ " احْتَجَّ الْأَئِمَّةُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ . فَقَالُوا : لَمَّا حُجِبَ الْكُفَّارُ بِالسَّخَطِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ بِالرِّضَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ فَارَقْنَ الْكُفَّارَ فِيمَا اسْتَحَقُّوا بِهِ السَّخَطَ وَالْحِجَابَ وَشَارَكُوا الْمُؤْمِنِينَ

فِيمَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الرِّضْوَانَ وَالْمُعَايَنَةَ فَثَبَتَتْ الرُّؤْيَةُ فِي حَقِّهِمْ بِاعْتِبَارِ الطَّرْدِ وَاعْتِبَارِ الْعَكْسِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ إنْ لَمْ نَقْطَعْهُ لَمْ يَنْقَطِعْ . فَإِنْ قِيلَ : دَلَالَةُ الْعُمُومِ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ : أَكْثَرُ العمومات مَخْصُوصَةٌ ؛ وَقِيلَ : مَا ثَمَّ لَفْظٌ عَامٌّ إلَّا قَوْلَهُ : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ دَلَالَةَ الْعُمُومِ رَأْسًا . قُلْنَا : أَمَّا " دَلَالَةُ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ الْعَقْلِيِّ " فَمَا أَنْكَرَهُ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ فِيمَا أَعْلَمُهُ ؛ بَلْ وَلَا مِنْ الْعُقَلَاءِ وَلَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي " أَهْلِ الظَّاهِرِ الصِّرْفِ " الَّذِينَ لَا يَلْحَظُونَ الْمَعَانِيَ كَحَالِ مَنْ يُنْكِرُهَا ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ الْأَلْفَاظِ ؛ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ الْعُمْدَةُ وَلَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ ؛ وَإِلَّا قَدْ يُنْكِرُونَ كَوْنَ عُمُومِ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ مَفْهُومًا مِنْ خِطَابِ الْغَيْرِ . فَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا جَمَعَ بَيْنَ إنْكَارِ " العمومين " اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَنَحْنُ قَدْ قَرَّرْنَا الْعُمُومَ بِهِمَا جَمِيعًا فَيَبْقَى مَحَلُّ وِفَاقٍ مَعَ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ ؛ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهُ فِي الْجُمْلَةِ ؛ وَمَنْ أَنْكَرَهُ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ إثْبَاتَ حُكْمِ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ ؛ بَلْ سَدَّ عَلَى عَقْلِهِ أَخَصَّ أَوْصَافِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ وَنَحْنُ قَدْ قَرَّرْنَا الْعُمُومَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ؛ بَلْ قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ : هَلْ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَأَمَّا " الْعُمُومُ اللَّفْظِيُّ " فَمَا أَنْكَرَهُ أَيْضًا إمَامٌ وَلَا طَائِفَةٌ لَهَا مَذْهَبٌ مُسْتَقِرٌّ

فِي الْعِلْمِ وَلَا كَانَ فِي " الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ " مَنْ يُنْكِرُهُ ؛ وَإِنَّمَا حَدَثَ إنْكَارُهُ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَظَهَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَأَكْبَرُ سَبَبِ إنْكَارِهِ إمَّا مِنْ الْمُجَوِّزِينَ لِلْعَفْوِ مِنْ " أَهْلِ السُّنَّةِ " . وَمِنْ أَهْلِ الْمُرْجِئَةِ مَنْ ضَاقَ عَطَنُهُ لَمَّا نَاظَرَهُ الوعيدية بِعُمُومِ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَأَحَادِيثِهِ فَاضْطَرَّهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ جَحَدَ الْعُمُومَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَكَانُوا فِيمَا فَرُّوا إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْجَحْدِ كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ . وَلَوْ اهْتَدَوْا لِلْجَوَابِ السَّدِيدِ " للوعيدية " : مِنْ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي آيَةٍ وَإِنْ كَانَ عَامًّا مُطْلَقًا فَقَدْ خُصِّصَ وَقُيِّدَ فِي آيَةٍ أُخْرَى - جَرْيًا عَلَى السُّنَنِ الْمُسْتَقِيمَةِ - أَوْلَى بِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ الْمُتَوَعَّدِ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا . تَقْيِيدًا لِلْوَعِيدِ الْمُطْلَقِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَقْرِيرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ قَرَّرُوا الْعُمُومَ بِمَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ ذِكْرِهِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ : بَلْ الْعِلْمُ بِحُصُولِ الْعُمُومِ مِنْ صِيَغِهِ ضَرُورِيٌّ مِنْ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعُرْفِ وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ فِرْقَةٌ قَلِيلَةٌ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ جَحْدُ الضَّرُورِيَّاتِ أَوْ سَلْبُ مَعْرِفَتِهَا ؛ كَمَا جَازَ عَلَى مَنْ جَحَدَ الْعِلْمَ بِمُوجَبِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَالِمِ الضَّرُورِيَّةِ . وَأَمَّا مَنْ سَلَّمَ أَنَّ الْعُمُومَ ثَابِتٌ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ . وَقَالَ : هُوَ ضَعِيفٌ أَوْ أَكْثَرُ العمومات مَخْصُوصَةٌ وَأَنَّهُ مَا مِنْ عُمُومٍ مَحْفُوظٍ إلَّا كَلِمَةً أَوْ كَلِمَاتٍ . فَيُقَالُ لَهُ : " أَوَّلًا " هَذَا سُؤَالٌ لَا تَوْجِيهَ لَهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي ذَكَرْته لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعُمُومِ أَوْ لَا يَكُونَ ، فَإِنْ كَانَ مَانِعًا

فَهُوَ مَذْهَبُ مُنْكِرِي الْعُمُومِ مِنْ الْوَاقِفَةِ وَالْمُخَصِّصَةِ وَهُوَ مَذْهَبٌ سَخِيفٌ لَمْ يُنْتَسَبْ إلَيْهِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فَهَذَا كَلَامٌ ضَائِعٌ غَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ : دَلَالَةُ الْعُمُومِ أَضْعَفُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَهَذَا لَا يُقَرُّ ؛ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ . ثُمَّ يُقَالَ " ثَانِيًا " : مَنْ الَّذِي سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْعُمُومَ الْمُجَرَّدَ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَصِّصٌ دَلِيلٌ ضَعِيفٌ ؟ أَمْ مَنْ الَّذِي سَلَّمَ أَنَّ أَكْثَرَ العمومات مَخْصُوصَةٌ ؟ أَمْ مَنْ الَّذِي يَقُولُ مَا مِنْ عُمُومٍ إلَّا قَدْ خُصَّ إلَّا قَوْلَهُ : { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؟ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطْلِقُهُ بَعْضُ السَّادَاتِ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَكْذَبِ الْكَلَامِ وَأَفْسَدِهِ . وَالظَّنُّ بِمَنْ قَالَهُ " أَوَّلًا " أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ لَفْظِ " كُلِّ شَيْءٍ " مَخْصُوصٌ إلَّا فِي مَوَاضِعَ قَلِيلَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } وَإِلَّا فَأَيُّ عَاقِلٍ يَدَّعِي هَذَا فِي جَمِيعِ صِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِي سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ وَكَلَامِ أَنْبِيَائِهِ وَسَائِرِ كَلَامِ الْأُمَمِ عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ . وَأَنْتَ إذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَجَدْت غَالِبَ عموماته مَحْفُوظَةً ؛ لَا مَخْصُوصَةً . سَوَاءٌ عَنَيْت عُمُومَ الْجَمْعِ لِأَفْرَادِهِ أَوْ عُمُومَ الْكُلِّ لِأَجْزَائِهِ أَوْ عُمُومَ الْكُلِّ لِجُزَيْئَاتِهِ فَإِذَا اعْتَبَرْت قَوْلَهُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَهَلْ تَجِدُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ لَيْسَ اللَّهُ رَبَّهُ ؟ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فَهَلْ فِي يَوْمِ الدِّينِ شَيْءٌ لَا يَمْلِكُهُ

اللَّهُ ؟ { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَهَلْ فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ أَحَدٌ لَا يُجْتَنَبُ حَالُهُ الَّتِي كَانَ بِهَا مَغْضُوبًا عَلَيْهِ أَوْ ضَالًّا ؟ { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } الْآيَةَ . فَهَلْ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ أَحَدٌ لَمْ يَهْتَدِ بِهَذَا الْكِتَابِ ؟ { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } . هَلْ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ لَا عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا ؟ { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } هَلْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ عَنْ الْهُدَى فِي الدُّنْيَا وَعَنْ الْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ ؟ . ثُمَّ قَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } قِيلَ : هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَقِيلَ : هُوَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ فَلَا تَخْصِيصَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ فَرْعٌ عَلَى ثُبُوتِ عُمُومِ اللَّفْظِ ؛ وَمِنْ هُنَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ الغالطين يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ ثُمَّ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْهُ ؛ وَلَوْ أَمْعَنُوا النَّظَرَ لَعَلِمُوا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّ الَّذِي أَخْرَجُوهُ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ شَامِلًا لَهُ فَفُرِّقَ بَيْنَ شُرُوطِ الْعُمُومِ وَمَوَانِعِهِ وَبَيْنَ شُرُوطِ دُخُولِ الْمَعْنَى فِي إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَوَانِعِهِ . ثُمَّ قَوْلُهُ : { لَا يُؤْمِنُونَ } أَلَيْسَ هُوَ عَامًّا لِمَنْ عَادَ الضَّمِيرُ إلَيْهِ عُمُومًا مَحْفُوظًا ؟ { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ } أَلَيْسَ هُوَ عَامًّا فِي الْقُلُوبِ وَفِي السَّمْعِ وَفِي الْأَبْصَارِ وَفِي الْمُضَافِ إلَيْهِ هَذِهِ الصِّفَةُ عُمُومًا لَمْ يَدْخُلْهُ تَخْصِيصٌ ؟ وَكَذَلِكَ ( وَلَهُمْ ) وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ إذَا تَأَمَّلْته إلَى قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فَمَنْ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الثَّانِي فَلَمْ يَخْلُقْهُمْ اللَّهُ لَهُ ؟ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ .

وَإِنْ مَشَيْت عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ كَمَا تُلَقَّنُ الصِّبْيَانُ وَجَدْت الْأَمْرَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } { مَلِكِ النَّاسِ } { إلَهِ النَّاسِ } فَأَيُّ نَاسٍ لَيْسَ اللَّهُ رَبَّهُمْ ؟ أَمْ لَيْسَ مَلِكَهُمْ ؟ أَمْ لَيْسَ إلَهَهُمْ ؟ ثُمَّ قَوْلُهُ : { مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } إنْ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا فَلَا عُمُومَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ جِنْسًا فَهُوَ عَامٌّ فَأَيُّ وَسْوَاسٍ خَنَّاسٍ لَا يُسْتَعَاذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ ؟ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { بِرَبِّ الْفَلَقِ } أَيُّ جُزْءٍ مِنْ " الْفَلَقِ " أَمْ أَيُّ ( فَلَقٍ لَيْسَ اللَّهُ رَبَّهُ ؟ { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } أَيُّ شَرٍّ مِنْ الْمَخْلُوقِ لَا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ ؟ { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ } أَيُّ نَفَّاثَةٍ فِي الْعُقَدِ لَا يُسْتَعَاذُ مِنْهَا ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ } مَعَ أَنَّ عُمُومَ هَذَا فِيهِ بَحْثٌ دَقِيقٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . ثُمَّ " سُورَةُ الْإِخْلَاصِ " فِيهَا أَرْبَعُ عمومات : { لَمْ يَلِدْ } فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْوِلَادَةِ وَكَذَلِكَ { وَلَمْ يُولَدْ } وَكَذَلِكَ { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَإِنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ وَكُلَّ مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْكُفُؤِ فَهَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا خُصُوصٌ ؟ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ الَّتِي هِيَ أَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ وَهِيَ كَلِمَةُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَهَلْ دَخَلَ هَذَا الْعُمُومَ خُصُوصٌ قَطُّ ؟ فَاَلَّذِي يَقُولُ بَعْدَ هَذَا : مَا مِنْ عَامٍّ إلَّا وَقَدْ خُصَّ إلَّا كَذَا وَكَذَا إمَّا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَإِمَّا فِي غَايَةِ التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَارَةِ ؛ فَإِنَّ الَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى : " مِنْ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ " مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ ؛ وَإِنْ فُسِّرَ

بِهَذَا ؛ لَكِنَّهُ أَسَاءَ فِي التَّعْبِيرِ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ الْعَامَّةَ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ تَعُمَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَيْ مَا وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ وَمَا مِنْ لَفْظٍ فِي الْغَالِبِ إلَّا وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا هُوَ فَوْقَهُ فِي الْعُمُومِ وَأَعَمُّ مِمَّا هُوَ دُونَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْجَمِيعُ يَكُونُ عَامًّا . ثُمَّ عَامَّةُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ إنَّمَا هُوَ أَسْمَاءٌ عَامَّةٌ وَالْعُمُومُ اللَّفْظِيُّ عَلَى وِزَانِ الْعُمُومِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ خَاصِّيَّةُ " الْعَقْلِ " الَّذِي هُوَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ الْبَهَائِمِ . فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَشْمَلُ النِّسَاءَ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ رُؤْيَةِ اللَّهِ لِلرِّجَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ : { إنَّ الرِّجَالَ يَرْجِعُونَ إلَى مَنَازِلِهِمْ فَتَتَلَقَّاهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَيَقُلْنَ لِلرَّجُلِ : لَقَدْ جِئْت وَإِنَّ بِك مِنْ الْجَمَالِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتنَا عَلَيْهِ فَيَقُولُ : إنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ وَيُحِقُّنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا بِهِ } . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي الرُّؤْيَةِ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي رُؤْيَةِ الْجُمُعَةِ فَفِي رُؤْيَةِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذَا أَعْلَى مِنْ تِلْكَ وَمَنْ لَمْ يَصْلُحْ لِلرُّؤْيَةِ فِي الْأُسْبُوعِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِلرُّؤْيَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ؟ وَإِذَا انْتَفَتْ رُؤْيَتُهُنَّ فِي هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّاسَ يَرَوْنَهُ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ : فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ مِنْهُ النِّسَاءُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ ؛ وَمَا سِوَاهُمَا لَمْ يَثْبُتْ لَا لِلرِّجَالِ وَلَا لِلنِّسَاءِ فَلَمْ يَبْقَ مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ لِلنِّسَاءِ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى مُطْلَقًا عَمَلًا بِالْأَصْلِ النَّافِي ؛ وَإِمَّا أَنْ يُنْفَى عَنْ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ وَيُتَوَقَّفَ فِيمَا عَدَاهُمَا وَلَا يُحْتَجَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِيهِ بِتِلْكَ العمومات

لِوُجُودِ التَّخْصِيصَاتِ فِيهَا . هَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا السُّؤَالِ وَلَوْلَا أَنَّهُ أُورِدَ عَلَيَّ لَمَا ذَكَرْته لِعَدَمِ تَوَجُّهِهِ . فَنَقُولُ : الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَتَرْتِيبُهَا الطَّبِيعِيُّ يَقْتَضِي نَوْعًا مِنْ التَّرْتِيبِ لَكِنْ أُرَتِّبُهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ لِيَكُونَ أَظْهَرَ فِي الْفَهْمِ الْأَوَّلُ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَهُ فِي الْمَوْطِنَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يَنْفِي رُؤْيَتَهُنَّ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ فَيَكُونُ مَا سِوَى هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْخَاصُّ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتِ وَالدَّلِيلُ الْعَامُّ قَدْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ فِي الْجُمْلَةِ وَالرُّؤْيَةُ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ لَمْ يَنْفِهَا دَلِيلٌ فَيَكُونَ الدَّلِيلُ الْعَامُّ قَدْ سَلِمَ عَنْ مُعَارَضَةِ الْخَاصِّ فَيَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ . فَإِنَّ مَنْ قَالَ : رَأَيْت رَجُلًا فَقَالَ آخَرُ : لَمْ تَرَ أَسْوَدَ وَلَمْ تَرَهُ فِي دِمَشْقَ لَمْ تَتَنَاقَضْ الْقَضِيَّتَانِ وَالْخَاصُّ إذَا لَمْ يُنَاقِضْ مِثْلَهُ مِنْ الْعَامِّ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِهِ فَلَوْ كَانَ قَدْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَهُ بِحَالِ لَكَانَ هَذَا الْخَاصُّ مُعَارِضًا لِمِثْلِهِ مِنْ الْعَامِّ أَمَّا إذَا قِيلَ : إنَّهُ دَلَّ عَلَى رُؤْيَةٍ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ كَيْفَ يُنْفَى بِنَفْيِ جِنْسِ الرُّؤْيَةِ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ سَلْبُ الْخَاصِّ سَلْبًا لِلْعَامِّ ؟ فَإِنْ قِيلَ : لَا رُؤْيَةَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ إلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ قِيلَ مَا الَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا ؟ فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ . قِيلَ : الْعَدَمُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْأَخْبَارِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ بَلْ مَنْ أَخْبَرَ بِهِ كَانَ قَائِلًا مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَلَوْ قِيلَ

لِلرَّجُلِ : هَلْ فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ كَذَا وَفِي الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ كَذَا ؟ فَقَالَ : لَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ كَانَ نَافِيًا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ : الَّذِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ : هُمْ النَّبِيُّونَ فَقَطْ . لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ وَلَهُمْ مِنْ الْخُصُوصِ مَا لَا يُشْرَكُونَ فِيهِ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ - إذَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا - وَلَيْسَ هُنَا مَفْهُومٌ يُتَمَسَّكُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } . فَإِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَقُلْ إنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَهُمْ مَوْطِنَانِ فِي الرُّؤْيَةِ حَتَّى يَقُولَ ذَلِكَ بِنَفْيِ مَا سِوَاهُمَا بَلْ كَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي مِثْلِ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْعُمُومَ وَالْقِيَاسَ حُجَّتَانِ مُقَدَّمَتَانِ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ أَمَّا " الْعُمُومُ " فَبِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَأَمَّا " الْقِيَاسُ " فَعِنْدَ جَمَاهِيرِهِمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ " الْعُمُومَ " وَ " الْقِيَاسَ " يَقْتَضِيَانِ ثُبُوتَ الرُّؤْيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ نَفْيُهَا بِالِاسْتِصْحَابِ وَإِنْ جَازَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِنَقْصِ عَقْلِ النِّسَاءِ . فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : " الْبُلْهُ " وَ " أَهْلُ الْجَفَاءِ " مِنْ الْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَا يَرَى اللَّهَ ؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ فِي النِّسَاءِ مَنْ هُوَ أَعْقَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الرِّجَالِ حَتَّى إنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ شَهَادَتُهَا نِصْفَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالْمُغَفَّلُ وَنَحْوُهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَجْنُونًا ؛ وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمُلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا أَرْبَعٌ } أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَكْمُلْ مِنْ الرِّجَالِ ؛ فَفِي أَيِّ مَعْقُولٍ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ لِلنَّاقِصِ دُونَ الْكَامِلِ .

الْجَوَابُ الثَّانِي :
أَنْ نَقُولَ : نَفْسُ الْحَدِيثِ الْمُحْتَجِّ بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ رُؤْيَةً فِي مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ فَإِنَّهُ { قَالَ : وَأَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَرَى اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً } فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ لِلْأَعْلَى فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْأَدْنَى لَهُ دُونَ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَرَ مَا دُونَ ذَلِكَ عَلَى " رُؤْيَةِ الْجُمُعَةِ " لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرَاهُ بَعْضُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً وَبَعْضُهُمْ كُلَّ يَوْمَيْنِ مَرَّةً وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ " يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الرِّجَالِ مِنْ الْأَعْلَيْنَ والمتوسطين وَمَنْ دُونَهُمْ . وَكُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ لِلْأَعْلَيْنَ فَاَلَّذِينَ هُمْ فَوْقَ الْأَدْنَيْنَ وَدُونَ الْأَعْلَيْنَ لَا بُدَّ أَنْ يُمَيَّزُوا عَمَّنْ دُونَهُمْ ؛ كَمَا نُقِصُوا عَمَّنْ فَوْقَهُمْ . الْجَوَابُ الثَّالِثُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ مِنْهَا : مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهُ فِي " سُنَنِهِ " وَالدَّارَقُطْنِي فِي " الرُّؤْيَةِ " عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ : { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } فَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ النَّعِيمِ مَا دَامَ اللَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ وَتَبْقَى فِيهِمْ بَرَكَتُهُ وَنُورُهُ }

وَرَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَعْرُوفَةٍ إلَى سَلَمَةَ بْنِ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْن حجر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مُلْكِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمُلْكِ وَالنَّعِيمِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ قَالَ : فَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ وَفِي دِيَارِهِمْ } . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ الْفَضْلُ الرقاشي وَهَذَا الْحَدِيثُ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَهُمْ يَرْوُونَهُ لَكِنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ مَقَالًا وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ قَدْ رَوَى ذَلِكَ وَهُوَ مُمْكِنٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ والعمومات الصَّحِيحَةِ تُثْبِتُ جِنْسَ مَا أَثْبَتَهُ هَذَا الْحَدِيثُ . وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ { إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ : مَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ ؟ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أُحِبّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ } . فَهَذَا لَيْسَ هُوَ نَظَرَ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا عِنْدَ الدُّخُولِ وَلَمْ يَكُونُوا يَنْتَظِرُونَهُ وَلَا اجْتَمَعُوا لِأَجْلِهِ وَنَظَرُ الْجُمُعَةِ يَقْدَمُونَ إلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَيَجْتَمِعُونَ لِأَجْلِهِ

كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَبَيْنَ هَذَا التَّجَلِّي وَذَاكَ فَرْقٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ ؛ وَلَا هَذَا التَّجَلِّي مِنْ الْمَرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَخْتَصُّ بِالْأَعْلَيْنَ بَلْ هُوَ عَامٌّ لِمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } - { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } . وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي كُلِّ يَوْمِ عِيدٍ } . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ الْمَرَّتَيْنِ ؛ إلَّا أَنْ يُقَالَ : وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ : وَلَا فِي سُؤَالِ السَّائِلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَهُوَ مُبْطِلٌ لِحَصْرِهِ قَطْعًا وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُ يَصُوغُ السُّؤَالُ عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا صُغْنَاهُ كَمَا أُورِدَ عَلَيْنَا . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ : أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَنْ سِوَى الْأَعْلَيْنَ لَا يَرَى اللَّهَ قَطُّ إلَّا فِي الْأُسْبُوعِ مَرَّةً ؟ وَيَقْضِي ذَلِكَ الدَّلِيلُ عَلَى مَا قَدْ أَخْفَاهُ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ ؛ وَنَفَى عِلْمَهُ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ وَسَمْعٍ وَقَلْبٍ وَفَرَّقَ بَيْنَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمِ بِالْعَدَمِ . وَبَيْنَ عَدَمِ الدَّلِيلِ ؛ وَالدَّلِيلِ عَلَى الْعَدَمِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْإِنْسَانِ فِيمَا سِوَى الْمَوْطِنِ سِوَى عَدَمِ الْعِلْمِ وَعَدَمِ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ مُوجَبِ الدَّلِيلِ الْعَامِّ بِالِاضْطِرَارِ وَبِالْإِجْمَاعِ . وَنُكْتَةُ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . إذَا قَالَ : إنَّ أَهْلَ

الْجَنَّةِ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى وَفَسَّرَ بِهِ قَوْله تَعَالَى { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فَأَعْلَمَنَا بِهَذَا أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ لَهُمْ " الزِّيَادَةُ " الَّتِي هِيَ النَّظَرُ إلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابَ الْجَنَّةِ مِنْهُمْ النِّسَاءُ الْمُحْسِنَاتُ أَكْثَرُ مِنْ الرِّجَالِ . وَقَالَ لَنَا - مَثَلًا - : يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَرَاهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ وَقَالَ لَنَا أَيْضًا : لَا يَرَاهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ إلَّا أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفَرَضْنَا أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَهُ بِحَالِ - كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ - وَلَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ قَطُّ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ وَلَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ جِنْسِ " الرُّؤْيَةِ " وَلَا يُخَصُّ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْعَامُّ وَلَا يُقَيَّدُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ - فَإِنَّمَا رَدَدْت الْكَلَامَ فِيهِ لِلْمُنَازَعَةِ فِيهِ فَلَا يُظَنُّ أَنَّا أَطَلْنَا النَّفَسَ فِيهِ لِخَفَائِهِ ؛ بَلْ لِرَدِّهِ مَعَ جَلَائِهِ . وَلَك أَنْ تُعَبِّرَ عَنْ " هَذَا الْجَوَابِ " بِعِبَارَاتِ . إنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ : " أَحَادِيثُ الْإِثْبَاتِ " أَثْبَتَتْ رُؤْيَةً مُطْلَقَةً لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ وَنَفْيُ الْمُقَيَّدِ لَا يَنْفِي الْمُطْلَقَ فَلَا يَكُونُ الْمُطْلَقُ مَنْفِيًّا فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مُوجَبِهِ . وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ : " أَحَادِيثُ الْإِثْبَاتِ " تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَ " أَحَادِيثُ النَّفْيِ " تَنْفِي عَنْ النِّسَاءِ مَا عُلِمَ أَنَّهُ لِلرِّجَالِ أَوْ مَا ثَبَتَ أَنَّ فِيهِ الرُّؤْيَةَ أَوْ تَنْفِي عَنْ النِّسَاءِ الرُّؤْيَةَ فِي الْمَوْطِنَيْنِ اللَّذَيْنِ أُخْبِرُوا بِالرُّؤْيَةِ فِيهِمَا ؛ لَكِنَّ هَذَا سَلْبٌ فِي حَالٍ مَخْصُوصٍ ؛ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا سِوَاهُمَا : لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتِ ؛ وَالْمَسْلُوبُ عَنْهُ لَا يُعَارِضُ الْعَامَّ .

وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ : الْقَضِيَّةُ الْمُوجَبَةُ الْمُطْلَقَةُ لَا يُنَاقِضُهَا إلَّا سَلْبٌ كُلِّيٌّ ؛ وَلَيْسَ هَذَا سَلْبًا كُلِّيًّا فَلَا يُنَاقِضُ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مُوجَبِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ : لَيْسَ فِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ إلَّا عَدَمُ الْإِخْبَارِ بِغَيْرِهِمَا وَعَدَمُ الْإِخْبَارِ بِثَوَابِ مُعَيَّنٍ - مِنْ نَظَرٍ أَوْ غَيْرِهِ - لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ كَيْفَ وَهَذَا الثَّوَابُ مِمَّا أَخْفَاهُ اللَّهُ ؟ وَإِذَا كَانَ عَدَمُ الْإِخْبَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ . وَالْعُمُومُ اللَّفْظِيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ إمَّا قَاطِعٌ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي دُخُولِ النِّسَاءِ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ الدَّلِيلِ مُخَصِّصًا لِلدَّلِيلِ - سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ قَاطِعًا - وَكُلُّ هَذَا كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ الضَّرُورِيِّ فَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ . وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الْغَلَطُ مِنْ حَيْثُ يَسْمَعُ السَّامِعُ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ فِي " الرُّؤْيَةِ " عَامَّةً مُطْلَقَةً وَيَرَى أَحَادِيثَ أُخَرَ أَخْبَرَتْ بِرُؤْيَةِ مُقَيَّدَةٍ خَاصَّةٍ فَيُتَوَهَّمُ أَنْ لَا وُجُودَ لِتِلْكَ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمُقَيَّدَةِ أَوْ يَنْفِي دَلَالَةَ تِلْكَ الْعَامَّةِ ؛ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ كَرَجُلِ قَالَ : كُنْت أُدْخِلُ أَصْحَابِي دَارِي وَأُكْرِمُهُمْ . ثُمَّ قَالَ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ : أَدْخَلْت دَارِي فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ أَصْحَابِي فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ سَائِرَ أَصْحَابِهِ لَمْ يُدْخِلْهُمْ - لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ - فَقَدْ غَلِطَ وَقِيلَ لَهُ : مِنْ أَيْنَ لَك أَنَّهُ مَا أَدْخَلَهُمْ فِي وَقْتٍ آخَرَ ؟ فَإِذَا قَالَ : يُمْكِنُ أَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ مَا أَدْخَلَهُمْ فَأَنَا أَقِفُ قِيلَ لَهُ : فَقَدْ قَالَ : كُنْت أُدْخِلُ أَصْحَابِي دَارِي وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ .

وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي أَنَّ " اللَّفْظَ الْعَامَّ " يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ عَدَمِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ فَمَعَ وُجُودِهَا أَوْكَدُ ؛ لَكِنْ نُنَازِعُ فِي " الظُّهُورِ " فَنَقُولُ : هَذَا الِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ لَا يَمْنَعُ ظُهُورَ الْعُمُومِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ الْعُمُومُ هُوَ الظَّاهِرَ - وَإِنْ كَانَ مَا سِوَاهُ مُمْكِنًا - وَأَمَّا سَائِرُ " الْأَجْوِبَةِ " فَفِي تَقْرِيرِ أَنَّ " الرُّؤْيَةَ " تَقَعُ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ . الْجَوَابُ الرَّابِعُ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ " حَدِيثَ الْمَرَّتَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ " يُعَارِضُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الْعَامَّةِ - لَفْظًا وَمَعْنًى - لَمَا كَانَ الْوَاجِبُ دَفْعَ دَلَالَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ " أَوَّلًا " لِمَا فِي إسْنَادِهِ مِنْ الْمَقَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إخْرَاجَ أَكْثَرِ أَفْرَادِ اللَّفْظِ الْعَامِّ بِمِثْلِ هَذَا التَّخْصِيصِ وَهَذَا إمَّا مُمْتَنِعٌ وَإِمَّا بَعِيدٌ وَمُسْتَلْزِمٌ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ بِلَا وُجُودِ مَانِعٍ وَلَا فَوَاتِ شَرْطٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ أَوْ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ مَانِعٍ وَهَذَا بَعِيدٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلِ قَوِيٍّ .
الْجَوَابُ الْخَامِسُ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ لَا رُؤْيَةَ إلَّا مَا فِي هَذَيْنِ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَ اللَّهَ فِيهِمَا جَمِيعًا ؟ وَهَبْ أَنَا سَلَّمْنَا أَنَّهُنَّ لَا يَرَيْنَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمِنْ أَيْنَ أَنَّهُنَّ لَا يَرَيْنَهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ؟ وَقَوْلُ الْقَائِلِ : هَذِهِ أَعْلَى وَتِلْكَ أَدْنَى فَكَيْفَ يَحْرِمُ الْأَدْنَى مَنْ يُعْطِي الْأَعْلَى ؟ فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ :

أَحَدُهَا : أَنَّ الَّذِينَ مَيَّزُوا بِرُؤْيَةِ كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ شَرِكُوا الْبَاقِينَ فِي رُؤْيَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَصَارَ لَهُمْ النَّوْعَانِ جَمِيعًا ؛ فَإِذَا كَانَ فَضْلُهُمْ بِالنَّوْعَيْنِ جَمِيعًا فَمَا الْمَانِعُ فِي أَنَّ بَعْضَ مَنْ دُونَهُمْ يَشْرَكُهُمْ فِي " الْجُمُعَةِ " دُونَ " رُؤْيَةِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ " وَالْبَعْضُ الْآخَرُونَ يَشْرَكُونَهُمْ فِي " الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ " دُونَ " الْجُمُعَةِ " وَلَا يَكُونُ مَنْ لَهُ الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ دُونَ الْجُمُعَةِ أَعْلَى مُطْلَقًا ؛ وَإِنَّمَا الْأَعْلَى مُطْلَقًا الَّذِي لَهُ الْجَمِيعُ . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ أَعْلَى مِمَّنْ لَهُ الْجُمُعَةُ دُونَ " الْبَرْدَيْنِ " مِنْ الرِّجَالِ فَيُقَالُ : قَدْ لَا يَلْزَمُ هَذَا ؛ بَلْ قَدْ تَكُونُ الْجُمُعَةُ وَحْدَهَا أَفْضَلَ مِنْ " الْبَرْدَيْنِ " وَحْدَهُمَا . وَقَدْ يُقَالُ : فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ . أَكْثَرُ مَا فِيهِ تَفْضِيلُ النِّسَاءِ عَلَى مَفْضُولِ الرِّجَالِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا ؛ لَكِنْ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ امْرَأَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَا يَرَى اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ يَكُونَ مَفْضُولُ النِّسَاءِ أَفْضَلَ مِنْ مَفْضُولِ الرِّجَالِ فَيُتْرَكُ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَيُقْتَصَرُ عَلَى الَّذِي قِيلَ وَهُوَ : أَنَّ الْأَعْلَى مُطْلَقًا الَّذِي لَهُ الْمَرَّتَانِ مَعَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا لَزِمَ هَذَا لِأَنَّا نَتَكَلَّمُ بِتَقْدِيرِ أَنَّ لَا رُؤْيَةَ إلَّا هَذَيْنِ ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ بَاطِلٌ قَطْعًا . ( الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ " الرُّؤْيَةَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ " أَفْضَلُ مِنْ " رُؤْيَةِ الْجُمُعَةِ " ؟ نَعَمْ هِيَ أَكْثَرُ عَدَدًا لَكِنْ قَدْ يُفَضَّلُ ذَلِكَ فِي الْكَيْفِيَّةِ فَيَكُونُ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ أَكْثَرَ عَدَدًا وَالْآخَرُ أَفْضَلَ نَوْعًا : كَدِينَارِ وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مُمْكِنٌ إمْكَانًا قَرِيبًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَبْدَهُ عَلَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهَا بِقَدْرِ مَا يُثِيبُهُ عَلَى ثُلُثِ الْقُرْآنِ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَيُمْكِنُ فِي حَقِّ مَنْ حُرِمَ الْأَفْضَلَ فِي نَوْعِهِ أَنْ يُعْطَى النَّوْعَ الْمَفْضُولَ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُ سَوَاءٌ كَانَ فَاضِلُ النَّوْعِ أَفْضَلَ مُطْلَقًا أَوْ كَانَا مُتَكَافِئَيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ ؛ وَفِي أَحَادِيثِ الْمَزِيدِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدْ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا فَيَقُولُونَ : إنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ فَيَحِقُّ لَنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا بِهِ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { فَلَيْسُوا إلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيَزْدَادُوا نَظَرًا إلَى رَبِّهِمْ وَيَزْدَادُوا كَرَامَةً } . وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ " الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ " عَلِمَ أَنَّ التَّجَلِّيَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لَهُ عِنْدَهُمْ وَقْعٌ عَظِيمٌ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَفْضَلُ مِنْ الرُّؤْيَةِ الْحَاصِلَةِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ أَكْثَرَ فَإِذَا مُنِعَ النِّسَاءُ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُمْنَعْنَ مِمَّا دُونَهُ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ : هَبْ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا مِنْ رُؤْيَةِ الْجُمْعَةِ فَلَا يَلْزَمُ حِرْمَانُهُنَّ مِنْ الثَّوَابِ الْمَفْضُولِ حِرْمَانَ مَا فَوْقَهُ مُطْلَقًا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَعْمَلُ عَمَلًا فَاضِلًا يَسْتَحِقُّ بِهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَلَا يَعْمَلُ مَا هُوَ دُونَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْأَجْرَ وَمَا زَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَخُصُّ المفضولين مِنْ كُلِّ صِنْفٍ بِخَصَائِصَ لَا تَكُونُ لِلْفَاضِلِينَ وَهَذَا مُسْتَقِرٌّ فِي الْأَشْخَاصِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَفِي الْأَعْمَالِ .

وَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ الْفَاضِلُ يَحْصُلُ بِهِ جَمِيعُ الْمَفْضُولِ مُطْلَقًا لَمَا شَرَعَ الْمَفْضُولَ فِي وَقْتٍ ؛ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إعْطَاءِ الْأَعْلَى إعْطَاءُ الْأَدْنَى مُطْلَقًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَنْعُ الْأَعْلَى مُطْلَقًا فَهَذَا مُمْكِنٌ إمْكَانًا شَرْعِيًّا فِي عَامَّةِ الثَّوَابَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِينَ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يُعْطَوْنَ الدَّرَجَاتِ الدُّنَى ثُمَّ لَا يَكُونُ هَذَا نَقْصًا فِي حَقِّهِمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُرْضِي كُلَّ عَبْدٍ بِمَا آتَاهُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرْضَى النِّسَاءَ بِأَعْلَى " الرُّؤْيَةِ " عَنْ مَجْمُوعِ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا . وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ الْجُمُعَةِ جَزَاءً عَلَى عَمَلِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا ؛ وَرُؤْيَةُ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ جَزَاءً عَلَى عَمَلِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فَهَذَا مُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ بِهِ خَبَرٌ ؛ وَإِذَا كَانَ مُمْكِنًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ مَنْعِهِنَّ " رُؤْيَةَ الْجُمُعَةِ " لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي فِيهِنَّ مَنْعُهُنَّ " رُؤْيَةَ الْبَرْدَيْنِ " مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي فِيهِنَّ . وَمِنْ الْمُمْكِنِ فِي الْعَقْلِ أَنَّهُنَّ إنَّمَا لَمْ يَشْهَدْنَ رُؤْيَةَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ مُجْتَمَعُ الرِّجَالِ . وَالْغَيْرَةُ فِي الْجَنَّةِ ؛ أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الْجَنَّةَ وَرَأَى قَصْرًا وَعَلَى بَابِهِ جَارِيَةٌ قَالَ : فَأَرَدْت أَنْ أَدْخُلَ فَذَكَرْت غَيْرَتَك فَقَالَ عُمَرُ : أَعَلَيْك أَغَارُ ؟ . } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا مُنْتَفٍ فِي رُؤْيَةِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ قَدْ تَحْصُلُ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَنَازِلِهِمْ . ثُمَّ هَذَا مِنْ الْمُمْكِنِ أَنَّ " الرُّؤْيَةَ جَزَاءُ الْعَمَلِ " فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَوَابُ شُهُودِ الْجُمُعَةِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ فِيهَا يَكُونُونَ فِي

الدُّنُوِّ مِنْهُ عَلَى مِقْدَارِ مُسَارَعَتِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ وَتَفَاوُتِ الثَّوَابِ بِتَفَاوُتِ الْعَمَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهُ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ " إنَّهُ يَكُونُ بِمِقْدَارِ انْصِرَافِهِمْ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا " . وَمُوَافَقَةُ الثَّوَابِ لِلْعَمَلِ فِي وَقْتِهِ وَفِي قَدْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ جَزَاءً وِفَاقًا : يَقْتَضِي أَنَّ الْعَمَلَ سَبَبُهُ ؛ وَبِدَلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَعُلِمَ أَنَّ ارْتِبَاطَ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ بِعَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا ؛ وَبِدَلِيلِ أَنَّ فِيهِ عِنْدَ مُنْصَرَفِ النَّاسِ مِنْ الْجُمُعَةِ رُجُوعَ الصَّالِحِينَ إلَى مَنَازِلِهِمْ وَرُجُوعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ إلَى رَبِّهِمْ . وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِحَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا ؛ فَإِنَّ الصَّالِحَ إذَا انْقَضَتْ الْجُمُعَةُ اشْتَغَلَ بِمَا أُبِيحُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَأُولَئِكَ اشْتَغَلُوا بِالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ فَكَانُوا مُتَقَرِّبِينَ إلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَقَرُبُوا مِنْهُ بَعْدَ الْجُمْعَةِ فِي الْآخِرَةِ وَهَذِهِ " الْمُنَاسَبَةُ الظَّاهِرَةُ " الْمَشْهُودُ لَهَا بِالِاعْتِبَارِ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ التَّجَلِّيَ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَانْتِفَاءُ الرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لِعَدَمِ شُهُودِهِنَّ الْجُمُعَةَ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّهُنَّ يَرَيْنَهُ فِي الْعِيدِ كَمَا شُرِعَ لَهُنَّ شُهُودُ الْعِيدِ . فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَمْرٌ غَرِيبٌ وَالْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا لَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ قَدْ سَمِعُوا أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَسْمَعُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ .

قُلْنَا : قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ وَحَالِ أَصْلِهِ وَزِيَادَتِهِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يَنْقُصُ حُكْمُهَا فِي الرُّؤْيَةِ عَنْ حُكْمِ أَصْلِ الْحَدِيثِ نَقْصًا يَمْنَعُ إلْحَاقَهَا بِهِ ؛ بَلْ هِيَ إمَّا مُكَافِئَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ أَوْ فَوْقَ وَاجِبِنَا عَمَّا قِيلَ هُنَا وَمَا لَمْ يَقُلْ . فَإِنْ قِيلَ : { فَقَدْ كُنَّ الْمُؤْمِنَاتُ يَشْهَدْنَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَعَلَى قِيَاسِ هَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ مِنْ النِّسَاءِ أَنْ يَشْهَدْنَ يَوْمَ الْمَزِيدِ فِي الْجَنَّةِ . قُلْنَا : مَا كَانَ يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا أَقَلُّهُنَّ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَقَالَ : { صَلَاةُ إحْدَاكُنَّ فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا وَصِلَاتُهَا فِي حُجْرَتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي دَارِهَا وَصِلَاتُهَا فِي دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا وَصِلَاتُهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا مَعِي - أَوْ قَالَ - خَلْفِي } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . فَقَدْ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنَاتِ : أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنْ شُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ إلَّا " الْعِيدُ " فَإِنَّهُ أَمَرَهُنَّ بِالْخُرُوجِ فِيهِ وَلَعَلَّهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَسْبَابِ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فَقُبِلَ بِخِلَافِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ خِلَافَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَهَا فِي بَيْتِهَا الظُّهْرُ هُوَ جُمْعَتُهَا .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ خُرُوجٌ إلَى الصَّحْرَاءِ لِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْحَجِّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعِيدُ الْأَكْبَرُ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ موقفة لِلْحَجِيجِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابِيَّاتِ إذَا عَلِمْنَ أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَمْ يَتَّفِقْ أَكْثَرُهُنَّ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُ الْقُرُونِ عَلَى الْمَفْضُولِ مِنْ الْأَعْمَالِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا التَّفْضِيلُ إنَّمَا وَقَعَ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابِيَّاتِ لَمَّا أَحْدَثَ النِّسَاءُ مَا أَحْدَثْنَ وَلِأَنَّ مَنْ بَعْدَ الرَّسُولِ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا يُسَاوِيهِ ؛ فَأَمَّا الصَّحَابِيَّاتُ فَصَلَاتُهُنَّ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَفْضَلَ وَيَكُونُ هَذَا الْخِطَابُ عَامًّا خَرَجَ مِنْهُ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ ؛ فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ جَائِزٌ . قُلْنَا : هَذَا خِلَافُ مَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَخِلَافُ مَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءَ وَخِلَافُ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْحَاضِرِينَ تَحَقَّقَ دُخُولُهُمْ فِيهِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ هَلْ يَدْخُلُونَ بِمُطْلَقِ الْخِطَابِ أَمْ بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فَأَمَّا دُخُولُ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ فَمُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ . ثُمَّ اللُّغَةُ تُحِيلُهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ : { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ } لَا رَيْبَ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ابْتِدَاءً فَكَيْفَ تُحِيلُ اللُّغَةُ أَنْ لَا يَدْخُلُوا فِيهِ . وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ بَعْدَهُمْ ؟ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ .

ثُمَّ قَدْ عَلِمْنَا بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ أَوَامِرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ شَمِلَتْ الصَّحَابَةَ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ وَقَدْ يُقَالُ أَوْ يُتَوَهَّمُ فِي بَعْضِهَا : أَنَّهَا شَمَلَتْهُمْ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَأَمَّا اخْتِصَاصُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِالْأَوَامِرِ الخطابية دُونَهُمْ فَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ . وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ " لِلْفِطَرِ " فَمَا مِنْ سَلِيمِ الْعَقْلِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ هَذَا إلَّا أَنْكَرَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ ثُمَّ هَبْ هَذَا أَمْكَنَ فِي قَوْلِهِ : { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ } فَكَيْفَ بِقَوْلِهِ : { صَلَاةُ إحْدَاكُنَّ فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا مَعِي أَوْ خَلْفِي } ؟ أَلَيْسَ نَصًّا فِي صَلَاتِهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ وَفِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ؟ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .

سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
مَا هُوَ " لِقَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ؟ " الَّذِي وَصَفَ بِظَنِّهِ الْخَاشِعِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ } وَأَمَرَ بِعِلْمِهِ الْمُتَّقِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ } وَبَشَّرَ بِالْإِقْرَارِ بِهِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ الصَّابِرِينَ وَأَشَارَ إلَى إتْيَانِ أَجَلِهِ لِلرَّاجِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ } وَاشْتَهَرَ ذِكْرُهُ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ مِنْ كَلَامِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ كَقَوْلِهِ فِي دُعَائِهِ : { لِقَاؤُك حَقٌّ } وَقَوْلُهُ : { مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ } الْحَدِيثَ ؟ ؟ . وَهَلْ يَصِحُّ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ جَزَاءُ رَبِّهِمْ أَوْ نَحْوُهُ بِكَوْنِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً فَيَسْتَحِيلُ ظَاهِرُهُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرَ ظَاهِرِهِ وَيُصَارُ فِيهِ إلَى تَأْوِيلٍ مُعَيَّنٍ ؟ أَمْ هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ ذَلِكَ لِجَوَازِهِ فِي نَفْسِهِ ؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنَّا مَحَبَّةُ مَنْ لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ ؟ أَمْ كَيْفَ يَتَأَتَّى شَوْقُهُ وَحَنِينُ الْقُلُوبِ إلَيْهِ وَإِيثَارُهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ عِنْدَنَا مَعْرُوفٌ وَلِقُلُوبِنَا مَأْلُوفٌ ؟ وَلَنَا بِهِ مَنْفَعَةٌ عَاجِلَةٌ وَلَذَّةٌ حَاصِلَةٌ .

وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ وَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ . فَرَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهَا بِمَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ { مِنْ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِ مَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ النَّعِيمِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ } الْحَدِيثَ . وَقَدْ يَعْتَرِضُ عَلَى هَذَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ حُبُّهُ اللِّقَاءَ لِمَا رَآهُ مِنْ النَّعِيمِ فَالْمَحَبَّةُ حِينَئِذٍ لِلنَّعِيمِ الْعَائِدِ إلَيْهِ لَا لِمُجَرَّدِ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يُجَازَى عَلَيْهِ بِحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى لِقَاءَهُ وَمَحَبَّتُهُ غَيْرُ خَالِصَةٍ وَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا كَانَ خَالِصًا . بَيِّنُوا لَنَا هَذِهِ الْأُمُورَ الْبَيَانَ الشَّافِيَ بِالْجَوَابِ الصَّحِيحِ الْكَافِي طَلَبًا لِلْأَجْرِ الْوَافِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؟ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، " أَمَّا اللِّقَاءُ " فَقَدْ فَسَّرَهُ طَائِفَة مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِمَا يَتَضَمَّنُ الْمُعَايَنَةَ وَالْمُشَاهَدَةَ بَعْدَ السُّلُوكِ وَالْمَسِيرِ ؛ وَقَالُوا : إنَّ لِقَاءَ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ رُؤْيَتَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحْتَجُّوا بِآيَاتِ " اللِّقَاءِ " عَلَى مَنْ أَنْكَرَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ . فِي قَوْلِهِ : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَلَا يُرَائِي أَوْ قَالَ : وَلَا يُخْبِرُ بِهِ أَحَدًا وَجَعَلُوا اللِّقَاءَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : السَّيْرُ إلَى الْمَلِكِ وَالثَّانِي مُعَايَنَتُهُ . كَمَا قَالَ : { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ

إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } فَذَكَرَ أَنَّهُ يَكْدَحُ إلَى اللَّهِ فَيُلَاقِيهِ وَالْكَدْحُ إلَيْهِ يَتَضَمَّنُ السُّلُوكَ وَالسَّيْرَ إلَيْهِ وَاللِّقَاءُ يَعْقُبُهُمَا . وَأَمَّا الْمُعَايَنَةُ مِنْ غَيْرِ مَسِيرٍ إلَيْهِ - كَمُعَايَنَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ - فَلَا يُسَمَّى لِقَاءً . وَقَدْ يُرَادُ بِاللِّقَاءِ الْوُصُولُ إلَى الشَّيْءِ وَالْوُصُولُ إلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِهِ . وَمِنْ دَلِيلِ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ : { إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } { إذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ } وَقَالَ : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } وَقَالَ : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ فَانْفَتَلَ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ؛ فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ : أَيْنَ كُنْت ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقِيتَنِي وَأَنَا جُنُبٌ فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَك حَتَّى أَغْتَسِلَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ } وَفِي لَفْظٍ :

{ لَقِيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَيْضًا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ اُغْزُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ } الْحَدِيثَ . وَفِي حَدِيثِ عتبة بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْقَتْلَى ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ عَدُوًّا قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُفْتَخِرُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ لَا يَفْضُلُهُ إلَّا النَّبِيُّونَ بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ وَرَجُلٌ فَرَقَّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَمَصْمَصَةٌ تَحْتَ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ إنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ فَإِنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ وَلِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتَّى إذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي النَّارِ إنَّ السَّيْفَ لَا يَمْحُو النِّفَاقَ } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : مَتَى مَا تَلْقَى فَرُدَّ مَنْ * * * تَرْجُو وَأَبُو السنل

وَيُسْتَعْمَلُ " اللِّقَاءُ " فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَلِقَاءِ الْوَلِيِّ وَلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ وَلِقَاءِ الْمَكْرُوهِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ مُبَاشَرَةَ الْمُلَاقِي وَمُمَاسَّتَهُ مَعَ اللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ كَمَا قَالَ : { إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَالْتَزَقَ الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ } . وَمِنْ نَحْوِ هَذَا قَوْلُهُ : { إنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ } وَقَوْلُهُ : { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } وَقَوْلُهُ : { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا } وَيُقَالُ : فُلَانٌ لَقِيَ خَيْرًا وَلَقِيَ شَرًّا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ } . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ " اللِّقَاءَ " فِي مِثْلِ هَذَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْمُشَاهَدَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُشَاهِدُ بِنَفْسِهِ هَذِهِ الْأُمُورَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمَوْتَ نَفْسَهُ يُشْهَدُ وَيُرَى ظَاهِرًا . وَقِيلَ : الْمَرْئِيُّ أَسْبَابُهُ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَلْفَاظٌ مِنْ نَحْوِ " لِقَاءِ اللَّهِ " كَقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَقَوْلُهُ : { وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } وَقَوْلُهُ : { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } وَقَوْلُهُ : { إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } وَقَوْلُهُ : { كَلَّا لَا

وَزَرَ } { إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ إلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } وَقَوْلُهُ : { إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } وَقَوْلُهُ : { إلَيْهِ الْمَصِيرُ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ } { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } . لَكِنْ يَلْزَمُ هَؤُلَاءِ " مَسْأَلَةٌ " تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهَا وَهِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَلْقَاهُ الْكُفَّارُ وَيَلْقَاهُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ : { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } { وَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا } { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا } { وَيَصْلَى سَعِيرًا } وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْكُفَّارِ هَلْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ مَرَّةً ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ أَمْ لَا يَرَوْنَهُ بِحَالِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ : { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } وَلِأَنَّ الرُّؤْيَةَ أَعْظَمُ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ وَالْكُفَّارُ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَتْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ : بَلْ يَرَوْنَهُ ثُمَّ يَحْتَجِبُ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا مَعَ مُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ قَالُوا وَقَوْلُهُ : { لَمَحْجُوبُونَ } يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ثُمَّ حُجِبُوا وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } فَعُلِمَ أَنَّ الْحَجْبَ كَانَ يَوْمئِذٍ . فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَجْبِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ . فَأَمَّا الْمَنْعُ الدَّائِمُ مِنْ الرُّؤْيَةِ فَلَا يَزَالُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .

قَالُوا : وَرُؤْيَةُ الْكُفَّارِ لَيْسَتْ كَرَامَةً وَلَا نَعِيمًا ؛ إذْ " اللِّقَاءُ " يَنْقَسِمُ إلَى لِقَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ وَلِقَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْعَذَابِ فَهَكَذَا الرُّؤْيَةُ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا اللِّقَاءُ . وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ حَدِيثُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ؟ } وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَأَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَابْنُ خُزَيْمَة فِي التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ قَالَ : { قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا . قَالَ : فَيَلْقَى الْعَبْدُ فَيَقُولُ : أَيْ فل أَلَمْ أُكْرِمْك وَأُسَوِّدْك وَأُزَوِّجْك وَأُسَخِّرْ لَك الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْك تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى . يَا رَبِّ : قَالَ فَيَقُولُ : فَظَنَنْت أَنَّك مُلَاقِيَّ . فَيَقُولُ : لَا . فَيَقُولُ : فَإِنِّي أَنْسَاك كَمَا نَسِيتنِي . ثُمَّ قَالَ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ لَهُ : مِثْلَ ذَلِكَ . فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ آمَنْت بِك وَبِكِتَابِك وَبِرُسُلِك وَصَلَّيْت وَصُمْت وَتَصَدَّقْت وَيُثْنِي بِخَيْرِ مَا اسْتَطَاعَ . فَيَقُولُ : هَاهُنَا إذًا . قَالَ : ثُمَّ يُقَالُ الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْك وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخْذِهِ انْطِقِي ؛ فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ فَذَلِكَ الْمُنَافِقُ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَتَمَامُ الْحَدِيثِ قَالَ : ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَلَا تَتَّبِعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَتَتَّبِعُ الشَّيَاطِينَ وَالصَّلِيبَ أَوْلِيَاؤُهُمْ إلَى جَهَنَّمَ وَبَقِينَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَيَأْتِينَا رَبُّنَا فَيَقُولُ : مَا هَؤُلَاءِ ؟ فَنَقُولُ : مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا بِرَبِّنَا وَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَهُوَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ

يَأْتِينَا وَهُوَ يُثَبِّتُنَا وَهُوَ ذَا مَقَامُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُ : انْطَلِقُوا . فَنَنْطَلِقُ حَتَّى نَأْتِيَ الْجِسْرَ وَعَلَيْهِ كَلَالِيبُ مِنْ نَارٍ تَخْطِفُ عِنْدَ ذَلِكَ حَلَّتْ الشَّفَاعَةُ لِي اللَّهُمَّ سَلِّمْ اللَّهُمَّ سَلِّمْ فَإِذَا جَاوَزُوا الْجِسْرَ فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجًا مِنْ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّا يَمْلِكُ فَتُكَلِّمُهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ تَقُولُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا مُسْلِمُ هَذَا خَيْرٌ . فَقَالَ : أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا عَبْدٌ لَا تَوَى عَلَيْهِ يَدَعُ بَابًا وَيَلِجُ مِنْ آخَرَ ؟ فَضَرَبَ كَتِفَهُ وَقَالَ : إنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ } قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة حَفِظْته أَنَا وَرَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ وَرَدَّدَهُ عَلَيْنَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا . وَسُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ قَوْلِهِ : { تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ } فَقَالَ كَانَ الرِّجْلُ إذَا كَانَ رَأْسَ الْقَوْمِ كَانَ لَهُ الرُّبَاعُ وَهُوَ الرُّبُعُ . { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ؛ حَيْثُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي عَلَى دِينٍ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِك مِنْك إنَّك مُسْتَحِلٌّ الرُّبَاعَ وَلَا يَحِلُّ لَك } . وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ؛ وَفِيهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرُّؤْيَةِ فَأَجَابَ بِثُبُوتِهَا ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَفْسِيرِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَلْقَاهُ الْعَبْدُ وَالْمُنَافِقُ وَأَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ . وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّهُ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ مَرَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بَعْدَ مَا تَجَلَّى لَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيَسْجُدُ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْمُنَافِقِينَ } وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَأَمَّا الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَيَمْتَنِعُ عَلَى أَصْلِهِمْ لِقَاءُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَخَالَفُوا بِذَلِكَ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَاحْتَجُّوا بِحُجَجِ كَثِيرَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا مَبْسُوطًا وَذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ .
وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي كَانَ يَشْتَدُّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِيهَا وَصَنَّفُوا فِيهَا مُصَنَّفَاتٍ مَشْهُورَةً . وَالثَّانِي : أَنَّ عِنْدَهُمْ لَا يُتَصَوَّرُ الْكَدْحُ إلَيْهِ وَلَا الْعَرْضُ عَلَيْهِ وَلَا الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يُحِبَّهُ الْعَبْدُ وَلَا أَنْ يَجِدَهُ وَلَا أَنْ يُشَارَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ وَلَا يَئُوبُ إلَيْهِ ؛ إذْ هَذِهِ الْحُرُوفُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَالُ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ - وَبَيْنَهُمَا فَضْلٌ - يَقْتَضِي تَقَرُّبًا إلَيْهِ وَدُنُوًّا مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ حَالُ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مُخَالِفٌ لِحَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا كُلُّهُ مُحَالٌ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِقَ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ - كَمَا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْخَلْقِ ؛ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا الْمَخْلُوقَاتُ دَاخِلَةً فِيهِ - بَلْ تَارَةً يَجْعَلُونَهُ حَالًّا بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ ؛ وَتَارَةً يَجْعَلُونَ وَجُودَهُ عَيْنَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَارَةً يَصِفُونَهُ بِالْأُمُورِ السَّلْبِيَّةِ الْمَحْضَةِ ؛ مِثْلُ كَوْنِهِ غَيْرَ مُبَايِنٍ لِلْعَالَمِ وَلَا حَالٍّ فِيهِ فَهُمْ بَيْنَ

أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَصِفُوهُ بِمَا يَقْتَضِي عَدَمَهُ وَتَعْطِيلَهُ فَيُنْكِرُونَهُ وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهِ فَيَجْمَعُونَ - فِي قَوْلِهِمْ - بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . وَقَدْ يُصَرِّحُ بَعْضُهُمْ بِصِحَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَيَقُولُ : إنَّ هَذَا غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ . وَإِمَّا أَنْ يَصِفُوهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَيْنُ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا أَوْ صِفَةٌ لَهَا وَذَلِكَ أَيْضًا يَقْتَضِي قَوْلَهُمْ بِعَدَمِ الْخَالِقِ وَتَعْطِيلِ الصَّانِعِ ؛ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ غَيْرِهِ وَإِنْ جَعَلُوهُ إيَّاهُ . ثُمَّ يَجِدُونَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مُبَايِنًا فِي رُبُوبِيَّةِ الْمَخْلُوقِ فَيَقُولُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ - كَمَا تَقَدَّمَ - . وَقَدْ يَقُولُونَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى حَقٍّ وَعُبَّادَ الْعِجْلِ عَلَى حَقٍّ وَإِنَّهُ مَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ قَطُّ ؛ إذْ لَا غَيْرَ عِنْدَهُمْ ؛ بَلْ الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَيَقُولُونَ بِامْتِنَاعِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ وَيَصِلَ إلَيْهِ وَهُمْ يَقُولُونَ : مَا عُدِمَ فِي الْبِدَايَةِ فَيُدْعَى إلَى الْغَايَةِ ؛ بَلْ هُوَ عَيْنُ الْمَدْعُوِّ فَكَيْفَ يَدْعُو إلَى نَفْسِهِ ؟ . وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة وَتَكْفِيرِهِمْ كَثِيرٌ جِدًّا . وَهَؤُلَاءِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ الَّتِي تَنْفِي حَقِيقَةَ اللِّقَاءِ يَتَأَوَّلُونَ " اللِّقَاءَ " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لِقَاءُ جَزَاءِ رَبِّهِمْ وَيَقُولُونَ إنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يُرَى كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { قُلْ إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي

كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } فَإِنَّ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ فِي رَأَوْهُ عَائِدٌ إلَى الْوَعْدِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوْعُودُ أَيْ فَلَمَّا رَأَوْا مَا وُعِدُوا سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا . وَمَنْ قَالَ إنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ هُنَا إلَى اللَّهِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ وَفَسَادُ قَوْلِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْمُرَادَ " لِقَاءَ الْجَزَاءِ " دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ بَعْدَ تَدَبُّرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَظْهَرُ فَسَادُهُ مِنْ وُجُوهٍ : - ( أَحَدُهَا : أَنَّهُ خِلَافُ التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . ( الثَّانِي : أَنَّ حَذْفَ الْمُضَافِ إلَيْهِ يُقَارِنُهُ قَرَائِنُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْكَلَامِ قَرِينَةٌ تُبَيِّنُ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : رَأَيْت زَيْدًا أَوْ لَقِيته مُطْلَقًا وَأَرَادَ بِذَلِكَ لِقَاءَ أَبِيهِ أَوْ غُلَامِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِلَا نِزَاعٍ وَلِقَاءُ اللَّهِ قَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِلِقَاءِ اللَّهِ لِقَاءُ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ . ( الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّفْظَ إذَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ وَدَارَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَ مَفْهُومِهِ وَمُقْتَضَاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ كَانَ تَدْلِيسًا وَتَلْبِيسًا يَجِبُ أَنْ يُصَانَ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ بَلَّغَهُ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ وَأَنَّهُ بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَأَخْبَرَ أَنَّ عَلَيْهِ بَيَانَهُ وَلَا

يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : مَا فِي الْعَقْلِ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ إرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْقَرِينَةُ الَّتِي دَلَّ الْمُخَاطِبِينَ عَلَى الْفَهْمِ بِهَا ؛ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ ؛ بَلْ الضَّرُورَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ تُوَافِقُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } وَمَا يُذْكَرُ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَدْلُولِ الْقُرْآنِ فَهُوَ شُبُهَاتٌ فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْمَعْقُولَاتِ دُونَ مَنْ يُقَلِّدُ فِيهَا بِغَيْرِ نَظَرٍ تَامٍّ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هُنَاكَ دَلِيلًا عَقْلِيًّا يُنَافِي مَدْلُولَ الْقُرْآنِ لَكَانَ خَفِيًّا دَقِيقًا ذَا مُقَدِّمَاتٍ طَوِيلَةٍ مُشْكِلَةٍ مُتَنَازَعٍ فِيهَا لَيْسَ فِيهَا مُقَدِّمَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ ؛ إذْ مَا يُذْكَرُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَدْلُولِ الْقُرْآنِ هِيَ شُبُهَاتٌ فَاسِدَةٌ كُلُّهَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخَاطَبَ - الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ بَيَّنَ لِلنَّاسِ وَأَنَّ كَلَامَهُ بَلَاغٌ مُبِينٌ وَهُدًى لِلنَّاسِ - إذَا أَرَادَ بِكَلَامِهِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا بِمِثْلِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَيَّنَ وَهَدَى ؛ بَلْ قَدْ كَانَ لَبَّسَ وَأَضَلَّ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ ذَلِكَ . الرَّابِعُ : أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ

فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُك الْحَقُّ وَلِقَاؤُك حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ ؛ اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَإِلَيْك حَاكَمْت وَبِك خَاصَمْت اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } وَفِي لَفْظٍ : { أَعُوذُ بِك أَنْ تُضِلَّنِي ؛ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ } . فَفِي الْحَدِيثِ فَرْقٌ بَيْنَ لِقَائِهِ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ . وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ تَتَضَمَّنُ جَزَاءَ الْمُطِيعِينَ وَالْعُصَاةِ فَعُلِمَ أَنَّ لِقَاءَهُ لَيْسَ هُوَ لِقَاءَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ . الْخَامِسُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ مَا يُبَيِّنُ لِقَاءَ الْعَبْدِ رَبَّهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ ؛ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ ؛ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِكَلِمَةِ طَيِّبَةٍ } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ . السَّادِسُ : أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ " بِلِقَاءِ اللَّهِ " بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ - إمَّا جَزَاءً وَإِمَّا غَيْرَ جَزَاءٍ - لَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَكَانَ الْعَبْدُ لَا يَزَالُ مُلَاقِيًا لِرَبِّهِ وَلَمَّا عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ لِقَاءَ اللَّهِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ : عُلِمَ بُطْلَانُ أَنَّ " اللِّقَاءَ " لِقَاءُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَازَى خَلْقًا عَلَى

أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِخَيْرِ وَشَرٍّ كَمَا جَازَى قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ ؛ وَكَمَا جَازَى الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ إنَّ لِقَاءَ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الدُّنْيَا لِقَاءُ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ لِقَاءَ اللَّهِ جَزَاءٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ مَثَلًا أَوْ النَّارُ لَقِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ هَذَا لِقَاءٌ مَخْصُوصٌ وَلَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يُقَالَ لِقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِقَاءُ بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ أَوْ بَعْضِ الشَّيَاطِينِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ التَّحَكُّمَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ إذْ لَيْسَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى تَعْيِينِ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى تَعْيِينِ هَذَا فَبَطَلَ ذَلِكَ . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ " لِقَاءَ اللَّهِ " لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي لِقَاءِ غَيْرِهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا اسْتَعْمَلَ لِقَاءَ زَيْدٍ فِي لِقَاءِ غَيْرِهِ أَصْلًا ؛ بَلْ حَيْثُ ذُكِرَ هَذَا اللَّفْظُ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ لِقَاءُ الْمَذْكُورِ ؛ إذْ مَا سِوَاهُ لَا يُشْعِرُ اللَّفْظُ بِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنَّ قَوْلَهُ : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } فَلَوْ كَانَ " اللِّقَاءُ " هُوَ لِقَاءُ جَزَائِهِ لَكَانَ هُوَ لِقَاءَ الْأَجْرِ الْكَرِيمِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ وَإِذَا أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ ذَلِكَ لَمْ يَحْسُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ بِإِعْدَادِهِ ؛ إذْ الْإِعْدَادُ مَقْصُودُهُ الْوُصُولُ فَكَيْفَ يُخْبِرُ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ؟ هَذَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعَيِّ الَّذِي يُصَانُ عَنْهُ كَلَامُ أَوْسَطِ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قُرِنَ اللِّقَاءُ بِالتَّحِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي اللِّقَاءِ الْمَعْرُوفِ ؛ لَا فِي حُصُولِ شَيْءٍ مِنْ النَّعِيمِ الْمَخْلُوقِ .

الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ } أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ لِقَاءَ عَبْدٍ وَيَكْرَهُ لِقَاءَ عَبْدٍ وَهَذَا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى الْجَزَاءِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَكْرَهُ جَزَاءَ أَحَدٍ وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَلْقَاهُ اللَّهُ ؛ وَلِأَنَّهُ إنْ جَازَ أَنْ يَلْقَى بَعْضَ الْمَخْلُوقِ كَالْجَزَاءِ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَلْقَى الْعَبْدُ فَالْمَحْذُورُ الَّذِي يُذْكَرُ فِي لِقَاءِ الْعَبْدِ مَوْجُودٌ فِي لِقَائِهِ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا تَعْطِيلُ النَّصِّ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : بَلْ هُوَ لَاقٍ لِبَعْضِهَا فَيَتَنَاقَضُ قَوْلُ الجهمي وَيَبْطُلُ . وَدَلَائِلُ بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ لَا تَكَادُ تُحْصَى يَضِيقُ هَذَا الِاسْتِفْتَاءُ عَنْ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنْهَا فَضْلًا عَنْ أَكْثَرِهَا .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنَّا مَحَبَّةُ مَا لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَى آخِرِهِ فَيُقَالُ لَهُ : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى كَبِيرَةٌ وَهِيَ " مَسْأَلَةُ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِ رَبَّهُ " فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ تَنْطِقُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وقَوْله تَعَالَى { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } الْآيَةَ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَشَايِخِهَا وَأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ حَقِيقَتَهَا شَيْخُ الْجَهْمِيَّة الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فَقَتَلَهُ

خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِوَاسِطِ يَوْمَ النَّحْر وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ " الْخِلَّةِ " لِأَنَّ الْخِلَّةَ كَالْمَحَبَّةِ وَأَنْكَرُوا حَقِيقَةَ " التَّكْلِيمِ " وَجَعَلُوا التَّكْلِيمَ مَا يَخْلُقُهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ أَوْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ حَتَّى ادَّعَى طَوَائِفُ مِنْهُمْ أَنَّ أَحَدَنَا قَدْ يَحْصُلُ لَهُ التَّكْلِيمُ كَمَا حَصَلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ سَمِعَ عَيْنَ مَا سَمِعَهُ مُوسَى وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ اخْتِصَاصَ مُوسَى بِذَلِكَ عَنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ عَنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَالتَّكْلِيمِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَالتَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } وَكَمَا بَيَّنَ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةَ فِي قَوْلِهِ : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ إنْكَارُ لَفْظِهَا ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَفَسَّرُوا مَحَبَّتَهُ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ أَوْ مَحَبَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَنَحْوِ

ذَلِكَ مِمَّا يُضَافُ إلَيْهِ ؛ وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ مَحْبُوبَ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مَحْبُوبًا إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مَحْبُوبًا فَيَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ بِالذَّاتِ وَالْوَسَائِلِ يُحِبُّونَ بِالْعَرَضِ . وَلَوْ تَدَبَّرُوا قَوْلَهُمْ لَعَلِمُوا أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ أَنْ تُحَبَّ عِبَادَتُهُ أَوْ أَوْلِيَاؤُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَحْبُوبًا فَإِذَا قَدَّرُوا أَنَّهُ هُوَ شَيْءٌ لَيْسَ مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ : كَانَتْ مَحَبَّةُ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ إنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَحَبَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَحَبَّةِ سَائِرِ الْمُشْتَهَيَاتِ ؛ فَإِذًا تَكُونُ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَحَبَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إذَا كَانَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ . وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " أَصْلُ عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ " الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى " أَصْلُ الْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ ؛ فَتِلْكَ فِيهَا ذَهَابُ النَّفْسِ وَالْمَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } الْآيَةَ . وَلِهَذَا نَعَتَ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ بِقَوْلِهِ : { أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } بَلْ أَصْلُ " الْوِلَايَةِ " الْحُبُّ وَأَصْلُ " الْعَدَاوَةِ " الْبُغْضُ وَإِنْكَارُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ يَتَضَمَّنُ إنْكَارَ وِلَايَةِ اللَّهِ وَعَدَاوَتِهِ كَمَا أَنْكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُ : { إنَّهُ لَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت } وَقَوْلُهُ : { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } وَهَذَا بَابٌ طَوِيلٌ وَقَدْ كَتَبْت فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ عَدَدًا يَبْلُغُ أَكْثَرَ مِنْ الْأَسْفَارِ وَكَلَامُ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَوْجُودٌ فِي هَذَا . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : كَيْفَ نَتَصَوَّرُ عِبَادَةَ مَنْ لَا نَعْرِفُهُ ؛ إذْ الْإِيمَانُ بِمَا لَا نَعْرِفُهُ أَوْ الطَّاعَةَ لِمَا لَا نَعْرِفُهُ أَوْ التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ بِمَا لَا نَعْرِفُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ

الْعِبَادَاتِ ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَجْهُولِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ إذْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ لِلْمَعْبُودِ الْمَحْبُوبِ كَمَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ ؛ بَلْ لَيْسَ لَنَا فِي الْوُجُودِ مَنْ نُحِبُّهُ أَوْ نُبْغِضُهُ ؛ وَنَحْنُ نَعْرِفُهُ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ بِهِ وَالْمَعْرِفَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَتَفَاوَتُونَ فِي دَرَجَاتِ الْعِرْفَانِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُنَا بِاَللَّهِ . وَقَدْ قَالَ : { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ زِيَادَةِ الْمَعْرِفَةِ وَنَقْصِهَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَسْأَلَةِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ . وَاَلَّذِي مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا : أَنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ يَتَفَاضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } وَأَمَّا زِيَادَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي عَلَى الْجَوَارِحِ وَنُقْصَانِهِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي دُخُولِهِ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ نِزَاعٌ وَبَعْضُهُ لَفْظِيٌّ مَعَ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ - مَعَ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ - مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ الذَّنْبِ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ ؛ وَلَا يُسْلَبُ جَمِيعَ الْإِيمَانِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ ؛ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ : إنَّ إيمَانَ الْخَلْقِ مُسْتَوٍ فَلَا يَتَفَاضَلُ إيمَانُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِيمَانُ الْفُسَّاقِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ لَا يَتَفَاضَلُ .

وَأَمَّا عَامَّةُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ إيمَانَ الْعِبَادِ لَا يَتَسَاوَى بَلْ يَتَفَاضَلُ وَإِيمَانُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَكْمَلُ مِنْ إيمَانِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُجْرِمِينَ . ثُمَّ النِّزَاعُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : الْعَمَلُ ، هَلْ يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ ؟ فَإِنَّ الْعَمَلَ يَتَفَاضَلُ بِلَا نِزَاعٍ . فَمَنْ أَدْخَلَهُ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ قَالَ : يَتَفَاضَلُ .
وَمَنْ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ احْتَاجَ إلَى الْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ هَلْ يَتَفَاضَلُ ؟ فَظَنَّ مَنْ نَفَى التَّفَاضُلَ أَنْ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ - مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يُخْرِجُهُ هَؤُلَاءِ عَنْ مَحْضِ التَّصْدِيقِ - مَا هُوَ مُتَفَاضِلٌ بِلَا رَيْبٍ ثُمَّ نَفْسُ التَّصْدِيقِ أَيْضًا مُتَفَاضِلٌ مِنْ جِهَاتٍ :
مِنْهَا أَنَّ التَّصْدِيقَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَكُونُ مُجْمَلًا وَقَدْ يَكُونُ مُفَصَّلًا ؛ وَالْمُفَصَّلُ مِنْ الْمُجْمَلِ ؛ فَلَيْسَ تَصْدِيقُ مَنْ عَرَفَ الْقُرْآنَ وَمَعَانِيَهُ وَالْحَدِيثَ وَمَعَانِيَهُ وَصَدَّقَ بِذَلِكَ مُفَصَّلًا كَمَنْ صَدَّقَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ أَوْ لَا يَفْهَمُهُ .
وَمِنْهَا : أَنَّ التَّصْدِيقَ الْمُسْتَقِرَّ الْمَذْكُورَ أَتَمُّ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يُطْلَبُ حُصُولُهُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ .
وَمِنْهَا : أَنَّ التَّصْدِيقَ نَفْسَهُ يَتَفَاضَلُ كُنْهُهُ ؛ فَلَيْسَ مَا أَثْنَى عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ بَلْ تَشْهَدُ لَهُ الْأَعْيَانُ وَأُمِيطَ عَنْهُ كُلُّ أَذًى وَحُسْبَانٍ حَتَّى بَلَغَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ؛ دَرَجَاتِ الْإِيقَانِ كَتَصْدِيقِ زَعْزَعَتِهِ الشُّبُهَاتِ وَصَدَفَتْهُ الشَّهَوَاتُ وَلَعِبَ بِهِ

التَّقْلِيدُ وَيَضْعُفُ لِشُبَهِ الْمُعَانِدِ الْعَنِيدِ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ كُلُّ مُنْصِفٍ رَشِيدٍ . وَلِهَذَا كَانَ الْمَشَايِخُ - أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ السَّالِكُونَ إلَى اللَّهِ أَقْصَدَ طَرِيقٍ - مُتَّفِقِينَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ وَهَذِهِ مَسَائِلُ كِبَارٌ لَا يُمْكِنُ فِيهَا إلَّا الْإِطْنَابُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : قَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ وَهُوَ إذَا كَانَ حُبُّ اللِّقَاءِ ؛ لِمَا رَآهُ مِنْ النَّعِيمِ فَالْمَحَبَّةُ حِينَئِذٍ لِلنَّعِيمِ الْعَائِدِ عَلَيْهِ لَا لِمُجَرَّدِ لِقَاءِ اللَّهِ . فَيُقَالُ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ لِقَاءَ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ : " لِقَاءِ مَحْبُوبٍ " وَ " لِقَاءِ مَكْرُوهٍ " كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ الْأَعْرَجِ : كَيْفَ الْقُدُومُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟ فَقَالَ : الْمُحْسِنُ كَالْغَائِبِ يَقْدَمُ عَلَى مَوْلَاهُ وَأَمَّا الْمُسِيءُ كَالْآبِقِ يُقْدَمُ بِهِ عَلَى مَوْلَاهُ . فَلَمَّا كَانَ اللِّقَاءُ نَوْعَيْنِ - وَإِنَّمَا يُمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا يُوصَفُ بِهِ هَذَا اللِّقَاءُ وَهَذَا اللِّقَاءُ - وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اللِّقَاءَ الْمَحْبُوبَ " بِمَا تَتَقَدَّمُهُ الْبُشْرَى بِالْخَيْرِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَ " اللِّقَاءَ الْمَكْرُوهَ " بِمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ الْبُشْرَى بِالسُّوءِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْإِهَانَةِ ؛ فَصَارَ الْمُؤْمِنُ مُخْبِرًا بِأَنَّ لِقَاءَهُ لِلَّهِ لِقَاءُ مَحْبُوبٍ وَالْكَافِرُ مُخْبَرًا بِأَنَّ لِقَاءَهُ لِلَّهِ مَكْرُوهٌ : فَصَارَ الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِقَاءَ اللَّهِ وَصَارَ الْكَافِرُ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ ؛ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَ هَذَا وَكَرِهَ لِقَاءَ هَذَا { جَزَاءً وِفَاقًا } . فَإِنَّ الْجَزَاءَ بِذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّاحِمُونَ

يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : { مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ لَهُ لِسَانَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { مَنْ اسْتَمَعَ إلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِالرَّجُلِ حَتَّى يَجِيءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ لَحْمٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرٌ يُبَيِّنُ فِيهِمَا أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي

يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ؛ فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَمْشِي ؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ؛ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِمُحَابِّهِ مِنْ النَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ الرَّبُّ كَمَا وَصَفَ وَهَذَا مَا احْتَمَلَتْهُ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ مِنْ الْجَوَابِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فِي " رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ " وَاخْتِلَافِهِمْ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ :
وَاَلَّذِي أَوْجَبَ هَذَا : أَنَّ وَفْدَكُمْ حَدَّثُونَا بِأَشْيَاءَ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَكُمْ حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ الْأَمْرَ آلَ إلَى قَرِيبِ الْمُقَاتَلَةِ وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي " رُؤْيَةِ الْكُفَّارِ رَبَّهُمْ " ؛ وَمَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْأَمْرَ يَبْلُغُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ خَفِيفٌ . وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ وَبَعْدَ مَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّا نَرَى رَبَّنَا كَمَا نَرَى الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالشَّمْسَ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ لَا يُضَامُ فِي رُؤْيَتِهِ } . وَ " رُؤْيَتُهُ سُبْحَانَهُ " هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَغَايَةُ مَطْلُوبِ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ؛ وَإِنْ كَانُوا فِي الرُّؤْيَةِ عَلَى دَرَجَاتٍ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ .

وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ " السَّلَفِ " أَنَّ مَنْ جَحَدَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ عُرِّفَ ذَلِكَ كَمَا يُعَرَّفُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْجُحُودِ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ . وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ قَدْ دَوَّنَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا " كُتُبًا " مِثْلَ : " كِتَابِ الرُّؤْيَةِ " للدارقطني وَلِأَبِي نُعَيْمٍ وللآجري ؛ وَذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ كَابْنِ بَطَّةَ واللالكائي وَابْنِ شَاهِينَ وَقَبْلَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَحَنْبَلُ بْنُ إسْحَاقَ وَالْخَلَّالُ والطَّبَرَانِي وَغَيْرُهُمْ . وَخَرَّجَهَا أَصْحَابُ الصَّحِيحِ وَالْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ . فَأَمَّا " مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ الْكُفَّارِ " فَأَوَّلُ مَا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهَا وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا - فِيمَا بَلَغَنَا - بَعْدَ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَأَمْسَكَ عَنْ الْكَلَامِ فِي هَذَا قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَتَكَلَّمَ فِيهَا آخَرُونَ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " مَعَ أَنِّي مَا عَلِمْت أَنَّ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا تَلَاعَنُوا وَلَا تهاجروا فِيهَا ؛ إذْ فِي الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ قَوْمٌ فِيهِمْ فَضْلٌ وَهُمْ أَصْحَابُ سُنَّةٍ . وَالْكَلَامُ فِيهَا قَرِيبٌ مِنْ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ " مُحَاسَبَةِ الْكُفَّارِ " هَلْ يُحَاسَبُونَ أَمْ لَا ؟ هِيَ مَسْأَلَةٌ لَا يُكْفَرُ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ وَالصَّحِيحُ أَيْضًا أَنْ لَا يُضَيَّقَ فِيهَا وَلَا يُهْجَرَ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ بَشَّارٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُمْ يُحَاسَبُونَ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُصَلَّى خَلْفَ الْفَرِيقَيْنِ بَلْ يَكَادُ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ يَرْتَفِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ ؛ مَعَ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا

أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ : لَا يُحَاسَبُونَ وَاخْتَلَفَ فِيهَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ . وَذَلِكَ أَنَّ " الْحِسَابَ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِحَاطَةُ بِالْأَعْمَالِ وَكِتَابَتُهَا فِي الصُّحُفِ وَعَرْضُهَا عَلَى الْكُفَّارِ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوهُ وَزِيَادَةُ الْعَذَابِ وَنَقْصُهُ بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ وَنَقْصِهِ فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِسَابِ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَقَدْ يُرَادُ " بِالْحِسَابِ " وَزْنُ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهُمَا أَرْجَحُ : فَالْكَافِرُ لَا حَسَنَاتِ لَهُ تُوزَنُ بِسَيِّئَاتِهِ ؛ إذْ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا حَابِطَةٌ وَإِنَّمَا تُوزَنُ لِتَظْهَرَ خِفَّةُ مَوَازِينِهِ لَا لِيَتَبَيَّنَ رُجْحَانُ حَسَنَاتٍ لَهُ . وَقَدْ يُرَادُ " بِالْحِسَابِ " أَنَّ اللَّهَ : هَلْ هُوَ الَّذِي يُكَلِّمُهُمْ أَمْ لَا ؟ فَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُهُمْ تَكْلِيمَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَتَبْكِيتٍ لَا تَكْلِيمَ تَقْرِيبٍ وَتَكْرِيمٍ وَرَحْمَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ تَكْلِيمَهُمْ جُمْلَةً .
وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي " رُؤْيَةِ الْكُفَّارِ " :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ بِحَالِ لَا الْمُظْهِرُ لِلْكُفْرِ وَلَا الْمُسِرُّ لَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عُمُومُ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَرَاهُ مَنْ أَظْهَرَ التَّوْحِيدَ مِنْ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمُنَافِقِيهَا وَغَبَرَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ

فَلَا يَرَوْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ خُزَيْمَة مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى نَحْوَهُ فِي حَدِيثِ إتْيَانِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ فِي الْمَوْقِفِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْكُفَّارَ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةَ تَعْرِيفٍ وَتَعْذِيبٍ - كَاللِّصِّ إذَا رَأَى السُّلْطَانَ - ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ لِيَعْظُمَ عَذَابُهُمْ وَيَشْتَدَّ عِقَابُهُمْ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَصْحَابِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِمْ ؛ وَهُمْ فِي الْأُصُولِ مُنْتَسِبُونَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِلَى سَهْلٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْتَسْتَرِي . وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ " اللِّقَاءَ " فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالرُّؤْيَةِ ؛ إذْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ الْإِمَامُ قَالُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ : { الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ } وَفِي قَوْلِ اللَّهِ : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } وَفِي قَوْلِهِ : { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ } إنَّ اللِّقَاءَ يَدُلُّ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَالْمُعَايَنَةِ . وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُثْبِتُونَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } . وَمِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ قَالَ " اللِّقَاءُ " إذَا قُرِنَ بِالتَّحِيَّةِ فَهُوَ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّةَ : سَمِعْت أَبَا عُمَرَ الزَّاهِدَ اللُّغَوِيَّ يَقُولُ : سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنَ يَحْيَى

ثَعْلَباً يَقُولُ فِي قَوْلِهِ : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ اللِّقَاءَ هَاهُنَا لَا يَكُونُ إلَّا مُعَايَنَةً وَنَظْرَةً بِالْأَبْصَارِ . وَأَمَّا " الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ الدَّلِيلُ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ قَوْلَهُ : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ آيَاتٌ أُخَرُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } { إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وَقَوْلُهُ : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } وَقَوْلُهُ : { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ . وَمِنْ أَقْوَى مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْمُثْبِتُونَ : مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سَأَلَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ : هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابٍ ؟ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابٍ ؟ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا قَالَ : فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ : أَيْ فُلَانٌ أَلَمْ أُكْرِمْك ؟ أَلَمْ أُسَوِّدْك ؟ أَلَمْ أُزَوِّجْك ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَك الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وأتركك تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ ؟ قَالَ : فَيَقُولُ : بَلَى يَا رَبِّ قَالَ : فَظَنَنْت أَنَّك مُلَاقِيَّ ؟ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ لَا . قَالَ : فَالْيَوْمَ أَنْسَاك كَمَا نَسِيتنِي . قَالَ : فَيَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ : أَلَمْ أُكْرِمْك ؟ أَلَمْ أُسَوِّدْك ؟ أَلَمْ أُزَوِّجْك ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَك الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وأتركك تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ ؟

قَالَ : فَيَقُولُ : بَلَى يَا رَبِّ قَالَ : فَظَنَنْت أَنَّك مُلَاقِيَّ ؟ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ لَا . قَالَ : فَالْيَوْمَ أَنْسَاك كَمَا نَسِيتنِي . ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ : فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ . فَيَقُولُ : يَا رَبِّ آمَنْت بِك وَبِكِتَابِك وَبِرُسُلِك وَصَلَّيْت وَصُمْت وَتَصَدَّقْت وَيُثْنِي بِخَيْرِ مَا اسْتَطَاعَ فَيُقَالُ : أَلَا نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْك فَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ : انْطِقِي فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ الَّذِي سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ } . إلَى هُنَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ - وَهِيَ مِثْلُ رِوَايَتِهِ سَوَاءٌ صَحِيحَةٌ - قَالَ : { ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَلَا تَتَّبِعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالَ : فَتَتَّبِعُ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ الشَّيَاطِينَ قَالَ : وَاتَّبَعَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَهُمْ إلَى جَهَنَّمَ ثُمَّ نَبْقَى أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَيَأْتِينَا رَبُّنَا وَهُوَ رَبُّنَا فَيَقُولُ : عَلَامَ هَؤُلَاءِ قِيَامٌ ؟ فَنَقُولُ نَحْنُ عِبَادُ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ عَبَدْنَاهُ وَهُوَ رَبُّنَا وَهُوَ آتِينَا وَيُثِيبُنَا وَهَذَا مَقَامُنَا . فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَامْضُوا قَالَ : فَيُوضَعُ الْجِسْرُ وَعَلَيْهِ كَلَالِيبُ مِنْ النَّارِ تَخْطَفُ النَّاسَ فَعِنْدَ ذَلِكَ حَلَّتْ الشَّفَاعَةُ لِي اللَّهُمَّ سَلِّمْ اللَّهُمَّ سَلِّمْ قَالَ : فَإِذَا جَاءُوا الْجِسْرَ فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجًا مِنْ الْمَالِ مِمَّا يَمْلِكُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَكُلُّ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ يَدْعُونَهُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا مُسْلِمُ هَذَا خَيْرٌ فَتَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا مُسْلِمُ هَذَا خَيْرٌ فَتَعَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَلِكَ الْعَبْدُ لَا تَوَى عَلَيْهِ يَدَعُ بَابًا وَيَلِجُ مِنْ آخَرَ فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ وَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ } .

وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ يَلْقَى رَبَّهُ . وَيُقَالُ : ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخَلْقَ جَمِيعَهُمْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فَيَلْقَى اللَّهُ الْعَبْدَ عِنْدَ ذَلِكَ . لَكِنْ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَة وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمَا " اللِّقَاءُ " الَّذِي فِي الْخَبَرِ غَيْرُ التَّرَائِي ؛ لَا أَنَّ اللَّهَ تَرَاءَى لِمَنْ قَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : هَلْ نَرَى رَبَّنَا ؟ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْكَافِرَ يَلْقَى رَبَّهُ فَيُوَبِّخُهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَتَّبِعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { أَنَّ النَّاسَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لَا . يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الشَّمْسَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ ؛ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا فَيَعْرِفُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظهراني جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ جَاوَزَ مِنْ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ ؛ وَلَا

يَتَكَلَّمُ يَوْمئِذٍ أَحَدٌ إلَّا الرُّسُلُ وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ ؟ قَالُوا نَعَمْ . قَالَ : فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إلَّا اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُجَازَى حَتَّى يَنْجُوَ حَتَّى إذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ ؛ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ قَدْ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ - فَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذُكَاؤُهَا فَيَقُولُ : هَلْ عَسَيْت إنْ فُعِلَ بِك ذَلِكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَعِزَّتِك فَيُعْطِي اللَّهَ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ قَالَ : يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ . فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْت الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْت سَأَلْت ؟ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِك . فَيَقُولُ ؛ هَلْ عَسَيْت إنْ أَعْطَيْتُك ذَلِكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : لَا . وَعِزَّتِك لَا أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيُقَدِّمُهُ إلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ . فَيَقُولُ اللَّهُ : وَيْحَك يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَك ؟ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْت الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ

الَّذِي أُعْطِيت ؟ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِك فَيَضْحَكُ اللَّهُ مِنْهُ ؛ ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ : تَمَنَّ . فَيَتَمَنَّى حَتَّى إذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ : مِنْ كَذَا وَكَذَا أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ حَتَّى إذَا انْتَهَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ : لَك ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ } . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ اللَّهُ : لَك ذَلِكَ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَوْلَهُ : { لَك ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ } قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : إنِّي سَمِعْته يَقُولُ : { لَك ذَلِكَ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ } . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ قَالَ : وَأَبُو سَعِيدٍ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { إنَّ اللَّهَ قَالَ : ذَلِكَ لَك وَمِثْلُهُ مَعَهُ } قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري : { وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ } يَا أَبَا هُرَيْرَةَ . [ فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَقَدْ اتَّفَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ . . . (1) وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الرُّؤْيَةِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَتْبَعَ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ] (*) . وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ : فَيُنَادِي مُنَادٍ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ؛ أَلَمْ تَرْضَوْا مِنْ رَبِّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَصَوَّرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ أَنْ يُوَلِّيَ كُ

كَانَ يَعْبُدُ عُزَيْرًا شَيْطَانُ عُزَيْرٍ حَتَّى يُمَثَّلَ لَهُمْ الشَّجَرَةُ وَالْعُودُ وَالْحَجَرُ وَيَبْقَى أَهْلُ الْإِسْلَامِ جُثُومًا ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا لَكُمْ لَا تَنْطَلِقُونَ كَمَا انْطَلَقَ النَّاسُ ؟ فَيَقُولُونَ : إنَّ لَنَا رَبًّا مَا رَأَيْنَاهُ بَعْدُ ؛ قَالَ : فَيُقَالُ : فَبِمَ تَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ إذَا رَأَيْتُمُوهُ ؟ قَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَلَامَةٌ إنْ رَأَيْنَاهُ عَرَفْنَاهُ . قِيلَ : وَمَا هُوَ ؟ قَالُوا : يَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَرَوْهُ قَبْلَ تَجَلِّيهِ لَهُمْ خَاصَّةً وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ : مَعْنَى هَذَا لَمْ يَرَوْهُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْآلِهَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا النَّاسُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتْبَعُوا شَيْئًا . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري { قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ . فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا . إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِتَتْبَعَ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وغبر أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا : كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ . فَيَقُولُ : كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ

وَلَا وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ ؟ قَالُوا : عَطِشْنَا يَا رَبِّ فَاسْقِنَا فَيُشَارُ إلَيْهِمْ أَلَا تردون ؟ فَيُحْشَرُونَ إلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا : كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُمْ : كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ ؟ فَيَقُولُونَ . عَطِشْنَا يَا رَبِّ فَاسْقِنَا قَالَ : فَيُشَارُ إلَيْهِمْ أَلَا تردون ؟ فَيُحْشَرُونَ إلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ اللَّهُ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا - وَفِي رِوَايَةٍ - قَالَ : فَيَأْتِيهِمْ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ : فَمَا تَنْتَظِرُونَ : لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا : يَا رَبَّنَا فَارَقَنَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ . فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك لَا نُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ؛ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ - فَيَقُولُ : هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ بِهَا ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ نِفَاقًا وَرِيَاءً إلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا . ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ : اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ ؟ قَالَ : دَحْضٌ مَزَلَّةٍ فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ تَكُونُ بِنَجْدِ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا : السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ

وَكَأَجَاوِدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسْلِمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمُكَرْدَسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى إذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ : لِيَتْبَعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ . وَهِيَ " الرُّؤْيَةُ الْأُولَى " الْعَامَّةُ الَّتِي فِي " الرُّؤْيَةِ الْأُولَى " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِالرُّؤْيَةِ وَاللِّقَاءِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ لِيَتْبَعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ .
وَكَذَلِكَ جَاءَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ : أَلَا يَتْبَعُ النَّاسُ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيُمَثَّلُ لِصَاحِبِ الصَّلِيبِ صَلِيبُهُ وَلِصَاحِبِ النَّارِ نَارُهُ وَلِصَاحِبِ التَّصْوِيرِ تَصْوِيرُهُ فَيَتَّبِعُونَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ؛ وَيَبْقَى الْمُسْلِمُونَ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ : أَلَا تَتْبَعُونَ النَّاسَ فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك اللَّهُ رَبُّنَا وَهَذَا مَكَانُنَا حَتَّى نَرَى رَبَّنَا وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ وَيُثَبِّتُهُمْ ؛ ثُمَّ يَتَوَارَى ثُمَّ يَطَّلِعُ فَيَقُولُ أَلَا تَتْبَعُونَ النَّاسَ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك اللَّهُ رَبُّنَا وَهَذَا مَكَانُنَا حَتَّى نَرَى رَبَّنَا وَيُثَبِّتُهُمْ . قَالُوا وَهَلْ نَرَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : فَإِنَّكُمْ لَا تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَتِهِ تِلْكَ السَّاعَةَ ثُمَّ يَتَوَارَى ثُمَّ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فَيُعَرِّفُهُمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّبِعُونِي فَيَقُومُ الْمُسْلِمُونَ وَيُوضَعُ الصِّرَاطُ } .

وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي أَنَّ " الرُّؤْيَةَ الْأُولَى " عَامَّةٌ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ : حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ العقيلي - الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ - قَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَتَلَقَّاهُ أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ بِالْقَبُولِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَة فِي " كِتَابِ التَّوْحِيدِ " وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ فِيهِ إلَّا بِالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَتَخْرُجُونَ مِنْ الأصوى وَمِنْ مَصَارِعِكُمْ فَتَنْظُرُونَ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْكُمْ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ وَنَحْنُ مِلْءُ الْأَرْضِ نَنْظُرُ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْنَا قَالَ : أُنَبِّئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ ؟ : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَةٌ مِنْهُ صَغِيرَةٌ تَرَوْنَهُمَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَرَيَانِكُمْ وَلَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا وَلَعَمْرُ إلَهِك لَهُوَ عَلَى أَنْ يَرَاكُمْ وَتَرَوْنَهُ أَقْدَرُ مِنْهُمَا عَلَى أَنْ يَرَيَاكُمْ وَتَرَوْهُمَا . قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا يَفْعَلُ بِنَا رَبُّنَا إذَا لَقِينَاهُ ؟ قَالَ : تُعْرَضُونَ عَلَيْهِ بَادِيَةٌ لَهُ صَفَحَاتُكُمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَيَأْخُذُ رَبُّك بِيَدِهِ غُرْفَةً مِنْ الْمَاءِ فَيَنْضَحُ بِهَا قِبَلَكُمْ فَلَعَمْرُ إلَهِك مَا يُخْطِئُ وَجْهَ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قَطْرَةٌ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَتَدَعُ وَجْهَهُ مِثْلَ الرَّيْطَةِ الْبَيْضَاءِ ؛ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَخْطِمُهُ مِثْلُ الْحَمَمِ الْأَسْوَدِ ؛ إلَّا ثُمَّ يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَمُرُّ عَلَى أَثَرِهِ الصَّالِحُونَ - أَوْ قَالَ - يَنْصَرِفُ عَلَى إثْرِهِ الصَّالِحُونَ ؛ قَالَ : فَيَسْلُكُونَ جِسْرًا مِنْ النَّارِ } وَذَكَرَ حَدِيثَ " الصِّرَاطِ " . وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ : قِطْعَةً مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ { عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ ؟ قَالَ : يَا أَبَا رَزِينٍ أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ مُخْلِيًا بِهِ ؟ قُلْت : بَلَى . قَالَ : فَاَللَّهُ أَعْظَمُ } .

فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ : { تَنْظُرُونَ إلَيْهِ وَيَنْظُرُ إلَيْكُمْ } عُمُومٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُهُ . وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَاَللَّهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ - أَوْ قَالَ - لَيْلَةً يَقُولُ : ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي ؟ ابْنَ آدَمَ مَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت ؟ ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْت الْمُرْسَلِينَ ؟ } . فَهَذِهِ أَحَادِيثُ مِمَّا يَسْتَمْسِكُ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً } وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى اللَّهِ وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { قُلْ إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي رَأَوْهُ هُوَ الْوَعْدُ أَيْ : الْمَوْعُودُ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ : { وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } ؟ وَتَمَسَّكُوا بِأَشْيَاءَ بَارِدَةٍ فَهِمُوهَا مِنْ الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ بِحَالِ .
وَأَمَّا الَّذِينَ خَصُّوا " بِالرُّؤْيَةِ " أَهْلَ التَّوْحِيدِ فِي الظَّاهِرِ - مُؤْمِنُهُمْ وَمُنَافِقُهُمْ - فَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُمَا وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ رُؤْيَتَهُ لِكَافِرِ وَمُنَافِقٍ إنَّمَا يُثْبِتُونَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمُنَافِقِينَ " رُؤْيَةَ تَعْرِيفٍ " ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْعَرْصَةِ .

وَأَمَّا الَّذِينَ نَفَوْا " الرُّؤْيَةَ " مُطْلَقًا عَلَى ظَاهِرِهِ الْمَأْثُورِ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فَاتِّبَاعٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ : { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } رَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِمَالِكِ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يَرَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ : لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيِّرْ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِالْحِجَابِ قَالَ تَعَالَى : { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } . وَعَنْ المزني قَالَ سَمِعْت ابْنَ أَبِي هَرَمٍ يَقُولُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي كِتَابِ اللَّهِ { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَرَوْنَهُ عَلَى صِفَتِهِ . وَعَنْ حَنْبَلِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ - يَقُولُ : أَدْرَكْت النَّاسَ وَمَا يُنْكِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ شَيْئًا - أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ - وَكَانُوا يُحَدِّثُونَ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ يُمِرُّونَهَا عَلَى حَالِهَا غَيْرَ مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ وَلَا مُرْتَابِينَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } فَلَا يَكُونُ حِجَابٌ إلَّا لِرُؤْيَةِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَنْ أَرَادَ فَإِنَّهُ يَرَاهُ ؛ وَالْكُفَّارُ لَا يَرَوْنَهُ . وَقَالَ : قَالَ اللَّهُ { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } { إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } . وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى فِي النَّظَرِ إلَى اللَّهِ حَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ { تَنْظُرُونَ إلَى رَبِّكُمْ } أَحَادِيثُ صِحَاحٌ وَقَالَ { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } النَّظَرُ إلَى اللَّهِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَحَادِيثُ الرُّؤْيَةِ . نُؤْمِنُ بِهَا وَنَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ وَنُؤْمِنُ بِأَنَّنَا نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا نَشُكُّ فِيهِ وَلَا نَرْتَابُ . قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَقَدَ

كَفَرَ وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ وَرَدَّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . قَالَ حَنْبَلٌ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ : صِحَاحٌ هَذِهِ نُؤْمِنُ بِهَا وَنُقِرُّ بِهَا وَكُلُّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ أَقْرَرْنَا بِهِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا لَمْ نُقِرَّ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفَعْنَاهُ رَدَدْنَا عَلَى اللَّهِ أَمْرَهُ قَالَ اللَّهُ : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الماجشون - وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ مَالِكٍ - فِي كَلَامٍ لَهُ : فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَيَجْعَلُ اللَّهُ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُخْلِصِينَ ثَوَابًا فَتُنَضَّرُ بِهَا وُجُوهُهُمْ دُونَ الْمُجْرِمِينَ وَتُفَلَّجُ بِهَا حُجَّتَهُمْ عَلَى الْجَاحِدِينَ : جَهْمٍ وَشِيعَتِهِ وَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لَا يَرَوْنَهُ كَمَا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُرَى وَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ؛ كَيْفَ لَمْ يَعْتَبِرُوا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } أَفَيُظَنُّ أَنَّ اللَّهَ يُقْصِيهِمْ وَيُعْنِتُهُمْ وَيُعَذِّبُهُمْ بِأَمْرِ يَزْعُمُ الْفَاسِقُ أَنَّهُ وَأَوْلِيَاءَهُ فِيهِ سَوَاءٌ . وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مِثْلِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَغَيْرِهِ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ : كَانَتْ الْأُمَّةُ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ عَلَى " قَوْلَيْنِ " مِنْهُمْ الْمُحِيلُ لِلرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ والنجارية وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُوَافِقِينَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ . وَ " الْفَرِيقُ الْآخَرُ " أَهْلُ الْحَقِّ وَالسَّلَفِ مِنْ هَذِهِ

الْأُمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الْمَعَادِ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا يَرَوْنَهُ فَثَبَتَ بِهَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ - مِمَّنْ يَقُولُ بِجَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَمِمَّنْ يُنْكِرُهَا - عَلَى مَنْعِ رُؤْيَةِ الْكَافِرِينَ لِلَّهِ وَكُلُّ قَوْلٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ . وَقَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ أَيْضًا . الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي " رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ " إنَّمَا هِيَ عَلَى طَرِيقِ الْبِشَارَةِ فَلَوْ شَارَكَهُمْ الْكُفَّارُ فِي ذَلِكَ بَطَلَتْ الْبِشَارَةُ وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْقَائِلِينَ بِالرُّؤْيَةِ فِي أَنَّ رُؤْيَتَهُ مِنْ أَعْظَمِ كَرَامَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ . قَالَ : وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّمَا يَرَى نَفْسَهُ عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَحْسِيرًا عَلَى فَوَاتِ دَوَامِ رُؤْيَتِهِ ؛ وَمَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ - بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِمَا فِيهَا مِنْ الْكَرَامَةِ وَالسُّرُورِ - يُوجِبُ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ الْكُفَّارَ وَيُرِيَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ وَيُطْعِمُهُمْ مِنْ ثِمَارِهَا وَيَسْقِيهِمْ مِنْ شَرَابِهَا ثُمَّ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِيُعَرِّفَهُمْ قَدْرَ مَا مُنِعُوا مِنْهُ وَيُكْثِرُ تَحَسُّرَهُمْ وَتَلَهُّفَهُمْ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِفَضِيلَتِهِ . وَ " الْعُمْدَةُ " قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } فَإِنَّهُ يَعُمُّ حَجْبَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَذَلِكَ الْيَوْمُ { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَوْ قِيلَ : إنَّهُ يَحْجُبُهُمْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ لَكَانَ تَخْصِيصًا لِلَّفْظِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَلَكَانَ فِيهِ تَسْوِيَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّ " الرُّؤْيَةَ " لَا تَكُونُ دَائِمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ بَيَانِ عُقُوبَتِهِمْ بِالْحَجْبِ وَجَزَائِهِمْ بِهِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ فِي عِقَابٍ وَلَا جَزَاءٍ سِوَاهُ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْكَافِرَ مَحْجُوبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ وَإِذَا كَانُوا فِي عَرْصَةِ

الْقِيَامَةِ مَحْجُوبِينَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ أَعْظَمُ حَجْبًا وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } وَقَالَ : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } وَإِطْلَاقُ وَصْفِهِمْ بِالْعَمَى يُنَافِي " الرُّؤْيَةَ " الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الرُّؤْيَةِ . فَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ مَقْصُودِي بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ الْكَلَامَ الْمُسْتَوْفِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةَ " لَيْسَتْ مِنْ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي يَنْبَغِي كَثْرَةُ الْكَلَامِ فِيهَا وَإِيقَاعُ ذَلِكَ إلَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ حَتَّى يَبْقَى شِعَارًا وَيُوجِبَ تَفْرِيقَ الْقُلُوبِ وَتَشَتُّتَ الْأَهْوَاءِ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " فِيمَا عَلِمْت مِمَّا يُوجِبُ الْمُهَاجَرَةَ وَالْمُقَاطَعَةَ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِيهَا قَبْلَنَا عَامَّتُهُمْ أَهْلُ سُنَّةٍ وَاتِّبَاعٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا مَنْ لَمْ يتهاجروا وَيَتَقَاطَعُوا كَمَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالنَّاسُ بَعْدَهُمْ - فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَقَالُوا فِيهَا كَلِمَاتٍ غَلِيظَةً كَقَوْلِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ . وَمَعَ هَذَا فَمَا أَوْجَبَ هَذَا النِّزَاعُ تَهَاجُرًا وَلَا تَقَاطُعًا . وَكَذَلِكَ نَاظَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي " مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ " حَتَّى آلَتْ الْمُنَاظَرَةُ إلَى ارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ وَكَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَهْجُرُوا مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ ؛ إلَى مَسَائِلَ نَظِيرِ هَذِهِ كَثِيرَةٍ . وَالْمُخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " أعذر مِنْ غَيْرِهِمْ أَمَّا " الْجُمْهُورُ " فَعُذْرُهُمْ

ظَاهِرٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ ؛ وَأَنَّ عَامَّةَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي " الرُّؤْيَةِ " لَمْ تَنُصَّ إلَّا عَلَى رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَصٌّ صَرِيحٌ بِرُؤْيَةِ الْكَافِرِ وَوَجَدُوا الرُّؤْيَةَ الْمُطْلَقَةَ قَدْ صَارَتْ دَالَّةً عَلَى غَايَةِ الْكَرَامَةِ وَنِهَايَةِ النَّعِيمِ . وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ عُمُومًا وَتَفْصِيلًا فَقَدْ ذَكَرْت عُذْرَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ : قَوْلُهُ : { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } هَذَا الْحَجْبُ بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ : حَجَبْت فُلَانًا عَنِّي وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْحَجْبَ نَوْعُ رُؤْيَةٍ ؛ وَهَذَا حَجْبٌ عَامٌّ مُتَّصِلٌ وَبِهَذَا الْحَجْبِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بَعْدَ أَنْ يُحْجَبَ الْكُفَّارُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا دَائِمًا أَبَدًا سَرْمَدًا . وَيَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ السَّلَفِ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ إنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ " الرُّؤْيَةِ " الَّذِي هُوَ عَامٌ لِلْخَلَائِقِ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا ضَعِيفًا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ " الرُّؤْيَةِ " الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ ؛ فَإِنَّ " الرُّؤْيَةَ " أَنْوَاعٌ مُتَبَايِنَةٌ تَبَايُنًا عَظِيمًا لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ طَرَفَاهَا . وَهُنَا آدَابٌ تَجِبُ مُرَاعَاتُهَا :
مِنْهَا : أَنَّ مَنْ سَكَتَ عَنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَدْعُ إلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ هَجْرُهُ وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ ؛ فَإِنَّ الْبِدَعَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْهَا لَا يُهْجَرُ فِيهَا إلَّا الدَّاعِيَةُ ؛ دُونَ السَّاكِتِ فَهَذِهِ أَوْلَى

وَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَجْعَلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِحْنَةً وَشِعَارًا يُفَضِّلُونَ بِهَا بَيْنَ إخْوَانِهِمْ وَأَضْدَادِهِمْ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَكَذَلِكَ لَا يُفَاتِحُوا فِيهَا عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي عَافِيَةٍ وَسَلَامٍ عَنْ الْفِتَنِ وَلَكِنْ إذَا سُئِلَ الرَّجُلُ عَنْهَا أَوْ رَأَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِتَعْرِيفِهِ ذَلِكَ أَلْقَى إلَيْهِ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَرْجُو النَّفْعَ بِهِ ؛ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ فَرْضٌ وَاجِبٌ ؛ لِمَا قَدْ تَوَاتَرَ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتِهِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ . وَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُطْلِقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : أَنَّ " الرُّؤْيَةَ الْمُطْلَقَةَ " قَدْ صَارَ يُفْهَمُ مِنْهَا الْكَرَامَةُ وَالثَّوَابُ فَفِي إطْلَاقِ ذَلِكَ إيهَامٌ وَإِيحَاشٌ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظًا يُوهِمُ خِلَافَ الْحَقِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْثُورًا عَنْ السَّلَفِ وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مَأْثُورًا . ( الثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ عَامًّا فِي تَخْصِيصِ بَعْضِهِ بِاللَّفْظِ خُرُوجٌ عَنْ الْقَوْلِ الْجَمِيلِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ التَّخْصِيصِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُرِيدٌ لِكُلِّ حَادِثٍ وَمَعَ هَذَا يُمْنَعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَخُصَّ مَا يَسْتَقْذِرُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يَسْتَقْبِحُهُ الشَّرْعُ مِنْ الْحَوَادِثِ بِأَنْ يَقُولَ عَلَى الِانْفِرَادِ : يَا خَالِقَ الْكِلَابِ وَيَا مُرِيدًا لِلزِّنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : يَا خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَا مَنْ كَلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَتِهِ

فَكَذَلِكَ هُنَا لَوْ قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ أَوْ قَالَ : إنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يُحْشَرُونَ إلَى اللَّهِ فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُخَالِفًا فِي الْإِيهَامِ لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ . فَلَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ عَنْ الْأَلْفَاظِ الْمَأْثُورَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ تَنَازُعٌ فِي بَعْضِ مَعْنَاهَا فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا بُدَّ مِنْهُ فَالْأَمْرُ كَمَا قَدْ أَخْبَرَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ وَمُلَازَمَةِ مَا يَدْعُو إلَى الْجَمَاعَةِ وَالْأُلْفَةِ وَمُجَانَبَةِ مَا يَدْعُو إلَى الْخِلَافِ وَالْفُرْقَةِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بَيِّنًا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ بِأَمْرِ مِنْ الْمُجَانَبَةِ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ . وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ هَلْ هَذَا الْقَوْلُ أَوْ الْفِعْلُ مِمَّا يُعَاقَبُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ أَوْ مَا لَا يُعَاقَبُ ؟ فَالْوَاجِبُ تَرْكُ الْعُقُوبَةِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ فَإِنَّك إنْ تُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَا سِيَّمَا إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى شَرٍّ طَوِيلٍ وَافْتِرَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ فَإِنَّ الْفَسَادَ النَّاشِئَ فِي هَذِهِ الْفُرْقَةِ أَضْعَافُ الشَّرِّ النَّاشِئِ مِنْ خَطَأِ نَفَرٍ قَلِيلٍ فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ . وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَمْرٌ فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ - { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ

الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَبَعْدَ هَذَا : فَأَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمْ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَ هَدْيِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيَجْمَعَ عَلَى الْهُدَى شَمْلَنَا وَيَقْرِنَ بِالتَّوْفِيقِ أَمْرَنَا وَيَجْعَلَ قُلُوبَنَا عَلَى قَلْبِ خِيَارِنَا وَيَعْصِمَنَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُعِيذَنَا مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا . وَقَدْ كَتَبْت هَذَا الْكِتَابَ وَتَحَرَّيْت فِيهِ الرُّشْدَ وَمَا أُرِيدُ إلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْت وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ أُحِطْ عِلْمًا بِحَقِيقَةِ مَا بَيْنَكُمْ وَلَا بِكَيْفِيَّةِ أُمُورِكُمْ وَإِنَّمَا كَتَبْت عَلَى حَسَبِ مَا فَهِمْت مِنْ كَلَامِ مَنْ حَدَّثَنِي وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ إنَّمَا هُوَ إصْلَاحُ ذَاتِ بَيْنِكُمْ وَتَأْلِيفُ قُلُوبِكُمْ . وَأَمَّا اسْتِيعَابُ الْقَوْلِ فِي " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " وَغَيْرِهَا وَبَيَانِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِيهَا فَرُبَّمَا أَقُولُ أَوْ أَكْتُبُ فِي وَقْتٍ آخَرَ إنْ رَأَيْت الْحَاجَةَ مَاسَّةً إلَيْهِ فَإِنِّي فِي هَذَا الْوَقْتِ رَأَيْت الْحَاجَةَ إلَى انْتِظَامِ أَمْرِكُمْ أَوْكَدُ . وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .

قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ :
سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنَ تَيْمِيَّة " يَقُولُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ } :
مَعْنَاهُ كَانَ ثَمَّ نُورٌ وَحَالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ نُورٌ فَأَنَّى أَرَاهُ ؟ قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ : أَنَّ فِي بَعْضِ " أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ " { هَلْ رَأَيْت رَبَّك ؟ فَقَالَ : رَأَيْت نُورًا } (*) . وَقَدْ أُعْضِلَ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : { نُورًا إنِّي أَرَاهُ } عَلَى أَنَّهَا يَاءُ النَّسَبِ ؛ وَالْكَلِمَةُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ . وَهَذَا خَطَأٌ لَفْظًا وَمَعْنًى وَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُمْ هَذَا الْإِشْكَالَ وَالْخَطَأَ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ وَكَانَ قَوْلُهُ : { أَنَّى أَرَاهُ ؟ } كَالْإِنْكَارِ لِلرُّؤْيَةِ حَارُوا فِي " الْحَدِيثِ " وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِاضْطِرَابِ لَفْظِهِ وَكُلُّ هَذَا عُدُولٌ عَنْ مُوجَبِ الدَّلِيلِ . وَقَدْ حَكَى " عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي " فِي كِتَابِ الرَّدِّ لَهُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَبَعْضُهُمْ اسْتَثْنَى ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ ذَلِكَ . وَشَيْخُنَا يَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِخِلَافِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَقُلْ

رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ : إنَّهُ رَآهُ ؛ وَلَمْ يَقُلْ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ . وَلَفْظُ أَحْمَد كَلَفْظِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ شَيْخُنَا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { حِجَابُهُ النُّورُ } فَهَذَا النُّورُ هُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - النُّورُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ . { رَأَيْت نُورًا } .

قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الرُّؤْيَةُ " فَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ " وَعَائِشَةُ أَنْكَرَتْ الرُّؤْيَةَ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : عَائِشَةُ أَنْكَرَتْ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَثْبَتَ رُؤْيَةَ الْفُؤَادِ . وَالْأَلْفَاظُ الثَّابِتَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ مُطْلَقَةٌ أَوْ مُقَيَّدَةٌ بِالْفُؤَادِ تَارَةً يَقُولُ : رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ وَتَارَةً يَقُولُ رَآهُ مُحَمَّدٌ ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَفْظٌ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ . وَكَذَلِكَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " تَارَةً يُطْلِقُ الرُّؤْيَةَ ؛ وَتَارَةً يَقُولُ : رَآهُ بِفُؤَادِهِ ؛ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ سَمِعَ أَحْمَد يَقُولُ رَآهُ بِعَيْنِهِ ؛ لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ سَمِعُوا بَعْضَ كَلَامِهِ الْمُطْلَقِ فَفَهِمُوا مِنْهُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ ؛ كَمَا سَمِعَ بَعْضُ النَّاسِ مُطْلَقَ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفَهِمَ مِنْهُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ . وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَلَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ

الصَّحَابَةِ وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَلَى نَفْيِهِ أَدَلُّ ؛ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْت رَبَّك ؟ فَقَالَ : نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } وَلَوْ كَانَ قَدْ أَرَاهُ نَفْسَهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } . { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } وَلَوْ كَانَ رَآهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ } قَالَ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَهَذِهِ " رُؤْيَا الْآيَاتِ " لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّاسَ بِمَا رَآهُ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ حَيْثُ صَدَّقَهُ قَوْمٌ وَكَذَّبَهُ قَوْمٌ وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ الثَّابِتَةِ ذِكْرُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ مَا دُونَهُ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَرَى اللَّهَ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ إلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ .

وَاللُّغَةُ تُجَوِّزُ " مُطْلَقًا " لِمَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَأَمَّا لَعْنَةُ " الْمُعَيَّنِ " فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا جَازَتْ لَعْنَتُهُ . وَأَمَّا الْفَاسِقُ الْمُعَيَّنُ فَلَا تَنْبَغِي لَعْنَتُهُ ؛ { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْعَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حِمَارٍ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ } مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا مَعَ أَنَّ فِي لَعْنَةِ الْمُعَيَّنِ - إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ دَاعِيًا إلَى بِدْعَةٍ - نِزَاعٌ وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا .

سُئِلَ :
عَنْ أَقْوَامٍ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ بِأَبْصَارِهِمْ فِي الدُّنْيَا ؛ وَأَنَّهُمْ يَحْصُلُ لَهُمْ بِغَيْرِ سُؤَالٍ مَا حَصَلَ لِمُوسَى بِالسُّؤَالِ.
فَأَجَابَ :
أَجْمَعَ " سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا " عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ بِأَبْصَارِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَبْصَارِهِمْ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إلَّا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ } . وَمَنْ قَالَ مِنْ النَّاسِ : إنَّ الْأَوْلِيَاءَ أَوْ غَيْرَهُمْ يَرَى اللَّهَ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا ادَّعَوْا إنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ ؛ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - :
فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُسْتَشْهِدًا بِهِ فِي صَحِيحِهِ ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَادِي بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ } وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا آدَمَ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ فَيُنَادِي بِصَوْتِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَبْعَثَ بَعْثَ النَّارِ } الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ : لَا يَثْبُتُ لِلَّهِ صِفَةٌ بِحَدِيثِ وَاحِدٍ . فَمَا الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَالنَّظَرِ وَالْأَمْثَالِ وَالنَّظَائِرِ وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَصْلُ " هَذَا الْبَابِ " أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ الْإِنْسَانُ إلَّا بِعِلْمِ ؛ فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ مُطْلَقًا فَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْجَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ

إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } . وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا إلَّا بِعِلْمِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ شَيْئًا إلَّا بِعِلْمِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّافِي عَلَيْهِ الدَّلِيلَ ؛ كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ . وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ " أَدِلَّةَ الْحَقِّ لَا تَتَنَاقَضُ " فَلَا يَجُوزُ إذَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِشَيْءِ - سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَرُ إثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا - أَنْ يَكُونَ فِي إخْبَارِهِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ وَلَا يَكُونُ فِيمَا يُعْقَلُ بِدُونِ الْخَبَرِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الْخَبَرَ الْمَعْقُولَ ؛ فَالْأَدِلَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِلْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاقَضَ سَوَاءٌ كَانَ الدَّلِيلَانِ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ عَقْلِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَمْعِيًّا وَالْآخَرُ عَقْلِيًّا وَلَكِنَّ التَّنَاقُضَ قَدْ يَكُونُ فِيمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ دَلِيلًا وَلَيْسَ بِدَلِيلِ كَمَنْ يَسْمَعُ خَبَرًا فَيَظُنُّهُ صَحِيحًا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَوْ يَفْهَمُ مِنْهُ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ تَقُومُ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ يَظُنُّهَا دَلِيلًا عَقْلِيًّا وَتَكُونُ بَاطِلَةً الْتَبَسَ عَلَيْهِ فِيهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ فَيُكَذِّبُ بِهَا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ إمَّا مُطْلَقًا كَاَلَّذِينَ كَذَّبُوا جَمِيعَ الرُّسُلِ : كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَنَحْوِهِمْ . وأما مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ وَكَفَرَ

بِبَعْضِ كَمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِبَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ وَمَنْ آمَنَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ دُونَ بَعْضٍ وَمِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَنْ أَتَوْا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ؛ فَإِنَّهُ قَامَتْ عِنْدَهُمْ شُبُهَاتٌ ظَنُّوا أَنَّهَا تَنْفِي مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَظَنُّوا أَنَّ الْوَاجِبَ حِينَئِذٍ تَقْدِيمُ مَا رَأَوْهُ عَلَى النُّصُوصِ ؛ لِشُبُهَاتِ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ ضَلَالَ مَنْ ضَلَّ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ بَعْضِ ضُلَّالِهِمْ .
وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ هُوَ الْقَوْلُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَهُوَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَيُصَانُ ذَلِكَ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّمْثِيلِ وَالتَّكْيِيفِ وَالتَّعْطِيلِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَمَنْ نَفَى صِفَاتِهِ كَانَ مُعَطِّلًا . وَمَنْ مَثَّلَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ مَخْلُوقَاتِهِ كَانَ مُمَثِّلًا وَالْوَاجِبُ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهَا لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ إثْبَاتًا بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ فَالْمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا . وَ " طَرِيقَةُ الرُّسُلِ " - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - إثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَتَنْزِيهُهُ بِالْقَوْلِ الْمُطْلَقِ عَنْ التَّمْثِيلِ فَطَرِيقَتُهُمْ " إثْبَاتٌ مُفَصَّلٌ " وَ " نَفْيٌ مُجْمَلٌ " وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ : فَبِالْعَكْسِ ؛ نَفْيٌ مُفَصَّلٌ وَإِثْبَاتٌ مُجْمَلٌ .

فَاَللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ إنَّهُ { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } و { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَأَنَّهُ { غَفُورٌ رَحِيمٌ } { عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { سَمِيعٌ بَصِيرٌ } { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَأَنَّهُ { يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَيَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيَغْضَبُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَنَّهُ { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَنَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا وَأَنَّهُ يُنَادِي عِبَادَهُ فَيَقُولُ : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } . فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ وَلَا كُفُوًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُمَاثِلًا لِشَيْءِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ مُكَافِئًا وَلَا مُسَامِيًا لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَأَمَّا " الْمَلَاحِدَةُ " فَقَلَبُوا الْأَمْرَ وَأَخَذُوا يُشَبِّهُونَهُ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ والمتناقضات فَغُلَاتُهُمْ يَقُولُونَ : لَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ وَلَا سَمِيعَ وَلَا أَصَمَّ وَلَا مُتَكَلِّمَ وَلَا أَخْرَسَ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا هُوَ شَيْءٌ وَلَا لَيْسَ بِشَيْءِ . وَآخَرُونَ يَقُولُونَ : لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَ لِلْعَالَمِ وَلَا حَالَّ فِيهِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي يَنْفُونَ بِهَا الْأُمُورَ الْمُتَقَابِلَةَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ انْتِفَاؤُهَا مَعًا كَمَا يَقُولُ مُحَقِّقُو هَؤُلَاءِ : إنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ إمَّا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - كَمَا يَقُولُهُ " ابْنُ

سِينَا " وَأَتْبَاعُهُ - مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ قَرَّرُوا فِي " الْمَنْطِقِ " مَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ الْعُقَلَاءِ : أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ ؛ بَلْ فِي الْأَذْهَانِ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْمَوْجُودَ الْوَاجِبَ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ مَعَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِمَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَنَّ الْوُجُودَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَوْجُودٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ مُطْلَقٌ لَا بِشَرْطِ - كَمَا يَقُولُهُ القونوي وَأَمْثَالُهُ - فَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَهُ " الْوُجُودَ " الَّذِي يَصْدُقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ وَالذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ وَالْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ ؛ فَيَكُونُ : إمَّا صِفَةٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَإِمَّا جُزْءًا مِنْهَا وَإِمَّا عَيْنُهَا . وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَهُ " الْوُجُودَ " الْمُجَرَّدَ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدِ ؛ فَلَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا وَلَا مُمْكِنًا وَلَا عَالِمًا وَلَا جَاهِلًا وَلَا قَادِرًا وَلَا عَاجِزًا ؛ وَهُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهُ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ ؛ فَيَتَنَاقَضُونَ فِي ضَلَالِهِمْ وَيَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ وَالِاثْنَيْنِ وَاحِدًا ؛ كَمَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُثْبِتُوا وُجُودًا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ نَعْتٍ مُطْلَقًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ وَهُمْ - مَعَ ذَلِكَ - يَخُصُّونَهُ بِمَا لَا يَكُونُ لِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْعَالِمَ وَالْعِلْمَ وَاحِدٌ وَإِنَّهُ نَفْسُ الْعِلْمِ فَيَجْعَلُونَ الْعَالِمَ بِنَفْسِهِ هُوَ الْعَالِمُ بِغَيْرِهِ وَالْمَوْصُوفُ هُوَ الصِّفَةُ ؛ وَيَتَنَاقَضُونَ أَشَدَّ مِنْ تَنَاقُضِ النَّصَارَى فِي " تَثْلِيثِهِمْ " " وَاتِّحَادِهِمْ " اللَّذَيْنِ أَفْسَدُوا بِهِمَا الْإِيمَانَ بِالتَّوْحِيدِ ، وَالرِّسَالَةِ .

وَكَلَامُ ابْنِ سَبُعَيْنِ وَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَابْنِ التومرت وَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ ؛ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة - نفاة الصِّفَاتِ : يَدُورُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ - وَيُوجَدُ مَا يُقَارِبُ هَذَا الِاتِّحَادَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ الَّذِينَ دَخَلَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ شُعَبِ الِاتِّحَادِ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ . وَالْقَوْلُ فِي " مَسْأَلَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى " وَاضْطِرَابُ النَّاسِ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهَا مِنْ " مَسَائِلِ الصِّفَاتِ " وَفِيهَا مِنْ التَّفْرِيعِ مَا امْتَازَتْ بِهِ عَلَى سَائِرِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَقَدْ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِيهَا اضْطِرَابًا كَثِيرًا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَبَيَّنَّا أَنَّ " سَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا " كَانُوا عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ . وَيَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى . وَيَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ التَّكْلِيمِ وَالْمُنَاجَاةِ وَالْمُنَادَاةِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَنُ وَالْآثَارُ مُوَافِقَةً لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . فَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : مَنْ قَالَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ كَمَا قَالَتْهُ " الْجَهْمِيَّة " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ بَلْ لَمَّا أَظْهَرُوا هَذِهِ الْبِدْعَةَ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَهَا ؛ وَعَرَفُوا أَنَّ حَقِيقَتَهَا أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إذْ كَانَ الْكَلَامُ وَسَائِرُ الصِّفَاتِ إنَّمَا يَعُودُ حُكْمُهَا إلَى مَنْ قَامَتْ بِهِ .

فَلَوْ خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا لِلشَّجَرَةِ وَكَانَتْ هِيَ الْقَائِلَةُ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي تَنْطِقُ بِهِ الْجُلُودُ حِينَ قَالَ لَهَا أَصْحَابُهَا : { لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } فَلَوْ كَانَ تَكَلُّمُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ لِأَنَّهُ خَالِقُهُ وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِذَلِكَ " الْحُلُولِيَّةُ " مِنْ الْجَهْمِيَّة كَمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَ " الْفُتُوحَاتِ " :
وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ * * * سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ إذَا خَلَقَ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ حَرَكَةً أَوْ إرَادَةً : كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْعَالِمُ الْقَادِرُ الْمُتَحَرِّكُ الْمُرِيدُ : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ إلَّا مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ لَكَانَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَ " شُبْهَةُ نفاة الْكَلَامِ الْمَشْهُورَةِ " أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ " الْكَلَامَ " صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إلَّا بِفِعْلِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ ؛ فَلَوْ تَكَلَّمَ الرَّبُّ لَقَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ . قَالُوا : لِأَنَّا إنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِهَا بِمَا قَامَ بِهَا مِنْ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ ؛ فَلَوْ قَامَ بِالرَّبِّ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا وَبَطَلَ الدَّلِيلُ الَّذِي اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى " حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ " .

فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ : دَلِيلُكُمْ هَذَا دَلِيلٌ مُبْتَدَعٌ فِي الشَّرْعِ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ قَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي " رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الثَّغْرِ " أَنَّهُ دَلِيلٌ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ ؛ وَذَكَرَ غَيْرُهُ : أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي الْعَقْلِ ؛ كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّ ذَمَّ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِأَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَهْمِيَّة وَأَهْلِ الْخَوْضِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ أَعْظَمُ مَا قَصَدُوا بِهِ ذَمَّ مِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ . وَلَمَّا ظَهَرَتْ " مَقَالَةُ الْجَهْمِيَّة " جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ " أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ " يُوَافِقُ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ عَلَى إثْبَاتِ " صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ " وَبَيَّنَ أَنَّ " الْعُلُوَّ عَلَى خَلْقِهِ " يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَ " اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ " يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ ؛ وَكَذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ الْحَارِثُ المحاسبي وَأَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . ثُمَّ جَاءَ " أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ " فَاتَّبَعَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَمْثَالِهِ وَذَكَرَ فِي كُتُبِهِ جُمَلَ مُقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ؛ وَأَنَّ ابْنَ كُلَّابٍ يُوَافِقُهُمْ فِي أَكْثَرِهَا وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ " الصفاتية " لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ ؛ لَكِنَّ " ابْنَ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعَهُ " لَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ أَفْعَالًا تَقُومُ بِهِ تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ وَلَا غَيْرَ الْأَفْعَالِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . فَكَانَتْ " الْمُعْتَزِلَةُ " تَقُولُ : لَا تُحِلُّهُ الْأَعْرَاضُ وَالْحَوَادِثُ . وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ " بِالْأَعْرَاضِ " الْأَمْرَاضَ وَالْآفَاتِ فَقَطْ ؛ بَلْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الصِّفَاتِ ؛ وَلَا يُرِيدُونَ

" بِالْحَوَادِثِ " الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا الْأَحْدَاثَ الْمُحِيلَةَ لِلْمَحَلِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ - مِمَّا يُرِيدُهُ النَّاسُ بِلَفْظِ الْحَوَادِثِ - بَلْ يُرِيدُونَ نَفْيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَغَيْرِهَا فَلَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَقُومَ بِهِ خَلْقٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا إتْيَانٌ وَلَا مَجِيءٌ وَلَا تَكْلِيمٌ وَلَا مُنَادَاةٌ وَلَا مُنَاجَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وُصِفَ بِأَنَّهُ مُرِيدٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَابْنُ كُلَّابٍ " خَالَفَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ : لَا تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ . وَقَالَ : تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ ؛ وَلَكِنْ لَا تُسَمَّى أَعْرَاضًا وَوَافَقَهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوهُ بِقَوْلِهِمْ : لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَشِيئَتِهِ . فَصَارَ مِنْ حِينِ فَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ - عَلَى " قَوْلَيْنِ " ذَكَرَهُمَا الْحَارِثُ المحاسبي وَغَيْرُهُ . " طَائِفَةٌ " وَافَقَتْ ابْنَ كُلَّابٍ كالقلانسي وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطبري وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ ؛ فَإِنَّهُ وَافَقَ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَكَانَ " الْحَارِثُ المحاسبي " يُوَافِقُهُ ثُمَّ قِيلَ : إنَّهُ رَجَعَ عَنْ مُوَافَقَتِهِ ؛ فَإِنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ أَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ المحاسبي وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ كُلَّابٍ لَمَّا أَظْهَرُوا ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ السَّرِيُّ السقطي الْجُنَيْد أَنْ يَتَّقِيَ بَعْضَ كَلَامِ الْحَارِثِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْحَارِثَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ

وَالزُّهْدِ وَالْكَلَامِ فِي الْحَقَائِقِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ وَحَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الكلاباذي صَاحِبُ ( مَقَالَاتِ الصُّوفِيَّةِ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الكلاباذي : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ : كَلَامُ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَلَامٌ إلَّا كَذَلِكَ مَعَ إقْرَارِهِمْ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ فِي ذَاتِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ : وَهَذَا قَوْلُ الْحَارِثِ المحاسبي وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ سَالِمٍ . وَبَقِيَ هَذَا الْأَصْلُ يَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَ " أَبِي بَكْرٍ بْنِ خُزَيْمَة " الْمُلَقَّبِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ وَافَقُوا " ابْنَ كُلَّابٍ " فَنَهَاهُمْ وَعَابَهُمْ وَطَعَنَ عَلَى " مَذْهَبِ ابْنِ كُلَّابٍ " بِمَا كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ .
وَمِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ تَنَازَعَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ : مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ ؛ أَوْ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ ؟ فَإِنَّ أَتْبَاعَ ابْنِ كُلَّابٍ نَفَوْا ذَلِكَ ؛ قَالُوا : لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِصَوْتِ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ فِعْلٍ بِالْمُتَكَلِّمِ مُتَعَلِّقٌ بِإِرَادَتِهِ ؛ وَاَللَّهُ - عِنْدَهُمْ - لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِهِ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ : لَا فِعْلٌ وَلَا غَيْرُ فِعْلٍ فَقَالُوا : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ ؛ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ . إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا . فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ " هَذَا الْقَوْلُ " مَعْلُومُ

الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ ؛ كَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُرِّبَتْ لَمْ تَكُنْ هِيَ الْقُرْآنَ بَلْ مَعَانِيهَا لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرِيَّةِ لَمْ يَصِرْ هُوَ التَّوْرَاةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى مُوسَى ؛ وَنَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا مَعْنَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } هُوَ مَعْنَى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . قَالُوا : وَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ صِفَاتٍ لِلْكَلَامِ ؛ لَا أَنْوَاعَ لَهُ فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ ؛ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ ؛ فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ " الْوُجُودَ وَاحِدًا بِالْعَيْنِ " وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ : كَانَ كَلَامُهُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ ؛ كَمَنْ جَعَلَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا : هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ ؛ لَكِنَّ " الْكَلَامَ " يَنْقَسِمُ إلَى الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ وَ " الْإِنْشَاءُ " يَنْقَسِمُ إلَى طَلَبِ الْفِعْلِ وَطَلَبِ التَّرْكِ وَ " الْخَبَرُ " يَنْقَسِمُ إلَى خَبَرٍ عَنْ النَّفْيِ وَخَبَرٍ عَنْ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ " الْمَوْجُودَ " يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَ " الْمُمْكِنُ " يَنْقَسِمُ إلَى حَيٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَقَائِمٍ بِغَيْرِهِ ؛ وَ " الْقَائِمُ بِغَيْرِهِ " يَنْقَسِمُ إلَى مَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَيَاةُ وَمَا لَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَيَاةُ فَلَفْظُ " الْوَاحِدِ " يَنْقَسِمُ إلَى وَاحِدٍ بِالنَّوْعِ وَوَاحِدٌ بِالْعَيْنِ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ " الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ " كَقَوْلِهِ الْوُجُودُ وَاحِدٌ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ ؛ أَوْ جِنْسٌ وَاحِدٌ ؛ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ وَذَاتٌ وَاحِدَةٌ وَشَخْصٌ وَاحِدٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ

لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . وَأَمَّا " الْأَوَّلُ " فَمُرَادُهُ أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا ؛ كَمَا أَنَّ " الْمَوْجُودَاتِ " تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَ " أَنْوَاعُ الْكَلَامِ " تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . ثُمَّ إنَّ " طَائِفَةً أُخْرَى " لَمَّا عَرَفَتْ فَسَادَ قَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَوَافَقَتْهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهَا : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا إلَّا قَدِيمٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَزِمَهَا أَنْ تَقُولَ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ أَوْ أَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الْأَصْوَاتِ الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ اللَّازِمَةِ لِذَاتِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ يُذْكَرُ عَنْ " أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ " شَيْخِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ - إنْ صَحَّ عَنْهُ - لَكِنَّهُ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ سَالِمٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَقَالَتْ " الكَرَّامِيَة " وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ : مِنْ الْمُرْجِئَةِ وِ الشيعة وَغَيْرِهِمْ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِأَصْوَاتِ تَقُومُ بِهِ تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ؛ وَأَنَّ اللَّهَ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا إلَّا بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ وَأَنَّهُ يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِمَا يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ؛ وَهَؤُلَاءِ رَأَوْا أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْجَمَاعَةَ فِي أَنَّ لِلَّهِ أَفْعَالًا تَقُومُ بِهِ تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَقُومُ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ " الْإِرَادَاتِ " وَ " الْكَلَامِ " الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ

وَقُدْرَتِهِ ، لَكِنْ قَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَاقَبَ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ ؛ فَإِنَّ مَا تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَوَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ . فَكَمَا أَنَّ ابْنَ كُلَّابٍ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ : فَرَّقَ هَؤُلَاءِ فِي الْحَوَادِثِ بَيْنَ تَجَدُّدِهَا وَبَيْنَ لُزُومِهَا فَقَالُوا بِنَفْيِ لُزُومِهَا لَهُ دُونَ نَفْيِ حُدُوثِهَا كَمَا قَالُوا فِي الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ : إنَّهَا تَحْدُثُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَالْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ يُطَالِبُونَ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ بِسَبَبِ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّرْجِيحَ بِلَا مُرَجِّحٍ وَالْحَوَادِثُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ قَالُوا : وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَهَذَا أَعْظَمُ شُبَهِهِمْ فِي " قِدَمِ الْعَالَمِ " وَهِيَ ( الْمُعْضِلَةُ الزَّبَّاءُ وَالدَّاهِيَةُ الدهيا وَقَدْ ضَاقَ هَؤُلَاءِ عَنْ جَوَابِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا إلَى الِالْتِزَامِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبَيَّنَّا " الْأَجْوِبَةَ الْقَاطِعَةَ " عَنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَنَّهُ مَنْ قَالَ بِمُوجَبِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَمْكَنَهُ أَنْ يُنَاظِرَ الْفَلَاسِفَةَ مُنَاظَرَةً عَقْلِيَّةً يَقْطَعُهُمْ بِهَا وَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ مُطَابِقٌ لِلسَّمْعِ الصَّحِيحِ . وَبَيَّنَّا أَيْضًا كَيْفَ تُجِيبُهُمْ " كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ " لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يُجِيبُوهُمْ بِالْإِلْزَامِ جَوَابًا لَا مَحِيصَ لِلْفَلَاسِفَةِ عَنْهُ وَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلْفَلَاسِفَةِ : قَوْلُكُمْ أَظْهَرُ فَسَادًا فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ فَتَقُولُ لَهُمْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ :

إذَا لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نُجِيبَكُمْ بِجَوَابِ قَاطِعٍ يُحِلُّ شُبْهَتَكُمْ غَيْرِ الْجَوَابِ الْإِلْزَامِيِّ إلَّا بِمُوَافَقَتِكُمْ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ أَوْ مُوَافَقَةِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ - وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ لَا يُخَالِفَ الْعَقْلَ - كَانَ هَذَا ؛ أَوْلَى فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ طَمِعَتْ فِي طَوَائِفِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِمَا ابْتَدَعَهُ كُلُّ فَرِيقٍ فَأَخَذَتْ بِدْعَةَ أَصْحَابِهَا وَاحْتَجَّتْ بِهَا عَلَيْهِمْ فَأَمْكَنَ صَاحِبَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمُبْتَدَعِ أَنْ يَقُولَ : رُجُوعِي عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْمُبْتَدَعِ مَعَ مُوَافَقَتِي لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ سَلَفِ الْأُمَّةِ : أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ الْفَلَاسِفَةَ عَلَى قَوْلٍ أَعْلَمُ أَنَّهُ كُفْرٌ فِي الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ أَيْضًا يُبَيِّنُ فَسَادَهُ . " وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ " فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ ؛ وَهُوَ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ . وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى أَحْدَثَ لِنَفْسِهِ كَلَامًا صَارَ بِهِ مُتَكَلِّمًا . وَأَمَّا الْقَوْلُ : بِأَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ أَوْ أَلْفَاظِهِمْ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ : فَهَذَا أَيْضًا مِنْ " الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ " الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ غَيْرِهَا وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ . وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ جَعَلَ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً كَانَ قَوْلُهُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ .

وَلَكِنَّ أَصْلَ هَذَا تَنَازُعُهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّفْظَ بِالْقُرْآنِ وَالتِّلَاوَةَ مَخْلُوقَةٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ؛ لِأَنَّ " اللَّفْظَ وَالتِّلَاوَةَ " يُرَادُ بِهِ الْمَلْفُوظُ الْمَتْلُوُّ . وَذَلِكَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فَمَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مَخْلُوقًا فَهُوَ جهمي . وَيُرَادُ بِذَلِكَ " الْمَصْدَرُ وَصِفَاتُ الْعِبَادِ " فَمَنْ جَعَلَ " أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ " فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ . وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْمَقَالَاتِ " عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَالَ : وَيَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ وَاللَّفْظِ بِدْعَةٌ . مَنْ قَالَ : بِاللَّفْظِ أَوْ الْوَقْفِ : فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . وَعِنْدَهُمْ لَا يُقَالُ : اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَلَا يُقَالُ : غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَلَيْسَ فِي الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ : أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَجَاءَ ذَلِكَ فِي آثَارٍ مَشْهُورَةٍ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَكَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَذْكُرُونَ الْآثَارَ الَّتِي فِيهَا ذَكَرَ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالصَّوْتِ وَلَا يُنْكِرُهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد : قُلْت لِأَبِي : إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ هَؤُلَاءِ جهمية إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ . ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ . وَكَلَامُ " الْبُخَارِيِّ " فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَفَرْقٌ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ وَأَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ تَرْجَمَ فِي كِتَابِ الصَّحِيحِ بَابٌ فِي قَوْله تَعَالَى :

{ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } وَذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَهُوَ الْقَدَرُ . وَكَمَا أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " فَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ فِرَقِ الْأُمَّةِ ؛ فَإِنَّ جَمَاهِيرَ " الطَّوَائِفِ " يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ مَعَ نِزَاعِهِمْ فِي أَنَّ كَلَامَهُ هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ؟ قَدِيمٌ أَوْ حَادِثٌ ؟ أَوْ مَا زَالَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ ؟ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَالشِّيعَةِ وَأَكْثَرِ الْمُرْجِئَةِ والسالمية وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ : مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةِ . وَلَيْسَ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ إلَّا ابْنُ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَالَ : إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ إلَّا هُوَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَلَيْسَ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَالَ : إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَلَا إنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ صَوْتًا قَدِيمًا وَلَا إنَّ " الْقُرْآنَ " نَسْمَعُهُ نَحْنُ مِنْ اللَّهِ إلَّا طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْحَرْفَ الَّذِي هُوَ مِدَادُ الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ ؛ فَإِثْبَاتُ " الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ " بِمَعْنَى أَنَّ الْمِدَادَ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنْكَارُ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالصَّوْتِ وَجَعْلُ كَلَامِهِ مَعْنًى وَاحِدًا قَائِمًا بِالنَّفْسِ بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ " السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ " أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ

مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَإِنَّمَا قَالَ السَّلَفُ : " مِنْهُ بَدَأَ " لِأَنَّ الْجَهْمِيَّة - مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الْمَحَلِّ فَقَالَ السَّلَفُ : مِنْهُ بَدَأَ . أَيْ : هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ فَمِنْهُ بَدَأَ ؛ لَا مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ : " إلَيْهِ يَعُودُ " أَنَّهُ يُرْفَعُ مِنْ الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا مِنْهُ حَرْفٌ كَمَا جَاءَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ .

فَصْلٌ :
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَا يَثْبُتُ لِلَّهِ صِفَةٌ بِحَدِيثِ وَاحِدٍ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ .
أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ : لَا يَجُوزُ النَّفْيُ إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِثْبَاتُ إلَّا بِدَلِيلٍ . فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَائِلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَيَرُدُّ الْأَقْوَالَ الْمُبْتَدَعَةَ . قِيلَ لَهُ : قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَلَامٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ لَا صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ وَأَمَّا الْإِثْبَاتُ فَفِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ حِينَئِذٍ هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ؟ قَوْلُ الْمُثْبِتِ أَوْ النَّافِي ؟ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ تَكَلَّمَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا عَلَى النَّفْيِ وَأَنَّ قَوْلَ الْنُّفَاةِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِدَلَائِلِ الْعَقْلِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : " هَذِهِ الصِّفَةُ " دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِمُنَادَاتِهِ لِعِبَادِهِ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ } وَقَوْلِهِ : { وَيَوْمَ

يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } وَ " النِّدَاءُ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ صَوْتٌ رَفِيعٌ ؛ لَا يُطْلَقُ النِّدَاءُ عَلَى مَا لَيْسَ بِصَوْتِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ نَوْعًا مِنْ الصَّوْتِ فَالدَّالُّ عَلَى النَّوْعِ دَالٌّ عَلَى الْجِنْسِ بِالضَّرُورَةِ ؛ كَمَا لَوْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هُنَا إنْسَانًا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ هُنَا حَيَوَانًا .
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ صِفَةً ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ نَوْعٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَإِذَا كَانَ لَفْظُ الْقُرْآنِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ وَلَا الْقُدْرَةَ صِفَةٌ . وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ فَإِنَّ هَذِهِ أَنْوَاعٌ تَحْتَ جِنْسِ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُ هَذِهِ الصِّفَةِ بِمَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ - فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ - كَانَ مَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مُوَافِقًا لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصِّفَةُ ثَابِتَةً بِمُجَرَّدِ هَذَا الْخَبَرِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَكْلِيمِ مُوسَى وَسَمْعِ مُوسَى لِكَلَامِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِصَوْتِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ إلَّا الصَّوْتُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ عَنْ مُوسَى : { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا

وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } . فَفَرَّقَ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى ؛ كَمَا فَرَّقَ أَيْضًا بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَالتَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ؛ فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى إلْهَامًا أَلْهَمَهُ مُوسَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتًا لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْإِيحَاءِ إلَى غَيْرِهِ وَالتَّكْلِيمِ لَهُ فَلَمَّا فَرَّقَ الْقُرْآنُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَعُلِمَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى بِتَكْلِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي حَصَلَ لَهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامَاتِ وَمَا يُدْرَكُ بِالْقُلُوبِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مَسْمُوعٌ بِالْآذَانِ وَلَا يُسْمَعُ بِهَا إلَّا مَا هُوَ صَوْتٌ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ مُفَسِّرِي الْقُرْآنِ وَأَهْلَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنْ السَّلَفِ : كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ كَمَا فِي الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْهُمْ فِي الْكُتُبِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ السَّلَفِ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَمْثَالُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } وَتَفْسِيرُ كَلَامِ اللَّهِ لِمُوسَى وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَكَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد وَالْخَلَّالُ والطَّبَرَانِي وَأَبُو الشَّيْخِ وَغَيْرُهُمْ : فِي " كُتُبِ السُّنَّةِ " وَكَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ فِي " كُتُبِ الزُّهْدِ وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ " .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ
أَنْ يُقَالَ : الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ - مِنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ - دَلَّتْ عَلَى إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالصَّوْتِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَهُمْ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ : إنَّهُ اسْمٌ لِلَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى . وَقِيلَ : لِلْمَعْنَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ . وَقِيلَ : اسْمٌ لِكُلِّ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ . وَقِيلَ : اسْمٌ لَهُمَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ . وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْجُمْهُورِ فَإِذَا قِيلَ : تَكَلَّمَ فُلَانٌ : كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهَا أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } وَقَالَ : { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } وَقَالَ : { أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ : كَلِمَةُ لَبِيدٍ . أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ } وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ " فَالْكَلَامُ " إذَا أُطْلِقَ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا وَإِذَا سُمِّيَ الْمَعْنَى وَحْدَهُ كَلَامًا أَوْ اللَّفْظُ وَحْدَهُ كَلَامًا فَإِنَّمَا ذَاكَ مَعَ قَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ مَمْلُوءٌ مِنْ آيَاتِ الْكَلَامِ لِلَّهِ تَعَالَى ؛ فَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ إثْبَاتُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى لِلَّهِ .

الْوَجْهُ السَّادِسُ
أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ هُوَ الْمَعْنَى فَقَطْ وَالنَّظْمُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ كَانَ مَخْلُوقًا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا خُلِقَ فِي مَحَلٍّ كَانَ كَلَامًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ فَيَكُونُ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ كَلَامَ غَيْرِهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي بَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ أَعْلَمَ أُمَّتَهُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ النَّظْمُ الْعَرَبِيُّ مَخْلُوقًا لَمْ يَكُنْ كَلَامَ اللَّهِ ؛ فَيَكُونُ مَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ نَبِيِّهَا بَاطِلًا . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ حُجَجِ السُّنِّيَّةِ عَلَى الْجَهْمِيَّة مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ لَكَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْغَيْرِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَخْلُوقَةِ إذَا خَلَقَهَا اللَّهُ فِي مَحَلٍّ كَانَتْ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ إذْ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي مَحَلٍّ لَكَانَ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ . وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّ الْكَلَامَ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ : إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى كَلَامًا حَقِيقَةً امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَخْلُوقًا ؛ إذْ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ كَلَامًا لِلْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ .

وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ قُدَمَاءُ الْكُلَّابِيَة يَقُولُونَ : إنَّ " لَفْظَ الْكَلَامِ " مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ حُجَّتَهُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَيُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَكِنْ كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ إطْلَاقَ الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَعَلَى الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ ؛ فَعَلِمَ مُتَأَخِّرُوهُمْ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ بِالضَّرُورَةِ وَأَنَّ " اسْمَ الْكَلَامِ " يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ حَقِيقَةً فَجَعَلُوهُ مُشْتَرَكًا فَلَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا . فَهُمْ بَيْنَ مَحْذُورَيْنِ : إمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَإِمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ . وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتِهِمْ ؛ بَلْ الْكَلَامُ فِي نَفْسِ " الْقُرْآنِ " الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِأَنْ نُقَدِّرَ الْكَلَامَ فِي " الْقُرْآنِ " قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ إلَيْهِ وَيُبَلِّغَهُ إلَى الْخَلْقِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ - كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ دِينِ الْمُرْسَلِينَ - كَانَ هَذَا صَرِيحًا بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي وَأَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ خَلَقَ فِي غَيْرِهِ حُرُوفًا مُنَظَّمَةً دَلَّتْ عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِذَاتِهِ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ الْمُؤَلَّفَةَ لَيْسَتْ كَلَامَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا بِحَالِ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ تِلْكَ تُسَمَّى كَلَامًا حَقِيقَةً وَقَدْ خُلِقَتْ فِي غَيْرِهِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ فَلَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ قِيلَ : لَا يُسَمَّى كَلَامًا حَقِيقَةً كَانَ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مِنْ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ ضَرُورَةً . وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنَّ الْمَعْنَى وَحْدَهُ قَدْ يُسَمَّى كَلَامًا كَمَا قَدْ يُسَمَّى اللَّفْظُ وَحْدَهُ

كَلَامًا ؛ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ " لَفْظٌ وَمَعْنًى " هَلْ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ ؟ أَمْ لَفْظُهُ كَلَامُ اللَّهِ ؛ دُونَ مَعْنَاهُ ؟ أَمْ مَعْنَاهُ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ لَفْظِهِ ؟ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } كَانَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ : إنَّ مُحَمَّدًا إنَّمَا يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ مِنْ عَبْدٍ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لِسَانُ الَّذِي يُضِيفُونَ إلَيْهِ الْقُرْآنَ لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مُحَمَّدًا بَلَّغَ الْقُرْآنَ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ مَعَانٍ مُجَرَّدَةً ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ : تَلَقَّى مِنْ هَذَا الْأَعْجَمِيِّ مَعَانٍ صَاغَهَا بِلِسَانِهِ فَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } بَعْدَ قَوْلِهِ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ بِهَذَا اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ
أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَسَائِرَ الْكَلَامِ : يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَ الصَّحَابَةُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ وَتَارَةً يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ ؛ كَمَا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ

وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَكَمَا يُسْمَعُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ . ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُحَدِّثَ إذَا حَدَّثَ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } كَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ تَكَلَّمَ بِهِ بِصَوْتِهِ وَالْمُحَدِّثُ بَلَّغَهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ . ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُبَلِّغَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْثَالَهُ مِنْ النَّاطِقِينَ تَكَلَّمَ بِهِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ ؛ مَعَ إمْكَانِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِالْمَعْنَى وَإِمْكَانِ قِيَامِ أَلْفَاظٍ مَكَانَ أَلْفَاظٍ كَمَا حَكَى اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَقْوَالَ أُمَمٍ تَكَلَّمَتْ بِغَيْرِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُبَلَّغَ عَنْهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا بِمَعْنَى الْكَلَامِ وَعَبَّرَ عَنْهُ لَكَانَ كَالْأَخْرَسِ الَّذِي تَقُومُ بِذَاتِهِ الْمَعَانِي مِنْ غَيْرِ تَعْبِيرٍ عَنْهَا - حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهَا غَيْرُهُ بِعِبَارَةِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ " الْكَلَامَ " صِفَةُ كَمَالٍ تُنَافِي الْخَرَسَ . فَإِذَا كَانَ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْجَامِدَاتِ وَوَصَفَهُ بِالنَّقْصِ وَسَلَبَهُ الْكَمَالَ فَمَنْ قَالَ أَيْضًا : إنَّهُ لَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْمَعَانِي إلَّا بِعِبَارَةِ تَقُومُ بِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِعِبَارَةِ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَهَذَا قَوْلٌ يَسْلُبُهُ صِفَةَ الْكَمَالِ وَيَجْعَلُ غَيْرَهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ أَكْمَلَ مِنْهُ . وَقَدْ قُرِّرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ : أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ يَثْبُتُ لِمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ مَخْلُوقٌ ؛ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِالتَّنَزُّهِ عَنْهُ وَكَانَ هَذَا مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ

تَثْبُتُ لِخَلْقِهِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَكَانَتْ مَخْلُوقَاتُهُ أَكْمَلَ مِنْهُ . وَهَذَا بِعَيْنِهِ قَدْ احْتَجُّوا بِهِ فِي " مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ " وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي تَكَلُّمِهِ بِعِبَارَةِ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا . وَقَدْ اسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَاتَّصَفَ بِنَقَائِضِهَا وَهِيَ صِفَاتُ نَقْصٍ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْحَيَاةِ لَوُصِفَ بِالْمَوْتِ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْعِلْمِ لَوُصِفَ بِالْجَهْلِ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْكَلَامِ لَوُصِفَ بِالْخَرَسِ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ لَوُصِفَ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ . وَلِلْمَلَاحِدَةِ هُنَا " سُؤَالٌ مَشْهُورٌ " وَهُوَ : أَنَّ هَذِهِ الْمُتَقَابِلَاتِ لَيْسَتْ مُتَقَابِلَةً تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ - حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ نَفْيِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ - ؛ بَلْ هِيَ مُتَقَابِلَةٌ تُقَابِلُ " الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ " وَهُوَ : سَلْبُ الشَّيْءِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لَهُ ؛ كَعَدَمِ الْعَمَى عَنْ الْحَيَوَانِ الْقَابِلِ لَهُ ؛ فَأَمَّا الْجَمَادُ فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ عِنْدَهُمْ بِالْعَمَى وَلَا الْبَصَرِ لِعَدَمِ قَبُولِهِ لِوَاحِدِ مِنْ هَذَيْنِ . وَقَدْ أَعْيَا هَذَا السُّؤَالُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - حَتَّى أَبِي الْحَسَنِ الآمدي وَأَمْثَالِهِ : مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا جَوَابَ عَنْهُ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي أَجْوِبَتِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ " الْأَجْوِبَةِ " عَنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ : هَذَا أَبْلَغُ فِي النَّقْصِ ؛ فَإِنَّ مَا كَانَ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِالْبَصَرِ وَالْعَمَى وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْكَلَامِ وَالْخَرَسِ . فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّا لَا يَقْبَلُ وَاحِدًا مِنْهُمَا ؛ إذْ الْحَيَوَانُ أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادِ فَإِذَا كَانَ الِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ النَّقْصِ عَيْبًا مَعَ إمْكَانِ الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ؛ فَعَدَمُ

إمْكَانِ الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَعَدَمُ قَبُولِ ذَلِكَ أَعْظَمُ آفَةً وَعَيْبًا وَنَقْصًا . فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ
أَنْ يُقَالَ : " كَلَامُ اللَّهِ " إمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَلَمْ يَقُمْ بِذَاتِهِ كَلَامٌ - كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة : مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ قَائِمًا بِهِ . وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَدِلَّةِ بُطْلَانِهِ مِنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ كَثِيرَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ قَائِمًا بِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ : لَمْ يَقُمْ بِهِ إلَّا الْمَعْنَى كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعُهُ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِهِ الْمَعْنَى وَالْحُرُوفُ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ : أَمَّا ( أَوَّلًا فَلِأَنَّ " الْمَعْنَى الْوَاحِدَ " يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ مَدْلُولَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ . وَأَمَّا ( ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدَ لَا يُسْمَعُ وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَسْمُوعٌ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مُحَقِّقُو مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْكَلَامَ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعْنَى يَقُولُ : إنَّهُ لَا يُسْمَعُ وَلَكِنَّ " طَائِفَةً مِنْهُمْ " زَعَمَتْ أَنَّهُ يُسْمَعُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ : إنَّ السَّمْعَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَالرُّؤْيَةَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَالشَّمَّ وَالذَّوْقَ وَاللَّمْسَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ .

وَأَمَّا " ثَالِثًا " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ إلَّا مَعْنًى لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى وَإِيحَائِهِ إلَى غَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَالتَّكْلِيمِ إيحَاءً ؛ فَإِنَّ إيصَالَ مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ إلَى الْقُلُوبِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ بَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ : إنَّ الْوَاحِدَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ قَدْ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الْإِحْيَاءِ " وَنَحْوِهِ وَصَارَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْإِلْهَامَاتِ هِيَ مِثْلُ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ . وَدَخَلَتْ " الْفَلَاسِفَةُ " مِنْ هَذَا الْبَابِ فَزَعَمُوا أَنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ فَيْضٌ فَاضَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَأَنَّ " كَلَامَ اللَّهِ " لَيْسَ إلَّا مَا يَحْصُلُ فِي النُّفُوسِ مِنْ الْمُخَاطَبَاتِ كَمَا أَنَّ " الْمَلَائِكَةَ " مَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَحْصُلُ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ . فَجَعَلُوا تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مَنْ جِنْسِ مَنْ يَرَى رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يُكَلِّمُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى مُجَرَّدًا وَإِذَا كَانَ اللُّزُومُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عُلِمَ فَسَادُ اللَّازِمِ . وَأَمَا " رَابِعًا " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ إلَّا مُجَرَّدَ الْمَعَانِي لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْ الْخَالِقِ ؛ فَإِنَّا كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَّ أَكْمَلُ مِنْ الْمَيِّتِ وَأَنَّ الْعَالِمَ أَكْمَلُ مِنْ الْجَاهِلِ وَالْقَادِرَ أَكْمَلُ مِنْ الْعَاجِزِ وَالنَّاطِقَ أَكْمَلُ مِنْ الْأَخْرَسِ ؛ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النَّاطِقَ بِالْمَعَانِي وَالْحُرُوفِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ نَاطِقًا إلَّا بِالْمَعَانِي دُونَ الْحُرُوفِ وَإِذَا كَانَ

الرَّبُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَاتِ النَّقْصِ وَيَجِبَ اتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَمْتَنِعَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا لَا يَكُونُ لِلْخَالِقِ : امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْكَلَامِ النَّاقِصِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي اتِّصَافِهِ بِالْكَلَامِ التَّامِّ وَلِهَذَا كَانَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مُفَضَّلًا عَلَى غَيْرِهِ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ : كَلَّمَهُ كَلَامًا سَمِعَهُ مُوسَى مِنْ اللَّهِ فَكَانَ تَكْلِيمُهُ لَهُ بِصَوْتِهِ أَفْضَلَ مِمَّنْ أَوْحَى إلَى قَلْبِهِ مَعَانِيَ مُجَرَّدَةً لَمْ يَسْمَعْهَا بِأُذُنِهِ . وَأَمَا " خَامِسًا " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ إلَّا مَعْنًى مُجَرَّدًا لَكَانَ نِصْفُ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ وَنَصِفُهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ ؛ فَالْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ وَالْأَلْفَاظُ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَبَيْنَ مَا أَوْحَاهُ إلَى نَبِيِّهِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ ؛ لَيْسَ لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ مِنْهُ إلَّا التَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ فَهَذَا رَسُولُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا رَسُولُهُ مِنْ الْبَشَرِ . وَلِهَذَا أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً بِلَفْظِ الرَّسُولِ كَمَا قَالَ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } الْآيَةَ فَهَذَا مُحَمَّدٌ . وَقَالَ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فَهَذَا جِبْرِيلُ . وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الغالطين أَنَّ إضَافَتَهُ إلَى الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنَّهُ أَنْشَأَ حُرُوفَهُ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَفْظَهُ وَنَظْمَهُ امْتَنَعَ أَنْ

يَكُونَ الْآخَرُ الَّذِي أَنْشَأَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَضَافَهُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً : عُلِمَ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ ؛ لَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَهُ وَابْتَدَأَهُ لَا لَفْظَهُ وَلَا مَعْنَاهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَلَمْ يَقُلْ : لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ فَذَكَرَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الرَّسُولِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ يُبَلِّغُ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وَفِي السُّنَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ قَوْلَهُ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } عَائِدٌ إلَى الْقُرْآنِ ؛ فَتَنَاوُلُهُ لِلَّفْظِ كَتَنَاوُلِهِ لِلْمَعْنَى وَ " الْقُرْآنُ " اسْمٌ لَهُمَا جَمِيعًا ؛ وَلِهَذَا إذَا فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُ وَتَرْجَمَهُ الْمُتَرْجِمُ : لَمْ يَقُلْ لِتَفْسِيرِهِ وَتَرْجَمَتِهِ : إنَّهُ " قُرْآنٌ " بَلْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ لِكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِتَفْسِيرِهِ وَكَذَلِكَ تَرْجَمَتُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْقَوْلُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قِيلَ : إنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَقِيلَ : إنَّهُ مَشْرُوطٌ بِتَسْمِيَةِ التَّرْجَمَةِ قُرْآنًا . وَبِكُلِّ حَالٍ فَتَجْوِيزُ إقَامَةِ التَّرْجَمَةِ مَقَامَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يَقْتَضِي تَنَاوُلَ اسْمِهِ لَهَا ؛ كَمَا أَنَّ " الْقِيمَةَ " إذَا أُخْرِجَتْ مِنْ الزَّكَاةِ عَنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَمْ تُسَمَّ إبِلًا وَلَا بَقَرًا وَلَا غَنَمًا ؛ بَلْ تُسَمَّى بِاسْمِهَا كَائِنَةً مَا كَانَتْ . وَكَذَلِكَ " لَفْظُ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ " إذَا عَدَلَ عَنْهُ إلَى لَفْظِ التَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ وَقِيلَ : إنَّ الصَّلَاةَ تَنْعَقِدُ بِذَلِكَ - كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ - لَمْ يَقُلْ : إنَّ ذَلِكَ لَفْظُ تَكْبِيرٍ

فَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ أَنَّا تَرْجَمْنَا الْقُرْآنَ تَرْجَمَةً جَائِزَةً لَمْ يَقُلْ : إنَّ التَّرْجَمَةَ " قُرْآنٌ " وَلَمْ نُسَمِّهَا " قُرْآنًا " فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ إنَّمَا كَانَ كَلَامَ اللَّهِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى فَقَطْ وَلَفْظُهُ وَنَظْمُهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ ؛ بَلْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ كَانَ مَا شَارَكَ هَذَا اللَّفْظَ وَالنَّظْمَ مِنْ الدَّلَالَةِ مُشَارِكًا لَهُ فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ ؛ فَكَانَ يَجِبُ تَسْمِيَتُهُ " قُرْآنًا " وَإِثْبَاتُ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَهُ ؛ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ
أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْل الْبَشَرِ وَوَعَدَهُ أَنَّهُ سَيُصْلِيهِ سَقَرَ فِي قَوْلِهِ : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } - إلَى قَوْلِهِ - : { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ نَظَرَ } { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } { فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ : { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } كَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنَّ الْبَشَرَ بَلَّغُوهُ عَنْ غَيْرِهِمْ كَمَا يَتَعَلَّمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا بَاطِلًا وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْبَشَرَ أَحْدَثُوهُ وَأَنْشَئُوهُ عَنْهُ . فَمَنْ جَعَلَ " لَفْظَهُ وَنَظْمَهُ " مِنْ إحْدَاثِ مُحَمَّدٍ فَقَدْ جَعَلَ نِصْفَهُ قَوْلَ الْبَشَرِ ؛ وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ إحْدَاثِ جِبْرِيلَ فَقَدْ جَعَلَ نِصْفَهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ جَعَلَهُ

مَخْلُوقًا فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ جَعَلَهُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْهَوَاءِ . وَكَفَّرَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُ الْمَلَكِ أَوْ قَوْلُ الْهَوَاءِ أَوْ الشَّجَرِ ؛ بَلْ كَفَرَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ : لَا " لَفْظُهُ وَلَا مَعْنَاهُ " مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا مِنْ كَلَامِهِ بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَيْضًا فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ : { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } لَا تَعُودُ إلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ ؛ بَلْ إلَيْهِمَا .
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ
وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } . الضَّمِيرُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لَا سِيَّمَا مَا فِي قَوْلِهِ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ } فَإِنَّ الْكِتَابَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : " إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْمَعْنَى دُونَ الْحُرُوفِ " اسْمٌ لِلنَّظْمِ الْعَرَبِيِّ وَالْكَلَامُ عِنْدَهُ اسْمٌ لِلْمَعْنَى وَالْقُرْآنُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ؛ فَلَفْظُ الْكِتَابِ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ الْعَرَبِيَّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّ { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ } عُلِمَ أَنَّ النَّظْمَ الْعَرَبِيَّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ السَّلَفُ : إنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ . وَهَذَا " جَوَابٌ مُخْتَصَرٌ " عَنْ سُؤَالِ السَّائِلِ بِحَسَبِ مَا احْتَمَلَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ ؛ إذْ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ وَالْعَابِدُ النُّورَانِيُّ ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
مَا تَقُولُ فِي " الْعَرْشِ " هَلْ هُوَ كُرَوِيٌّ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ كُرَوِيًّا وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ مُحِيطٌ بِهِ بَائِنٌ عَنْهُ فَمَا فَائِدَةُ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى حِينَ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ فَيَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ غَيْرِهِ وَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ وَقْتَ الدُّعَاءِ بَيْنَ قَصْدِ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي تُحِيطُ بِالدَّاعِي وَمَعَ هَذَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا قَصْدًا يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً . فَأَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا ؛ وَقَدْ فُطِرْنَا عَلَيْهَا . وَابْسُطْ لَنَا الْجَوَابَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا شَافِيًا : يُزِيلُ الشُّبْهَةَ وَيُحَقِّقُ الْحَقَّ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَدَامَ اللَّهُ النَّفْعَ بِكُمْ وَبِعُلُومِكُمْ آمِينَ .
فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا نَصُّهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِثَلَاثِ مَقَامَاتٍ .

أَحَدُهَا أَنَّهُ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلِ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنَّ " الْعَرْشَ " فَلَكٌ مِنْ الْأَفْلَاكِ الْمُسْتَدِيرَةِ الْكُرَوِيَّةِ الشَّكْلِ ؛ لَا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ . وَلَا بِدَلِيلِ عَقْلِيٍّ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي " عِلْمِ الْهَيْئَةِ " وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْفَلْسَفَةِ فَرَأَوْا أَنَّ الْأَفْلَاكَ تِسْعَةٌ وَأَنَّ التَّاسِعَ - وَهُوَ الْأَطْلَسُ - مُحِيطٌ بِهَا مُسْتَدِيرٌ كَاسْتِدَارَتِهَا وَهُوَ الَّذِي يُحَرِّكُهَا الْحَرَكَةَ الْمَشْرِقِيَّةَ وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ فَلَكٍ حَرَكَةً تَخُصُّهُ غَيْرُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ الْعَامَّةِ ثُمَّ سَمِعُوا فِي أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ ذِكْرَ " عَرْشِ اللَّهِ " وَذِكْرَ " كُرْسِيِّهِ " وَذِكْرَ " السَّمَوَاتِ السَّبْعِ " فَقَالُوا بِطَرِيقِ الظَّنِّ إنَّ " الْعَرْشَ " هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ التَّاسِعِ شَيْءٌ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهُ مَخْلُوقٌ . ثُمَّ إنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ " التَّاسِعَ " هُوَ الَّذِي يُحَرِّكُ الْأَفْلَاكَ كُلَّهَا ؛ فَجَعَلُوهُ مَبْدَأَ الْحَوَادِثِ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ فِيهِ مَا يُقَدِّرُهُ فِي الْأَرْضِ أَوْ يُحْدِثُهُ فِي " النَّفْسِ " الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ ؛ أَوْ فِي " الْعَقْلِ " الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ هَذَا الْفَلَكُ وَرُبَّمَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ الرُّوحَ وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ " النَّفْسَ " هِيَ الرُّوحَ وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ " النَّفْسَ " هِيَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا جَعَلَ " الْعَقْلَ " هُوَ الْقَلَمَ . وَتَارَةً يَجْعَلُونَ " الرُّوحَ " هُوَ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ الْعَاشِرَ الَّذِي لِفَلَكِ الْقَمَرِ

وَ " النَّفْسَ " الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ وَرُبَّمَا جَعَلُوا ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ كَالدِّمَاغِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِنْسَانِ يُقَدِّرُ فِيهِ مَا يَفْعَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ الَّتِي قَدْ شَرَحْنَاهَا وَبَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَيَكُونُ كَاذِبًا فِيمَا يَدَّعِيهِ وَإِنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ تَقْلِيدًا لَهُمْ أَوْ مُوَافَقَةً لَهُمْ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ ؛ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالُهُمْ . وَقَدْ يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِهِ مَا تَقَلَّدَهُ عَنْ غَيْرِهِ فَيَظُنُّهُ كَشْفًا كَمَا يَتَخَيَّلُ النَّصْرَانِيُّ " التَّثْلِيثَ " الَّذِي يَعْتَقِدُهُ وَقَدْ يَرَى ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ فَيَظُنُّهُ كَشْفًا وَإِنَّمَا هُوَ تَخَيُّلٌ لِمَا اعْتَقَدَهُ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ إذَا ارْتَاضُوا صَقَلَتْ الرِّيَاضَةُ نُفُوسَهُمْ فَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ اعْتِقَادَاتُهُمْ فَيَظُنُّونَهَا كَشْفًا . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ " الْعَرْشَ " هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ : قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لَا عَقْلِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ . أَمَّا " الْعَقْلِيُّ " فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْفَلَاسِفَةِ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ الْفَلَكِ التَّاسِعِ شَيْءٌ آخَرُ ؛ بَلْ وَلَا قَامَ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَفْلَاكَ هِيَ تِسْعَةٌ فَقَطْ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ دَلَّتْهُمْ الْحَرَكَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ والكسوفات وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِهِ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَا ثُبُوتَهُ وَلَا انْتِفَاءَهُ .

" مِثَالُ ذَلِكَ " أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ هَذَا الْكَوْكَبَ تَحْتَ هَذَا ؛ بِأَنَّ السُّفْلِيَّ يَكْسِفُ الْعُلْوِيَّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ ؛ فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي فَلَكٍ فَوْقَهُ . كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْحَرَكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُخْتَلِفَةٌ . حَتَّى جَعَلُوا فِي الْفَلَكِ الْوَاحِدِ عِدَّةَ أَفْلَاكٍ ؛ كَفَلَكِ التَّدْوِيرِ وَغَيْرِهِ . فَأَمَّا مَا كَانَ مَوْجُودًا فَوْقَ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ : فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ نَفْيَهُ وَلَا إثْبَاتَهُ بِطَرِيقِهِمْ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ حَرَكَةَ " التَّاسِعِ " مَبْدَأُ الْحَوَادِثِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ عَلَى أُصُولِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ " الثَّامِنَ " لَهُ حَرَكَةٌ تَخُصُّهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِتِ وَلِتِلْكَ الْحَرَكَةِ قُطْبَانِ غَيْرُ قُطْبَيْ " التَّاسِعِ " وَكَذَلِكَ " السَّابِعُ " وَ " السَّادِسُ " . وَإِذَا كَانَ لِكُلِّ فَلَكٍ حَرَكَةٌ تَخُصُّهُ - وَالْحَرَكَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ هِيَ سَبَبُ الْأَشْكَالِ الْحَادِثَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَتِلْكَ الْأَشْكَالُ سَبَبُ الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ - كَانَتْ حَرَكَةُ التَّاسِعِ جُزْءَ السَّبَبِ كَحَرَكَةِ غَيْرِهِ . فَالْأَشْكَالُ الْحَادِثَةُ فِي الْفَلَكِ - لِمُقَارَنَةِ الْكَوْكَبِ الْكَوْكَبَ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَمُقَابَلَتُهُ لَهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا " نِصْفُ الْفَلَكِ " وَهُوَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ دَرَجَةً . وَتَثْلِيثُهُ لَهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا " ثُلُثُ الْفَلَكِ " وَهُوَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً وَتَرْبِيعُهُ لَهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا " رُبُعُهُ " تِسْعُونَ دَرَجَةً وَتَسْدِيسُهُ لَهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا " سُدُسُ الْفَلَكِ " سِتُّونَ دَرَجَةً ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْكَالِ - إنَّمَا حَدَثَتْ بِحَرَكَاتِ مُخْتَلِفَةٍ وَكُلُّ حَرَكَةٍ لَيْسَتْ عَيْنَ الْأُخْرَى ؛ إذْ حَرَكَةُ " الثَّامِنِ " الَّتِي تَخُصُّهُ لَيْسَتْ عَيْنَ

حَرَكَةِ التَّاسِعِ ؛ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِي الْحَرَكَةِ الْكُلِّيَّةِ كَالْإِنْسَانِ الْمُتَحَرِّكِ فِي السَّفِينَةِ إلَى خِلَافِ حَرَكَتِهَا . وَكَذَلِكَ حَرَكَةُ " السَّابِعِ " الَّتِي تَخُصُّهُ لَيْسَتْ عَنْ التَّاسِعِ وَلَا عَنْ الثَّامِنِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَفْلَاكِ فَإِنَّ حَرَكَةَ كُلِّ وَاحِدٍ الَّتِي تَخُصُّهُ لَيْسَتْ عَمَّا فَوْقَهُ مِنْ الْأَفْلَاكِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَبْدَأُ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا مُجَرَّدَ حَرَكَةِ التَّاسِعِ كَمَا زَعَمَهُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعَرْشَ كَثِيفٌ وَالْفَلَكُ التَّاسِعُ عِنْدَهُمْ بَسِيطٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ ؛ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَصْلًا فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِأُمُورِ مُخْتَلِفَةٍ . لَا بِاعْتِبَارِ الْقَوَابِلِ وَأَسْبَابٍ أُخَرَ ؟ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ ضَالُّونَ يَجْعَلُونَهُ مَعَ هَذَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ دَرَجَةً وَيَجْعَلُونَ لِكُلِّ دَرَجَةٍ مِنْ الْأَثَرِ مَا يُخَالِفُ الْأُخْرَى ؛ لَا بِاخْتِلَافِ الْقَوَابِلِ ؛ كَمَنْ يَجِيءُ إلَى مَاءٍ وَاحِدٍ فَيَجْعَلُ لِبَعْضِ جُزْأَيْهِ مِنْ الْأَثَرِ مَا يُخَالِفُ الْآخَرَ ؛ لَا بِحَسَبِ الْقَوَابِلِ ؛ بَلْ يَجْعَلُ أَحَدَ أَجْزَائِهِ مُسَخَّنًا وَالْآخَرَ مُبَرَّدًا وَالْآخَرَ مُسْعَدًا وَالْآخَرَ مشقيا وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُونَ هُمْ وَكُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ . وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَنْفِي وُجُودَ شَيْءٍ آخَرَ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ كَانَ الْجَزْمُ بِأَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ هُوَ أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَقَوْلًا بِلَا عِلْمٍ . هَذَا كُلُّهُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْهَيْئَةِ ؛ إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ وَالِاضْطِرَابِ وَفِي أَدِلَّةِ ذَلِكَ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ عَلَى

هَذَا التَّقْدِيرِ . وَأَيْضًا : فَالْأَفْلَاكُ فِي أَشْكَالِهَا وَإِحَاطَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ؛ فَنِسْبَةُ السَّابِعِ إلَى السَّادِسِ كَنِسْبَةِ السَّادِسِ إلَى الْخَامِسِ ؛ وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ فَلَكٌ تَاسِعٌ فَنِسْبَتُهُ إلَى الثَّامِنِ كَنِسْبَةِ الثَّامِنِ إلَى السَّابِعِ . وَأَمَّا " الْعَرْشُ " فَالْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى مُبَايَنَتِهِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ نِسْبَتُهُ إلَى بَعْضِهَا كَنِسْبَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } الْآيَةَ . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ لِلْعَرْشِ حَمَلَةً الْيَوْمَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ حَمَلَتَهُ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيَامَ فَلَكٍ مِنْ الْأَفْلَاكِ - بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى - كَقِيَامِ سَائِرِ الْأَفْلَاكِ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كُرَةٍ وَكُرَةٍ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ لِبَعْضِهَا مَلَائِكَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ تَحْمِلُهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ نَظِيرِهِ . قَالَ تَعَالَى { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } الْآيَةَ . فَذَكَرَ هُنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ لَهُ حَمْلَةً وَجَمَعَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ بَيْنَ حَمَلَتِهِ وَمَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } . وَ " أَيْضًا " فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ عَرْشَهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ } وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِ صَحِيحَةٍ : { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ كَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ } وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } . وَهَذَا التَّقْدِيرُ بَعْدَ وُجُودِ الْعَرْشِ وَقَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَمَدِّحٌ بِأَنَّهُ ذُو الْعَرْشِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } وقَوْله تَعَالَى { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } وَقَدْ قُرِئَ " الْمَجِيدُ " بِالرَّفْعِ صِفَةً لِلَّهِ ؛ وَقُرِئَ بِالْخَفْضِ صِفَةَ الْعَرْشِ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } فَوَصَفَ الْعَرْشَ بِأَنَّهُ مَجِيدٌ وَأَنَّهُ عَظِيمٌ وَقَالَ

تَعَالَى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ أَيْضًا . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } فَوَصَفَهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ وَكَرِيمٌ أَيْضًا . فَقَوْلُ الْقَائِلِ الْمُنَازِعِ : " إنَّ نِسْبَةَ الْفَلَكِ الْأَعْلَى إلَى مَا دُونَهُ كَنِسْبَةِ الْآخَرِ إلَى مَا دُونَهُ " . لَوْ كَانَ الْعَرْشُ مِنْ جِنْسِ الْأَفْلَاكِ لَكَانَتْ نِسْبَتُهُ إلَى مَا دُونَهُ كَنِسْبَةِ الْآخَرِ إلَى مَا دُونَهُ وَهَذَا لَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ الْجِنْسِ وَتَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ ؛ كَمَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَخْصِيصَ سَمَاءٍ دُونَ سَمَاءٍ وَإِنْ كَانَتْ الْعُلْيَا بِالنِّسْبَةِ إلَى السُّفْلَى كَالْفَلَكِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ . وَإِنَّمَا امْتَازَ عَمَّا دُونَهُ بِكَوْنِهِ أَكْبَرَ كَمَا تَمْتَازُ السَّمَاءُ الْعُلْيَا عَنْ الدُّنْيَا . بَلْ نِسْبَةُ السَّمَاءِ إلَى الْهَوَاءِ وَنِسْبَةُ الْهَوَاءِ إلَى الْمَاءِ وَالْأَرْضِ : كَنِسْبَةِ فَلَكٍ إلَى فَلَكٍ . وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَخُصَّ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ عَمَّا يَلِيهِ بِالذِّكْرِ ؛ وَلَا بِوَصْفِهِ بِالْكَرَمِ وَالْمَجْدِ وَالْعَظَمَةِ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِذَوَاتِهَا وَلَا لِحَرَكَاتِهَا بَلْ لَهَا حَرَكَاتٌ تَخُصُّهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : حَرَكَتُهُ هِيَ سَبَبُ الْحَوَادِثِ ؛ بَلْ إنْ كَانَتْ حَرَكَةُ الْأَفْلَاكِ سَبَبًا لِلْحَوَادِثِ فَحَرَكَاتُ غَيْرِهِ الَّتِي تَخُصُّهُ أَكْثَرَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُحِيطًا بِهَا أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ مَجْمُوعِهَا إلَّا إذَا كَانَ لَهُ مِنْ الْغِلَظِ مَا يُقَاوِمُ ذَلِكَ ؛ وَإِلَّا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ

الْغَلِيظَ إذْ كَانَ مُتَقَارِبًا فَمَجْمُوعُ الدَّاخِلِ أَعْظَمُ مِنْ الْمُحِيطِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ بِقَدْرِهِ أَضْعَافًا ؛ بَلْ الْحَرَكَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ الَّتِي لَيْسَتْ عَنْ حَرَكَتِهِ أَكْثَرُ لَكِنَّ حَرَكَتَهُ تَشْمَلُهَا كُلَّهَا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَكَانَتْ تُسَبِّحُ بِالْحَصَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَى وَقْتِ الضُّحَى فَقَالَ : لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قلتيه لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَى نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ زِنَةَ الْعَرْشِ أَثْقَلُ الْأَوْزَانِ . وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْفَلَكَ التَّاسِعَ لَا خَفِيفَ وَلَا ثَقِيلَ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَحْدَهُ أَثْقَلُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ كَمَا أَنَّ عَدَدَ الْمَخْلُوقَاتِ أَكْثَرُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ ؛ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِك لَطَمَ وَجْهِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُوهُ فَدَعَوْهُ فَقَالَ : لِمَ لَطَمْت وَجْهَهُ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مَرَرْت بِالسُّوقِ وَهُوَ يَقُولُ : وَاَلَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فَقُلْت : يَا خَبِيثُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ ؟ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْته . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذًا بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَتِهِ } فَهَذَا فِيهِ بَيَانُ أَنَّ لِلْعَرْشِ قَوَائِمَ ؛ وَجَاءَ ذِكْرُ الْقَائِمَةِ بِلَفْظِ السَّاقِ وَالْأَقْوَالُ مُتَشَابِهَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ .

وَقَدْ أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ } قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرِ : إنَّ الْبَرَاءَ يَقُولُ اهْتَزَّ السَّرِيرُ قَالَ : إنَّهُ كَانَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ضَغَائِنُ : سَمِعْت نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ - وَجِنَازَةُ سَعْدٍ مَوْضُوعَةٌ - : اهْتَزَّ لَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ } . وَعِنْدَهُمْ أَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ التَّاسِعِ دَائِمَةٌ مُتَشَابِهَةٌ وَمَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اسْتِبْشَارُ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَفَرَحُهُمْ ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى مَا قَالَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الطبري وَغَيْرُهُ مَعَ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ وَلَفْظَهُ يَنْفِي هَذَا الِاحْتِمَالَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ؛ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُبَشِّرُ النَّاسَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ : إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ كُلُّ دَرَجَتَيْنِ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ : يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا : وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ . فَقَالَ : أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفَعَلَ . قَالَ : وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : { إنَّ أُمَّ الرَّبِيعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ - وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ - أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تُحَدِّثَنِي عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ - فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْت وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ اجْتَهَدْت عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ . قَالَ : يَا أُمَّ حَارِثَةَ إنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَك أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى } . فَهَذَا قَدْ بُيِّنَ فِي " الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ " أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْفِرْدَوْسِ الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا وَأَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا ؛ وَ " الْحَدِيثُ الثَّانِي " يُوَافِقُهُ فِي وَصْفِ الدَّرَجِ الْمِائَةِ وَ " الْحَدِيثُ الثَّالِثُ " يُوَافِقُهُ فِي أَنَّ الْفِرْدَوْسَ أَعْلَاهَا . وَإِذَا كَانَ الْعَرْشُ فَوْقَ الْفِرْدَوْسِ فَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي هَذَا مِنْ الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْهَيْئَةِ ؛ إذْ لَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ أَنَّ بَيْنَ التَّاسِعِ وَالْأَوَّلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِائَةَ مَرَّةٍ وَعِنْدَهُمْ أَنْ التَّاسِعَ مُلَاصِقٌ لِلثَّامِنِ فَهَذَا قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْفِرْدَوْسِ الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا . وَفِي حَدِيثِ { أَبِي ذَرٍّ الْمَشْهُورِ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَا أُنْزِلَ عَلَيْك

أَعْظَمُ ؟ قَالَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إلَّا كَحَلْقَةِ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ } وَالْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُمَا . وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ " الْعَرْشَ مُقَبَّبٌ " بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ : { أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جهدت الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك ؛ فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ وَيْحَك أَتَدْرِي مَا تَقُولُ ؟ إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ ؛ وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ هَكَذَا - وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ } - وَفِي لَفْظٍ : { وَإِنَّ عَرْشَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَسَمَوَاتُهُ فَوْقَ أَرْضِهِ هَكَذَا - وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ - وَإِنْ دَلَّ عَلَى التَّقْبِيبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَنْ الْفِرْدَوْسِ إنَّهَا أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا مَعَ قَوْلِهِ إنَّ سَقْفَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَإِنَّ فَوْقَهَا عَرْشَ الرَّحْمَنِ وَالْأَوْسَطُ لَا يَكُونُ الْأَعْلَى إلَّا فِي الْمُسْتَدِيرِ فَهَذَا - لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَلَكٌ مِنْ الْأَفْلَاكِ بَلْ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ كُلِّهَا أَمْكَنَ هَذَا فِيهِ سَوَاءٌ قَالَ الْقَائِلُ إنَّهُ مُحِيطٌ بِالْأَفْلَاكِ أَوْ قَالَ إنَّهُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحِيطًا بِهَا كَمَا أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ فَوْقَ النِّصْفِ الْأَعْلَى مِنْ الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِذَلِكَ .

وَقَدْ قَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ : السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَلَكَ مُسْتَدِيرٌ مِثْلُ ذَلِكَ لَكِنَّ لَفْظَ الْقُبَّةِ يَسْتَلْزِمُ اسْتِدَارَةً مِنْ الْعُلُوِّ وَلَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِدَارَةً مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ إلَّا بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ . وَلَفْظُ " الْفَلَكِ " يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ مُطْلَقًا ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وقَوْله تَعَالَى { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي فَلَكٍ مُسْتَدِيرٍ مُطْلَقًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي فَلْكَةٍ مِثْلُ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ . وَأَمَّا لَفْظُ " الْقُبَّةِ " فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِهَذَا الْمَعْنَى ؛ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ ؛ لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ مِنْ الْعُلُوِّ ؛ كَالْقُبَّةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْأَرْضِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْأَفْلَاكَ غَيْرُ السَّمَوَاتِ لَكِنْ رَدَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الْفَلَكِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ الْكَلَامِ فِي هَذَا . وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ فِيهِ وَبَيَانُ أَنَّ مَا عُلِمَ بِالْحِسَابِ - عِلْمًا صَحِيحًا - لَا يُنَافِي مَا جَاءَ بِهِ السَّمْعُ وَأَنَّ الْعُلُومَ السَّمْعِيَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تُنَافِي مَعْقُولًا صَحِيحًا ؛ إذْ قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ

فِي هَذَا وَنَظَائِرِهِ مِمَّا قَدْ أُشْكِلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ ؛ حَيْثُ يَرَوْنَ مَا يُقَالُ : إنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ مُخَالِفًا لِمَا يُقَالُ إنَّهُ مَعْلُومٌ بِالسَّمْعِ ؛ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ كَذَّبَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِعِلْمِهِ ؛ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِقَوْمِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنْ تَكَلَّمُوا فِي مُعَارَضَةِ الْفَلَاسِفَةِ فِي " الْأَفْلَاكِ " بِكَلَامِ لَيْسَ مَعَهُمْ بِهِ حُجَّةٌ ؛ لَا مِنْ شَرْعٍ وَلَا مِنْ عَقْلٍ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنْ نَصْرِ الشَّرِيعَةِ وَكَانَ مَا جَحَدُوهُ مَعْلُومًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَيْضًا . وَأَمَّا " الْمُتَفَلْسِفَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ " فَغَايَتُهُمْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ وَلَا يَعْلَمُونَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ ؛ مِثْلُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْبُخَارَ الْمُتَصَاعِدَ يَنْعَقِدُ سَحَابًا وَأَنَّ السَّحَابَ إذَا اصْطَكَّ حَدَثَ عَنْهُ صَوْتٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَكِنْ عِلْمُهُمْ بِهَذَا كَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَنِيَّ يَصِيرُ فِي الرَّحِمِ لَكِنْ مَا الْمُوجِبُ لِأَنْ يَكُونَ الْمَنِيُّ الْمُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ تُخْلَقُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ وَالْمَنَافِعُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ الَّذِي فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا بَهَرَ الْأَلْبَابَ . وَكَذَلِكَ مَا الْمُوجِبُ لِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْهَوَاءُ أَوْ الْبُخَارُ مُنْعَقِدًا سَحَابًا مُقَدَّرًا بِقَدْرِ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ عَلَى مَكَانٍ مُخْتَصٍّ بِهِ ؟ وَيَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ فَيَسْقِيهِمْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لَا يَزِيدُ فَيَهْلَكُوا وَلَا يَنْقُصُ فَيَعُوزُوا وَمَا الْمُوجِبُ لِأَنْ يُسَاقَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ الَّتِي لَا تُمْطِرُ أَوْ تُمْطِرُ مَطَرًا لَا يُغْنِيهَا - كَأَرْضِ مِصْرَ إذْ كَانَ الْمَطَرُ الْقَلِيلُ لَا يَكْفِيهَا وَالْكَثِيرُ يَهْدِمُ أَبْنِيَتَهَا - قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ } .

وَكَذَلِكَ السَّحَابُ الْمُتَحَرِّكُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ " قَسْرِيَّةً " وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْقَاسِرِ أَوْ " طَبِيعِيَّةً " وَإِنَّمَا تَكُونُ إذَا خَرَجَ الْمَطْبُوعُ عَنْ مَرْكَزِهِ فَيُطْلَبُ عَوْدُهُ إلَيْهِ ؛ أَوْ " إرَادِيَّةً " وَهِيَ الْأَصْلُ فَجَمِيعُ الْحَرَكَاتِ تَابِعَةٌ لِلْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ الْمُدَبِّرَاتُ أَمْرًا وَالْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَفِي الْمَعْقُولِ مَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ . فَالْكَلَامُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ زَائِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْجَوَابِ مَبْنِيًّا عَلَى حُجَجٍ عِلْمِيَّةٍ لَا تَقْلِيدِيَّةٍ وَلَا مُسَلَّمَةٍ وَإِذَا بَيَّنَّا حُصُولَ الْجَوَابِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ - كَمَا سَنُوَضِّحُهُ - لَمْ يُضِرْنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ التَّقْدِيرَاتِ هُوَ الْوَاقِعُ - وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ ذَلِكَ - لَكِنَّ تَحْرِيرَ الْجَوَابِ عَلَى تَقْدِيرٍ دُونَ تَقْدِيرٍ وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ فِيهِ طُولٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ هُنَا ؛ فَإِنَّ الْجَوَابَ إذَا كَانَ حَاصِلًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ كَانَ أَحْسَنَ وَأَوْجَزَ .
الْمَقَامُ الثَّانِي :
أَنْ يُقَالَ " الْعَرْشُ " سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ أَوْ جِسْمًا مُحِيطًا بِالْفَلَكِ التَّاسِعِ أَوْ كَانَ فَوْقَهُ مِنْ جِهَةِ وَجْهِ الْأَرْضِ غَيْرِ مُحِيطٍ بِهِ أَوْ قِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ تَعَالَى فِي غَايَةِ الصِّغَرِ

كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقْبِضُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ - وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمِ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقْبِضُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ - وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمِ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ ؛ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؛ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ ؛ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؛ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مقسم أَنَّهُ نَظَرَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ يَحْكِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَأْخُذُ اللَّهُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا أَنَا الْمَلِكُ حَتَّى نَظَرْت إلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّك مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إنِّي أَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }

وَفِي لَفْظٍ { قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ : يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ . وَقَبَضَ بِيَدِهِ وَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا وَيَقُولُ : أَنَا الرَّحْمَنُ ؛ أَنَا الْمَلِكُ ؛ أَنَا الْقُدُّوسُ ؛ أَنَا السَّلَامُ ؛ أَنَا الْمُؤْمِنُ ؛ أَنَا الْمُهَيْمِنُ ؛ أَنَا الْعَزِيزُ ؛ أَنَا الْجَبَّارُ ؛ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ ؛ أَنَا الَّذِي بَدَأْت الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا ؛ أَنَا الَّذِي أَعَدْتهَا . أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ : } وَفِي لَفْظٍ { أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ وَيَمِيلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَمِينِهِ وَعَلَى شَمَالِهِ حَتَّى نَظَرْت إلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّك مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَالْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحِ وَالْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهَا بِأَلْفَاظِ يَصْدُقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ؛ وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ قَالَ : قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الْآيَةَ . قَالَ : { مَطْوِيَّةٌ فِي كَفِّهِ يَرْمِي بِهَا كَمَا يَرْمِي الْغُلَامُ بِالْكُرَةِ } وَفِي لَفْظٍ : { يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ فَيَجْعَلُهَا فِي كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ بِهِمَا هَكَذَا كَمَا تَقُولُ الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ . أَنَا اللَّهُ الْوَاحِدُ } . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " يَقْبِضُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا فَمَا تَرَى طَرَفَاهُمَا بِيَدِهِ " وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ : " مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ " وَهَذِهِ الْآثَارُ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إصْبَعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى إصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إصْبَعٍ ؛ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إصْبَعٍ ؛ فَيَهُزُّهُنَّ . فَيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ قَالَ : فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } الْآيَةَ } . فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ - الْمُفَسِّرَةِ لَهَا الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهَا وَتَلَقِّيهَا بِالْقَبُولِ - مَا يُبَيِّنُ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَصْغَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَعَ قَبْضِهِ لَهَا إلَّا كَالشَّيْءِ الصَّغِيرِ فِي يَدِ أَحَدِنَا حَتَّى يَدْحُوَهَا كَمَا تُدْحَى الْكُرَةُ . قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون الْإِمَامُ نَظِيرُ مَالِكٍ - فِي كَلَامِهِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَمَنْ خَالَفَهَا وَمَنْ أَوَّلَ كَلَامَهُ قَالَ - فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا فَقَدْ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ فَصَارَ يَسْتَدِلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ : لَا بُدَّ إنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَذَا ؛ فَعَمِيَ عَنْ الْبَيِّنِ بِالْخَفِيِّ فَجَحَدَ مَا سَمَّى الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِصَمْتِ الرَّبِّ عَمَّا لَمَّ يُسَمَّ مِنْهَا فَلَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } { إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فَقَالَ : لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ فَجَحَدَ - وَاَللَّهِ - أَفْضَلَ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ وَنَضْرَتِهِ

إيَّاهُمْ { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } وَقَدْ قَضَى أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ يَنْضُرُونَ . إلَى أَنْ قَالَ : وَإِنَّمَا جَحَدَ رُؤْيَةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ الضَّالَّةِ الْمُضِلَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ إذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنِينَ وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا . { وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَذَلِكَ } . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَمْتَلِئُ النَّارُ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطُّ قَطُّ وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ } . { وَقَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ : قَدْ ضَحِكَ اللَّهُ مِمَّا فَعَلْت بِضَيْفِك الْبَارِحَةَ } وَقَالَ - فِيمَا بَلَغَنَا عَنْهُ - { إنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ مِنْ أَزَلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَةِ إجَابَتِكُمْ } . { وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ إنَّ رَبَّنَا لَيَضْحَكُ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا } . فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِمَّا لَمْ نُحْصِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } وَقَالَ : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } وَقَالَ : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَقَالَ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

فَوَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ إنَّ ذَلِكَ الَّذِي أُلْقِيَ فِي رُوعِهِمْ ؛ وَخَلَقَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ قُلُوبَهُمْ فَمَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ وَلَمْ نَتَكَلَّفْ مِنْهُ عِلْمَ مَا سِوَاهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا لَا نَجْحَدُ مَا وَصَفَ وَلَا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ انْتَهَى . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْكُرَةِ وَهَذَا قَبْضُهُ لَهَا وَرَمْيُهُ بِهَا وَإِنَّمَا بَيَّنَ لَنَا مِنْ عَظَمَتِهِ وَصْفَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مَا يُعْقَلُ نَظِيرُهُ مِنَّا . ثُمَّ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا وَفَعَلَ بِهَا مَا ذَكَرَ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهَا وَيَدْحُوَهَا كَالْكُرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْإِحَاطَةِ بِهَا مَا لَا يَخْفَى وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ مُبَايِنٌ لَهَا لَيْسَ بمحايث لَهَا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - إذَا كَانَ عِنْدَهُ خَرْدَلَةٌ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا فَأَحَاطَتْ بِهَا قَبْضَتُهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْهَا بَلْ جَعَلَهَا تَحْتَهُ فَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ مُبَايِنٌ لَهَا وَسَوَاءٌ قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ - كَإِحَاطَةِ الْكُرَةِ بِمَا فِيهَا - أَوْ قِيلَ إنَّهُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحِيطًا بِهَا ؛ كَوَجْهِ الْأَرْضِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوْفِهَا وَكَالْقُبَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَحْتَهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ الْعَرْشُ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَهُ وَالْعَبْدُ فِي تَوَجُّهِهِ إلَى اللَّهِ يَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ وَتَمَامُ هَذَا بِبَيَانِ :

الْمَقَامُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ نَقُولَ : لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ كُرَوِيًّا كَالْأَفْلَاكِ وَيَكُونُ مُحِيطًا بِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوْقَهَا وَلَيْسَ هُوَ كُرَوِيًّا ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ وَأَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا هِيَ جِهَةُ الْمُحِيطِ وَهِيَ الْمُحَدَّبُ وَأَنَّ الْجِهَةَ السُّفْلَى هُوَ الْمَرْكَزُ وَلَيْسَ لِلْأَفْلَاكِ إلَّا جِهَتَانِ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فَقَطْ . وَأَمَّا الْجِهَاتُ السِّتُّ فَهِيَ لِلْحَيَوَانِ فَإِنَّ لَهُ سِتَّ جَوَانِبَ يَؤُمُّ جِهَةً فَتَكُونُ أَمَامَهُ وَيُخْلِفُ أُخْرَى فَتَكُونُ خَلْفَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي يَمِينَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي شِمَالَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي رَأْسَهُ ؛ وَجِهَةٌ تُحَاذِي رِجْلَيْهِ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ السِّتِّ فِي نَفْسِهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ ؛ بَلْ هِيَ بِحَسَبِ النِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ فَيَكُونُ يَمِينُ هَذَا مَا يَكُونُ شِمَالُ هَذَا وَيَكُونُ أَمَامَ هَذَا مَا يَكُونُ خَلْفَ هَذَا وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا مَا يَكُونُ تَحْتَ هَذَا . لَكِنَّ جِهَةَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لِلْأَفْلَاكِ لَا تَتَغَيَّرُ فَالْمُحِيطُ هُوَ الْعُلُوُّ وَالْمَرْكَزُ هُوَ السُّفْلُ مَعَ أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ لِلْأَنَامِ وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ وَالشَّجَرُ وَالنَّبَاتُ وَالْجِبَالُ وَالْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ . فَأَمَّا النَّاحِيَةُ الْأُخْرَى مِنْ الْأَرْضِ فَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهَا وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَمَا يَتْبَعُهُمْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هُنَاكَ أَحَدًا لَكَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ

مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ وَلَا مَنْ فِي هَذِهِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ كَمَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُحِيطَةٌ بِالْمَرْكَزِ وَلَيْسَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْفَلَكِ تَحْتَ الْآخَرِ وَلَا الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ تَحْتَ الْجَنُوبِيِّ وَلَا بِالْعَكْسِ . وَإِنْ كَانَ الشَّمَالِيُّ هُوَ الظَّاهِرُ لَنَا فَوْقَ الْأَرْضِ وَارْتِفَاعُهُ بِحَسَبِ بُعْدِ النَّاسِ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ فَمَا كَانَ بُعْدُهُ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ ثَلَاثِينَ دَرَجَةً مَثَلًا كَانَ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ عِنْدَهُ ثَلَاثِينَ دَرَجَةً وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى عَرْضَ الْبَلَدِ فَكَمَا أَنَّ جَوَانِبَ الْأَرْضِ الْمُحِيطَةِ بِهَا وَجَوَانِبَ الْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرَةِ لَيْسَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَلَا تَحْتَهُ ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَثْقَالِ لَا يُقَالُ إنَّهُ تَحْتَ أُولَئِكَ وَإِنَّمَا هَذَا خَيَالٌ يَتَخَيَّلُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ تَحْتَ إضَافِيٍّ ؛ كَمَا لَوْ كَانَتْ نَمْلَةٌ تَمْشِي تَحْتَ سَقْفٍ فَالسَّقْفُ فَوْقَهَا وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهَا تُحَاذِيه . وَكَذَلِكَ مَنْ عُلِّقَ مَنْكُوسًا فَإِنَّهُ تَحْتَ السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهُ تَلِي السَّمَاءَ وَكَذَلِكَ يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ إذَا كَانَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْأَرْضِ أَوْ الْفَلَكِ أَنَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ تَحْتَهُ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ اثْنَانِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ . وَاسْتِدَارَةُ الْأَفْلَاكِ - كَمَا أَنَّهُ قَوْل أَهْلِ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ - فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُنَادَى وَأَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ

تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَلْكَةٌ مِثْلُ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ . وَ " الْفَلَكُ فِي اللُّغَةِ " هُوَ الْمُسْتَدِيرُ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ وَكُلُّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُحِيطَ هُوَ الْعَالِي عَلَى الْمَرْكَزِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْفَلَكِ مِنْ نَاحِيَةٍ يَكُونُ تَحْتَهُ مَنْ فِي الْفَلَكِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مُتَوَهِّمٌ عِنْدَهُمْ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ مُسْتَدِيرٌ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَانَ هُوَ أَعْلَاهَا وَسَقْفَهَا - وَهُوَ فَوْقَهَا - مُطْلَقًا فَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ وَإِلَى مَا فَوْقَهُ الْإِنْسَانُ إلَّا مِنْ الْعُلُوِّ لَا مِنْ جِهَاتِهِ الْبَاقِيَةِ أَصْلًا . وَمَنْ تَوَجَّهَ إلَى الْفَلَكِ التَّاسِعِ أَوْ الثَّامِنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَفْلَاكِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْعُلُوِّ كَانَ جَاهِلًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ فَكَيْفَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْعَرْشِ أَوْ إلَى مَا فَوْقَهُ وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أَنْ يَكُونَ كُرَوِيَّ الشَّكْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إحَاطَةً تَلِيقُ بِجَلَالِهِ ؛ فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ فِي يَدِهِ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إذَا كَانَ كُرَوِيًّا وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ مُحِيطٌ بِهِ بَائِنٌ عَنْهُ فَمَا فَائِدَةُ : أَنَّ الْعَبْدَ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ حِينَ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ ؟ فَيَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ وَقْتَ الدُّعَاءِ بَيْنَ قَصْدِ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي تُحِيطُ

بِالدَّاعِي وَمَعَ هَذَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا قَصْدًا يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً فَأَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا وَقَدْ فُطِرْنَا عَلَيْهَا . فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا السُّؤَالُ إنَّمَا وَرَدَ لِتَوَهُّمِ الْمُتَوَهِّمِ أَنَّ نِصْفَ الْفَلَكِ يَكُونُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَتَحْتَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ ؛ فَلَوْ كَانَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مِنْ جِهَةٍ لَكَانَ تَحْتَهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا وَهَذَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ ؛ إذْ الْفَلَكُ هُوَ فَوْقَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا . وَ " أَهْلُ الْهَيْئَةِ " يَقُولُونَ : لَوْ أَنَّ الْأَرْضَ مَخْرُوقَةٌ إلَى نَاحِيَةِ أَرْجُلِنَا وَأُلْقِيَ فِي الْخَرْقِ شَيْءٌ ثَقِيلٌ - كَالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ - لَكَانَ يَنْتَهِي إلَى الْمَرْكَزِ حَتَّى لَوْ أُلْقِيَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ حَجَرٌ آخَرُ لَالْتَقَيَا جَمِيعًا فِي الْمَرْكَزِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ إنْسَانَيْنِ الْتَقَيَا فِي الْمَرْكَزِ بَدَلَ الْحَجَرَيْنِ لَالْتَقَتْ رِجْلَاهُمَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَحْتَ صَاحِبِهِ ؛ بَلْ كِلَاهُمَا فَوْقَ الْمَرْكَزِ وَكِلَاهُمَا تَحْتَ الْفَلَكِ ؛ كَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ رَجُلًا بِالْمَشْرِقِ فِي السَّمَاءِ أَوْ الْأَرْضِ وَرَجُلًا بِالْمَغْرِبِ فِي السَّمَاءِ أَوْ الْأَرْضِ : لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَحْتَ الْآخَرِ وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُهُ أَوْ رِجْلَاهُ أَوْ بَطْنُهُ أَوْ ظَهْرُهُ أَوْ جَانِبُهُ مِمَّا يَلِي السَّمَاءَ أَوْ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ وَإِذَا كَانَ مَطْلُوبَ أَحَدِهِمَا مَا فَوْقَ الْفَلَكِ لَمْ يَطْلُبْهُ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الْعُلْيَا ؛ لَمْ يَطْلُبْهُ مِنْ جِهَةِ رِجْلَيْهِ أَوْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا أَنَّ مَطْلُوبَهُ مِنْ الْجِهَةِ الْعُلْيَا أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ ؛ فَلَوْ قُدِّرَ رَجُلٌ أَوْ مَلَكٌ يَصْعَدُ إلَى السَّمَاءِ أَوْ إلَى مَا فَوْقَ : كَانَ صُعُودُهُ مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ

أَقْرَبَ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّهُ يَخْرِقُ الْأَرْضَ ثُمَّ يَصْعَدُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَلَا أَنَّهُ يَذْهَبُ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا أَوْ أَمَامًا أَوْ خَلْفًا إلَى حَيْثُ أَمْكَنَ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ يَصْعَدُ لِأَنَّهُ أَيُّ مَكَانٍ ذَهَبٍ إلَيْهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَكَانِهِ أَوْ هُوَ دُونَهُ وَكَانَ الْفَلَكُ فَوْقَهُ فَيَكُونُ ذَهَابُهُ إلَى الْجِهَاتِ الْخَمْسِ تَطْوِيلًا وَتَعَبًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يُخَاطِبَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَإِنَّهُ لَا يُخَاطِبُهُ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الْعُلْيَا مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ قَدْ تُشْرِقُ وَقَدْ تَغْرُبُ ؛ فَتَنْحَرِفُ عَنْ سَمْتِ الرَّأْسِ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ دَائِمًا لَا يَأْفُلُ وَلَا يَغِيبُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؟ . وَكَمَا أَنَّ الْحَرَكَةَ كَحَرَكَةِ الْحَجَرِ تَطْلُبُ مَرْكَزَهَا بِأَقْصَرِ طَرِيقٍ - وَهُوَ الْخَطُّ الْمُسْتَقِيمُ - فَالطَّلَبُ الْإِرَادِيُّ الَّذِي يَقُومُ بِقُلُوبِ الْعِبَادِ كَيْفَ يَعْدِلُ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْقَرِيبِ إلَى طَرِيقٍ مُنْحَرِفٍ طَوِيلٍ . وَاَللَّهُ تَعَالَى فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ إلَّا مَنْ اجْتَالَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَأَخْرَجَتْهُ عَنْ فِطْرَتِهِ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا . ( الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا قَصَدَ السُّفْلَ بِلَا عُلُوٍّ كَانَ يَنْتَهِي قَصْدُهُ إلَى الْمَرْكَزِ وَإِنْ قَصَدَهُ أَمَامَهُ أَوْ وَرَاءَهُ أَوْ يَمِينَهُ أَوْ يَسَارَهُ ؛ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْعُلُوِّ كَانَ مُنْتَهَى قَصْدِهِ أَجْزَاءَ الْهَوَاءِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَصْدِ الْعُلُوِّ ضَرُورَةً سَوَاءٌ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا . وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَ : أَقْصِدُهُ مِنْ الْيَمِينِ مَعَ الْعُلُوِّ أَوْ مِنْ السُّفْلِ مَعَ الْعُلُوِّ : كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ مِنْ الْمَغْرِبِ فَأَذْهَبُ إلَى خُرَاسَانَ ثُمَّ أَذْهَبُ إلَى مَكَّةَ ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ أَصْعَدُ إلَى الْأَفْلَاكِ فَأَنْزِلُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ

أَصْعَدُ إلَى الْفَلَكِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى ؛ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فِي الْمَقْدُورِ لَكِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ جِهَةِ امْتِنَاعِ إرَادَةِ الْقَاصِدِ لَهُ ؛ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْفِطْرَةِ فَإِنَّ الْقَاصِدَ يَطْلُبُ مَقْصُودَهُ بِأَقْرَبِ طَرِيقٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ مَعْبُودَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَإِذَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ عَلَى غَيْرِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَانَ سَيْرُهُ مَنْكُوسًا مَعْكُوسًا . وَ " أَيْضًا " : فَإِنَّ هَذَا يَجْمَعُ فِي سَيْرِهِ وَقَصْدِهِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَيْنَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى الْمَقْصُودِ وَيَتَبَاعَدَ عَنْهُ ؛ وَيُرِيدَهُ وَيَنْفِرَ عَنْهُ فَإِنَّهُ إذَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ عَنْهُ أَبْعَدُ وَأَقْصَى وَعَدَلَ عَنْ الْوَجْهِ الْأَقْرَبِ الْأَدْنَى كَانَ جَامِعًا بَيْنَ قَصْدَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ ؛ فَلَا يَكُونُ قَصْدُهُ لَهُ تَامًّا ؛ إذْ الْقَصْدُ التَّامُّ يَنْفِي نَقِيضَهُ وَضِدَّهُ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ . فَإِنَّ الشَّخْصَ إذَا كَانَ يُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحَبَّةً تَامَّةً وَيَقْصِدُهُ أَوْ يُحِبُّ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُحِبُّ - سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً - مَتَى كَانَتْ الْمَحَبَّةُ تَامَّةً وَطَلَبَ الْمَحْبُوبُ طَلَبَهُ مِنْ أَقْرَبِ طَرِيقٍ يَصِلُ إلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ مُتَرَدِّدَةً : مِثْلُ أَنْ يُحِبَّ مَا تَكْرَهُ مَحَبَّتَهُ فِي الدِّينِ فَتَبْقَى شَهْوَتُهُ تَدْعُوهُ إلَى قَصْدِهِ وَعَقْلِهِ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَتَرَاهُ يَقْصِدُهُ مِنْ طَرِيقٍ بَعِيدٍ كَمَا تَقُولُ الْعَامَّةُ : رَجُلٌ إلَى قُدَّامَ وَرَجُلٌ إلَى خَلْفٍ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي دِينِهِ نَقْصٌ وَعَقْلُهُ يَأْمُرُهُ بِقَصْدِ الْمَسْجِدِ أَوْ الْجِهَادِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ القصودات الَّتِي تُحَبُّ فِي الدِّينِ وَتَكْرَهُهَا النَّفْسُ ؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى قَاصِدًا لِذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ بَعِيدٍ مُتَبَاطِئًا فِي السَّيْرِ وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ .

وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاصِدُ يُرِيدُ الذَّهَابَ بِنَفْسِهِ ؛ بَلْ يُرِيدُ خِطَابَ الْمَقْصُودِ وَدُعَاءَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُخَاطِبُهُ مِنْ أَقْرَبِ جِهَةٍ يَسْمَعُ دُعَاءَهُ مِنْهَا وَيَنَالُ بِهِ مَقْصُودَهُ إذَا كَانَ الْقَصْدُ تَامًّا . وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ فِي مَكَانٍ عَالٍ وَآخَرُ يُنَادِيهِ ؛ لَتَوَجَّهَ إلَيْهِ وَنَادَاهُ وَلَوْ حَطَّ رَأْسَهُ فِي بِئْرٍ وَنَادَاهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ صَوْتَهُ لَكَانَ هَذَا مُمْكِنًا ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي الْفِطْرَةِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَنْ يَكُونُ قَصْدُهُ إسْمَاعَهُ مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ ؛ وَلَا يَفْعَلُ نَحْوَ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ ضَعْفِ الْقَصْدِ وَنَحْوِهِ .
وَ " حَدِيثُ الْإِدْلَاءِ " الَّذِي رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ يُقَوِّيه حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الْمَرْفُوعُ ؛ فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَمَعْنَاهُ مُوَافِقٌ لِهَذَا ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : { لَوْ أُدْلِيَ أَحَدُكُمْ بِحَبْلِ لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ } إنَّمَا هُوَ تَقْدِيرٌ مَفْرُوضٌ ؛ أَيْ لَوْ وَقَعَ الْإِدْلَاءُ لَوَقَعَ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْلِيَ أَحَدٌ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ عَالٍ بِالذَّاتِ وَإِذَا أُهْبِطَ شَيْءٌ إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَقَفَ فِي الْمَرْكَزِ وَلَمْ يَصْعَدْ إلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى لَكِنْ بِتَقْدِيرِ فَرْضِ الْإِدْلَاءِ يَكُونُ مَا ذَكَرَ مِنْ الْجَزَاءِ . فَهَكَذَا مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ : إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَبْدَ يَقْصِدُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَكَانَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِ بِقَلْبِهِ لَكِنَّ هَذَا مِمَّا تَمْنَعُ مِنْهُ الْفِطْرَةُ ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الشَّيْءِ الْقَصْدَ التَّامَّ يُنَافِي قَصْدَ ضِدِّهِ ؛ فَكَمَا أَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا بِالذَّاتِ تُنَافِي

الْجِهَةَ السُّفْلَى فَكَذَلِكَ قَصْدُ الْأَعْلَى بِالذَّاتِ يُنَافِي قَصْدَهُ مِنْ أَسْفَلَ وَكَمَا أَنَّ مَا يَهْبِطُ إلَى جَوْفِ الْأَرْضِ يَمْتَنِعُ صُعُودُهُ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ - لِأَنَّهَا عَالِيَةٌ - فَتَرُدُّ الْهَابِطَ بِعُلُوِّهَا كَمَا أَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا مِنْ عِنْدِنَا تَرُدُّ مَا يَصْعَدُ إلَيْهَا مِنْ الثَّقِيلِ فَلَا يَصْعَدُ الثَّقِيلُ إلَّا بِرَافِعِ يَرْفَعُهُ يُدَافِعُ بِهِ مَا فِي قُوَّتِهِ مِنْ الْهُبُوطِ فَكَذَلِكَ مَا يَهْبِطُ مِنْ أَعْلَى الْأَرْضِ إلَى أَسْفَلِهَا - وَهُوَ الْمَرْكَزُ - لَا يَصْعَدُ مِنْ هُنَاكَ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ إلَّا بِرَافِعِ يَرْفَعُهُ يُدَافِعُ بِهِ مَا فِي قُوَّتِهِ مِنْ الْهُبُوطِ إلَى الْمَرْكَزِ فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الدَّافِعَ أَقْوَى كَانَ صَاعِدًا بِهِ إلَى الْفَلَكِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَصَعِدَ بِهِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى هُبُوطًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ مَا يُحَاذِي أَرْجُلَهُمْ يَكُونُ هَابِطًا وَيُسَمَّى هُبُوطًا مَعَ تَسْمِيَةِ إهْبَاطِهِ إدْلَاءً وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ إدْلَاءً حَقِيقِيًّا إلَى الْمَرْكَزِ وَمِنْ هُنَاكَ إنَّمَا يَكُونُ مَدًّا لِلْحَبْلِ وَالدَّلْوِ لَا إدْلَاءَ لَهُ لَكِنَّ الْجَزَاءَ وَالشَّرْطَ مُقَدَّرَانِ لَا مُحَقَّقَانِ . فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ أَدْلَى لَهَبَطَ ؛ أَيْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هُنَاكَ إدْلَاءً لَفُرِضَ أَنَّ هُنَاكَ هُبُوطًا وَهُوَ يَكُونُ إدْلَاءً وَهُبُوطًا إذَا قُدِّرَ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَحْتَ الْأَرْضِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُنْتَفٍ ؛ وَلَكِنَّ فَائِدَتَهُ بَيَانُ الْإِحَاطَةِ وَالْعُلُوِّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَهَذَا الْمَفْرُوضُ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُدْلِيَ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَهْبِطَ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ لَكِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْرُقَ مِنْ هُنَا إلَى هُنَاكَ بِحَبْلِ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ فِي حَقِّهِ إدْلَاءً فَلَا يَكُونُ فِي حَقِّهِ هُبُوطًا عَلَيْهِ . كَمَا لَوْ خَرَقَ بِحَبْلِ مِنْ الْقُطْبِ إلَى الْقُطْبِ أَوْ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إلَى مَغْرِبِهَا

وَقَدَّرْنَا أَنَّ الْحَبْلَ مَرَّ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَا فَرْقَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ أَنْ يَخْرُقَ مِنْ جَانِبِ الْيَمِينِ مِنَّا إلَى جَانِبِ الْيَسَارِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَمَامِنَا إلَى جِهَةِ خَلْفِنَا أَوْ مِنْ جِهَةِ رُءُوسِنَا إلَى جِهَةِ أَرْجُلِنَا إذَا مَرَّ الْحَبْلُ بِالْأَرْضِ فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ قَدْ خَرَقَ بِالْحَبْلِ مِنْ جَانِبِ الْمُحِيطِ إلَى جَانِبِهِ الْآخَرِ مَعَ خَرْقِ الْمَرْكَزِ وَبِتَقْدِيرِ إحَاطَةِ قَبْضَتِهِ بِالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَالْحَبْلُ الَّذِي قُدِّرَ أَنَّهُ خَرَقَ بِهِ الْعَالَمَ وَصَلَ إلَيْهِ وَلَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ إدْلَاءً وَلَا هُبُوطًا . وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَإِنَّ مَا تَحْتَ أَرْجُلِنَا تَحْتٌ لَنَا وَمَا فَوْقَ رُءُوسِنَا فَوْقٌ لَنَا وَمَا نُدْلِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ رُءُوسِنَا إلَى نَاحِيَةِ أَرْجُلِنَا نَتَخَيَّلُ أَنَّهُ هَابِطٌ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ أَحَدَنَا أَدْلَى بِحَبْلِ كَانَ هَابِطًا عَلَى مَا هُنَاكَ لَكِنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا وَالْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ إحَاطَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا بَيَّنَ أَنَّهُ يَقْبِضُ السَّمَوَاتِ وَيَطْوِي الْأَرْضَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ بَيَانُ إحَاطَتِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ . وَلِهَذَا قَرَأَ فِي تَمَامِ هَذَا الْحَدِيثِ { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَإِنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمَّا رَوَاهُ قَالَ : وَفَسَّرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ هَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَبَعْضُ الْحُلُولِيَّةِ والاتحادية يَظُنُّ أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ الْبَاطِلِ ؛ وَهُوَ أَنَّهُ حَالٌّ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَأَنَّ وُجُودَهُ وُجُودُ الْأَمْكِنَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّ قَوْلَهُ :

{ لَوْ أَدْلَى بِحَبْلِ لَهَبَطَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُدْلِي وَلَا فِي الْحَبْلِ وَلَا فِي الدَّلْوِ وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ ؛ وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُهُ بِالْعِلْمِ تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ مَنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة ؛ بَلْ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ يَكُونُ دَالًّا عَلَى الْإِحَاطَةِ . وَالْإِحَاطَةُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعُلِمَ أَنَّهَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَلَيْسَ فِي إثْبَاتِهَا فِي الْجُمْلَةِ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَلَا الشَّرْعَ ؛ لَكِنْ لَا نَتَكَلَّمُ إلَّا بِمَا نَعْلَمُ وَمَا لَا نَعْلَمُهُ أَمْسَكْنَا عَنْهُ وَمَا كَانَ مُقَدِّمَةُ دَلِيلِهِ مَشْكُوكًا فِيهَا عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَإِلَّا فَلْيَسْكُتْ عَمَّا لَمْ يَعْلَمْ . وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكَذَلِكَ قَاصِدُهُ يَقْصِدُهُ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّا فَعَلْنَاهُ لَكُنَّا قَاصِدِينَ لَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَكِنَّ قَصْدَنَا لَهُ بِالْقَصْدِ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ التَّامَّ الْجَازِمَ يُوجِبُ طَلَبَ الْمَقْصُودِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَلِهَذَا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - لَمَّا تَكَلَّمْنَا عَلَى تَنَازُعِ النَّاسِ فِي النِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْفِعْلِ هَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا أَمْ لَا يُعَاقَبُ ؟ بَيَّنَّا - أَنَّ " الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ " تُوجِبُ أَنْ يَفْعَلَ الْمُرِيدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُرَادِ وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ مَقْدُورَهُ لَمْ تَكُنْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً ؛ بَلْ يَكُونُ هَمًّا وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَفْعَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ . وَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَمِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَمِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ كَمَا قَالَ

الْإِمَامُ أَحْمَد الْهَمُّ هَمَّانِ : هَمُّ خَطَرَاتٍ . وَهَمُّ إصْرَارٍ . فَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ فَأُثِيبَ عَلَيْهِ . وَتِلْكَ هَمَّتْ هَمَّ إصْرَارٍ فَفَعَلَتْ مَا قَدَرَتْ عَلَيْهِ مِنْ تَحْصِيلِ مُرَادِهَا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا الْمَطْلُوبُ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا يُعَاقَبُ بِالْإِرَادَةِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ } . فَهَذَا أَرَادَ إرَادَةً جَازِمَةً وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ مَطْلُوبَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ ؛ فَمَتَى كَانَ الْقَصْدُ جَازِمًا لَزِمَ أَنْ يَفْعَلَ الْقَاصِدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى حُصُولِ مَقْصُودِهِ بِطَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ امْتَنَعَ مَعَ الْقَصْدِ التَّامِّ أَنْ يُحَصِّلَهُ بِطَرِيقِ مَعْكُوسٍ مِنْ بَعِيدٍ . فَلِهَذَا امْتَنَعَ فِي فِعْلِ الْعِبَادِ عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ وَدُعَائِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَمَامُ قَصْدِهِمْ لَهُ أَنْ لَا يَتَوَجَّهُوا إلَيْهِ إلَّا تَوَجُّهًا مُسْتَقِيمًا ؛ فَيَتَوَجَّهُوا إلَى الْعُلُوِّ ؛ دُونَ سَائِرِ الْجِهَاتِ ؛ لِأَنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْقَرِيبُ ؛ وَمَا سِوَاهُ فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ وَالِانْحِرَافِ وَالطُّولِ مَا فِيهِ . فَمَعَ الْقَصْدِ التَّامِّ الَّذِي هُوَ حَالُ الدَّاعِي الْعَابِدِ وَالسَّائِلِ الْمُضْطَرِّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَيْهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَيْهِ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُدْلِيَ بِحَبْلِ يَهْبِطُ عَلَيْهِ ؛ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَقْرِيرِهَا ؛ لَا بِتَبْدِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَغْيِيرِهَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ :

{ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ؟ } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } فَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ فِي الْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ بِمَا يُوَافِقُ الْفِطْرَةَ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الضَّلَالِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ غَيَّرُوا الْفِطْرَةَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ جَمِيعًا وَخَالَفُوا الْعَقْلَ وَالنَّقْلِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقَن قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ ؛ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا ؛ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { أَنَّهُ أَذِنَ أَنْ يَبْصُقَ فِي ثَوْبِهِ } . وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبَّهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ : كَيْفَ يَسَعُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَنَحْنُ جَمِيعٌ ؟ فَقَالَ : سَأُنَبِّئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ هَذَا الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ فَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ تَوَجَّهَ إلَى الْقَمَرِ وَخَاطَبَهُ - إذَا قُدِّرَ أَنْ يُخَاطِبَهُ - لَا

يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ إلَّا بِوَجْهِهِ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَهُ فَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ لَهُ بِوَجْهِهِ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَهُ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ فِي الْفِطْرَةِ أَنْ يَسْتَدْبِرَهُ وَيُخَاطِبَهُ مَعَ قَصْدِهِ التَّامِّ لَهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ لَيْسَ مَقْصُودُهُ مُخَاطَبَتَهُ ؛ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ لَيْسَ مَقْصُودُهُ التَّوَجُّهَ إلَى شَخْصٍ بِخِطَابِ فَيُعْرِضُ عَنْهُ بِوَجْهِهِ وَيُخَاطِبُ غَيْرَهُ ؛ لِيَسْمَعَ هُوَ الْخِطَابَ ؛ فَأَمَّا مَعَ زَوَالِ الْمَانِعِ فَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ ؛ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ وَهُوَ فَوْقَهُ فَيَدْعُوهُ مِنْ تِلْقَائِهِ لَا مِنْ يَمِينِهِ وَلَا مِنْ شِمَالِهِ وَيَدْعُوهُ مِنْ الْعُلُوِّ لَا مِنْ السُّفْلِ كَمَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يُخَاطِبُ الْقَمَرَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِهِمْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ أَبْصَارُهُمْ } . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ رَفْعَ الْمُصَلِّي بَصَرَهُ إلَى السَّمَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَرَوَى أَحْمَد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ فِي الصَّلَاةِ إلَى السَّمَاءِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } فَكَانَ بَصَرُهُ لَا يُجَاوِزُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ } فَهَذَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ تَكْمِيلًا لِلْفِطْرَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ السَّائِلَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْخُشُوعِ - وَهُوَ الذُّلُّ وَالسُّكُوتُ - لَا يُنَاسِبُ حَالَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى نَاحِيَةِ مَنْ يَدْعُوهُ وَيَسْأَلُهُ بَلْ يُنَاسِبُ حَالَهُ الْإِطْرَاقُ وَغَضُّ بَصَرِهِ أَمَامَهُ . وَلَيْسَ نَهْيُ الْمُصَلِّي عَنْ رَفْعِ بَصَرِهِ فِي الصَّلَاةِ رَدًّا عَلَى " أَهْلِ الْإِثْبَاتِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ جُهَّالِ الْجَهْمِيَّة فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة عِنْدَهُمْ لَا فَرْقَ

بَيْنَ الْعَرْشِ وَقَعْرِ الْبَحْرِ فَالْجَمِيعُ سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُنْهَ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ إلَى جِهَةٍ وَيُؤْمَرُ بِرَدِّهِ إلَى أُخْرَى لِأَنَّ هَذِهِ وَهَذِهِ عِنْدَ الْجَهْمِيَّة سَوَاءٌ . وَ " أَيْضًا " فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ النَّهْيُ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ شَامِلًا لِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْعَبْدِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } فَلَيْسَ الْعَبْدُ يُنْهَى عَنْ رَفْعِ بَصَرِهِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا نُهِيَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْخُشُوعِ ؛ لِأَنَّ خَفْضَ الْبَصَرِ مِنْ تَمَامِ الْخُشُوعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } . وَ " أَيْضًا " : فَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ إلَى السَّمَاءِ وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ إلَهٌ لَكَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ رَفْعِهِ إلَى السَّمَاءِ وَرَدِّهِ إلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ أَوْ يَقْصِدُوا بِقُلُوبِهِمْ التَّوَجُّهَ إلَى الْعُلُوِّ لَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ سَائِر الْأَحْكَامِ فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا فِي قَوْلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُذْكَرُ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاءِ أَوْ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا محايث لَهُ وَلَا مُبَايِنَ لَهُ أَوْ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ الْعَبْدُ إذَا دَعَاهُ الْعُلُوَّ دُونَ سَائِر الْجِهَاتِ ؟ بَلْ جَمِيعُ مَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة مِنْ النَّفْيِ - وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ - لَيْسَ مَعَهُمْ بِهِ حَرْفٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَوْل أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَمْلُوءَةٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ :

إنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ كُفْرٌ ؛ فَنُؤَوِّلُ أَوْ نُفَوِّضُ ؛ فَعَلَى قَوْلِهِمْ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا مَا ظَاهِرُهُ الْكُفْرُ وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ وَالسَّلْبُ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ - الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَوْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ اعْتِقَادُهُ عِنْدَهُمْ - لَمْ يَنْطِقْ بِهِ رَسُولٌ وَلَا نَبِيٌّ وَلَا أَحَدٌ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ؛ وَاَلَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَوَرَثَتُهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَقُّ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ فِي الظَّاهِرِ ؛ بَلْ وَحُذَّاقُهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُخَاطِبُوا النَّاسَ إلَّا بِخِلَافِ الْحَقِّ الْبَاطِنِ ؛ فَلَبَّسُوا وَكَذَبُوا لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : فَهَلَّا نَطَقُوا بِالْبَاطِنِ لِخَوَّاصِهِمْ الْأَذْكِيَاءِ الْفُضَلَاءِ إنْ كَانَ مَا يَزْعُمُونَهُ حَقًّا ؟ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ خَوَاصَّ الرُّسُلِ هُمْ عَلَى الْإِثْبَاتِ أَيْضًا وَأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِالنَّفْيِ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يَكْذِبَ عَلَى أَحَدِهِمْ ؛ كَمَا يُقَالُ عَنْ عُمَرَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ كَانَا يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا } . وَهَذَا مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ : أَنَّ عِنْدَهُمْ عِلْمًا بَاطِنًا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الَّذِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرٌّ لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ وَلَا كِتَابٌ مَكْتُوبٌ إلَّا مَا كَانَ فِي الصَّحِيفَةِ وَفِيهَا { الدِّيَاتُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ } .

ثُمَّ إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ هَادِيًا مُبَلِّغًا بِلِسَانِ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ إذَا كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ قَطُّ إلَّا بِمَا يُخَالِفُ الْحَقَّ الْبَاطِنَ الْحَقِيقِيَّ فَهُوَ إلَى الضَّلَالِ وَالتَّدْلِيسِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْهُدَى وَالْبَيَانِ . وَبَسْطُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ كُلُّهُ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِفِطْرَةِ الْخَلَائِقِ وَمَا جُعِلَ فِيهِمْ مِنْ الْعُقُولِ الصَّرِيحَةِ والقصود الصَّحِيحَة لَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ وَلَا الْقَصْدَ الصَّحِيحَ وَلَا الْفِطْرَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ وَلَا النَّقْلَ الصَّحِيحَ الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنَّمَا يَظُنُّ تَعَارُضَهَا مَنْ صَدَّقَ بِبَاطِلِ مِنْ النُّقُولِ . أَوْ فَهِمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ؛ أَوْ اعْتَقَدَ شَيْئًا ظَنَّهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَهُوَ مِنْ الجهليات . أَوْ مِنْ الْكُشُوفَاتِ وَهُوَ مِنْ الكسوفات - إنْ كَانَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِمَنْقُولِ صَحِيحٍ - وَإِلَّا عَارَضَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ أَوْ الْكَشْفِ الصَّحِيحِ : مَا يَظُنُّهُ مَنْقُولًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ كَذِبًا عَلَيْهِ أَوْ مَا يَظُنُّهُ لَفْظًا دَالًّا عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَكُونُ دَالًّا عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينِهِ } حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّأْوِيلِ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ - لَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ ثَابِتًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَجَرَ لَيْسَ هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ إذْ قَالَ : { هُوَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } فَتَقْيِيدُهُ بِالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ يَدُهُ عَلَى

الْإِطْلَاقِ فَلَا يَكُونُ الْيَدَ الْحَقِيقِيَّةَ وَقَوْلُهُ { فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ } صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُصَافِحَهُ وَمُقَبِّلَهُ لَيْسَ مُصَافِحًا لِلَّهِ وَلَا مُقَبِّلًا لِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ لَيْسَ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ وَقَدْ أَتَى بِقَوْلِهِ : { فَكَأَنَّمَا } وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي التَّشْبِيهِ ؛ وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ لَا أَنَّهُ نَفْسُ الْيَمِينِ كَانَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الْيَمِينِ قَائِلًا لِلْكَذِبِ الْمُبِينِ . فَهَذَا كُلُّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ كُرِّيَّ الشَّكْلِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ أَوْ غَيْرُ الْفَلَكِ التَّاسِعِ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ سَطْحَهُ هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ الْعَالِي عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَوْقَهُ وَأَنَّ الْقَاصِدَ إلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ - بِهَذَا التَّقْدِيرِ - إنَّمَا يُقْصَدُ إلَى الْعُلُوِّ لَا يَجُوزُ فِي الْفِطْرَةِ وَلَا فِي الشِّرْعَةِ - مَعَ تَمَامِ قَصْدِهِ - أَنْ يُقْصَدَ جِهَةٌ أُخْرَى مِنْ جِهَاتِهِ السِّتِّ ؛ بَلْ هُوَ أَيْضًا يَسْتَقْبِلُهُ بِوَجْهِهِ مَعَ كَوْنِهِ أَعْلَى مِنْهُ كَمَا ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا مِنْ الْمَثَلِ بِالْقَمَرِ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - وَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا إذَا جَازَ فِي الْقَمَرِ - وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى - فَالْخَالِقُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ . وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ لَيْسَ كُرِّيَّ الشَّكْلِ بَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ وَجْهُ الْأَرْضِ وَأَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ الْكُرِّيَّةِ كَمَا أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ الْمَوْضُوعَ لِلْأَنَامِ فَوْقَ نِصْفِ الْأَرْضِ الْكُرِّيِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي يُقَدَّرُ فِيهَا أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ مَا سِوَاهُ وَلَيْسَ كُرِّيَّ الشَّكْلِ فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا نَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ لَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِهَاتِ .

فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ - عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ - لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّوَجُّهُ إلَى اللَّهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى عَرْشِهِ مُبَايِنًا لِخَلْقِهِ وَسَوَاءٌ قُدِّرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا يُحِيطُ بِهَا إذَا كَانَتْ فِي قَبْضَتِهِ - أَوْ قُدِّرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْبِضَهَا وَيُحِيطَ بِهَا فَهُوَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ فَوْقَهَا مُبَايِنًا لَهَا ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي الْخَالِقِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي الْعَرْشِ لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ الْمَحْذُورِ وَالتَّنَاقُضِ وَهَذَا يُزِيلُ كُلَّ شُبْهَةٍ وَإِنَّمَا تَنْشَأُ الشُّبْهَةُ فِي اعْتِقَادَيْنِ فَاسِدَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْعَرْشَ إذَا كَانَ كُرِّيًّا وَاَللَّهُ فَوْقَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كُرِّيًّا ثُمَّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ كُرِّيًّا فَيَصِحُّ التَّوَجُّهُ إلَى مَا هُوَ كُرِّيٌّ - كَالْفَلَكِ التَّاسِعِ - مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَرْشَ كُرِّيٌّ - سَوَاءٌ كَانَ هُوَ التَّاسِعَ أَوْ غَيْرَهُ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلْأَفْلَاكِ فِي أَشْكَالِهَا ؛ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لَهَا فِي أَقْدَارِهَا وَلَا فِي صِفَاتِهَا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - بَلْ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ دَاخِلِ الْفَلَكِ فِي الْفَلَكِ . وَإِنَّهَا عِنْدَهُ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ وَالْفَلْفَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي يَدِ أَحَدِنَا . فَإِذَا كَانَتْ الْحِمَّصَةُ أَوْ الْفَلْفَلَةُ . بَلْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ . أَوْ الْكُرَةُ الَّتِي يَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ أَوْ تَحْتَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ هَلْ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ إذَا اسْتَشْعَرَ عُلُوَّ الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ وَإِحَاطَتَهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالْفَلَكِ ؟ وَاَللَّهُ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ بِهِ وَإِنَّمَا يَظُنُّهُ

الَّذِينَ { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وَكَذَلِكَ " اعْتِقَادُهُمْ الثَّانِي " : وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ فَلَكًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ مِنْ الْجِهَاتِ السِّتِّ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعَقْلِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْهَيْئَةَ ؛ وَأَهْلُ الْعَقْلِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقَصْدَ الْجَازِمَ يُوجِبُ فِعْلَ الْمَقْصُودِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ خَطَأٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَوَجَّهَ الْقُلُوبُ إلَيْهِ إلَّا إلَى الْعُلُوِّ لَا إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْجِهَاتِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُفْرَضُ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَرْشُ هُوَ الْفَلَكَ التَّاسِعَ أَوْ غَيْرَهُ ؛ سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْفَلَكِ كُرِّيَّ الشَّكْلِ أَوْ كَانَ فَوْقَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ كُرِّيًّا سَوَاءٌ كَانَ الْخَالِقُ - سُبْحَانَهُ - مُحِيطًا بِالْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يُحِيطُ بِهَا فِي قَبْضَتِهِ أَوْ كَانَ فَوْقَهَا مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ مِنَّا الَّتِي تَلِي رُءُوسَنَا دُونَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى . فَعَلَى أَيِّ تَقْدِيرٍ فُرِضَ كَانَ كُلٌّ مِنْ مُقَدِّمَتَيْ السُّؤَالِ بَاطِلَةً وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا دَعَوْنَاهُ إنَّمَا نَدْعُوهُ بِقَصْدِ الْعُلُوِّ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا فُطِرْنَا عَلَى ذَلِكَ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
هَلْ الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ مَوْجُودَانِ أَمْ مَجَازٌ ؟ وَهَلْ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى شِفَاهًا مِنْهُ إلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ ؟ وَهَلْ الَّذِي رَآهُ مُوسَى كَانَ نُورًا أَمْ نَارًا ؟ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ " الْعَرْشُ " مَوْجُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَكَذَلِكَ " الْكُرْسِيُّ " ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ جُمْهُورِ السَّلَفِ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّ " كُرْسِيَّهُ " عِلْمُهُ . وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ نَفْسَهُ وَيَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ فَلَوْ قِيلَ وَسِعَ عِلْمُهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبًا ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أَيْ لَا يُثْقِلُهُ وَلَا يَكْرُثُهُ وَهَذَا يُنَاسِبُ الْقُدْرَةَ لَا الْعِلْمُ وَالْآثَارُ الْمَأْثُورَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ فِي " الْعَرْشِ " أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ؛ صَرِيحَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ " الْكُرْسِيَّ " هُوَ الْعَرْشُ ؛ لَكِنْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْئَانِ . وَأَمَّا مُوسَى فَإِنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مُوسَى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَاسِطَةٌ فِي التَّكْلِيمِ لَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَلَا الْجَهْمِيَّة وَلَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا الْكُلَّابِيَة وَلَا غَيْرِهِمْ . وَلَكِنَّ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِي غَيْرِ هَذَا . وَاَلَّذِي رَآهُ مُوسَى كَانَ نَارًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَيْضًا " نُورٌ " كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَ " النَّارُ " هِيَ نُورٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " كَيْفِيَّةِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " هَلْ هُمَا " جِسْمَانِ كُرِّيَّانِ " ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا كُرِّيَّانِ ؛ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقَالَ : لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ وَرَدَّهَا فَمَا الصَّوَابُ ؟.
فَأَجَابَ :
السَّمَوَاتُ مُسْتَدِيرَةٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ حَكَى إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ : مِثْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ أَحْمَد بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُنَادِي أَحَدِ الْأَعْيَانِ الْكِبَارِ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَلَهُ نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةِ مُصَنَّفٍ . وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَرَوَى الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَذَكَرُوا ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ أُقِيمَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا دَلَائِلُ حِسَابِيَّةٌ . وَلَا أَعْلَمُ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفِينَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ ؛ إلَّا فِرْقَةٌ يَسِيرَةٌ مَنْ أَهْلِ الْجَدَلِ لَمَّا نَاظَرُوا الْمُنَجِّمِينَ فَأَفْسَدُوا عَلَيْهِمْ فَاسِدَ مَذْهَبِهِمْ فِي الْأَحْوَالِ

وَالتَّأْثِيرِ خَلَطُوا الْكَلَامَ مَعَهُمْ بِالْمُنَاظَرَةِ فِي الْحِسَابِ وَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُرَبَّعَةً أَوْ مُسَدَّسَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ وَلَمْ يَنْفُوا أَنْ تَكُونَ مُسْتَدِيرَةً لَكِنْ جَوَّزُوا ضِدَّ ذَلِكَ . وَمَا عَلِمْت مَنْ قَالَ إنَّهَا غَيْرُ مُسْتَدِيرَةٍ - وَجَزَمَ بِذَلِكَ - إلَّا مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِنْ الْجُهَّالِ . وَمِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ : فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ . وَهَذَا صَرِيحٌ بِالِاسْتِدَارَةِ وَالدَّوَرَانِ وَأَصْلُ ذَلِكَ : أَنَّ " الْفَلَكَ فِي اللُّغَةِ " هُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَدِيرُ يُقَالُ تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ وَيُقَالُ لِفَلْكَةِ الْمِغْزَلِ الْمُسْتَدِيرَةِ فَلْكَةٌ ؛ لِاسْتِدَارَتِهَا . فَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ عَلَى أَنَّ " الْفَلَكَ " هُوَ الْمُسْتَدِيرُ وَالْمَعْرِفَةُ لِمَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ : مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ مِنْ السَّلَفِ وَمِنْ اللُّغَةِ : الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا وَهِيَ لُغَةُ الْعَرَبِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } قَالُوا : وَ " التَّكْوِيرُ " التَّدْوِيرُ يُقَالُ : كَوَّرْت الْعِمَامَةَ وَكَوَّرْتهَا : إذَا دَوَّرْتهَا وَيُقَالُ : لِلْمُسْتَدِيرِ كَارَةٌ وَأَصْلُهُ " كورة " تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا .

وَيُقَالُ أَيْضًا : " كُرَةٌ " وَأَصْلُهُ كُورَةٌ وَإِنَّمَا حُذِفَتْ عَيْنُ الْكَلِمَةِ كَمَا قِيلَ فِي ثُبَةٍ وَقُلَةٍ . وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَسَائِرُ أَحْوَالِ الزَّمَانِ تَابِعَةٌ لِلْحَرَكَةِ ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ ؛ وَالْحَرَكَةُ قَائِمَةٌ بِالْجِسْمِ الْمُتَحَرِّكِ فَإِذَا كَانَ الزَّمَانُ التَّابِعُ لِلْحَرَكَةِ التَّابِعَةِ لِلْجِسْمِ مَوْصُوفًا بِالِاسْتِدَارَةِ كَانَ الْجِسْمُ أَوْلَى بِالِاسْتِدَارَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ إلَّا أَجْسَامُ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ - فَأَمَّا التَّثْلِيثُ وَالتَّرْبِيعُ وَالتَّخْمِيسُ وَالتَّسْدِيسُ وَغَيْرُ ذَلِكَ : فَفِيهَا تَفَاوُتٌ وَاخْتِلَافٌ بِالزَّوَايَا وَالْأَضْلَاعِ - لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا تَفَاوُتَ ؛ إذْ الِاسْتِدَارَةُ الَّتِي هِيَ الْجَوَانِبُ . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جهدت الْأَنْفُسُ وَهَلَكَ الْمَالُ ؛ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَاسْتَسْقِ لَنَا ؛ فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ : فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ : وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ هَكَذَا وَقَالَ بِيَدِهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ وَأَنَّهُ يَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ } . فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَرْشَ عَلَى السَّمَوَاتِ مِثْلُ الْقُبَّةِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْعُلُوِّ وَالْإِدَارَةِ .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } وَالْأَوْسَطُ لَا يَكُونُ أَوْسَطَ إلَّا فِي الْمُسْتَدِيرِ وَقَدْ قَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ لَا تَحْتَمِلُهَا الْفَتْوَى ؛ وَإِنَّمَا كَتَبْت هَذَا عَلَى عَجَلٍ . وَالْحِسُّ مَعَ الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَعَ تَأَمُّلِ دَوَرَانِ الْكَوَاكِبِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْقُطْبِ فِي مَدَارٍ ضَيِّقٍ حَوْلَ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ ثُمَّ دَوَرَانِ الْكَوَاكِبِ الْمُتَوَسِّطَةِ فِي السَّمَاءِ فِي مَدَارٍ وَاسِعٍ وَكَيْفَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَفِي آخِرِهِ ؟ يُعْلَمُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ مَنْ رَأَى حَالَ الشَّمْسِ وَقْتَ طُلُوعِهَا وَاسْتِوَائِهَا وَغُرُوبِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى بُعْدٍ وَاحِدٍ وَشَكْلٍ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَكُونُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ عَلِمَ أَنَّهَا تَجْرِي فِي فَلَكٍ مُسْتَدِيرٍ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَبَّعًا لَكَانَتْ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ أَقْرَبَ إلَى مَنْ تُحَاذِيهِ مِنْهَا وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَدَلَائِلُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ . وَأَمَّا مَنْ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ مُبْطِلٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ مَعَهُ دَلِيلًا حِسَابِيًّا ؛ وَهَذَا كَثِيرٌ فِيمَنْ يَنْظُرُ فِي " الْفَلَكِ وَأَحْوَالِهِ " كَدَعْوَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّهُ يَغْلِبُ وَقْتَ طُلُوعِ الْهِلَالِ لِمَعْرِفَةِ وَقْتِ ظُهُورِهِ بَعْدَ اسْتِسْرَارِهِ بِمَعْرِفَةِ بَعْدَهُ عَنْ الشَّمْسِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا وَقْتَ الْغُرُوبِ وَضَبْطِهِمْ " قَوْسَ الرُّؤْيَةِ " وَهُوَ الْخَطُّ الْمَعْرُوضُ مُسْتَدِيرًا - قِطْعَةٌ مِنْ دَائِرَةٍ -

وَقْتَ الِاسْتِهْلَالِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ الْأَعْلَامُ عَلَى تَحْرِيمِ الْعَمَلِ بِذَلِكَ فِي الْهِلَالِ . وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْحِسَابِ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ ظُهُورِ الْهِلَالِ لَا يُضْبَطُ بِالْحِسَابِ ضَبْطًا تَامًّا قَطُّ ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ حُذَّاقُ الْحِسَابِ ؛ بَلْ أَنْكَرُوهُ ؛ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ تَقْرِيبًا وَذَلِكَ ضَلَالٌ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَتَغْيِيرٌ لَهُ شَبِيهٌ بِضَلَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْهِلَالِ إلَى غَايَةِ الشَّمْسِ وَقْتَ اجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِسْرَارُ ؛ وَلَيْسَ بِالشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَ النَّسِيءُ الَّذِي كَانَ فِي الْعَرَبِ : الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ - الَّذِي يَضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا - مَا ذَكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } . فَمَنْ أَخَذَ عِلْمَ الْهِلَالِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ بِالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ فَهُوَ فَاسِدُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ . وَالْحِسَابُ إذَا صَحَّ حِسَابُهُ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُهُ ضَبَطَ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَقْتَ الْغُرُوبِ مَثَلًا وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بُعْدَ الْقَمَرِ عَنْ الشَّمْسِ لَكِنَّ كَوْنَهُ يُرَى لَا مَحَالَةَ أَوْ لَا يُرَى بِحَالِ لَا يُعْلَمُ بِذَلِكَ .

فَإِنَّ " الرُّؤْيَةَ " تَخْتَلِفُ بِعُلُوِّ الْأَرْضِ وَانْخِفَاضِهَا وَصَفَاءِ الْجَوِّ وَكَدَرِهِ وَكَذَلِكَ الْبَصَرُ وَحِدَّتُهُ وَدَوَامُ التَّحْدِيقِ وَقِصَرُهُ وَتَصْوِيبُ التَّحْدِيقِ وَخَطَؤُهُ وَكَثْرَةُ الْمُتَرَائِينَ وَقِلَّتُهُمْ وَغِلَظُ الْهِلَالِ وَقَدْ لَا يُرَى وَقْتَ الْغُرُوبِ . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَزْدَادُ بُعْدُهُ عَنْ الشَّمْسِ فَيَزْدَادُ نُورًا وَيَخْلُصُ مِنْ الشُّعَاعِ الْمَانِعِ مِنْ رُؤْيَتِهِ ؛ فَيَرَى حِينَئِذٍ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى قَوْسٍ وَاحِدٍ لِرُؤْيَتِهِ بَلْ اضْطَرَبُوا فِيهِ كَثِيرًا وَلَا أَصْلَ لَهُ وَإِنَّمَا مَرْجِعُهُ إلَى الْعَادَةِ وَلَيْسَ لَهَا ضَابِطٌ حِسَابِيٌّ . فَمِنْهُمْ مَنْ يُنْقِصُهُ عَنْ عَشْرِ دَرَجَاتٍ . وَمِنْهُمْ : مَنْ يَزِيدُ . وَفِي الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ أَقْوَالٌ مُتَقَابِلَةٌ مَنْ جِنْسِ أَقْوَالِ مَنْ رَامَ ضَبْطَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُخْبَرِ وَلَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ عَدَدِيٌّ إذْ لِلْعِلْمِ أَسْبَابٌ وَرَاءَ الْعَدَدِ كَمَا لِلرُّؤْيَةِ . وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فُسِّرَ الْهِلَالُ بِمَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ وَجُعِلَ وَقْتُ الْغَيْمِ الْمُطْبِقِ شَكًّا أَمَّا إذَا فُسِّرَ الْهِلَالُ بِمَا اسْتَهَلَّهُ النَّاسُ وَأَدْرَكُوهُ وَظَهَرَ لَهُمْ وَأَظْهَرُوا الصَّوْتَ بِهِ : انْدَفَعَ هَذَا بِكُلِّ تَقْدِيرٍ . وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالثَّانِي قَوْل الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَتَرْكِيبِ النَّيِّرَيْنِ وَالْكَوَاكِبِ هَلْ هِيَ مُثَبَّتَةٌ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْأَفْلَاكُ تَتَحَرَّكُ بِهَا ؟ أَمْ هِيَ تَتَحَرَّكُ وَالْفَلَكُ ثَابِتٌ ؟ أَمْ كِلَاهُمَا مُتَحَرِّكٌ ؟ وَهَلْ الْأَفْلَاكُ هِيَ السَّمَوَاتُ أَمْ غَيْرُهَا ؟ وَهَلْ تَخْتَصُّ النُّجُومُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا ؟ وَهَلْ إذَا كَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي بَعْضِ السَّمَوَاتِ يُضِيءُ نُورُهَا جَمِيعَ السَّمَوَاتِ ؟ وَهَلْ يَنْتَقِلَانِ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ ؟ وَهَلْ الأرضون سَبْعٌ أَوْ بَيْنَهُنَّ خَلْقٌ أَوْ بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ ؟ وَهَلْ أَطْرَافُ السَّمَوَاتِ عَلَى جَبَلٍ أَمْ الْأَرْضُ فِي السَّمَاءِ كَالْبَيْضَةِ فِي قِشْرِهَا وَالْبَحْرُ تَحْتَ ذَلِكَ وَالرِّيحُ تَحْتَهُ ؟ وَهَلْ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بَحْرٌ تَحْتَ الْعَرْشِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسَائِلُ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ كَثِيرٍ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ وَالسَّائِلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ عُلُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِيُجَابَ بِالْأَجْوِبَةِ الشَّافِيَةِ فَإِنَّ فِيهَا نِزَاعًا وَكَلَامًا طَوِيلًا لَكِنْ نَذْكُرُ لَهُ بِحَسَبِ الْحَالِ . أَمَّا قَوْلُهُ : الْأَفْلَاكُ هَلْ هِيَ السَّمَوَاتُ أَوْ غَيْرُهَا ؟ فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلنَّاسِ لَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ هَذَا هُوَ هَذَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ

خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } قَالُوا : فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَوَاتِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . فَأَخْبَرَ فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْقَمَرَ فِي الْفَلَكِ ؛ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَلِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّا نَرَى السَّمَوَاتِ بِقَوْلِهِ : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } . وَقَالَ : { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ مُشَاهَدَةٌ ؛ وَالْمُشَاهَدُ هُوَ الْفَلَكُ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَلْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ تُحَرَّكَانِ بِدُونِ الْفَلَكِ أَمْ حَرَكَتُهُمَا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ فَفِيهِ نِزَاعٌ أَيْضًا ؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ عَلَى أَنَّ حَرَكَتَهُمَا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُمْ يَسْبَحُونَ تَابِعًا لِحَرَكَةِ الْفَلَكِ كَمَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَإِنَّ تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَابِعٌ لِحَرَكَةِ غَيْرِهِمَا وَقَوْلِهِ . { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ .

وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ يس : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ } { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . فَتَنَاوَلَ قَوْلُهُ { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } مَا تَقَدَّمَ : اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِذَا كَانَ أَخْبَرَ عَنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُمَا يَسْبَحَانِ وَذَلِكَ تَابِعٌ لِحَرَكَةِ غَيْرِهِمَا مِثْلُ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَسْبَحَانِ تَبَعًا لِلْفَلَكِ وَعَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا . وَأَمَّا النُّجُومُ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهَا زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } فَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ إنَّ الْأَفْلَاكَ غَيْرُ السَّمَوَاتِ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا هُنَا الْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي يَذْكُرُ أَهْلُ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ الثَّابِتَةَ فِيهِ وَادَّعَوْا أَنَّ تِلْكَ هِيَ السَّمَوَاتُ الْعُلَى وَأَنَّ الْأَفْلَاكَ هِيَ السَّمَوَاتُ الدُّنْيَا وَلَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ ضَعِيفٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي نَشْهَدُهُ هُوَ الْكَوَاكِبُ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } { الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } وَالْخُنُوسُ الِاخْتِفَاءُ وَذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِهَا مِنْ الْمَشْرِقِ . وَالْكُنُوسُ رُجُوعُهَا مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ فَمَا خَنَسَ قَبْلَ ظُهُورِهَا كَنَسَ بَعْدَ مَغِيبِهَا جَوَارٍ حَالَ ظُهُورِهَا تَجْرِي مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ .

وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي الْفَلَكِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَنْتَقِلُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ . وَلَيْسَتْ السَّمَوَاتُ مُتَّصِلَةً بِالْأَرْضِ لَا عَلَى جَبَلِ قَافٍ وَلَا غَيْرِهِ ؛ بَلْ الْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةٌ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُهُمْ . فَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي وَأَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } قَالَ : فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ . وَالْفَلَكُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الشَّيْءُ الْمُسْتَدِيرُ يُقَالُ : تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ . وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ أَرَضِينَ بَعْضَهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ ظَلَمَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ طوقه مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَأَرَادَ بِهِ إجْمَاعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ . وَتَحْتَ الْعَرْشِ بَحْرٌ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ وَكَمَا ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ . وَالْعَرْشُ فَوْقَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ سَقْفُ جَنَّةِ عَدْنٍ الَّتِي هِيَ أَعْلَى الْجَنَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ؛ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } .

وَالْأَرْضُ يُحِيطُ الْمَاءُ بِأَكْثَرِهَا وَالْهَوَاءُ يُحِيطُ بِالْمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاَللَّهُ تَعَالَى بَسَطَ الْأَرْضَ لِلْأَنَامِ وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ ؛ لِئَلَّا تَمِيدَ كَمَا تُرْسَى السَّفِينَةُ بِالْأَجْسَامِ الثَّقِيلَةِ إذَا كَثُرَتْ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ وَإِلَّا مَادَتْ وَاَللَّهُ تَعَالَى { يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } . وَالْمَخْلُوقَاتُ الْعُلْوِيَّةُ وَالسُّفْلِيَّةُ يُمْسِكُهَا اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَمَا جُعِلَ فِيهَا مِنْ الطَّبَائِعِ وَالْقُوَى فَهُوَ كَائِنٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ.

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، " اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ " الَّذِي هُوَ حَاصِلٌ بِالشَّمْسِ هُوَ تَبَعٌ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ؛ لَمْ يَخْلُقْ هَذَا اللَّيْلَ وَهَذَا النَّهَارَ قَبْلَ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ؛ بَلْ خَلَقَ هَذَا اللَّيْلَ وَهَذَا النَّهَارَ تَبَعًا لِهَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَطْلَعَ الشَّمْسَ حَصَلَ النَّهَارُ وَإِذَا غَابَتْ حَصَلَ اللَّيْلُ ؛ فَالنَّهَارُ بِظُهُورِهَا وَاللَّيْلِ بِغُرُوبِهَا فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا اللَّيْلُ وَهَذَا النَّهَارُ قَبْلَ الشَّمْسِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَخْلُوقَانِ مَعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ . فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ : فِي الْفَلَكِ وَ " الْفَلَكُ " هُوَ السَّمَوَاتُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي الْفَلَكِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ

سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي السَّمَوَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } بَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّهُ خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ؛ لِأَنَّ الْجَعْلَ هُوَ التَّصْيِيرُ . يُقَالُ : جَعَلَ كَذَا إذَا صَيَّرَهُ فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّهُ جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ مَجْعُولَةٌ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ : الْمَخْلُوقَةُ فِي السَّمَوَاتِ ؛ وَلَيْسَ الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ جِسْمًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ صِفَةٌ وَعَرَضٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ . " فَالنُّورُ " هُوَ شُعَاعُ الشَّمْسِ وَضَوْءُهَا الَّذِي يَنْشُرُهُ اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ وَعَلَى الْأَرْضِ . وَأَمَّا " الظُّلْمَةُ فِي اللَّيْلِ " فَقَدْ قِيلَ : هِيَ كَذَلِكَ وَقِيلَ هِيَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فَهَذَا اللَّيْلُ وَهَذَا النَّهَارُ اللَّذَانِ يَخْتَلِفَانِ عَلَيْنَا اللَّذَانِ يُولِجُ اللَّهُ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ فَيُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَيَخْلُفُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَتَعَاقَبَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } . بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّاهُ . فَالشَّمْسُ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَتَلْحَقَهُ بَلْ لَهَا مَجْرًى قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهَا وَلِلْقَمَرِ مَجْرَى قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ

مُظْلِمُونَ } { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } ثُمَّ قَالَ : { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } أَيْ لَا يَفُوتُهُ وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ ؛ بَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ لَا هَذَا يَنْفَصِلُ عَنْ هَذَا وَلَا هَذَا يَنْفَصِلُ عَنْ هَذَا { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . فَالْمَقْصُودُ : أَنَّ هَذَا اللَّيْلَ وَهَذَا النَّهَارَ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَبَعًا لِهَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ؛ وَلَكِنْ كَانَ - قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَهَذِهِ الْأَرْضَ وَهَذَا النَّهَارَ : كَانَ - الْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } . وَخَلَقَ اللَّهُ مِنْ بُخَارِ ذَلِكَ الْمَاءِ هَذِهِ السَّمَوَات وَهُوَ الدُّخَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } . وَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْمَاءُ غَامِرًا لِتُرْبَةِ الْأَرْضِ وَكَانَتْ الرِّيحُ تَهُبُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ ؛ فَخَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . فَتِلْكَ الْأَيَّامُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا هَذِهِ .

وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ " اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ " وَأَنَّ الظُّهْرَ يَكُونُ فِي دِمَشْقَ وَيَكُونُ اللَّيْلُ قَدْ دَخَلَ فِي بَلَدٍ آخَرَ ؛ فَهَلْ قَائِلُ هَذَا قَوْلُهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، طُلُوعُ الشَّمْسِ وَزَوَالُهَا وَغُرُوبُهَا يَكُونُ بِالْمَشْرِقِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بِالْمَغْرِبِ فَتَطْلُعُ الشَّمْسُ وَتَزُولُ وَتَغْرُبُ عَلَى أَرْضِ الْهِنْدِ ؛ وَالصِّينِ وَالْخَطِّ ؛ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بِأَرْضِ الشَّامِ ؛ وَيَكُونُ بِأَرْضِ الشَّامِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بِمِصْرِ وَكُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ لَهُمْ حُكْمُ طُلُوعِهِمْ وَزَوَالِهِمْ وَغُرُوبِهِمْ . فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ بِبَلَدِ دَخَلَ وَقْتُ الْفَجْرِ وَوَجَبَتْ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ عِنْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ آخَرِينَ ؛ لَكِنْ يَتَفَاوَتُ ذَلِكَ تَفَاوُتًا يَسِيرًا بَيْنَ الْبِلَادِ الْمُتَقَارِبَةِ ؛ وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي أَقْصَى الْمَشْرِق وَأَقْصَى الْمَغْرِبِ فَيَتَفَاوَتُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتًا كَثِيرًا نَحْوُ نِصْفِ يَوْمٍ كَامِلٍ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ كُلُّ ذَلِكَ يَسْبَحُ

فِي الْفَلَكِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وَ " الْفَلَكُ " هُوَ الْمُسْتَدِيرُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْتَدِيرُ يَظْهَرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَرَاهُ الْقَرِيبُ مِنْهُ قَبْلَ الْبَعِيدِ عَنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
(*) آخِرُ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ

الْجُزْءُ الْسَابِعُ
كِتَابُ الْإِيمَانِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
اعْلَمْ أَنَّ " الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ " يَجْتَمِعُ فِيهِمَا الدِّينُ كُلُّهُ وَقَدْ كَثُرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي " حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ " وَنِزَاعُهُمْ وَاضْطِرَابُهُمْ ؛ وَقَدْ صُنِّفَتْ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدَاتٌ ؛ وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مِنْ حِينِ خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ بَيْنَ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ .

وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِلُ الْمُؤْمِنُ إلَى ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ . فَلَا نَذْكُرُ اخْتِلَافَ النَّاسِ ابْتِدَاءً ؛ بَلْ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ - فِي ضِمْنِ بَيَانِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - مَا يُبَيِّنُ أَنَّ رَدَّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
فَنَقُولُ : قَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ مُسَمَّى " الْإِسْلَامِ " وَمُسَمَّى " الْإِيمَانِ " وَمُسَمَّى " الْإِحْسَانِ { . فَقَالَ : الْإِسْلَامُ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا . وَقَالَ : الْإِيمَانُ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ } . وَ " الْفَرْقُ " مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا فِيهِ : أَنَّ جبرائيل جَاءَهُ فِي صُورَةِ إنْسَانٍ أَعْرَابِيٍّ فَسَأَلَهُ . وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ : أَنَّهُ جَاءَهُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ . وَكَذَلِكَ فَسَّرَ " الْإِسْلَامَ " فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَشْهُورِ قَالَ : { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ } . وَحَدِيثُ جبرائيل يُبَيِّنُ أَنَّ " الْإِسْلَامَ الْمَبْنِيَّ عَلَى خَمْسٍ " هُوَ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ

لَيْسَ الْمَبْنِيُّ غَيْرَ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ ؛ بَلْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّينَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ : أَعْلَاهَا " الْإِحْسَانُ " وَأَوْسَطُهَا " الْإِيمَانُ " وَيَلِيهِ " الْإِسْلَامُ " فَكُلُّ مُحْسِنٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُحْسِنًا وَلَا كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي سَائِر الْأَحَادِيثِ كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : أَسْلِمْ تَسْلَمْ . قَالَ : وَمَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لِلَّهِ وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِك وَيَدِك . قَالَ : فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ . قَالَ : وَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ . قَالَ : فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْهِجْرَةُ . قَالَ : وَمَا الْهِجْرَةُ ؟ قَالَ : أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ . قَالَ : فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ . قَالَ : وَمَا الْجِهَادُ ؟ قَالَ : أَنْ تُجَاهِدَ أَوْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتهمْ وَلَا تغلل وَلَا تَجْبُنُ } . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا - قَالَهَا ثَلَاثًا - حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَد وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي . وَلِهَذَا يَذْكُرُ هَذِهِ " الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ { فَيَقُولُ : الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ } . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وفضالة بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ وَهُوَ فِي " السُّنَنِ " وَبَعْضُهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " .

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مَأْمُونًا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ ؛ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْلَمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَلَوْلَا سَلَامَتُهُمْ مِنْهُ لَمَا ائْتَمَنُوهُ . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عبسة . وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ { قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : إطْعَامُ الطَّعَامِ وَطَيِّبُ الْكَلَامِ . قِيلَ : فَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ . قِيلَ : فَمَنْ أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ إسْلَامًا ؟ قَالَ : مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ . قِيلَ : فَمَنْ أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا ؟ قَالَ : أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا . قِيلَ فَمَا أَفْضَلُ الْهِجْرَةِ ؟ قَالَ : مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ . قَالَ : أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : طُولُ الْقُنُوتِ . قَالَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : جُهْدُ مُقِلٍّ . قَالَ : أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تُجَاهِدَ بِمَالِك وَنَفْسِك ؛ فَيُعْقَرَ جَوَادُك وَيُرَاقَ دَمُك . قَالَ أَيُّ السَّاعَاتِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : جَوْفُ اللَّيْلِ الْغَابِرِ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ؛ وَإِلَّا فَالْمُهَاجِرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَكَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ وَلِهَذَا قَالَ : { الْإِيمَانُ : السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ } . وَقَالَ فِي الْإِسْلَامِ : { إطْعَامُ الطَّعَامِ وَطَيِّبُ الْكَلَامِ } . وَالْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمٌ لِلثَّانِي ؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ خُلُقُهُ السَّمَاحَةَ فَعَلَ هَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ تَخَلُّقًا وَلَا يَكُونُ فِي خُلُقِهِ سَمَاحَةٌ وَصَبْرٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ : { أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ

مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } . وَقَالَ : { أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَوَّلَ ؛ فَمَنْ كَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ فَعَلَ ذَلِكَ . قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : مَا حُسْنُ الْخُلُقِ ؟ قَالَ : بَذْلُ النَّدَى وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ . فَكَفُّ الْأَذَى جُزْءٌ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ . وَسَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مِنْ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } . { وَقَوْلُهُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ : آمُرُكُمْ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إيمَانًا بِاَللَّهِ بِدُونِ إيمَانِ الْقَلْبِ ؛ لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيمَانِ الْقَلْبِ فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ مَعَ إيمَانِ الْقَلْبِ هُوَ الْإِيمَانُ وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } . { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . فَمَنْ صَلَحَ قَلْبُهُ صَلَحَ جَسَدُهُ قَطْعًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ . وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة : كَانَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا مَضَى يَكْتُبُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ : مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ ، وَمَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ

وَبَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي " كِتَابِ الْإِخْلَاصِ " . فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا صَلَحَ بِالْإِيمَانِ ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ جبرائيل : { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } . فَجَعَلَ " الدِّينَ " هُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَنَا يَجْمَعُ الثَّلَاثَةَ لَكِنْ هُوَ دَرَجَاتٌ ثَلَاثٌ : " مُسْلِمٌ " ثُمَّ " مُؤْمِنٌ " ثُمَّ " مُحْسِنٌ " كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَالْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عُقُوبَةٍ بِخِلَافِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ . وَهَكَذَا مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ مَعَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ ؛ فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَأَمَّا " الْإِحْسَانُ " فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْإِيمَانِ . " وَالْإِيمَانُ " أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ . فَالْإِحْسَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْإِيمَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْمُحْسِنُونَ أَخَصُّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنُونَ أَخَصُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ : فِي " الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ " فَالنُّبُوَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الرِّسَالَةِ وَالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهَا ؛ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا ؛ فَالْأَنْبِيَاءُ أَعَمُّ وَالنُّبُوَّةُ نَفْسُهَا جُزْءٌ مِنْ الرِّسَالَةِ فَالرِّسَالَةُ تَتَنَاوَلُ النُّبُوَّةَ وَغَيْرَهَا بِخِلَافِ النُّبُوَّةِ ؛ فَإِنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُ الرِّسَالَةَ .

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ " الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ " بِمَا أَجَابَ بِهِ ؛ كَمَا يُجَابُ عَنْ الْمَحْدُودِ بِالْحَدِّ إذَا قِيلَ مَا كَذَا ؟ قِيلَ : كَذَا وَكَذَا . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَمَّا قِيلَ : مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالَ : ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ } . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } . وَبَطَرُ الْحَقِّ : جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ . وَغَمْطُ النَّاسِ : احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ . وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - سَبَبَ تَنَوُّعِ أَجْوِبَتِهِ وَأَنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ . وَلَكِنَّ ( الْمَقْصُودَ ) أَنَّ قَوْلَهُ : { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } كَقَوْلِهِ : { الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ } كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ جبرائيل ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ تَكُونُ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِيهِ مَبْنِيَّةً عَلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَمُرَكَّبَةً مِنْهَا ؛ فَالْإِسْلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ - وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْخَمْسِ بِكَوْنِهَا هِيَ الْإِسْلَامَ ، وَعَلَيْهَا بُنِيَ الْإِسْلَامُ ، وَلِمَ خُصَّتْ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ ؟ وَقَدْ فَسَّرَ " الْإِيمَانَ " فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ هُنَا لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحَجَّ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَقَالَ : { آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ أَوْ خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَمِ } . وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ : { الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .

لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ : { آمُرُكُمْ بِأَرْبَعِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ : اُعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } . وَقَدْ فَسَّرَ - فِي حَدِيثِ شُعَبِ الْإِيمَانِ - الْإِيمَانَ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ فَقَالَ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } . وَثَبَتَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ . وَقَالَ أَيْضًا : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . { وَقَالَ : لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } . وَقَالَ : { وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ . قِيلَ : مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } . وَقَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } . وَقَالَ : { مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ فِي أُمَّتِهِ قَوْمٌ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ . ثُمَّ إنَّهُ يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ ؛ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ } وَهَذَا مِنْ إفْرَادِ مُسْلِمٍ . وَكَذَلِكَ فِي إفْرَادِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ :

أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ } وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَنْتَهِبُ النُّهْبَةَ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . فَيُقَالُ " اسْمُ الْإِيمَانِ " تَارَةً يُذْكَرُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَقْرُونٍ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَلَا بَاسِمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا غَيْرِهِمَا وَتَارَةً يُذْكَرُ مَقْرُونًا ؛ إمَّا بِالْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جبرائيل : { مَا الْإِسْلَامُ وَمَا الْإِيمَانُ } ؟ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } . وقَوْله تَعَالَى { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } . وَكَذَلِكَ ذُكِرَ الْإِيمَانُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } . وَإِمَّا مَقْرُونًا بِاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ } وَقَوْلِهِ : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } . وَحَيْثُ ذُكِرَ الَّذِينَ آمَنُوا فَقَدْ دَخَلَ فِيهِمْ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ؛ فَإِنَّهُمْ خِيَارُهُمْ قَالَ تَعَالَى : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } . وَقَالَ : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } .

وَيُذْكَرُ أَيْضًا لَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ مَقْرُونًا بِاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ثُمَّ يَقُولُ : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فَالْمُؤْمِنُونَ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ غَيْرُ الثَّلَاثَةِ ، وَالْإِيمَانُ الْآخِرُ عَمَّهُمْ ؛ كَمَا عَمَّهُمْ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } . وَسَنَبْسُطُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . ( فَالْمَقْصُودُ هُنَا ) الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مِنْ الْإِيمَانِ . وَأَمَّا الْعُمُومُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَلَلِ ؛ فَتِلْكَ " مَسْأَلَةٌ أُخْرَى " . فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِيمَانَ مَعَ الْإِسْلَامِ ؛ جَعَلَ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ : الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ . وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } . وَإِذَا ذُكِرَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُجَرَّدًا ؛ دَخَلَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الشُّعَبِ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا أَعْمَالُ الْبِرِّ مِنْ الْإِيمَانِ . ثُمَّ إنَّ نَفْيَ " الْإِيمَانِ " عِنْدَ عَدَمِهَا ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَإِنْ ذَكَرَ فَضْلَ إيمَانِ صَاحِبِهَا - وَلَمْ يَنْفِ إيمَانَهُ - دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ

لَا يَنْفِي اسْمَ مُسَمَّى أَمْرٍ - أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ - إلَّا إذَا تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهِ كَقَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } . وَقَوْلِهِ : { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْتَحَبًّا فِي " الْعِبَادَةِ " لَمْ يَنْفِهَا لِانْتِفَاءِ الْمُسْتَحَبِّ فَإِنَّ هَذَا لَوْ جَازَ ؛ لَجَازَ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ جُمْهُورِ الْمُؤْمِنِينَ اسْمَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَمَلٍ إلَّا وَغَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَفْعَلُ أَفْعَالَ الْبِرِّ مِثْلَ مَا فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ . فَلَوْ كَانَ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِكَمَالِهَا الْمُسْتَحَبِّ يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ ؛ لَجَازَ أَنْ يُنْفَى عَنْ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْكَمَالُ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ " الْكَمَالِ الْوَاجِبِ " الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْعُقُوبَةِ ؛ فَقَدْ صَدَقَ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ " الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ " فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ وَاجِبِهِ شَيْئًا ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ : مَا فَعَلَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا . فَإِذَا { قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } . { وَقَالَ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ - وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ : لَا صَلَاةَ لِفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ } كَانَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } يُبَيِّنُ أَنَّ الْجِهَادَ وَاجِبٌ وَتَرْكَ الِارْتِيَابِ وَاجِبٌ .

وَالْجِهَادُ - وَإِنْ كَانَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ - فَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ يُخَاطَبُونَ بِهِ ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهِ إذَا تَعَيَّنَ ؛ وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَهُمَّ بِهِ ؛ كَانَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ . " وَأَيْضًا " فَالْجِهَادُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } . هَذَا كُلُّهُ وَاجِبٌ ؛ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَاجِبٌ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ كَمَا أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ وَاجِبٌ وَحُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبٌ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّوَكُّلِ فِي غَيْرِ آيَةٍ أَعْظَمَ مِمَّا أَمَرَ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَنَهَى عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } . فَيُقَالُ : مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَأَعْمَالِهِ مَا يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الثَّابِتَةِ فِيهِ بِحَيْثُ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا ؛ لَزِمَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ وَلَا تَعَمُّدٍ لَهُ

وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . فَأَخْبَرَ أَنَّك لَا تَجِدُ مُؤْمِنًا يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ يُنَافِي مُوَادَّتَهُ كَمَا يَنْفِي أَحَدُ الضِّدَّيْنِ الْآخَرَ فَإِذَا وُجِدَ الْإِيمَانُ انْتَفَى ضِدُّهُ وَهُوَ مُوَالَاةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ بِقَلْبِهِ ؛ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ قَلْبَهُ لَيْسَ فِيهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ . وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } . فَذَكَرَ " جُمْلَةً شَرْطِيَّةً " تَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ بِحَرْفِ " لَوْ " الَّتِي تَقْتَضِي مَعَ الشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ فَقَالَ : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَذْكُورَ يَنْفِي اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَيُضَادُّهُ وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَاِتِّخَاذُهُمْ أَوْلِيَاءَ فِي الْقَلْبِ . وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ اتَّخَذَهُمْ أَوْلِيَاءَ ؛ مَا فَعَلَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ . وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى { لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } . فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ أَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَا يَكُونُ

مُؤْمِنًا . وَأَخْبَرَ هُنَا أَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ هُوَ مِنْهُمْ ؛ فَالْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّهَابَ الْمَذْكُورَ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ لَا يَجُوزُ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَذْهَبَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ فَمَنْ ذَهَبَ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ فَلِهَذَا نَفَى عَنْهُ الْإِيمَانَ فَإِنَّ حَرْفَ " إنَّمَا " تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ غَيْرِهِ.
وَمِنْ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ " إنَّ " لِلْإِثْبَاتِ وَ " مَا " لِلنَّفْيِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا دَلَّتْ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ بِعِلْمِ ، فَإِنَّ " مَا " هَذِهِ هِيَ الْكَافَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى إنَّ وَأَخَوَاتِهَا فَتَكُفُّهَا عَنْ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَعْمَلُ إذَا اخْتَصَّتْ بِالْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ فَلَمَّا كُفَّتْ بَطَلَ عَمَلُهَا وَاخْتِصَاصُهَا فَصَارَ يَلِيهَا الْجُمَلُ الْفِعْلِيَّةُ وَالِاسْمِيَّةُ ؛ فَتَغَيَّرَ مَعْنَاهَا وَعَمَلُهَا جَمِيعًا بِانْضِمَامِ " مَا " إلَيْهَا وَكَذَلِكَ " كَأَنَّمَا " وَغَيْرُهَا . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ } { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .

فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا هُوَ الْفَاعِلَ لِلْوَاجِبَاتِ التَّارِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ : فَقَدْ قَالَ : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } . قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ مُسْتَلْزِمًا لِمَا تَرَكَ ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ وَجَلَ قُلُوبِهِمْ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ ، وَزِيَادَةَ إيمَانِهِمْ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، وَكَذَلِكَ الْإِنْفَاقُ مِنْ الْمَالِ وَالْمَنَافِعِ ؛ فَكَانَ هَذَا مُسْتَلْزِمًا لِلْبَاقِي ؛ فَإِنَّ وَجَلَ الْقَلْبِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ يَقْتَضِي خَشْيَتَهُ وَالْخَوْفَ مِنْهُ . وَقَدْ فَسَّرُوا ( وَجِلَتْ ) بفرقت . وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ : ( إذَا ذُكِرَ اللَّهُ فَرِقَتْ قُلُوبُهُمْ ) . وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ " الْوَجَلَ فِي اللُّغَةِ " هُوَ الْخَوْفُ يُقَالُ : حُمْرَةُ الْخَجَلِ وَصُفْرَةُ الْوَجَلِ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } { قَالَتْ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَخَافُ أَنْ يُعَاقَبَ ؟ قَالَ : لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ } . وَقَالَ السدي فِي قَوْله تَعَالَى { الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } هُوَ

الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ أَوْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةِ فَيَنْزِعُ عَنْهُ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } وَقَوْلِهِ : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } . قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ ؛ فَيَتْرُكُهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ . وَإِذَا كَانَ " وَجَلُ الْقَلْبِ مِنْ ذِكْرِهِ " يَتَضَمَّنُ خَشْيَتَهُ وَمَخَافَتَهُ ؛ فَذَلِكَ يَدْعُو صَاحِبَهُ إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ . قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ أَغْلَظَ مِنْ الدَّعْوَى ، وَلَا طَرِيقٌ إلَيْهِ أَقْرَبَ مِنْ الِافْتِقَارِ ، وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ لِلَّذِينَ يَرْهَبُونَ اللَّهَ . قَالَ مُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ : هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُذْنِبَ الذَّنْبَ فَيَذْكُرَ مَقَامَ اللَّهِ فَيَدَعَ الذَّنْبَ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ ابْنِ الْجَعْدِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ هما فِي قَوْله تَعَالَى { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } . وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْفَلَاحِ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَهُمْ " الْمُؤْمِنُونَ " وَهُمْ " الْمُتَّقُونَ " الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } . وَإِذَا لَمْ يَضِلَّ فَهُوَ مُتَّبِعٌ مُهْتَدٍ ،

وَإِذَا لَمْ يَشْقَ فَهُوَ مَرْحُومٌ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . فَإِنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَيْسُوا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ . وَأَهْلُ الْهُدَى لَيْسُوا ضَالِّينَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ رَهْبَةِ اللَّهِ يَكُونُونَ مُتَّقِينَ لِلَّهِ مُسْتَحِقِّينَ لِجَنَّتِهِ بِلَا عَذَابٍ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْشَاهُ إلَّا عَالِمٌ ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } . وَالْخَشْيَةُ أَبَدًا مُتَضَمِّنَةٌ لِلرَّجَاءِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ قُنُوطًا ؛ كَمَا أَنَّ الرَّجَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَمْنًا ؛ فَأَهْلُ الْخَوْفِ لِلَّهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ مَدَحَهُمْ اللَّهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَيَّانٍ التيمي أَنَّهُ قَالَ : " الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ " . فَعَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ ، وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ عَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ . فَالْعَالِمُ بِاَللَّهِ هُوَ الَّذِي يَخَافُهُ وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ . وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ } . وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْخَشْيَةِ هُمْ الْعُلَمَاءُ الْمَمْدُوحُونَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلذَّمِّ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :

{ فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } { وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } . وَقَوْلُهُ : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } . فَوَعَدَ بِنَصْرِ الدُّنْيَا وَبِثَوَابِ الْآخِرَةِ لِأَهْلِ الْخَوْفِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِأَنَّهُمْ أَدَّوْا الْوَاجِبَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ يَسْتَلْزِمُ فِعْلَ الْوَاجِبِ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْفَاجِرِ : لَا يَخَافُ اللَّهَ . وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا لِي : كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ وَكَذَلِكَ قَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ . قَالَ مُجَاهِدٌ : كُلُّ عَاصٍ فَهُوَ جَاهِلٌ حِينَ مَعْصِيَتِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ وقتادة وَعَطَاءٌ والسدي وَغَيْرُهُمْ : إنَّمَا سُمُّوا جُهَّالًا لِمَعَاصِيهِمْ لَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُمَيِّزِينَ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّهُ سُوءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ أَتَى مَا يَجْهَلُهُ كَانَ كَمَنْ لَمْ يُوَاقِعْ سُوءًا ؛ وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُمْ عَمِلُوهُ وَهُمْ يَجْهَلُونَ الْمَكْرُوهَ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ بِأَنَّ عَاقِبَتَهُ مَكْرُوهَةٌ وَآثَرُوا الْعَاجِلَ عَلَى الْآجِلِ ؛ فَسُمُّوا جُهَّالًا لِإِيثَارِهِمْ الْقَلِيلَ عَلَى الرَّاحَةِ الْكَثِيرَةِ وَالْعَافِيَةِ الدَّائِمَةِ . فَقَدْ جَعَلَ الزَّجَّاجُ " الْجَهْلَ " إمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِعَاقِبَةِ الْفِعْلِ وَإِمَّا فَسَادُ الْإِرَادَةِ ؛ وَقَدْ يُقَالُ : هُمَا مُتَلَازِمَانِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي الْكَلَامِ مَعَ الْجَهْمِيَّة . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كُلَّ عَاصٍ لِلَّهِ فَهُوَ جَاهِلٌ ، وَكُلَّ خَائِفٍ مِنْهُ فَهُوَ عَالِمٌ

مُطِيعٌ لِلَّهِ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ جَاهِلًا لِنَقْصِ خَوْفِهِ مِنْ اللَّهِ إذْ لَوْ تَمَّ خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ لَمْ يَعْصِ . وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا . وَذَلِكَ لِأَنَّ تَصَوُّرَ الْمَخُوفِ يُوجِبُ الْهَرَبَ مِنْهُ وَتَصَوُّرَ الْمَحْبُوبِ يُوجِبُ طَلَبَهُ فَإِذَا لَمْ يَهْرُبْ مِنْ هَذَا وَلَمْ يَطْلُبْ هَذَا ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ تَصَوُّرًا تَامًّا ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَتَصَوَّرُ الْخَبَرَ عَنْهُ ، وَتَصَوُّرُ الْخَبَرِ وَتَصْدِيقُهُ وَحِفْظُ حُرُوفِهِ غَيْرُ تَصَوُّرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَصَوَّرُ مَحْبُوبًا لَهُ وَلَا مَكْرُوهًا ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُصَدِّقُ بِمَا هُوَ مَخُوفٌ عَلَى غَيْرِهِ وَمَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ وَلَا يُورِثُهُ ذَلِكَ هَرَبًا وَلَا طَلَبًا . وَكَذَلِكَ إذَا أُخْبِرَ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ لَهُ وَمَكْرُوهٌ وَلَمْ يُكَذِّبْ الْمُخْبِرَ بَلْ عَرَفَ صِدْقَهُ ؛ لَكِنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ بِأُمُورِ أُخْرَى عَنْ تَصَوُّرِ مَا أُخْبِرَ بِهِ ؛ فَهَذَا لَا يَتَحَرَّكُ لِلْهَرَبِ وَلَا لِلطَّلَبِ . وَفِي الْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَيُرْوَى مُرْسَلًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعِلْمُ عِلْمَانِ فَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ . فَعِلْمُ الْقَلْبِ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ ؛ وَعِلْمُ اللِّسَانِ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ } . وَقَدْ أَخْرَجَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ . وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا . وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا } . وَهَذَا الْمُنَافِقُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يَحْفَظُهُ وَيَتَصَوَّرُ مَعَانِيَهُ وَقَدْ يُصَدِّقُ أَنَّهُ

كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ . وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا . كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَكَذَلِكَ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَغَيْرُهُمَا . لَكِنْ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ ؛ لَمْ يَكُنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ التَّامُّ وَالْمَعْرِفَةُ التَّامَّةُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِمُوجِبِهِ لَا مَحَالَةَ ؛ وَلِهَذَا صَارَ يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ : إنَّهُ جَاهِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْعَقْلِ " - وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْأَصْلِ : مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا وَكَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ جَعَلَهُ مِنْ جِنْسِ الْعُلُومِ - فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِلْمٌ يُعْمَلُ بِمُوجِبِهِ فَلَا يُسَمَّى " عَاقِلًا " إلَّا مَنْ عَرَفَ الْخَيْرَ فَطَلَبَهُ وَالشَّرَّ فَتَرَكَهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ النَّارِ : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ } . وَمَنْ فَعَلَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ ؛ فَمِثْلُ هَذَا مَا لَهُ عَقْلٌ . فَكَمَا أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِهِ ؛ فَالْعِلْمُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ خَشْيَتَهُ وَخَشْيَتُهُ تَسْتَلْزِمُ طَاعَتَهُ . فَالْخَائِفُ مِنْ اللَّهِ مُمْتَثِلٌ لِأَوَامِرِهِ مُجْتَنِبٌ لِنَوَاهِيهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَصَدْنَا بَيَانَهُ أَوَّلًا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } { الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } . فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَخْشَاهُ يَتَذَكَّرُ ، وَالتَّذَكُّرُ هُنَا مُسْتَلْزِمٌ لِعِبَادَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ } . وَقَالَ : { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } . وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ

{ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } سَيَتَّعِظُ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ . وَفِي قَوْلِهِ { وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ } إنَّمَا يَتَّعِظُ مَنْ يَرْجِعُ إلَى الطَّاعَةِ . وَهَذَا لِأَنَّ التَّذَكُّرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ التَّأَثُّرَ بِمَا تَذَكَّرَهُ ؛ فَإِنْ تَذَكَّرَ مَحْبُوبًا طَلَبَهُ وَإِنْ تَذَكَّرَ مَرْهُوبًا هَرَبَ مِنْهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } . فَنَفَى الْإِنْذَارَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مَعَ قَوْلِهِ : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } . فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِنْذَارَ مِنْ وَجْهٍ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ مِنْ وَجْهٍ ؛ فَإِنَّ الْإِنْذَارَ هُوَ الْإِعْلَامُ بِالْمَخُوفِ . فَالْإِنْذَارُ مِثْلُ التَّعْلِيمِ وَالتَّخْوِيفِ فَمَنْ عَلَّمْتَهُ فَتَعَلَّمَ فَقَدْ تَمَّ تَعْلِيمُهُ وَآخَرُ يَقُولُ : عَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ . وَكَذَلِكَ مَنْ خَوَّفْتَهُ فَخَافَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَمَّ تَخْوِيفُهُ . وَأَمَّا مَنْ خُوِّفَ فَمَا خَافَ ؛ فَلَمْ يَتِمَّ تَخْوِيفُهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ هَدَيْتَهُ فَاهْتَدَى ؛ تَمَّ هُدَاهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } . وَمَنْ هَدَيْتَهُ فَلَمْ يَهْتَدِ - كَمَا قَالَ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } - فَلَمْ يَتِمَّ هُدَاهُ كَمَا تَقُولُ : قَطَّعْتُهُ فَانْقَطَعَ وَقَطَّعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ . فَالْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يَسْتَلْزِمُ أَثَرَهُ : فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ أَثَرُهُ لَمْ يَكُنْ تَامًّا وَالْفِعْلُ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا قَابِلًا تَمَّ وَإِلَّا لَمْ يَتِمَّ . وَالْعِلْمُ بِالْمَحْبُوبِ يُورِثُ طَلَبَهُ وَالْعِلْمُ بِالْمَكْرُوهِ يُورِثُ تَرْكَهُ ؛ وَلِهَذَا يُسَمَّى هَذَا الْعِلْمُ : الدَّاعِيَ وَيُقَالُ : الدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمَطْلُوبِ الْمُسْتَلْزِمِ لِإِرَادَةِ الْمَعْلُومِ الْمُرَادِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ مَعَ صِحَّةِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا وَأَمَّا مَعَ فَسَادِهَا فَقَدْ يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِاللَّذِيذِ فَلَا يَجِدُ لَهُ لَذَّةً بَلْ يُؤْلِمُهُ ، وَكَذَلِكَ يَلْتَذُّ بِالْمُؤْلِمِ لِفَسَادِ الْفِطْرَةِ ، وَالْفَسَادُ

يَتَنَاوَلُ الْقُوَّةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْعَمَلِيَّةَ جَمِيعًا كَالْمَمْرُورِ الَّذِي يَجِدُ الْعَسَلَ مُرًّا : فَإِنَّهُ فَسَدَ نَفْسُ إحْسَاسِهِ حَتَّى كَانَ يُحِسُّ بِهِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِلْمَرَّةِ الَّتِي مَازَجَتْهُ وَكَذَلِكَ مَنْ فَسَدَ بَاطِنُهُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } . وَقَالَ : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } . وَ " الْغُلْفُ " : جَمْعُ أَغْلَفَ وَهُوَ ذُو الْغِلَافِ الَّذِي فِي غِلَافٍ مِثْلِ الْأَقْلَفِ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَانِعَ خِلْقَةً أَيْ خُلِقَتْ الْقُلُوبُ وَعَلَيْهَا أَغْطِيَةٌ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } و { طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } . وَكَذَلِكَ قَالُوا : { يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ } قَالَ : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } أَيْ لَأَفْهَمَهُمْ مَا سَمِعُوهُ . ثُمَّ قَالَ : وَلَوْ أَفْهَمَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا { لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } فَقَدْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا وَلَوْ فَهِمُوا لَمْ يَعْمَلُوا . فَنَفَى عَنْهُمْ صِحَّةَ الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَصِحَّةَ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَقَالَ : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ

سَبِيلًا } . وَقَالَ : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } . وَقَالَ : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ ؛ جُعِلُوا صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا أَوْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ صَارُوا كَالصُّمِّ الْعُمْيِ الْبُكْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ نَفْسُ قُلُوبِهِمْ عَمِيَتْ وَصَمَّتْ وَبَكِمَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } " وَالْقَلْبُ " هُوَ الْمَلِكُ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ وَإِذَا صَلَحَ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ سَائِرُ الْجَسَدِ فَيَبْقَى يَسْمَعُ بِالْأُذُنِ الصَّوْتَ كَمَا تَسْمَعُ الْبَهَائِمُ ، وَالْمَعْنَى : لَا يَفْقَهُهُ وَإِنْ فَقِهَ بَعْضَ الْفِقْهِ لَمْ يَفْقَهْ فِقْهًا تَامًّا فَإِنَّ الْفِقْهَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ وَبُغْضَ الْمَكْرُوهِ ؛ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لَمْ يَكُنْ التَّصَوُّرُ التَّامُّ حَاصِلًا فَجَازَ نَفْيُهُ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتِمَّ يُنْفَى كَقَوْلِهِ لِلَّذِي أَسَاءَ فِي صَلَاتِهِ : { صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } . فَنَفَى الْإِيمَانَ حَيْثُ نَفَى مِنْ هَذَا الْبَابِ .
وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِوَجَلِ الْقَلْبِ إذَا ذُكِرَ وَبِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ إذَا سَمِعُوا آيَاتِهِ . قَالَ الضَّحَّاكُ : زَادَتْهُمْ يَقِينًا . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : خَشْيَةً . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَصْدِيقًا . وَهَكَذَا قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ

يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
وَ " الْخُشُوعُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ .
وَالثَّانِي : السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلِينِ الْقَلْبِ الْمُنَافِي لِلْقَسْوَةِ ؛ فَخُشُوعُ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ وَطُمَأْنِينَتَهُ أَيْضًا وَلِهَذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ يَتَضَمَّنُ هَذَا وَهَذَا : التَّوَاضُعَ وَالسُّكُونَ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } . قَالَ : مُخْبِتُونَ أَذِلَّاءَ . وَعَنْ الْحَسَنِ وقتادة : خَائِفُونَ . وَعَنْ مُقَاتِلٍ : مُتَوَاضِعُونَ . وَعَنْ عَلِىّ : الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَأَنْ تُلِينَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ كَنَفَك وَلَا تَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا : وَقَالَ مُجَاهِدٌ : غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجَنَاحِ وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَهَابُ الرَّحْمَنَ أَنْ يَشِذَّ بَصَرُهُ أَوْ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : لَيْسَ الْخُشُوعُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ؛ وَلَكِنَّهُ السُّكُونُ وَحُبُّ حُسْنِ الْهَيْئَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَعَنْ ابْنِ سِيرِين وَغَيْرِهِ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الصَّلَاةِ إلَى السَّمَاءِ وَيَنْظُرُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } الْآيَةَ . فَجَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَبْصَارَهُمْ حَيْثُ يَسْجُدُونَ وَمَا رُئِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إلَّا إلَى الْأَرْضِ . } وَعَنْ عَطَاءٍ : هُوَ أَنْ لَا تَعْبَثَ بِشَيْءِ مِنْ جَسَدِك وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ . { وَأَبْصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : لَوْ خَشَعَ

قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ } . وَلَفْظُ " الْخُشُوعِ " - إنْ شَاءَ اللَّهُ - يُبْسَطُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَ " خُشُوعُ الْجَسَدِ " تَبَعٌ لِخُشُوعِ الْقَلْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ مُرَائِيًا يُظْهِرُ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ كَمَا رُوِيَ : { تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ } وَهُوَ أَنْ يُرَى الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ خَالِيًا لَاهِيًا . فَهُوَ سُبْحَانَهُ اسْتَبْطَأَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } فَدَعَاهُمْ إلَى خُشُوعِ الْقَلْبِ لِذِكْرِهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِهِ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا كَاَلَّذِينَ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } . وَاَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَخُشُوعُ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَاجِبٌ . قِيلَ : نَعَمْ لَكِنَّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ : " مُقْتَصِدٌ " " وَسَابِقٌ " فَالسَّابِقُونَ يَخْتَصُّونَ بالمستحبات وَالْمُقْتَصِدُونَ الْأَبْرَارُ : هُمْ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ ؛ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ } .

وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ " قَسْوَةَ الْقُلُوبِ " الْمُنَافِيَةَ لِلْخُشُوعِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } . قَالَ الزَّجَّاجُ : قَسَتْ فِي اللُّغَةِ : غَلُظَتْ وَيَبِسَتْ وَعَسِيَتْ . فَقَسْوَةُ الْقَلْبِ ذَهَابُ اللِّينِ وَالرَّحْمَةِ وَالْخُشُوعِ مِنْهُ وَالْقَاسِي والعاسي : الشَّدِيدُ الصَّلَابَةِ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : قَسَتْ وَعَسَتْ وَعَتَتْ . أَيْ يَبِسَتْ . وَقُوَّةُ الْقَلْبِ الْمَحْمُودَةُ غَيْرُ قَسْوَتِهِ الْمَذْمُومَةِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَلَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ . وَفِي الْأَثَرِ : { الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ أَصْلَبُهَا وَأَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا } . وَهَذَا كَالْيَدِ فَإِنَّهَا قَوِيَّةٌ لَيِّنَةٌ بِخِلَافِ مَا يَقْسُو مِنْ الْعَقِبِ فَإِنَّهُ يَابِسٌ لَا لِينَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ .
وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ وَجَلَ الْقَلْبِ مِنْ ذِكْرِهِ ثُمَّ ذَكَرَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ عِنْدَ تِلَاوَةِ كِتَابِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا . ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَمِنْ طَاعَتِهِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَصْلُ ذَلِكَ " الصَّلَاةُ " وَ " الزَّكَاةُ " . فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْخَمْسِ كَمَا أُمِرَ لَزِمَ أَنْ يَأْتِيَ بِسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ . بَلْ " الصَّلَاةُ نَفْسُهَا " إذَا فَعَلَهَا كَمَا أُمِرَ فَهِيَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ فِي الصَّلَاةِ مُنْتَهًى وَمُزْدَجَرًا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِصَلَاتِهِ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا " . وَقَوْلُهُ : " لَمْ يَزْدَدْ إلَّا بُعْدًا " إذَا كَانَ مَا تَرَكَ مِنْ الْوَاجِبِ مِنْهَا أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَهُ ، أَبْعَدَهُ تَرْكُ الْوَاجِبِ الْأَكْثَرِ مِنْ اللَّهِ أَكْثَرَ مِمَّا قَرَّبَهُ فِعْلُ الْوَاجِبِ الْأَقَلِّ ، وَهَذَا

كَمَا فِي " الصَّحِيحِ " { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ، يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَمَّارٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا ، إلَّا ثُلُثُهَا . . حَتَّى قَالَ : إلَّا عُشْرُهَا } وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا . وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَأْتِيَ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ بِمَا يَجْبُرُ نَقْصَ فَرْضِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ بِخُشُوعِهَا الْبَاطِنِ وَأَعْمَالِهَا الظَّاهِرَةِ وَكَانَ يَخْشَى اللَّهَ الْخَشْيَةَ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْوَاجِبَاتِ ؛ وَلَا يَأْتِي كَبِيرَةً . وَمَنْ أَتَى الْكَبَائِرَ - مِثْلَ الزِّنَا أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ تِلْكَ الْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ وَالنُّورِ ؛ وَإِنْ بَقِيَ أَصْلُ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِهِ . وَهَذَا مِنْ " الْإِيمَانِ " الَّذِي يُنْزَعُ مِنْهُ عِنْدَ فِعْلِ الْكَبِيرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } .
فَإِنَّ " الْمُتَّقِينَ " كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } فَإِذَا طَافَ بِقُلُوبِهِمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ

تَذَكَّرُوا فَيُبْصِرُونَ . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : هُوَ الرَّجُلُ يَغْضَبُ الْغَضْبَةَ فَيَذْكُرُ اللَّهَ ؛ فَيَكْظِمُ الْغَيْظَ . وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ : هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالذَّنْبِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعُهُ . وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ مَبْدَأُ السَّيِّئَاتِ فَإِذَا أَبْصَرَ رَجَعَ ثُمَّ قَالَ : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } . أَيْ : وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ تَمُدُّهُمْ الشَّيَاطِينُ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا الْإِنْسُ تُقْصِرُ عَنْ السَّيِّئَاتِ . وَلَا الشَّيَاطِينُ تُمْسِكُ عَنْهُمْ . فَإِذَا لَمْ يُبْصِرْ بَقِيَ قَلْبُهُ فِي غَيٍّ وَالشَّيْطَانُ يَمُدُّهُ فِي غَيِّهِ . وَإِنْ كَانَ التَّصْدِيقُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُكَذِّبْ . فَذَلِكَ النُّورُ وَالْإِبْصَارُ . وَتِلْكَ الْخَشْيَةُ وَالْخَوْفُ يَخْرُجُ مِنْ قَلْبِهِ . وَهَذَا : كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ فَلَا يَرَى شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى ؛ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ بِمَا يَغْشَاهُ مِنْ رَيْنِ الذُّنُوبِ لَا يُبْصِرُ الْحَقَّ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى كَعَمَى الْكَافِرِ . وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْآثَارِ : قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ ( الْإِيمَانِ ) : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يُنْزَعُ مِنْهُ الْإِيمَانُ ؛ فَإِنْ تَابَ أُعِيدَ إلَيْهِ } . وَقَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عَوْفٍ قَالَ : قَالَ الْحَسَنُ : " يُجَانِبُهُ الْإِيمَانُ مَا دَامَ كَذَلِكَ فَإِنْ رَاجَعَ رَاجَعَهُ الْإِيمَانُ " . وَقَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ الأوزاعي قَالَ : وَقَدْ قُلْت لِلزُّهْرِيِّ حِينَ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ - { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا فَمَا هُوَ ؟ قَالَ : فَأَنْكَرَ ذَلِكَ . وَكَرِهَ مَسْأَلَتِي عَنْهُ . وَقَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ . عَنْ سُفْيَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ

مُهَاجِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِغِلْمَانِهِ : مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ زَوَّجْنَاهُ لَا يَزْنِي مِنْكُمْ زَانٍ إلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ نُورَ الْإِيمَانِ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهُ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَمْنَعَهُ مَنَعَهُ . وَقَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنَّمَا الْإِيمَانُ كَثَوْبِ أَحَدِكُمْ يَلْبَسُهُ مَرَّةً وَيَقْلَعُهُ أُخْرَى } وَكَذَلِكَ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا . وَفِي حَدِيثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا زَنَى الزَّانِي خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ كَالظُّلَّةِ فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَعَ إلَيْهِ الْإِيمَانُ } . وَهَذَا ( إنْ شَاءَ اللَّهُ ) يُبْسَطُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .

فَصْلٌ :
وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي صِحَّتِهَا ، مِثْلُ قَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءِ وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ كَقَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورِ } وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الطَّهُورَ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا نَفَى الصَّلَاةَ لِانْتِفَاءِ وَاجِبٍ فِيهَا وَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُضُوءِ ؛ فَفِي وُجُوبِهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُوجِبُونَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا الخَرْقِي وَأَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمَا . وَالثَّانِي : يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَصْحَابُهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } رَوَاهُ الدارقطني . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُضَعِّفُهُ مَرْفُوعًا وَيَقُولُ : هُوَ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُ كَعَبْدِ الْحَقِّ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَقِيلَ : إنَّ رَفْعَهُ لَمْ يَصِحَّ وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَوْ حَفْصَةَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُثْبِتَ لَفْظًا عَنْ الرَّسُولِ مَعَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ

الْمُسْتَحَبِّ فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ دَلَّتْ قَطْعًا عَلَى وُجُوبِ هَذِهِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنْ لَمْ تَصِحَّ فَلَا يُنْقَضُ بِهَا أَصْلٌ مُسْتَقِرٌّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِهِ إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَإِلَّا فَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ تَابِعَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ قَوْلُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَابِعًا لِأَقْوَالِهِمْ . فَإِذَا كَانَ فِي وُجُوبِ شَيْءٍ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَلَفْظُ الشَّارِعِ قَدْ اطَّرَدَ فِي مَعْنًى ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ الْأَصْلُ الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَوْلِ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ نَشَأَ عَلَى قَوْلٍ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ فَيَظُنُّهُ إجْمَاعًا كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْجَمَاعَةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ إجْمَاعًا ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي إجْزَاءِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد فِيهَا قَوْلَانِ ؛ فَطَائِفَةٌ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ - حَكَاهُ عَنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَمِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ - يَقُولُونَ : مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُسَوِّغُ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا فِي جَمَاعَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِلَّا بَاءَ بِإِثْمِهِ كَمَا يَبُوءُ تَارِكُ الْجُمُعَةِ بِإِثْمِهِ ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ . وَهَذَا قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَأَكْثَرُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَدُلُّ عَلَى هَذَا . وَقَدْ احْتَجُّوا بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ

ثُمَّ لَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ؛ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ التَّفْضِيلِ بِأَنَّهُ فِي الْمَعْذُورِ الَّذِي تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ وَحْدَهُ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاةُ الْمُضْطَجِعِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْذُورُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ خَرَجَ وَقَدْ أَصَابَهُمْ وَعْكٌ وَهُمْ يُصَلُّونَ قُعُودًا فَقَالَ ذَلِكَ . وَلَمْ يُجَوِّزْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ مُضْطَجِعًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَجَوَازُهُ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ، وَلَا يُعْرَفُ لِصَاحِبِهِ سَلَفُ صِدْقٍ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِمَّا تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى ؛ فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ عَلَى جَنْبِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ لَا مَرَضَ بِهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا وَعَلَى الرَّاحِلَةِ ؛ لَكَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ تَعْلَمُ ذَلِكَ ، ثُمَّ مَعَ قُوَّةِ الدَّاعِي إلَى الْخَيْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُقَدِّرَ قَدْرَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ بَلْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ إلَّا عَلَى مَا عُرِفَ أَنَّهُ أَرَادَهُ لَا عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ فِي كَلَامِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَأَوَّلُ النُّصُوصَ الْمُخَالِفَةَ لِقَوْلِهِ ؛ يَسْلُكُ مَسْلَكَ مَنْ يَجْعَلُ " التَّأْوِيلَ " كَأَنَّهُ ذَكَرَ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَقَصْدُهُ بِهِ دَفْعُ ذَلِكَ الْمُحْتَجِّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ النَّصِّ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ بَلْ جَمِيعُ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ

يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ . فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَنَكْفُرَ بِبَعْضِ ، وَلَيْسَ الِاعْتِنَاءُ بِمُرَادِهِ فِي أَحَدِ النَّصَّيْنِ دُونَ الْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ ، فَإِذَا كَانَ النَّصُّ الَّذِي وَافَقَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ مُرَادَ الرَّسُولِ ؛ فَكَذَلِكَ النَّصُّ الْآخَرُ الَّذِي تَأَوَّلَهُ فَيَكُونُ أَصْلُ مَقْصُودِهِ مَعْرِفَةَ مَا أَرَادَهُ الرَّسُولُ بِكَلَامِهِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِكُلِّ مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرٍ وَتَأْوِيلٍ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ اصْطِلَاحُهُ تَغَايُرَ مَعْنَاهُمَا . وَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ ؛ فَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّفْسِيرُ . وَأَمَّا " التَّأْوِيلُ " فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَلَهُ مَعْنًى ثَالِثٌ غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ . وَغَيْرَ مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ ؛ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كُلَّ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مُسَمَّى أَسْمَاءِ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ كَاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّهَارَةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّمَا يَكُونُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ ذَلِكَ الْمُسَمَّى وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فَلَمَّا نَفَى الْإِيمَانَ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْغَايَةُ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ فَرْضٌ عَلَى النَّاسِ ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ الَّذِي وُعِدَ أَهْلُهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا وَعَدَ بِذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ بَعْضَهَا ؛ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ .
وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ " تَحْكِيمُ الرَّسُولِ " فِي كُلِّ مَا شَجَرَ بَيْنَ

النَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ وَفُرُوعِهِ وَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إذَا حَكَمَ بِشَيْءِ أَلَّا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا حَكَمَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا . قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } . وَقَوْلُهُ : { إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَهِيَ السُّنَّةُ قَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } . وَالدُّعَاءُ إلَى مَا أَنْزَلَ يَسْتَلْزِمُ الدُّعَاءَ إلَى الرَّسُولِ ، وَالدُّعَاءُ إلَى الرَّسُولِ يَسْتَلْزِمُ الدُّعَاءَ إلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ ، وَهَذَا مِثْلُ طَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَمَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ أَطَاعَ الرَّسُولَ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } . فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ ؛ فَكُلُّ مَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ شَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى . فَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مُخْطِئٌ ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ وَهُوَ مُخْطِئٌ .
وَهَذِهِ " الْآيَةُ " تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إجْمَاعَ الْمُؤْمِنِينَ حُجَّةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ

مُسْتَلْزِمَةٌ لِمُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَأَنَّ كُلَّ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ الرَّسُولِ ؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ يُقْطَعُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ وَبِانْتِفَاءِ الْمُنَازِعِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّهَا مِمَّا بَيَّنَ اللَّهُ فِيهِ الْهُدَى ، وَمُخَالِفُ مِثْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ يَكْفُرُ كَمَا يَكْفُرُ مُخَالِفُ النَّصِّ الْبَيِّنِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ يُظَنُّ الْإِجْمَاعُ وَلَا يُقْطَعُ بِهِ فَهُنَا قَدْ لَا يُقْطَعُ أَيْضًا بِأَنَّهَا مِمَّا تَبَيَّنَ فِيهِ الْهُدَى مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ ، وَمُخَالِفُ مِثْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ قَدْ لَا يَكْفُرُ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ظَنُّ الْإِجْمَاعِ خَطَأً . وَالصَّوَابُ فِي خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِيمَا يَكْفُرُ بِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَمَا لَا يَكْفُرُ . وَ " الْإِجْمَاعُ " هَلْ هُوَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ أَوْ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ ؟ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُطْلِقُ الْإِثْبَاتَ بِهَذَا أَوْ هَذَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ النَّفْيَ لِهَذَا وَلِهَذَا . وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُقْطَعُ بِهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَيُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُنَازِعٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَصْلًا ؛ فَهَذَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَقٌّ ؛ وَهَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا بَيَّنَ فِيهِ الرَّسُولُ الْهُدَى ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إذَا وَصَفَ الْوَاجِبَ بِصِفَاتِ مُتَلَازِمَةٍ ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ مَتَى ظَهَرَتْ وَجَبَ اتِّبَاعُهَا وَهَذَا مِثْلُ { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِسُؤَالِ هِدَايَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِأَنَّهُ الْإِسْلَامُ وَوُصِفَ بِأَنَّهُ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَوُصِفَ بِأَنَّهُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَوُصِفَ بِأَنَّهُ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ يَجِبُ اتِّبَاعُ مُسَمَّاهُ ، وَمُسَمَّاهَا كُلِّهَا وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَاتُهُ ؛ فَأَيُّ صِفَةٍ ظَهَرَتْ وَجَبَ اتِّبَاعُ مَدْلُولِهَا فَإِنَّهُ مَدْلُولُ الْأُخْرَى . وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَاءُ كِتَابِهِ وَأَسْمَاءُ رَسُولِهِ هِيَ مِثْلُ أَسْمَاءِ دِينِهِ .

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى . { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } قِيلَ : حَبْلُ اللَّهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ : الْقُرْآنُ وَقِيلَ : عَهْدُهُ وَقِيلَ : طَاعَتُهُ وَأَمْرُهُ وَقِيلَ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَكُلُّ هَذَا حَقٌّ . وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَمَدْلُولُ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْكِتَابِ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِقٌ لَهُ وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَلَيْسَ فِي الْمُؤْمِنِينَ إلَّا مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِاتِّبَاعِهِ فِيهِ وَالْمُؤْمِنُونَ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا مُوَافِقًا لِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ لَكِنْ الْمُسْلِمُونَ يَتَلَقَّوْنَ دِينَهُمْ كُلَّهُ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ وَحْيُ الْقُرْآنِ وَوَحْيٌ آخَرُ هُوَ الْحِكْمَةُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ } . وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ : { كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ فَيُعَلِّمُهُ إيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ . } فَلَيْسَ كُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا فِي الْقُرْآنِ ؛ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ ؛ وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْإِيمَانِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } . وَقَوْلُهُ : { آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ } . فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ مَا قَامَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَوَّلِ

الْأَمْرِ وَكَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ؛ أَحَبَّهُمْ قَطْعًا فَيَكُونُ حُبُّهُ لَهُمْ عَلَامَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ بُغْضُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ؛ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبْغِضًا لِشَيْءِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَصْلًا ؛ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إيمَانٌ أَصْلًا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ؛ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ فَحَيْثُ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَنْ شَخْصٍ ؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِنَقْصِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَكُونُ مِنْ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ لَيْسَ مِنْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعْدِ الْمُطْلَقِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا } كُلُّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَا يَقُولُهُ إلَّا لِمَنْ تَرَكَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ فَعَلَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَرَكَ مِنْ الْإِيمَانِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي عَنْهُ الِاسْمَ لِأَجْلِهِ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعْدِ السَّالِمِينَ مِنْ الْوَعِيدِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ } { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

{ إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . فَهَذَا حُكْمُ اسْمِ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَنْ نَفَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ الْإِيمَانَ ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ وَاجِبًا أَوْ فَعَلَ مُحَرَّمًا فَلَا يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَهْلُهُ الْوَعْدَ دُونَ الْوَعِيدِ ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي : لَمَّا كَانَتْ الْمَعَاصِي بَعْضُهَا كُفْرٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِكُفْرِ فَرَّقَ بَيْنَهَا فَجَعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ مِنْهَا كُفْرٌ وَنَوْعٌ مِنْهَا فُسُوقٌ وَلَيْسَ بِكُفْرِ وَنَوْعٌ عِصْيَانٌ وَلَيْسَ بِكُفْرِ وَلَا فُسُوقٍ . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَرَّهَهَا كُلَّهَا إلَى الْمُؤْمِنِينَ . وَلَمَّا كَانَتْ الطَّاعَاتُ كُلُّهَا دَاخِلَةٍ فِي الْإِيمَانِ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ خَارِجٌ عَنْهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا فَيَقُولُ : حَبَّبَ إلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَالْفَرَائِضَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ ؛ بَلْ أَجْمَلَ ذَلِكَ فَقَالَ : { حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ } . فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَبَّبَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ حُبَّ تَدَيُّنٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ : أَنَّهُ حَبَّبَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ لِقَوْلِهِ : { حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ } وَيَكْرَهُونَ جَمِيعَ الْمَعَاصِي ؛ الْكُفْرَ مِنْهَا وَالْفُسُوقَ وَسَائِرَ الْمَعَاصِي كَرَاهَةَ تَدَيُّنٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ : أَنَّهُ كَرَّهَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

{ مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ } لِأَنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْحَسَنَاتِ وَكَرَّهَ إلَيْهِمْ السَّيِّئَاتِ . " قُلْت " : وَتَكْرِيهُهُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي إلَيْهِمْ يَسْتَلْزِمُ حُبَّ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الطَّاعَاتِ مَعْصِيَةٌ وَلِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا إنْ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِضِدِّهَا فَيَكُونُ مُحِبًّا لِضِدِّهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ ؛ إذْ الْقَلْبُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إرَادَةٍ فَإِذَا كَانَ يَكْرَهُ الشَّرَّ كُلَّهُ ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ الْخَيْرَ . وَالْمُبَاحُ بِالنِّيَّةِ الْحَسَنَةِ يَكُونُ خَيْرًا وَبِالنِّيَّةِ السَّيِّئَةِ يَكُونُ شَرًّا . وَلَا يَكُونُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ إلَّا بِإِرَادَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ : عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ : حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا : حَرْبٌ وَمُرَّةُ } . وَقَوْلُهُ أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ : حَارِثٌ وَهَمَّامٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ هَمَّامٌ حَارِثٌ وَالْحَارِثُ الْكَاسِبُ الْعَامِلُ . وَالْهَمَّامُ الْكَثِيرُ الْهَمِّ - وَهُوَ مَبْدَأُ الْإِرَادَةِ - وَهُوَ حَيَوَانٌ ، وَكُلُّ حَيَوَانٍ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ فَإِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُبَاحَاتِ ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ غَايَةٍ يَنْتَهِي إلَيْهَا قَصْدُهُ . وَكُلُّ مَقْصُودٍ إمَّا أَنْ يُقْصَدَ لِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ لِغَيْرِهِ . فَإِنْ كَانَ مُنْتَهَى مَقْصُودِهِ وَمُرَادِهِ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ إلَهُهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا سِوَاهُ وَهُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ ؛ فَإِنَّ إرَادَتَهُ تَنْتَهِي إلَى إرَادَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَيُثَابُ عَلَى مُبَاحَاتِهِ الَّتِي يَقْصِدُ الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً } . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ { قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا

مَرِضَ بِمَكَّةَ وَعَادَهُ - إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةُ تَرْفَعُهَا إلَى فِي امْرَأَتِك } . وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ لِأَبِي مُوسَى : " إنِّي أَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي " . وَفِي الْأَثَرِ : نَوْمُ الْعَالِمِ تَسْبِيحٌ . وَإِنْ كَانَ أَصْلُ مَقْصُودِهِ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ ؛ لَمْ تَكُنْ الطَّيِّبَاتُ مُبَاحَةً لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَبَاحَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ ؛ بَلْ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْجَرَائِمِ وَالذُّنُوبِ وَأَهْلُ الشَّهَوَاتِ يُحَاسَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي تَنَعَّمُوا بِهَا فَلَمْ يَذْكُرُوهُ وَلَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا وَيُقَالُ لَهُمْ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } . أَيْ عَنْ شُكْرِهِ وَالْكَافِرُ لَمْ يَشْكُرْ عَلَى النَّعِيمِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ فَيُعَاقِبُهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَاَللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَمَرَهُمْ مَعَهَا بِالشُّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا } . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَه " وَغَيْرِهِ : { الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ } . وَكَذَلِكَ قَالَ لِلرُّسُلِ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ

حُرُمٌ } وَقَالَ الْخَلِيلُ : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . فَالْخَلِيلُ إنَّمَا دَعَا بِالطَّيِّبَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً وَاَللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ لِمَنْ حَرَّمَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَالْمُؤْمِنُونَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَيَشْكُرُوهُ . وَلِهَذَا مَيَّزَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ خِطَابِ النَّاسِ مُطْلَقًا وَخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } . فَإِنَّمَا أَذِنَ لِلنَّاسِ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ بِشَرْطَيْنِ : أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا وَأَنْ يَكُونَ حَلَالًا . ثُمَّ قَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } { إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } . فَأَذِنَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَكْلِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْحِلَّ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا ذَكَرَهُ ؛ فَمَا سِوَاهُ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ أَحَلَّهُ بِخِطَابِهِ ؛ بَلْ كَانَ عَفْوًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ سَلْمَانَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا : { الْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ } .

وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نَسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا } . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً } . نَفَى التَّحْرِيمَ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ فَيَكُونُ الْبَاقِي مَسْكُوتًا عَنْ تَحْرِيمِهِ عَفْوًا وَالتَّحْلِيلُ إنَّمَا يَكُونُ بِخِطَابِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ بَعْدَ هَذَا : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } . إلَى قَوْلِهِ : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } . فَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُحِلَّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتُ وَقَبْلَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ . وَقَدْ { حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ } وَلَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا لِلْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَمْ يُحِلَّ ذَلِكَ وَلَكِنْ سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهِ فَكَانَ تَحْرِيمُهُ ابْتِدَاءَ شَرْعٍ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ : { لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هَذَا الْقُرْآنُ ؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ أَلَا وَإِنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ } . وَفِي لَفْظٍ : { أَلَا وَإِنَّهُ مِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ . أَلَا وَإِنِّي

حَرَّمْت كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ } . فَبَيَّنَ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَحْيٌ آخَرُ وَهُوَ الْحِكْمَةُ غَيْرَ الْكِتَابِ . وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَحْيِ مَا أَخْبَرَ بِتَحْرِيمِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْكِتَابِ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ لَمْ يُحِلَّ هَذِهِ قَطُّ . إنَّمَا أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } . فَلَمْ تَدْخُلْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْعُمُومِ ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَرَّمَهَا ؛ فَكَانَتْ مَعْفُوًّا عَنْ تَحْرِيمِهَا ؛ لَا مَأْذُونًا فِي أَكْلِهَا . وَأَمَّا " الْكُفَّارُ " فَلَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ لَهُمْ فِي أَكْلِ شَيْءٍ وَلَا أَحَلَّ لَهُمْ شَيْئًا وَلَا عَفَا لَهُمْ عَنْ شَيْءٍ يَأْكُلُونَهُ ؛ بَلْ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } . فَشَرَطَ فِيمَا يَأْكُلُونَهُ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا ؛ وَهُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاَللَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْأَكْلِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ بِهِ ؛ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي أَكْلِ شَيْءٍ إلَّا إذَا آمَنُوا . وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ أَمْوَالُهُمْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ مِلْكًا شَرْعِيًّا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ الَّذِي أَبَاحَهُ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّارِعُ لَمْ يُبِحْ لَهُمْ تَصَرُّفًا فِي الْأَمْوَالِ إلَّا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ ؛ فَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ عَلَى الْإِبَاحَةِ . فَإِذَا قَهَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ طَائِفَةً قَهْرًا يَسْتَحِلُّونَهُ فِي دِينِهِمْ وَأَخَذُوهَا مِنْهُمْ ؛ صَارَ هَؤُلَاءِ فِيهَا كَمَا كَانَ أُولَئِكَ . وَالْمُسْلِمُونَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا ، فَغَنِمُوهَا مَلَكُوهَا شَرْعًا لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُمْ الْغَنَائِمَ وَلَمْ يُبِحْهَا لِغَيْرِهِمْ . وَيَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُعَامِلُوا الْكُفَّارَ فِيمَا أَخَذَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالْقَهْرِ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَهُ فِي دِينِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ بَعْضِهِمْ مَا

سَبَاهُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْمُبَاحَاتِ . وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ مَا عَادَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ " فَيْئًا " ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ أَيْ : رَدَّهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَ بِرِزْقِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ وَإِنَّمَا خَلَقَ الرِّزْقَ لَهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ . وَلَفْظُ " الْفَيْءِ " قَدْ يَتَنَاوَلُ " الْغَنِيمَةَ " كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَنَائِمِ حنين : { لَيْسَ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ } . لَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } صَارَ لَفْظُ " الْفَيْءِ " إذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ ؛ فَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، وَالْإِيجَافُ نَوْعٌ مِنْ التَّحْرِيكِ . وَأَمَّا إذَا فَعَلَ الْمُؤْمِنُ مَا أُبِيحَ لَهُ قَاصِدًا لِلْعُدُولِ عَنْ الْحَرَامِ إلَى الْحَلَالِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ . فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ } . وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ خُزَيْمَة فِي " صَحِيحِهِ " وَغَيْرُهُمَا . فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إتْيَانَ رُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ فِعْلَ مَعْصِيَتِهِ . وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَرْوِيهِ : { كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ } . وَلَيْسَ هَذَا لَفْظَ الْحَدِيثِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّخَصَ إنَّمَا أَبَاحَهَا اللَّهُ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَيْهَا وَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ ؛

فَهُوَ يُحِبُّ الْأَخْذَ بِهَا لِأَنَّ الْكَرِيمَ يُحِبُّ قَبُولَ إحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ ؛ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ : { الْقَصْرُ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } . وَلِأَنَّهُ بِهَا تَتِمُّ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ . وَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ بَلْ يَفْعَلُهُ عَبَثًا ؛ فَهَذَا عَلَيْهِ لَا لَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرًا لِلَّهِ } . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } . فَأَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا قَوْلُ الْخَيْرِ أَوْ الصُّمَاتُ . وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ الْخَيْرِ خَيْرًا مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ وَالسُّكُوتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرًا مِنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } .
وَقَدْ اخْتَلَفَ " أَهْلُ التَّفْسِيرِ " هَلْ يُكْتَبُ جَمِيعُ أَقْوَالِهِ ؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ : يَكْتُبَانِ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَنِينَهُ فِي مَرَضِهِ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ لَا يَكْتُبَانِ إلَّا مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَوْ يُؤْزَرُ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا يَكْتُبَانِ الْجَمِيعَ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ } نَكِرَةٌ فِي الشَّرْطِ مُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ " مِنْ " ؛ فَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ قَوْلِهِ . وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ يُؤْجَرُ عَلَى قَوْلٍ مُعَيَّنٍ أَوْ يُؤْزَرُ ؛ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْرِفَ الْكَاتِبُ مَا أُمِرَ بِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ ؛ فَلَا بُدَّ فِي إثْبَاتِ مَعْرِفَةِ الْكَاتِبِ بِهِ إلَى نَقْلٍ . وَأَيْضًا فَهُوَ مَأْمُورٌ إمَّا بِقَوْلِ الْخَيْرِ وَإِمَّا بِالصُّمَاتِ . فَإِذَا عَدَلَ عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصُّمَاتِ إلَى فُضُولِ الْقَوْلِ الَّذِي لَيْسَ بِخَيْرِ ؛ كَانَ هَذَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَالْمَكْرُوهُ يَنْقُصُهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ } . فَإِذَا خَاضَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ ؛ نَقَصَ مِنْ حُسْنِ إسْلَامِهِ فَكَانَ هَذَا عَلَيْهِ . إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَا هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِعَذَابِ جَهَنَّمَ وَغَضَبِ اللَّهِ بَلْ نَقْصُ قَدْرِهِ وَدَرَجَتِهِ عَلَيْهِ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } . فَمَا يَعْمَلُ أَحَدٌ إلَّا عَلَيْهِ أَوْ لَهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ كَانَ لَهُ . وَإِلَّا كَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّهُ يُنْقِصُ قَدْرَهُ . وَالنَّفْسُ طَبْعُهَا الْحَرَكَةُ لَا تَسْكُنُ قَطُّ ؛ لَكِنْ قَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ أَنْفُسَهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ ؛ فَإِذَا عَمِلُوا بِهِ دَخَلَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ كَرَّهَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَ الْمَعَاصِي وَهُوَ قَدْ حَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ الَّذِي يَقْتَضِي جَمِيعَ الطَّاعَاتِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ ضِدٌّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ ؛ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ لَا تُنَازِعُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَدْعُو إلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَيَقْتَضِي ذَلِكَ وَالطَّاعَةُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ وَنَتَائِجِهِ لَكِنَّهَا تُنَازِعُ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الطَّاعَةَ ؟ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَدْعُو إلَى الطَّاعَةِ ؛ فَلَهُ مُعَارِضٌ مِنْ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ ، فَإِذَا كَانَ قَدْ كَرَّهَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُعَارِضَ كَانَ الْمُقْتَضِي لِلطَّاعَةِ سَالِمًا عَنْ هَذَا الْمُعَارِضِ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَرِهُوا جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ لَمْ يَبْقَ إلَّا حَسَنَاتٌ أَوْ مُبَاحَاتٌ ، وَالْمُبَاحَاتُ لَمْ تُبَحْ إلَّا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى الطَّاعَاتِ وَإِلَّا فَاَللَّهُ لَمْ يُبِحْ قَطُّ لِأَحَدِ شَيْئًا أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى كُفْرٍ وَلَا فُسُوقٍ وَلَا عِصْيَانٍ ؛ وَلِهَذَا لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا كَمَا لَعَنَ شَارِبَهَا ، وَالْعَاصِرُ

يَعْصِرُ عِنَبًا يَصِيرُ عَصِيرًا يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ فِي الْمُبَاحِ لَكِنْ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ قَصْدَ الْعَاصِرِ أَنْ يَجْعَلَهَا خَمْرًا ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعِينَهُ بِمَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ بَلْ لَعَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ إعَانَةَ الْعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَلَا أَبَاحَ لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ فَلَا تَكُونُ مُبَاحَاتٍ لَهُمْ إلَّا إذَا اسْتَعَانُوا بِهَا عَلَى الطَّاعَاتِ . فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ السَّيِّئَاتِ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الْحَسَنَاتِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ تَرَكَ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَغِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا } . فَالْمُؤْمِنُ لَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ الْحَسَنَاتِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَ السَّيِّئَاتِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَسُرَّهُ فِعْلُ الْحَسَنَةِ وَيَسُوءَهُ فِعْلُ السَّيِّئَةِ وَمَتَى قَدَّرَ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ نَاقِصَ الْإِيمَانِ وَالْمُؤْمِنُ قَدْ تَصْدُرُ مِنْهُ السَّيِّئَةُ فَيَتُوبُ مِنْهَا أَوْ يَأْتِي بِحَسَنَاتِ تَمْحُوهَا أَوْ يُبْتَلَى بِبَلَاءِ يُكَفِّرُهَا عَنْهُ وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَارِهًا لَهَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ حَبَّبَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَكَرَّهَ إلَيْهِمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَمَنْ لَمْ يَكْرَهْ الثَّلَاثَةَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ . وَلَكِنَّ " مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ " يَقُولُ : الْفَاسِقُ يَكْرَهُهَا تَدَيُّنًا . فَيُقَالُ : إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ دِينَهُ حَرَّمَهَا وَهُوَ يُحِبُّ دِينَهُ وَهَذِهِ مِنْ جُمْلَتِهِ ؛ فَهُوَ يَكْرَهُهَا . وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ دِينَهُ مُجْمَلًا وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ كَرَاهَةٌ لَهَا ؛ كَانَ قَدْ عَدِمَ مِنْ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } .

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا - " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " - : { فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ } . فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَرَاهَةُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ ؛ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ . وَقَوْلُهُ : { مِنْ الْإِيمَانِ } أَيْ : مِنْ هَذَا الْإِيمَانِ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ . أَيْ : لَيْسَ وَرَاءَ هَذِهِ الثَّلَاثِ مَا هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَا قَدْرُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ . وَالْمَعْنَى : هَذَا آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ ، مَا بَقِيَ بَعْدَ هَذَا مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ ؛ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ ؛ بَلْ لَفْظُ الْحَدِيثِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ .

فَصْلٌ :
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْكُفْرِ " وَ " النِّفَاقِ " فَالْكُفْرُ إذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا فِي وَعِيدِ الْآخِرَةِ دَخَلَ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } . وَقَوْلِهِ : { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى } { الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وَقَوْلِهِ : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } وَقَوْلِهِ : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } { قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } . وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } . وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } وَقَوْلِهِ :

{ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } . وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . فَهَذِهِ كُلُّهَا يَدْخُلُ فِيهَا " الْمُنَافِقُونَ " الَّذِينَ هُمْ فِي الْبَاطِنِ كُفَّارٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ كَمَا يَدْخُلُ فِيهَا " الْكُفَّارُ " الْمُظْهِرُونَ لِلْكُفْرِ ؛ بَلْ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ " الْكُفْرُ بِالنِّفَاقِ " فِي مَوَاضِعَ ؛ فَفِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ ذَكَرَ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } وَقَالَ : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } إلَى قَوْلِهِ : { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } . فِي سُورَتَيْنِ وَقَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } . الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْمُشْرِكِينَ " قَدْ يُقْرَنُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَطْ وَقَدْ يُقْرَنُ بِالْمِلَلِ الْخَمْسِ ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } . وَ ( الْأَوَّلُ ) كَقَوْلِهِ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ

مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } . وَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } . وقَوْله تَعَالَى { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } . وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَوْ الْأُمِّيِّينَ ، وَكُلُّ أُمَّةٍ لَمْ تَكُنْ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَهُمْ مِنْ الْأُمِّيِّينَ ؛ كَالْأُمِّيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ وَمِنْ الْخَزَرِ وَالصَّقَالِبَةِ وَالْهِنْدِ وَالسُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أُمِّيُّونَ ، وَالرَّسُولُ مَبْعُوثٌ إلَيْهِمْ كَمَا بُعِثَ إلَى الْأُمِّيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ . وَقَوْلُهُ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } - وَهُوَ إنَّمَا يُخَاطِبُ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَانِهِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَانَ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَا يَخْتَصُّ هَذَا اللَّفْظُ بِمَنْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ غَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ أَوْلَادَهُمْ إذَا كَانُوا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ مِمَّنْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ إذَا كَانُوا كُلُّهُمْ كُفَّارًا وَقَدْ جَعَلَهُمْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِقَوْلِهِ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } وَهُوَ لَا يُخَاطِبُ بِذَلِكَ إلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَتُهُ ؛ لَا مَنْ مَاتَ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُهُ إلَّا فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ، وَآخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : أَنَّهُمْ تُبَاحُ نِسَاؤُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ.

وَقَوْلُهُ فِي " الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " : لَا تُبَاحُ ؛ مُتَابَعَةً لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ النَّسَبِ ؛ بَلْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا فِيمَا يَشْتَهُونَهُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَلَكِنَّ بَعْضَ التَّابِعِينَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ النَّسَبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا كَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ لَيْسَ بِكِتَابِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُوجَدَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ أَحْمَد إلَّا هَذَا الْقَوْلُ ؛ وَهُوَ خَطَأٌ عَلَى مَذْهَبِهِ مُخَالِفٌ لِنُصُوصِهِ لَمْ يُعَلَّقْ الْحُكْمُ بِالنَّسَبِ فِي مِثْلِ هَذَا أَلْبَتَّةَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَلَفْظُ " الْمُشْرِكِينَ " يُذْكَرُ مُفْرَدًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وَهَلْ يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ ؟ فِيهِ " قَوْلَانِ " مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : بِأَنَّهَا تَعُمُّ ؛ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هِيَ مُحْكَمَةٌ كَابْنِ عُمَرَ وَالْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُبِيحُونَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ ؛ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ هَذِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : نُسِخَ مِنْهَا تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ لَمْ يَرِدْ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ قَوْلَهُ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } . وَهَذَا قَدْ يُقَالُ : إنَّمَا نَهَى عَنْ التَّمَسُّكِ بِالْعِصْمَةِ مَنْ كَانَ مُتَزَوِّجًا كَافِرَةً وَلَمْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ مُتَزَوِّجِينَ إلَّا بِمُشْرِكَةٍ وَثَنِيَّةٍ ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِيَّاتُ .

فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الصَّالِحِ " وَ " الشَّهِيدِ " وَ " الصِّدِّيقِ " : يُذْكَرُ مُفْرَدًا ؛ فَيَتَنَاوَلُ النَّبِيِّينَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْخَلِيلِ : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } . وَقَالَ : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } . وَقَالَ الْخَلِيلُ : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } . وَقَالَ يُوسُفُ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } . وَقَالَ سُلَيْمَانُ : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ { لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ ؛ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } . . الْحَدِيثَ . وَقَدْ يُذْكَرُ " الصَّالِحُ مَعَ غَيْرِهِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } . قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ : الصَّالِحُ : الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ . وَلَفْظُ " الصَّالِحِ " خِلَافُ الْفَاسِدِ ؛

فَإِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ الَّذِي أَصْلَحَ جَمِيعَ أَمْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْفَسَادِ فَاسْتَوَتْ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ وَأَقْوَالُهُ وَأَعْمَالُهُ عَلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُ ؛ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ النَّبِيِّينَ وَمَنْ دُونَهُمْ . وَلَفْظُ " الصِّدِّيقِ " قَدْ جُعِلَ هُنَا مَعْطُوفًا عَلَى النَّبِيِّينَ ؛ وَقَدْ وَصَفَ بِهِ النَّبِيِّينَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا } - { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إدْرِيسَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا } . وَكَذَلِكَ " الشَّهِيدُ " قَدْ جُعِلَ هُنَا قَرِينَ الصِّدِّيقِ وَالصَّالِحِ وَقَدْ قَالَ : { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } . وَلَمَّا قُيِّدَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّاسِ وُصِفَتْ بِهِ الْأُمَّةُ كُلُّهَا فِي قَوْلِهِ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } . فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ كَالشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } . وَقَوْلِهِ { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْآيَتَيْنِ بَلْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } .

فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْمَعْصِيَةِ " وَ " الْفُسُوقِ " وَ " الْكُفْرِ " : فَإِذَا أُطْلِقَتْ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ دَخَلَ فِيهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } . فَأَطْلَقَ مَعْصِيَتَهُمْ لِلرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ عَصَوْا هُودًا مَعْصِيَةَ تَكْذِيبٍ لِجِنْسِ الرُّسُلِ فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ لِجِنْسِ الرُّسُلِ كَمَعْصِيَةِ مَنْ قَالَ : { فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } . وَمَعْصِيَةِ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ تَعَالَى : { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى } { الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } أَيْ كَذَّبَ بِالْخَيْرِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الْأَمْرِ ، وَإِنَّمَا عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يُصَدِّقُوا الرُّسُلَ فِيمَا أَخْبَرُوا وَيُطِيعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوا . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي فِرْعَوْنَ : { فَكَذَّبَ وَعَصَى } . وَقَالَ عَنْ جِنْسِ الْكَافِرِ : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } { وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . فَالتَّكْذِيبُ لِلْخَبَرِ وَالتَّوَلِّي عَنْ الْأَمْرِ . وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } .
وَلَفْظُ " التَّوَلِّي " بِمَعْنَى التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وَذَمُّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَنْ تَوَلَّى ؛ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الطَّاعَةِ وَذَمَّ الْمُتَوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ ؛ كَمَا عَلَّقَ الذَّمَّ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ " التَّأْبِيدَ " لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } . وَقَالَ فِيمَنْ يَجُورُ فِي الْمَوَارِيثِ : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . فَهُنَا قَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِتَعَدِّي حُدُودِهِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا مُطْلَقَةً ؛ وَقَالَ : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } . فَهِيَ مَعْصِيَةٌ خَاصَّةٌ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } فَأَخْبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ مَعْصِيَةُ الرُّمَاةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِلُزُومِ ثَغْرِهِمْ وَإِنْ رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ قَدْ انْتَصَرُوا فَعَصَى مَنْ عَصَى مِنْهُمْ هَذَا الْأَمْرَ وَجَعَلَ أَمِيرُهُمْ يَأْمُرُهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْكُفَّارَ مُنْهَزِمِينَ وَأَقْبَلَ مَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَى الْمَغَانِمِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } . جَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ . وَقَدْ قَالَ : { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } . فَقَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ وَلِهَذَا فُسِّرَتْ بِالنِّيَاحَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا . وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ لَا يَدْعُنَّ وَيْلًا وَلَا يَخْدِشْنَ

وَجْهًا وَلَا يَنْشُرْنَ شَعْرًا وَلَا يَشْقُقْنَ ثَوْبًا . وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ جَمِيعُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَدِلَّتِهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ ، وَلَفْظُ الْآيَةِ عَامٌّ أَنَّهُنَّ لَا يَعْصِينَهُ فِي مَعْرُوفٍ . وَمَعْصِيَتُهُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي مَعْرُوفٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمُنْكَرِ لَكِنْ هَذَا كَمَا قِيلَ : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ إنَّمَا تَلْزَمُ فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ } وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } وَهُوَ لَا يَدْعُو إلَّا إلَى ذَلِكَ . وَالتَّقْيِيدُ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ دُعَاءٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا أَمْرٌ بِغَيْرِ مَعْرُوفٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } . فَإِنَّهُنَّ إذَا لَمْ يُرِدْنَ تَحَصُّنًا ؛ امْتَنَعَ الْإِكْرَاهُ . وَلَكِنْ فِي هَذَا بَيَانُ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لِلْحُكْمِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } . وَقَوْلُهُ : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } . فَالتَّقْيِيدُ فِي جَمِيعِ هَذَا لِلْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ لَا لِإِخْرَاجِ فِي وَصْفٍ آخَرَ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ النُّحَاةِ : الصِّفَاتُ فِي الْمَعَارِفِ لِلتَّوْضِيحِ لَا لِلتَّخْصِيصِ وَفِي النَّكِرَاتِ لِلتَّخْصِيصِ يَعْنِي فِي الْمَعَارِفِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى تَخْصِيصٍ كَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } . وَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } . وَقَوْلِهِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } . وَالصِّفَاتُ فِي النَّكِرَاتِ إذَا تَمَيَّزَتْ تَكُونُ لِلتَّوْضِيحِ أَيْضًا وَمَعَ هَذَا فَقَدْ عَطَفَ الْمَعْصِيَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ فِي قَوْلِهِ : { وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاسِقَ عَاصٍ أَيْضًا .

فَصْلٌ :
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ " ظُلْمُ النَّفْسِ " : فَإِنَّهُ إذَا أُطْلِقَ تَنَاوُلُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهَا ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ } . وَقَالَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } . وَقَالَتْ بلقيس : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وَقَالَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } . وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } . وَأَمَّا لَفْظُ " الظُّلْمِ الْمُطْلَقِ " فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكُفْرُ وَسَائِرُ الذُّنُوبِ قَالَ تَعَالَى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } { مِنْ دُونِ اللَّهِ

فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } { وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : وَنُظَرَاؤُهُمْ . وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مَرْفُوعًا . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَأَشْبَاهُهُمْ . وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَالْكَلْبِيُّ : كُلُّ مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِمْ ؛ فَأَهْلُ الْخَمْرِ مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ وَأَهْلُ الزِّنَا مَعَ أَهْلِ الزِّنَا . وَعَنْ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ : قُرَنَاؤُهُمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ ؛ كُلُّ كَافِرٍ مَعَهُ شَيْطَانُهُ فِي سِلْسِلَةٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْفَاجِرُ مَعَ الْفَاجِرِ وَالصَّالِحُ مَعَ الصَّالِحِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَذَلِكَ حِين يَكُونُ النَّاسُ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً . وَقَالَ الْحَسَنُ وقتادة : أُلْحِقَ كُلُّ امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ ؛ الْيَهُودِيُّ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصْرَانِيُّ مَعَ النَّصَارَى . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم : يُحْشَرُ الْمَرْءُ مَعَ صَاحِبِ عَمَلِهِ وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ : الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } . وَقَالَ : { الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ } . وَقَالَ : { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ } . وَزَوْجُ الشَّيْءِ نَظِيرُهُ وَسُمِّيَ الصِّنْفُ زَوْجًا ؛ لِتَشَابُهِ أَفْرَادِهِ كَقَوْلِهِ : { أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } . وَقَالَ : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ؛ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ وَالسَّهْلُ وَالْجَبَلُ وَالشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ ؛ وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالْحُلْوُ وَالْمُرُّ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ

{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْشُرُ مَعَهُمْ زَوْجَاتِهِمْ مُطْلَقًا ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ قَدْ يَكُونُ زَوْجُهَا فَاجِرًا ؛ بَلْ كَافِرًا كَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَدْ تَكُونُ امْرَأَتُهُ فَاجِرَةً بَلْ كَافِرَةً كَامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ . لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى دِينِ زَوْجِهَا ؛ دَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْأَزْوَاجِ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : وَأَزْوَاجُهُمْ الْمُشْرِكَاتُ . فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْ الْكُفَّارَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ : أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهَا الزُّنَاةُ مَعَ الزُّنَاةِ ، وَأَهْلُ الْخَمْرِ مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ . وَكَذَلِكَ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ : { إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ : أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ ؟ - أَوْ قَالَ : وَأَشْبَاهُهُمْ - فَيُجْمَعُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ ثُمَّ يُقْذَفُ بِهِمْ فِي النَّارِ } . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ مَنْ أَعَانَهُمْ وَلَوْ أَنَّهُ لَاقَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقُولُ : بَلْ مَنْ يَغْسِلُ ثِيَابَهُمْ مِنْ أَعْوَانِهِمْ . وَأَعْوَانُهُمْ : هُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ . فَإِنَّ الْمُعِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ، وَالْمُعِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } وَالشَّافِعُ الَّذِي يُعِينُ غَيْرَهُ فَيَصِيرُ مَعَهُ شَفْعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا ؛ وَلِهَذَا فُسِّرَتْ " الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ " بِإِعَانَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ وَ " الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ " بِإِعَانَةِ الْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ . وَفُسِّرَتْ " الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ " بِشَفَاعَةِ الْإِنْسَانِ لِلْإِنْسَانِ لِيَجْتَلِبَ لَهُ نَفْعًا

أَوْ يُخَلِّصَهُ مِنْ بَلَاءٍ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وقتادة وَابْنُ زَيْدٍ ؛ فَالشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ إعَانَةٌ عَلَى خَيْرٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ مِنْ نَفْعِ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفْعَ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُ . وَ " الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ " إعَانَتُهُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ الْإِنْسَانِ أَوْ مَنْعُ الْإِحْسَانِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ . وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالسَّيِّئَةُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ ، وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ . فَالشَّافِعُ زَوْجُ الْمَشْفُوعِ لَهُ إذْ الْمَشْفُوعُ عِنْدَهُ مِنْ الْخُلُقِ إمَّا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى وَإِمَّا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ . وَكَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ } . وَتَمَامُ الْكَلَامِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْآيَةَ - وَإِنْ تَنَاوَلَتْ الظَّالِمَ الَّذِي ظَلَمَ بِكُفْرِهِ - فَهِيَ أَيْضًا مُتَنَاوِلَةٌ مَا دُونَ ذَلِكَ وَإِنْ قِيلَ فِيهَا : { وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } فَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ إلَّا جُعِلَ لَهُ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتِهِ أَنَا مَالُك أَنَا كَنْزُك . وَفِي لَفْظٍ : إلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُطَوِّقَهُ فِي عُنُقِهِ وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ : هَذَا مَالُك الَّذِي كُنْت تَبْخَلُ بِهِ

فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { فَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ فَيُلْقِمُهُ يَدَهُ فَيَقْضِمُهَا ثُمَّ يُلْقِمُهُ سَائِرَ جَسَدِهِ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إلَّا أُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنْبَاهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ } . وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : { بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفِ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مَنْ نُغْضِ كَتِفَيْهِ ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ يَتَزَلْزَلُ وَتَكْوِي الْجِبَاهَ وَالْجُنُوبَ وَالظُّهُورَ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْحَرُّ فِي أَجْوَافِهِمْ } . وَهَذَا كَمَا فِي الْقُرْآنِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ دُخُولِ النَّارِ فَيَكُونُ هَذَا لِمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِمَّنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ أَوَّلًا فِي الْمَوْقِفِ . فَهَذَا الظَّالِمُ لَمَّا مَنَعَ الزَّكَاةَ يُحْشَرُ مَعَ أَشْبَاهِهِ وَمَالِهِ الَّذِي صَارَ عَبْدًا لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيُعَذَّبُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الَّذِينَ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ . وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ : { ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ } . فَهَذَا بَعْدَ تَعْذِيبِهِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ . وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ

النَّمْلِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وَفِي حَدِيثِ { عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ طَوِيلٌ رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا - وَكَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ : فَقُلْت لَهُ إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ ؛ قَالَ : أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ قَالَ : فَقُلْت : بَلَى . قَالَ : فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ } وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو البختري : أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ ، وَلَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ ، وَلَكِنْ أَمَرُوهُمْ فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ ؛ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : قُلْت لِأَبِي الْعَالِيَةِ : كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ ؟ قَالَ : كَانَتْ الرُّبُوبِيَّةُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ فَقَالُوا : لَنْ نَسْبِقَ أَحْبَارَنَا بِشَيْءِ ؛ فَمَا أَمَرُونَا بِهِ ائْتَمَرْنَا وَمَا نَهَوْنَا عَنْهُ انْتَهَيْنَا لِقَوْلِهِمْ فَاسْتَنْصَحُوا الرِّجَالَ وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ كَانَتْ فِي تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ لَا أَنَّهُمْ صَلَّوْا لَهُمْ وَصَامُوا لَهُمْ وَدَعَوْهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهَذِهِ عِبَادَةٌ لِلرِّجَالِ وَتِلْكَ عِبَادَةٌ لِلْأَمْوَالِ وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ بِقَوْلِهِ : { لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . فَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي

يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } { مِنْ دُونِ اللَّهِ } . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَاَلَّذِينَ أَمَرُوهُمْ بِهَذَا هُمْ جَمِيعًا مُعَذَّبُونَ وَقَالَ : { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } . وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا مَنْ عُبِدَ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِأَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ . فَهُمْ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الْحُسْنَى كَالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ وَغَيْرِهِمَا فَأُولَئِكَ ( مُبْعَدُونَ ) . وَأَمَّا مَنْ رَضِيَ بِأَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا أَمَرَ وَكَذَلِكَ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ " أَزْوَاجِهِمْ " فَإِنَّ " أَزْوَاجَهُمْ " قَدْ يَكُونُونَ رُؤَسَاءَ لَهُمْ وَقَدْ يَكُونُونَ أَتْبَاعًا وَهُمْ أَزْوَاجٌ وَأَشْبَاهٌ لِتَشَابُهِهِمْ فِي الدِّينِ ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } { مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : دُلُّوهُمْ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ مِثْلَهُ . وَقَالَ ابْنُ كيسان : قَدِّمُوهُمْ . وَالْمَعْنَى : قُودُوهُمْ كَمَا يَقُودُ الْهَادِي لِمَنْ يَهْدِيهِ ، وَلِهَذَا تُسَمَّى الْأَعْنَاقُ الْهَوَادِيَ لِأَنَّهَا تَقُودُ سَائِرَ الْبَدَنِ ، وَتُسَمَّى أَوَائِلُ الْوَحْشِ الْهَوَادِيَ . { وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } { مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ } . أَيْ : كَمَا كُنْتُمْ تَتَنَاصَرُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْبَاطِلِ . { بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } { قَالُوا إنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } { قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ } { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إنَّا لَذَائِقُونَ } { فَأَغْوَيْنَاكُمْ

إنَّا كُنَّا غَاوِينَ } { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } { إنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } { إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } { وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ } { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ } { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ : { إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ }

وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ " الشِّرْكَيْنِ " : الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ وَتَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَنْ اسْتَكْبَرَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَحْقِيقِ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ فَكُلُّ مَا يُعْبَدُ بِهِ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ تَأَلُّهِ الْعِبَادِ لَهُ فَمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ بَعْضِ عِبَادَتِهِ سَامِعًا مُطِيعًا فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ؛ لَمْ يُحَقِّقْ قَوْلَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا - حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ يَكُونُونَ عَلَى وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بَدَّلُوا دِينَ اللَّهِ فَيَتْبَعُونَهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ فَيَعْتَقِدُونَ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا دِينَ الرُّسُلِ فَهَذَا كُفْرٌ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ شِرْكًا - وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ لَهُمْ وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ - فَكَانَ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَهُ فِي خِلَافِ الدِّينِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِلَافُ الدِّينِ وَاعْتَقَدَ مَا قَالَهُ ذَلِكَ دُونَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ مُشْرِكًا مِثْلَ هَؤُلَاءِ .
[ وَ ( الثَّانِي ) : أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ ثَابِتًا لَكِنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ ؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ ] (*) كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ } وَقَالَ : { عَلَى الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ } .

وَقَالَ : { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } . وَقَالَ : { مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ } . ثُمَّ ذَلِكَ الْمُحَرِّمُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحَلِّلُ لِلْحَرَامِ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا قَصْدُهُ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ لَكِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَقَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ ؛ فَهَذَا لَا يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ بِخَطَئِهِ بَلْ يُثِيبُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الَّذِي أَطَاعَ بِهِ رَبَّهُ . وَلَكِنْ مَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلَى خَطَئِهِ وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ فَهَذَا لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ لَا سِيَّمَا إنْ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هَوَاهُ وَنَصَرَهُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ ؛ فَهَذَا شِرْكٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ فِي خِلَافِهِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِلْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ ؛ فَهَذَا يَكُونُ كَمَنْ عَرَفَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَهُوَ بَيْنَ النَّصَارَى فَإِذَا فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ ؛ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا عَجَزَ عَنْهُ وَهَؤُلَاءِ كَالنَّجَاشِيِّ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ } . وَقَوْلِهِ : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } . وَقَوْلِهِ : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُتَّبِعُ لِلْمُجْتَهِدِ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ عَلَى التَّفْصِيلِ وَقَدْ فَعَلَ

مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي التَّقْلِيدِ ؛ فَهَذَا لَا يُؤَاخَذُ إنْ أَخْطَأَ كَمَا فِي الْقِبْلَةِ . وَأَمَّا إنْ قَلَّدَ شَخْصًا دُونَ نَظِيرِهِ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ وَنَصَرَهُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَنَّ مَعَهُ الْحَقَّ ؛ فَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُصِيبًا ؛ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ صَالِحًا . وَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُخْطِئًا ؛ كَانَ آثِمًا . كَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ ؛ فَإِنْ أَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ . وَهَؤُلَاءِ مَنْ جِنْسِ مَانِعِ الزَّكَاةِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ الْوَعِيدُ وَمِنْ جِنْسِ عَبْدِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا أَحَبَّ الْمَالَ حُبًّا مَنَعَهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ صَارَ عَبْدًا لَهُ . وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ ؛ فَيَكُونُ فِيهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ وَلَهُمْ مِنْ الْوَعِيدِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ } . وَهَذَا مَبْسُوطٌ عِنْدَ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا إطْلَاقُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الذُّنُوبِ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْكُفْرِ ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُ مَا دُونَهُ أَيْضًا وَكُلٌّ بِحَسَبِهِ كَلَفْظِ " الذَّنْبِ " وَ " الْخَطِيئَةِ " " وَالْمَعْصِيَةِ " . فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا }

{ إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا } . } فَهَذَا الْوَعِيدُ بِتَمَامِهِ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَلِكُلِّ عَمَلٍ قِسْطٌ مِنْهُ ؛ فَلَوْ أَشْرَكَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَزِنْ ؛ كَانَ عَذَابُهُ دُونَ ذَلِكَ . وَلَوْ زَنَى وَقَتَلَ وَلَمْ يُشْرِكْ ؛ كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ نَصِيبٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } . وَلَمْ يَذْكُرْ : ( أَبَدًا ) . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ لَفْظَ " التَّأْبِيدِ " لَمْ يَجِئْ إلَّا مَعَ الْكُفْرِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا } { يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا } { لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } . فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِالرَّسُولِ . وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ " الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ " يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ وَيَتَنَاوَلُ مَا دُونَهُ بِحَسَبِهِ . فَمَنْ خَالَّ مَخْلُوقًا فِي خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ نَصِيبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ : حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ مُجَاهِدٍ : هِيَ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ . فَإِنَّ " الْمُخَالَّةَ " تَحَابٌّ وَتَوَادٌّ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ } فَإِنَّ الْمُتَحَابَّيْنِ يُحِبُّ أَحَدُهُمَا مَا يُحِبُّ الْآخَرُ بِحَسَبِ الْحُبِّ فَإِذَا اتَّبَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ نَقَصَ مِنْ دِينِهِمَا بِحَسَبِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ

إلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } . وَاَلَّذِينَ قَدَّمُوا مَحَبَّةَ الْمَالِ الَّذِي كَنَزُوهُ وَالْمَخْلُوقَ الَّذِي اتَّبَعُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالشِّرْكِ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَلِهَذَا أَلْزَمَهُمْ مَحْبُوبَهُمْ كَمَا فِي الْحَدِيثِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَيْسَ عَدْلًا مِنِّي أَنْ أُوَلِّيَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ فِي الدُّنْيَا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " يَقُولُ : { لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ؛ فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَيُمَثَّلُ لِلنَّصَارَى الْمَسِيحُ وَلِلْيَهُودِ عُزَيْرٌ . فَيَتَّبِعُ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا } كَمَا سَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فَهَؤُلَاءِ " أَهْلُ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ " . وَأَمَّا " عَبِيدُ الْمَالِ " الَّذِينَ كَنَزُوهُ وَعَبِيدُ الرِّجَالِ الَّذِينَ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ فَأُولَئِكَ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا دُونَ عَذَابِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ ؛ إمَّا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَإِمَّا فِي جَهَنَّمَ وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } . " فَالْكُفْرُ الْمُطْلَقُ " هُوَ الظُّلْمُ الْمُطْلَقُ ؛ وَلِهَذَا لَا شَفِيعَ لِأَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا نَفَى الشَّفَاعَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } . وَقَالَ : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } { وَجُنُودُ

إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَمَا أَضَلَّنَا إلَّا الْمُجْرِمُونَ } { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ } { وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَوْلُهُ : { إذْ نُسَوِّيكُمْ } لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُمْ مُسَاوِينَ لِلَّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا نُقِلَ عَنْ قَوْمٍ قَطُّ مِنْ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَهُ خَالِقَانِ مُتَمَاثِلَانِ حَتَّى الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ " بِالْأَصْلَيْنِ : النُّورِ وَالظُّلْمَةِ " مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ " النُّورَ " خَيْرٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُحْمَدَ وَأَنَّ " الظُّلْمَةَ " شِرِّيرَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذَمَّ وَتُلْعَنَ وَاخْتَلَفُوا هَلْ الظُّلْمَةُ مُحْدَثَةٌ أَوْ قَدِيمَةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَبِكُلِّ حَالٍ لَمْ يَجْعَلُوهَا مِثْلَ النُّورِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَكَذَلِكَ " مُشْرِكُو الْعَرَبِ " كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ أَرْبَابَهُمْ لَمْ تُشَارِكْ اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ؛ بَلْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

{ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } { وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لَيْسَتْ مِنْ تَمَامِ جَوَابِهِمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } الْآيَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ } { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } . أَيْ : أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فَعَلَ هَذَا ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا إلَهٌ آخَرُ مَعَ اللَّهِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ الْمُرَادَ : هَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهٌ آخَرُ ؟ فَقَدْ غَلِطَ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى =ج11.

ج11. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

قُلْ لَا أَشْهَدُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } . وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } . وَكَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ تُشَارِكْ اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقِ شَيْءٍ ؛ بَلْ كَانُوا يَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } . وَقَالَ عَنْ صَاحِبِ يس : { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } . وَقَالَ : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فَنَفَى عَمَّا سِوَاهُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ أَوْ قِسْطٌ مِنْ الْمُلْكِ أَوْ يَكُونَ عَوْنًا لِلَّهِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ ؛ فَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ : { وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } . وَقَالَ : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } . فَهَذِهِ " الشَّفَاعَةُ " الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُونَ ؛ هِيَ مُنْتَفِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا نَفَاهَا

الْقُرْآنُ . وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَكُونُ . فَأَخْبَرَ : { أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ أَوَّلًا . فَإِذَا سَجَدَ وَحَمِدَ رَبَّهُ بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيْهِ ؛ يُقَالُ لَهُ : أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ أُمَّتِي فَيَحُدُّ لَهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ . وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ وَكَذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ وَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ } . فَتِلْكَ " الشَّفَاعَةُ " هِيَ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ بِإِذْنِ اللَّهِ لَيْسَتْ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَلَا تَكُونُ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ . وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ فَيَغْفِرُ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ دُعَاءِ الشَّافِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِيُكْرِمَهُ بِذَلِكَ وَيَنَالَ بِهِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْتَسْقِي لَهُمْ وَيَدْعُو لَهُمْ وَتِلْكَ شَفَاعَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فَكَانَ اللَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُ وَشَفَاعَتَهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ " فَالظُّلْمُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : فَالظُّلْمُ الَّذِي هُوَ شِرْكٌ لَا شَفَاعَةَ فِيهِ . وَظُلْمُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ ؛ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَلَكِنْ قَدْ يُعْطَى الْمَظْلُومُ مِنْ الظَّالِمِ كَمَا قَدْ يُغْفَرُ لِظَالِمِ نَفْسِهِ بِالشَّفَاعَةِ . فَالظَّالِمُ الْمُطْلَقُ مَا لَهُ مِنْ شَفِيعٍ مُطَاعٍ وَأَمَّا الْمُوَحِّدُ فَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مُوَحِّدٌ مَعَ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ . وَهَذَا إنَّمَا نَفَعَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إخْلَاصُهُ لِلَّهِ فَبِهِ صَارَ مِنْ أَهْل الشَّفَاعَةِ . وَمَقْصُودُ الْقُرْآنِ يَنْفِي الشَّفَاعَةَ نَفْيَ الشِّرْكِ وَهُوَ : أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ

وَلَا يَدْعُو غَيْرَهُ وَلَا يَسْأَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِهِ لَا فِي شَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى أَحَدٍ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ بِأَسْبَابِ . كَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فِي أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيَرْحَمَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ بِأَسْبَابِ مِنْ شَفَاعَةٍ وَغَيْرِهَا فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ مُطْلَقًا ؛ مَا كَانَ فِيهَا شِرْكٌ وَتِلْكَ مُنْتَفِيَةٌ مُطْلَقًا ؛ وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ فِي مَوَاضِعَ وَتِلْكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ فَهِيَ مِنْ التَّوْحِيدِ ، وَمُسْتَحِقُّهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ .
وَأَمَّا " الظُّلْمُ الْمُقَيَّدُ " فَقَدْ يَخْتَصُّ بِظُلْمِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَظُلْمِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا كَقَوْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَوَّاءَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } . وَقَوْلِ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } . وقَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } . لَكِنَّ قَوْلَ آدَمَ وَمُوسَى إخْبَارٌ عَنْ وَاقِعٍ لَا عُمُومَ فِيهِ وَذَلِكَ قَدْ عُرِفَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } فَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ ظُلْمُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ ؛ وَهُوَ إذَا أَشْرَكَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ مَعَ الْإِطْلَاقِ وَقَالَ تَعَالَى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } . فَهَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ ؛ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } . وَاَلَّذِينَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ظَنُّوا : أَنَّ الظُّلْمَ الْمَشْرُوطَ هُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؛ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَا دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَنْ لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِهَذَا الظُّلْمِ ؛ وَمَنْ لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ . كَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاصْطِفَاءِ فِي قَوْلِهِ : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } إلَى قَوْلِهِ { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } . وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدُهُمْ بِظُلْمِ نَفْسِهِ إذَا لَمْ يَتُبْ كَمَا قَالَ تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } . وَقَدْ { سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ؟ فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ أَلَسْت تَحْزَنُ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ ؟ فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إذَا تَابَ دَخَلَ الْجَنَّةَ قَدْ يُجْزَى بِسَيِّئَاتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ تُقَوِّمُهَا تَارَةً وَتُمِيلُهَا أُخْرَى وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَزَالُ ثَابِتَةً

عَلَى أَصْلِهَا حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً } . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } وَفِي حَدِيثِ { سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ : الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ؛ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ؛ خُفِّفَ عَنْهُ وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا . وَقَالَ : { الْمَرَضُ حِطَّةٌ يَحُطُّ الْخَطَايَا عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ الْيَابِسَةُ وَرَقَهَا } وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ . فَمَنْ سَلِمَ مِنْ أَجْنَاسِ الظُّلْمِ الثَّلَاثَةِ ؛ كَانَ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ . وَمَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ظُلْمِهِ نَفْسَهُ ؛ كَانَ لَهُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ مُطْلَقًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ كَمَا وَعَدَ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ هَدَاهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي تَكُونُ عَاقِبَتُهُ فِيهِ إلَى الْجَنَّةِ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ نَقْصِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ . وَلَيْسَ مُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ } أَنَّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ يَكُونُ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ . فَإِنَّ أَحَادِيثَهُ الْكَثِيرَةَ مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُعَرَّضُونَ لِلْخَوْفِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْأَمْنُ التَّامُّ وَلَا الِاهْتِدَاءُ التَّامُّ الَّذِي يَكُونُونَ بِهِ مُهْتَدِينَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ يَحْصُلُ لَهُمْ ؛ بَلْ مَعَهُمْ أَصْلُ الِاهْتِدَاءِ إلَى

هَذَا الصِّرَاطِ وَمَعَهُمْ أَصْلُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ } إنْ أَرَادَ بِهِ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ فَمَقْصُودُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَهُوَ آمِنٌ مِمَّا وُعِدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ مُهْتَدٍ إلَى ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ جِنْسَ الشِّرْكِ ؛ فَيُقَالُ : ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ كَبُخْلِهِ - لِحُبِّ الْمَالِ - بِبَعْضِ الْوَاجِبِ هُوَ شِرْكٌ أَصْغَرُ ، وَحُبُّهُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ حَتَّى يَكُونَ يُقَدِّمُ هَوَاهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَذَا صَاحِبُهُ قَدْ فَاتَهُ مِنْ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِحَسَبِهِ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُدْخِلُونَ الذُّنُوبَ فِي هَذَا الظُّلْمِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ .

فَصْلٌ :
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الصَّلَاحِ " وَ " الْفَسَادِ " : فَإِذَا أُطْلِقَ الصَّلَاحُ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْخَيْرِ وَكَذَلِكَ الْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الشَّرِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الصَّالِحِ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْمُصْلِحِ وَالْمُفْسِدِ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى : { أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إنْ تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } { وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } { أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } . وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } وَهَذَا مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سَيَكُونُ بَعْدَهُمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ : إنَّهُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْمًا لَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا حِينَ نُزُولِهَا وَكَذَا قَالَ السدي عَنْ أَشْيَاخِهِ : الْفَسَادُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي . وَعَنْ مُجَاهِدٍ : تَرْكُ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي . وَالْقَوْلَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : الْكُفْرُ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : النِّفَاقُ الَّذِي صَافُوا بِهِ الْكُفَّارَ وَأَطْلَعُوهُمْ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ . وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٍ : الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي . وَهَذَا أَيْضًا عَامٌّ كَالْأَوَّلَيْنِ .

وَقَوْلُهُمْ : { إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فُسِّرَ بِإِنْكَارِ مَا أَقَرُّوا بِهِ أَيْ : إنَّا إنَّمَا نَفْعَلُ مَا أَمَرَنَا بِهِ الرَّسُولُ . وَفُسِّرَ : بِأَنَّ الَّذِي نَفْعَلُهُ صَلَاحٌ وَنَقْصِدُ بِهِ الصَّلَاحَ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا وَهَذَا ، يَقُولُونَ الْأَوَّلَ لِمَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ وَيَقُولُونَ الثَّانِيَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ اطَّلَعَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ . لَكِنَّ الثَّانِيَ يَتَنَاوَلُ الْأَوَّلَ ؛ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِهِمْ إسْرَارَ خِلَافِ مَا يُظْهِرُونَ وَهُمْ يَرَوْنَ هَذَا صَلَاحًا قَالَ مُجَاهِدٌ : أَرَادُوا أَنَّ مُصَافَاةَ الْكُفَّارِ صَلَاحٌ لَا فَسَادٌ . وَعَنْ السدي : إنَّ فِعْلَنَا هَذَا هُوَ الصَّلَاحُ وَتَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ فَسَادٌ ، وَقِيلَ : أَرَادُوا أَنَّ هَذَا صَلَاحٌ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الدَّوْلَةَ إنْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَمِنُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْكُفَّارِ ؛ فَقَدْ أَمِنُوهُمْ بِمُصَافَاتِهِمْ . وَلِأَجْلِ الْقَوْلَيْنِ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } أَيْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ فَسَادٌ لَا صَلَاحٌ . وَقِيلَ : لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ نَبِيَّهُ عَلَى فَسَادِهِمْ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ ؛ فَهُوَ الْمُرَادُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } وَقَالَ { قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } وَقَوْلُ يُوسُفَ { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } . وَقَدْ يُقْرَنُ أَحَدُهُمَا بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } قِيلَ : بِالْكُفْرِ وَقِيلَ : بِالظُّلْمِ ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَقَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ

عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } وَقَتْلُ النَّفْسِ الْأَوَّلُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ لَكِنَّ الْحَقَّ فِي الْقَتْلِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ وَفِي الرِّدَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ وَالزِّنَا ؛ الْحَقُّ فِيهَا لِعُمُومِ النَّاسِ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَلِهَذَا لَا يُعْفَى عَنْ هَذَا كَمَا يُعْفَى عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ فَسَادَهُ عَامٌّ قَالَ تَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ } الْآيَةَ . قِيلَ : سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ العرنيون الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ . وَقِيلَ : سَبَبُهُ نَاسٌ مُعَاهِدُونَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَحَارَبُوا . وَقِيلَ : الْمُشْرِكُونَ ؛ فَقَدْ قَرَنَ بِالْمُرْتَدِّينَ الْمُحَارِبِينَ وَنَاقِضِي الْعَهْدِ الْمُحَارِبِينَ وَبِالْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ . وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ قَرَنَ " الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ بِالْإِيمَانِ " فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } . { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْإِصْلَاحِ وَأَفْضَلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ

صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } . وَقَالَ : { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } . وَقَالَ : { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } . وَقَالَ فِي الْقَذْفِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَقَالَ فِي السَّارِقِ : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } . وَقَالَ : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } . وَلِهَذَا شَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَنْ يَصْلُحَ وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِسَنَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِصَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ لَمَّا أَجَّلَهُ سَنَةً ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد فِي تَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً كَمَا أَجَّلَ عُمَرُ صَبِيغَ بْنَ عَسَلٍ .

فَصْلٌ :
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرَ مِنْ تَنَوُّعِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ كُلِّ أَحَدٍ ؛ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ ؛ لَكِنْ نَقُولُ : دَلَالَةُ لَفْظِ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَعْمَالِ مَجَازٌ ؛ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ؛ أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } " مَجَازٌ . وَقَوْلُهُ : " { الْإِيمَانُ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } " إلَى آخِرِهِ ؛ حَقِيقَةٌ . وَهَذَا عُمْدَةُ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُدْخِلْ الْأَعْمَالَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ . وَنَحْنُ نُجِيبُ بِجَوَابَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " : كَلَامٌ عَامٌّ فِي لَفْظِ ( الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ) . " وَالثَّانِي " : مَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ . فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَجَازًا ؛ مَا هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْمَجَازِ ؟ هَلْ الْحَقِيقَةُ هُوَ الْمُطْلَقُ أَوْ الْمُقَيَّدُ أَوْ كِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ عَلَى مَاذَا يُحْمَلُ ؟ . فَيُقَالُ أَوَّلًا : تَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا إلَى " حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ " وَتَقْسِيمُ دَلَالَتِهَا أَوْ الْمَعَانِي الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا إنْ اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي الْمَدْلُولِ أَوْ فِي الدَّلَالَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ

أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْعِلْمِ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ بَلْ وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَنَحْوِهِمْ . [ وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِلَفْظِ " الْمَجَازِ " أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ . وَلَكِنْ لَمْ يَعْنِ بِالْمَجَازِ مَا هُوَ قَسِيمُ الْحَقِيقَةِ ] (*) . وَإِنَّمَا عَنَى بِمَجَازِ الْآيَةِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْآيَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ - كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِ - إنَّمَا تُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِطُرُقِ مِنْهَا : نَصُّ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولُوا : هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ ، فَقَدْ تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ ، فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا هَذَا وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ السَّلَفِ . وَهَذَا الشَّافِعِيُّ هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " لَمْ يُقَسِّمْ هَذَا التَّقْسِيمَ " وَلَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ " الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ " . وَكَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ فِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " وَغَيْرِهِ ؛ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُوجَدْ

لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا فِي كَلَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة فِي قَوْلِهِ : ( إنَّا ، وَنَحْنُ ) وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ : هَذَا مِنْ مَجَازِ اللُّغَةِ يَقُولُ الرَّجُلُ : إنَّا سَنُعْطِيك . إنَّا سَنَفْعَلُ ؛ فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَجَازُ اللُّغَةِ . وَبِهَذَا احْتَجَّ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ : إنَّ فِي " الْقُرْآنِ " مَجَازًا كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ . وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ كَأَبِي الْحَسَنِ الخرزي . وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ . وَأَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَكَذَلِكَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ مُحَمَّدُ بْنُ خويز منداد وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنَعَ مِنْهُ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ البلوطي وَصَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا . وَحَكَى بَعْضُ النَّاسِ عَنْ أَحْمَد فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ . وَأَمَّا سَائِرُ الْأَئِمَّةِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد : إنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا لَا مَالِكٌ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّ تَقْسِيمَ الْأَلْفَاظِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ . إنَّمَا اُشْتُهِرَ فِي الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَظَهَرَتْ أَوَائِلُهُ فِي الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَمَا عَلِمْته مَوْجُودًا فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَوَاخِرِهَا وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ نَطَقُوا بِهَذَا التَّقْسِيمِ . قَالُوا : إنَّ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَد : مِنْ مَجَازِ اللُّغَةِ . أَيْ : مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ : نَحْنُ فَعَلْنَا كَذَا وَنَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . قَالُوا : وَلَمْ يُرِدْ أَحْمَد بِذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ . وَقَدْ أَنْكَرَ طَائِفَةٌ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ كَأَبِي

إسْحَاقَ الإسفراييني . وَقَالَ الْمُنَازِعُونَ لَهُ : النِّزَاعُ مَعَهُ لَفْظِيٌّ فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ أَنَّ فِي اللُّغَةِ لَفْظًا مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ ؛ فَهَذَا هُوَ الْمَجَازُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ مَجَازًا . فَيَقُولُ مَنْ يَنْصُرُهُ : إنَّ الَّذِينَ قَسَّمُوا اللَّفْظَ : حَقِيقَةً وَمَجَازًا قَالُوا : " الْحَقِيقَةُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ . " وَالْمَجَازُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ كَلَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ إذَا أُرِيدَ بِهِمَا الْبَهِيمَةُ أَوْ أُرِيدَ بِهِمَا الشُّجَاعُ وَالْبَلِيدُ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّحْدِيدُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَدْ وُضِعَ أَوَّلًا لِمَعْنَى ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ التَّقْسِيمِ أَنَّ كُلَّ مَجَازٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَقِيقَةٍ وَلَيْسَ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ مَجَازٌ ؟ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ وَقَالَ : اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ عُلِمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَرَبِيَّةَ وُضِعَتْ أَوَّلًا لِمَعَانٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُعْمِلَتْ فِيهَا ؛ فَيَكُونُ لَهَا وَضْعٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ . وَهَذَا إنَّمَا صَحَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ اللُّغَاتِ اصْطِلَاحِيَّةً فَيَدَّعِي أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْعُقَلَاءِ اجْتَمَعُوا وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا هَذَا بِكَذَا وَهَذَا بِكَذَا وَيَجْعَلَ هَذَا عَامًّا فِي جَمِيعِ اللُّغَاتِ . وَهَذَا الْقَوْلُ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَهُ قَبْلَ أَبِي هَاشِمِ بْنِ الجبائي ؛ فَإِنَّهُ وَأَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ كِلَاهُمَا قَرَأَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الجبائي لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَخَالَفَهُمْ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ وَفِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَفِي

صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ مِنْ تَنَاقُضِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ . فَتَنَازَعَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ ؛ فَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ : هِيَ اصْطِلَاحِيَّةٌ وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ : هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ . ثُمَّ خَاضَ النَّاسُ بَعْدَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ فَقَالَ آخَرُونَ : بَعْضُهَا تَوْقِيفِيٌّ وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيٌّ وَقَالَ فَرِيقٌ رَابِعٌ بِالْوَقْفِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقُلَ عَنْ الْعَرَبِ بَلْ وَلَا عَنْ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فَوَضَعُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا بَعْدَ الْوَضْعِ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا عَنَوْهُ بِهَا مِنْ الْمَعَانِي فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ يَعْلَمُ وَضْعًا يَتَقَدَّمُ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْطِلٌ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ . وَلَا يُقَالُ : نَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ ؛ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ اصْطِلَاحٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِعْمَالُ . قِيلَ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ نَحْنُ نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يُلْهِمُ الْحَيَوَانَ مِنْ الْأَصْوَاتِ مَا بِهِ يَعْرِفُ بَعْضُهَا مُرَادَ بَعْضٍ وَقَدْ سُمِّيَ ذَلِكَ مَنْطِقًا وَقَوْلًا فِي قَوْلِ سُلَيْمَانَ : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } . وَفِي قَوْلِهِ : { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ } وَفِي قَوْلِهِ : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } . وَكَذَلِكَ الْآدَمِيُّونَ ؛ فَالْمَوْلُودُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ التَّمْيِيزُ سَمِعَ أَبَوَيْهِ أَوْ مَنْ يُرَبِّيهِ يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ وَيُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فَصَارَ يَفْهَمُ أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْ : أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثُمَّ هَذَا يَسْمَعُ لَفْظًا بَعْدَ لَفْظٍ حَتَّى يَعْرِفَ لُغَةَ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَشَأَ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ اصْطَلَحُوا مَعَهُ عَلَى وَضْعٍ مُتَقَدِّمٍ ؛ بَلْ وَلَا أَوْقَفُوهُ عَلَى مَعَانِي الْأَسْمَاءِ

وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا قَدْ يَسْأَلُ عَنْ مُسَمَّى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيُوقَفُ عَلَيْهَا كَمَا يُتَرْجَمُ لِلرَّجُلِ اللُّغَةُ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا فَيُوقَفُ عَلَى مَعَانِي أَلْفَاظِهَا وَإِنْ بَاشَرَ أَهْلُهَا مُدَّةَ عِلْمِ ذَلِكَ بِدُونِ تَوْقِيفٍ مِنْ أَحَدِهِمْ . نَعَمْ قَدْ يَضَعُ النَّاسُ الِاسْمَ لِمَا يَحْدُثُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْرِفُهُ فَيُسَمِّيهِ كَمَا يُولَدُ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ فَيُسَمِّيهِ اسْمًا إمَّا مَنْقُولًا وَإِمَّا مُرْتَجَلًا وَقَدْ يَكُونُ الْمُسَمَّى وَاحِدًا لَمْ يَصْطَلِحْ مَعَ غَيْرِهِ وَقَدْ يَسْتَوُونَ فِيمَا يُسَمُّونَهُ . وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْدُثُ لِلرَّجُلِ آلَةٌ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ يُصَنِّفُ كِتَابًا أَوْ يَبْنِي مَدِينَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيُسَمِّي ذَلِكَ بِاسْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَجْنَاسِ الْمَعْرُوفَةِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ الْعَامَّةِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { الرَّحْمَنِ } { عَلَّمَ الْقُرْآنَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } . و { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } . وَقَالَ : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْإِنْسَانَ الْمَنْطِقَ كَمَا يُلْهِمُ غَيْرَهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا كَانَ قَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَرَضَ الْمُسَمَّيَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْ آدَمَ جَمِيعَ اللُّغَاتِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ تِلْكَ اللُّغَاتِ اتَّصَلَتْ إلَى أَوْلَادِهِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا بِهَا فَإِنَّ دَعْوَى هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهُ بَنُوهُ وَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ عَامَ الطُّوفَانِ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ إلَّا مَنْ فِي السَّفِينَةِ وَأَهْلُ السَّفِينَةِ انْقَطَعَتْ ذُرِّيَّتُهُمْ إلَّا أَوْلَادَ نُوحٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَتَكَلَّمُونَ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَهُمْ . فَإِنَّ " اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ " كَالْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْأَنْوَاعِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ ، وَالْعَرَبُ أَنْفُسُهُمْ

لِكُلِّ قَوْمٍ لُغَاتٌ لَا يَفْهَمُهَا غَيْرُهُمْ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُنْقَلَ هَذَا جَمِيعُهُ عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ وَأُولَئِكَ جَمِيعُهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَسْلٌ وَإِنَّمَا النَّسْلُ لِنُوحِ وَجَمِيعُ النَّاسِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ : سَامُ وحام ويافث كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } . فَلَمْ يَجْعَلْ بَاقِيًا إلَّا ذُرِّيَّتَهُ وَكَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ أَوْلَادَهُ ثَلَاثَةٌ " . رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْطِقُوا بِهَذَا كُلِّهِ وَيَمْتَنِعُ نَقْلُ ذَلِكَ عَنْهُمْ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ هَذِهِ اللُّغَةَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ ، وَإِذَا كَانَ النَّاقِلُ ثَلَاثَةً ؛ فَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَوْلَادَهُمْ ، وَأَوْلَادُهُمْ عَلِمُوا أَوْلَادَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاتَّصَلَتْ . وَنَحْنُ نَجِدُ بَنِي الْأَبِ الْوَاحِدِ يَتَكَلَّمُ كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ بِلُغَةِ لَا تَعْرِفُهَا الْأُخْرَى وَالْأَبُ وَاحِدٌ ، لَا يُقَالُ : إنَّهُ عَلَّمَ أَحَدَ ابْنَيْهِ لُغَةً وَابْنَهُ الْآخَرَ لُغَةً ؛ فَإِنَّ الْأَبَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا ابْنَانِ وَاللُّغَاتُ فِي أَوْلَادِهِ أَضْعَافُ ذَلِكَ . وَاَلَّذِي أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ عَادَةَ بَنِي آدَمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ لُغَتَهُمْ الَّتِي يُخَاطِبُونَهُمْ بِهَا أَوْ يُخَاطِبُهُمْ بِهَا غَيْرُهُمْ فَأَمَّا لُغَاتٌ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَا فَلَا يُعَلِّمُونَهَا أَوْلَادَهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُوجَدُ بَنُو آدَمَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْفَاظِ مَا سَمِعُوهَا قَطُّ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَالْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ آدَمَ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ عَنْ السَّلَفِ . ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُ إنَّمَا عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَنْ يَعْقِلُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } . قَالُوا : وَهَذَا الضَّمِيرُ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ يَعْقِلُ ، وَمَا لَا يَعْقِلُ يُقَالُ

فِيهَا : عَرَضَهَا . وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مَنْ يَعْقِلُ إلَّا الْمَلَائِكَةَ ؛ وَلَا كَانَ إبْلِيسُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا كَانَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ وَهَذَا يُنَاسِبُ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ آدَمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ صُوَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ؛ فَرَآهُمْ فَرَأَى فِيهِمْ مَنْ يَبِصُ . فَقَالَ : يَا رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : ابْنُك دَاوُد } " . فَيَكُونُ قَدْ أَرَاهُ صُوَرَ ذُرِّيَّتِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَأَسْمَاءَهُمْ وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ لَا أَجْنَاسٍ . ( وَالثَّانِي ) : أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : عَلَّمَهُ حَتَّى الفسوة والفسية وَالْقَصْعَةِ والقصيعة ، أَرَادَ أَسْمَاءَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَعْيَانِ مُكَبَّرَهَا وَمُصَغَّرَهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ : " { إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ : يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ } " . وَأَيْضًا قَوْلُهُ : " الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " لَفْظٌ عَامٌّ مُؤَكَّدٌ ؛ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالدَّعْوَى . وَقَوْلُهُ : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ فَغَلَبَ مَنْ يَعْقِلُ . كَمَا قَالَ : { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } . قَالَ عِكْرِمَةُ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ دُونَ أَنْوَاعِهَا كَقَوْلِك : إنْسَانٌ وَجِنٌّ وَمَلَكٌ وَطَائِرٌ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ السَّائِبِ وَابْنُ قُتَيْبَةَ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالْهَوَامِّ وَالطَّيْرِ .

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ لَيْسَتْ مُتَلَقَّاةً عَنْ آدَمَ ؛ أَنَّ أَكْثَرَ اللُّغَاتِ نَاقِصَةٌ عَنْ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ لِلْأَوْلَادِ وَالْبُيُوتِ وَالْأَصْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُضَافُ إلَى الْحَيَوَانِ ؛ بَلْ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ فِي ذَلِكَ الْإِضَافَةَ . فَلَوْ كَانَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهَا الْجَمِيعَ لَعَلَّمَهَا مُتَنَاسِبَةً ، وَأَيْضًا فَكُلُّ أُمَّةٍ لَيْسَ لَهَا كِتَابٌ لَيْسَ فِي لُغَتِهَا أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي لُغَتِهَا اسْمُ الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عُرِفَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ ؛ فَوَضَعَتْ لَهُ الْأُمَمُ الْأَسْمَاءَ ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ يَتْبَعُ التَّصَوُّرَ ، وَأَمَّا الْأُسْبُوعُ فَلَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِالسَّمْعِ ، لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إلَّا بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ شُرِعَ لَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ وَيَحْفَظُونَ بِهِ الْأُسْبُوعَ الْأَوَّلَ الَّذِي بَدَأَ اللَّهُ فِيهِ خَلْقَ هَذَا الْعَالَمِ ؛ فَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ والعِبْرانِيِّينَ ، وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُمْ ، أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ ؛ بِخِلَافِ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ فَلَمْ يُعَبِّرُوا عَنْهُ . فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ أَنْ يُعَبِّرَ عَمَّا يُرِيدُهُ وَيَتَصَوَّرُهُ بِلَفْظِهِ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَبُوهُمْ آدَمَ وَهُمْ عَلِمُوا كَمَا عَلِمَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ اللُّغَاتُ . وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى بالعبرانية وَإِلَى مُحَمَّدٍ بِالْعَرَبِيَّةِ ؛ وَالْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَا أَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ لَيْسَتْ الْأُخْرَى ، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَانِيَّةَ مِنْ أَقْرَبِ اللُّغَاتِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ حَتَّى إنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ لُغَةِ بَعْضِ الْعَجَمِ إلَى بَعْضٍ . فَبِالْجُمْلَةِ نَحْنُ لَيْسَ غَرَضُنَا إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَكْفِينَا أَنْ يُقَالَ :

هَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وُجُودُهُ بَلْ الْإِلْهَامُ كَافٍ فِي النُّطْقِ بِاللُّغَاتِ مِنْ غَيْرِ مُوَاضَعَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ ؛ وَإِذَا سُمِّيَ هَذَا تَوْقِيفًا ؛ فَلْيُسَمَّ تَوْقِيفًا وَحِينَئِذٍ فَمَنْ ادَّعَى وَضْعًا مُتَقَدِّمًا عَلَى اسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ ؛ فَقَدْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ . وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ .
ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : تَتَمَيَّزُ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِالِاكْتِفَاءِ بِاللَّفْظِ فَإِذَا دَلَّ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ إلَّا مَعَ الْقَرِينَةِ ؛ فَهُوَ مَجَازٌ وَهَذَا أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى لَا بِوَضْعِ مُتَقَدِّمٍ . ثُمَّ يُقَالُ ( ثَانِيًا ) : هَذَا التَّقْسِيمُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ؛ وَلَيْسَ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا حَدٌّ صَحِيحٌ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ وَهُوَ تَقْسِيمُ مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ ؛ فَهُمْ مُبْتَدِعَةٌ فِي الشَّرْعِ مُخَالِفُونَ لِلْعَقْلِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : " الْحَقِيقَةُ " : اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ . وَ " الْمَجَازُ " : هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ؛ فَاحْتَاجُوا إلَى إثْبَاتِ الْوَضْعِ السَّابِقِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا يَتَعَذَّرُ . ثُمَّ يُقَسِّمُونَ الْحَقِيقَةَ إلَى لُغَوِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ وَأَكْثَرُهُمْ يُقَسِّمُهَا إلَى ثَلَاثٍ : لُغَوِيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ . " فَالْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ " : هِيَ مَا صَارَ اللَّفْظُ دَالًّا فِيهَا عَلَى الْمَعْنَى بِالْعُرْفِ لَا بِاللُّغَةِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَكُونُ تَارَةً أَعَمَّ مِنْ اللُّغَوِيِّ وَتَارَةً أَخَصَّ وَتَارَةً يَكُونُ مُبَايِنًا لَهُ ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ اُسْتُعْمِلَ لِأَجْلِهَا . فَالْأَوَّلُ : مِثْلُ لَفْظِ " الرَّقَبَةِ " وَ " الرَّأْسِ " وَنَحْوِهِمَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ . وَالثَّانِي مِثْلُ لَفْظِ " الدَّابَّةِ " وَنَحْوِهَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا دَبَّ ثُمَّ صَارَ

يُسْتَعْمَلُ فِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَفِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْفَرَسِ وَفِي عُرْفِ بَعْضِهِمْ فِي الْحِمَارِ . وَالثَّالِثُ مِثْلُ لَفْظِ " الْغَائِطِ " وَ " الظَّعِينَةِ " وَ " الرَّاوِيَةِ " وَ " الْمَزَادَةِ " فَإِنَّ الْغَائِطَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنْ الْأَرْضِ ، فَلَمَّا كَانُوا يَنْتَابُونَهُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ سَمَّوْا مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِاسْمِ مَحَلِّهِ ، وَالظَّعِينَةُ اسْمُ الدَّابَّةِ ثُمَّ سَمَّوْا الْمَرْأَةَ الَّتِي تَرْكَبُهَا بِاسْمِهَا وَنَظَائِرَ ذَلِكَ . وَ " الْمَقْصُودُ " أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ لَمْ تَصِرْ حَقِيقَةً لِجَمَاعَةِ تَوَاطَئُوا عَلَى نَقْلِهَا وَلَكِنْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ وَأَرَادَ بِهَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعُرْفِيَّ ثُمَّ شَاعَ الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ ، وَلِهَذَا زَادَ مَنْ زَادَ مِنْهُمْ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا التَّخَاطُبُ ثُمَّ هُمْ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ : إنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ الِاسْتِعْمَالُ عَلَى بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ أَشْهَرَ فِيهِ وَلَا يَدُلُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا عَلَيْهِ فَتَصِيرُ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ نَاسِخَةً لِلْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ . وَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْحَادِثِ لِلْعُرْفِيِّ وَهُوَ حَقِيقَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ ذَلِكَ تَقَدُّمُ وَضْعٍ ، فَعُلِمَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْحَقِيقَةِ بِهَذَا لَا يَصِحُّ . وَإِنْ قَالُوا : نَعْنِي بِمَا وُضِعَ لَهُ مَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ أَوَّلًا ؛ فَيُقَالُ : مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَتَخَاطَبُ بِهَا عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَبْلَهُ لَمْ تُسْتَعْمَلْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى شَيْءٍ آخَرَ . وَإِذَا لَمْ يَعْلَمُوا هَذَا النَّفْيَ ؛ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا خِلَافُ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يُقْطَعَ بِشَيْءِ مِنْ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ .

ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا ، نَجِدُ أَحَدَهُمْ يَأْتِي إلَى أَلْفَاظٍ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ إلَّا مُقَيَّدَةً فَيَنْطِقُ بِهَا مُجَرَّدَةً عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّ ذَلِكَ هُوَ حَقِيقَتُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا نُطِقَ بِهَا مُجَرَّدَةً وَلَا وُضِعَتْ مُجَرَّدَةً ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ حَقِيقَةُ الْعَيْنِ هُوَ الْعُضْوُ الْمُبْصِرُ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ عَيْنُ الشَّمْسِ وَالْعَيْنُ النَّابِعَةُ وَعَيْنُ الذَّهَبِ ؛ لِلْمُشَابَهَةِ . لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ لَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ؛ فَيُمَثِّلُ بِغَيْرِهِ مِثْلَ لَفْظِ الرَّأْسِ . يَقُولُونَ : هُوَ حَقِيقَةٌ فِي رَأْسِ الْإِنْسَانِ . ثُمَّ قَالُوا : رَأْسُ الدَّرْبِ لِأَوَّلِهِ وَرَأْسُ الْعَيْنِ لِمَنْبَعِهَا وَرَأْسُ الْقَوْمِ لِسَيِّدِهِمْ وَرَأْسُ الْأَمْرِ لِأَوَّلِهِ وَرَأْسُ الشَّهْرِ وَرَأْسُ الْحَوْلِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ . وَهُمْ لَا يَجِدُونَ قَطُّ أَنَّ لَفْظَ الرَّأْسِ اُسْتُعْمِلَ مُجَرَّدًا ؛ بَلْ يَجِدُونَ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ بِالْقُيُودِ فِي رَأْسِ الْإِنْسَانِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَنَحْوِهِ وَهَذَا الْقَيْدُ يَمْنَعُ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ تِلْكَ الْمَعَانِي . فَإِذَا قِيلَ : رَأْسُ الْعَيْنِ وَرَأْسُ الدَّرْبِ وَرَأْسُ النَّاسِ وَرَأْسُ الْأَمْرِ ؛ فَهَذَا الْمُقَيِّدُ غَيْرُ ذَاكَ الْمُقَيِّدِ الدَّالِّ ، وَمَجْمُوعُ اللَّفْظِ الدَّالِّ هُنَا غَيْرُ مَجْمُوعِ اللَّفْظِ الدَّالِّ هُنَاكَ ؛ لَكِنْ اشْتَرَكَا فِي بَعْضِ اللَّفْظِ كَاشْتِرَاكِ كُلِّ الْأَسْمَاءِ الْمُعَرَّفَةِ فِي لَامِ التَّعْرِيفِ ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ النَّاطِقَ بِاللُّغَةِ نَطَقَ بِلَفْظِ رَأْسِ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُتَصَوَّرُ رَأْسُهُ قَبْلَ غَيْرِهِ ، وَالتَّعْبِيرُ أَوَّلًا هُوَ عَمَّا يُتَصَوَّرُ أَوَّلًا ، فَالنُّطْقُ بِهَذَا الْمُضَافِ أَوَّلًا لَا يَمْنَعُ أَنْ يُنْطَقَ بِهِ مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ ثَانِيًا ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ الْمَجَازِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُضَافَاتِ فَإِذَا قِيلَ : ابْنُ آدَمَ أَوَّلًا ؛ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا : ابْنُ

الْفَرَسِ وَابْنُ الْحِمَارِ مَجَازًا وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : بِنْتُ الْإِنْسَانِ ؛ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا : بِنْتُ الْفَرَسِ مَجَازًا . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : رَأْسُ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا : رَأْسُ الْفَرَسِ مَجَازًا وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُضَافَاتِ إذَا قِيلَ : يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ . فَإِذَا قِيلَ : هُوَ حَقِيقَةٌ فِيمَا أُضِيفَ إلَى الْحَيَوَانِ ؛ قِيلَ : لَيْسَ جَعْلُ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةَ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَا أُضِيفَ إلَى الْإِنْسَانِ رَأْسٌ ثُمَّ قَدْ يُضَافُ إلَى مَا لَا يَتَصَوَّرُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الصِّغَارِ الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ بِبَالِ عَامَّةِ النَّاطِقِينَ بِاللُّغَةِ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِي رَأْسِ الْجَبَلِ وَالطَّرِيقِ وَالْعَيْنِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُضَافُ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمَسَاكِنِهِ ؛ يُضَافُ مِثْلُهُ إلَى غَيْرِهِ وَيُضَافُ ذَلِكَ إلَى الْجَمَادَاتِ ؛ فَيُقَالُ : رَأْسُ الْجَبَلِ وَرَأْسُ الْعَيْنِ وَخَطْمُ الْجَبَلِ أَيْ أَنْفُهُ وَفَمُ الْوَادِي وَبَطْنُ الْوَادِي وَظَهْرُ الْجَبَلِ وَبَطْنُ الْأَرْضِ وَظَهْرُهَا ، وَيُسْتَعْمَلُ مَعَ الْأَلِفِ وَهُوَ لَفْظُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ أَنَّ الظَّاهِرَ لِمَا ظَهَرَ فَتَبَيَّنَ وَالْبَاطِنَ لِمَا بَطَنَ فَخَفِيَ . وَسُمِّيَ ظَهْرُ الْإِنْسَانِ ظَهْرًا لِظُهُورِهِ وَبَطْنُ الْإِنْسَانِ بَطْنًا لِبُطُونِهِ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ وَذَاكَ مَجَازٌ ؛ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ . وَ " أَيْضًا " مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ مُفْرَدًا كَلَفْظِ " الْإِنْسَانِ " وَنَحْوِهِ ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِمْ : إنْسَانُ الْعَيْنِ وَإِبْرَةُ الذِّرَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ ؛ فَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَجَازِ ؛ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ الْمَجَازَ : هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا وَهُنَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ اللَّفْظُ ؛ بَلْ رُكِّبَ مَعَ لَفْظٍ آخَرَ فَصَارَ وَضْعًا آخَرَ بِالْإِضَافَةِ .

فَلَوْ اُسْتُعْمِلَ مُضَافًا فِي مَعْنًى ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ بِتِلْكَ الْإِضَافَةِ فِي غَيْرِهِ كَانَ مَجَازًا بَلْ إذَا كَانَ بَعْلَبَكُّ وَحَضْرَمَوْتُ وَنَحْوُهُمَا مِمَّا يُرَكَّبُ تَرْكِيبَ مَزْجٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْإِضَافَةَ ؛ لَا يُقَالُ : إنَّهُ مَجَازٌ . فَمَا لَمْ يُنْطَقْ بِهِ إلَّا مُضَافًا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَجَازًا .
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ؛ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مَا يُفِيدُ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرَائِنِ ، وَالْمَجَازَ مَا لَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ ، أَوْ قَالَ : " الْحَقِيقَةُ " : مَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ . وَ " الْمَجَازُ " : مَا لَا يُفِيدُ إلَّا مَعَ التَّقْيِيدِ . أَوْ قَالَ : " الْحَقِيقَةُ " هِيَ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . " وَالْمَجَازُ " مَا لَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ . أَوْ قَالَ : " الْمَجَازُ " مَا صَحَّ نَفْيُهُ وَ " الْحَقِيقَةُ " مَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهَا ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : مَا تَعْنِي بِالتَّجْرِيدِ عَنْ الْقَرَائِنِ وَالِاقْتِرَانِ بِالْقَرَائِنِ ؟ إنْ عُنِيَ بِذَلِكَ الْقَرَائِنُ اللَّفْظِيَّةُ مِثْلُ كَوْنِ الِاسْمِ يُسْتَعْمَلُ مَقْرُونًا بِالْإِضَافَةِ أَوْ لَامِ التَّعْرِيفِ وَيُقَيَّدُ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا وَمَفْعُولًا وَمُبْتَدَأً وَخَبَرًا فَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ اسْمٌ إلَّا مُقَيَّدًا . وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ إنْ عُنِيَ بِتَقْيِيدِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَقَدْ يُقَيَّدُ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَظَرْفَيْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمَفْعُولِ لَهُ وَمَعَهُ وَالْحَالِ فَالْفِعْلُ لَا يُسْتَعْمَلُ قَطُّ إلَّا مُقَيَّدًا وَأَمَّا الْحَرْفُ فَأَبْلَغُ فَإِنَّ الْحَرْفَ أُتِيَ بِهِ لِمَعْنَى فِي غَيْرِهِ . فَفِي الْجُمْلَةِ لَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامٍ تَامٍّ اسْمٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا حَرْفٌ إلَّا مُقَيَّدًا بِقُيُودِ تُزِيلُ عَنْهُ الْإِطْلَاقَ . فَإِنْ كَانَتْ الْقَرِينَةُ مِمَّا يَمْنَعُ الْإِطْلَاقَ عَنْ كُلِّ

قَيْدٍ فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ " الْكَلَامِ " وَ " الْكَلِمَةِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بَلْ وَفِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْمُقَيَّدِ . وَهُوَ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ اسْمِيَّةً كَانَتْ أَوْ فِعْلِيَّةً أَوْ نِدَائِيَّةً إنْ قِيلَ إنَّهَا قِسْمٌ ثَالِثٌ . فَأَمَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ أَوْ الْفِعْلِ أَوْ الْحَرْفِ الَّذِي جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ فَهَذَا لَا يُسَمَّى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَطُّ كَلِمَةً وَإِنَّمَا تَسْمِيَةُ هَذَا كَلِمَةً اصْطِلَاحٌ نَحْوِيٌّ كَمَا سَمَّوْا بَعْضَ الْأَلْفَاظِ فِعْلًا وَقَسَّمُوهُ إلَى فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ ، وَالْعَرَبُ لَمْ تُسَمِّ قَطُّ اللَّفْظَ فِعْلًا ؛ بَلْ النُّحَاةُ اصْطَلَحُوا عَلَى هَذَا فَسَمَّوْا اللَّفْظَ بِاسْمِ مَدْلُولِهِ فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُدُوثِ فِعْلٍ فِي زَمَنٍ مَاضٍ سَمَّوْهُ فِعْلًا مَاضِيًا وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا . وَكَذَلِكَ حَيْثُ وُجِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَظْمِهِ وَنَثْرِهِ لَفْظُ كَلِمَةٍ ؛ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْمُفِيدُ الَّتِي تُسَمِّيهَا النُّحَاةُ جُمْلَةً تَامَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا } . وقَوْله تَعَالَى { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } . وقَوْله تَعَالَى { تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } . وَقَوْلِهِ : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } . وَقَوْلِهِ : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } . وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ }

وَقَوْلِهِ " { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } " . وَقَوْلِهِ . " { إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ بِهِ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ بِهِ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } " . وَقَوْلِهِ : " { لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْته مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ } " . وَإِذَا كَانَ كُلُّ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ حَرْفٍ يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ لَا مُطْلَقٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ مَا دَلَّ مَعَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجَرُّدِ عَنْ كُلِّ قَرِينَةٍ تُقَارِنُهُ . فَإِنْ قِيلَ : أُرِيدَ بَعْضُ الْقَرَائِنِ دُونَ بَعْضٍ قِيلَ لَهُ : اُذْكُرْ الْفَصْلَ بَيْنَ الْقَرِينَةِ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا حَقِيقَةٌ وَالْقَرِينَةَ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا مَجَازٌ وَلَنْ تَجِدَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا تَقْدِرُ بِهِ عَلَى تَقْسِيمٍ صَحِيحٍ مَعْقُولٍ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي " الْعَامِّ " إذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا بَقِيَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا ؟ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْأَمْرِ " إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ هَلْ يَكُونُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا ؟ وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لِأَكْثَرِ الطَّوَائِفِ : لِأَصْحَابِ أَحْمَد قَوْلَانِ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ قَوْلَانِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ يَطَّرِدُ فِي التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ كَالصِّفَةِ

وَالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَالْبَدَلِ وَجَعَلَ يَحْكِي فِي ذَلِكَ أَقْوَالَ مَنْ يَفْصِلُ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ أَحَدًا قَالَهُ فَجُعِلَ اللَّفْظُ الْعَامُّ الْمُقَيَّدُ فِي الصِّفَاتِ وَالْغَايَاتِ وَالشُّرُوطِ مَجَازًا بَلْ لَمَّا أَطْلَقَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إذَا خُصَّ يَصِيرُ مَجَازًا ؛ ظَنَّ هَذَا النَّاقِلُ أَنَّهُ عَنَى التَّخْصِيصَ الْمُتَّصِلَ وَأُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ فِي اصْطِلَاحِهِمْ عَامٌّ مَخْصُوصٌ إلَّا إذَا خُصَّ بِمُنْفَصِلِ . وَأَمَّا الْمُتَّصِلُ ؛ فَلَا يُسَمُّونَ اللَّفْظَ عَامًّا مَخْصُوصًا الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَدُلَّ إلَّا مُتَّصِلًا وَالِاتِّصَالُ مَنَعَهُ الْعُمُومُ وَهَذَا اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ الصَّوَابُ . لَا يُقَالُ لِمَا قُيِّدَ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَنَحْوِهِمَا : أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا خُصَّ مِنْ الْعُمُومِ وَلَا فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ ؛ لَكِنْ يُقَيَّدُ فَيُقَالُ : تَخْصِيصٌ مُتَّصِلٌ وَهَذَا الْمُقَيَّدُ لَا يَدْخُلُ فِي التَّخْصِيصِ الْمُطْلَقِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَيُقَالُ : إذَا كَانَ هَذَا مَجَازًا ؛ فَيَكُونُ تَقْيِيدُ الْفِعْلِ الْمُطْلَقِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَبِظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مَجَازًا : وَكَذَلِكَ بِالْحَالِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا قُيِّدَ بِقَيْدِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ كُلُّهُ مَجَازًا فَأَيْنَ الْحَقِيقَةُ ؟ فَإِنْ قِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الْقَرَائِنِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ فَمَا كَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَمَا كَانَ مَعَ الْمُنْفَصِلَةِ كَانَ مَجَازًا ؛ قِيلَ : تَعْنِي بِالْمُتَّصِلِ مَا كَانَ فِي اللَّفْظِ أَوْ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْخِطَابِ ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ الْمُسْتَمِعِ أَوَّلًا قَرِينَةً مُنْفَصِلَةً . فَمَا اُسْتُعْمِلَ بِلَامِ التَّعْرِيفِ لِمَا يَعْرِفَانِهِ كَمَا يَقُولُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ قَالَ الصِّدِّيقُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ : اذْهَبْ إلَى

الْأَمِيرِ أَوْ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي يُرِيدُ مَا يَعْرِفَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا . وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ . كَقَوْلِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ } وَقَوْلِهِ : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَجَازًا ؛ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ . وَ " أَيْضًا " فَإِذَا قَالَ لِشُجَاعِ : هَذَا الْأَسَدُ فَعَلَ الْيَوْمَ كَذَا ، وَلِبَلِيدِ : هَذَا الْحِمَارُ قَالَ الْيَوْمَ كَذَا ، أَوْ لِعَالِمِ أَوْ جَوَادٍ : هَذَا الْبَحْرُ جَرَى مِنْهُ الْيَوْمَ كَذَا ؛ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ فَلَا يَبْقَى قَطُّ مَجَازًا . وَإِنْ قَالَ : الْمُتَّصِلُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْخِطَابِ . قِيلَ لَهُ : فَهَذَا أَشَدُّ عَلَيْك مِنْ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُتَكَلِّمٍ بِالْمَجَازِ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ حَالَ الْخِطَابِ مَا يُبَيِّنُ مُرَادَهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ التَّكَلُّمُ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : أَنَا أُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ مَوْرِدِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ . قِيلَ : أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَفْظِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَهُوَ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إلَّا إذَا بَيَّنَ وَإِنَّمَا يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَ بَيَانِ مَا لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ كَالْمُجْمَلَاتِ . ثُمَّ نَقُولُ : إذَا جَوَّزْت تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فَالْبَيَانُ قَدْ يَحْصُلُ بِجُمْلَةِ تَامَّةٍ وَبِأَفْعَالِ مِنْ الرَّسُولِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا يَكُونُ الْبَيَانُ الْمُتَأَخِّرُ إلَّا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ مِمَّا يَجِبُ اقْتِرَانُهُ بِغَيْرِهِ . فَإِنْ جَعَلْت هَذَا مَجَازًا ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْتَاجُ فِي الْعَمَلِ إلَى بَيَانٍ مَجَازًا كَقَوْلِهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . ثُمَّ يُقَالُ : هَبْ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عَقْلًا لَكِنْ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلًا وَجَمِيعُ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا :

الظَّاهِرُ الَّذِي لَمْ يُرَدْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ قَدْ يُؤَخَّرُ بَيَانُهُ ، احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } . وَادَّعَوْا أَنَّهَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً وَأُخِّرَ بَيَانُ التَّعْيِينِ . وَهَذَا خِلَافُ مَا اسْتَفَاضَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ مِنْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِبَقَرَةِ مُطْلَقَةٍ فَلَوْ أَخَذُوا بَقَرَةً مِنْ الْبَقَرِ فَذَبَحُوهَا أَجْزَأَ عَنْهُمْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَالْآيَةُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَهِيَ مُطْلَقَةٌ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ سِيَاقُهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ عَلَى السُّؤَالِ بِمَا هِيَ وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُعَيَّنًا لَمَا كَانُوا مَلُومِينَ . ثُمَّ إنَّ مِثْلَ هَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادِهِ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ وَيُبْهِمَهُ عَلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَلَا يَذْكُرُهُ بِصِفَاتِ تَخْتَصُّ بِهِ ابْتِدَاءً . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ بَيَانَ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَهَا مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ بِخِلَافِ الشَّرْعِ ؛ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ عَرَفُوا الْمَأْمُورَ بِهِ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَلَمْ يُؤَخِّرْ اللَّهُ قَطُّ بَيَانَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَأْمُورَاتِ وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ فَمِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : إذَا كَانَ اللَّفْظُ لَمْ يُنْطَقْ بِهِ إلَّا مُقَيَّدًا ؛ فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ . وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ ؛ فَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا قَطُّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَالُ إطْلَاقٍ مَحْضٍ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ الذِّهْنَ يَسْبِقُ إلَيْهِ أَمْ لَا . وَ " أَيْضًا " فَأَيُّ ذِهْنٍ فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ الَّذِي يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ ؛ يَسْبِقُ إلَى

ذِهْنِهِ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَا يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِ النَّبَطِيِّ الَّذِي صَارَ يَسْتَعْمِلُ الْأَلْفَاظَ فِي غَيْرِ مَعَانِيهَا وَمِنْ هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَعَوَّدُوا مَا اعْتَادُوهُ إمَّا مِنْ خِطَابِ عَامَّتِهِمْ وَإِمَّا مِنْ خِطَابِ عُلَمَائِهِمْ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى فَإِذَا سَمِعُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ظَنُّوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَيَحْمِلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى لُغَتِهِمْ النَّبَطِيَّةِ وَعَادَتِهِمْ الْحَادِثَةِ . وَهَذَا مِمَّا دَخَلَ بِهِ الْغَلَطُ عَلَى طَوَائِفَ ، بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ تَعْرِفَ اللُّغَةَ وَالْعَادَةَ وَالْعُرْفَ الَّذِي نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْهَمُونَ مِنْ الرَّسُولِ عِنْدَ سَمَاعِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ ؛ فَبِتِلْكَ اللُّغَةِ وَالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ خَاطَبَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . لَا بِمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إلَّا بَيَّنَ مَعْنَاهُ لِلْمُخَاطَبِينَ وَلَمْ يحوجهم إلَى شَيْءٍ آخَرَ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ ؛ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الْأَذْهَانِ لَا مَوْجُودًا فِي الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَلِ . كَمَا أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ الْمَنْطِقِيُّونَ مِنْ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الذِّهْنِ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ خَارِجٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ . وَلِهَذَا كَانَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْعِلْمِ إلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ وَأَنَّ التَّصَوُّرَ هُوَ تَصَوُّرُ الْمَعْنَى السَّاذَجِ الْخَالِي عَنْ كُلِّ قَيْدٍ لَا يُوجَدُ . وَكَذَلِكَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْبَسَائِطِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأَنْوَاعُ وَأَنَّهَا أُمُورٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ لَا تُوجَدُ . وَمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ ؛ لَا يُوجَدُ .

فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمُطْلَقَاتُ عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهَا لِمَنْ يَنْظُرُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ . فَإِنَّهُ بِسَبَبِ ظَنِّ وُجُودِهَا ضَلَّ طَوَائِفُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ بَلْ إذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ إنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ مُطْلَقًا عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ وَمُقَيَّدًا بِذَلِكَ الْقَيْدِ . كَمَا يَقُولُونَ : الرَّقَبَةُ مُطْلَقَةٌ فِي آيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمُقَيَّدَةٌ فِي آيَةِ الْقَتْلِ . أَيْ مُطْلَقَةٌ عَنْ قَيْدِ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } . فَقُيِّدَتْ بِأَنَّهَا رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ وَأَنَّهَا تَقْبَلُ التَّحْرِيرَ . وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْمُطْلَقِ الْمَحْضِ يَقُولُونَ هُوَ الَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِوَحْدَةِ وَلَا كَثْرَةٍ وَلَا وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ كَمَا يَذْكُرُهُ الرَّازِي تَلَقِّيًا لَهُ عَنْ ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ وَالتَّقَيُّدِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا وَبَيَّنَّا مِنْ غَلَطِ هَؤُلَاءِ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا " الْإِطْلَاقُ اللَّفْظِيُّ " وَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ مُطْلَقًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ وَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا بِكَلَامِ مُؤَلَّفٍ مُقَيَّدٍ مُرْتَبِطٍ بَعْضُهُ بِبَعْضِ فَتَكُونُ تِلْكَ قُيُودًا مُمْتَنِعَةَ الْإِطْلَاقِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَرْقٌ مَعْقُولٌ يُمْكِنُ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ وَحِينَئِذٍ فَكُلُّ لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَجَازٌ بَلْ كُلُّهُ حَقِيقَةٌ . وَلِهَذَا لَمَّا ادَّعَى كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا وَذَكَرُوا مَا يَشْهَدُ

لَهُمْ ؛ رَدَّ عَلَيْهِمْ الْمُنَازِعُونَ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ . فَمِنْ أَشْهَرِ مَا ذَكَرُوهُ قَوْله تَعَالَى { جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } . قَالُوا : وَالْجِدَارُ لَيْسَ بِحَيَوَانِ ، وَالْإِرَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلْحَيَوَانِ ؛ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي مَيْلِ الْجِدَارِ مَجَازٌ . فَقِيلَ لَهُمْ : لَفْظُ الْإِرَادَةِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَيْلِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ شُعُورٌ وَهُوَ مَيْلُ الْحَيِّ وَفِي الْمَيْلِ الَّذِي لَا شُعُورَ فِيهِ وَهُوَ مَيْلُ الْجَمَادِ وَهُوَ مِنْ مَشْهُورِ اللُّغَةِ ؛ يُقَالُ هَذَا السَّقْفُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ وَهَذِهِ الْأَرْضُ تُرِيدُ أَنْ تُحْرَثَ وَهَذَا الزَّرْعُ يُرِيدُ أَنْ يُسْقَى ؛ وَهَذَا الثَّمَرُ يُرِيدُ أَنْ يُقْطَفَ وَهَذَا الثَّوْبُ يُرِيدُ أَنْ يُغْسَلَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَاللَّفْظُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا ؛ فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ أَوْ حَقِيقَةً فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا أَوْ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا . وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ . وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا . وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ الْمَجَازُ . وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ ؛ وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ . وَبِهَذَا يُعْرَفُ عُمُومُ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ كُلِّهَا وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : هُوَ فِي مَيْلِ الْجَمَادِ حَقِيقَةٌ وَفِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ مَجَازٌ ؛ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدعويين فَرْقٌ إلَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ ؛ لَكِنْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْحَيَوَانِ وَهُنَا اُسْتُعْمِلَ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْجَمَادِ . وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا عَامًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَهُوَ مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ

الْكُلِّيَّ كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَإِلَى مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ فِي الْعَادَةِ . وَمَا لَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ ؛ لَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ مُجَرَّدًا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ مُضَافٍ تَعَوَّدَتْ الْأَذْهَانُ تَصَوُّرَ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَمُسَمَّى الْفَرَسِ بِخِلَافِ تَصَوُّرِ مُسَمَّى الْإِرَادَةِ وَمُسَمَّى الْعِلْمِ وَمُسَمَّى الْقُدْرَةِ وَمُسَمَّى الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ لَهُ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ لَا يُوجَدُ لَفْظُ الْإِرَادَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْمُرِيدِ وَلَا لَفْظُ الْعِلْمِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْعَالِمِ وَلَا لَفْظُ الْقُدْرَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْقَادِرِ . بَلْ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْرَاضِ لَمَّا لَمْ تُوجَدْ إلَّا فِي مَحَالِّهَا مُقَيَّدَةً بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ إلَّا كَذَلِكَ . فَلَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ لَفْظُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ ؛ وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ فِي اللُّغَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يُرِيدُونَ بِهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الذَّوْقُ حَقِيقَةٌ فِي الذَّوْقِ بِالْفَمِ ، وَاللِّبَاسُ بِمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ ، وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ هَذَا وَهَذَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ قَالَ الْخَلِيلُ : الذَّوْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ وُجُودُ طَعْمِ الشَّيْءِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ } . وَقَالَ : { ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } . وَقَالَ : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } . وَقَالَ : { فَذُوقُوا

الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } - { فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ } - { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } - { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا } { إلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا } " . وَفِي بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ : " أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِك وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِك " . فَلَفْظُ " الذَّوْقِ " يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُحِسُّ بِهِ وَيَجِدُ أَلَمَهُ أَوْ لَذَّتَهُ فَدَعْوَى الْمُدَّعِي اخْتِصَاصَ لَفْظِ الذَّوْقِ بِمَا يَكُونُ بِالْفَمِ تَحَكُّمٌ مِنْهُ ، لَكِنَّ ذَاكَ مُقَيَّدٌ فَيُقَالُ : ذُقْت الطَّعَامَ وَذُقْت هَذَا الشَّرَابَ ؛ فَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْقُيُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَوْقٌ بِالْفَمِ وَإِذَا كَانَ الذَّوْقُ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ بِبَاطِنِهِ أَوْ بِظَاهِرِهِ ؛ حَتَّى الْمَاءُ الْحَمِيمُ يُقَالُ : ذَاقَهُ فَالشَّرَابُ إذَا كَانَ بَارِدًا أَوْ حَارًّا يُقَالُ : ذُقْت حَرَّهُ وَبَرْدَهُ . وَأَمَّا لَفْظُ " اللِّبَاسِ " : فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ مَا يَغْشَى الْإِنْسَانَ وَيَلْتَبِسُ بِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } . وَقَالَ : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } . وَقَالَ : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } . وَمِنْهُ يُقَالُ : لَبَسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إذَا خَلَطَهُ بِهِ حَتَّى غَشِيَهُ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ . فَالْجُوعُ الَّذِي يَشْمَلُ أَلَمُهُ جَمِيعَ الْجَائِعِ : نَفْسَهُ وَبَدَنَهُ وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ الَّذِي يَلْبَسُ الْبَدَنَ . فَلَوْ قِيلَ : فَأَذَاقَهَا اللَّهُ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ ؛ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجَائِعِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ : لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ . وَلَوْ قَالَ فَأَلْبَسَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَاقُوا مَا يُؤْلِمُهُمْ إلَّا بِالْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ الْجَائِعَ الْخَائِفَ يَأْلَمُ . بِخِلَافِ لَفْظِ ذَوْقِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْمُؤْلِمِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الملذ : دَلَّ

عَلَى الْإِحْسَاسِ بِهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا } " . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَمْ يَصِفْ نَعِيمَ الْجَنَّةِ بِالذَّوْقِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الذَّوْقَ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الْإِحْسَاسِ وَيُقَالُ : ذَاقَ الطَّعَامَ لِمَنْ وَجَدَ طَعْمَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ . وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَعِيمُهُمْ كَامِلٌ تَامٌّ لَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الذَّوْقِ ؛ بَلْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الذَّوْقِ فِي النَّفْيِ كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا } أَيْ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا ذَوْقٌ . وَقَالَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } .
وَكَذَلِكَ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْقُرْآنِ كَلَفْظِ " الْمَكْرِ " وَ " الِاسْتِهْزَاءِ " وَ " السُّخْرِيَةِ " الْمُضَافِ إلَى اللَّهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ مَا يُقَابِلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مُسَمَّيَاتُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إذَا فُعِلَتْ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ ظُلْمًا لَهُ وَأَمَّا إذَا فُعِلَتْ بِمَنْ فَعَلَهَا بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عُقُوبَةً لَهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ كَانَتْ عَدْلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } . فَكَادَ لَهُ كَمَا كَادَتْ إخْوَتُهُ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُوهُ : { لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا } { وَأَكِيدُ كَيْدًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } . وَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ فِعْلًا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ كَمَا

رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّهُ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُمْ فِي النَّارِ فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ آخَرُ فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ فَيَضْحَكُ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ . قَالَ تَعَالَى : { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } . وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ؛ خَمَدَتْ النَّارُ لَهُمْ كَمَا تَخْمُدُ الْإِهَالَةُ مِنْ الْقِدْرِ فَيَمْشُونَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ . وَعَنْ مُقَاتِلٍ : إذَا ضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسُورِ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ فَيَبْقَوْنَ فِي الظُّلْمَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ : ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : اسْتِهْزَاؤُهُ : اسْتِدْرَاجُهُ لَهُمْ . وَقِيلَ : إيقَاعُ اسْتِهْزَائِهِمْ وَرَدُّ خِدَاعِهِمْ وَمَكْرِهِمْ عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : إنَّهُ يُظْهِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا أَبْطَنَ فِي الْآخِرَةِ . وَقِيلَ هُوَ تَجْهِيلُهُمْ وَتَخْطِئَتُهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ وَهُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ حَقِيقَةً .
وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الْمَشْهُورَةِ لِمَنْ يُثْبِتُ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } . قَالُوا الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ فَقِيلَ لَهُمْ : لَفْظُ الْقَرْيَةِ وَالْمَدِينَةِ وَالنَّهْرِ وَالْمِيزَابِ ؛ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا الْحَالُّ وَالْمَحَالُّ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ . ثُمَّ قَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَالِّ وَهُوَ السُّكَّانُ وَتَارَةً عَلَى الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَكَانُ وَكَذَلِكَ فِي النَّهْرِ يُقَالُ : حَفَرْت النَّهْرَ وَهُوَ الْمَحَلُّ . وَجَرَى النَّهْرُ وَهُوَ الْمَاءُ وَوَضَعْت الْمِيزَابَ وَهُوَ الْمَحَلُّ وَجَرَى الْمِيزَابُ وَهُوَ الْمَاءُ وَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ قَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً } . وَقَوْلُهُ : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ

أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إلَّا أَنْ قَالُوا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } . وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } . فَجَعَلَ الْقُرَى هُمْ السُّكَّانُ . وَقَالَ : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ } . وَهُمْ السُّكَّانُ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } . فَهَذَا الْمَكَانُ لَا السُّكَّانُ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ أَنَّهُ كَانَ مَسْكُونًا ؛ فَلَا يُسَمَّى قَرْيَةً إلَّا إذَا كَانَ قَدْ عُمِّرَ لِلسُّكْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرَى وَهُوَ الْجَمْعُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إذَا جَمَعْته فِيهِ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ لَفْظُ " الْإِنْسَانِ " يَتَنَاوَلُ الْجَسَدَ وَالرُّوحَ ثُمَّ الْأَحْكَامُ تَتَنَاوَلُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً لِتَلَازُمِهِمَا ؛ فَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ إذَا عُذِّبَ أَهْلُهَا خَرِبَتْ وَإِذَا خَرِبَتْ كَانَ عَذَابًا لِأَهْلِهَا ؛ فَمَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا مِنْ الشَّرِّ يَنَالُ الْآخَرَ ؛ كَمَا يَنَالُ الْبَدَنَ وَالرُّوحَ مَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا . فَقَوْلُهُ : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } . مِثْلُ قَوْلِهِ { قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً } . فَاللَّفْظُ هُنَا يُرَادُ بِهِ السُّكَّانُ مِنْ غَيْرِ إضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ فَهَذَا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ ، فَلَا مَجَازَ فِي الْقُرْآنِ . بَلْ وَتَقْسِيمُ اللُّغَةِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ تَقْسِيمٌ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ السَّلَفُ . وَالْخَلَفُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ لَفْظِيًّا ؛ بَلْ يُقَالُ : نَفْسُ هَذَا التَّقْسِيمِ بَاطِلٌ لَا يَتَمَيَّزُ هَذَا عَنْ هَذَا وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْفُرُوقِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا فُرُوقٌ بَاطِلَةٌ وَكُلَّمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فَرْقًا أَبْطَلَهُ الثَّانِي كَمَا يَدَّعِي الْمَنْطِقِيُّونَ أَنَّ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةَ بِالْمَوْصُوفَاتِ

تَنْقَسِمُ اللَّازِمَةُ لَهَا إلَى دَاخِلٍ فِي مَاهِيَّتِهَا الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ وَإِلَى خَارِجٍ عَنْهَا لَازِمٍ لِلْمَاهِيَّةِ وَلَازِمٍ خَارِجٍ لِلْوُجُودِ . وَذَكَرُوا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ مَا يَجْعَلُونَهُ دَاخِلًا يُمْكِنُ جَعْلُهُ خَارِجًا وَبِالْعَكْسِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَقَوْلُهُمْ : اللَّفْظُ إنْ دَلَّ بِلَا قَرِينَةٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ إلَّا مَعَهَا فَهُوَ مَجَازٌ ؛ قَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ مَا يَدُلُّ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ وَلَا فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إلَى جَمِيعِ الْقَرَائِنِ . وَأَشْهَرُ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ لَفْظُ " الْأَسَدِ " وَ " الْحِمَارِ " وَ " الْبَحْرِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَ : إنَّهُ اُسْتُعِيرَ لِلشُّجَاعِ وَالْبَلِيدِ وَالْجَوَادِ . وَهَذِهِ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا مُؤَلَّفَةً مُرَكَّبَةً مُقَيَّدَةً بِقُيُودِ لَفْظِيَّةٍ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْحَقِيقَةُ ، كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أَبِي قتادة لَمَّا طَلَبَ غَيْرُهُ سَلَبَ الْقَتِيلِ : لَاهَا اللَّهُ إذًا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيك سَلَبَهُ . فَقَوْلُهُ : يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَصْفٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ عَيَّنَهُ تَعْيِينًا أَزَالَ اللَّبْسَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .
وَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : الْقَرَائِنُ اللَّفْظِيَّةُ مَوْضُوعَةٌ وَدَلَالَتُهَا عَلَى الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ ، لَكِنَّ الْقَرَائِنَ الْحَالِيَّةَ مَجَازٌ ؛ قِيلَ : اللَّفْظُ لَا يُسْتَعْمَلُ قَطُّ إلَّا مُقَيَّدًا بِقُيُودِ لَفْظِيَّةٍ مَوْضُوعَةٍ ؛ وَالْحَالُ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ

فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُتَكَلِّمُ فُهِمَ مِنْ مَعْنَى كَلَامِهِ مَا لَا يُفْهَمُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُعْرَفُ عَادَتُهُ فِي خِطَابِهِ ، وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَدُلُّ إذَا عُرِفَ لُغَةُ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي بِهَا يَتَكَلَّمُ وَهِيَ عَادَتُهُ وَعُرْفُهُ الَّتِي يَعْتَادُهَا فِي خِطَابِهِ ، وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى دَلَالَةٌ قَصْدِيَّةٌ إرَادِيَّةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ ، فَالْمُتَكَلِّمُ يُرِيدُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى ؛ فَإِذَا اعْتَادَ أَنْ يُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى كَانَتْ تِلْكَ لُغَتَهُ وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَمُرَادِهِ بِهَا : عَرَفَ عَادَتَهُ فِي خِطَابِهِ وَتَبَيَّنَ لَهُ مِنْ مُرَادِهِ مَا لَا يَتَبَيَّنُ لِغَيْرِهِ . وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ إذَا ذُكِرَ لَفْظٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَنْ يَذْكُرَ نَظَائِرَ ذَلِكَ اللَّفْظِ ؛ مَاذَا عَنَى بِهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَعْرِفُ بِذَلِكَ لُغَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَسُنَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّتِي يُخَاطِبُ بِهَا عِبَادَهُ وَهِيَ الْعَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ كَلَامِهِ ثُمَّ إذَا كَانَ لِذَلِكَ نَظَائِرُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ وَكَانَتْ النَّظَائِرُ كَثِيرَةً ؛ عُرِفَ أَنَّ تِلْكَ الْعَادَةَ وَاللُّغَةَ مُشْتَرَكَةٌ عَامَّةٌ لَا يَخْتَصُّ بِهَا هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ هِيَ لُغَةُ قَوْمِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى عَادَاتٍ حَدَثَتْ بَعْدَهُ فِي الْخِطَابِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي خِطَابِهِ وَخِطَابِ أَصْحَابِهِ . كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ . وَلِهَذَا كَانَ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ جَازَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هُوَ اللَّفْظَ فِي نَظِيرِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِيهِ مَعَ بَيَانِ ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ ؛ لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ إلَى أَلْفَاظٍ قَدْ عُرِفَ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَعَانٍ فَيَحْمِلُهَا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَعَانِي وَيَقُولُ : إنَّهُمْ أَرَادُوا تِلْكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى تِلْكَ ؛ بَلْ هَذَا تَبْدِيلٌ وَتَحْرِيفٌ

فَإِذَا قَالَ : { الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ } فَالْجَارُ هُوَ الْجَارُ لَيْسَ هُوَ الشَّرِيكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي لُغَتِهِمْ ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ ؛ لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لَهُ أَوْلَى . وَأَمَّا " الْخَمْرُ " فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ وَالنُّقُولِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهَا كَانَتْ اسْمًا لِكُلِّ مُسْكِرٍ ، لَمْ يُسَمَّ النَّبِيذُ خَمْرًا بِالْقِيَاسِ . وَكَذَلِكَ " النَّبَّاشُ " كَانُوا يُسَمُّونَهُ سَارِقًا كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ : سَارِقُ مَوْتَانَا كَسَارِقِ أَحْيَانًا . وَاللَّائِطُ عِنْدَهُمْ كَانَ أَغْلَظَ مِنْ الزَّانِي بِالْمَرْأَةِ .
وَلَا بُدَّ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَكَيْفَ يُفْهَمُ كَلَامُهُ ، فَمَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي خُوطِبْنَا بِهَا مِمَّا يُعِينُ عَلَى أَنْ نَفْقَهَ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِكَلَامِهِ ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ ضَلَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَانَ بِهَذَا السَّبَبِ ؛ فَإِنَّهُمْ صَارُوا يَحْمِلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الدَّلَالَةَ حَقِيقَةً ، وَهَذِهِ مَجَازًا ، كَمَا أَخْطَأَ الْمُرْجِئَةُ فِي اسْمِ " الْإِيمَانِ " جَعَلُوا لَفْظَ " الْإِيمَانِ " حَقِيقَةً فِي مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ وَتَنَاوُلِهِ لِلْأَعْمَالِ مَجَازًا . فَيُقَالُ : إنْ لَمْ يَصِحَّ التَّقْسِيمُ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا وَإِنْ صَحَّ فَهَذَا لَا يَنْفَعُكُمْ . بَلْ هُوَ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ اللَّفْظُ الَّذِي يَدُلُّ بِإِطْلَاقِهِ بِلَا قَرِينَةٍ وَالْمَجَازُ إنَّمَا يَدُلُّ بِقَرِينَةٍ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ حَيْثُ أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَإِنَّمَا يَدَّعِي خُرُوجَهَا مِنْهُ

عِنْدَ التَّقْيِيدِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَوْلُهُ . " { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً } " . وَأَمَّا حَدِيثُ جِبْرِيلَ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالْإِيمَانِ مَا ذَكَرَ مَعَ الْإِسْلَامِ . فَهُوَ كَذَلِكَ . وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا . كَمَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْإِحْسَانَ أَرَادَ الْإِحْسَانَ مَعَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ؛ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِحْسَانَ مُجَرَّدٌ عَنْ إيمَانٍ وَإِسْلَامٍ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِلَفْظِ " الْإِيمَانِ " مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ ؛ فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُنَا الْمُنَازَعَةُ فِيهِ بَعْدَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِخِلَافِ كَوْنِ لَفْظِ " الْإِيمَانِ " فِي اللُّغَةِ مُرَادِفًا لِلتَّصْدِيقِ وَدَعْوَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُغَيِّرْهُ وَلَمْ يَنْقُلْهُ ؛ بَلْ أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ يُرِيدُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِلَا تَخْصِيصٍ وَلَا تَقْيِيدٍ ؛ فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَلَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ ، كَيْفَ وَقَدْ عُرِفَ فَسَادُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَأَنَّهَا مِنْ أَفْسَدِ الْكَلَامِ . وَ " أَيْضًا " فَلَيْسَ لَفْظُ الْإِيمَانِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِدُونِ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ ؛ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالصِّيَامِ الشَّرْعِيِّ ؛ وَالْحَجِّ الشَّرْعِيِّ ؛ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ ؛ أَوْ أَرَادَ الْحُكْمَ دُونَ الِاسْمِ ؛ أَوْ أَرَادَ الِاسْمَ وَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ ؛ أَوْ خَاطَبَ بِالِاسْمِ مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقًا . فَإِنْ قِيلَ : الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَنَحْوُهُمَا لَوْ تُرِكَ بَعْضُهَا بَطَلَتْ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ

فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِمُجَرَّدِ الذَّنْبِ ؛ قِيلَ : إنْ أُرِيدَ بِالْبُطْلَانِ أَنَّهُ لَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ مِنْهَا كُلِّهَا ؛ فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ إذَا تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ تَبْرَأْ الذِّمَّةُ مِنْهُ كُلِّهِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ فَهَذَا لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ . فَإِنَّ فِي الْحَجِّ وَاجِبَاتٍ إذَا تَرَكَهَا لَمْ يُعِدْ بَلْ تُجْبَرُ بِدَمِ ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ إذَا تَرَكَهَا سَهْوًا أَوْ مُطْلَقًا وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ إذَا أَمْكَنَتْ الْإِعَادَةُ وَإِلَّا فَمَا تَعَذَّرَتْ إعَادَتُهُ يَبْقَى مُطَالَبًا بِهِ كَالْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا .
وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ فِي صِلَاتِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُتِمَّهَا يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ وَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ . وَفِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ الْفَرَائِضَ تَكْمُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّوَافِلِ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْفَرَائِضُ مَجْبُورَةً بِثَوَابِ النَّوَافِلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا فَعَلَ مِنْهَا ؛ فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا كَانَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ ؛ إنْ كَانَ مُحَرَّمًا تَابَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَعَلَهُ ؛ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ وَأُثِيبَ عَلَى مَا فَعَلَهُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ .
وَقَدْ عَدَلَتْ " الْمُرْجِئَةُ " فِي هَذَا الْأَصْلِ عَنْ بَيَانِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَاعْتَمَدُوا عَلَى رَأْيِهِمْ وَعَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ بِفَهْمِهِمْ اللُّغَةَ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد يَقُولُ : أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ .

وَلِهَذَا تَجِدُ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْمُرْجِئَةَ وَالرَّافِضَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ وَمَعْقُولِهِمْ وَمَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ اللُّغَةِ ؛ وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَلَا يَعْتَمِدُونَ لَا عَلَى السُّنَّةِ وَلَا عَلَى إجْمَاعِ السَّلَفِ وَآثَارِهِمْ ؛ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْعَقْلِ وَاللُّغَةِ وَتَجِدُهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورَةِ وَالْحَدِيثِ ؛ وَآثَارِ السَّلَفِ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتُبِ الْأَدَبِ وَكُتُبِ الْكَلَامِ الَّتِي وَضَعَتْهَا رُءُوسُهُمْ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمَلَاحِدَةِ أَيْضًا ؛ إنَّمَا يَأْخُذُونَ مَا فِي كُتُبِ الْفَلْسَفَةِ وَكُتُبِ الْأَدَبِ وَاللُّغَةِ وَأَمَّا كُتُبُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ ؛ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهَا . هَؤُلَاءِ يُعْرِضُونَ عَنْ نُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ إذْ هِيَ عِنْدَهُمْ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ وَأُولَئِكَ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ وَفَهْمِهِمْ بِلَا آثَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فِي إنْكَارِ هَذَا وَجَعْلِهِ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَإِذَا تَدَبَّرْتَ حُجَجَهُمْ وَجَدْت دَعَاوَى لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ . وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي نَصَرَ قَوْلَ جَهْمٍ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " مُتَابَعَةً لِأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ . فَأَمَّا أَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي وَأَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ شَيْخُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَصَاحِبُ أَبِي الْحَسَنِ - فَإِنَّهُمْ نَصَرُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ . وَابْنُ كِلَابٍ - نَفْسُهُ - وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ البجلي وَنَحْوُهُمَا كَانُوا يَقُولُونَ : هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْقَوْلُ جَمِيعًا مُوَافَقَةً لِمَنْ قَالَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِثْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ .

فَصْلٌ :
وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ نَصَرَ قَوْلَ جَهْمٍ فِي " الْإِيمَانِ " مَعَ أَنَّهُ نَصَرَ الْمَشْهُورَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي فِي الْإِيمَانِ فَيَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ نَصَرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَتُقْبَلُ فِيهِمْ الشَّفَاعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهُوَ دَائِمًا يَنْصُرُ - فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ - قَوْلَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِمَآخِذِهِمْ فَيَنْصُرُهُ عَلَى مَا يَرَاهُ هُوَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي تَلَقَّاهَا عَنْ غَيْرِهِمْ ؛ فَيَقَعُ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنَاقُضِ مَا يُنْكِرُهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ، كَمَا فَعَلَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ وَنَصَرَ فِيهَا قَوْل جَهْمٍ مَعَ نَصْرِهِ لِلِاسْتِثْنَاءِ ؛ وَلِهَذَا خَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُ مَأْخَذَهُ فِي ذَلِكَ وَاتَّبَعَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَلَى نَصْرِ قَوْل جَهْمٍ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ لَمْ يَقِفْ إلَّا عَلَى كُتُبِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَا قَالَهُ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ ؛ فَيَظُنُّ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ بَلْ قَدْ كَفَّرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَوَكِيعٌ وَغَيْرُهُمَا مَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي نَصَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ . وَهُوَ عِنْدَهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ ؛ وَلِهَذَا صَارَ مَنْ يُعَظِّمُ الشَّافِعِيَّ مِنْ الزَّيْدِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ يَطْعَنُ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ

يَقُولُونَ : الشَّافِعِيُّ لَمْ يَكُنْ فَيْلَسُوفًا وَلَا مُرْجِئًا وَهَؤُلَاءِ فَلَاسِفَةٌ أَشْعَرِيَّةٌ مُرْجِئَةٌ وَغَرَضُهُمْ ذَمُّ الْإِرْجَاءِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ عُمْدَتَهُمْ لِكَوْنِهِ مَشْهُورًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّمْهِيدِ " : فَإِنْ قَالُوا : فَخَبِّرُونَا مَا الْإِيمَانُ عِنْدَكُمْ ؟ قِيلَ : الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَهُوَ الْعِلْمُ ، وَالتَّصْدِيقُ يُوجَدُ بِالْقَلْبِ فَإِنْ قَالَ : فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْتُمْ ؟ قِيلَ : إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ التَّصْدِيقُ لَا يَعْرِفُونَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ أَيْ : لَا يُصَدِّقُ بِذَلِكَ . فَوَجَبَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِيمَانُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مَا غَيَّرَ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ وَلَا قَلَبَهُ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَتَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ بِفِعْلِهِ وَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي الْأُمَّةِ عَلَى نَقْلِهِ وَلَغَلَبَ إظْهَارُهُ عَلَى كِتْمَانِهِ ، وَفِي عِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ إقْرَارُ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَالتَّخَاطُبُ بِأَسْرِهِ عَلَى مَا كَانَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } وَقَوْلُهُ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَسَمَّى الْأَسْمَاءَ بِمُسَمَّيَاتِهِمْ وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَحُصُولِ التَّوْقِيفِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ ؛ فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ مَا وَصَفْنَاهُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ مِنْ النَّوَافِلِ وَالْمَفْرُوضَاتِ ، هَذَا لَفْظُهُ .

وَهَذَا عُمْدَةُ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " وَلِلْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ .
أَحَدُهَا : قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ وَيَقُولُ هُوَ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ .
وَالثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقَ ؛ فَالتَّصْدِيقُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } " .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ هُوَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ بَلْ هُوَ تَصْدِيقٌ خَاصٌّ مُقَيَّدٌ بِقُيُودِ اتَّصَلَ اللَّفْظُ بِهَا وَلَيْسَ هَذَا نَقْلًا لِلَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرًا لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا بِإِيمَانِ مُطْلَقٍ بَلْ بِإِيمَانِ خَاصٍّ وَصَفَهُ وَبَيَّنَهُ .
وَالرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّصْدِيقَ ؛ فَالتَّصْدِيقُ التَّامُّ الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا وَجَبَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَإِنَّ هَذِهِ لَوَازِمُ الْإِيمَانِ التَّامِّ ، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ ، وَنَقُولُ : إنَّ هَذِهِ اللَّوَازِمَ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اللَّفْظِ تَارَةً وَتَخْرُجُ عَنْهُ أُخْرَى .
الْخَامِسُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّفْظَ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَلَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِيهِ أَحْكَامًا .
السَّادِسُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ ؛ فَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ .

السَّابِعُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ مَنْقُولٌ . فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : ( الْأَوَّلُ ) : قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَيَقُولُ : لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ ؛ بَلْ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ . " قَوْلُهُ " : إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ هُوَ التَّصْدِيقُ . فَيُقَالُ لَهُ : مَنْ نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ هَذَا الْإِجْمَاعُ ؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ ذُكِرَ هَذَا الْإِجْمَاعُ ؟ . ( الثَّانِي ) : أَنْ يُقَالَ : أَتَعْنِي بِأَهْلِ اللُّغَةِ نَقَلَتَهَا كَأَبِي عَمْرٍو وَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَنَحْوِهِمْ ؛ أَوْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ كُلَّ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِإِسْنَادِ وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْعَرَبِ فِي زَمَانِهِمْ وَمَا سَمِعُوهُ فِي دَوَاوِينِ الشِّعْرِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْإِسْنَادِ وَلَا نَعْلَمُ فِيمَا نَقَلُوهُ لَفْظَ الْإِيمَانِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . وَإِنْ عَنَيْت الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ؛ فَهَؤُلَاءِ لَمْ نَشْهَدْهُمْ وَلَا نَقَلَ لَنَا أَحَدٌ عَنْهُمْ ذَلِكَ . ( الثَّالِثُ ) : أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ ؛ بَلْ وَلَا عَنْ بَعْضِهِمْ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَالَهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ ؛ فَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا . ( الرَّابِعُ ) : أَنْ يُقَالَ : هَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا : مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا ؛ وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَرَبِ وَأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا وَحِينَئِذٍ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا كَلَامًا عَنْ الْعَرَبِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ

التَّصْدِيقُ ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ نَقْلِ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً لِلْقُرْآنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى وَلَمْ يُرِدْهُ ؛ فَظَنُّ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ الْعَرَبِ أَوْلَى . ( الْخَامِسُ ) : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا ؛ فَهُمْ آحَادٌ لَا يَثْبُتُ بِنَقْلِهِمْ التَّوَاتُرُ و " التَّوَاتُرُ " مِنْ شَرْطِهِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ وَأَيْنَ التَّوَاتُرُ الْمَوْجُودُ عَنْ الْعَرَبِ قَاطِبَةً قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ؟ إنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ لِلْإِيمَانِ مَعْنًى غَيْرَ التَّصْدِيقِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَقْدَحُ فِي الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ؛ قِيلَ : فَلْيَكُنْ . وَنَحْنُ لَا حَاجَةَ بِنَا مَعَ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ نَعْرِفَ اللُّغَةَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَاَلَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ كَانُوا عَرَبًا وَقَدْ فَهِمُوا مَا أُرِيدَ بِهِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ ثُمَّ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ إلَى التَّابِعِينَ حَتَّى انْتَهَى إلَيْنَا فَلَمْ يَبْقَ بِنَا حَاجَةٌ إلَى أَنْ تَتَوَاتَرَ عِنْدَنَا تِلْكَ اللُّغَةُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ ، لَكِنْ لَمَّا تَوَاتَرَ الْقُرْآنُ لَفْظًا وَمَعْنًى وَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ ؛ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي لُغَتِهِمْ لَفْظُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَاهَا فِي الْقُرْآنِ . وَإِلَّا فَلَوْ كُلِّفْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا لِآحَادِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ ؛ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنَّ جَمِيعَ الْعَرَبِ كَانَتْ تُرِيدُ بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ هَذَا يَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِهِ ، وَالْعِلْمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا مَعَانِيَ

الْقُرْآنِ كَمَا بَلَّغُوا لَفْظَهُ . وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ قَوْمًا سَمِعُوا كَلَامًا أَعْجَمِيًّا وَتَرْجَمُوهُ لَنَا بِلُغَتِهِمْ ؛ لَمْ نَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الَّتِي خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا . ( السَّادِسُ ) : أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَاهِدًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِمْ ؛ وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِ النَّاسِ : فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ وَفُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفُلَانٌ يُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَرَبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا تَكَلَّمَ النَّاسُ بِهِ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا صَارَ مِنْ النَّاسِ أَهْلُ الْبِدَعِ يُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِ : فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ . وَالْقَائِلُ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ دَاخِلًا فِي مُرَادِهِ ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ ذَلِكَ وَحْدَهُ ، بَلْ مُرَادُهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِدُونِ اللِّسَانِ لَا يُعْلَمُ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ . ( السَّابِعُ ) : أَنْ يُقَالَ : مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ التَّصْدِيقَ بِمَا يُرْجَى وَيُخَافُ بِدُونِ خَوْفٍ وَلَا رَجَاءٍ ؛ بَلْ يُصَدِّقُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَيَخَافُهُ وَيُصَدِّقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيَرْجُوهَا . وَإِلَّا فَلَوْ صَدَّقَ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ خَوْفٌ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا لَمْ يُسَمُّوهُ مُؤْمِنًا بِهِ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ مُؤْمِنًا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَّا مَنْ رَجَا الْجَنَّةَ وَخَافَ النَّارَ ، دُونَ الْمَعْرِضِ عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ حَقٌّ . كَمَا لَا يُسَمُّونَ إبْلِيسَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِوُجُودِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ ، وَلَا يُسَمُّونَ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنًا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُوسَى وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ

الْآيَاتِ وَقَدْ اسْتَيْقَنَتْ بِهَا أَنْفُسُهُمْ مَعَ جَحْدِهِمْ لَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ ، وَلَا يُسَمُّونَ الْيَهُودَ مُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ . فَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ وُجُودَ شَيْءٍ مِمَّا يُخَافُ وَيُرْجَى وَيَجِبُ حُبُّهُ وَتَعْظِيمُهُ ؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُعَظِّمُهُ وَلَا يَخَافُهُ وَلَا يَرْجُوهُ ، بَلْ يَجْحَدُ بِهِ وَيُكَذِّبُ بِهِ بِلِسَانِهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : هُوَ مُؤْمِنٌ ، بَلْ وَلَوْ عَرَفَهُ بِقَلْبِهِ وَكَذَّبَ بِهِ بِلِسَانِهِ لَمْ يَقُولُوا : هُوَ مُصَدِّقٌ بِهِ . وَلَوْ صَدَّقَ بِهِ مَعَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُقْتَضَاهُ لَمْ يَقُولُوا هُوَ مُؤْمِنٌ بِهِ . فَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ . وَقَوْلُهُ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ مُرَادِفٌ لِلْمُؤْمِنِ فَإِنَّ صِحَّةَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلْآخَرِ كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ . ( الْوَجْهُ الثَّامِنُ ) : قَوْلُهُ : لَا يَعْرِفُونَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ . مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا النَّفْيُ الَّذِي لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ ؟ بَلْ هُوَ قَوْل بِلَا عِلْمٍ . ( التَّاسِعُ ) : قَوْل مَنْ يَقُولُ : أَصْلُ الْإِيمَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ كَمَا سَتَأْتِي أَقْوَالُهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَقَدْ نَقَلُوا فِي اللُّغَةِ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى . كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْبَيَانِ فِي قَوْل (1) .

( الْوَجْهُ الْعَاشِرُ ) : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ بِكُلِّ شَيْءٍ ، بَلْ بِشَيْءِ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَخَصَّ مِنْ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَاصَّ يَنْضَمُّ إلَيْهِ قُيُودٌ لَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ الْعَامِّ ، كَالْحَيَوَانِ إذَا أُخِذَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ كَانَ فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ وَمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ وَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْعَامَّ . فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ ؛ أَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنْ التَّصْدِيقِ الْعَامِّ فَلَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللِّسَانِ وَلَا قَلْبِهِ ؛ بَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُؤَلَّفًا مِنْ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ كَالْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ وَأَنَّهُ نَاطِقٌ . ( الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ ) : أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ إيمَانٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ ؛ بَلْ لَفْظُ الْإِيمَانِ فِيهِ إمَّا مُقَيَّدٌ وَإِمَّا مُطْلَقٌ مُفَسَّرٌ . " فَالْمُقَيَّدُ " كَقَوْلِهِ { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } وَقَوْلِهِ : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } و " الْمُطْلَقُ الْمُفَسَّرُ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَوْلِهِ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ . وَكُلُّ إيمَانٍ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ يُبَيِّنُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ ؛ فَقَدْ بَيَّنَ فِي

الْقُرْآنِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ مَعَ التَّصْدِيقِ كَمَا ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ . فَإِنْ قِيلَ : تِلْكَ الْأَسْمَاءُ بَاقِيَةٌ وَلَكِنْ ضَمَّ إلَى الْمُسَمَّى أَعْمَالًا فِي الْحُكْمِ لَا فِي الِاسْمِ كَمَا يَقُولُهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ . قِيلَ : إنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا قِيلَ مِثْلُهُ فِي الْإِيمَانِ . وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ لِبَعْضِهِمْ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ عَنْهُ بِجَوَابِ صَحِيحٍ بَلْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ذَلِكَ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ . وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ بِكَثِيرِ مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ . فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ " وَالْإِيمَانُ " بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ . ( الثَّانِيَ عَشَرَ ) : أَنَّهُ إذَا قِيلَ : إنَّ الشَّارِعَ خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ؛ فَإِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِلُغَتِهِمْ الْمَعْرُوفَةِ وَقَدْ جَرَى عُرْفُهُمْ أَنَّ الِاسْمَ يَكُونُ مُطْلَقًا وَعَامًّا ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهِ قَيْدٌ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُونَ : ذَهَبَ إلَى الْقَاضِي وَالْوَالِي وَالْأَمِيرِ يُرِيدُونَ شَخْصًا مُعَيَّنًا يَعْرِفُونَهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ . وَهَذَا الِاسْمُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ جِنْسٍ لَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ شَخْصٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ إنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَقَدْ عَرَّفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِيمَانُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا . وَالدُّعَاءُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا . فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي لُغَتِهِمْ التَّصْدِيقُ . فَإِنَّهُ قَدْ يُبَيِّنُ أَنِّي لَا أَكْتَفِي بِتَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَضْلًا عَنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ

لَمْ يَرْتَابُوا } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَكُونُوا كَذَا } " . وَفِي قَوْله تَعَالَى { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَفِي قَوْلِهِ : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } " . وَقَوْلِهِ : " { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } " . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِلُّغَةِ وَلَا نَقْلٍ لَهَا . ( الثَّالِثَ عَشَرَ ) : أَنْ يُقَالَ : بَلْ نَقَلَ وَغَيَّرَ . قَوْلُهُ : لَوْ فَعَلَ لَتَوَاتَرَ . قِيلَ : نَعَمْ . وَقَدْ تَوَاتَرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَعَانِيَهَا الْمَعْرُوفَةَ . وَأَرَادَ بِالْإِيمَانِ مَا بَيَّنَهُ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ فِي " الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ " وَمُتَوَاتِرٌ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ لِأَحَدِ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرَائِضَ . وَمُتَوَاتِرٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ : مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يُعَذَّبْ وَأَنَّ الْفُسَّاقَ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ ؛ بَلْ هُمْ مُعَرَّضُونَ لِلْعَذَابِ . فَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ مَعَانِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عَنْهُ فِي غَيْرِهِ فَأَيُّ تَوَاتُرٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَقَدْ تَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ وَإِظْهَارِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا يُنَاقِضُ هَذَا . لَكِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ . وَلَمْ يَقُلْ :

إنَّ الْمُؤْمِنَ يَدْخُلُهَا ، وَلَا قَالَ إنَّ الْفُسَّاقَ مُؤْمِنُونَ . لَكِنْ أَدْخَلَهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ كَمَا أَدْخَلَ الْمُنَافِقِينَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مَعَ الْقُيُودِ . وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُطْلَقُ الَّذِي وُعِدَ أَهْلُهُ بِالْجَنَّةِ ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ ) : قَوْلُهُ : وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ - بِالْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ - عَنْ ظَاهِرِهَا ؛ فَيُقَالُ لَهُ : الْآيَاتُ الَّتِي فَسَّرَتْ الْمُؤْمِنَ وَسَلَبَتْ الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَمْ يَعْمَلْ ؛ أَصْرَحُ وَأَبْيَنُ وَأَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ . ثُمَّ إذَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ ؛ فَمَا ذَكَرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا . وَلِهَذَا لَمَّا خَاطَبَهُمْ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لَمْ يَقُولُوا : هَذَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ . بَلْ خَاطَبَهُمْ بِاسْمِ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ ذَكَرَ أَهْل اللُّغَةِ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَقُولُوا : إنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَفَقَ إذَا خَرَجَ ؛ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَقًّا مِنْ لُغَتِهِمْ وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي لُغَتِهِمْ ؛ لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا . ( الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ ) : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً فَلَيْسَ تَخْصِيصُ عُمُومِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِأَعْظَمَ مِنْ إخْرَاجِ لَفْظِ الْإِيمَانِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ ، فَإِنَّ النُّصُوصَ الَّتِي تَنْفِي الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا يَخَافُ اللَّهَ وَلَا يَتَّقِيهِ وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبِ وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمِ ؛ كَثِيرَةٌ صَرِيحَةٌ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا عَارَضَهَا آيَةٌ ؛ كَانَ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْقَلِيلِ الْعَامِّ أَوْلَى مِنْ رَدِّ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ .

( السَّادِسَ عَشَرَ ) : أَنَّ هَؤُلَاءِ وَاقِفَةٌ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ لَا يَقُولُونَ بِعُمُومِهَا ، وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ : الرَّسُولُ وَقَفَنَا عَلَى مَعَانِي الْإِيمَانِ وَبَيَّنَهُ لَنَا . وَعَلِمْنَا مُرَادَهُ مِنْهُ بِالِاضْطِرَارِ وَعَلِمْنَا مِنْ مُرَادِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ مَنْ قِيلَ : إنَّهُ صَدَّقَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا صَلَّى وَلَا صَامَ وَلَا أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا خَافَ اللَّهَ ؛ بَلْ كَانَ مُبْغِضًا لِلرَّسُولِ مُعَادِيًا لَهُ يُقَاتِلُهُ ؛ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنِ . كَمَا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَفَعَلُوا ذَلِكَ مَعَهُ ؛ كَانُوا عِنْدَهُ كُفَّارًا لَا مُؤْمِنِينَ فَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَنَا بِالِاضْطِرَارِ أَكْثَرُ مِنْ عِلْمِنَا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ . فَلَوْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ ؛ لَكَانَ تَقْدِيمُ ذَلِكَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَوْلَى . فَإِنْ قَالُوا : مَنْ عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ كَفَّرَهُ عُلِمَ انْتِفَاءُ التَّصْدِيقِ مِنْ قَلْبِهِ . قِيلَ لَهُمْ : هَذِهِ مُكَابَرَةٌ ، إنْ أَرَادُوا أَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ . وَأَمَّا إنْ عُنِيَ التَّصْدِيقُ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ عَمَلٌ ؛ فَهُوَ نَاقِصٌ كَالْمَعْدُومِ ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ . ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ وَذَاكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ تَسْلِيمِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي مِنْهَا هَذَا فَلَا تَثْبُتُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى مَعَ كُفْرِ صَاحِبِهَا . ثُمَّ يُقَالُ : قَدْ عَلِمْنَا بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ وَكَانَ يَحْكُمُ بِكُفْرِهِمْ . فَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ دِينِهِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ يَكْفُرُ الشَّخْصُ مَعَ ثُبُوتِ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ فِي الْقَلْبِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهَذَا التَّصْدِيقِ بِحَيْثُ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُسَلِّمُ لِمَا جَاءَ بِهِ .

وَمِمَّا يُعَارِضُونَ بِهِ أَنْ يُقَالَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا ؛ فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ ، بَلْ عَلَى قَوْلِ الكَرَّامِيَة ، مِنْهُ عَلَى قَوْلِكُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ إذَا كَانَ هُوَ التَّصْدِيقَ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَالتَّصْدِيقُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ ، فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ ، بَلْ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى ، أَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ عَنْ اللَّفْظِ ، بَلْ لَا يُوجَدُ قَطُّ إطْلَاقُ اسْمِ الْكَلَامِ وَلَا أَنْوَاعِهِ : كَالْخَبَرِ أَوْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ عِبَارَةٍ وَلَا إشَارَةٍ وَلَا غَيْرِهِمَا ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ إنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ؛ فَهِيَ لَا تَعْرِفُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْأَقْوَالِ إلَّا مَا كَانَ مَعْنًى وَلَفْظًا أَوْ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَحَدًا مُصَدِّقًا لِلرُّسُلِ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يُصَدِّقُوهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ . وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ صَدَّقَ فُلَانًا أَوْ كَذَّبَهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ . كَمَا لَا يُقَالُ : أَمَرَهُ أَوْ نَهَاهُ إذَا قَامَ بِقَلْبِهِ طَلَبٌ مُجَرَّدٌ عَمَّا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ إشَارَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا . وَلَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ } " . وَقَالَ : " { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } " اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا ؛ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ

بِأُمُورِ دُنْيَوِيَّةٍ وَطَلَبٍ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يُبْطِلُهَا التَّكَلُّمُ بِذَلِكَ . فَعُلِمَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَلَامِ . وَأَيْضًا فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } " فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ إلَّا أَنْ تَتَكَلَّمَ ؛ فَفَرَّقَ بَيْنَ حَدِيثِ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْكَلَامِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ ، وَالْمُرَادُ حَتَّى يَنْطِقَ بِهِ اللِّسَانُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي اللُّغَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ - كَمَا قَرَّرَ - إنَّمَا خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ . وَأَيْضًا فَفِي " السُّنَنِ " { أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } " . فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ . وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ } " . " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا } وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ وَهُنَّ فِي

الْقُرْآنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } " . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَفِي الْجُمْلَةِ : حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ أَتْبَاعِهِمْ أَوْ مُكَذِّبِيهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا وَيَقُولُونَ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى مَعَ اللَّفْظِ . فَهَذَا اللَّفْظُ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ وَمَصْدَرٍ وَاسْمِ فَاعِلٍ مِنْ لَفْظِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهِمَا ؛ إنَّمَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَسَائِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ إذَا كَانَ لَفْظًا وَمَعْنًى وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُهُ كَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَحَدًا جَحْدُهُ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى . وَلَمْ يَكُنْ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " نِزَاعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَتَابِعِيهِمْ لَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ . بَلْ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ جَعَلَ مُسَمَّى الْكَلَامِ الْمَعْنَى فَقَطْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ - فِي زَمَنِ مِحْنَةِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءُ الْبِدْعَةِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ صِفَاتِ بَنِي آدَمَ - كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } . وَلَفْظُهُ لَا تُحْصَى وُجُوهُهُ كَثْرَةً - لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَتَّى جَاءَ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ . فَإِنْ قَالُوا : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } وَقَالَ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } وَنَحْوَ ذَلِكَ .

قِيلَ : إنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ سِرًّا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ . قَالُوا : كَانُوا يَقُولُونَ : سَامٌ عَلَيْك فَإِذَا خَرَجُوا يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : لَوْ كَانَ نَبِيًّا عُذِّبْنَا بِقَوْلِنَا لَهُ مَا نَقُولُ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ فَهَذَا قَوْلٌ مُقَيَّدٌ بِالنَّفْسِ مِثْلَ قَوْلِهِ : " { عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا } " وَلِهَذَا قَالُوا : { لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } فَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْقَوْلِ هُنَا وَالْمُرَادُ بِهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ لِأَنَّهُ النَّجْوَى وَالتَّحِيَّةُ الَّتِي نُهُوا عَنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } . مَعَ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نَظَائِرُهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ } " لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ بِلِسَانِهِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } هُوَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَاَلَّذِي يُقَيِّدُ بِالنَّفْسِ لَفْظُ الْحَدِيثِ يُقَالُ : حَدِيثُ النَّفْسِ ، وَلَمْ يُوجَدْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : كَلَامُ النَّفْسِ وَقَوْلُ النَّفْسِ ؛ كَمَا قَالُوا : حَدِيثُ النَّفْسِ وَلِهَذَا يُعَبَّرُ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ عَنْ الْأَحْلَامِ الَّتِي تُرَى فِي الْمَنَامِ كَقَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } . وَقَوْلِ يُوسُفَ : { وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } وَتِلْكَ فِي النَّفْسِ لَا تَكُونُ بِاللِّسَانِ ؛ فَلَفْظُ الْحَدِيثِ قَدْ

يُقَيَّدُ بِمَا فِي النَّفْسِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَا فِي النَّفْسِ فَقَطْ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الَّذِي تَارَةً يُسِرُّ بِهِ فَلَا يَسْمَعُهُ الْإِنْسَانُ وَتَارَةً يَجْهَرُ بِهِ فَيَسْمَعُونَهُ كَمَا يُقَالُ : أَسَرَّ الْقِرَاءَةَ وَجَهَرَ بِهَا وَصَلَاةُ السِّرِّ وَصَلَاةُ الْجَهْرِ . وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ : قُولُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أَوْ بِقُلُوبِكُمْ وَمَا فِي النَّفْسِ لَا يُتَصَوَّرُ الْجَهْرُ بِهِ وَإِنَّمَا يُجْهَرُ بِمَا فِي اللِّسَانِ وَقَوْلُهُ : { إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ . يَقُولُ : إنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ الْقَوْلَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } فَلَوْ أَرَادَ بِالْقَوْلِ مَا فِي النَّفْسِ لِكَوْنِهِ ذَكَرَ عِلْمَهُ بِذَاتِ الصُّدُورِ لَمْ يَكُنْ قَدْ ذَكَرَ عِلْمَهُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْجَهْرُ . وَإِنْ قِيلَ : نَبَّهَ ، قِيلَ : بَلْ نَبَّهَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ . وقَوْله تَعَالَى { آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا } قَدْ ذَكَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ : { ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } وَهُنَاكَ لَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ وَالْمَعْنَى آيَتُك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ لَكِنْ تَرْمُزُ لَهُمْ رَمْزًا كَنَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ ، وَقَوْلُهُ : { فَأَوْحَى إلَيْهِمْ } هُوَ الرَّمْزُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّمْزَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لَكَانَ قَدْ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ

يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ فِي لَفْظِ الْكَلَامِ الْمُطْلَقِ ؛ فَلَيْسَ فِي لُغَةِ الْقَوْمِ أَصْلًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِي النَّفْسِ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلُ الْمُطْلَقُ ؛ فَضْلًا عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِلِسَانِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا يُسَمَّى فِي لُغَةِ الْقَوْمِ مُؤْمِنًا كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَوَّرْت فِي نَفْسِي مُقَالَةً أَرَدْت أَنْ أَقُولَهَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : التَّزْوِيرُ : إصْلَاحُ الْكَلَامِ وَتَهْيِئَتُهُ قَالَ : وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ : الْمُزَوَّرُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُزَوَّقُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصْلَحُ الْحَسَنُ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : زَوَّرْت فِي نَفْسِي مُقَالَةً أَيْ هَيَّأْتهَا لِأَقُولَهَا . فَلَفْظُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدَّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ وَلَمْ يَقُلْهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَوْلًا إلَّا إذَا قِيلَ بِاللِّسَانِ وَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلًا لَكِنْ كَانَ مُقَدَّرًا فِي النَّفْسِ يُرَادُ أَنْ يُقَالَ كَمَا يُقَدِّرُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يَحُجُّ وَأَنَّهُ يُصَلِّي وَأَنَّهُ يُسَافِرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ صُورَةٌ ذِهْنِيَّةٌ مُقَدَّرَةٌ فِي النَّفْسِ وَلَكِنْ لَا يُسَمَّى قَوْلًا وَعَمَلًا إلَّا إذَا وُجِدَ فِي الْخَارِجِ كَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَاجًّا وَمُصَلِّيًا إلَّا إذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ فِي الْخَارِجِ وَلِهَذَا كَانَ مَا يَهُمُّ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ لَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُولَهُ وَيَفْعَلَهُ وَمَا هَمَّ بِهِ مِنْ الْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْعَمَلِ الْحَسَنِ إنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا صَارَ قَوْلًا وَفِعْلًا كُتِبَ لَهُ بِهِ عَشْرُ

حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِمِائَةٍ وَعُوقِبَ عَلَيْهِ - إذَا قَالَ أَوْ فَعَلَ - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ } " . وَأَمَّا الْبَيْتُ الَّذِي يُحْكَى عَنْ الْأَخْطَلِ أَنَّهُ قَالَ :
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا * * * جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا
فَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ شِعْرِهِ . وَقَالُوا : إنَّهُمْ فَتَّشُوا دَوَاوِينَهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ ، وَهَذَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَشَّابِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَفْظُهُ : إنَّ الْبَيَانَ لَفِي الْفُؤَادِ . وَلَوْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فِي مَسْأَلَةٍ بِحَدِيثِ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَالُوا : هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَهَذَا الْبَيْتُ لَمْ يُثْبِتْ نَقْلَهُ عَنْ قَائِلِهِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ لَا وَاحِدٌ وَلَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ وَلَا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بِالْقَبُولِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ اللُّغَةِ فَضْلًا عَنْ مُسَمَّى الْكَلَامِ . ثُمَّ يُقَالُ : مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَوْلِ شَاعِرٍ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَعَرَفُوا مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِمْ كَمَا عَرَفُوا مُسَمَّى الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ . وَأَيْضًا فَالنَّاطِقُونَ بِاللُّغَةِ يُحْتَجُّ بِاسْتِعْمَالِهِمْ لِلْأَلْفَاظِ فِي مَعَانِيهَا لَا بِمَا يَذْكُرُونَهُ

مِنْ الْحُدُودِ فَإِنَّ أَهْلِ اللُّغَةِ النَّاطِقِينَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّ الرَّأْسَ كَذَا وَالْيَدَ كَذَا وَالْكَلَامَ كَذَا وَاللَّوْنَ كَذَا بَلْ يَنْطِقُونَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ دَالَّةً عَلَى مَعَانِيهَا فَتَعْرِفُ لُغَتَهُمْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ . فَعُلِمَ أَنَّ الْأَخْطَلَ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا أَنْ يَذْكُرَ مُسَمَّى " الْكَلَامِ " وَلَا أَحَدٌ مِنْ الشُّعَرَاءِ يَقْصِدُ ذَلِكَ الْبَتَّةَ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ : إنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ مَا فَسَّرَهُ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ لِلشِّعْرِ أَيْ أَصْلُ الْكَلَامِ مِنْ الْفُؤَادِ وَهُوَ الْمَعْنَى ؛ فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَلَا تَثِقْ بِهِ ؛ وَهَذَا كَالْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ :
لَا يُعْجِبَنَّكَ مِنْ أَثِيرٍ لَفْظُهُ * * * حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلَامِ أَصِيلَا
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا * * * جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا
نَهَاهُ أَنْ يُعْجَبَ بِقَوْلِهِ الظَّاهِرِ حَتَّى يُعْلَمَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلَامِ أَصِيلَا . وَقَوْلُهُ : " مَعَ الْكَلَامِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الظَّاهِرَ قَدْ سَمَّاهُ كَلَامًا وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ قِيَامُ مَعْنَاهُ بِقَلْبِ صَاحِبِهِ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ؛ فَقَدْ اشْتَمَلَ شِعْرُهُ عَلَى هَذَا وَهَذَا ؛ بَلْ قَوْلُهُ : " مَعَ الْكَلَامِ " مُطْلَقٌ . وَقَوْلُهُ : إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ . أَرَادَ بِهِ أَصْلَهُ وَمَعْنَاهُ الْمَقْصُودَ بِهِ ، وَاللِّسَانُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ . و " بِالْجُمْلَةِ " فَمَنْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَعْرِفَ مُسَمَّى " الْكَلَامِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَسَائِرِ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ فَإِنَّهُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ طُرُقِ الْعِلْمِ . ثُمَّ هُوَ مِنْ الْمُوَلَّدِينَ ؛ وَلَيْسَ مِنْ الشُّعَرَاءِ الْقُدَمَاءِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ

كَافِرٌ مُثَلِّثٌ وَاسْمُهُ الْأَخْطَلُ وَالْخَطَلُ فَسَادٌ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ وَالنَّصَارَى قَدْ أَخْطَئُوا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فَجَعَلُوا الْمَسِيحَ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ هُوَ نَفْسَ كَلِمَةِ اللَّهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ إنْ كَانَ " الْإِيمَانُ " فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقَ وَالْقُرْآنُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ قَوْلٌ وَلَمْ يُسَمِّ الْعَمَلَ تَصْدِيقًا فَلَيْسَ الصَّوَابُ إلَّا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ : إنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى . أَوْ قَوْلُ الكَرَّامِيَة : إنَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ فَقَطْ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ قَوْلِ اللِّسَانِ قَوْلًا أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ تَسْمِيَةِ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ قَوْلًا . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وَقَوْلُهُ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا فِي النَّفْسِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُسَمَّى حَدِيثًا . والكَرَّامِيَة يَقُولُونَ : الْمُنَافِقُ مُؤْمِنٌ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لِأَنَّهُ آمَنَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ آمَنَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى شُمُولِ الْإِيمَانِ لَهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَيُخَاطَبُ فِي الظَّاهِرِ بِالْجُمُعَةِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا . وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَ الكَرَّامِيَة فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مُبْتَدَعًا لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة أَبْطَلُ مِنْهُ وَأُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِاللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْعَقْلِ مِنْ الْجَهْمِيَّة .

و " الكَرَّامِيَة " تُوَافِقُ الْمُرْجِئَةَ وَالْجَهْمِيَّة فِي أَنَّ إيمَانَ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ : هُوَ مُؤْمِنٌ حَقًّا لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِذَا كَانَ مُنَافِقًا فَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ عِنْدَهُمْ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ آمَنَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، وَمَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْمُنَافِقُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ بَلْ يَقُولُونَ : الْمُنَافِقُ مُؤْمِنٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ كَمَا يُسَمِّيهِ غَيْرُهُمْ مُسْلِمًا إذْ الْإِسْلَامُ : هُوَ الِاسْتِسْلَامُ الظَّاهِرُ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ شَرْعًا وَلُغَةً وَعَقْلًا . وَإِذَا قِيلَ : قَوْلُ الكَرَّامِيَة قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قِيلَ : وَقَوْلُ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ بَلْ السَّلَفُ كَفَّرُوا مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ . وَقَدْ احْتَجَّ النَّاسُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الكَرَّامِيَة بِحُجَجِ صَحِيحَةٍ وَالْحُجَجُ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة أَكْثَرُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } . قَالُوا : فَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ . فَنَقُولُ : هَذَا حَقٌّ فَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَقَدْ ضَلَّ مَنْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا . وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ بِقَلْبِهِ عِلْمٌ وَتَصْدِيقٌ وَهُوَ يَجْحَدُ الرَّسُولَ وَيُعَادِيهِ كَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ كُفَّارًا لَمْ يُسَمِّهِمْ مُؤْمِنِينَ قَطُّ وَلَا دَخَلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ . بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي أَحْكَامِ الْإِيمَانِ الظَّاهِرَةِ فِي الدُّنْيَا ؛ بَلْ قَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَمَّنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا

قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ سِوَى هَؤُلَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } . و " التَّوَلِّي " هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } { وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى } { الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى وَهَارُونُ : { إنَّا قَدْ أُوحِيَ إلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . فَعُلِمَ أَنَّ " التَّوَلِّيَ " لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبَ بَلْ هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ فَإِنَّ النَّاسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَ . وَضِدُّ التَّصْدِيقِ التَّكْذِيبُ وَضِدُّ الطَّاعَةِ التَّوَلِّي فَلِهَذَا قَالَ : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } { وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِالْقَوْلِ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } وَقَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } . فَفِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِالْعَمَلِ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ كَمَا نَفَى فِيهَا الْإِيمَانَ عَنْ الْمُنَافِقِ . وَأَمَّا الْعَالِمُ بِقَلْبِهِ مَعَ الْمُعَادَاةِ وَالْمُخَالَفَةِ الظَّاهِرَةِ

فَهَذَا لَمْ يُسَمَّ قَطُّ مُؤْمِنًا ؛ وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّة إذَا كَانَ الْعِلْمُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ النَّبِيِّينَ وَلَوْ قَالَ وَعَمِلَ مَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ وَيَعْمَلَ ؟ وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ إلَّا إذَا زَالَ ذَلِكَ الْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ.
ثُمَّ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ يَقُولُونَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ وَيَقُولُونَ : " الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ " هُوَ مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلُوا فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ " مُسَمَّى الْإِيمَانِ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مُسَمَّاهُ فِي الشَّرْعِ وَعَدَلُوا عَنْ اللُّغَةِ . فَهَلَّا فَعَلُوا هَذَا فِي الْأَعْمَالِ . وَدَلَالَةُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْوَاجِبَةَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً بِخِلَافِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى إيمَانًا ؛ إلَّا مَا مَاتَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَهُوَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ مِنْ السَّلَفِ كَانَ هَذَا مَأْخَذَهُمْ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ لَمْ يَكُونُوا خَبِيرِينَ بِكَلَامِ السَّلَفِ بَلْ يَنْصُرُونَ مَا يَظْهَرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ بِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَيَبْقَى الظَّاهِرُ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْبَاطِنُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ هُمْ أَفْسَدُ النَّاسِ مَقَالَةً فِي الْإِيمَانِ . وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَقْوَالَ السَّلَفِ فِي " الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ " وَلِهَذَا لَمَّا صَارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ أَتْبَاعِ أَبِي الْحَسَنِ فَسَادُ قَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ خَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ اتَّبَعَ السَّلَفَ . قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي " شَرْحِ الْإِرْشَادِ " لِأَبِي الْمَعَالِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ أَصْحَابِهِ قَالَ : وَذَهَبَ أَهْلُ الْأَثَرِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ

فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ إتْيَانُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى عَنْهُ تَحْرِيمًا وَأَدَبًا . قَالَ : وَبِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا ؛ وَأَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي . وَقَدْ مَالَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ قَالَ : وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ ، وَمُعْظَمِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . وَكَانُوا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ : إنَّهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا تَرَكَ التَّصْدِيقَ بِاللِّسَانِ عِنَادًا كَانَ كَافِرًا بِالشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ وَالْعِلْمُ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو إسْحَاقَ الإسفراييني . قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : رَأَيْت فِي تَصَانِيفِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَقًّا إذَا حَقَّقَ إيمَانَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ إنَّمَا يَكُونُ عَالِمًا حَقًّا إذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَقَالَ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ : حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ : التَّصْدِيقُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ والائتمار ، وَتَقُومُ الْإِشَارَةُ وَالِانْقِيَادُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ . وَقَالَ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ فِي كِتَابِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " : اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْصَافٌ كَثِيرَةٌ وَعَقَائِدُ مُخْتَلِفَةٌ وَإِنْ

اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرُوهُ وَاخْتَلَفُوا فِي إضَافَةِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التَّصْدِيقِ إلَيْهِ لِصِحَّةِ الِاسْمِ فَمِنْهَا تَرْكُ قَتْلِ الرَّسُولِ وَتَرْكُ إيذَائِهِ وَتَرْكُ تَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ فَهَذَا مِنْ التروك ، وَمِنْ الْأَفْعَالِ نُصْرَةُ الرَّسُولِ وَالذَّبُّ عَنْهُ وَقَالُوا : إنَّ جَمِيعَهُ يُضَافُ إلَى التَّصْدِيقِ شَرْعًا وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ عَنْ الْإِيمَانِ . قُلْت : وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لَيْسَا قَوْلَ جَهْمٍ ؛ لَكِنْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا وَاحِدًا وَقَالَ : إنَّ الشَّرْعَ تَصَرَّفَ فِيهِ وَهَذَا يَهْدِمُ أَصْلَهُمْ ؛ وَلِهَذَا كَانَ حُذَّاقُ هَؤُلَاءِ كَجَهْمِ والصالحي وَأَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِزَوَالِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ .
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : ( بَابٌ ) فِي ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ : اعْلَمْ أَنَّ غَرَضَنَا فِي هَذَا الْبَابِ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ ذِكْرِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ . قَالَ : وَهَذَا مِمَّا تَبَايَنَتْ فِيهِ مَذَاهِبُ الْإِسْلَامِيِّينَ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا مَذَاهِبُ أَصْحَابِنَا فَصَارَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالنُّظَّارِ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ رَأْيُهُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ ؛ وَقَالَ مَرَّةً : الْمَعْرِفَةُ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ . وَقَالَ مَرَّةً : التَّصْدِيقُ : قَوْلٌ فِي النَّفْسِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ دُونَهَا وَهَذَا مُقْتَضَاهُ ؛ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَالصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِالْأَقْوَالِ أَجْدَرُ

فَالتَّصْدِيقُ إذًا قَوْلٌ فِي النَّفْسِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَتُوصَفُ الْعِبَادَةُ بِأَنَّهَا تَصْدِيقٌ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ : وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : التَّصْدِيقُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَالْمَعْرِفَةِ جَمِيعًا فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَا تَصْدِيقًا وَاحِدًا . وَمِنْهُمْ مَنْ اكْتَفَى بِتَرْكِ الْعِنَادِ ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ الْإِقْرَارَ أَحَدَ رُكْنَيْ الْإِيمَانِ فَيَقُولُ : الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَأَوْجَبَ تَرْكَ الْعِنَادِ بِالشَّرْعِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ أَنْ يَعْرِفَ الْكَافِرُ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَكْفُرُ بِالْعِنَادِ لَا لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْإِيمَانِ . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُقَالُ : إنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عَالِمِينَ بِاَللَّهِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا وَبَغْيًا وَحَسَدًا . قَالَ وَعَلَى قَوْلِ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ : كُلُّ مَنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ فَنَقُولُ : إنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ أَصْلًا وَلَا عَرَفَ رَسُولَهُ وَلَا دِينَهُ . قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ تِلْمِيذُهُ : كَأَنَّ الْمَعْنَى : لَا حُكْمَ لِإِيمَانِهِ وَلَا لِمَعْرِفَتِهِ شَرْعًا . قُلْت : وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا قَالَهُ الْأَنْصَارِيُّ هَذَا وَلَكِنْ عَلَى قَوْلِهِمْ : الْمُعَانِدُ كَافِرٌ شَرْعًا فَيَجْعَلُ الْكُفْرَ تَارَةً بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَتَارَةً بِالْعِنَادِ ، وَيُجْعَلُ هَذَا كَافِرًا فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فِي الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ مَعَهُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ . وَالْحُذَّاقُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ ؛ كَأَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ جَهْمٍ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ يُفْسِدُ الْأَصْلَ

فَقَالُوا : لَا يَكُونُ أَحَدٌ كَافِرًا إلَّا إذَا ذَهَبَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْتَزَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَلَا مَعْرِفَةِ رَسُولِهِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِمْ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ وَقَالُوا : هَذَا مُكَابَرَةٌ وَسَفْسَطَةٌ . وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ } الْآيَةَ . قَالُوا : وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ لَمْ يُكْتَبْ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانُ . قَالُوا : فَإِنْ قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ إيمَانًا مُجْزِئًا مُعْتَدًّا بِهِ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى : لَا يُؤَدُّونَ حُقُوقَ الْإِيمَانِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهُ . قُلْنَا : هَذَا عَامٌّ لَا يُخَصَّصُ إلَّا بِدَلِيلِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا نَفْيُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِيهَا أَنَّ مَنْ لَا يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَمِنْ بُغْضِ مَنْ يُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ لَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَرْتَفِعُ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَالْإِيمَانُ الَّذِي كُتِبَ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بَلْ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَلِهَذَا قَالَ : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَقَدْ وَعَدَهُمْ بِالْجَنَّةِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ بِالْجَنَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قَدْ أَدَّوْا الْوَاجِبَاتِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّونَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْأَبْرَارَ الْمُتَّقِينَ وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي هَذَا الْوَعْدِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ يُوَادُّ الْكُفَّارَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ التَّصْدِيقَ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُكَذِّبْ الرَّسُولَ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُوَادُّ بَعْضَ الْكُفَّارِ ؛ فَالسَّلَفُ يَقُولُونَ : تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ مِنْ الْقَلْبِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِزَوَالِ عَمَلِ الْقَلْبِ - الَّذِي هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - لَا يَسْتَلْزِمُ أَلَّا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ كُلُّ مَنْ نَفَى الشَّرْعُ إيمَانَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقِ أَصْلًا وَهَذَا سَفْسَطَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ . وَكَذَلِكَ حَكَى ابْنُ فورك عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : الْإِيمَانُ هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ اعْتِقَادًا هُوَ عِلْمٌ وَمِنْهُ اعْتِقَادٌ لَيْسَ بِعِلْمِ ؛ وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ - وَهُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِهِ - إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِهِ فِي أَخْبَارِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَيٌّ ؛ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ حَيٌّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفِعْلِ ، وَهُوَ كَوْنُ الْعَالَمِ فِعْلًا لَهُ وَقَالَ : وَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ قَادِرًا وَلَهُ قُدْرَةٌ وَعَالِمًا وَلَهُ

عِلْمٌ وَمُرِيدًا وَلَهُ إرَادَةٌ وَسَائِرُ مَا لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ شَرَائِطِ الْإِيمَانِ . قُلْت : هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ هَلْ يَكُونُ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ بِالْمَوْصُوفِ . وَجَعْلُ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ جَهْمًا فَإِنَّ جَهْمًا غَالٍ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ بَلْ وَفِي نَفْيِ الْأَسْمَاءِ . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : ثُمَّ السَّمْعُ وَرَدَ بِضَمِّ شَرَائِطَ أُخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَأْتِيهِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْعِبَادَةِ وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ فَلَوْ أَتَى بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ تَعْظِيمَ الْمُصْحَفِ أَوْ الْكَعْبَةِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ . قَالَ : وَأَحَدُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى كُفْرِهِ مَا مَنَعَ الشَّرْعُ أَنْ يُقْرَنَ بِالْإِيمَانِ أَوْ أَوْجَبَ ضَمَّهُ إلَى الْإِيمَانِ لَوْ وُجِدَ دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ مَفْقُودٌ مِنْ قَلْبِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَفَرَ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَإِنَّمَا كَفَّرْنَاهُ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى فَقْدِ مَا هُوَ إيمَانٌ مِنْ قَلْبِهِ ؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقْضِيَ السَّمْعُ بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِقَلْبِهِ . فَيُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْضِي بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِقَلْبِهِ لَكِنَّ دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْقَلْبِ غَلَطٌ ، وَلِهَذَا قَالُوا : أَعْمَالُ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ قَلْبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ حَكَمَتْ بِكُفْرِهِ ؛ وَالشَّرِيعَةُ لَا تَحْكُمُ بِكُفْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُصَدِّقِ ؛ وَلِهَذَا نَقُولُ : إنَّ كُفْرَ إبْلِيسَ

لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ كُلِّ كَافِرٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ بِصِفَاتِهِ قَطْعًا وَلَا آمَنَ بِهِ إيمَانًا حَقِيقِيًّا بَاطِنًا وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَوْلُ وَالْعِبَادَةُ وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكَفَرَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي قُلُوبِهِمْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي حَالِ حُكْمِنَا لَهُمْ بِالْكُفْرِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } وَقَوْلُهُ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الْآيَةَ فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمُورَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِشَرَائِطَ لَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ دُونَهَا . فَيُقَالُ : إنْ قُلْتُمْ : إنَّهُ ضَمَّ إلَى مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ شُرُوطًا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَوْ الِاسْمِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلَ جَهْمٍ ؛ بَلْ يَكُونُ هَذَا قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ - كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ هُوَ - وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالدُّعَاءِ لَكِنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إلَيْهِ أُمُورًا إمَّا فِي الْحُكْمِ وَإِمَّا فِي الْحُكْمِ وَالِاسْمِ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ سَلَّمَ صَاحِبُهُ أَنَّ حُكْمَ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تِلْكَ الشَّرَائِطِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُمْكِنُهُ جَعْلُ الْفَاسِقِ مُؤْمِنًا إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ : إنَّ مَعَهُ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ وَمَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ هُوَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ يَقُولُ : كُلُّ كَافِرٍ فِي النَّارِ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ التَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ شَيْءٌ لَا مَعَ إبْلِيسَ وَلَا مَعَ غَيْرِهِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ

يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } . فَقَدْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الرُّسُلَ أَتَتْهُمْ وَتَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَأَنْذَرَتْهُمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ؛ فَقَدْ عَرَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كُفَّارٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } فَقَدْ كَذَّبُوا بِوُجُودِهِ وَكَذَّبُوا بِتَنْزِيلِهِ . وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَعَرَفُوا الْجَمِيعَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } إلَى قَوْلِهِ : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } إلَى آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ فَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ الْمَعْرِفَةِ إيمَانًا كَانُوا مُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ . فَإِنْ قَالُوا : الْإِيمَانُ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفَعُ وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عَلَى الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا . قِيلَ : هَذَا صَحِيحٌ لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ إلَّا مُجَرَّدَ الْعِلْمِ ؛ فَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ لَا تَخْتَلِفُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ مِنْ الْإِيمَانِ فَالْعَارِفُ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ . لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَدَّعُونَهُ أَنَّهُ حِينَ مَاتَ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ شَيْءٌ . وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُصَدِّقِينَ بِالرَّبِّ حَتَّى فِرْعَوْنُ الَّذِي أَظْهَرَ التَّكْذِيبَ كَانَ فِي بَاطِنِهِ مُصَدِّقًا . قَالَ تَعَالَى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وَكَمَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ

مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ؛ بَلْ قَالَ مُوسَى : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } قَالَ اللَّهُ : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } وَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } . قَالَ اللَّهُ : { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } . فَوَصَفَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وَكَمَا قَالَ عَنْ إبْلِيسَ : { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } { إلَّا إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } فَلَمْ يَصِفْهُ إلَّا بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَمُعَارَضَتِهِ الْأَمْرَ ، لَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالصَّانِعِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : إذَا قُلْتُمْ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِهِمَا ؛ فَهَلْ هُوَ التَّصْدِيقُ الْمُجْمَلُ ؟ أَوْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ ؟ فَلَوْ صَدَّقَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَعْرِفْ صِفَاتِ الْحَقِّ هَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ جَعَلُوهُ مُؤْمِنًا . قِيلَ : فَإِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ فَكَذَّبَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ بَعْضُ الْإِيمَانِ أَكْمَلَ مِنْ بَعْضٍ ؛ وَإِنْ قَالُوا : لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مُؤْمِنًا حَتَّى يَعْرِفَ تَفْصِيلَ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمْ الْإِيمَانُ لَا يَتَفَاضَلُ إلَّا بِالدَّوَامِ فَقَطْ . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : أَصْلُكُمْ يَلْزَمُكُمْ أَنْ يَكُونَ إيمَانُ الْمُنْهَمِكِ فِي فِسْقِهِ كَإِيمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قُلْنَا : الَّذِي يُفَضِّلُ إيمَانَهُ عَلَى إيمَانِ مَنْ عَدَاهُ بِاسْتِمْرَارِ تَصْدِيقِهِ وَعِصْمَةِ اللَّهِ إيَّاهُ مِنْ مُخَامَرَةِ الشُّكُوكِ وَاخْتِلَاجِ الرِّيَبِ ، وَالتَّصْدِيقُ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ لَا يَبْقَى وَهُوَ مُتَوَالٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ لِغَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَزَائِلٌ عَنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَتَرَاتِ فَيَثْبُتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَادٌ مِنْ التَّصْدِيقِ وَلَا يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إلَّا بَعْضُهَا فَيَكُونُ إيمَانُهُ لِذَلِكَ أَكْثَرَ وَأَفْضَلَ ؛ قَالَ : وَلَوْ وُصِفَ الْإِيمَانُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَأُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَقِيمًا . قُلْت : فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَفْضُلُ بِهِ النَّبِيُّ غَيْرَهُ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى .

فَصْلٌ :
قَالَ الَّذِينَ نَصَرُوا مَذْهَبَ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا لَفْظُهُ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَمَا الْإِسْلَامُ عِنْدَكُمْ ؟ قِيلَ لَهُ : " الْإِسْلَامُ " : الِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ ؛ فَكُلُّ طَاعَةٍ انْقَادَ الْعَبْدُ بِهَا لِرَبِّهِ وَاسْتَسْلَمَ فِيهَا لِأَمْرِهِ فَهِيَ إسْلَامٌ ، وَالْإِيمَانُ : خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ ؛ وَكُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا فَإِنْ قَالَ : فَلِمَ قُلْتُمْ : إنَّ مَعْنَى الْإِسْلَامِ مَا وَصَفْتُمْ ؟ قِيلَ : لِأَجْلِ قَوْله تَعَالَى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِمَا أَثْبَتَهُ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ وَمِنْهُ : { وَأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ } وَكُلُّ مَنْ اسْتَسْلَمَ لِشَيْءِ فَقَدْ أَسْلَمَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَسْلِمِ لِلَّهِ وَلِنَبِيِّهِ . " قُلْت " : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ مَعَ بُطْلَانِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ تَنَاقُضٌ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ فَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا إسْلَامٌ وَلَيْسَ فِيهَا إيمَانٌ إلَّا التَّصْدِيقُ . وَالْمُرْجِئَةُ وَإِنْ قَالُوا : إنَّ الْإِيمَانَ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ فَهُمْ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَأَمَّا الْجَهْمِيَّة فَيَجْعَلُونَهُ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ فَلَا تَكُونُ الشَّهَادَتَانِ وَلَا الصَّلَاةُ وَلَا الزَّكَاةُ وَلَا غَيْرُهُنَّ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ

تَقَدَّمَ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُسْلِمًا كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ دَاخِلٌ فِي الْإِحْسَانِ فَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا حَتَّى يَكُونَ مُؤْمِنًا . وَأَمَّا التَّنَاقُضُ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا : الْإِيمَانُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ كَانَ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إنَّمَا أَتَى بِخَصْلَةِ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ لَا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ جَمِيعِهِ . فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِسْلَامِ كُلِّهِ كَمَا لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ كُلِّهِ وَإِلَّا فَمَنْ أَتَى بِبَعْضِ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالُوا : كُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا وَهَذَا إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ كُلَّ إيمَانٍ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَاقَضَ قَوْلَهُمْ : إنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِهِ فَجَعَلُوا الْإِيمَانَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ إيَّاهُ وَإِنْ قَالُوا : كُلُّ إيمَانٍ فَهُوَ إسْلَامٌ أَيْ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَهَذَا مُرَادُهُمْ . قِيلَ لَهُمْ : فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ مُتَعَدِّدًا بِتَعَدُّدِ الطَّاعَاتِ وَتَكُونُ الشَّهَادَتَانِ وَحْدَهُمَا إسْلَامًا وَالصَّلَاةُ وَحْدَهَا إسْلَامًا وَالزَّكَاةُ إسْلَامًا بَلْ كُلُّ دِرْهَمٍ تُعْطِيهِ لِلْفَقِيرِ إسْلَامًا وَكُلُّ سَجْدَةٍ إسْلَامًا وَكُلُّ يَوْمٍ تَصُومُهُ إسْلَامًا وَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ تُسَبِّحُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا إسْلَامًا . ثُمَّ الْمُسْلِمُ إنْ كَانَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا بِفِعْلِ كُلِّ مَا سَمَّيْتُمُوهُ إسْلَامًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْفُسَّاقُ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ فَجَعَلْتُمْ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي

الْإِيمَانَ عِنْدَكُمْ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الكَرَّامِيَة وَيَلْزَمُ أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ ؛ وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ بَلْ وَأَنْ يَكُونَ مَنْ تَرَكَ التَّطَوُّعَاتِ لَيْسَ مُسْلِمًا إذْ كَانَتْ التَّطَوُّعَاتُ طَاعَةً لِلَّهِ إنْ جَعَلْتُمْ كُلَّ طَاعَةٍ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا إسْلَامًا . ثُمَّ هَذَا خِلَافُ مَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ لِلْأَعْرَابِ : { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } . فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دُونَ الْإِيمَانِ وَأَيْضًا فَإِخْرَاجُكُمْ الْفُسَّاقَ مِنْ اسْمِ الْإِسْلَامِ إنْ أَخَرَجْتُمُوهُمْ أَعْظَمُ شَنَاعَةً مِنْ إخْرَاجِهِمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ فَوَقَعْتُمْ فِي أَعْظَمِ مَا عِبْتُمُوهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَنْفِيَانِ عَنْهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْفِيَانِ اسْمَ الْإِسْلَامِ وَاسْمُ الْإِيمَانِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَعْظَمُ . وَإِنْ قُلْتُمْ : بَلْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ طَاعَةً سُمِّيَ مُسْلِمًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَعَلَ طَاعَةً مِنْ الطَّاعَاتِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُسْلِمًا وَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عِنْدَكُمْ لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَكُمْ إسْلَامٌ فَمَنْ أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا عِنْدَكُمْ مَنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا أَتَى بِشَيْءِ مِنْ الْأَعْمَالِ . وَاحْتِجَاجُكُمْ بِقَوْلِهِ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } قُلْتُمْ : نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ . فَيُقَالُ : هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ مَعَ انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِجُزْءِ مِنْ الْإِسْلَامِ إذْ لَوْ كَانَ بَعْضُهُ لَمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَأْتُوا بِهِ وَإِنْ قُلْتُمْ : أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا : أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ أَيْ إسْلَامًا مَا فَإِنَّ كُلَّ طَاعَةٍ مِنْ الْإِسْلَامِ

إسْلَامٌ عِنْدَنَا لَزِمَكُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمٍ إسْلَامًا وَصَدَقَةُ دِرْهَمٍ إسْلَامًا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَهُمْ يَقُولُونَ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا قَالُوا : هَذَا مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ وَإِلَّا فَالتَّفْصِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَلَيْسَ هُوَ جَمِيعُ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ بِفِعْلِ كُلِّ طَاعَةٍ وَقَعَتْ مُوَافِقَةً لِلْأَمْرِ . وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ . وَاسْمُ الْإِسْلَامِ شَامِلٌ لِكُلِّ طَاعَةٍ انْقَادَ بِهَا الْعَبْدُ لِلَّهِ مِنْ إيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ وَفَرْضٍ سِوَاهُ وَنَفْلٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ التَّقَرُّبُ بِفِعْلِ مَا عَدَا الْإِيمَانَ مِنْ الطَّاعَاتِ دُونَ تَقْدِيمِ فِعْلِ الْإِيمَانِ . قَالُوا : وَالدِّينُ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّدَيُّنِ ؛ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي الْمَعْنَى . فَيُقَالُ لَهُمْ : إذَا كَانَ هَذَا قَوْلَكُمْ : فَقَوْلُكُمْ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا يُنَاقِضُ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلَا تَصِحُّ الطَّاعَةُ مِنْ أَحَدٍ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَدْنَى الطَّاعَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ أَوْ فِعْلُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كُلُّهُ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ وَحِينَئِذٍ فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ . ثُمَّ قَوْلُكُمْ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ بِالْإِيمَانِ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ فَقَطْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا أَتَى بِشَيْءِ

مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ عَامَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا وَقَوْلُكُمْ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ لَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْمَبَانِي الْخَمْسِ بَلْ أَتَى بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَتِلْكَ طَاعَةٌ بَاطِنَةٌ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ الْمَعْرُوفُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَوَّلِينَ والآخرين ثُمَّ اسْتَدْلَلْتُمْ بِالْآيَةِ وَالْأَعْرَابُ إنَّمَا أَتَوْا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ نَطَقُوا فِيهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانُوا صَادِقِينَ أَوْ كَاذِبِينَ فَأَثْبَتَ اللَّهُ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دُونَ الْإِيمَانِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَبَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ قَوْلِ السَّلَفِ وَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة بِكَثِيرِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي تَخْلِيدِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَبْعَدُ عَنْ قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة . فَالْمُتَأخِّرونَ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " يُظْهِرُونَ قَوْلَ السَّلَفِ فِي هَذَا وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ حَيْثُ نَفَاهُ الْقُرْآنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَذَلِكَ كُلُّهُ مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَإِلَّا فَقَوْلُهُمْ فِي غَايَةِ الْمُبَايَنَةِ لِقَوْلِ السَّلَفِ ؛ لَيْسَ فِي الْأَقْوَالِ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَفِ مِنْهُ . وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ والكَرَّامِيَة فِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِ

الْجَهْمِيَّة ؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْخَوَارِجَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ الْعُصَاةِ وَهَذَا أَبْعَدُ عَنْ قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ فَهُمْ أَقْرَبُ فِي الِاسْمِ وَأَبْعَدُ فِي الْحُكْمِ ؛ وَالْجَهْمِيَّة وَإِنْ كَانُوا فِي قَوْلِهِمْ : بِأَنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُخَلَّدُونَ أَقْرَبُ فِي الْحُكْمِ إلَى السَّلَفِ فَقَوْلُهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَحَقِيقَتِهِمَا أَبْعَدُ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِيهِ مِنْ مُنَاقَضَةِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِمْ .

فَصْلٌ :
وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَعْمَالِ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } فَنَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ فَمَنْ كَانَ إذَا ذَكَرَ بِالْقُرْآنِ لَا يَفْعَلُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ السُّجُودِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَسُجُودُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَرْضٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ ؛ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يُوجِبُهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } . وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وَقَوْلِهِ { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } { لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } { إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ

مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَهُ لَوَازِمُ وَلَهُ أَضْدَادٌ مَوْجُودَةٌ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ لَوَازِمِهِ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ وَمِنْ أَضْدَادِهِ مُوَادَّةُ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمِنْ أَضْدَادِهِ اسْتِئْذَانُهُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ اسْتِئْذَانَهُ إنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَدَلَّ قَوْلُهُ : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } " وَقَوْلُهُ : " { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } " وَقَوْلُهُ : " { لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا } " وَقَوْلُهُ : " { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } " وَقَوْلُهُ " { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } " وَقَوْلُهُ " { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا } " .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا إذَا قُيِّدَ الْإِيمَانُ فَقُرِنَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَهَلْ يُرَادُ بِهِ أَيْضًا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ لَا يَكُونُ حِينَ الِاقْتِرَانِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ ؟ بَلْ يَكُونُ لَازِمًا لَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ لَا يَكُونُ بَعْضًا وَلَا لَازِمًا هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الْأَسْمَاءِ يَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْمَعْرُوفِ " وَ " الْمُنْكَرِ " إذَا أُطْلِقَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلُهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلُهُ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ كُلُّ خَيْرٍ وَفِي الْمُنْكَرِ كُلُّ شَرٍّ . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } فَغَايَرَ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ - كَمَا غَايَرَ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ ؛ وَاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ - وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } غَايَرَ

بَيْنَهُمَا وَقَدْ دَخَلَتْ الْفَحْشَاءُ فِي الْمُنْكَرِ فِي قَوْلِهِ : { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ثُمَّ ذَكَرَ مَعَ الْمُنْكَرِ اثْنَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } جَعَلَ الْبَغْيَ هُنَا مُغَايِرًا لَهُمَا وَقَدْ دَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ فِي ذَيْنِك الْمَوْضِعَيْنِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْعِبَادَةِ " فَإِذَا أُمِرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُطْلَقًا دَخَلَ فِي عِبَادَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ ؛ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } . وَقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } وَقَوْلِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } . وَقَوْلِهِ : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } . وَقَوْلِ نُوحٍ { اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } . وَكَذَلِكَ إذَا أُفْرِدَ اسْمُ " طَاعَةِ اللَّهِ " دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَكَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ دَاخِلَةً فِي طَاعَتِهِ وَكَذَا اسْمُ " التَّقْوَى " إذَا أُفْرِدَ دَخَلَ فِيهِ فِعْلُ كُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَتَرْكُ كُلِّ مَحْظُورٍ . قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ : التَّقْوَى : أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافَ عَذَابَ اللَّهِ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } .

وَقَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } وَقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } . وَقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } وَقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَقَوْلُهُ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } مِثْلُ قَوْلِهِ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } وَقَوْلِهِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَعَطَفَ قَوْلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ ؛ كَمَا عَطَفَ الْقَوْلَ السَّدِيدَ عَلَى التَّقْوَى ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَ فِيهَا الْقَوْلُ السَّدِيدُ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ فِي حَقِّ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ التَّوَابِعِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَوْلُهُ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ } الْآيَةَ

وَإِذَا قِيلَ : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ } دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : { وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } وَإِذَا قِيلَ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالْإِنْفَاقُ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } كَمَا يَدْخُلُ الْقَوْلُ السَّدِيدُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِرِّ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } وَقَوْلِهِ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } وَقَوْلِهِ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } فَالْبِرُّ إذَا أُطْلِقَ كَانَ مُسَمَّاهُ مُسَمَّى التَّقْوَى وَالتَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ كَانَ مُسَمَّاهَا مُسَمَّى الْبِرِّ ثُمَّ قَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْإِثْمِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ ذَنْبٍ وَقَدْ يُقْرَنُ بِالْعُدْوَانِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الذُّنُوبِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ تَرْكُ كُلِّ وَاجِبٍ وَفِعْلُ كُلِّ مُحَرَّمٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { يَا عِبَادِيَ

الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِغَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْهُدَى " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ جَمِيعًا فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَالْمُرَادُ طَلَبُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ جَمِيعًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } . وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ وَيَعْمَلُونَ بِهِ وَلِهَذَا صَارُوا مُفْلِحِينَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } وَإِنَّمَا هَدَاهُمْ بِأَنْ أَلْهَمَهُمْ الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ الْهُدَى إمَّا بِالِاجْتِبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ } { اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } وَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْإِيمَانُ وَدِينُ الْحَقِّ هُوَ الْإِسْلَامُ وَإِذَا أُطْلِقَ الْهُدَى كَانَ كَالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا وَهَذَا .
وَلَفْظُ " الضَّلَالِ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ مَنْ ضَلَّ عَنْ الْهُدَى سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُعَذَّبًا كَقَوْلِهِ : { إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ } { فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } وَقَوْلِهِ : { رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } وَقَوْلِهِ : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِالْغَيِّ وَالْغَضَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ

وَمَا غَوَى } . وَفِي قَوْلِهِ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَقَوْلِهِ : { إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْغَيِّ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ كُلَّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَنْ الشَّيْطَانِ : { وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } . وَقَدْ يُقْرَنُ بِالضَّلَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } . وَكَذَلِكَ اسْمُ " الْفَقِيرِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ الْمِسْكِينُ وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ " الْمِسْكِينِ " تَنَاوَلَ الْفَقِيرَ وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا فَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ ؛ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } وَقَوْلِهِ : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } . وَ " هَذِهِ الْأَسْمَاءُ " الَّتِي تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّجْرِيدِ وَالِاقْتِرَانِ تَارَةً يَكُونَانِ إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ كَاسْمِ " الْإِيمَانِ " وَ " الْمَعْرُوفِ " مَعَ الْعَمَلِ وَمَعَ الصِّدْقِ ؛ وَ " كَالْمُنْكَرِ " مَعَ الْفَحْشَاءِ وَمَعَ الْبَغْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَتَارَةً يَكُونَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ كَلَفْظِ " الْإِيمَانِ " وَ " الْبِرِّ " وَ " التَّقْوَى " وَلَفْظِ " الْفَقِيرِ " وَ " الْمِسْكِينِ " ؛ فَأَيُّهَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْآخَرُ ؛ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التِّلَاوَةِ " فَإِنَّهَا إذَا أُطْلِقَتْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } تَنَاوَلَتْ الْعَمَلَ بِهِ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ فَيُحِلُّونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ التِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ كَقَوْلِهِ : { وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا }

وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَقْرَأْهُ وَقِيلَ : بَلْ مِنْ تَمَامِ قِرَاءَتِهِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَاهُ وَيَعْمَلَ بِهِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا . وَقَوْلُهُ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } قَدْ فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَفُسِّرَ بِالتَّوْرَاةِ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } قَالَ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ قَالَ : يُحِلُّونَ حَلَالَهُ . وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَعَنْ قتادة : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ قَالَ : أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَصَدَّقُوا بِهِ أَحَلُّوا حَلَالَهُ وَحَرَّمُوا حَرَامَهُ وَعَمِلُوا بِمَا فِيهِ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ إنَّ حَقَّ تِلَاوَتِهِ : أَنْ يُحِلَّ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ وَأَنْ نَقْرَأَهُ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا نُحَرِّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَعَنْ الْحَسَنِ : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ قَالَ : يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَكِلُونَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ إلَى عَالِمِهِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ : يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ وَفِي رِوَايَةٍ : يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ . ثُمَّ قَدْ يَقْرِنُ بِالتِّلَاوَةِ غَيْرَهَا كَقَوْلِهِ : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ : تِلَاوَةُ الْكِتَابِ : الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ كُلِّهَا ثُمَّ خُصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ

لِذِكْرِي } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِهِ : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } وَقَوْلِهِ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَدْ يَقْرِنُ بِهِ غَيْرَهُ كَقَوْلِهِ : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَوْلِهِ : { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْأَبْرَارِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ تَقِيٍّ مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَإِذَا قُرِنَ بِالْمُقَرَّبِينَ كَانَ أَخَصَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } وَقَالَ فِي الثَّانِي : { كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } { كِتَابٌ مَرْقُومٌ } { يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ . وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَخُصُوصًا أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِهِ تَزُولُ شُبُهَاتٌ كَثِيرَةٌ كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ النَّاسِ مِنْ جُمْلَتِهَا " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ " فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مُسَمَّاهُمَا أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ لِأَجْلِهِ وَصَارُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ شَرْحِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى كُلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ

اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ لَا بِذِكْرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُقْبَلُ بِلَا دَلِيلٍ وَتُرَدُّ بِلَا دَلِيلٍ أَوْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهَا نَصْرَ غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَقْصِدَ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَاتِّبَاعُهُ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي " تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ " فَتَارَةً يَقُولُونَ : هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ . وَتَارَةً يَقُولُونَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ . فَإِذَا قَالُوا : قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ جَمِيعًا ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ . وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " وَ " الْقَوْلِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْإِنْسَانِ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا . وَقِيلَ : بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ بَلْ هُوَ مَدْلُولُ مُسَمَّاهُ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ النُّحَاةِ لِأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَلْفَاظِ . وَقِيلَ : بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ الْمَعْنَى وَإِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَقِيلَ : بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَلَهُمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ لِأَنَّ حُرُوفَ الْآدَمِيِّينَ

تَقُومُ بِهِمْ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ قَائِمًا بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْقُرْآنِيِّ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ عِنْدَهُ بِاَللَّهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَرَادَ قَوْلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ ؛ وَمَنْ أَرَادَ الِاعْتِقَادَ رَأَى أَنَّ لَفْظَ الْقَوْلِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْقَوْلُ الظَّاهِرُ أَوْ خَافَ ذَلِكَ فَزَادَ الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ وَمَنْ قَالَ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ قَالَ : الْقَوْلُ يَتَنَاوَلُ الِاعْتِقَادَ وَقَوْلَ اللِّسَانِ وَأَمَّا الْعَمَلُ فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النِّيَّةُ فَزَادَ ذَلِكَ وَمَنْ زَادَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَكُونُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَأُولَئِكَ لَمْ يُرِيدُوا كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ إنَّمَا أَرَادُوا مَا كَانَ مَشْرُوعًا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَلَكِنْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ الرَّدَّ عَلَى " الْمُرْجِئَةِ " الَّذِينَ جَعَلُوهُ قَوْلًا فَقَطْ فَقَالُوا : بَلْ هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاَلَّذِينَ جَعَلُوهُ " أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ " فَسَّرُوا مُرَادَهُمْ كَمَا سُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَسُنَّةٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ إذَا كَانَ قَوْلًا بِلَا عَمَلٍ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا بِلَا نِيَّةٍ فَهُوَ نِفَاقٌ وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا وَنِيَّةً بِلَا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ .

فَصْلٌ :
وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَ لَهُمَا وَالْمُغَايَرَةُ عَلَى مَرَاتِبَ أَعْلَاهَا أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ وَلَا جُزْأَهُ وَلَا يُعْرَفُ لُزُومُهُ لَهُ كَقَوْلِهِ { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَوْلِهِ : { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ . وَيَلِيهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا لُزُومٌ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } فَإِنَّ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ بِهَذَا كُلِّهِ فَالْمَعْطُوفُ لَازِمٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لَازِمٌ فَإِنَّهُ مَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ . وَفِي الثَّانِي نِزَاعٌ وَقَوْلُهُ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } هُمَا مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَجَعَلَهُ مَلْبُوسًا بِهِ خَفَى مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْبَاطِلِ فَصَارَ مَلْبُوسًا وَمَنْ كَتَمَ الْحَقَّ احْتَاجَ أَنْ يُقِيمَ مَوْضِعَهُ

بَاطِلًا فَيُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ بَاطِلًا . وَهَكَذَا " أَهْلُ الْبِدَعِ " لَا تَجِدُ أَحَدًا تَرَكَ بَعْضَ السُّنَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا وَالْعَمَلُ إلَّا وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَلَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إلَّا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا تَرَكُوا مِنْ السُّنَّةِ مِثْلَهَا } " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ } فَلَمَّا تَرَكُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ اعتاضوا بِغَيْرِهِ فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أَيْ عَنْ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } وَقَالَ : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ وَنَهَى عَمَّا يُضَادُّ ذَلِكَ وَهُوَ اتِّبَاعُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَحَدَهُمَا اتَّبَعَ الْآخَرَ وَلِهَذَا قَالَ { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا سَبِيلَهُمْ كَانَ مُتَّبِعًا غَيْرَ سَبِيلِهِمْ فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ وَاجِبٌ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورَ فَعَلَ بَعْضَ الْمَحْظُورِ وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ لَمْ يَفْعَلْ جَمِيعَ الْمَأْمُورِ فَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ جَمِيعَ مَا أُمِرَ بِهِ مَعَ فِعْلِهِ لِبَعْضِ

مَا حَظَرَ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ كُلِّ مَا حَظَرَ مَعَ تَرْكِهِ لِبَعْضِ مَا أُمِرَ فَإِنَّ تَرْكَ مَا حَظَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ وَمِنْ الْمَحْظُورِ تَرْكُ الْمَأْمُورِ فَكُلُّ مَا شَغَلَهُ عَنْ الْوَاجِبِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَكُلُّ مَا لَا يُمْكِنُ فِعْلُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ " الْأَمْرِ " إذَا أُطْلِقَ يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ وَإِذَا قُيِّدَ بِالنَّهْيِ كَانَ النَّهْيُ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ فَإِذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } دَخَلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ اجْتَنَبُوهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فَقَدْ قِيلَ : لَا يَتَعَدَّوْنَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَقِيلَ : يَفْعَلُونَهُ فِي وَقْتِهِ لَا يُقَدِّمُونَهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَهُ . وَقَدْ يُقَالُ : هُوَ لَمْ يَقُلْ : وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا مَا يُؤْمَرُونَ بَلْ هَذَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } وَقَدْ قِيلَ : لَا يَعْصُونَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي الْمَاضِي وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ يُقَالُ : هَذِهِ الْآيَةُ خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ لَيْسَ مَا أُمِرُوا بِهِ هُنَا مَاضِيًا بَلْ الْجَمِيعُ مُسْتَقْبَلٌ فَإِنَّهُ قَالَ : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } وَمَا يَتَّقِي بِهِ إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا وَقَدْ يُقَالُ : تَرْكُ الْمَأْمُورِ تَارَةً يَكُونُ لِمَعْصِيَةِ الْآمِرِ وَتَارَةً يَكُونُ لِعَجْزِهِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا مُرِيدًا لَزِمَ وُجُودُ الْمَأْمُورِ الْمَقْدُورِ فَقَوْلُهُ { لَا يَعْصُونَ } لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ الطَّاعَةِ وَقَوْلُهُ { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أَيْ هُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ يَفْعَلُونَهُ كُلَّهُ فَيَلْزَمُ وُجُودُ كُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الْمَأْمُورَ بِهِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : أَنَا أَفْعَلُ مَا أُمِرْت بِهِ أَيْ أَفْعَلُهُ وَلَا أَتَعَدَّاهُ إلَى زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ .

وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } إنْ كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ فِعْلٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْهَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَذْمُومِينَ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ " الْأَمْرِ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ النَّهْيَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } أَيْ أَصْحَابَ الْأَمْرِ وَمَنْ كَانَ صَاحِبَ الْأَمْرِ كَانَ صَاحِبَ النَّهْيِ وَوَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي هَذَا وَهَذَا فَالنَّهْيُ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ وَقَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ : { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } وَهَذَا نَهْيٌ لَهُ عَنْ السُّؤَالِ حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ مِنْهُ ذِكْرًا وَلَمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ قَالَ لَهُ مُوسَى { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا } فَسَأَلَهُ قَبْلَ إحْدَاثِ الذِّكْرِ وَقَالَ فِي الْغُلَامِ { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } فَسَأَلَهُ قَبْلَ إحْدَاثِ الذِّكْرِ وَقَالَ فِي الْجِدَارِ { لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } وَهَذَا سُؤَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ السُّؤَالَ وَالطَّلَبَ قَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ كَمَا تَقُولُ : لَوْ نَزَلْت عِنْدَنَا لَأَكْرَمْنَاك وَإِنْ بِتّ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا أَحْسَنْت إلَيْنَا وَمِنْهُ قَوْلُ آدَمَ { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَوْلُ نُوحٍ { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى { إنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ الذِّكْرَ وَهَذَا مَعْصِيَةٌ لِنَهْيِهِ وَقَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ { وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَاصِيَ النَّهْيِ عَاصٍ الْأَمْرَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :

{ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } وَقَدْ دَخَلَ النَّهْيُ فِي الْأَمْرِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } وَقَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } فَإِنَّ نَهْيَهُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ : إذَا عَصَيْت أَمْرِي فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا نَهَاهَا فَعَصَتْهُ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي أَمْرِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : قِيلَ : لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّهْيِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَقِيلَ : يَدْخُلُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الْعُرْفِ مَعْصِيَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْعُرْفِ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ مِنْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا قِيلَ : أَطِعْ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ يُطِيعُ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَعْصِي أَمْرَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ لِأَنَّ النَّاهِيَ آمِرٌ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَلَمْ يَقُلْ : لَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ وَاوَ الْجَمْعِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْكُوفِيُّونَ وَاوَ الصَّرْفِ كَمَا قَدْ يَظُنُّهُ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ الْمَعْنَى : لَا تَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . وَ " أَيْضًا " فَتِلْكَ إنَّمَا تَجِيءُ إذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ كَقَوْلِهِ : { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } وَقَوْلِهِ : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ } { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } . وَمِنْ عَطْفِ الْمَلْزُومِ قَوْله تَعَالَى { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } فَإِنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا

الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعُوا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَإِذَا أَطَاعَ اللَّهَ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُطِيعَ الرَّسُولَ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِلَّهِ إلَّا بِطَاعَتِهِ . وَ " الثَّالِثُ " عَطْفُ بَعْضِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَقَوْلِهِ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَوْلِهِ : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا } وَ " الرَّابِعُ " عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ كَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } وَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ عَطْفٌ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ : وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي قَوْلِهِ : ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَهَذَا غَلَطٌ مِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ وَغَايَةُ مَا يَذْكُرُ النَّاسُ اخْتِلَافَ مَعْنَى اللَّفْظِ كَمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ :
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ * * * وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
فَزَعَمُوا أَنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ . وَاسْتَشْهَدُوا بِذَلِكَ عَلَى مَا ادَّعُوهُ مِنْ أَنَّ الشِّرْعَةَ

هِيَ الْمِنْهَاجُ فَقَالَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ : النَّأْيُ أَعَمُّ مِنْ الْبُعْدِ فَإِنَّ النَّأْيَ كُلَّمَا قَلَّ بُعْدُهُ أَوْ كَثُرَ ؛ كَأَنَّهُ مِثْلُ الْمُفَارَقَةِ . وَالْبُعْدُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَثُرَتْ مَسَافَةُ مُفَارَقَتِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } وَهُمْ مَذْمُومُونَ عَلَى مُجَانَبَتِهِ وَالتَّنَحِّي عَنْهُ سَوَاءٌ كَانُوا قَرِيبِينَ أَوْ بَعِيدِينَ وَلَيْسَ كُلُّهُمْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ : وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ .
وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُحْفَرُ حَوْلَ الْخَيْمَةِ لِيَنْزِلَ فِيهِ الْمَاءُ وَلَا يَدْخُلَ الْخَيْمَةَ أَيْ صَارَ كَالْحَوْضِ فَهُوَ مُجَانِبٌ لِلْخَيْمَةِ لَيْسَ بَعِيدًا مِنْهَا .

فَصْلٌ :
فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " إذَا أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِلَفْظِ " الْبِرِّ " وَبِلَفْظِ " التَّقْوَى " وَبِلَفْظِ " الدِّينِ " كَمَا تَقَدَّمَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ " { الْإِيمَانَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } " فَكَانَ كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِرِّ " يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التَّقْوَى " وَكَذَلِكَ " الدِّينُ أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ " وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ الْإِيمَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } الْآيَةَ وَقَدْ فُسِّرَ الْبِرُّ بِالْإِيمَانِ وَفُسِّرَ بِالتَّقْوَى وَفُسِّرَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَالْجَمِيعُ حَقٌّ وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ الْبِرَّ بِالْإِيمَانِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِي والملائي قَالَا : حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي ذَرٍّ فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ ؛ فَقَالَ الرَّجُلُ : لَيْسَ عَنْ الْبِرِّ سَأَلْتُك . فَقَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الَّذِي سَأَلْتنِي عَنْهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الَّذِي قَرَأْت عَلَيْك فَقَالَ لَهُ الَّذِي قُلْت

لِي . فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَرْضَى قَالَ لَهُ : إنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إذَا عَمِلَ الْحَسَنَة سَرَّتْهُ وَرَجَا ثَوَابَهَا وَإِذَا عَمِلَ السَّيِّئَةَ سَاءَتْهُ وَخَافَ عِقَابَهَا } . وَقَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجزري عَنْ مُجَاهِدٍ { أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ } وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : سُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مقبله مِنْ الشَّامِ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ : قُلْت لِسَالِمِ الْأَفْطَسِ : رَجُلٌ أَطَاعَ اللَّهَ فَلَمْ يَعْصِهِ وَرَجُلٌ عَصَى اللَّهَ فَلَمْ يُطِعْهُ فَصَارَ الْمُطِيعُ إلَى اللَّهِ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَصَارَ الْعَاصِي إلَى اللَّهِ فَأَدْخَلَهُ النَّارَ هَلْ يَتَفَاضَلَانِ فِي الْإِيمَانِ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءِ فَقَالَ : سَلْهُمْ الْإِيمَانُ طَيِّبٌ أَوْ خَبِيثٌ ؟ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } فَسَأَلْتهمْ فَلَمْ يُجِيبُونِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْإِيمَانَ يُبْطَنُ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلٌ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءِ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا يَقْرَءُونَ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } ؟ . قَالَ : ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْعَمَلِ فَقَالَ : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } فَقَالَ : سَلْهُمْ

هَلْ دَخَلَ هَذَا الْعَمَلُ فِي هَذَا الِاسْمِ . وَقَالَ : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَأَلْزَمَ الِاسْمَ الْعَمَلَ وَالْعَمَلَ الِاسْمَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمَدْحُ إلَّا عَلَى إيمَانٍ مَعَهُ الْعَمَلُ لَا عَلَى إيمَانٍ خَالٍ عَنْ عَمَلٍ فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَاقِعٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ نِزَاعُهُمْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ يَكُونُ نِزَاعًا لَفْظِيًّا مَعَ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي اللَّفْظِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنْ قَالُوا : إنَّهُ لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ الْعَمَلِ فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ ؛ وَبَعْضُ النَّاسِ يُحْكَى هَذَا عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ فَرَائِضَ وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَلَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهَا وَهَذَا قَدْ يَكُونُ قَوْلَ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ لَكِنْ مَا عَلِمْت مُعَيَّنًا أَحْكِي عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنَّمَا النَّاسُ يَحْكُونَهُ فِي الْكُتُبِ وَلَا يُعَيِّنُونَ قَائِلَهُ وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُسَّاقِ وَالْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ : لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ أَوْ مَعَ التَّوْحِيدِ وَبَعْضُ كَلَامِ الرَّادِّينَ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَصَفَهُمْ بِهَذَا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } . فَقَوْلُهُ صَدَقُوا أَيْ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنُوا ؛ كَقَوْلِهِ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أَيْ هُمْ الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا بِاَللَّهِ بِخِلَافِ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ

وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وَفِي { يَكْذِبُونَ } قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ صَدَّقُوهُ فِي الظَّاهِرِ وَقَالَ تَعَالَى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْتِنَ النَّاسَ أَيْ يَمْتَحِنَهُمْ وَيَبْتَلِيَهُمْ وَيَخْتَبِرَهُمْ . يُقَالُ : فَتَنْت الذَّهَبَ إذَا أَدْخَلْته النَّارَ لِتُمَيِّزَهُ مِمَّا اخْتَلَطَ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ مُوسَى : { إنْ هِيَ إلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } أَيْ مِحْنَتُك وَاخْتِبَارُك وَابْتِلَاؤُك كَمَا ابْتَلَيْت عِبَادَك بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لِيَتَبَيَّنَ الصَّبَّارُ الشَّكُورُ مِنْ غَيْرِهِ وَابْتَلَيْتهمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ لِيَتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْكَافِرِ وَالصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ وَالْمُنَافِقُ مِنْ الْمُخْلِصِ فَتَجْعَلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَلَالَةِ قَوْمٍ وَهَدْيِ آخَرِينَ . وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا يَصِفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدْقِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْكَذِبِ لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ قَالَتَا بِأَلْسِنَتِهِمَا : آمَنَّا فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ بِعَمَلِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُنَافِقٌ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }

فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَهُ . وَلَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يَلْفِظُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَقُولُوا : نَحْنُ أَبْرَارٌ أَوْ بَرَرَةٌ ؛ بَلْ إذَا قَالَ الرَّجُلُ : أَنَا بَرٌّ فَهَذَا مُزَكٍّ لِنَفْسِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ اسْمَهَا بَرَّةَ فَقِيلَ : تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ ؛ بِخِلَافِ إنْشَاءِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِمْ : " آمَنَّا " فَإِنَّ هَذَا قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوهُ قَالَ تَعَالَى { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } وَكَذَلِكَ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فَقَوْلُهُ : { لَا نُفَرِّقُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا : آمَنَّا وَلَا نُفَرِّقُ وَلِهَذَا قَالَ : { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } فَجَمَعُوا بَيْنَ قَوْلِهِمْ : آمَنَّا وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } فَجَعَلَ الْأَبْرَارَ هُمْ الْمُتَّقِينَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجْرِيدِ وَقَدْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الِاقْتِرَانِ وَالتَّقْيِيدِ فِي قَوْلِهِ : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الْبِرِّ وَمُسَمَّى التَّقْوَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَاحِدٌ فَالْمُؤْمِنُونَ هُمْ الْمُتَّقُونَ وَهُمْ الْأَبْرَارُ .

وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ : " { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } " وَفِي بَعْضِهَا : " { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ } " وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَذَلِكَ الَّذِي هُوَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ هُوَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ الْأَبْرَارُ الْأَتْقِيَاءُ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ وُعِدُوا بِدُخُولِهَا بِلَا عَذَابٍ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا } " فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ بَلْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ أُسْوَةَ أَمْثَالِهِمْ .

فَصْلٌ :
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ نَمَطِ " أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ كِتَابِهِ وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ وَأَسْمَاءِ دِينِهِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ ثُمَّ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مِنْ صِفَاتِهِ . لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ ؛ فَالْعَزِيزُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ عِزَّتِهِ وَالْخَالِقُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ خَلْقِهِ وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ رَحْمَتِهِ وَنَفْسُهُ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ فَصَارَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَالصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَعَلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَعَلَى الصِّفَةِ الْأُخْرَى بِطَرِيقِ اللُّزُومِ . وَهَكَذَا " أَسْمَاءُ كِتَابِهِ " الْقُرْآنُ وَالْفُرْقَانُ وَالْكِتَابُ وَالْهُدَى وَالْبَيَانُ وَالشِّفَاءُ

وَالنُّورُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ . وَكَذَلِكَ " أَسْمَاءُ رَسُولِهِ " : مُحَمَّدٌ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْمُقْفِي وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الْمَمْدُوحَةِ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى وَهَكَذَا مَا يُثْنَى ذِكْرُهُ مِنْ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ كَقِصَّةِ مُوسَى وَغَيْرِهَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ سَمَرًا ؛ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ عِبَرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فَاَلَّذِي وَقَعَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَهُ صِفَاتٌ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتِ مُتَنَوِّعَةٍ كُلُّ عِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَعْتَبِرُ بِهَا الْمُعْتَبِرُونَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّكْرِيرِ فِي شَيْءٍ . وَهَكَذَا " أَسْمَاءُ دِينِهِ " الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ يُسَمَّى إيمَانًا وَبِرًّا وَتَقْوَى وَخَيْرًا وَدِينًا وَعَمَلًا صَالِحًا وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ لَكِنَّ كُلَّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ لَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْآخَرُ وَتَكُونُ تِلْكَ الصِّفَةُ هِيَ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ وَالْبَاقِي كَانَ تَابِعًا لَهَا لَازِمًا لَهَا ثُمَّ صَارَتْ دَالَّةً عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ فَإِنَّ " الْإِيمَانَ " أَصْلُهُ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ " شَيْئَيْنِ " : تَصْدِيقٍ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ . وَيُقَالُ لِهَذَا : قَوْلُ الْقَلْبِ . قَالَ " الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ " : التَّوْحِيدُ : قَوْلُ الْقَلْبِ . وَالتَّوَكُّلُ : عَمَلُ الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ ؛ ثُمَّ قَوْلُ الْبَدَنِ وَعَمَلِهِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَحُبِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَتَوَكُّلِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَعَلَهَا مِنْ الْإِيمَانِ.

ثُمَّ الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلِكَ إلَى الْبَدَنِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْبَدَنُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْقَلْبُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } " . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقْرِيبٌ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنُ بَيَانًا فَإِنَّ الْمَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا فَالْجُنْدُ لَهُمْ اخْتِيَارٌ قَدْ يَعْصُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ وَبِالْعَكْسِ فَيَكُونُ فِيهِمْ صَلَاحٌ مَعَ فَسَادِهِ أَوْ فَسَادٌ مَعَ صَلَاحِهِ ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ فَإِنَّ الْجَسَدَ تَابِعٌ لَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ إرَادَتِهِ قَطُّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ } " . فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ عِلْمًا وَعَمَلًا قَلْبِيًّا لَزِمَ ضَرُورَةُ صَلَاحِ الْجَسَدِ بِالْقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ بِالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَعَمَلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَالظَّاهِرُ تَابِعٌ لِلْبَاطِنِ لَازِمٌ لَهُ مَتَى صَلَحَ الْبَاطِنُ صَلَحَ الظَّاهِرُ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ الْمُصَلِّي الْعَابِثِ : لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ فَلَا بُدَّ فِي إيمَانِ الْقَلْبِ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ

كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ . وَفِي الْآيَةِ " قَوْلَانِ " : قِيلَ : يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ لِأَوْثَانِهِمْ . وَقِيلَ : يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ وَالْأَوَّلُ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُحِبُّونَ الْأَنْدَادَ مِثْلَ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ وَتَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ وَالْإِرَادَةُ التَّامَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ الْفِعْلَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ مُرِيدًا لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَفْعَلُهُ فَإِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْإِنْسَانُ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ " جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ " وَمَنْ اتَّبَعَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ لَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَسُبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيَقْتُلُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ وَيُهِينُ الْمَصَاحِفَ وَيُكْرِمُ الْكُفَّارَ غَايَةَ الْكَرَامَةِ وَيُهِينُ الْمُؤْمِنِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ قَالُوا : وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَاصٍ لَا تُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ بَلْ يَفْعَلُ هَذَا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ قَالُوا : وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَمَارَةٌ عَلَى الْكُفْرِ لِيُحْكَمَ بِالظَّاهِرِ كَمَا يُحْكَمُ

بِالْإِقْرَارِ وَالشُّهُودِ وَإِنْ كَانَ الْبَاطِنُ قَدْ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا أَقَرَّ بِهِ وَبِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ فَإِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ قَالُوا : فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ فَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِلْمُ أَوْ تَكْذِيبُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ هَلْ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ شَيْءٌ غَيْرُ الْعِلْمِ أَوْ هُوَ هُوَ ؟ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ أَنَّهُ أَفْسَدُ قَوْلٍ قِيلَ فِي " الْإِيمَانِ " فَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُرْجِئَةِ " . وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ - كَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ - مَنْ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ . وَقَالُوا : إبْلِيسُ كَافِرٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا كُفْرُهُ بِاسْتِكْبَارِهِ وَامْتِنَاعِهِ عَنْ السُّجُودِ لِآدَمَ لَا لِكَوْنِهِ كَذَّبَ خَبَرًا . وَكَذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } بَعْدَ قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا } { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } . فَمُوسَى وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ يَقُولُ : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْآيَاتِ وَهُوَ

مِنْ أَكْبَرِ خَلْقِ اللَّهِ عِنَادًا وَبَغْيًا لِفَسَادِ إرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ لَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } . وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } . فَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا فِي " أَصْلَيْنِ " : ( أَحَدُهُمَا : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقٍ وَعِلْمٍ فَقَطْ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلٌ وَحَالٌ وَحَرَكَةٌ وَإِرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَخَشْيَةٌ فِي الْقَلْبِ ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ غَلَطِ الْمُرْجِئَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ " أَعْمَالَ الْقُلُوبِ " الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَحْوَالًا وَمَقَامَاتٍ أَوْ مَنَازِلَ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ أَوْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهَا مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَفِيهَا مَا أَحَبَّهُ وَلَمْ يَفْرِضْهُ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحَبِّ فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَمَنْ فَعَلَهُ وَفَعَلَ الثَّانِيَ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ وَذَلِكَ مِثْلُ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمِثْلَ خَشْيَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ خَشْيَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَرَجَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ رَجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ

مَعَ خَشْيَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } وَمِثْلَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَالْمُوَالَاةِ لِلَّهِ وَالْمُعَادَاةِ لِلَّهِ . وَ ( الثَّانِي : ظَنُّهُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّارِعُ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ . وَهَذَا أَمْرٌ خَالَفُوا بِهِ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ طَوَائِفُ بَنِي آدَمَ السليمي الْفِطْرَةِ وَجَمَاهِيرُ النُّظَّارِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ غَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا يَجْحَدُ ذَلِكَ لِحَسَدِهِ إيَّاهُ أَوْ لِطَلَبِ عُلُوِّهِ عَلَيْهِ أَوْ لِهَوَى النَّفْسِ وَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ الْهَوَى عَلَى أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ وَيَرُدَّ مَا يَقُولُ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَهُوَ فِي قَلْبِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ وَعَامَّةُ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ عَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ لَكِنْ إمَّا لِحَسَدِهِمْ وَإِمَّا لِإِرَادَتِهِمْ الْعُلُوَّ وَالرِّيَاسَةَ وَإِمَّا لِحُبِّهِمْ دِينَهُمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ كَأَمْوَالِ وَرِيَاسَةٍ وَصَدَاقَةِ أَقْوَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَرَوْنَ فِي اتِّبَاعِ الرُّسُلِ تَرْكَ الْأَهْوَاءِ الْمَحْبُوبَةِ إلَيْهِمْ أَوْ حُصُولَ أُمُورٍ مَكْرُوهَةٍ إلَيْهِمْ فَيُكَذِّبُونَهُمْ وَيُعَادُونَهُمْ فَيَكُونُونَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ كإبليس وَفِرْعَوْنَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَالرُّسُلَ عَلَى الْحَقِّ . وَلِهَذَا لَا يَذْكُرُ الْكُفَّارُ حُجَّةً صَحِيحَةً تَقْدَحُ فِي صِدْقِ الرُّسُلِ إنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَهْوَائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ لِنُوحِ : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَرْذَلِينَ لَهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ ؛ لَكِنْ كَرِهُوا مُشَارَكَةَ أُولَئِكَ

كَمَا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبْعَادَ الضُّعَفَاءِ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وخباب بْنِ الْأَرَتِّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِلَالٍ وَنَحْوِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّحَابَةِ أَهْلُ الصُّفَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } . وَمِثْلُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } وَقَوْلِ فِرْعَوْنَ : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } وَمِثْلَ قَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ : { إنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } وَمِثْلَ قَوْلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ لَهُ : { أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } وَمِثْلَ قَوْلِ عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } . وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا لَيْسَتْ حُجَجًا تَقْدَحُ فِي صِدْقِ الرُّسُلِ بَلْ تُبَيِّنُ أَنَّهَا تُخَالِفُ إرَادَتَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ بَلْ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ كَانُوا يُحِبُّونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحِبُّونَ عُلُوَّ كَلِمَتِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ حَسَدٌ لَهُ وَكَانُوا يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ فِي

مُتَابَعَتِهِ فِرَاقَ دِينِ آبَائِهِمْ وَذَمَّ قُرَيْشٍ لَهُمْ فَمَا احْتَمَلَتْ نُفُوسُهُمْ تَرْكَ تِلْكَ الْعَادَةِ وَاحْتِمَالَ هَذَا الذَّمِّ فَلَمْ يَتْرُكُوا الْإِيمَانَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ بِهِ ؛ بَلْ لِهَوَى النَّفْسِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ كُلَّ كَافِرٍ إنَّمَا كَفَرَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ . وَلَمْ يَكْفِ الْجَهْمِيَّة أَنْ جَعَلُوا كُلَّ كَافِرٍ جَاهِلًا بِالْحَقِّ حَتَّى قَالُوا : هُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَقٌّ وَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ هُوَ الْجَهْلُ بِأَيِّ حَقٍّ كَانَ ؛ بَلْ الْجَهْلُ بِهَذَا الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ . وَنَحْنُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ خَلْقًا مِنْ الْكُفَّارِ يَعْرِفُونَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَيَذْكُرُونَ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ إمَّا مُعَادَاةُ أَهْلِهِمْ وَإِمَّا مَالٌ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِمْ يَقْطَعُونَهُ عَنْهُمْ وَإِمَّا خَوْفُهُمْ إذَا آمَنُوا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ حُرْمَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَحُرْمَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ الَّتِي يُبَيِّنُونَ أَنَّهَا الْمَانِعَةُ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَدِينَهُمْ بَاطِلٌ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ يُوجَدُ مَنْ يَعْرِفُ بِقَلْبِهِ أَنَّهَا حَقٌّ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَيُعَادِي أَهْلَهُ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً . قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } .

وَالْمُفَسِّرُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَفِي قَلْبِهِ مَرَضٌ خَافَ أَنْ يَغْلِبَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَيُوَالِي الْكُفَّارَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ لِلْخَوْفِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ ؛ لَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى صَادِقُونَ وَأَشْهَرُ النُّقُولِ فِي ذَلِكَ { أَنَّ عبادة بْنَ الصَّامِتِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَوَالِيَ مِنْ الْيَهُودِ وَإِنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ فَقَالَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي : لَكِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ وَلَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } .
" وَالْمُرْجِئَةُ " الَّذِينَ قَالُوا : الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْهُ كَانَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَعُبَّادِهَا ؛ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ مِثْلَ قَوْلِ جَهْمٍ ؛ فَعَرَفُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ . وَعَرَفُوا أَنَّ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرَهُمَا كُفَّارٌ مَعَ تَصْدِيقِ قُلُوبِهِمْ لَكِنَّهُمْ إذَا لَمْ يُدْخِلُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ لَزِمَهُمْ قَوْلُ جَهْمٍ وَإِنْ أَدْخَلُوهَا فِي الْإِيمَانِ لَزِمَهُمْ دُخُولُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ أَيْضًا فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ لَهَا وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ حُجَجٌ شَرْعِيَّةٌ بِسَبَبِهَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ ؛ فَقَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَرَأَوْا أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْإِنْسَانَ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ وُجُودِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ }

وَقَالُوا : لَوْ أَنَّ رَجُلًا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ضَحْوَةً وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْمَالِ مَاتَ مُؤْمِنًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ . وَقَالُوا : نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً وَجَبَ التَّصْدِيقُ بِهَا فَانْضَمَّ هَذَا التَّصْدِيقُ إلَى التَّصْدِيقِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ؛ لَكِنْ بَعْدَ كَمَالِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَا بَقِيَ الْإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ عِنْدَهُمْ بَلْ إيمَانُ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ ؛ إيمَانُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِيمَانُ أَفْجَرِ النَّاسِ كَالْحَجَّاجِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَالْمُرْجِئَةُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْهُمْ وَالْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ تُسَمَّى إيمَانًا مَجَازًا لِأَنَّ الْعَمَلَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ وَلِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } " : مَجَازٌ . "
وَالْمُرْجِئَةُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " : الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ مَا فِي الْقَلْبِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُدْخِلُ فِيهِ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ وَهُمْ أَكْثَرُ فِرَقِ الْمُرْجِئَةِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَقْوَالَهُمْ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَ فِرَقًا كَثِيرَةً يَطُولُ ذِكْرُهُمْ لَكِنْ ذَكَرْنَا جُمَلَ أَقْوَالِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُدْخِلُهَا فِي الْإِيمَانِ كَجَهْمِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كالصالحي وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ .
وَ الْقَوْلُ الثَّانِي : مَنْ يَقُولُ : هُوَ مُجَرَّدُ قَوْلِ اللِّسَانِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ لِأَحَدِ قَبْلَ الكَرَّامِيَة " وَالثَّالِثُ : تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ مِنْهُمْ وَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا مِنْ وُجُوهٍ :

( أَحَدُهَا ) : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مُتَمَاثِلٌ فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى شَخْصٍ يَجِبُ مِثْلُهُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْجَبَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَالْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ قَبْلَ نُزُولِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّلًا لَيْسَ مِثْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُجْمَلًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ لَكِنْ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ وَمَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ غَيْرُ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ وَمَا فِيهِمَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ الْمُفَصَّلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْمُفَصَّلِ بِخَبَرِ خَبَرٍ وَأَمْرِ أَمْرٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا الْإِيمَانُ الْمُجْمَلُ لِمَوْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ شَيْءٌ آخَرُ . وَ " أَيْضًا " لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَاشَ فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَامَّةِ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَكُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ وَكُلَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَا مَالَ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ فِي الزَّكَاةِ . وَمَنْ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَى الْحَجِّ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ بِالْمَنَاسِكِ وَمَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا وَجَبَ لِلزَّوْجَةِ فَصَارَ يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا عَلَى أَشْخَاصٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى آخَرِينَ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ . فَنَقُولُ :

إنْ قُلْتُمْ : إنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تَجِبَ تِلْكَ الْأَعْمَالُ فَقَبْلَ وُجُوبِهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ مَا خُوطِبُوا بِفَرْضِهِ فَلَمَّا نَزَلَ إنْ لَمْ يُقِرُّوا بِوُجُوبِهِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ كَحَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَحَدِيثِ الرَّجُلِ النَّجْدِيِّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَغَيْرُهُمَا وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَجِبْرِيلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجَّ آخِرُ مَا فُرِضَ مِنْ الْخَمْسِ فَكَانَ قَبْلَ فَرْضِهِ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَلَمَّا فُرِضَ أَدْخَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِيمَانِ إذَا أُفْرِدَ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ إذَا قُرِنَ بِالْإِيمَانِ وَإِذَا أُفْرِدَ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَتَى فُرِضَ الْحَجُّ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : مَنْ آمَنَ وَمَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ مَاتَ مُؤْمِنًا فَصَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدُ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ تَزُولُ بِهِ شُبْهَةٌ حَصَلَتْ لِلطَّائِفَتَيْنِ . فَإِذَا قِيلَ : الْأَعْمَالُ الْوَاجِبَةُ مِنْ الْإِيمَانِ . فَالْإِيمَانُ الْوَاجِبُ مُتَنَوِّعٌ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ يَقُولُونَ : جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ أَيْ مِنْ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالمُسْتَحَبّاتِ . لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ . وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ

بِالمُسْتَحَبّاتِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى مُجْزِئٍ وَكَامِلٍ . فَالْمُجْزِئُ : مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ . وَالْكَامِلُ : مَا أَتَى فِيهِ بِالمُسْتَحَبّاتِ . وَلَفْظُ الْكَمَالِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ . وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي مَوَاضِعَ فَهَذَا صَحِيحٌ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ إذَا أُطْلِقَ أَدْخَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ الْأَعْمَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا . وَقَدْ يُقْرَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ وَذَكَرْنَا نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةً . وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ . وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَازِمَةٌ لِذَلِكَ . لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إيمَانِ الْقَلْبِ الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بَلْ مَتَى نَقَصَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَانَ لِنَقْصِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ؛ فَصَارَ الْإِيمَانُ مُتَنَاوِلًا لِلْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَا فِي الْقَلْبِ ؛ وَحَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ فَإِنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِإِيمَانِ الْقَلْبِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْمَعْطُوفُ دَخَلَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَوَّلًا . ثُمَّ ذَكَرَ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ تَخْصِيصًا لَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْأَوَّلِ وَقَالُوا : هَذَا فِي كُلِّ مَا عُطِفَ فِيهِ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ كَقَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فَخُصَّ الْإِيمَانُ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا } وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي الصَّحَابَةِ

وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَوْلِهِ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَقَوْلِهِ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَقَوْلُهُ : { آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } كَقَوْلِهِ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } . فَإِنَّهُ قَصَدَ " أَوَّلًا " أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا لِغَيْرِهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ وَاجِبَتَانِ فَلَا يَكْتَفِي بِمُطْلَقِ الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ دُونَهُمَا وَكَذَلِكَ يَذْكُرُ الْإِيمَانَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ ثُمَّ يَذْكُرُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَإِنَّهُ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ الدِّينِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ اكْتِفَاءَهُ بِمُجَرَّدِ إيمَانٍ لَيْسَ مَعَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ كَابْنِ سلام وَنَحْوِهِ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَقَدْ قِيلَ : هَؤُلَاءِ جَمِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا عُطِفُوا لِتَغَايُرِ الصِّفَتَيْنِ كَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي

قَدَّرَ فَهَدَى } { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } { فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَعَطَفَ بَعْضَ صِفَاتِهِ عَلَى بَعْضٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ . وَالصِّفَاتُ : إذَا كَانَتْ مَعَارِفَ كَانَتْ لِلتَّوْضِيحِ وَتَضَمَّنَتْ الْمَدْحَ أَوْ الذَّمَّ . تَقُولُ : هَذَا الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا تُعَدِّدُ مَحَاسِنَهُ وَلِهَذَا مَعَ الْإِتْبَاعِ قَدْ يَعْطِفُونَهَا وَيَنْصِبُونَ أَوْ يَرْفَعُونَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَلَا مُفْلِحِينَ وَلَا مُتَّقِينَ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِهِ إنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ يُنْفِقُونَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ وَلَمْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ صِفَةُ الْمُهْتَدِينَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إلَى مُحَمَّدٍ فَقَدْ عُطِفَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ عَلَى تِلْكَ مَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهَا لَكِنَّ الْمَقْصُودَ صِفَةُ إيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ؛ وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ إلَّا الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ فَقَدْ يَقُولُ : مَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ : نَحْنُ نُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ . وَلَمَّا كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ سَنَامَ الْقُرْآنِ ؛ وَيُقَالُ : إنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ افْتَتَحَهَا اللَّهُ بِأَرْبَعِ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعِ عَشْرَةَ آيَةٍ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُ مِنْ حِينِ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

صَارَ النَّاسُ " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ " : إمَّا مُؤْمِنٌ وَإِمَّا كَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَإِمَّا مُنَافِقٌ ؛ بِخِلَافِ مَا كَانُوا وَهُوَ بِمَكَّةَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنَافِقٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ : لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مُنَافِقٌ وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ ؛ فَإِنَّ مَكَّةَ كَانَتْ لِلْكُفَّارِ مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا فَلَا يُؤْمِنُ وَيُهَاجِرُ إلَّا مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ لَيْسَ هُنَاكَ دَاعٍ يَدْعُو إلَى النِّفَاقِ ؛ وَالْمَدِينَةُ آمَنَ بِهَا أَهْلُ الشَّوْكَةِ ؛ فَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا عِزٌّ وَمَنَعَةٌ بِالْأَنْصَارِ فَمَنْ لَمْ يُظْهِرْ الْإِيمَانَ آذَوْهُ . فَاحْتَاجَ الْمُنَافِقُونَ إلَى إظْهَارِ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَمْ تُؤْمِنْ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ الْبَقَرَةَ وَوَسَطَ الْبَقَرَةِ وَخَتَمَ الْبَقَرَةَ بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ؛ فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ فِي وَسَطِهَا : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } الْآيَةَ : وَقَالَ فِي آخِرِهَا : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } وَالْآيَةُ الْأُخْرَى . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ : مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ } " وَالْآيَةُ الْوُسْطَى قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " { أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِهَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ : وبـ { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } الْآيَةَ تَارَةً . وبـ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }

َوَ{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَارَةً } . فَيَقْرَأُ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَوْ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ . فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُقَالُ : الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَى الْإِيمَانِ دَخَلَتْ فِي الْإِيمَانِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ؛ إمَّا لِذِكْرِهِ خُصُوصًا بَعْدَ عُمُومٍ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ إذَا عُطِفَ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ . وَقِيلَ : بَلْ الْأَعْمَالُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ وَلَكِنْ هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا كَانَ إيمَانُهُ مُنْتَفِيًا ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ لَكِنْ صَارَتْ بِعُرْفِ الشَّارِعِ دَاخِلَةً فِي اسْمِ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ ذُكِرَتْ لِئَلَّا يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ مُجَرَّدَ إيمَانِهِ بِدُونِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اللَّازِمَةِ لِلْإِيمَانِ يُوجِبُ الْوَعْدَ ؛ فَكَانَ ذِكْرُهَا تَخْصِيصًا وَتَنْصِيصًا لِيَعْلَمَ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ بِلَا عَذَابٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ؛ لَا يَكُونُ لِمَنْ ادَّعَى الْإِيمَانَ وَلَمْ يَعْمَلْ وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الصَّادِقَ فِي قَوْلِهِ : آمَنْت لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْوَاجِبِ وَحَصْرُ الْإِيمَانِ فِي هَؤُلَاءِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ . وللجهمية هُنَا سُؤَالٌ ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ " الْمُوجِزِ " وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وَلَمْ يَقُلْ : إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالُوا : فَنَحْنُ نَقُولُ : مَنْ لَمْ يَعْمَلْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لِأَنَّ انْتِفَاءَهَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّكُمْ سَلَّمْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَازِمَةٌ لِإِيمَانِ الْقَلْبِ فَإِذَا انْتَفَتْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ ؛ وَبَعْدَ هَذَا فَكَوْنُهَا لَازِمَةً أَوْ جُزْءًا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ .
الثَّانِي : أَنَّ نُصُوصًا صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا جُزْءٌ كَقَوْلِهِ : " { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً } " .
الثَّالِثُ : إنَّكُمْ إنْ قُلْتُمْ بِأَنَّ مَنْ انْتَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْأُمُورُ فَهُوَ كَافِرٌ خَالٍ مَنْ كُلِّ إيمَانٍ كَانَ قَوْلُكُمْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَأَنْتُمْ فِي طَرَفٍ وَالْخَوَارِجُ فِي طَرَفٍ فَكَيْفَ تُوَافِقُونَهُمْ وَمِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَالْإِجَابَةُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُكَفِّرُونَ تَارِكَهُ وَإِنْ كَفَّرْتُمُوهُ كَانَ قَوْلُكُمْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّ انْتِفَاءَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقِ بِأَنَّ الرَّبَّ حَقٌّ قَوْلٌ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ هَذَا إذَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ فَيَرْتَفِعُ النِّزَاعُ الْمَعْنَوِيُّ .

فَصْلٌ : الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ غَلَطِ " الْمُرْجِئَةِ " :
ظَنُّهُمْ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ لَيْسَ إلَّا التَّصْدِيقَ فَقَطْ دُونَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ؛ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ جهمية الْمُرْجِئَةِ . الثَّالِثُ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْأَعْمَالَ ثَمَرَةَ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ مَعَ الْمُسَبِّبِ وَلَا يَجْعَلُونَهَا لَازِمَةً لَهُ ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ لَا مَحَالَةَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ إيمَانٌ تَامٌّ بِدُونِ عَمَلٍ ظَاهِرٍ ؛ وَلِهَذَا صَارُوا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِارْتِبَاطِ الَّذِي بَيْنَ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ مِثْلَ أَنْ يَقُولُوا : رَجُلٌ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْلَ مَا فِي قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً وَلَا يَصُومُ رَمَضَانَ وَيَزْنِي بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ نَهَارَ رَمَضَانَ ؛ يَقُولُونَ : هَذَا مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ فَيَبْقَى سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا سَالِمٌ الْأَفْطَسُ بِالْإِرْجَاءِ فَنَفَرَ مِنْهُ أَصْحَابُنَا نُفُورًا شَدِيدًا مِنْهُمْ مَيْمُونُ بْنُ مهران وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ

لَا يُؤْوِيَهُ وَإِيَّاهُ سَقْفُ بَيْتٍ إلَّا الْمَسْجِدُ قَالَ مَعْقِلٌ : فَحَجَجْت فَدَخَلْت عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي وَهُوَ يَقْرَأُ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قُلْت : إنَّ لَنَا حَاجَةً فأخلنا فَفَعَلَ ؛ فَأَخْبَرْته أَنَّ قَوْمًا قَبْلَنَا قَدْ أَحْدَثُوا وَتَكَلَّمُوا وَقَالُوا : إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ ؛ فَقَالَ : أَوَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الدِّينِ قَالَ : فَقُلْت : إنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ فَقَالَ : أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِيمَا أَنْزَلَ : { لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } هَذَا الْإِيمَانَ . فَقُلْت : إنَّهُمْ انتحلوك . وَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ ذَرٍّ دَخَلَ عَلَيْك فِي أَصْحَابٍ لَهُ ؛ فَعَرَضُوا عَلَيْك قَوْلَهُمْ فَقَبِلْته . فَقُلْت هَذَا الْأَمْرَ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَجَلَسْت إلَى نَافِعٍ فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً فَقَالَ : سِرٌّ أَمْ عَلَانِيَةٌ ؟ فَقُلْت : لَا بَلْ سِرٌّ : قَالَ : رُبَّ سِرٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ فَقُلْت : لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا صَلَّيْنَا الْعَصْرَ قَامَ وَأَخَذَ بِثَوْبِي ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْخَوْخَةِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْقَاصَّ فَقَالَ : حَاجَتُك ؟ قَالَ فَقُلْت : أخلني هَذَا . فَقَالَ : تَنَحَّ ؛ قَالَ : فَذَكَرْت لَهُ قَوْلَهُمْ . فَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ : " { أُمِرْت أَنْ أَضْرِبَهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِذَا قَالُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } " قَالَ : قُلْت : إنَّهُمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ نُقِرُّ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ وَلَا نُصَلِّي ؛ وَبِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ وَنَشْرَبُهَا ؛ وَأَنَّ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ حَرَامٌ وَنَحْنُ نَنْكِحُ . فَنَثَرَ يَدَهُ مِنْ يَدِي وَقَالَ : مَنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ .

قَالَ مَعْقِلٌ : فَلَقِيت الزُّهْرِيَّ فَأَخْبَرْته بِقَوْلِهِمْ . فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَاتِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } " . قَالَ مَعْقِلٌ . فَلَقِيت الْحَكَمَ بْنَ عتبة فَقُلْت لَهُ : إنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ وَمَيْمُونًا بَلَغَهُمَا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْك نَاسٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ فَعَرَضُوا بِقَوْلِهِمْ عَلَيْك فَقَبِلْت قَوْلَهُمْ ؛ قَالَ فَقَبِلَ ذَلِكَ عَلَيَّ مَيْمُونٌ ؛ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَأَنَا مَرِيضٌ فَقَالُوا : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ بَلَغَك { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ رَجُلٌ بِأَمَةِ سَوْدَاءَ أَوْ حَبَشِيَّةٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَفَتَرَى هَذِهِ مُؤْمِنَةً ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَقَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : وَتَشْهَدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ . : قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : وَتَشْهَدِينَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : وَتَشْهَدِينَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُك مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ ؟ . قَالَتْ نَعَمْ ؛ قَالَ : فَأَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } " : فَخَرَجُوا وَهُمْ يَنْتَحِلُونَ ذَلِكَ . قَالَ مَعْقِلٌ : ثُمَّ جَلَسْت إلَى مَيْمُونِ بْنِ مهران فَقُلْت يَا أَبَا أَيُّوبَ لَوْ قَرَأْت لَنَا سُورَةً فَفَسَّرْتهَا قَالَ : فَقَرَأَ : { إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } حَتَّى إذَا بَلَغَ : { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } قَالَ : ذَاكُمْ جِبْرِيلُ وَالْخَيْبَةُ لِمَنْ يَقُولُ : أَنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَرَوَاهُ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَد وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : لَقَدْ أَتَى عَلَيَّ بُرْهَةٌ مِنْ الدَّهْرِ وَمَا أَرَانِي أُدْرِكُ قَوْمًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ : " إنِّي مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ ثُمَّ مَا رَضِيَ حَتَّى قَالَ : إيمَانِي عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل وَمَا زَالَ بِهِمْ الشَّيْطَانُ

حَتَّى قَالَ أَحَدُهُمْ : إنِّي مُؤْمِنٌ وَإِنْ نَكَحَ أُخْتَهُ وَأُمَّهُ وَبِنْتَهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْت كَذَا وَكَذَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا وَهُوَ يَخْشَى النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ؛ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ : إيمَانُهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ . وَرَوَى البغوي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ مُجَاهِدٍ قَالَ : كُنْت عِنْدَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَجَاءَ ابْنُهُ يَعْقُوبُ فَقَالَ : يَا أَبَتَاهُ إنَّ أَصْحَابًا لِي يَزْعُمُونَ أَنَّ إيمَانَهُمْ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ ؛ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ لَيْسَ إيمَانُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ كَإِيمَانِ مَنْ عَصَى اللَّهَ . قُلْت : قَوْلُهُ عَنْ " الْمُرْجِئَةِ " : إنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ : لَيْسَتَا مِنْ الْإِيمَانِ وَأَمَّا مِنْ الدِّينِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ : لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ ؛ وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُمَا مِنْ الدِّينِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَاسْمِ الدِّينِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الَّتِي يَقُولُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ : وَلَمْ أَرَ أَنَا فِي كِتَابِ أَحَدٍ مُهِمٍّ أَنَّهُ قَالَ : الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ بَلْ يَقُولُونَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَمَّنْ نَاظَرَهُ مِنْهُمْ فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ وَغَيْرَهُ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الدِّينِ ؛ فَذَكَرَ قَوْلَهُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } إنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا كَمَّلَ الدِّينَ الْآنَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ كَانَ كَامِلًا قَبْلَ ذَلِكَ

بِعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِمَكَّةَ حِينَ دَعَا النَّاسَ إلَى الْإِقْرَارِ حَتَّى قَالَ : لَقَدْ اُضْطُرَّ بَعْضُهُمْ حِينَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحُجَّةُ . . إلَى أَنْ قَالَ : إنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِجَمِيعِ الدِّينِ وَلَكِنَّ الدِّينَ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ : الْإِيمَانُ جُزْءٌ ؛ وَالْفَرَائِضُ جُزْءٌ وَالنَّوَافِلُ جُزْءٌ . قُلْت : هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَوْمِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَهَذَا غَيْرُ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وَقَالَ { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } . وَقَالَ : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ بِرُمَّتِهِ ؛ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ ثُلُثُ الدِّينِ . قُلْت : إنَّمَا قَالُوا : إنَّ الْإِيمَانَ ثُلُثٌ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّ الْإِيمَانَ ثُلُثُ الدِّينِ . لَكِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الدِّينِ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامَ فِي مُسَمَّى هَذَا وَمُسَمَّى هَذَا فَقَدْ يُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ كِلَاهُمَا مِنْ الدِّينِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَاسْمِ الدِّينِ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُعَظِّمًا لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَيَقُولُ : لَيْسَ فِي التَّابِعِينَ أَتْبَعُ لِلْحَدِيثِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ : مَا رَأَيْت مِثْلَ عَطَاءٍ وَقَدْ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْحُجَّةَ عَنْ عَطَاءٍ . فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مَيْمُونٌ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ الشَّافِعِيِّ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ لَيْلَةً للحميدي : مَا يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ يَعْنِي

أَهْلَ الْإِرْجَاءِ بِآيَةِ أَحَجُّ مِنْ قَوْلِهِ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فِي ( بَابِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ : يُحْتَجُّ بِأَنْ لَا تُجْزِئَ صَلَاةٌ إلَّا بِنِيَّةِ بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } " ثُمَّ قَالَ : وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثِ إلَّا بِالْآخَرِ . وَقَالَ حَنْبَلٌ : حَدَّثَنَا الحميدي قَالَ : وَأُخْبِرْت أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ : مَنْ أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَتَّى يَمُوتَ وَيُصَلِّيَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَمُوتَ ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا إذَا عَلِمَ أَنَّ تَرْكَهُ ذَلِكَ فِيهِ إيمَانُهُ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْفَرَائِضِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَقُلْت : هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ وَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الْآيَةَ . وَقَالَ حَنْبَلٌ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَرَدَّ عَلَى أَمْرِهِ وَعَلَى الرَّسُولِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ . قُلْت : وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ لِلْأَمَةِ " { أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } " فَهُوَ مِنْ حُجَجِهِمْ الْمَشْهُورَةِ وَبِهِ احْتَجَّ ابْنُ كُلَّابٍ وَكَانَ يَقُولُ : الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْقَوْلُ جَمِيعًا فَكَانَ قَوْلُهُ أَقْرَبَ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ

الْإِيمَانَ الظَّاهِرَ الَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ فِي الْبَاطِنِ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } هُمْ فِي الظَّاهِرِ مُؤْمِنُونَ يُصَلُّونَ مَعَ النَّاسِ . وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ وَيَغْزُونَ وَالْمُسْلِمُونَ يُنَاكِحُونَهُمْ ويوارثونهم كَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْكُفَّارِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكُفْرِ لَا فِي مُنَاكَحَتِهِمْ وَلَا موارثتهم وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ ؛ بَلْ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول - وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ النَّاسِ بِالنِّفَاقِ - وَرِثَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُمْ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُؤْمِنُونَ ؛ وَإِذَا مَاتَ لِأَحَدِهِمْ . وَارِثٌ وَرِثُوهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُنَافِقِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي يَكْتُمُ زَنْدَقَتَهُ هَلْ يَرِثُ وَيُورَثُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ وَإِنْ عُلِمَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُوَالَاةِ الظَّاهِرَةِ لَا عَلَى الْمَحَبَّةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ لَوْ عُلِّقَ بِذَلِكَ لَمْ تُمْكِنْ مَعْرِفَتُهُ وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً أَوْ مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهَا وَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ } " لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ وَإِنْ كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ ؛ بَلْ كَانُوا يُورَثُونَ وَيَرِثُونَ ؛ وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَمَعَ هَذَا

لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَالَ : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَقَالَ { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } " وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَغَازِي كَمَا خَرَجَ ابْنُ أبي فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَالَ فِيهَا : { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } . " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ { زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهَا شِدَّةٌ ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي لِأَصْحَابِهِ : لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ . وَقَالَ : { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته فَأَرْسَلَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ؛ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ وَقَالُوا : كَذَبَ زَيْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوا شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي فِي { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } فَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فلووا رُءُوسَهُمْ . وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ اسْتَنْفَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَنْفَرَ غَيْرَهُمْ فَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مَعَهُ وَبَعْضُهُمْ تَخَلَّفُوا وَكَانَ فِي الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ مَنْ هَمَّ بِقَتْلِهِ فِي الطَّرِيقِ هَمُّوا بِحَلِّ حِزَامِ

نَاقَتِهِ لِيَقَعَ فِي وَادٍ هُنَاكَ فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَسَرَّ إلَى حُذَيْفَةَ أَسْمَاءَهُمْ وَلِذَلِكَ يُقَالُ : هُوَ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ } كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " الصَّحِيحِ " وَمَعَ هَذَا فَفِي الظَّاهِرِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْإِيمَانِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ شُبُهَاتٍ كَثِيرَةٍ تُورِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا بَقِيَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ عِنْدَهُمْ إلَّا عَدْلٌ أَوْ فَاسِقٌ وَأَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقُونَ مَا زَالُوا وَلَا يَزَالُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالنِّفَاقُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَخَافُونَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ . فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خَانَ } " وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ : " { وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } " . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ . " { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا ائتمن خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } " . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ حَتَّى نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } وَقَالَ : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَلَكِنْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةٌ

لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِلُّهُ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بَلْ يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ دُونَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } " { وَلَمَّا قَالَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ : أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ : إنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا . قَالَ : هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ ؟ وَقَالَ . إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ } " { وَكَانَ إذَا اُسْتُؤْذِنَ فِي قَتْلِ رَجُلٍ يَقُولُ : أَلَيْسَ يُصَلِّي أَلَيْسَ يَتَشَهَّدُ ؟ فَإِذَا قِيلَ لَهُ : إنَّهُ مُنَافِقٌ . قَالَ : ذَاكَ } فَكَانَ حُكْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَحُكْمِهِ فِي دِمَاءِ غَيْرِهِمْ لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِ ظَاهِرٍ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ نِفَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ ؛ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ نِفَاقَهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ . وَكَانَ عُمَرُ إذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَعْيَانَهُمْ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } فَأَمَرَ بِامْتِحَانِهِنَّ هُنَا وَقَالَ : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } .

وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي الْكَفَّارَةِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى النَّاسِ أَلَّا يُعْتِقُوا إلَّا مَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُمْ : اُقْتُلُوا إلَّا مَنْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ . وَهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يُنَقِّبُوا عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا يَشُقُّوا بُطُونَهُمْ ؛ فَإِذَا رَأَوْا رَجُلًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ جَازَ لَهُمْ عِتْقُهُ وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هِيَ مُؤْمِنَةٌ ؟ إنَّمَا أَرَادَ الْإِيمَانَ الظَّاهِرَ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ نَذْرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعْتِقَ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا ؛ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ يَعْلَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا . وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ وَاَللَّهُ يَقُولُ لَهُ : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } . فَأُولَئِكَ إنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكُمُ فِيهِمْ كَحُكْمِهِ فِي سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَلَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةُ أَحَدِهِمْ صَلَّى عَلَيْهَا وَلَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ نِفَاقَهُ ؛ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَيَعْلَمَ سَرَائِرَهُمْ وَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَشَرٌ . وَلِهَذَا لَمَّا كَشَفَهُمْ اللَّهُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ بِقَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ } { وَمِنْهُمْ } صَارَ يَعْرِفُ نِفَاقَ نَاسٍ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ نِفَاقَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَهُمْ بِصِفَاتِ عَلِمَهَا النَّاسُ مِنْهُمْ ؛ وَمَا كَانَ النَّاسُ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِنِفَاقِهِمْ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يَعْلَمُهُ ؛ فَلَمْ يَكُنْ نِفَاقُهُمْ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ حَالِهِمْ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ كَتَمُوا النِّفَاقَ وَمَا بَقِيَ يُمْكِنُهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ أَحْيَانًا مَا كَانَ يُمْكِنُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ

الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } فَلَمَّا تُوُعِّدُوا بِالْقَتْلِ إذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ كَتَمُوهُ . وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ . فَقِيلَ : يُسْتَتَابُ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ أَمْرَهُمْ إلَى اللَّهِ ؛ فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَبَعْدَ هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ : { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ إنْ أَظْهَرُوهُ كَمَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ قُتِلُوا فَكَتَمُوهُ . وَالزِّنْدِيقُ : هُوَ الْمُنَافِقُ وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ مَنْ يَقْتُلُهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ يَكْتُمُ النِّفَاقَ قَالُوا : وَلَا تُعْلَمُ تَوْبَتُهُ لِأَنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُ أَنَّهُ يُظْهِرُ مَا كَانَ يُظْهِرُ ؛ وَقَدْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَهُوَ مُنَافِقٌ ؛ وَلَوْ قُبِلَتْ تَوْبَةُ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى تَقْتِيلِهِمْ وَالْقُرْآنُ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالتَّقْتِيلِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِالْإِيمَانِ الظَّاهِرِ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّ سَعْدًا لَمَّا شَهِدَ لِرَجُلِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ قَالَ : " أو مُسْلِمٌ " وَكَانَ يُظْهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا تُظْهِرُهُ الْأُمَّةُ وَزِيَادَةً فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ حُكْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ؛ فَالْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ لَا بُدَّ

أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ حَتَّى الكَرَّامِيَة الَّذِينَ يُسَمُّونَ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنًا وَيَقُولُونَ : الْإِيمَانُ هُوَ الْكَلِمَةُ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ . وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ ؛ إنَّمَا نَازَعُوا فِي الِاسْمِ لَا فِي الْحُكْمِ بِسَبَبِ شُبْهَةِ الْمُرْجِئَةِ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَفَاضَلُ ؛ وَلِهَذَا أَكْثَرُ مَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّقَبَةِ الَّتِي تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ فَتَنَازَعُوا هَلْ يُجْزِئُ الصَّغِيرُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلسَّلَفِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ فَقِيلَ : لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالصَّغِيرُ لَمْ يُؤْمِنْ بِنَفْسِهِ إنَّمَا إيمَانُهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ؛ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ ؛ وَقِيلَ : بَلْ يُجْزِئُ عِتْقُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ وَهُوَ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ ؛ فَكَمَا أَنَّهُ يَرِثُ مِنْهُمَا وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى إلَّا عَلَى مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ . وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا نِفَاقَهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إذَا مَاتُوا وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْبَرَةُ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ يُدْفَنُ فِيهَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُنَافِقِينَ مَقْبَرَةٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَكُونُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَقْبَرَةٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا وَمَنْ دُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَالصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ عَلَى مَنْ عُلِمَ نِفَاقُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ حَتَّى نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ . وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَافِرٌ بِالْبَاطِنِ جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ . وَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ أَوْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ " الصَّلَاةَ " عَلَى بَعْضِ الْمُتَظَاهِرِينَ بِبِدْعَةِ أَوْ فُجُورٍ زَجْرًا عَنْهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرِّمًا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ بَلْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْغَالُّ وَقَاتِلُ نَفْسِهِ وَالْمَدِينُ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ : " { صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ } " وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلرَّجُلِ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ يَدَعُ ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ مِثْلِ مَذْهَبِهِ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ مُحَلَّمِ بْنِ جَثَّامَةَ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا قِسْمَانِ : مُؤْمِنٌ أَوْ مُنَافِقٌ فَالْمُنَافِقُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ وَقَدْ يَكُونُ تَامَّ الْإِيمَانِ وَهَذَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَأَسْمَاءِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ أَحَدٌ بِمُجَرَّدِ ذَنْبٍ يذنبه وَلَا بِبِدْعَةِ ابْتَدَعَهَا - وَلَوْ دَعَا النَّاسَ إلَيْهَا - كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ إلَّا إذَا كَانَ مُنَافِقًا . فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَقَدْ غَلِطَ فِي بَعْضِ مَا تَأَوَّلَهُ مِنْ الْبِدَعِ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ أَصْلًا وَالْخَوَارِجُ كَانُوا مِنْ أَظْهَرِ النَّاسِ بِدْعَةً وَقِتَالًا لِلْأُمَّةِ وَتَكْفِيرًا لَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يُكَفِّرُهُمْ لَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَلَا غَيْرُهُ بَلْ حَكَمُوا

فِيهِمْ بِحُكْمِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ كَمَا ذَكَرَتْ الْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُنَافِقًا فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ كَائِنًا مَا كَانَ خَطَؤُهُ ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهِمْ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ النِّفَاقُ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بَلْ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ كَفَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِبَعْضِ الْمَقَالَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ بِكُفْرِ هَذَا لِأَنَّ هَذَا فَرْضُ مَا لَا يَقَعُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَيَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلَ الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ ؛ بَلْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ وَلِهَذَا كَانَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُكَفِّرُونَ أَنْوَاعًا مِمَّنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَيَجْعَلُونَهُ مُرْتَدًّا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مَعَ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي الْعَمَلِ : هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ

أَمْ لَا ؟ وَلِهَذَا فَرَضَ مُتَأَخِّرُو الْفُقَهَاءِ مَسْأَلَةً يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَدُعِيَ إلَيْهَا وَامْتَنَعَ وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثًا مَعَ تَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى قُتِلَ هَلْ يَمُوتُ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَهَذَا الْفَرْضُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِهَا وَيَصْبِرُ عَلَى الْقَتْلِ وَلَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ بَشَرٌ قَطُّ بَلْ وَلَا يُضْرَبُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقِرُّ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إلَّا صَلَّى لَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ بِهِ إلَى الْقَتْلِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إلَّا لِأَمْرِ عَظِيمٍ مِثْلَ لُزُومِهِ لِدِينِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنْ فَارَقَهُ هَلَكَ فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ وَسَوَاءٌ كَانَ الدِّينُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَمَّا مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَا يَكُونُ فِعْلُ الصَّلَاةِ أَصْعَبَ عَلَيْهِ مِنْ احْتِمَالِ الْقَتْلِ قَطُّ . وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ قِيلَ : إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قِيلَ لَهُ : تَرْضَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَامْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُمَا وَاعْتِقَادِهِ فَضْلَهُمَا وَمَعَ عَدَمِ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّرَضِّي عَنْهُمَا فَهَذَا لَا يَقَعُ قَطُّ . وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ : إنَّ رَجُلًا يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَقَدْ طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ هُنَاكَ رَهْبَةٌ وَلَا رَغْبَةٌ يَمْتَنِعُ لِأَجْلِهَا فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى قُتِلَ فَهَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا الْجَهْمِيَّة - جَهْمًا وَمَنْ وَافَقَهُ - فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ لِكَوْنِهِ أَخْرَسَ أَوْ لِكَوْنِهِ خَائِفًا مِنْ قَوْمٍ إنْ

أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ آذَوْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ إيمَانٍ فِي قَلْبِهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ جَهْمٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مِنْ أَهْلِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } قِيلَ : وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأَوَّلِهَا فَإِنَّهُ مَنْ كَفَرَ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَدْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا وَإِلَّا نَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ آخِرَهَا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَنْ كَفَرَ هُوَ الشَّارِحُ صَدْرَهُ وَذَلِكَ يَكُونُ بِلَا إكْرَاهٍ لَمْ يُسْتَثْنَ الْمُكْرَهُ فَقَطْ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ إذَا لَمْ يَشْرَحْ صَدْرَهُ وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ طَوْعًا فَقَدْ شَرَحَ بِهَا صَدْرًا وَهِيَ كُفْرٌ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّا تَكَلَّمْنَا بِالْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهُ بَلْ كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا مِمَّنْ شَرَحَ صَدْرَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ .

وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى . { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ .

فَصْلٌ :
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَمَتَى ذَهَبَ بَعْضُ ذَلِكَ بَطَلَ الْإِيمَانُ فَيَلْزَمُ تَكْفِيرُ أَهْلِ الذُّنُوبِ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ أَوْ تَخْلِيدُهُمْ فِي النَّارِ وَسَلْبُهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الْمَذْكُورِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِخَيْرِ وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مُطْبِقُونَ عَلَى ذَمِّهِمْ . قِيلَ : أَوَّلًا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَمْ يُوَافِقْ الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَشْهُورَةِ وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ فِيمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ بِالشَّفَاعَةِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ أُمَّتِهِ . فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا . وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا كَمَا

رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى الصَّحَابَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَلَا قَالَ : إنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ قَالَ : إنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا وَالنِّزَاعُ فِي التَّوْبَةِ غَيْرُ النِّزَاعِ فِي التَّخْلِيدِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلِهَذَا حَصَلَ فِيهِ النِّزَاعُ . . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْإِيمَانَ إذَا ذَهَبَ بَعْضُهُ ذَهَبَ كُلُّهُ فَهَذَا مَمْنُوعٌ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي تَفَرَّعَتْ عَنْهُ الْبِدَعُ فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ مَتَى ذَهَبَ بَعْضُهُ ذَهَبَ كُلُّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ . ثُمَّ قَالَتْ " الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ " : هُوَ مَجْمُوعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ كَمَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ ؛ قَالُوا : فَإِذَا ذَهَبَ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ مَعَ صَاحِبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ فَيُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَقَالَتْ " الْمُرْجِئَةُ " عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ : لَا تُذْهِبُ الْكَبَائِرُ وَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ إذْ لَوْ ذَهَبَ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَكُونُ شَيْئًا وَاحِدًا يَسْتَوِي فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَنُصُوصُ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَهَابِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ ؛ كَقَوْلِهِ : " { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } " . وَلِهَذَا كَانَ " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " عَلَى أَنَّهُ يَتَفَاضَلُ وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ : يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَزِيدُ وَلَا يَقُولُ : يَنْقُصُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَتَفَاضَلُ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَقَدْ ،

ثَبَتَ لَفْظُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ فَرَوَى النَّاسُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ : عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ جَدِّهِ عُمَيْرِ بْنِ حَبِيبٍ الخطمي ؛ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ قِيلَ لَهُ : وَمَا زِيَادَتُهُ وَمَا نُقْصَانُهُ ؟ قَالَ : إذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ ؛ وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا فَتِلْكَ نُقْصَانُهُ . وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ : سَمِعْت أَشْيَاخَنَا أَوْ بَعْضَ أَشْيَاخِنَا أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ : إنَّ مِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَاهَدَ إيمَانَهُ وَمَا نَقَصَ مَعَهُ وَمِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَيَزْدَادُ الْإِيمَانُ أَمْ يَنْقُصُ ؟ وَإِنَّ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ أَنَّى تَأْتِيهِ . وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ ذَرٍّ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ : هَلُمُّوا نَزْدَدْ إيمَانًا فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " الْغَرِيبِ " فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ : إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً فِي الْقَلْبِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ ازْدَادَتْ اللُّمْظَةُ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ الْجُمَلِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ اللُّمْظَةُ : مِثْلُ النُّكْتَةِ أَوْ نَحْوُهَا .

وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عكيم قَالَ : سَمِعْت ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ زِدْنَا إيمَانًا وَيَقِينًا وَفِقْهًا . وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِرَجُلِ : اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنُ نَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَوَى أَبُو الْيَمَانِ : حَدَّثَنَا صَفْوَانُ عَنْ شريح بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ : قُمْ بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً فَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ . وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَثْبَتَهَا الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ . وَصَحَّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ ؛ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالِمِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ رَوَاهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ . قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ : الْإِيمَانُ يَبْدُو فِي الْقَلْبِ ضَعِيفًا ضَئِيلًا كَالْبَقْلَةِ ؛ فَإِنْ صَاحِبُهُ تَعَاهَدَهُ فَسَقَاهُ بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَأَمَاطَ عَنْهُ الدَّغَلَ وَمَا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ أَوْشَكَ أَنْ يَنْمُوَ أَوْ يَزْدَادَ وَيَصِيرَ لَهُ أَصْلٌ وَفُرُوعٌ وَثَمَرَةٌ وَظَلَّ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى حَتَّى يَصِيرَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ . وَإِنْ صَاحِبَهُ أَهْمَلَهُ وَلَمْ يَتَعَاهَدْهُ جَاءَهُ عَنْزٌ فَنَتَفَتْهَا أَوْ صَبِيٌّ فَذَهَبَ بِهَا وَأَكْثَرَ عَلَيْهَا الدَّغَلَ فَأَضْعَفَهَا أَوْ أَهْلَكَهَا أَوْ أَيْبَسَهَا كَذَلِكَ الْإِيمَانُ

وَقَالَ خيثمة بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : الْإِيمَانُ يَسْمَنُ فِي الْخِصْبِ وَيَهْزُلُ فِي الْجَدْبِ فَخِصْبُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَجَدْبُهُ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي . وَقِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ : يَزْدَادُ الْإِيمَانُ وَيَنْقُصُ ؟ قَالَ نَعَمْ يَزْدَادُ حَتَّى يَصِيرَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ وَيَنْقُصُ حَتَّى يَصِيرَ أَمْثَالَ الْهَبَاءِ . وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الصَّحِيحِ : " { حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ : مَا أَجْلَدَهُ مَا أَظْرَفَهُ مَا أَعْقَلَهُ ؛ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ } " وَفِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ " { تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ؛ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ : أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ : مربادا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا مَا أُشْرِبَ هَوَاهُ } " ؛ وَفِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ كِفَايَةٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَزِيَادَتِهِ فِي تِلْكَ الْخِصَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ إيمَانِهِمْ ؛ وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا . وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اليزني { عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ أُخْبِرَك بِصَرِيحِ الْإِيمَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : إذَا أَسَأْت أَوْ ظَلَمْت أَحَدًا عَبْدَك أَوْ أَمَتَك أَوْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ حَزِنْت وَسَاءَك ذَلِكَ .

وَإِذَا تَصَدَّقْت أَوْ أَحْسَنْت اسْتَبْشَرْت وَسَرَّك ذَلِكَ } وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ يَزِيدَ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ وَنُقْصَانِهِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ الْبَزَّارُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ ثَنَا هَانِئُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ إسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ اسْتَوْجَبَ الثَّوَابَ وَاسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ خُلُقٌ يَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ وَوَرَعٌ يَحْجِزُهُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَحِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ الْجَاهِلِ } " . وَ " { أَرْبَعٌ مِنْ الشَّقَاءِ : جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَطُولُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا } " . فَالْخِصَالُ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ وَالْأَرْبَعَةُ الْأُخَرُ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ وَنُقْصَانِهِ . وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الموصلي : ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ القواريري وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَا : ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَا : حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المزني { قَالَ يَزِيدُ فِي حَدِيثِهِ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ : حَدَّثَنِي رَجُلٌ قَدْ سَمَّاهُ وَنَسِيَ عَوْفٌ اسْمَهُ قَالَ : كُنْت بِالْمَدِينَةِ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ . فَقَالَ لِبَعْضِ جُلَسَائِهِ : كَيْفَ سَمِعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ : سَمِعْته يَقُولُ : الْإِسْلَامُ بَدَأَ جِذْعًا ؛ ثُمَّ ثَنِيًّا ؛ ثُمَّ رُبَاعِيًّا ؛ ثُمَّ سُدَاسِيًّا ؛ ثُمَّ بَازِلًا . فَقَالَ عُمَرُ : فَمَا بَعْدَ الْبُزُولِ إلَّا النُّقْصَانُ } كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى فِي " مُسْنَدِ عُمَرَ " وَفِي " مُسْنَدِ " هَذَا الصَّحَابِيِّ الْمُبْهَمِ ذِكْرُهُ أَوْلَى : قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ : مَنْ أَحْسَنَ فِي لَيْلِهِ كُوفِئَ فِي نَهَارِهِ وَمَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَارِهِ كُوفِئَ فِي لَيْلِهِ .

وَالزِّيَادَةُ قَدْ نَطَقَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } وَهَذِهِ زِيَادَةٌ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ الْآيَاتُ أَيَّ وَقْتٍ تُلِيَتْ لَيْسَ هُوَ تَصْدِيقُهُمْ بِهَا عِنْدَ النُّزُولِ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ زَادَ فِي قَلْبِهِ بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ مِنْ عِلْمِ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يَكُنْ ؛ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ الْآيَةَ إلَّا حِينَئِذٍ وَيَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي الْخَيْرِ وَالرَّهْبَةِ مِنْ الشَّرِّ مَا لَمْ يَكُنْ ؛ فَزَادَ عِلْمُهُ بِاَللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ لِطَاعَتِهِ وَهَذِهِ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ تَخْوِيفِهِمْ بِالْعَدُوِّ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ آيَةٍ نَزَلَتْ فَازْدَادُوا يَقِينًا وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَثَبَاتًا عَلَى الْجِهَادِ وَتَوْحِيدًا بِأَنْ لَا يَخَافُوا الْمَخْلُوقَ ؛ بَلْ يَخَافُونَ الْخَالِقَ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ } . وَهَذِهِ " الزِّيَادَةُ " لَيْسَتْ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا بَلْ زَادَتْهُمْ إيمَانًا بِحَسَبِ مُقْتَضَاهَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ أَمْرًا بِالْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ ازْدَادُوا رَغْبَةً وَإِنْ كَانَتْ نَهْيًا عَنْ شَيْءٍ انْتَهُوا عَنْهُ فَكَرِهُوهُ وَلِهَذَا قَالَ : { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وَالِاسْتِبْشَارُ غَيْرُ مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ } وَالْفَرَحُ بِذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَئِذٍ

يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } { بِنَصْرِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا } . وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } وَهَذِهِ نَزَلَتْ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ فَجَعَلَ السَّكِينَةَ مُوجِبَةً لِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ . وَالسَّكِينَةُ طُمَأْنِينَةٌ فِي الْقَلْبِ غَيْرُ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ وَلِهَذَا قَالَ يَوْمَ حنين : { ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } وَلَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ يَوْمَ حنين قُرْآنٌ وَلَا يَوْمَ الْغَارِ ؛ وَإِنَّمَا أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ وَطُمَأْنِينَتَهُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرْجِعَهُمْ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَزِيدَ حَالٌ لِلْقَلْبِ وَصِفَةٌ لَهُ وَعَمَلٌ مِثْلُ طُمَأْنِينَتِهِ وَسُكُونِهِ وَيَقِينِهِ وَالْيَقِينُ قَدْ يَكُونُ بِالْعَمَلِ وَالطُّمَأْنِينَةِ كَمَا يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالرَّيْبُ الْمُنَافِي لِلْيَقِينِ يَكُونُ رَيْبًا فِي الْعِلْمِ وَرَيْبًا فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ : " { اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِك مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيك وَمِنْ طَاعَتِك مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَك وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا } " . وَفِي حَدِيثِ الصِّدِّيقِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ ؛ فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ شَيْئًا

خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ ؛ فَسَلُوهُمَا اللَّهَ تَعَالَى } " ؛ فَالْيَقِينُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَهَا سَكِينَةَ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتَهُ وَتَسْلِيمَهُ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قَالَ عَلْقَمَةُ : وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ وقَوْله تَعَالَى { يَهْدِ قَلْبَهُ } هُدَاهُ لِقَلْبِهِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي إيمَانِهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } وَقَالَ : { إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } .
وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " أَكْثَرُ مَا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ مُقَيَّدًا ؛ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ؛ بَلْ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلَوَازِمِهِ وَتَمَامِ مَا أَمَرَ بِهِ وَحِينَئِذٍ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ قَالَ تَعَالَى : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } { وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : إنَّهَا خِطَابٌ لِقُرَيْشِ ؛ وَفِي الثَّانِيَةِ إنَّهَا خِطَابٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ قَطُّ لِلْكُفَّارِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ

عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهَا الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ ؛ وَقَدْ قَالَ : { وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَهَذَا لَا يُخَاطَبُ بِهِ كَافِرٌ ؛ وَكُفَّارُ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ وَإِنَّمَا أَخَذَ مِيثَاقَ الْمُؤْمِنِينَ بِبَيْعَتِهِمْ لَهُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا كَانَ يُبَايِعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَتَكْمِيلِهِ بِأَدَاءِ مَا يَجِبُ مِنْ تَمَامِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِلْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ جُمْلَةً لَكِنَّ الْهِدَايَةَ الْمُفَصَّلَةَ فِي جَمِيعِ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ لَمْ تَحْصُلْ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ الْمُفَصَّلَةِ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ . وَبِذَلِكَ يُخْرِجُهُمْ اللَّهُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ .

فَصْلٌ :
وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاَلَّذِي يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يُعْرَفُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : الْإِجْمَالُ وَالتَّفْصِيلُ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ الْتِزَامُ مَا يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُهُمْ مُجْمَلًا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا وَجَبَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ غَيْرُهُ فَمَنْ عَرَفَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ وَمَعَانِيَهَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ بِذَلِكَ مَا لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَلَوْ آمَنَ الرَّجُلُ بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ شَرَائِعَ الدِّينِ مَاتَ مُؤْمِنًا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا مَا وَقَعَ عَنْهُ مِثْلَ إيمَانِ مَنْ عَرَفَ الشَّرَائِعَ فَآمَنَ بِهَا وَعَمِلَ بِهَا ؛ بَلْ إيمَانُ هَذَا أَكْمَلُ وُجُوبًا وَوُقُوعًا فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ أَكْمَلُ وَمَا وَقَعَ مِنْهُ أَكْمَلُ . وقَوْله تَعَالَى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أَيْ فِي التَّشْرِيعِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى سَائِرِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ؛ بَلْ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَفَ النِّسَاءَ

بِأَنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ } وَجُعِلَ نُقْصَانُ عَقْلِهَا أَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَنُقْصَانُ دِينِهَا أَنَّهَا إذَا حَاضَتْ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي وَهَذَا النُّقْصَانُ لَيْسَ هُوَ نَقْصٌ مِمَّا أُمِرَتْ بِهِ ؛ فَلَا تُعَاقَبُ عَلَى هَذَا النُّقْصَانِ لَكِنْ مَنْ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَفَعَلَهُ كَانَ دِينُهُ كَامِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ النَّاقِصَةِ الدِّينِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : الْإِجْمَالُ وَالتَّفْصِيلُ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُمْ فَمَنْ آمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُطْلَقًا فَلَمْ يُكَذِّبْهُ قَطُّ لَكِنْ أَعْرَضَ عَنْ مَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ؛ فَلَمْ يَعْلَمْ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْهُ ؛ بَلْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَآخَرُ طَلَبَ عِلْمَ مَا أُمِرَ بِهِ فَعَمِلَ بِهِ وَآخَرُ طَلَبَ عِلْمَهُ فَعَلِمَهُ وَآمَنَ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الْوُجُوبِ لَكِنْ مَنْ طَلَبَ عِلْمَ التَّفْصِيلِ وَعَمِلَ بِهِ فَإِيمَانُهُ أَكْمَلُ بِهِ ؛ فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ عَرَفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَالْتَزَمَهُ وَأَقَرَّ بِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَهَذَا الْمُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الْمُعْتَرِفُ بِذَنْبِهِ الْخَائِفُ مِنْ عُقُوبَةِ رَبِّهِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ أَكْمَلُ إيمَانًا مِمَّنْ لَمْ يَطْلُبْ مَعْرِفَةَ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا عَمِلَ بِذَلِكَ ؛ وَلَا هُوَ خَائِفٌ أَنْ يُعَاقَبَ ؛ بَلْ هُوَ فِي غَفْلَةٍ عَنْ تَفْصِيلِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِنُبُوَّتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . فَكُلَّمَا عَلِمَ الْقَلْبُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَصَدَّقَهُ وَمَا أُمِرَ بِهِ فَالْتَزَمَهُ ؛ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي إيمَانِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ الْتِزَامٌ عَامٌّ وَإِقْرَارٌ عَامٌّ . وَكَذَلِكَ مَنْ عَرَفَ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَمَعَانِيَهَا فَآمَنَ بِهَا ؛ كَانَ إيمَانُهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَمْ

يَعْرِفْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ بَلْ آمَنَ بِهَا إيمَانًا مُجْمَلًا أَوْ عَرَفَ بَعْضَهَا ؛ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ كَانَ إيمَانُهُ بِهِ أَكْمَلَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْعِلْمَ وَالتَّصْدِيقَ نَفْسَهُ يَكُونُ بَعْضُهُ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ وَأَبْعَدَ عَنْ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ وَهَذَا أَمْرٌ يَشْهَدُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ ؛ كَمَا أَنَّ الْحِسَّ الظَّاهِرَ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِثْلَ رُؤْيَةِ النَّاسِ لِلْهِلَالِ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِيهَا فَبَعْضُهُمْ تَكُونُ رُؤْيَتُهُ أَتَمَّ مِنْ بَعْضٍ ؛ وَكَذَلِكَ سَمَاعُ الصَّوْتِ الْوَاحِدِ وَشَمُّ الرَّائِحَةِ الْوَاحِدَةِ وَذَوْقُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ الطَّعَامِ فَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ يَتَفَاضَلُ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَالْمَعَانِي الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا مِنْ مَعَانِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَكَلَامُهُ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهَا أَعْظَمَ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ غَيْرِهَا .
الرَّابِعُ أَنَّ التَّصْدِيقَ الْمُسْتَلْزِمَ لِعَمَلِ الْقَلْبِ أَكْمَلُ مِنْ التَّصْدِيقِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ عَمَلَهُ ؛ فَالْعِلْمُ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ صَاحِبُهُ أَكْمَلُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِهِ وَإِذَا كَانَ شَخْصَانِ يَعْلَمَانِ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَرَسُولَهُ حَقٌّ وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ وَهَذَا عِلْمُهُ أَوْجَبَ لَهُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَخَشْيَتَهُ وَالرَّغْبَةَ فِي الْجَنَّةِ وَالْهَرَبَ مِنْ النَّارِ وَالْآخَرُ عِلْمُهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ ؛ فَعِلْمُ الْأَوَّلِ أَكْمَلُ ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ الْمُسَبِّبِ دَلَّ عَلَى قُوَّةِ السَّبَبِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَشَأَتْ عَنْ الْعِلْمِ فَالْعِلْمُ بِالْمَحْبُوبِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهُ ؛ وَالْعِلْمُ بِالْمَخُوفِ يَسْتَلْزِمُ الْهَرَبَ مِنْهُ ؛ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ اللَّازِمُ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْمَلْزُومِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايِنِ } " فَإِنَّ مُوسَى لَمَّا أَخْبَرَهُ

رَبُّهُ أَنَّ قَوْمَهُ عَبَدُوا الْعِجْلَ لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ . فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ عَبَدُوهُ أَلْقَاهَا ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِشَكِّ مُوسَى فِي خَبَرِ اللَّهِ لَكِنَّ الْمُخْبِرَ وَإِنْ جَزَمَ بِصِدْقِ الْمُخْبَرِ فَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُ الْمُخْبَرَ بِهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَصَوَّرُهُ إذَا عَايَنَهُ ؛ بَلْ يَكُونُ قَلْبُهُ مَشْغُولًا عَنْ تَصَوُّرِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ تَصَوُّرِ الْمُخْبَرِ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُخْبِرِ فَهَذَا التَّصْدِيقُ أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ مِثْلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ ؛ وَهَذِهِ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهَا تَفَاضُلًا عَظِيمًا .
السَّادِسُ : أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مَعَ الْبَاطِنَةِ هِيَ أَيْضًا مِنْ الْإِيمَانِ وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا .
السَّابِعُ : ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَاسْتِحْضَارُهُ لِذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ ؛ أَكْمَلُ مِمَّنْ صَدَّقَ بِهِ وَغَفَلَ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ الْغَفْلَةَ تُضَادُّ كَمَالَ الْعِلْمِ ؛ وَالتَّصْدِيقُ وَالذِّكْرُ وَالِاسْتِحْضَارُ يُكْمِلُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ ؛ وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ : اجْلِسُوا بِنَا سَاعَةً نُؤْمِنُ قَالَ تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } ثُمَّ كُلَّمَا تَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ مَا عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ وَعَمِلَ بِهِ

حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةُ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْأَثَرِ " { مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } " وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ كُلُّ مُؤْمِنٍ . وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَاَلَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ } " . قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } وَذَلِكَ أَنَّهَا تَزِيدُهُمْ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلِمُوهُ وَتَزِيدُهُمْ عَمَلًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَتَزِيدُهُمْ تَذَكُّرًا لِمَا كَانُوا نَسُوهُ وَعَمَلًا بِتِلْكَ التَّذْكِرَةِ وَكَذَلِكَ مَا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ مِنْ الْآيَاتِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } أَيْ إنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } . فَإِنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ فِي الْقُرْآنِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ فَآمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ ثُمَّ أَرَاهُمْ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فَبَيَّنَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مَعَ مَا كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } { وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } فَالْآيَاتُ الْمَخْلُوقَةُ وَالْمَتْلُوَّةُ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَفِيهَا تَذْكِرَةٌ : تَبْصِرَةٌ مِنْ الْعَمَى وَتَذْكِرَةٌ مِنْ الْغَفْلَةِ ؛ فَيُبْصِرُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَرَفَ حَتَّى يَعْرِفَ وَيَذْكُرُ مَنْ عَرَفَ وَنَسِيَ وَالْإِنْسَانُ يَقْرَأُ السُّورَةَ مَرَّاتٍ حَتَّى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَيَظْهَرُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ مِنْ مَعَانِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ خَطَرَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهَا تِلْكَ السَّاعَةُ نَزَلَتْ ؛ فَيُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْمَعَانِي وَيَزْدَادُ عِلْمُهُ

وَعَمَلُهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ بِتَدَبُّرِ بِخِلَافِ مَنْ قَرَأَهُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ ثُمَّ كُلَّمَا فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ اسْتَحْضَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فَصَدَّقَ الْأَمْرَ فَحَصَلَ لَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِهِ مَا كَانَ غَافِلًا عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا مُنْكِرًا .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مُكَذِّبًا وَمُنْكِرًا لِأُمُورِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَأَمَرَ بِهَا وَلَوْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ يُنْكِرْ . بَلْ قَلْبُهُ جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَا يُخْبِرُ إلَّا بِصِدْقِ وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَقِّ ثُمَّ يَسْمَعُ الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ أَوْ يَتَدَبَّرُ ذَلِكَ أَوْ يُفَسِّرُ لَهُ مَعْنَاهُ أَوْ يَظْهَرُ لَهُ ذَلِكَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَيُصَدِّقُ بِمَا كَانَ مُكَذِّبًا بِهِ وَيَعْرِفُ مَا كَانَ مُنْكِرًا وَهَذَا تَصْدِيقٌ جَدِيدٌ وَإِيمَانٌ جَدِيدٌ ازْدَادَ بِهِ إيمَانُهُ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ كَافِرًا بَلْ جَاهِلًا ؛ وَهَذَا وَإِنْ أَشْبَهَ الْمُجْمَلَ وَالْمُفَصَّلَ لِكَوْنِ قَلْبِهِ سَلِيمًا عَنْ تَكْذِيبٍ وَتَصْدِيقٍ لِشَيْءِ مِنْ التَّفَاصِيلِ وَعَنْ مَعْرِفَةٍ وَإِنْكَارٍ لِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ فَيَأْتِيهِ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ عَلَى قَلْبِ سَاذِجٍ ؛ وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ مِنْ أَهْلِ الْعُلُومِ وَالْعِبَادَاتِ فَيَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ التَّفْصِيلِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ فَإِذَا عَرَفُوا رَجَعُوا وَكُلُّ مَنْ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ قَوْلًا أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا أَخْطَأَ فِيهِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالرَّسُولِ أَوْ عَرَفَ مَا قَالَهُ وَآمَنَ بِهِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ ؛ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَكُلُّ مُبْتَدِعٍ قَصْدُهُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَمَنْ عَلِمَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَعَمِلَ بِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ أَخْطَأَ ذَلِكَ ؛ وَمَنْ عَلِمَ الصَّوَابَ بَعْدَ الْخَطَأِ وَعَمِلَ بِهِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .

فَصْلٌ :
وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ فِي قَوْله تَعَالَى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَفِي رِوَايَةٍ قَسَمَ قَسْمًا وَتَرَكَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْطَهُ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إلَيَّ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مُسْلِمًا . أَقُولُهَا ثَلَاثًا وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { فَضَرَبَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي وَقَالَ : أَقَتَّالٌ أَيْ سَعْدٌ } . فَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي نَفَى اللَّهُ عَنْ أَهْلِهِ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ هَلْ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ ؟ أَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِين وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي

وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ ؛ وَهُوَ قَوْل حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَقَائِقِ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ : كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ : مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ : مُؤْمِنٌ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ : قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : " الْإِيمَانُ " الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إلَّا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا . وَ ( الْقَوْلُ الثَّانِي ) : أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ : هُوَ الِاسْتِسْلَامُ خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ مِثْلَ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ . قَالُوا : وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَهَذَا اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَالسَّلَفُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ : أَتَيْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقُلْت : إنَّ رَجُلًا خَاصَمَنِي يُقَالُ لَهُ : سَعِيدٌ الْعَنْبَرِيُّ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ لَيْسَ بِالْعَنْبَرِيِّ وَلَكِنَّهُ زُبَيْدِيٌّ . قَوْلُهُ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } فَقَالَ : هُوَ الِاسْتِسْلَامُ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ : لَا هُوَ الْإِسْلَامُ . وَقَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ

مُجَاهِدٍ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } قَالَ : اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ . وَلَكِنَّ هَذَا مُنْقَطِعٌ سُفْيَانُ لَمْ يُدْرِكْ مُجَاهِدًا . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ هُوَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ قَالُوا : لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَمَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ فَهُوَ كَافِرٌ . وَقَالَ هَؤُلَاءِ : الْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانُ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ . وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَمَنْ جَعَلَ الْفُسَّاقَ مُسْلِمِينَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ دَاخِلِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا دُعُوا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ . وَجَوَابُ هَذَا أَنْ يُقَالَ : الَّذِينَ قَالُوا مِنْ السَّلَفِ : إنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُولُوا : إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ بَلْ هَذَا قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا يَقُولُونَ : الْفُسَّاقُ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ . وَإِنَّ مَعَهُمْ إيمَانًا يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ . لَكِنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ اسْمُ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الثَّوَابَ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ وَهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْخِطَابِ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ هُوَ لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا خُوطِبَ لِيَفْعَلَ تَمَامَ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَتَمَّهُ قَبْلَ الْخِطَابِ وَإِلَّا كُنَّا قَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْمَأْمُورَ مِنْ الْإِيمَانِ قَبْلَ الْخِطَابِ ؛ وَإِنَّمَا صَارَ مِنْ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِهِ فَالْخِطَابُ بِـ { يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا } غَيْرُ قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } وَنَظَائِرِهَا فَإِنَّ الْخِطَابَ بِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } أَوَّلًا : يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ يَدْخُلُ فِيهِ فِي الظَّاهِرِ فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا . وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا يُقَالُ فِيهِ : إنَّهُ مُسْلِمٌ وَمَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ . لَكِنْ هَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ ؟ هَذَا هُوَ الَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ فَقِيلَ : يُقَالُ مُسْلِمٌ وَلَا يُقَالُ : مُؤْمِنٌ . وَقِيلَ : بَلْ يُقَالُ : مُؤْمِنٌ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ وَلَا يُعْطَى اسْمَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ نَفَيَا عَنْهُ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ ؛ وَاسْمُ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُهُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ إيجَابٌ عَلَيْهِ وَتَحْرِيمٌ عَلَيْهِ وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ كَمَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْمِ الْمَدْحِ الْمُطْلَقِ ؛ وَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ بِالْإِيمَانِ يَدْخُلُ فِيهِ " ثَلَاثُ طَوَائِفَ " : يَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ حَقًّا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُ فِي أَحْكَامِهِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ ؛ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ يَنْفِي عَنْهُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَفِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ لَهُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الظَّاهِرُ ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ ؛ لَكِنْ مَعَهُمْ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ يُثَابُونَ عَلَيْهِ .

ثُمَّ قَدْ يَكُونُونَ مُفْرِطِينَ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ لَكِنْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْمَفْرُوضَاتِ وَهَؤُلَاءِ كَالْأَعْرَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : آمَنَّا مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ مِنْهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . فَلَا دَخَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ دَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِهَادِ وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ ؛ كَاَلَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَأْتُونَ الْكَبَائِرَ ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ وَلَكِنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ : هَلْ يُقَالُ : إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ . وَأَمَّا " الْخَوَارِجُ " ؛ " وَالْمُعْتَزِلَةُ " فَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ ؛ فَإِذَا خَرَجُوا عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ خَرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ ؛ لَكِنَّ الْخَوَارِجَ تَقُولُ : هُمْ كُفَّارٌ ؛ وَالْمُعْتَزِلَةَ تَقُولُ : لَا مُسْلِمُونَ وَلَا كُفَّارُ ؛ يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ أَنَّهُ قَالَ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ هَذَا الْإِسْلَامِ ؛ آجَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ . وَالْمُنَافِقُ عَمَلُهُ حَابِطٌ فِي الْآخِرَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِخِلَافِ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ وَصَفَهُمْ بِكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ

مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } الْآيَاتِ . وَقَالَ : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } فَالْمُنَافِقُونَ يَصِفُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالْكَذِبِ ؛ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ ؛ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَصِفْهُمْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا ادَّعَوْا الْإِيمَانَ قَالَ لِلرَّسُولِ : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } . وَنَفْيُ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ثُمَّ قَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ؛ يَكُونُ مُنَافِقًا مِنْ أَهْلِ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ بَلْ لَا يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَنُفِيَ عَنْهُ كَمَا يُنْفَى سَائِرُ الْأَسْمَاءِ عَمَّنْ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْأَعْرَابُ لَمْ يَأْتُوا بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ ؛ فَنُفِيَ عَنْهُمْ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ . وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً ؛ بَلْ حَالُ أَكْثَرِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ

حَقَائِقَ الْإِيمَانِ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قُوتِلَ حَتَّى أَسْلَمَ كَمَا كَانَ الْكُفَّارُ يُقَاتِلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْأَسْرِ أَوْ سَمِعَ بِالْإِسْلَامِ فَجَاءَ فَأَسْلَمَ ؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَلَمْ تَدْخُلْ إلَى قَلْبِهِ الْمَعْرِفَةُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ تَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ ذَلِكَ ؛ إمَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا بِمُبَاشَرَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَإِمَّا بِهِدَايَةِ خَاصَّةٍ مِنْ اللَّهِ يَهْدِيهِ بِهَا . وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ مَا يَدْعُوهُ إلَى الدُّخُولِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ عَلَيْهِ وَتَرَبَّى بَيْنَ أَهْلِهِ فَإِنَّهُ يُحِبُّهُ فَقَدْ ظَهَرَ لَهُ بَعْضُ مَحَاسِنِهِ وَبَعْضُ مَسَاوِئِ الْكُفَّارِ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَرْتَابُ إذَا سَمِعَ الشُّبَهَ الْقَادِحَةَ فِيهِ وَلَا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَلَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَلَيْسَ هُوَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ مُضْمِرًا لِلْكُفْرِ فَلَا هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَلَا هُوَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَلَا هُوَ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ بَلْ يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَأْتِي بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا ؛ فَهَذَا مَعَهُ إيمَانٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } وَلِهَذَا قَالَ : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يَعْنِي فِي قَوْلِكُمْ : { آمَنَّا } . يَقُولُ : إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَاَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ؛ وَهَذَا

يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ : { آمَنَّا } . ثُمَّ صَدَقَهُمْ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ اتِّصَافُهُمْ بِأَنَّهُمْ { آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَالْمُنَافِقِينَ بَلْ مَعَهُمْ إيمَانٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَدَّعُوا مُطْلَقَ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَشْبَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ النِّسْوَةَ الْمُمْتَحِنَاتِ قَالَ فِيهِنَّ : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } وَلَا يُمْكِنُ نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْهُنَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَذَّبَ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يُكَذِّبْ غَيْرَهُمْ ؛ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُكَذِّبْهُمْ وَلَكِنْ قَالَ : { لَمْ تُؤْمِنُوا } كَمَا قَالَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } وَقَوْلُهُ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَ { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ . وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِإِسْلَامِهِمْ لِجَهْلِهِمْ وَجَفَائِهِمْ وَأَظْهَرُوا مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الدِّينِ لَمْ يَكُونُوا يُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الظَّاهِرَ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ . وَدَخَلَتْ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ : { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى يُخْبِرُونَ وَيُحَدِّثُونَ كَأَنَّهُ قَالَ : أَتُخْبِرُونَهُ وَتُحَدِّثُونَهُ بِدِينِكُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ . وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ اللَّهَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ : { آمَنَّا } فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَمَّا فِي قُلُوبِهِمْ .

وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ { لَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُونَ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ أَوَّلًا فِي دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ جِهَادٌ حَتَّى يَدْخُلُوا بِهِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ قَالُوهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وَلَفْظُ : ( لَمَّا يَنْفِي بِهِ مَا يَقْرُبُ حُصُولُهُ وَيَحْصُلُ غَالِبًا كَقَوْلِهِ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ } وَقَدْ قَالَ السدي : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَعْرَابِ مزينة وَجُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَأَشْجَعَ وَغِفَارٍ وَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَكَانُوا يَقُولُونَ : آمَنَّا بِاَللَّهِ لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَمَّا اسْتَنْفَرُوا إلَى الْحُدَيْبِيَةِ تَخَلَّفُوا ؛ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَعَنْ مُقَاتِلٍ : كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَكَانُوا إذَا مَرَّتْ بِهِمْ سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ اسْتَنْفَرَهُمْ فَلَمْ يَنْفِرُوا مَعَهُ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة وَوَصَفَ غَيْرُهُ حَالَهُمْ . فَقَالَ : قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَأَفْسَدُوا طُرُقَ الْمَدِينَةِ بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهُمْ وَكَانُوا يَمُنُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ : أَتَيْنَاك بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَدْ قَالَ قتادة فِي قَوْلِهِ : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قَالَ : مَنَّوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءُوا فَقَالُوا : إنَّا أَسْلَمْنَا بِغَيْرِ قِتَالٍ لَمْ نُقَاتِلْك كَمَا قَاتَلَك بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ } . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : هُمْ { أَعْرَابُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْنَاك بِغَيْرِ قِتَالٍ وَتَرَكْنَا الْعَشَائِرَ وَالْأَمْوَالَ وَكُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْعَرَبِ قَاتَلَتْك حَتَّى دَخَلُوا كُرْهًا فِي الْإِسْلَامِ ؛ فَلَنَا بِذَلِكَ عَلَيْك حَقٌّ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } } . فَلَهُ بِذَلِكَ الْمَنُّ عَلَيْكُمْ وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَيُقَالُ : مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي خُتِمَتْ بِنَارِ كُلُّ مُوجِبَةٍ مَنْ رَكِبَهَا وَمَاتَ عَلَيْهَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا . وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ ؛ وَلَا كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ وَسُورَةُ الْحُجُرَاتِ قَدْ ذَكَرَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافَ فَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَلَمْ يَصِفْهُمْ بِكُفْرِ وَلَا نِفَاقٍ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُخْشَى عَلَيْهِمْ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَلِهَذَا ارْتَدَّ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِطْ الْإِيمَانُ بَشَاشَةَ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ

فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } الْآيَةَ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ قَدْ كَذَبَ فِيمَا أَخْبَرَ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي { الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيَقْبِضَ صَدَقَاتِهِمْ وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَارَ بَعْضَ الطَّرِيقِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّهُمْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ وَأَرَادُوا قَتْلِي فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعْثَ إلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } . وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي تَمَامِهَا : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } الْآيَةَ . ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَعَنْ اللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ وَقَالَ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } وَقَدْ قِيلَ : مَعْنَاهُ : لَا تُسَمِّيهِ فَاسِقًا وَلَا كَافِرًا بَعْدَ إيمَانِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلْ الْمُرَادُ : بِئْسَ الِاسْمُ أَنْ تَكُونُوا فُسَّاقًا بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الَّذِي كَذَبَ : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } فَسَمَّاهُ فَاسِقًا . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } يَقُولُ : فَإِذَا سَابَبْتُمْ الْمُسْلِمَ وَسَخِرْتُمْ مِنْهُ وَلَمَزْتُمُوهُ اسْتَحْقَقْتُمْ أَنْ تُسَمُّوا فُسَّاقًا وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . يَقُولُ : فَإِذَا أَتَيْتُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَحِقُّونَ بِهَا أَنْ تُسَمُّوا

فُسَّاقًا كُنْتُمْ قَدْ اسْتَحْقَقْتُمْ اسْمَ الْفُسُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَهُمْ فِي تَنَابُزِهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ : فَاسِقٌ كَافِرٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَبَعْضُهُمْ يُلَقِّبُ بَعْضًا . وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : لَا تُسَمِّيهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِدِينِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِيِّ إذَا أَسْلَمَ : يَا يَهُودِيُّ ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والقرظي وَقَالَ عِكْرِمَةُ : هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ : يَا كَافِرُ يَا مُنَافِقُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : هُوَ تَسْمِيَةُ الرَّجُلِ بِالْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِ : يَا زَانِي يَا سَارِقُ يَا فَاسِقُ وَفِي تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هُوَ تَعْيِيرُ التَّائِبِ بِسَيِّئَاتِ كَانَ قَدْ عَمِلَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ لَيْسَتْ هِيَ اسْمَ الْفَاسِقِ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ } لَمْ يُرِدْ بِهِ تَسْمِيَةَ الْمَسْبُوبِ بِاسْمِ الْفَاسِقِ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ كَافِرًا أَعْظَمُ بَلْ إنَّ السَّابَّ يَصِيرُ فَاسِقًا لِقَوْلِهِ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } فَجَعَلَهُمْ ظَالِمِينَ إذَا لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ الْغِيبَةِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ التَّفَاخُرِ بِالْأَحْسَابِ وَقَالَ : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } . ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْأَعْرَابِ : { آمَنَّا } . فَالسُّورَةُ تَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الَّتِي فِيهَا تَعَدٍّ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى

الْمُؤْمِنِينَ فَالْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ فِيهَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ . وَأَهْلُ السِّبَابِ وَالْفُسُوقِ وَالْمُنَادِينَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ وَأَمْثَالُهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إنَّهُمْ الَّذِينَ اُسْتُنْفِرُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأُولَئِكَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَلَمْ يَكُونُوا فِي الْبَاطِنِ كُفَّارًا مُنَافِقِينَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : { لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُمْرَةَ - عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ - اسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبِ أَوْ بِصَدِّ فَتَثَاقَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ } فَهُمْ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } أَيْ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا تَخَلُّفَنَا عَنْك { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } أَيْ مَا يُبَالُونَ اسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَهَذَا حَالُ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يُبَالِي بِالذَّنْبِ وَالْمُنَافِقُونَ قَالَ فِيهِمْ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ بَلْ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ صَدَقُوا فِي طَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ نَفَعَهُمْ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } فَوَعَدَهُمْ اللَّهُ بِالثَّوَابِ عَلَى طَاعَةِ الدَّاعِي إلَى الْجِهَادِ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالتَّوَلِّي عَنْ طَاعَتِهِ . وَهَذَا كَخِطَابِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْكَبَائِرِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ

فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِمُجَرَّدِ طَاعَةِ الْأَمْرِ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوَّلًا وَوَعِيدُهُ لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ تَوَلِّيهِ عَنْ الطَّاعَةِ فِي الْجِهَادِ فَإِنَّ كُفْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا . فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ فَإِنَّ الْفِسْقَ يَكُونُ تَارَةً بِتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَتَارَةً بِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَؤُلَاءِ لَمَّا تَرَكُوا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِهَادِ وَحَصَلَ عِنْدَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الرَّيْبِ الَّذِي أَضْعَفَ إيمَانَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ وَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ مُتَدَيِّنُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ . وَقَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ : لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ نَفْيٌ لِمَا نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَعَمَّنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَعَمَّنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ؛ وَعَمَّنْ لَا يُجِيبُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَقَدْ يُحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } كَمَا قَالَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } فَذَمَّ مَنْ اسْتَبْدَلَ اسْمَ الْفُسُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ . وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا خَوْفَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ ؛ فَهَكَذَا كَانَ إسْلَامُ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَسْلَمُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً كَإِسْلَامِ الطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ قَهَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسْلَامِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ لِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ

مِنْ النَّارِ ؛ بَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ وَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَكْذِيبٌ وَمُعَادَاةٌ لِلرَّسُولِ وَلَا اسْتَنَارَتْ قُلُوبُهُمْ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَلَا اُسْتُبْصِرُوا فِيهِ ؛ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْسُنُ إسْلَامُ أَحَدِهِمْ فَيَصِيرُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَأَكْثَرِ الطُّلَقَاءِ وَقَدْ يَبْقَى مِنْ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مُنَافِقًا مُرْتَابًا { إذَا قَالَ لَهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ : مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ : هاه هاه لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته } . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ أَسْلَمُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ ؛ فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْسَنَ إسْلَامًا مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِالْإِسْلَامِ وَأَنْزَلَ فِيهِمْ { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ . وَأَيْضًا قَوْلُهُ : { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } { وَلَمَّا } إنَّمَا يَنْفِي بِهَا مَا يُنْتَظَرُ وَيَكُونُ حُصُولُهُ مُتَرَقَّبًا كَقَوْلِهِ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } وَقَوْلِهِ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } فَقَوْلُهُ : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْإِيمَانِ مُنْتَظَرٌ مِنْهُمْ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لَا يَكُونُ قَدْ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ لَكِنَّهُ يَحْصُلُ فِيمَا بَعْدُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { كَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ أَوَّلَ النَّهَارِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجِيءُ آخِرَ النَّهَارِ إلَّا وَالْإِسْلَامُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ } . وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ وَقَوْلُهُ : { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا }

أَمْرٌ لَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَالْمُنَافِقُ لَا يُؤْمَرُ بِشَيْءِ ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } وَالْمُنَافِقُ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوَّلًا . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا احْتَجَّ بِهَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ دُونَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ . قَالَ الميموني : سَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِي : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ فَقَالَ : أَقُولُ : مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَقُولُ : مُسْلِمٌ وَلَا أَسْتَثْنِي قَالَ : قُلْت لِأَحْمَدَ : تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ؟ فَقَالَ لِي : نَعَمْ فَقُلْت لَهُ : بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ ؟ قَالَ لِي : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } وَذَكَرَ أَشْيَاءَ .
وَقَالَ الشالنجي : سَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ نَفْسِي مِنْ طَرِيقِ الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ وَلَا أَعْلَمُ مَا أَنَا عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَيْسَ بِمُرْجِئِ . وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ : الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ وَمَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا وَلَمْ يَقُلْ : عِنْدَ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ ؛ فَذَلِكَ عِنْدِي جَائِزٌ وَلَيْسَ بِمُرْجِئِ وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ؛ وَذَكَرَ الشالنجي أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ يَطْلُبُهَا بِجُهْدِهِ أَيْ يَطْلُبُ الذَّنْبَ بِجُهْدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ ؛ هَلْ يَكُونُ مُصِرًّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ ؟ قَالَ : هُوَ مُصِرٌّ مِثْلَ قَوْلِهِ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ : { وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا

يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فَقُلْت لَهُ : مَا هَذَا الْكُفْرُ ؟ قَالَ : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ ؛ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ يَكُونُ نَاقِصًا مِنْ إيمَانِهِ . قَالَ الشالنجي : وَسَأَلْت أَحْمَد عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ . فَقَالَ : الْإِيمَانُ قَوْل وَعَمَلٌ ؛ وَالْإِسْلَامُ : إقْرَارٌ قَالَ : وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : لَا يَكُونُ إسْلَامٌ إلَّا بِإِيمَانِ وَلَا إيمَانٌ إلَّا بِإِسْلَامِ ؛ وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ فَقَالَ : قَدْ قَبِلْت الْإِيمَانَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ ؛ وَإِذَا قَالَ : قَدْ قَبِلْت الْإِسْلَامَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي : وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَقَالَ : مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ أَوْ مِثْلَهُنَّ أَوْ فَوْقَهُنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا وَمَنْ أَتَى دُونَ ذَلِكَ يُرِيدُ دُونَ الْكَبَائِرِ أُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ . قُلْت : أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ كَانَ يَقُولُ تَارَةً بِهَذَا الْفَرْقِ وَتَارَةً كَانَ يَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ وَيَتَوَقَّفُ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي " السُّنَّةِ " سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَعِيبُهُ أَيْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعِيبُهُ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا كَانَ يَقُولُ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ

وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَاسْتَثْنَى مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَى الشَّكِّ ؛ إنَّمَا يُسْتَثْنَى لِلْعَمَلِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } أَيْ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ بِغَيْرِ شَكٍّ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ : { وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } أَيْ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي هَذَا وَقَدْ اسْتَثْنَاهُ وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَعَلَيْهَا نُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ } يَعْنِي مِنْ الْقَبْرِ وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ } قَالَ : هَذَا كُلُّهُ تَقْوِيَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : وَكَأَنَّك لَا تَرَى بَأْسًا أَنْ لَا يُسْتَثْنَى . فَقَالَ : إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ فَهُوَ أَسْهَلُ عِنْدِي ؛ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ قَوْمًا تَضْعُفُ قُلُوبُهُمْ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ كَالتَّعَجُّبِ مِنْهُمْ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ : شَبَّابَةُ أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ فِيهِ ؟ : فَقَالَ : شَبَّابَةُ كَانَ يَدَّعِي الْإِرْجَاءَ قَالَ : وَحُكِيَ عَنْ شَبَّابَةَ قَوْلٌ أَخْبَثُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَا سَمِعْت عَنْ أَحَدٍ بِمِثْلِهِ ؛ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ شَبَّابَةُ : إذَا قَالَ : فَقَدْ عَمِلَ بِلِسَانِهِ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا قَالَ فَقَدْ عَمِلَ بِجَارِحَتِهِ أَيْ بِلِسَانِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ ؛ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ مَا سَمِعْت أَحَدًا يَقُولُ بِهِ وَلَا بَلَغَنِي قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : كُنْت كَتَبْت عَنْ شَبَّابَةَ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ كُنْت كَتَبْت عَنْهُ قَدِيمًا يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ يَقُولُ بِهَذَا قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : كَتَبْت عَنْهُ بَعْدُ ؟ قَالَ : لَا وَلَا حَرْفًا . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : يَزْعُمُونَ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يَذْهَبُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ . فَقَالَ : هَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الْمَعْرُوفُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَنْ يَرْوِيهِ عَنْ

سُفْيَانَ فَقَالَ كُلُّ مَنْ حَكَى عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذَا حِكَايَةً كَانَ يَسْتَثْنِي قَالَ وَقَالَ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ : النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ ؟ وَلَا نَدْرِي مَا هُمْ عِنْدَ اللَّهِ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَأَنْتَ بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ؟ . فَقَالَ : نَحْنُ نَذْهَبُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَأَمَّا إذَا قَالَ : أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يُسْتَثْنَى ؟ فَقَالَ : نَعَمْ لَا يُسْتَثْنَى إذَا قَالَ : أَنَا مُسْلِمٌ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَقُولُ : هَذَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ : فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : حَدَّثْنَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَنَقُولُ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ فَقَالَ : حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَذَكَرَ قَوْلَهُ { أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا } فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عِيسَى الْأَحْمَرُ وَقَوْلُهُ فِي الْإِرْجَاءِ فَقَالَ : نَعَمْ وَذَلِكَ خَبِيثُ الْقَوْلِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ : كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ : مُسْلِمٌ . وَيَهَابَانِ : مُؤْمِنٌ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رَوَاهُ غَيْرُ سويد ؟ قَالَ : مَا عَلِمْت بِذَلِكَ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى { أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } قَالَ : لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ : إنَّهَا مُؤْمِنَةٌ يَقُولُونَ أَعْتِقْهَا . قَالَ : وَمَالِكٌ سَمِعَهُ مِنْ هَذَا الشَّيْخِ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ لَا يَقُولُ { فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ }

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَهِيَ حِينَ تُقِرُّ بِذَاكَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ هَذَا مَعْنَاهُ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ : قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ - زَعَمُوا - يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ قِيلَ لَهُ : مَنْ الْمُرْجِئَةُ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ . قُلْت : فَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يُرِدْ قَطُّ أَنَّهُ سَلَبَ جَمِيعَ الْإِيمَانِ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : بِأَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَهُ وَلَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ الَّذِينَ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَكِنْ إذَا كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الِاسْمِ الْمُطْلَقِ الْمَمْدُوحِ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَفَى الِاسْمَ عَنْ هَؤُلَاءِ فَقَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَقَالَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } وَقَالَ : { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ مَرَّاتٍ وَقَالَ : { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } .
وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " يَنْفُونَ عَنْهُ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْمَ الْإِسْلَامِ أَيْضًا وَيَقُولُونَ : لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَيَقُولُونَ : نُنْزِلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ فَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ

وَإِلَّا لَوْ نَفَوْا مُطْلَقَ الِاسْمِ وَأَثْبَتُوا مَعَهُ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ النَّارِ لَمْ يَكُونُوا مُبْتَدِعَةً وَكُلُّ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلِبَ كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَزَالَ بَعْضُ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ لَكِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ لَا يَتَبَعَّضُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ فَيَقُولُونَ : إنَّهُ كَامِلُ الْإِيمَانِ فَاَلَّذِي يَنْفِي إطْلَاقَ الِاسْمِ يَقُولُ : الِاسْمُ الْمُطْلَقُ مَقْرُونٌ بِالْمَدْحِ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ كَقَوْلِنَا : مُتَّقٍ وَبَرٌّ وَعَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِذَا كَانَ الْفَاسِقُ لَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَأَمَّا دُخُولُهُ فِي الْخِطَابِ فَلِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كُلُّ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَهُمْ فَمَعَاصِيهِمْ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْأَمْرُ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي الْإِسْلَامِ فَاتَّبَعَ فِيهِ الزُّهْرِيَّ حَيْثُ قَالَ : فَكَانُوا يَرَوْنَ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةَ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَلِمَةُ بِتَوَابِعِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ } وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَلِمَةُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إسْلَامُ الْأَعْرَابِ كَانَ مِنْ هَذَا فَيُقَالُ . الْأَعْرَابُ وَغَيْرُهُمْ كَانُوا إذَا أَسْلَمُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُلْزِمُوا بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ : الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُتْرَكُ بِمُجَرَّدِ الْكَلِمَةِ بَلْ كَانَ مِنْ أَظْهَرِ الْمَعْصِيَةَ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا .

وَأَحْمَد إنْ كَانَ أَرَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الشَّهَادَتَانِ فَقَطْ فَكُلُّ مَنْ قَالَهَا فَهُوَ مُسْلِمٌ فَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى : لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهَا وَيُصَلِّيَ فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ كَانَ كَافِرًا . وَ " الثَّالِثَةُ " أَنَّهُ كَافِرٌ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ أَيْضًا . وَ " الرَّابِعَةُ " أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا دُونَ مَا إذَا لَمْ يُقَاتِلْهُ وَعَنْهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنَا أُؤَدِّيهَا وَلَا أَدْفَعُهَا إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَكَذَلِكَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ إذَا عَزَمَ أَنَّهُ لَا يَحُجُّ أَبَدًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِكُفْرِ تَارِكِ الْمَبَانِي يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ مُجَرَّدَ الْكَلِمَةِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا أَتَى بِالْكَلِمَةِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ بِالْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَلَا يُسْتَثْنَى فِي هَذَا الْإِسْلَامُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَشْهُورٌ لَكِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ أَدَاءُ الْخَمْسِ كَمَا أُمِرَ بِهِ يَقْبَلُ الِاسْتِثْنَاءَ فَالْإِسْلَامُ الَّذِي لَا يُسْتَثْنَى فِيهِ الشَّهَادَتَانِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهَا .
وَقَدْ صَارَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " : قِيلَ : هُوَ الْإِيمَانُ وَهُمَا اسْمَانِ لِمُسَمَّى وَاحِدٍ . وَقِيلَ : هُوَ الْكَلِمَةُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لَهُمَا وَجْهٌ سَنَذْكُرُهُ لَكِنَّ التَّحْقِيقَ ابْتِدَاءً هُوَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَفَسَّرَ الْإِسْلَامَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْإِيمَانَ بِالْإِيمَانِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَةِ فَلَيْسَ لَنَا إذَا جَمَعْنَا بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ أَنْ نُجِيبَ بِغَيْرِ مَا أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا إذَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ ؛ وَإِذَا أُفْرِدَ الْإِسْلَامُ ؛ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْإِسْلَامِ مُؤْمِنًا بِلَا نِزَاعٍ ؛ وَهَذَا

هُوَ الْوَاجِبُ ؛ وَهَلْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَا يُقَالُ لَهُ : مُؤْمِنٌ ؟ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ . وَكَذَلِكَ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ لِلْإِيمَانِ ؟ هَذَا فِيهِ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ وَسَنُبَيِّنُهُ وَالْوَعْدُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ بِالْجَنَّةِ وَبِالنَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ إنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَأَمَّا اسْمُ الْإِسْلَامِ مُجَرَّدًا فَمَا عَلَّقَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَكِنَّهُ فَرَضَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ . وَبِالْإِسْلَامِ بَعَثَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وَقَالَ نُوحٌ : { يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ } { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِنْ الْعَذَابِ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ : { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ } وَقَالَ : { وَأُوحِيَ إلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ } وَقَالَ نُوحٌ : { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا } . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ دِينَهُ الْإِسْلَامُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

وَقَالَ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَبِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ عَلَّقَ السَّعَادَةَ فَقَالَ : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } كَمَا عَلَّقَهُ بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ مَعَ الْإِحْسَانِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هُوَ وَالْإِيمَانُ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ الْوَعْدَ عَلَى الْوَصْفَيْنِ وَعْدٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الثَّوَابُ وَانْتِفَاءُ الْعِقَابِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ عِلَّةٌ تَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَا يَخَافُهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } لَمْ يَقُلْ : لَا يَخَافُونَ فَهُمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ وَنَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَحْزَنُوا لِأَنَّ الْحُزْنَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَاضٍ فَهُمْ لَا يَحْزَنُونَ بِحَالِ لَا فِي الْقَبْرِ وَلَا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بِخِلَافِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } . وَأَمَّا " الْإِسْلَامُ الْمُطْلَقُ الْمُجَرَّدُ " فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعْلِيقُ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِهِ كَمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعْلِيقُ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ الْمُجَرَّدِ كَقَوْلِهِ : { سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ

وَرُسُلِهِ } وَقَالَ : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } . وَقَدْ وَصَفَ الْخَلِيلَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ بِالْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } وَوَصَفَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } وَوَصَفَهُ بِأَعْلَى طَبَقَاتِ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْبَرِيَّةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْخَلِيلُ إنَّمَا دَعَا بِالرِّزْقِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فَقَالَ : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَقَالَ : { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } بَعْدَ قَوْلِهِ : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } وَقَالَ : { وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَدْ ذَكَرْنَا الْبُشْرَى الْمُطْلَقَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ السَّحَرَةَ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مَعًا فَقَالُوا : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } وَقَالُوا : { وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا } وَقَالُوا : { إنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالُوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } . وَوَصَفَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِالْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا

النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } وَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ . وَوَصَفَ الْحَوَارِيِّينَ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } و { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .
وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ . وَ " الدِّينُ " مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ دِينًا : إذَا خَضَعَ وَذَلَّ وَ " دِينُ الْإِسْلَامِ " الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ فَأَصْلُهُ فِي الْقَلْبِ هُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ . فَمَنْ عَبَدَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَالْإِسْلَامُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَهُوَ الْخُضُوعُ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةُ لَهُ هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : أَسْلَمَ الرَّجُلُ إذَا اسْتَسْلَمَ ؛ فَالْإِسْلَامُ فِي الْأَصْلِ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ . وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَأَصْلُهُ تَصْدِيقٌ وَإِقْرَارٌ وَمَعْرِفَةٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْقَلْبِ الْمُتَضَمِّنِ عَمَلَ الْقَلْبِ ؛ وَالْأَصْلُ فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لَهُ فَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْإِيمَانَ " بِإِيمَانِ الْقَلْبِ وَبِخُضُوعِهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَفَسَّرَ " الْإِسْلَامَ " بِاسْتِسْلَامِ مَخْصُوصٍ هُوَ الْمَبَانِي الْخَمْسُ . وَهَكَذَا فِي سَائِرِ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسَّرُ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ النَّوْعِ وَيُفَسَّرُ الْإِسْلَامُ بِهَذَا وَذَلِكَ النَّوْعُ أَعْلَى . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } فَإِنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ يَرَاهَا النَّاسُ وَأَمَّا

مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ وَمَعْرِفَةٍ وَحُبٍّ وَخَشْيَةٍ وَرَجَاءٍ فَهَذَا بَاطِنٌ ؛ لَكِنْ لَهُ لَوَازِمُ قَدْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَاللَّازِمُ لَا يَدُلُّ إلَّا إذَا كَانَ مَلْزُومًا فَلِهَذَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ فَلَا يَدُلُّ . . . (1) فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي هُرَيْرَةَ جَمِيعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } فَفَسَّرَ الْمُسْلِمَ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ وَهُوَ سَلَامَةُ النَّاسِ مِنْهُ وَفَسَّرَ الْمُؤْمِنَ بِأَمْرِ بَاطِنٍ وَهُوَ أَنْ يَأْمَنُوهُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَعْلَى مِنْ تِلْكَ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَأْمُونًا سَلِمَ النَّاسُ مِنْهُ ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ سَلِمُوا مِنْهُ يَكُونُ مَأْمُونًا فَقَدْ يَتْرُكُ أَذَاهُمْ وَهُمْ لَا يَأْمَنُونَ إلَيْهِ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ أَذَاهُمْ لِرَغْبَةِ وَرَهْبَةٍ ؛ لَا لِإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ . وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عبسة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ إطْعَامُ الطَّعَامِ . وَلِينُ الْكَلَامِ قَالَ : فَمَا الْإِيمَانُ قَالَ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ } فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ عَمَلٌ ظَاهِرٌ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ لِمَقَاصِدَ مُتَعَدِّدَةٍ وَكَذَلِكَ لِينُ الْكَلَامِ وَأَمَّا السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ فَخُلُقَانِ فِي النَّفْسِ . قَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } وَهَذَا أَعْلَى مِنْ ذَاكَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَبَّارًا شَكُورًا فِيهِ سَمَاحَةٌ بِالرَّحْمَةِ لِلْإِنْسَانِ وَصَبْرٌ عَلَى الْمَكَارِهِ وَهَذَا ضِدُّ الَّذِي خُلِقَ هَلُوعًا إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ؛ فَإِنَّ ذَاكَ لَيْسَ فِيهِ سَمَاحَةٌ عِنْدَ النِّعْمَةِ وَلَا صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ .

وَتَمَامُ الْحَدِيثِ : { فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إيمَانًا ؟ قَالَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ ؟ قَالَ مَنْ أُرِيقَ دَمُهُ وَعَقَرَ جَوَادَهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ الَّذِينَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ جُهْدُ الْمُقِلِّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ طُولُ الْقُنُوتِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ } وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ تَارَةً يُرْوَى مُرْسَلًا وَتَارَةً يُرْوَى مُسْنَدًا وَفِي رِوَايَةٍ : { أَيُّ السَّاعَاتِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ جَوْفُ اللَّيْلِ الْغَابِرِ } وَقَوْلُهُ : { أَفْضَلُ الْإِيمَانِ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ } يُرْوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ إنَّمَا يُفَسَّرُ الْإِسْلَامُ بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ بِالْقَلْبِ مَعَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد { عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَتَيْتُك حَتَّى حَلَفْت عَدَدَ أَصَابِعِي هَذِهِ أَنْ لَا آتِيَك فَبِاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا بَعَثَك بِهِ ؟ قَالَ : الْإِسْلَامُ . قَالَ : وَمَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لِلَّهِ وَأَنْ تُوَجِّهَ وَجْهَك إلَى اللَّهِ وَأَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ أَخَوَانِ نَصِيرَانِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ أَشْرَكَ بَعْدَ إسْلَامِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ { أَنْ تَقُولَ : أَسْلَمْت وَجْهِي لِلَّهِ وَتَخَلَّيْت وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَكُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ مُحَرَّمٌ } وَفِي لَفْظٍ تَقُولُ { أَسْلَمْت نَفَسِي لِلَّهِ وَخَلَّيْت وَجْهِي إلَيْهِ } وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ

بْنِ معدان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا . وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتُسَلِّمَ عَلَى بَنِي آدَمَ إذْ لَقِيتهمْ فَإِنْ رَدُّوا عَلَيْك رَدَّتْ عَلَيْك وَعَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ وَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْك رَدَّتْ عَلَيْك الْمَلَائِكَةُ وَلَعَنَتْهُمْ إنْ سَكَتَ عَنْهُمْ وَتَسْلِيمُك عَلَى أَهْلِ بَيْتِك إذَا دَخَلْت عَلَيْهِمْ فَمَنْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ وَمَنْ تَرَكَهُنَّ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } قَالَ مُجَاهِدٌ : وقتادة : نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّخُولِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ مَنْ قَالَ : نَزَلَتْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ فِيمَنْ لَمْ يُسْلِمْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ مَأْمُورُونَ أَيْضًا بِذَلِكَ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : { فِي السِّلْمِ } أَيْ فِي الْإِسْلَامِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ الطَّاعَةُ وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الطَّاعَةُ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَعْمَالِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { كَافَّةً } فَقَدْ قِيلَ : الْمُرَادُ اُدْخُلُوا كُلُّكُمْ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ اُدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْمَرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ : { ادْخُلُوا } خِطَابٌ لَهُمْ كُلِّهِمْ فَقَوْلُهُ { كَافَّةً } إنْ أُرِيدَ بِهِ مُجْتَمِعِينَ لَزِمَ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْإِسْلَامَ حَتَّى يُسْلِمَ غَيْرُهُ فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ مَأْمُورًا بِهِ إلَّا بِشَرْطِ مُوَافَقَةِ الْغَيْرِ لَهُ كَالْجُمُعَةِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِ " { كَافَّةً } " : أَيْ اُدْخُلُوا جَمِيعُكُمْ فَكُلُّ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ

وَآتُوا الزَّكَاةَ } كُلُّهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمَا قِيلَ فِيهَا كَافَّةً وقَوْله تَعَالَى { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } أَيْ قَاتِلُوهُمْ كُلَّهُمْ لَا تَدَعُوا مُشْرِكًا حَتَّى تُقَاتِلُوهُ فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ بَعْدَ نَبْذِ الْعُهُودِ لَيْسَ الْمُرَادُ : قَاتِلُوهُمْ مُجْتَمِعِينَ أَوْ جَمِيعُكُمْ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجِبُ بَلْ يُقَاتِلُونَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَإِذَا كَانَتْ فَرَائِضُ الْأَعْيَانِ لَمْ يُؤَكِّدْ الْمَأْمُورِينَ فِيهَا بِ " { كَافَّةً } " فَكَيْفَ يُؤَكِّدُ بِذَلِكَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَعْمِيمُ الْمُقَاتِلِينَ . وَقَوْلُهُ : { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } فِيهِ احْتِمَالَانِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيعِ الْإِسْلَامِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَجَبَ الدُّخُولُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ اُعْتُقِدَ وُجُوبُهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ إذَا تَعَيَّنَ أَوْ أَخَذَ بِالْفَضْلِ فَفَعَلَهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا اعْتَقَدَ حُسْنَهُ وَأَحَبَّ فِعْلَهُ وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْ لِي الْإِسْلَامَ . قَالَ : تَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَتُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ قَالَ : أَقْرَرْت ؛ } فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ فِيهَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَخَاقِيقِ جُرْذَانَ وَأَنَّهُ قُتِلَ وَكَانَ جَائِعًا وَمَلَكَانِ يَدُسَّانِ فِي شِدْقِهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ . فَقَوْلُهُ : { وَتُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } . هُوَ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِذَلِكَ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : حَدِيثُ { الْوَفْدِ الَّذِينَ قَالُوا : نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ قَالَ : فَمَا عَلَامَةُ إيمَانِكُمْ ؟ قَالُوا : خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً : خَمْسٌ أَمَرَتْنَا رُسُلُك أَنْ نَعْمَلَ بِهِنَّ وَخَمْسٌ أَمَرَتْنَا رُسُلُك أَنْ

نُؤْمِنَ بِهِنَّ وَخَمْسٌ تَخَلَّقْنَا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْنُ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ تَكْرَهَ مِنْهَا شَيْئًا . قَالَ : فَمَا الْخَمْسُ الَّتِي أَمَرَتْكُمْ رُسُلِي أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا ؟ قَالُوا : أَنْ نَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَنُقِيمَ الصَّلَاةَ وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَنَصُومَ رَمَضَانَ وَنَحُجَّ الْبَيْتَ . قَالَ : وَمَا الْخَمْسُ الَّتِي أَمَرَتْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهَا ؟ قَالُوا أَمَرَتْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ : وَمَا الْخَمْسُ الَّتِي تَخَلَّقْتُمْ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَثَبَتُّمْ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ ؟ قَالُوا : الصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَالشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَى بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَالصِّدْقُ فِي مَوَاطِنِ اللِّقَاءِ وَتَرْكُ الشَّمَاتَةِ بِالْأَعْدَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَادُوا مِنْ صِدْقِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَزِيدُكُمْ خَمْسًا فَتَتِمُّ لَكُمْ عِشْرُونَ خَصْلَةً : إنْ كُنْتُمْ كَمَا تَقُولُونَ فَلَا تَجْمَعُوا مَا لَا تَأْكُلُونَ وَلَا تَبْنُوا مَا لَا تَسْكُنُونَ وَلَا تُنَافِسُوا فِي شَيْءٍ أَنْتُمْ عَنْهُ غَدًا تَزُولُونَ وَعَنْهُ مُنْتَقِلُونَ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَعَلَيْهِ تُعْرَضُونَ وَارْغَبُوا فِيمَا عَلَيْهِ تَقْدُمُونَ وَفِيهِ تُخَلَّدُونَ } . فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْخَمْسِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا فَجَعَلُوهَا الْإِسْلَامَ ؛ وَالْخَمْسِ الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا فَجَعَلُوهَا الْإِيمَانَ ؛ وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة { عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : أَسْلِمْ تَسْلَمْ قَالَ :

وَمَا الْإِسْلَامُ قَالَ : أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لِلَّهِ وَيَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِك وَيَدِك قَالَ : فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ قَالَ : وَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ : فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْهِجْرَةُ قَالَ : وَمَا الْهِجْرَةُ ؟ قَالَ : أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ قَالَ : فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ قَالَ : وَمَا الْجِهَادُ ؟ قَالَ : أَنْ تُجَاهِدَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتهمْ وَلَا تَغُلَّ وَلَا تَجْبُنْ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا قَالَهَا ثَلَاثًا : حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ : أَوْ عُمْرَةٌ } وَقَوْلُهُ : { هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ } أَيْ بَعْدَ الْجِهَادِ ؛ لِقَوْلِهِ : { ثُمَّ عَمَلَانِ } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَعَلَ الْإِيمَانَ خُصُوصًا فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامَ أَعَمَّ مِنْهُ كَمَا جَعَلَ الْهِجْرَةَ خُصُوصًا فِي الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانَ أَعَمَّ مِنْهَا وَجَعَلَ الْجِهَادَ خُصُوصًا مِنْ الْهِجْرَةِ وَالْهِجْرَةَ أَعَمَّ مِنْهُ . فَالْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَهَذَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين وَلَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ مَعَ إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَيْنَا إلَّا بِمَا أَمَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ لَا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ فَإِنَّ ضِدَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ فِي الْإِسْلَامِ . فَمَنْ قَالَ : الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَأَرَادَ هَذَا فَقَدَ صَدَقَ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ كَالْمَبَانِي الْخَمْسِ وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا نَقَصَ إسْلَامُهُ

بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ مِنْ الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ } . وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ إذَا عَمِلَهَا الْإِنْسَانُ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُثِيبُهُ عَلَيْهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ إقْرَارِهِ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ هَذَا الْإِقْرَارُ وَهَذَا الْإِقْرَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَعَهُ مِنْ الْيَقِينِ مَا لَا يَقْبَلُ الرَّيْبَ وَلَا أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدًا وَلَا سَائِرَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ عَنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَعَهُمْ هَذَا الْإِسْلَامُ بِلَوَازِمِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَصِلُوا إلَى الْيَقِينِ وَالْجِهَادِ فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى إسْلَامِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِالرَّسُولِ مُجْمَلًا وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَ بِكِتَابٍ وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَهُ مَلَكٌ وَلَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِكَذَا وَإِذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ الْإِقْرَارُ الْمُفَصَّلُ بِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ . ثُمَّ الْإِيمَانُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَفِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَيَقِينٌ فَهَذَا مُتَمَيِّزٌ بِصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَتَفْصِيلِ الْمُعَادِ وَالْقَدَرِ مَا لَا يَعْرِفُهُ هَؤُلَاءِ . وَأَيْضًا فَفِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ وَلُزُومِ التَّصْدِيقِ لِقُلُوبِهِمْ مَا لَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الْأَعْمَالَ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا هَذَا الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ لِأَنَّ

الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَالْعَمَلَ لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْإِيمَانِ الْخَاصِّ وَهَذَا الْفَرْقُ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَعْرِفُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَعَامَّةُ النَّاسِ إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ كُفْرٍ أَوْ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُمْ مُسْلِمُونَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ مُجْمَلٌ وَلَكِنَّ دُخُولَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إلَى قُلُوبِهِمْ إنَّمَا يَحْصُلُ شَيْئًا فَشَيْئًا إنْ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَصِلُونَ لَا إلَى الْيَقِينِ وَلَا إلَى الْجِهَادِ وَلَوْ شُكِّكُوا لَشَكُّوا وَلَوْ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ لَمَا جَاهَدُوا وَلَيْسُوا كُفَّارًا وَلَا مُنَافِقِينَ بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ مَا يَدْرَأُ الرَّيْبَ وَلَا عِنْدَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْحُبِّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مَا يُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَهَؤُلَاءِ إنْ عَرَفُوا مِنْ الْمِحْنَةِ وَمَاتُوا دَخَلُوا الْجَنَّةَ . وَإِنْ اُبْتُلُوا بِمَنْ يُورِدُ عَلَيْهِمْ شُبُهَاتٍ تُوجِبُ رَيْبَهُمْ فَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يُزِيلُ الرَّيْبَ وَإِلَّا صَارُوا مُرْتَابِينَ وَانْتَقَلُوا إلَى نَوْعٍ مِنْ النِّفَاقِ . وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ الْجِهَادُ وَلَمْ يُجَاهِدُوا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا فَلَمَّا جَاءَتْ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ نَافَقَ مَنْ نَافَقَ . فَلَوْ مَاتَ هَؤُلَاءِ قَبْلَ الِامْتِحَانِ لَمَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُبْتُلُوا فَظَهَرَ صِدْقُهُمْ . قَالَ تَعَالَى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } وَقَالَ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ

خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } - إلَى قَوْلِهِ - { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ : قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ . وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ : إنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ بِلِسَانِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ أَوَّلًا بِقُلُوبِهِمْ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ مَعَ كُفْرِ الْقَلْبِ قَدْ قَارَنَهُ الْكُفْرُ فَلَا يُقَالُ : قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا كَافِرِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّكُمْ أَظْهَرْتُمْ الْكُفْرَ بَعْدَ إظْهَارِكُمْ الْإِيمَانَ فَهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا لِلنَّاسِ إلَّا لِخَوَاصِّهِمْ وَهُمْ مَعَ خَوَاصِّهِمْ مَا زَالُوا هَكَذَا ؛ بَلْ لَمَّا نَافَقُوا وَحَذِرُوا أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تُبَيِّنُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ وَتَكَلَّمُوا بِالِاسْتِهْزَاءِ صَارُوا كَافِرِينَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّهُمْ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } فَهُنَا قَالَ : { وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ } . فَهَذَا الْإِسْلَامُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْأَعْرَابِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ : { بَعْدَ

إِيمَانُكُمْ } وَبَعْدَ إسْلَامِهِمْ سَوَاءً وَقَدْ يَكُونُونَ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالٌ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَالرِّدَّةَ . وَلِهَذَا دَعَاهُمْ إلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ : { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا } بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنْ التَّوْبَةِ { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَهَذَا إنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ فَيُجَاهِدُهُ الرَّسُولُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ . وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِهَا : { وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } . وَهَؤُلَاءِ الصِّنْفُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ غَيْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ حَلَفُوا بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلُوا إلَى مَقْصُودِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : هَمُّوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا لَكِنْ { بِمَا لَمْ يَنَالُوا } فَصَدَرَ مِنْهُمْ قَوْلٌ وَفِعْلٌ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } فَاعْتَرَفُوا وَاعْتَذَرُوا ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَدْ أَتَوْا كُفْرًا بَلْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرِ فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ إيمَانٌ ضَعِيفٌ فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَظُنُّوهُ كُفْرًا وَكَانَ كُفْرًا كَفَرُوا بِهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا جَوَازَهُ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ

فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُمْ أَبْصَرُوا ثُمَّ عَمُوا وَعَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا وَآمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا . وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَمُجَاهِدٌ : ضَرَبَ الْمَثَلَ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَسَمَاعِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَذَهَابِ نُورِهِمْ قَالَ : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ } { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِالنُّورِ مَا حَصَلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِذَا مَاتُوا سُلِبُوا ذَلِكَ الضَّوْءَ كَمَا سُلِبَ صَاحِبُ النَّارِ ضَوْءُهُ ؛ فَلَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ } { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } . وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِي الْعَذَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةَ وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الْمُنَافِقَ يُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا ثُمَّ يُطْفَأُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا } . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إذَا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ نُورَ الْمُنَافِقِينَ يُطْفَأُ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُتِمَّ لَهُمْ نُورَهُمْ وَيُبَلِّغَهُمْ بِهِ الْجَنَّةَ .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُطْفَأُ نُورُهُ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُشْفِقُ مِمَّا رَأَى مِنْ إطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِقِ فَهُوَ يَقُولُ : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } وَهُوَ كَمَا قَالَ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ - وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ أَطْوَلُهَا - وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ أَنَّهُ { يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ : لِتَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ؛ فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك وَهَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ : فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ : { هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أَذِنَ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ نِفَاقًا وَرِيَاءً إلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ . فَتَبْقَى ظُهُورُهُمْ مِثْلَ صَيَاصِيِ الْبَقَرِ فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ فَإِذَا نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ وَيُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ فَيَقُولُونَ ذَرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } . فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُحْشَرُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ هَؤُلَاءِ يَسْجُدُونَ لِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ السُّجُودِ

فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا فِي الدُّنْيَا لَهُ بَلْ قَصَدُوا الرِّيَاءَ لِلنَّاسِ وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا فَلِهَذَا أُعْطُوا نُورًا ثُمَّ طفئ لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ . وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ الْمَثَلَ بِذَلِكَ . وَهَذَا الْمَثَلُ هُوَ لِمَنْ كَانَ فِيهِمْ آمِنٌ ثُمَّ كَفَرَ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ فِي الْآخِرَةِ نُورًا ثُمَّ يُطْفَأُ . وَلِهَذَا قَالَ : { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } إلَى الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ وَقَالَ قتادة وَمُقَاتِلٌ : لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ وَقَالَ السدي : لَا يَرْجِعُونَ إلَى الْإِسْلَامِ يَعْنِي فِي الْبَاطِنِ وَإِلَّا فَهُمْ يُظْهِرُونَهُ وَهَذَا الْمَثَلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِبَعْضِهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا . وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا مُنَافِقِينَ فَضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ الْآخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا هَلْ الْمَثَلَانِ مَضْرُوبَانِ لَهُمْ كُلِّهِمْ أَوْ هَذَا الْمَثَلُ لِبَعْضِهِمْ ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " . وَ " الثَّانِي " هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ قَالَ : { أَوْ كَصَيِّبٍ } وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مَثَلُهُمْ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَثَلَيْنِ بَلْ بَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَبَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُشْبِهُونَ الْمَثَلَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ ( أَوْ بَلْ يَذْكُرْ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : ( أَوْ هَاهُنَا لِلتَّخْيِيرِ - كَقَوْلِهِمْ : جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِين - لَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالطَّلَبَ لَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِتَشْكِيكِ الْمُخَاطَبِينَ

أَوْ الْإِبْهَامِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِشَيْءِ فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِالْأَمْثَالِ الْبَيَانَ وَالتَّفْهِيمَ لَا يُرِيدُ التَّشْكِيكَ وَالْإِبْهَامَ . وَالْمَقْصُودُ تَفْهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَالَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي " الْمَثَلِ الْأَوَّلِ " : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } وَقَالَ فِي " الثَّانِي " : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فَبَيَّنَ فِي " الْمَثَلِ الثَّانِي " أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } وَفِي " الْأَوَّلِ " كَانُوا يُبْصِرُونَ ثُمَّ صَارُوا { فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ } { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } . وَفِي " الثَّانِي " { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ } الْبَرْقُ { مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } فَلَهُمْ " حَالَانِ " : حَالُ ضِيَاءٍ وَحَالُ ظَلَامٍ وَالْأَوَّلُونَ بَقُوا فِي الظُّلْمَةِ . فَالْأَوَّلُ حَالُ مَنْ كَانَ فِي ضَوْءٍ فَصَارَ فِي ظُلْمَةٍ وَالثَّانِي حَالُ مَنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا فِي ضَوْءٍ وَلَا فِي ظُلْمَةٍ بَلْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجِبُ مَقَامَهُ وَاسْتِرَابَتَهُ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ضَرَبَ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا مَثَلَيْنِ بِحَرْفِ ( أَوْ فَقَالَ : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } " فَالْأَوَّلُ "

مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي يَحْسِبُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ؛ فَلِهَذَا مَثَّلَ بِسَرَابِ بِقِيعَةِ وَ " الثَّانِي " مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ صَاحِبُهُ شَيْئًا بَلْ هُوَ فِي { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } مِنْ عِظَمِ جَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اعْتِقَادٌ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ جَاهِلًا ضَالًّا فِي ظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ . وَ " أَيْضًا " فَقَدْ يَكُونُ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ تَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ فَيَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْمَثَلَيْنِ لِتَنَوُّعِ الْأَشْخَاصِ وَلِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ مَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ هُوَ مُمَاثِلٌ لِمَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ لِاخْتِلَافِ الْمَثَلَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِهَذَا لَمْ يُضْرَبْ لِلْإِيمَانِ إلَّا مَثَلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَضُرِبَ مَثَلُهُ بِالنُّورِ وَأُولَئِكَ ضُرِبَ لَهُمْ الْمَثَلُ بِضَوْءِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . كَالسَّرَابِ بِالْقِيعَةِ أَوْ بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَةِ وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِمَنْ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ أَوْ هُوَ مُضْطَرِبٌ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ بَاطِنًا وَهَذَا مِمَّا اسْتَفَاضَ بِهِ النَّقْلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ قَدْ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا وَكَانَ يَجْرِي ذَلِكَ لِأَسْبَابِ :
مِنْهَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ لَمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِيمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ طَائِفَةٌ وَكَانَتْ مِحْنَةً امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ }

قَالَ : أَيْ إذَا حُوِّلَتْ ؛ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَ فِي عِلْمِنَا أَنْ نَجْعَلَهَا قِبْلَتَكُمْ ؛ فَإِنَّ الْكَعْبَةَ وَمَسْجِدَهَا وَحَرَمَهَا أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ وَقِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ قَطُّ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا غَيْرَهُمَا ؛ فَلَمْ نَكُنْ لِنَجْعَلَهَا لَك قِبْلَةً دَائِمَةً وَلَكِنْ جَعَلْنَاهَا أَوَّلًا قِبْلَةً لِنَمْتَحِنَ بِتَحْوِيلِك عَنْهَا النَّاسَ فَيَتَبَيَّنُ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ فَكَانَ فِي شَرْعِهَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ ارْتَدَّ طَائِفَةٌ نَافَقُوا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } فَقَوْلُهُ : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا } ظَاهِرٌ فِيمَنْ أَحْدَثَ نِفَاقًا وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلُ وَمَنْ نَافَقَ ثُمَّ جَدَّدَ نِفَاقًا ثَانِيًا . وَقَوْلُهُ : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَقْرَبَ مِنْهُمْ بَلْ إمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لِلْإِيمَانِ أَقْرَبَ وَكَذَلِكَ كَانَ ؛ فَإِنَّ ابْنَ أُبَي لَمَّا

انْخَزَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ . انْخَزَلَ مَعَهُ ثُلُثُ النَّاسِ قِيلَ : كَانُوا نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ كُلُّهُمْ مُنَافِقِينَ فِي الْبَاطِنِ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَاعٍ إلَى النِّفَاقِ . فَإِنَّ ابْنَ أبي كَانَ مُظْهِرًا لِطَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ ؛ وَكَانَ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ يَقُومُ خَطِيبًا فِي الْمَسْجِدِ يَأْمُرُ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ مَا فِي قَلْبِهِ يَظْهَرُ إلَّا لِقَلِيلِ مِنْ النَّاسِ إنْ ظَهَرَ وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي قَوْمِهِ ؛ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيَجْعَلُوهُ مِثْلَ الْمَلِكِ عَلَيْهِمْ ؛ فَلَمَّا جَاءَتْ النُّبُوَّةُ بَطَلَ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ الْحَسَدُ عَلَى النِّفَاقِ وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ دِينٌ يَدْعُو إلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي الْيَهُودِ فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينِهِ وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ حُسْنَهُ وَنُورَهُ مَالَتْ إلَيْهِ الْقُلُوبُ لَا سِيَّمَا لَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَنَصَرَهُ عَلَى يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ صَارَ مَعَهُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا ؛ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ فِي عَامَّةِ الْأَنْصَارِ قَائِمًا وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ ابْنَ أبي تَعْظِيمًا كَثِيرًا وَيُوَالِيهِ وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ أبي أَظْهَرَ مُخَالَفَةً تُوجِبُ الِامْتِيَازَ ؛ فَلَمَّا انْخَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ : يَدَعُ رَأْيِي وَرَأْيَهُ وَيَأْخُذُ بِرَأْيِ الصِّبْيَانِ - أَوْ كَمَا قَالَ - انْخَزَلَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلَ ذَلِكَ .
وَفِي الْجُمْلَةِ : فَفِي الْأَخْبَارِ عَمَّنْ نَافَقَ بَعْدَ إيمَانِهِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ هُنَا ؛ فَأُولَئِكَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَكَانَ مَعَهُمْ إيمَانٌ هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ فَلَوْ مَاتُوا قَبْلَ الْمِحْنَةِ وَالنِّفَاقِ مَاتُوا عَلَى هَذَا الْإِسْلَامِ الَّذِي يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ

الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُمْتُحِنُوا فَثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ حَقًّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِيمَانِ بِالْمِحْنَةِ . وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا اُبْتُلُوا بِالْمِحَنِ الَّتِي يَتَضَعْضَعُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ يَنْقُصُ إيمَانُهُمْ كَثِيرًا وَيُنَافِقُ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الرِّدَّةَ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَالِبًا ؛ وَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى غَيْرُنَا مِنْ هَذَا مَا فِيهِ عِبْرَةٌ . وَإِذَا كَانَتْ الْعَافِيَةُ أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ . وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ إيمَانًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الْمِحْنَةِ . وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي هَؤُلَاءِ تَرْكُ الْفَرَائِضِ وَانْتِهَاكُ الْمَحَارِمِ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا : { آمَنَّا } فَقِيلَ لَهُمْ : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أَيْ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَهْلُهُ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ إذَا أُطْلِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ رَيْبٌ عِنْدَ الْمِحَنِ الَّتِي تُقَلْقِلُ الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ وَالرَّيْبُ يَكُونُ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَفِي عَمَلِ الْقَلْبِ ؛ بِخِلَافِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعِلْمِ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ إلَّا مَنْ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا ؛ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَقِّ ؛ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَوْ الْخَوْفَ أَوْرَثَهُ جَزَعًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ يَقِينٍ . قَالَ تَعَالَى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } .

وَكَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ وَقَدْ يَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ بَعْضُ مَا يُوجِبُ النِّفَاقَ . وَيَدْفَعُهُ اللَّهُ عَنْهُ . وَالْمُؤْمِنُ يُبْتَلَى بِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَبِوَسَاوِسِ الْكُفْرِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا صَدْرُهُ . كَمَا { قَالَتْ الصَّحَابَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَئِنْ يَخِرُّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . فَقَالَ : ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ } أَيْ حُصُولِ هَذَا الْوَسْوَاسِ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ الْعَظِيمَةِ لَهُ وَدَفْعِهِ عَنْ الْقَلْبِ هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْإِيمَانِ ؛ كَالْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاءَهُ الْعَدُوُّ فَدَافَعَهُ حَتَّى غَلَبَهُ ؛ فَهَذَا أَعْظَمُ الْجِهَادِ وَ " الصَّرِيحُ " الْخَالِصُ كَاللَّبَنِ الصَّرِيحِ . وَإِنَّمَا صَارَ صَرِيحًا لَمَّا كَرِهُوا تِلْكَ الْوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةَ وَدَفَعُوهَا فَخَلَصَ الْإِيمَانُ فَصَارَ صَرِيحًا . وَلَا بُدَّ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الْوَسَاوِسِ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيبُهَا فَيَصِيرُ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ غَمَرَ قَلْبَهُ الشَّهَوَاتُ وَالذُّنُوبُ فَلَا يُحِسُّ بِهَا إلَّا إذَا طَلَبَ الدِّينَ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُنَافِقًا ؛ وَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنْ الْوَسَاوِسِ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَعْرِضُ لَهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكْثُرُ تَعَرُّضُهُ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَ الْإِنَابَةَ إلَى رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبَ إلَيْهِ وَالِاتِّصَالَ بِهِ ؛ فَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّينَ مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ وَيَعْرِضُ لِخَاصَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْعَامَّةِ وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ شَرْعَ اللَّهِ وَمِنْهَاجَهُ ؛ بَلْ هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى هَوَاهُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ . وَهَذَا مَطْلُوبُ الشَّيْطَانِ بِخِلَافِ الْمُتَوَجِّهِينَ إلَى رَبِّهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ

فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمْ يَطْلُبُ صَدَّهُمْ عَنْ اللَّهِ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } وَلِهَذَا أَمَرَ قَارِئَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ تُورِثُ الْقَلْبَ الْإِيمَانَ الْعَظِيمَ وَتَزِيدُهُ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً وَشِفَاءً . وَقَالَ تَعَالَى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا } وَقَالَ تَعَالَى : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } . وَهَذَا مِمَّا يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ؛ فَالشَّيْطَانُ يُرِيدُ بِوَسَاوِسِهِ أَنْ يَشْغَلَ الْقَلْبَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } فَإِنَّ الْمُسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ لَاجِئٌ إلَيْهِ مُسْتَغِيثٌ بِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ؛ فَالْعَائِذُ بِغَيْرِهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ ؛ فَإِذَا عَاذَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ كَانَ مُسْتَجِيرًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ فَيُعِيذُهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُجِيرُهُ مِنْهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } { وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ

قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ طَلَبِ الْعَبْدِ الْخَيْرَ لِئَلَّا يَعُوقَهُ الشَّيْطَانُ عَنْهُ ؛ وَعِنْدَ مَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْعَبْدِ لِلْحَسَنَاتِ ؛ وَعِنْدَ مَا يَأْمُرُهُ الشَّيْطَانُ بِالسَّيِّئَاتِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ : مَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ } فَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَهُ فِي شَرٍّ أَوْ يَمْنَعَهُ مِنْ خَيْرٍ ؛ كَمَا يَفْعَلُ الْعَدُوُّ مَعَ عَدُوِّهِ . وَكُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَعْظَمَ رَغْبَةً فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَأَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ قُوَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَى وَرَغْبَتُهُ وَإِرَادَتُهُ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ ؛ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ إنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ أَعْظَمَ ؛ وَكَانَ مَا يَفْتَتِنُ بِهِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ أَعْظَمَ . وَلِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ : كُلُّ أُمَّةٍ عُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ ؛ كَأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْمِلَلِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ ضَالُّونَ وَإِنَّمَا يُضِلُّهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ ؛ فَعُلَمَاؤُهُمْ شِرَارُهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى هُدًى وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْهُدَى بِعُلَمَائِهِمْ فَعُلَمَاؤُهُمْ خِيَارُهُمْ ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَئِمَّتُهُمْ خِيَارُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْبِدَعِ أَضَرُّ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ . وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْخَوَارِجِ ؛ وَنَهَى عَنْ قِتَالِ الْوُلَاةِ الظَّلَمَةِ ؛ وَأُولَئِكَ لَهُمْ

نَهْمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ ؛ فَصَارَ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ الْوَسَاوِسِ الَّتِي تُضِلُّهُمْ - وَهُمْ يَظُنُّونَهَا هُدًى فَيُطِيعُونَهَا - مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ وَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ مَصَابِيحِ الْهُدَى وَيَنَابِيعِ الْعِلْمِ ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَصْحَابِهِ : كُونُوا يَنَابِيعَ الْعِلْمِ مَصَابِيحَ الْحِكْمَةِ سُرُجَ اللَّيْلِ ؛ جُدُدَ الْقُلُوبِ أَحْلَاسَ الْبُيُوتِ خُلْقَانَ الثِّيَابِ ؛ تُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَتُخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ .

فَصْلٌ :
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إذَا عُرِفَ تَفْسِيرُهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : " الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " نَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ كَلَفْظِ الْقَبْضِ وَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِ : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ . فَاسْمُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُرَادُ بِهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ هُنَاكَ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِغَيْرِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِهَا وَوَجْهِ دَلَالَتِهَا فَذَاكَ مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْبَيَانِ . وَتَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْعِلْمِ وَبَيَانُ حِكْمَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ ؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ بِهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا . وَاسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ؛

فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَيَانًا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ بِالِاشْتِقَاقِ وَشَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا يَجِبُ الرُّجُوعُ فِي مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَى بَيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ شَافٍ كَافٍ ؛ بَلْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعْلُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بَلْ كُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ مَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ وَيَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ كُلَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا كَافِرًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا جِئْتَنَا بِهِ بِقُلُوبِنَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ؛ وَنُقِرُّ بِأَلْسِنَتِنَا بِالشَّهَادَتَيْنِ إلَّا أَنَّا لَا نُطِيعُك فِي شَيْءٍ مِمَّا أَمَرْت بِهِ وَنَهَيْت عَنْهُ فَلَا نُصَلِّي وَلَا نَصُومُ وَلَا نَحُجُّ وَلَا نُصَدِّقُ الْحَدِيثَ وَلَا نُؤَدِّي الْأَمَانَةَ وَلَا نَفِي بِالْعَهْدِ وَلَا نَصِلُ الرَّحِمَ وَلَا نَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَمَرْت بِهِ وَنَشْرَبُ الْخَمْرَ ؛ وَنَنْكِحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالزِّنَا الظَّاهِرِ وَنَقْتُلُ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِك وَأُمَّتِك وَنَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ بَلْ نَقْتُلُك أَيْضًا وَنُقَاتِلُك مَعَ أَعْدَائِك ؛ هَلْ كَانَ يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُمْ : أَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ وَأَنْتُمْ مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُرْجَى لَكُمْ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ النَّارَ بَلْ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ : أَنْتُمْ أَكْفَرُ النَّاسِ بِمَا جِئْت بِهِ وَيَضْرِبُ رِقَابَهُمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ وَالزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ وَالسَّارِقَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُهُمْ مُرْتَدِّينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بَلْ الْقُرْآنُ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عُقُوبَاتٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَامِ

كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ جَلْدَ الْقَاذِفِ وَالزَّانِي وَقَطْعَ السَّارِقِ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ لَقَتَلَهُمْ . فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَهْلُ الْبِدَعِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ الدَّاخِلُ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَصَارُوا يَبْنُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ يَظُنُّونَ صِحَّتَهَا . إمَّا فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ . وَإِمَّا فِي الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ . وَلَا يَتَأَمَّلُونَ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُلُّ مُقَدِّمَاتٍ تُخَالِفُ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ ضَلَالًا وَلِهَذَا تَكَلَّمَ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَمَسَّكُ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِبَيَانِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجرجاني فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . لَا يَعْدِلُونَ عَنْ بَيَانِ الرَّسُولِ إذَا وَجَدُوا إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا ؛ وَمَنْ عَدَلَ عَنْ سَبِيلِهِمْ وَقَعَ فِي الْبِدَعِ الَّتِي مَضْمُونُهَا أَنَّهُ يَقُولُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَوْ غَيْرَ الْحَقِّ وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ : { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وَهَذَا مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ : { مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ " الْمُرْجِئَةَ " لَمَّا عَدَلُوا عَنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَخَذُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي مُسَمَّى " الْإِيمَانِ " وَ " الْإِسْلَامِ " وَغَيْرِهِمَا بِطُرُقِ ابْتَدَعُوهَا مِثْلَ أَنْ

يَقُولُوا : " الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ " هُوَ التَّصْدِيقُ وَالرَّسُولُ إنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَمْ يُغَيِّرْهَا فَيَكُونُ مُرَادُهُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ ؛ ثُمَّ قَالُوا : وَالتَّصْدِيقُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ فَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ ثُمَّ عُمْدَتُهُمْ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ قَوْلُهُ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أَيْ بِمُصَدِّقِ لَنَا . فَيُقَالُ لَهُمْ : " اسْمُ الْإِيمَانِ " قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَبِهِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ ؛ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ وَمَنْ يُوَالِي وَمَنْ يُعَادِي وَالدِّينُ كُلُّهُ تَابِعٌ لِهَذَا ؛ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُحْتَاجٌ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ؛ أَفَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ قَدْ أَهْمَلَ بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ . وَوَكَلَهُ إلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ؟ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّاهِدَ الَّذِي اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ . وَنَقْلُ مَعْنَى الْإِيمَانِ مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ تَوَاتُرِ لَفْظِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فَيَنْقُلُونَهُ بِخِلَافِ كَلِمَةٍ مِنْ سُورَةٍ . فَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَيَانُ أَصْلِ الدِّينِ مَبْنِيًّا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ وَلِهَذَا كَثُرَ النِّزَاعُ وَالِاضْطِرَابُ بَيْنَ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَسَلَكُوا السُّبُلَ وَصَارُوا مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا وَمِنْ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَهَذَا كَلَامٌ عَامٌّ مُطْلَقٌ . ثُمَّ يُقَالُ : " هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ " كِلَاهُمَا مَمْنُوعَةٌ فَمَنْ الَّذِي قَالَ : إنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ مُرَادِفٌ لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ ؟ وَهَبْ أَنَّ الْمَعْنَى يَصِحُّ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلِمَ

قُلْت : إنَّهُ يُوجِبُ التَّرَادُفَ ؟ وَلَوْ قُلْت : مَا أَنْتَ بِمُسْلِمِ لَنَا مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا صَحَّ الْمَعْنَى لَكِنْ لِمَ قُلْت : إنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ مُؤْمِنٍ ؟ وَإِذَا قَالَ اللَّهُ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } . وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ : أَتِمُّوا الصَّلَاةَ وَلَازِمُوا الصَّلَاةَ الْتَزِمُوا الصَّلَاةَ افْعَلُوا الصَّلَاةَ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا . لَكِنْ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى مَعْنَى : أَقِيمُوا . فَكَوْنُ اللَّفْظِ يُرَادِفُ اللَّفْظَ ؛ يُرَادُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ . ثُمَّ يُقَالُ : لَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ لِلْمُخْبِرِ إذَا صَدَّقْته : صَدَّقَهُ وَلَا يُقَالُ : آمَنَهُ وَآمَنَ بِهِ . بَلْ يُقَالُ : آمَنَ لَهُ كَمَا قَالَ : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } وَقَالَ : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } وَقَالَ فِرْعَوْنُ : { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } وَقَالُوا لِنُوحِ : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } . فَقَالُوا : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } وَقَالَ : { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يُقَالُ : مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا . قِيلَ : اللَّامُ تَدْخُلُ عَلَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إذَا ضَعُفَ عَمَلُهُ إمَّا بِتَأْخِيرِهِ أَوْ بِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ أَوْ مَصْدَرًا أَوْ بِاجْتِمَاعِهِمَا فَيُقَالُ : فُلَانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَخَافُهُ وَيَتَّقِيهِ ثُمَّ إذَا ذَكَرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ قِيلَ : هُوَ عَابِدٌ لِرَبِّهِ مُتَّقٍ لِرَبِّهِ خَائِفٌ لِرَبِّهِ وَكَذَلِكَ تَقُولُ : فُلَانٌ يَرْهَبُ اللَّهَ ثُمَّ تَقُولُ : هُوَ رَاهِبٌ لِرَبِّهِ وَإِذَا ذَكَرْت الْفِعْلَ وَأَخَّرْته تُقَوِّيهِ بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } وَقَدْ قَالَ : { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } فَعَدَّاهُ

بِنَفْسِهِ وَهُنَاكَ ذَكَرَ اللَّامَ فَإِنَّ هُنَا قَوْلَهُ : { فَإِيَّايَ } أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ : فَلِي . وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ { لِرَبِّهِمْ } أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ : رَبِّهِمْ فَإِنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ الْمَنْصُوبَ أَكْمَلُ مِنْ ضَمِيرِ الْجَرِّ بِالْيَاءِ وَهُنَاكَ اسْمٌ ظَاهِرٌ فَتَقْوِيَتُهُ بِاللَّامِ أَوْلَى وَأَتَمُّ مِنْ تَجْرِيدِهِ ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ : { إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } وَيُقَالُ : عَبَرْت رُؤْيَاهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } وَإِنَّمَا يُقَالُ : غِظْته لَا يُقَالُ : غِظْت لَهُ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فَيَقُولُ الْقَائِلُ : مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا أَدْخَلَ فِيهِ اللَّامَ لِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ وَإِلَّا فَإِنَّمَا يُقَالُ : صَدَّقْته لَا يُقَالُ : صَدَّقْت لَهُ وَلَوْ ذَكَرُوا الْفِعْلَ لَقَالُوا : مَا صَدَّقْتنَا وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ تَعَدَّى إلَى الضَّمِيرِ بِاللَّامِ دَائِمًا ؛ لَا يُقَالُ : آمَنْته قَطُّ وَإِنَّمَا يُقَالُ : آمَنْت لَهُ كَمَا يُقَالُ : أَقْرَرْت لَهُ فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ أَقْرَبَ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ التَّصْدِيقِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا . ( الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ غَيْبٍ يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَةِ : صَدَقْت كَمَا يُقَالُ : كَذَبْت . فَمَنْ قَالَ : السَّمَاءُ فَوْقَنَا قِيلَ لَهُ : صَدَقَ كَمَا يُقَالُ : كَذَبَ وَأَمَّا لَفْظُ الْإِيمَانِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْخَبَرِ عَنْ غَائِبٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ؛ كَقَوْلِهِ : طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ أَنَّهُ يُقَالُ : آمَنَّاهُ كَمَا يُقَالُ : صَدَّقْنَاهُ وَلِهَذَا ؛ الْمُحَدِّثُونَ وَالشُّهُودُ وَنَحْوُهُمْ ؛ يُقَالُ : صَدَّقْنَاهُمْ ؛ وَمَا يُقَالُ آمَنَّا لَهُمْ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَمْنِ . فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي خَبَرٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ كَالْأَمْرِ الْغَائِبِ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَفْظُ آمَنَ لَهُ إلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ ؛ وَالِاثْنَانِ إذَا اشْتَرَكَا فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ

يُقَالُ : صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يُقَالُ : آمَنَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَنْهُ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } . { آمَنْتُمْ لَهُ } . { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } فَيُصَدِّقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ . مِمَّا غَابَ عَنْهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَاللَّفْظُ مُتَضَمِّنٌ مَعَ التَّصْدِيقِ وَمَعْنَى الِائْتِمَانِ وَالْأَمَانَةِ ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِاشْتِقَاقُ وَلِهَذَا قَالُوا : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أَيْ لَا تُقِرُّ بِخَبَرِنَا وَلَا تَثِقُ بِهِ وَلَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَهُ مِمَّنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ . فَلَوْ صَدَقُوا لَمْ يَأْمَنْ لَهُمْ . ( الثَّالِثُ : أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ لَمْ يُقَابَلْ بِالتَّكْذِيبِ كَلَفْظِ التَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ يُقَالُ لَهُ : صَدَقْت أَوْ كَذَبْت وَيُقَالُ : صَدَّقْنَاهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ وَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُخْبِرٍ : آمَنَّا لَهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ ؛ وَلَا يُقَالُ أَنْتَ مُؤْمِنٌ لَهُ أَوْ مُكَذِّبٌ لَهُ ؛ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ لَفْظُ الْكُفْرِ . يُقَالُ : هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ ؛ بَلْ لَوْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ إنَّك صَادِقٌ لَكِنْ لَا أَتَّبِعُك بَلْ أُعَادِيك وَأُبْغِضُك وَأُخَالِفُك وَلَا أُوَافِقُك لَكَانَ كُفْرُهُ أَعْظَمَ ؛ فَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ الْمُقَابِلُ لِلْإِيمَانِ لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبُ فَقَطْ عُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقُ فَقَطْ بَلْ إذَا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ تَكْذِيبًا وَيَكُونُ مُخَالَفَةً وَمُعَادَاةً وَامْتِنَاعًا بِلَا تَكْذِيبٍ ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ تَصْدِيقًا مَعَ مُوَافَقَةٍ وَمُوَالَاةٍ وَانْقِيَادٍ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ ؛ فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ جُزْءَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الِانْقِيَادِ مَعَ التَّصْدِيقِ جُزْءَ مُسَمَّى الْكُفْرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا مُنْقَادًا لِلْأَمْرِ وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ .

فَإِنْ قِيلَ : فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِمَا يُؤْمِنُ بِهِ . قِيلَ : فَالرَّسُولُ ذَكَرَ مَا يُؤْمِنُ بِهِ لَمْ يَذْكُرْ مَا يُؤْمَنُ لَهُ وَهُوَ نَفْسُهُ يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيُؤْمِنَ لَهُ فَالْإِيمَانُ بِهِ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُهُ غَيْبٌ عَنَّا أُخْبِرْنَا بِهِ وَلَيْسَ كُلُّ غَيْبٍ آمَنَّا بِهِ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ وَأَمَّا مَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ لَهُ فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ طَاعَتَهُ وَالرَّسُولُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَلَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ هَذَا وَأَيْضًا فَإِنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْأَمْنِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ ؛ فَآمَنَ أَيْ صَارَ دَاخِلًا فِي الْأَمْنِ وَأَنْشَدُوا . . . (1) .
وَأَمَّا " الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " فَيُقَالُ : إنَّهُ إذَا فُرِضَ أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ فَقَوْلُهُمْ : إنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَلْبِ أَوْ اللِّسَانِ ؛ عَنْهُ جَوَابَانِ . " أَحَدُهُمَا " : الْمَنْعُ بَلْ الْأَفْعَالُ تُسَمَّى تَصْدِيقًا كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ ؛ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ ؛ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ ؛ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى ذَلِكَ وَيَشْتَهِي ؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَالصِّدِّيقُ مِثَالُ الْفِسِّيقِ : الدَّائِمُ التَّصْدِيقَ . وَيَكُونُ الَّذِي يَصْدُقُ قَوْلُهُ بِالْعَمَلِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنَّهُ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ وَهَذَا

مَشْهُورٌ عَنْ الْحَسَنِ يُرْوَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا رَوَاهُ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ ؛ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ النَّاجِي عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي ؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ . مَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَمَنْ قَالَ حَسَنًا وَعَمِلَ صَالِحًا رَفَعَهُ الْعَمَلُ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَوْلُهُ : لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي - يَعْنِي الْكَلَامَ - وَقَوْلُهُ : بِالتَّحَلِّي . يَعْنِي أَنْ يَصِيرَ حِلْيَةً ظَاهِرَةً لَهُ فَيُظْهِرُهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ مِنْ قَلْبِهِ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْقَوْلِ وَلَا مِنْ الْحِلْيَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ فَالْعَمَلُ يُصَدِّقُ أَنَّ فِي الْقَلْبِ إيمَانًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ كَذَّبَ أَنَّ فِي قَلْبِهِ إيمَانًا لِأَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَمَلِ الظَّاهِرِ . وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ . وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ . فَأَجَابَهُ عَنْهَا : سَأَلْت عَنْ الْإِيمَانِ فَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنْ يُصَدِّقَ الْعَبْدُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَمَا أَرْسَلَ مِنْ رَسُولٍ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَسَأَلْت عَنْ التَّصْدِيقِ . وَالتَّصْدِيقُ : أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِمَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا ضَعُفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَفَرَّطَ فِيهِ عَرَفَ أَنَّهُ ذَنْبٌ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ مِنْهُ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ

هُوَ التَّصْدِيقُ . وَتَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ فَالدِّينُ هُوَ الْعِبَادَةُ فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ تَرَكَ عِبَادَةَ أَهْلِ دِينٍ ثُمَّ لَا يَدْخُلُ فِي دِينٍ آخَرَ إلَّا صَارَ لَا دِينَ لَهُ . وَتَسْأَلُ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَفِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ آثَرَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِي دِينِهِ وَعَمَلِهِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ فَرَّطُوا : { أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ } وَإِنَّمَا كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ الشَّيْطَانَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُ فِي دِينِهِمْ . وَقَالَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الأوزاعي حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ : الْإِيمَانُ فِي كِتَابِ اللَّهِ صَارَ إلَى الْعَمَلِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ . ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إلَى الْعَمَلِ فَقَالَ : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قَالَ : وَسَمِعْت الأوزاعي يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ الْعَمَلُ . وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ : كُنَّا نَقُولُ الْإِسْلَامُ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانُ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانُ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَرِينَانِ لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْآخَرِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا يُوزَنُ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ ؛ فَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ أَوْزَنَ مِنْ قَوْلِهِ : صَعِدَ إلَى اللَّهِ ؛ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ أَوْزَنَ مِنْ عَمَلِهِ لَمْ يَصْعَدْ إلَى اللَّهِ . وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ

الْمَعْرُوفِ . وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو : عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري عَنْ الأوزاعي قَالَ : لَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ إلَّا بِالْعَمَلِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ إلَّا بِنِيَّةِ مُوَافِقَةٍ لِلسُّنَّةِ . وَكَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ ؛ الْعَمَلُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مِنْ الْعَمَلِ ؛ وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ اسْمٌ يَجْمَعُ كَمَا يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَدْيَانَ اسْمُهَا وَيُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ . فَمَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَعَرَفَ بِقَلْبِهِ وَصَدَّقَ بِعَمَلِهِ فَتِلْكَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا . وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ بِعَمَلِهِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ . وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْعَمَلَ مُصَدِّقًا لِلْقَوْلِ ؛ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ : حَدَّثَنَا الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : { أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ . فَقَالَ : الْإِيمَانُ : الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِالْعَمَلِ ؛ ثُمَّ تَلَا { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلَى قَوْلِهِ { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } } . قُلْت حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ هَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ هُوَ لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانُوا رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ فِي لُغَتِهِمْ أَنَّهُ يُقَالُ : صَدَقَ قَوْلُهُ بِعَمَلِهِ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الهروي : الْإِيمَانُ تَصْدِيقٌ كُلُّهُ . وَكَذَلِكَ " الْجَوَابُ الثَّانِي " أَنَّهُ إذَا كَانَ أَصْلُهُ التَّصْدِيقَ فَهُوَ تَصْدِيقٌ

مَخْصُوصٌ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ وَالْحَجَّ قَصْدٌ مَخْصُوصٌ وَالصِّيَامَ إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ ؛ وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَهُ لَوَازِمُ صَارَتْ لَوَازِمُهُ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ فَإِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ وَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا : هَلْ الْإِيمَانُ دَالٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّضَمُّنِ أَوْ بِاللُّزُومِ ؟ .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَكْثَرَ التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَإِلَّا فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ - كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ - مُتَّفِقُونَ مَعَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ دَاخِلُونَ تَحْتَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ قَالُوا : إنَّ إيمَانَهُمْ كَامِلٌ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ فَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِيمَانَ بِدُونِ الْعَمَلِ الْمَفْرُوضِ وَمَعَ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ يَكُونُ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ . وَيَقُولُونَ أَيْضًا بِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ ، وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ الْفَاسِقِ اسْمَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ . فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ إذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِدُخُولِهِ إلَيْهَا وَلَا يُخَلَّدُ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ وَلَا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ مُبَاحِي الدِّمَاءِ وَلَكِنَّ " الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَقَوْلُ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : مَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ ؛ بَلْ نَقِفُ فِي هَذَا كُلِّهِ . وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ الْعَامِّ .

وَيُقَالُ لِلْخَوَارِجِ : الَّذِي نَفَى عَنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَغَيْرِهِمْ الْإِيمَانَ ؛ هُوَ لَمْ يَجْعَلْهُمْ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ عَاقَبَ هَذَا بِالْجَلْدِ وَهَذَا بِالْقَطْعِ وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا إلَّا الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَلَمْ يَقْتُلْهُ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ ؛ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَهَذَا يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ مَعَ ظُهُورِ ذُنُوبِهِمْ وَلَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ فَأُولَئِكَ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ ظَاهِرٍ .
وَبِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَنْ مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ لَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا لَا فِي مَعْنَى الْأَسْمَاءِ ؟ . وَهَكَذَا قَالُوا فِي اسْمِ " الصَّلَاةِ " وَ " الزَّكَاةِ " وَ " الصِّيَامِ " " وَالْحَجِّ " إنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ لَكِنْ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا . وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إلَى أَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى عُرْفِ الشَّارِعِ حَقِيقَةٌ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُغَيِّرْهَا وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً كَمَا يَسْتَعْمِلُ نَظَائِرَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } فَذَكَرَ حَجًّا خَاصًّا وَهُوَ حَجُّ الْبَيْتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ } فَلَمْ يَكُنْ

لَفْظُ الْحَجِّ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ قَصْدٍ بَلْ لِقَصْدِ مَخْصُوصٍ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ نَفْسُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللُّغَةِ وَالشَّاعِرُ إذَا قَالَ : وَاشْهَدْ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً * * * يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
كَانَ مُتَكَلِّمًا بِاللُّغَةِ وَقَدْ قَيَّدَ : لَفْظَهُ : بِحَجِّ سَبِّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ الْمَخْصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَخْصُوصُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ : فَإِذَا قِيلَ : الْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْك كَانَتْ لَامُ الْعَهْدِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ حِجُّ الْبَيْتِ وَكَذَلِكَ " الزَّكَاةُ " هِيَ اسْمٌ لِمَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ ؛ وَزَكَاةُ النَّفْسِ زِيَادَةُ خَيْرِهَا وَذَهَابُ شَرِّهَا وَالْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ مِمَّا تَزْكُو بِهِ . قَالَ تَعَالَى . { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } وَأَصْلُ زَكَاتِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَهِيَ عِنْدُ الْمُفَسِّرِينَ التَّوْحِيدُ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ وَسَمَّاهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ؛ فَصَارَ لَفْظُ الزَّكَاةِ إذَا عُرِّفَ بِاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْعَهْدِ وَمِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَكُونُ أَهْلُ الْعُرْفِ نَقَلُوهُ وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ مِثْلَ لَفْظِ " التَّيَمُّمِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } فَلَفْظُ " التَّيَمُّمِ " اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِتَيَمُّمِ الصَّعِيدِ ثُمَّ أَمَرَ بِمَسْحِ الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي مِنْهُ ؛ فَصَارَ لَفْظُ التَّيَمُّمِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا الْمَسْحُ ؛ وَلَيْسَ

هُوَ لُغَةُ الشَّارِعِ بَلْ الشَّارِعُ فَرَّقَ بَيْنَ تَيَمُّمِ الصَّعِيدِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " أَمَرَ بِهِ مُقَيَّدًا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْإِسْلَامِ " بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْكُفْرِ " مُقَيَّدًا ؛ وَلَكِنْ لَفْظُ " النِّفَاقِ " قَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَكَلَّمَتْ بِهِ لَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فَإِنَّ نَفَقَ يُشْبِهُ خَرَجَ وَمِنْهُ نَفَقَتْ الدَّابَّةُ إذَا مَاتَتْ : وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ وَالنَّفَقُ فِي الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ } فَالْمُنَافِقُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ بَاطِنًا بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ ظَاهِرًا ؛ وَقَيَّدَ النِّفَاقَ بِأَنَّهُ نِفَاقٌ مِنْ الْإِيمَانِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ مُنَافِقًا عَلَيْهِ ؛ لَكِنَّ النِّفَاقَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ هُوَ النِّفَاقُ عَلَى الرَّسُولِ . فَخِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كَخِطَابِ النَّاسِ بِغَيْرِهَا ؛ وَهُوَ خِطَابٌ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ لَا مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا . وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ تِلْكَ الْخَصَائِصَ ؛ وَالِاسْمُ دَلَّ عَلَيْهَا ؛ فَلَا يُقَالُ : إنَّهَا مَنْقُولَةٌ وَلَا إنَّهُ زِيدَ فِي الْحُكْمِ دُونَ الِاسْمِ ؛ بَلْ الِاسْمُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِمُرَادِ الشَّارِعِ ؛ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُطْلَقًا وَهُوَ إنَّمَا قَالَ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمْ الصَّلَاةَ الْمَأْمُورَ بِهَا ؛ فَكَانَ التَّعْرِيفُ مُنْصَرِفًا إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا ؛ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ الصَّلَاةِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ . وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ قَالَ فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ : إنَّهُ عَامٌّ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ؛ أَوْ إنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَأَقْوَالُهُمْ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا وَرَدَ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا فَالْخَبَرُ كَقَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } وَسُورَةُ { اقْرَأْ } مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ { وَكَانَ

بَعْضُ الْكُفَّارِ إمَّا أَبُو جَهْلٍ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ نَهَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَالَ : لَئِنْ رَأَيْته يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ . فَلَمَّا رَآهُ سَاجِدًا رَأَى مِنْ الْهَوْلِ مَا أَوْجَبَ نُكُوصَهُ عَلَى عَقِبَيْهِ } فَإِذَا قِيلَ : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } فَقَدْ عَلِمْت تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاقِعَةَ بِلَا إجْمَالٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا عُمُومٍ . ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا فُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ الصَّلَوَاتِ بِمَوَاقِيتِهَا صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ جبرائيل يَؤُمُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمُسْلِمُونَ يَأْتَمُّونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } عَرَفُوا أَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ وَقِيلَ : إنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ لَهُ صَلَاتَانِ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَكَانَتْ أَيْضًا مَعْرُوفَةً فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا وَمُسَمَّاهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ . فَلَا إجْمَالَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُسَمَّى حَجًّا وَدُعَاءً وَصَوْمًا فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ . وَكَذَلِكَ " الْإِيمَانُ " وَ " الْإِسْلَامُ " وَقَدْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَظْهَرِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَقَالَ : { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَالَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَحَقَائِقَهَا الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُقْصَدَ لِئَلَّا يَقْتَصِرُوا عَلَى أَدْنَى مُسَمَّيَاتِهَا وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ هَذَا الطَّوَّافَ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا } فَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمِسْكِينَ وَأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ وَكَانَ ذَلِكَ

مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ فِيمَنْ يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ وَالنَّاسُ يُعْطُونَهُ تَزُولُ مَسْكَنَتُهُ بِإِعْطَاءِ النَّاسِ لَهُ وَالسُّؤَالُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِرْفَةِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يُعْطَ مَنْ غَيْرِهَا كِفَايَتُهُ فَهُوَ إذَا وَجَدَ مَنْ يُعْطِيهِ كِفَايَتَهُ لَمْ يَبْقَ مِسْكِينًا وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُعْرَفُ فَيُعْطَى . فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْعَطَاءِ فَإِنَّهُ مِسْكِينٌ قَطْعًا وَذَاكَ مَسْكَنَتُهُ تَنْدَفِعُ بِعَطَاءِ مَنْ يَسْأَلُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ " يُرِيدُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَاجِبٌ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ؛ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ لَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ وَلِهَذَا وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِهَذَا .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ فَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا : أَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ فَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الْمَعَاصِيَ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَأَمَّا هَذِهِ الْمَبَانِي فَفِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَعَنْ أَحْمَد : فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ : إنَّهُ يَكْفُرُ مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَابْنِ حَبِيبٍ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا وَرَابِعَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ . وَخَامِسَةٌ : لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُنَّ . وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ لِلسَّلَفِ . قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ

رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمَّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : لَا تُرْفَعُ الصَّلَاةُ إلَّا بِالزَّكَاةِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ فَلَا صَلَاةَ لَهُ . رَوَاهُنَّ أَسَدُ بْنُ مُوسَى . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُمْسِيًا أَصْبَحَ مُشْرِكًا وَمَنْ شَرِبَهُ مُصْبِحًا أَمْسَى مُشْرِكًا فَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي : كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَخْنَسُ فِي كِتَابِهِ : مَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْحَجُّ إنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ . وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَعْنَاهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ بَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ مَعْنَاهُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ اسْمَ " الْإِيمَانِ " أَوْ " الْإِسْلَامِ " فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ . قَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ عَنْ

أَبِي يَحْيَى قَالَ : سُئِلَ حُذَيْفَةُ عَنْ الْمُنَافِقِ . قَالَ : الَّذِي يَعْرِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي البختري عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ : قَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ وَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ ؛ وَقَلْبٌ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ ؛ فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ ؛ وَمَثَلُ النِّفَاقِ مَثَلُ قُرْحَةٍ يَمُدُّهَا قَيْحٌ وَدَمٌ ؛ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَلَبَ . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا ؛ وَهُوَ فِي " الْمُسْنَدِ " مَرْفُوعًا . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حُذَيْفَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } فَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِمْ نِفَاقٌ مَغْلُوبٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ غَلَبَ نِفَاقُهُمْ فَصَارُوا إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إيمَانًا ازْدَادَ الْقَلْبُ بَيَاضًا حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ ابْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ . وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَبْيَضَ وَلَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ . رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ يُبَيِّنُونَ أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ

إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ شُعَبَ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ شُعَبَ النِّفَاقِ وَقَالَ : { مَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا } وَتِلْكَ الشُّعْبَةُ قَدْ يَكُونُ مَعَهَا كَثِيرٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا قَالَ : { وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ وَأَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ النِّفَاقِ فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ .
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ لِلْأَعْرَابِ : { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } نَفَى حَقِيقَةَ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ شُعْبَةٌ مِنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ .
وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ : مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : أَسْلَمْنَا أَيْ اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّيْفِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : هُوَ الْإِسْلَامُ . الْجَمِيعُ صَحِيحٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ الَّذِي قَلْبُهُ كُلُّهُ أَسْوَدُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوا

التَّكْذِيبَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقِينًا وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ وَلَكِنْ الْإِيمَانُ لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ تَسْتَلْزِمُ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَحُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَحُبُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبُغْضُ مَا نَهَى عَنْهُ هَذَا مِنْ أَخَصِّ الْأُمُورِ بِالْإِيمَانِ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ : { مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَهَذَا يُحِبُّ الْحَسَنَةَ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيُبْغِضُ السَّيِّئَةَ وَيَسُوءُهُ فِعْلُهَا وَإِنْ فَعَلَهَا بِشَهْوَةِ غَالِبَةٍ وَهَذَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَوْ قَامَ بِقَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَقْهَرُ الشَّهْوَةَ أَوْ حُبُّ اللَّهِ الَّذِي يَغْلِبُهَا ؛ لَمْ يَزْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَزْنِ وَإِنَّمَا يَزْنِي لِخُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يُنْزَعُ مِنْهُ لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَلِهَذَا قِيلَ : هُوَ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا وَإِلَّا كَانَ مُنَافِقًا ؛ لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ قَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلُ كَمَالِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِثْلُ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ

مَعَ ذَلِكَ يُرَائِي بِأَعْمَالِهِ وَيَكُونُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ خُوطِبَ بِهَذَا الْمُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " فَقِيلَ لَهُمْ : { إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ؛ وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ مَنْ لَمْ يَرْتَبْ وَجَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ تَقُمْ بِقَلْبِهِ الْأَحْوَالُ الْوَاجِبَةُ فِي الْإِيمَانِ فَهُوَ الَّذِي نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَإِلَّا فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ إيمَانًا أَلْبَتَّةَ بَلْ هُوَ كَتَصْدِيقِ فِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَإِبْلِيسَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ عَلَى الْجَهْمِيَّة . قَالَ الحميدي : سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ : أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ . وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ : وَهَذَا كُفْرٌ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الكلابي : سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ : الْجَهْمِيَّة شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ قَالَ : وَقَالَ وَكِيعٌ : الْمُرْجِئَةُ : الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْإِقْرَارُ يُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ ؛ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ هَلَكَ ؛ وَمَنْ قَالَ : النِّيَّةُ تُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ فَهُوَ كُفْرٌ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ .

وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ شَعَائِرِ السُّنَّةِ وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي " الْأُمِّ " : وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِالْآخَرِ ؛ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ - فِي " مَنَاقِبِهِ " - : سَمِعْت حَرْمَلَةَ يَقُولُ : اجْتَمَعَ حَفْصٌ الْفَرْدُ وَمَصْلَانِ الإباضي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي دَارِ الجروي فَتَنَاظَرَا مَعَهُ فِي الْإِيمَانِ فَاحْتَجَّ مَصْلَانِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَخَالَفَهُ حَفْصٌ الْفَرْدُ فَحَمِيَ الشَّافِعِيُّ وَتَقَلَّدَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَطَحَنَ حَفْصًا الْفَرْدَ وَقَطَعَهُ . وَرَوَى أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ الْحَمَّالِ قَالَ : أَمْلَى عَلَيْنَا إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْنَا وَإِنَّمَا عَقَلْنَا هَذَا بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْآثَارِ الْعَامَّةِ الْمُحْكَمَةِ ؛ وَآحَادِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَكَذَلِكَ فِي عَهْدِ الأوزاعي بِالشَّامِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِالْعِرَاقِ ؛ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ بِالْحِجَازِ وَمَعْمَرٍ بِالْيَمَنِ عَلَى مَا فَسَّرْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَقَالَ إسْحَاقُ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى ذَهَبَ وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى الْمَغْرِبِ ،

وَالْمَغْرِبِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَقَالَ تَرْكُهَا لَا يَكُونُ كُفْرًا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ - يَعْنِي تَارِكَهَا . وَقَالَ ذَلِكَ - وَأَمَّا إذَا صَلَّى وَقَالَ ذَلِكَ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ قَالَ : وَاتَّبَعَهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ عَصْرِنَا هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ إلَّا مَنْ بَايَنَ الْجَمَاعَةَ وَاتَّبَعَ الْأَهْوَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ لَمَّا بَايَنُوا الْجَمَاعَةَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ الْإِمَامُ - وَلَهُ كِتَابٌ مُصَنَّفٌ فِي الْإِيمَانِ قَالَ - : هَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ كَانَ يَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ : عُبَيْدُ بْن عُمَيْرٍ الليثي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرِ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ؛ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ؛ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ؛ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جَرِيحٍ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ دَاوُد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزَّهْرِيُّ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمْرِيُّ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الماجشون - عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ : طَاوُوسٌ الْيَمَانِيُّ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ . وَمِنْ أَهْل مِصْرَ وَالشَّامِ : مَكْحُولٌ الأوزاعي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأيلي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ يَزِيدُ بْنُ شريح سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ حيوة

بْنُ شريح ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ .
وَمَنْ سَكَنَ الْعَوَاصِمَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْجَزِيرَةِ : مَيْمُونُ بْنُ مهران ، يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ ، مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرقي ، عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَالِكٍ ، المعافي بْنُ عِمْرَانَ ، مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِي ، أَبُو إسْحَاقَ الفزاري ، مخلد بْنُ الْحُسَيْنِ ، عَلِيُّ بْنُ بكار ، يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ ، عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ ، مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ .
وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ : عَلْقَمَةُ ، الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ ، أَبُو وَائِلٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم (1) عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ ، إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي ، الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ، طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ ، مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ ، سَلَمَةُ بْنُ كهيل ، مُغِيرَةُ الضبي ، عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ، إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ ، أَبُو حَيَّانَ ، يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، سُلَيْمَانُ بْنُ مهران ، الْأَعْمَشُ ، يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ ، سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ ، سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة ، الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ ، أَبُو الْمِقْدَامِ ، ثَابِتُ بْنُ الْعَجْلَانِ ، ابْنُ شبرمة ، ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، زُهَيْرٌ ، شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، أَبُو الْأَحْوَصِ ، وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ، أَبُو أُسَامَةَ ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ ، زَيْدُ بْنُ الحباب ، الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الجعفي ، مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ العبدي ، يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَمُحَمَّدٌ وَيَعْلَى وَعَمْرُو بَنُو عُبَيْدٍ .
وَمِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ : الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِين قتادة ابْنُ دِعَامَةَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المزني أَيُّوبُ السختياني يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ سُلَيْمَانُ التيمي هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ الدستوائي شُعْبَةُ ابْنُ الْحَجَّاجِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو الْأَشْهَبِ يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ

أَبُو عَوَانَةَ وهيب بْنُ خَالِدٍ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التيمي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ يَزِيدُ بْنُ زريع الْمُؤَمِّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي . وَمِنْ أَهْلِ وَاسِطٍ : هشيم بْنُ بَشِيرٍ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ صَالِحُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ : الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ النَّضْرُ بْنُ شميل جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الضبي . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَنَا . قُلْت : ذَكَرَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْإِرْجَاءَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَ أَوَّلًا فِيهِمْ أَكْثَرَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَاحْتَاجَ عُلَمَاؤُهَا أَنْ يُظْهِرُوا إنْكَارَ ذَلِكَ فَكَثُرَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ كَمَا أَنَّ التَّجَهُّمَ وَتَعْطِيلَ الصِّفَاتِ لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءَ حُدُوثِهِ مِنْ خُرَاسَانَ كَثُرَ مِنْ عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى الْجَهْمِيَّة مَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ لِمَنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي بَلَدِهِ وَلَا سَمِعَ بِهَا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ : { إنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ يَكَادُ بِهَا الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِعَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ ؛ فَاغْتَنِمُوا تِلْكَ الْمَجَالِسَ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَى أَهْلِهَا } أَوْ كَمَا قَالَ .

وَإِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ : إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّهُ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قَالُوا : كَفَرُوا كُفْرًا لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَقَدْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ . قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ حَدِيثِ جبرائيل هَذَا فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ } وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ كَلَامٌ جَامِعٌ مُخْتَصَرٌ لَهُ غَوْرٌ وَقَدْ وَهَمَتْ الْمُرْجِئَةُ فِي تَفْسِيرِهِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ قِلَّةٌ مَعْرِفَةً مِنْهُمْ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَوْرُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَفَوَاتِحَهُ وَاخْتُصِرَ لَهُ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا . أَمَّا قَوْلُهُ : { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ } فَأَنْ تُوَحِّدَهُ وَتُصَدِّقَ بِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَتَخْضَعَ لَهُ وَلِأَمْرِهِ بِإِعْطَاءِ الْعَزْمِ لِلْأَدَاءِ لِمَا أَمَرَ مُجَانِبًا لِلِاسْتِنْكَافِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْمُعَانَدَةِ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ لَزِمْت مُحَابَّهُ وَاجْتَنَبْت مساخطه . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَمَلَائِكَتِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَنْ سَمَّى اللَّهُ لَك مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سِوَاهُمْ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَعَدَدَهُمْ إلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَكُتُبِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَا سَمَّى اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ خَاصَّةً ؛ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ لِلَّهِ سِوَى ذَلِكَ كُتُبًا أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهَا وَعَدَدَهَا إلَّا الَّذِي أَنْزَلَهَا وَتُؤْمِنَ بِالْفُرْقَانِ وَإِيمَانُك بِهِ غَيْرُ إيمَانِك بِسَائِرِ الْكُتُبِ .

إيمَانُك بِغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ إقْرَارُك بِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَإِيمَانُك بِالْفُرْقَانِ إقْرَارُك بِهِ وَاتِّبَاعُك مَا فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَرُسُلِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ رُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ اللَّهَ سَوَّاهُمْ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ إلَّا الَّذِي أَرْسَلَهُمْ وَتُؤْمِنَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَانُك بِهِ غَيْرُ إيمَانِك بِسَائِرِ الرُّسُلِ . إيمَانُك بِسَائِرِ الرُّسُلِ إقْرَارُك بِهِمْ وَإِيمَانُك بِمُحَمَّدِ إقْرَارُك بِهِ وَتَصْدِيقُك إيَّاهُ دَائِبًا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَإِذَا اتَّبَعْت مَا جَاءَ بِهِ أَدَّيْت الْفَرَائِضَ وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ وَحَرَّمْت الْحَرَامَ وَوَقَفْت عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَسَارَعْت فِي الْخَيْرَاتِ وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ } فَأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَأَنَّ مَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك وَلَا تَقُلْ : لَوْ كَانَ كَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا وَلَوْلَا كَذَا وَكَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا وَكَذَا . قَالَ : فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .

فَصْلٌ :
وَمِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ ؛ فَلِمَاذَا قَالَ : الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْخَمْسُ وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ هَذِهِ أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمُهَا وَبِقِيَامِ الْعَبْدِ بِهَا يَتِمُّ إسْلَامُهُ وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ انْقِيَادِهِ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الدِّينَ الَّذِي هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مُطْلَقًا الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عِبَادَةً مَحْضَةً عَلَى الْأَعْيَانِ . فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لِيَعْبُدَ اللَّهَ بِهَا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَهَذِهِ هِيَ الْخَمْسُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَسْبَابِ لِمَصَالِحَ فَلَا يَعُمُّ وُجُوبُهَا جَمِيعَ النَّاسِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إمَارَةٍ وَحُكْمٍ وَفُتْيَا ؛ وَإِقْرَاءٍ وَتَحْدِيثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِسَبَبِ حَقٍّ لِلْآدَمِيِّينَ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ وَجَبَ لَهُ وَعَلَيْهِ وَقَدْ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ . وَإِذَا حَصَلَتْ الْمَصْلَحَةُ أَوْ الْإِبْرَاءُ إمَّا بِإِبْرَائِهِ وَإِمَّا بِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ فَحُقُوقُ الْعِبَادِ مِثْلُ قَضَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الغصوب وَالْعَوَارِيّ وَالْوَدَائِعِ وَالْإِنْصَافِ مِنْ الْمَظَالِمِ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ ؛ إنَّمَا هِيَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ وَإِذَا أُبْرِئُوا مِنْهَا سَقَطَتْ .

وَتَجِبُ عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ لَمْ تَجِبْ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ قَادِرٍ ؛ وَلِهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِخِلَافِ الْخَمْسَةِ فَإِنَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْجِيرَانِ وَالشُّرَكَاءِ وَالْفُقَرَاءِ . وَمَا يَجِبُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ ؛ كُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ بِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لِجَلْبِ مَنَافِعَ وَدَفْعِ مَضَارَّ لَوْ حَصَلَتْ بِدُونِ فِعْلِ الْإِنْسَانِ لَمْ تَجِبْ ؛ فَمَا كَانَ مُشْتَرِكًا فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَمَا كَانَ مُخْتَصًّا فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى زَيْدٍ دُونَ عَمْرٍو لَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي وُجُوبِ عَمَلٍ بِعَيْنِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ قَادِرٍ سِوَى الْخَمْسِ ؛ فَإِنَّ زَوْجَةَ زَيْدٍ وَأَقَارِبِهِ لَيْسَتْ زَوْجَةَ عَمْرٍو وَأَقَارِبِهِ فَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَى هَذَا مِثْلَ الْوَاجِبِ عَلَى هَذَا بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا مَالِيًّا فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ لِلَّهِ ؛ وَالْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ مَصَارِفُهَا ؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّةُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا الْغَيْرُ عَنْهُ بِلَا إذْنِهِ وَلَمْ تُطْلَبْ مِنْ الْكُفَّارِ . وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا النِّيَّةُ وَلَوْ أَدَّاهَا غَيْرُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَيُطَالَبُ بِهَا الْكُفَّارُ وَمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالْكَفَّارَاتِ هُوَ بِسَبَبِ مِنْ الْعَبْدِ وَفِيهَا شَوْبُ الْعُقُوبَاتِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَوَاتِ وَعُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ كَالْحُدُودِ وَمَا يُشْبِهُهَا كَالْكَفَّارَاتِ . وَكَذَلِكَ كَفَّارَاتُ الْحَجِّ وَمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِبُ بِسَبَبِ فِعْلٍ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهِ .

وَأَمَّا " الزَّكَاةُ " فَإِنَّهَا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ فِي مَالِهِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ أَيْ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ يَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ وَإِلَّا فَفِيهِ وَاجِبَاتٌ بِغَيْرِ سَبَبِ الْمَالِ كَمَا تَجِبُ النَّفَقَاتُ لِلْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَةِ وَالرَّقِيقِ وَالْبَهَائِمِ وَيَجِبُ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ وَيَجِبُ قَضَاءُ الدُّيُونِ وَيَجِبُ الْإِعْطَاءُ فِي النَّائِبَةِ وَيَجِبُ إطْعَامُ الْجَائِعِ وَكُسْوَةُ الْعَارِي فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ . لَكِنْ بِسَبَبِ عَارِضٍ وَالْمَالُ شَرْطُ وُجُوبِهَا كَالِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ فَإِنَّ الْبَدَنَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِطَاعَةُ شَرْطٌ وَالْمَالُ فِي الزَّكَاةِ هُوَ السَّبَبُ وَالْوُجُوبُ مَعَهُ ؛ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا حَمَلَهَا إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ حَقٌّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى . وَلِهَذَا قَالَ : مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ التَّكْلِيفَ شَرْطٌ فِيهَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ . وَأَمَّا عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَأَوْجَبُوهَا فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّ مَالَهُمَا مِنْ جِنْسِ مَالِ غَيْرِهِمَا وَوَلِيُّهُمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا بِخِلَافِ بَدَنِهِمَا . فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِعَقْلِهِمَا ؛ وَعَقْلِهِمَا نَاقِصٌ . وَصَارَ هَذَا كَمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي أَرْضِهِمَا مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الثَّمَانِيَةُ . وَكَذَلِكَ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِي مَالِهِمَا . وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ إنَّمَا تَسْقُطُ لِعَجْزِ الْعَقْلِ عَنْ الْإِيجَابِ لَا سِيَّمَا إذَا انْضَمَّ إلَى عَجْزِ الْبَدَنِ كَالصَّغِيرِ . وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْمَالِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ قَامَ مَقَامَهُمَا فِي الْفَهْمِ كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي جَمِيعِ مَا يَجِبُ فِي الْمَالِ وَأَمَّا بَدَنُهُمَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا فِيهِ شَيْءٌ .

فَصْلٌ : (*)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا ذَكَرَوهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا عِنْدَ ذِكْرِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ الصَّلَاةَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ إيمَانًا وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ إبَاءِ إبْلِيسَ حِينَ عَصَى رَبَّهُ فِي سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ (*) أُمِرَ أَنْ يَسْجُدَهَا لِآدَمَ فَأَبَاهَا . فَهَلْ جَحَدَ إبْلِيسُ رَبَّهُ وَهُوَ يَقُولُ : { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي } وَيَقُولُ : { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } إيمَانًا مِنْهُ بِالْبَعْثِ وَإِيمَانًا بِنَفَاذِ قُدْرَتِهِ فِي إنْظَارِهِ إيَّاهُ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَهَلْ جَحَدَ أَحَدًا مِنْ أَنْبِيَائِهِ أَوْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ سُلْطَانِهِ وَهُوَ يَحْلِفُ بِعِزَّتِهِ ؟ وَهَلْ كَانَ كُفْرُهُ إلَّا بِتَرْكِ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ أُمِرَ بِهَا فَأَبَاهَا ؟ قَالَ : وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ نَبَأِ ابْنَيْ آدَمَ { إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ } إلَى قَوْلِهِ : { فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } قَالُوا : وَهَلْ جَحَدَ رَبَّهُ ؟ وَكَيْفَ يَجْحَدُهُ وَهُوَ يُقَرِّبُ الْقُرْبَانَ ؟ . قَالُوا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } وَلَمْ يَقُلْ : إذَا ذُكِّرُوا بِهَا أَقَرُّوا بِهَا فَقَطْ . وَقَالَ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يَعْنِي يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ

فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ مَعَ مَا ذَكَرْت مِنْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ الْعَمَلَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ عَامَّةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ تَنْطِقُ بِذَلِكَ مِنْهَا حَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ ؛ وَذَكَرَ حَدِيثَ شُعْبَةَ وَقُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَفْظُهُ { آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ } ثُمَّ قَالَ : { هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ } وَذَكَرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً تُوجِبُ دُخُولَ الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ . . . (1) لَمَّا سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . . . (2)
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : إنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إزَالَةَ اسْمِ الْإِيمَانِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَلَا يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَهُ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَقَالُوا : إذَا زَنَى فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَاحْتَجُّوا لِتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . بِقَوْلِهِ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا } الْآيَةُ فَقَالُوا : الْإِيمَانُ خَاصٌّ يُثْبِتُ الِاسْمَ بِهِ بِالْعَمَلِ مَعَ التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامُ عَامٌّ يُثْبِتُ الِاسْمَ بِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَذَكَرَهُ عَنْ { سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا مِنْهُمْ شَيْئًا . فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَفُلَانًا وَلَمْ تُعْطِ فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مُسْلِمٌ أَعَادَهَا ثَلَاثًا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أو مُسْلِمٌ ثُمَّ قَالَ :

إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَمْنَعُ آخَرِينَ وَهُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ } قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَاحْتَجُّوا بِإِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَجُلُّ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : { يَخْرُجُ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَإِنْ رَجَعَ رَجَعَ إلَيْهِ } وَبِمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ : مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ : مُؤْمِنٌ ؛ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ الَّذِي حَدَّثَنَاهُ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ فضيل بْنِ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : هَذَا الْإِسْلَامُ وَدَوَّرَ دَارَةً وَاسِعَةً وَهَذَا الْإِيمَانُ وَدَوَّرَ دَارَةً صَغِيرَةً فِي وَسَطِ الْكَبِيرَةِ فَإِذَا زَنَى أَوْ سَرَقَ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص } حَدَّثَنَا بِذَلِكَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ شريح بْنِ هَانِئٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجهني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص } . وَذَكَرَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلَ

الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا . قَالَ : فَلَنَا فِي هَؤُلَاءِ أُسْوَةٌ وَبِهِمْ قُدْوَةٌ مَعَ مَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ اسْمَ الْمُؤْمِنِ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَمِدْحَةٍ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } وَقَالَ : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } وَقَالَ : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وَقَالَ : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } وَقَالَ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } . قَالَ : ثُمَّ أَوْجَبَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ زَائِلٌ عَمَّنْ أَتَى كَبِيرَةً . قَالُوا : وَلَمْ نَجِدْهُ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ فَثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ لَهُ ثَابِتٌ عَلَى حَالِهِ وَاسْمَ الْإِيمَانِ زَائِلٌ عَنْهُ . فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا : لَيْسَ الْإِيمَانُ ضِدُّ الْكُفْرِ قَالُوا : الْكُفْرُ ضِدٌّ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ لِلْإِيمَانِ أَصْلًا وَفُرُوعًا فَلَا يَثْبُتُ الْكُفْرُ حَتَّى يَزُولَ أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ ؛ فَاَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزَالَ عَنْهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ هَلْ فِيهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ أَصْلُهُ ثَابِتٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَفَرُوا . أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أُنْكِرَ عَلَى الَّذِي شَهِدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ثُمَّ قَالَ : لَكِنَّا نُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ يُخْبِرُك أَنَّهُ قَدْ آمَنَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صَدَقَ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُؤْمِنِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ

لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَانْتَهَى عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُوجِبَاتِ لِلنَّارِ الَّتِي هِيَ الْكَبَائِرُ . قَالُوا : فَلَمَّا أَبَانَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَدْ اسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ عَلَيْهِ . وَعَلِمْنَا أَنَّا قَدْ آمَنَّا وَصَدَّقْنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ التَّصْدِيقِ إلَّا بِالتَّكْذِيبِ ؛ وَلَسْنَا بِشَاكِّينَ وَلَا مُكَذِّبِينَ ؛ وَعَلِمْنَا أَنَّا عَاصُونَ لَهُ مُسْتَوْجِبُونَ لِلْعَذَابِ وَهُوَ ضِدُّ الثَّوَابِ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اسْمِ الْإِيمَانِ ؛ عَلِمْنَا أَنَّا قَدْ آمَنَّا وَأَمْسَكْنَا عَنْ الِاسْمِ الَّذِي أَثْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مِنْ اللَّهِ اسْمُ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُزَكِّيَ أَنْفُسَنَا وَأَمَرَنَا بِالْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَوْجَبَ لَنَا الْعَذَابَ بِعِصْيَانِنَا فَعَلِمْنَا أَنَّا لَسْنَا بِمُسْتَحِقِّينَ بِأَنْ نَتَسَمَّى مُؤْمِنِينَ إذْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى اسْمِ الْإِيمَانِ الثَّنَاءَ وَالتَّزْكِيَةَ وَالرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ ؛ وَأَوْجَبَ عَلَى الْكَبَائِرِ النَّارَ وَهَذَانِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ أَمْسَكْتُمْ عَنْ اسْمِ الْإِيمَانِ أَنْ تُسَمُّوا بِهِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَهُ صِدْقٌ ؟ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ سَمَّوْا الْأَشْيَاءَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَسْمَاءِ فَسَمَّوْا الزَّانِيَ فَاسِقًا وَالْقَاذِفَ فَاسِقًا وَشَارِبَ الْخَمْرِ فَاسِقًا وَلَمْ يُسَمُّوا وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا ؛ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ فِيهِ أَصْلَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَّقِي أَنْ يَكْفُرَ أَوْ يُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا . وَكَذَلِكَ يَتَّقِي اللَّهَ أَنْ يَتْرُكَ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ أَوْ الصَّلَاةِ وَيَتَّقِي أَنْ يَأْتِيَ أُمَّهُ فَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَّقٍ وَقَدْ أَجْمَعَ

الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَهُ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا إذَا كَانَ يَأْتِي بِالْفُجُورِ فَلَمَّا أَجْمَعُوا أَنَّ أَصْلَ التُّقَى وَالْوَرَعَ ثَابِتٌ فِيهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ فِيهِ فَرْعًا بَعْدَ الْأَصْلِ كَتَوَرُّعِهِ عَنْ إتْيَانِ الْمَحَارِمِ ثُمَّ لَا يُسَمُّونَهُ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا مَعَ إتْيَانِهِ بَعْضَ الْكَبَائِرِ بَلْ سَمَّوْهُ فَاسِقًا وَفَاجِرًا مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بِبَعْضِ التُّقَى وَالْوَرَعِ فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اسْمَ التُّقَى اسْمُ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ . قَالُوا : فَلِذَلِكَ لَا نُسَمِّيه مُؤْمِنًا وَنُسَمِّيه فَاسِقًا زَانِيًا . وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَصْلُ اسْمِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَّاهُمْ بِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا : مُسْلِمٌ وَلَمْ نَقُلْ : مُؤْمِنٌ قَالُوا : وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَحِّدِينَ يَسْتَحِقُّ أَلَّا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَلَا إسْلَامٌ لَكَانَ أَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ دَخَلُوهَا فَلَمَّا وَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } ثَبَتَ أَنَّ شَرَّ الْمُسْلِمِينَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَلَمَّا وَجَدْنَا الْأُمَّةَ تَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي أَلْزَمَهَا اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا يُكَفِّرُونَهُمْ وَلَا يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ : ثَبَتَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ إذْ أَجْمَعُوا أَنْ يُمْضُوا عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُسَمَّوْا مُؤْمِنِينَ إذْ كَانَ الْإِسْلَامُ يُثْبِتُ لِلْمِلَّةِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْإِنْسَانُ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ فَتَزُولُ عَنْهُ أَسْمَاءُ الْمِلَلِ إلَّا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَتَزُولُ عَنْهُ أَحْكَامُ جَمِيعِ الْمِلَلِ .

فَإِنْ قَالَ لَهُمْ قَائِلٌ : لِمَ لَمْ تَقُولُوا : كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تُرِيدُونَ بِهِ كَمَالَ الْكُفْرِ كَمَا قُلْتُمْ : مُؤْمِنُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تُرِيدُونَ بِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ ؟ قَالُوا : لِأَنَّ الْكَافِرَ مُنْكِرٌ لِلْحَقِّ وَالْمُؤْمِنَ أَصْلُ إيمَانِهِ الْإِقْرَارُ ، وَالْإِنْكَارُ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ فَتُنْتَظَرُ بِهِ الْحَقَائِقُ وَالْإِيمَانُ أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ يُنْتَظَرُ بِهِ حَقَائِقُ الْأَدَاءِ لِمَا أَقَرَّ وَالتَّحْقِيقُ لِمَا صَدَقَ ؛ وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا حَقٌّ لِرَجُلِ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ فَقَالَ : لَيْسَ لَك عِنْدِي حَقٌّ فَأَنْكَرَ وَجَحَدَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَنْزِلَةٌ يُحَقِّقُ بِهَا مَا قَالَ إذَا جَحَدَ وَأَنْكَرَ وَسَأَلَ الْآخَرُ حَقَّهُ فَقَالَ : نَعَمْ لَك عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا فَلَيْسَ إقْرَارُهُ بِاَلَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ بِذَلِكَ حَقُّهُ دُونَ أَنْ يُوَفِّيَهُ ؛ فَهُوَ مُنْتَظِرٌ لَهُ أَنْ يُحَقِّقَ مَا قَالَ بِالْأَدَاءِ وَيُصَدِّقَ إقْرَارَهُ بِالْوَفَاءِ وَلَوْ أَقَرَّ ثُمَّ لَمْ يُؤَدِّ إلَيْهِ حَقَّهُ كَانَ كَمَنْ جَحَدَهُ فِي الْمَعْنَى إذْ اسْتَوَيَا فِي التَّرْكِ لِلْأَدَاءِ فَتَحْقِيقُ مَا قَالَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ حَقَّهُ ؛ فَإِنْ أَدَّى جُزْءًا مِنْهُ حَقَّقَ بَعْضَ مَا قَالَ وَوَفَى بِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ . وَكُلَّمَا أَدَّى جُزْءًا ازْدَادَ تَحْقِيقًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ . وَعَلَى الْمُؤْمِنِ الْأَدَاءُ أَبَدًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ . فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا : مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ نَقُلْ : كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِمِثْلِ مَقَالَةِ هَؤُلَاءِ إلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ مُسْلِمًا لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ وَلِإِقْرَارِهِ بِاَللَّهِ وَبِمَا قَالَ وَلَمْ يُسَمُّوهُ مُؤْمِنًا . وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَعَ تَسْمِيَتِهِمْ إيَّاهُ بِالْإِسْلَامِ كَافِرٌ ؛ لَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ ؛ وَلَكِنْ كَافِرٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَمَلِ . وَقَالُوا : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ؛ وَقَالُوا : مُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ }

وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ إلَّا وَاسْمُ الْكُفْرِ لَازِمٌ لَهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ ضِدُّ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّ الْكُفْرَ كُفْرَانِ : كُفْرٌ هُوَ جَحْدٌ بِاَللَّهِ وَبِمَا قَالَ فَذَاكَ ضِدُّهُ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِمَا قَالَ وَكُفْرٌ هُوَ عَمَلٌ فَهُوَ ضِدُّ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } قَالُوا : فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنْ فَقَدْ كَفَرَ وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ إذْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ وَيَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ إلَّا مِنْ قِلَّةِ خَوْفِهِ وَإِنَّمَا يَقِلُّ خَوْفُهُ مِنْ قِلَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَوَعِيدِهِ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ الْإِيمَانِ التَّعْظِيمَ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالْوَرَعُ فَأَقْسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . ثُمَّ قَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } وَأَنَّهُ قَالَ : { إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَاءَ بِالْكُفْرِ } . فَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِ أَخَاهُ كَافِرًا وَبِقَوْلِهِ لَهُ : يَا كَافِرُ كَافِرًا ؛ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ دُونَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ . قَالُوا : فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ احْتَجَّ عَلَيْنَا فَزَعَمَ أَنَّا إذَا سَمَّيْنَاهُ كَافِرًا لَزِمَنَا أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ فَنَسْتَتِيبَهُ وَنُبْطِلَ الْحُدُودَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَفَرَ فَقَدْ زَالَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ الْمُؤْمِنِينَ وَحُدُودُهُمْ وَفِي ذَلِكَ إسْقَاطُ الْحُدُودِ وَأَحْكَامُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كُلِّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَإِنَّا لَمْ نَذْهَبْ فِي ذَلِكَ إلَى حَيْثُ ذَهَبُوا وَلَكِنَّا نَقُولُ : لِلْإِيمَانِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ وَضِدُّ الْإِيمَانِ الْكُفْرُ فِي كُلِّ مَعْنًى فَأَصْلُ الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ وَفَرْعُهُ إكْمَالُ الْعَمَلِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ فَضِدُّ الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ الَّذِي

هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ : الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَبِمَا قَالَ وَتَرَكَ التَّصْدِيقَ بِهِ وَلَهُ وَضِدُّ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ وَلَيْسَ هُوَ إقْرَارُ كُفْرٍ لَيْسَ بِكُفْرِ بِاَللَّهِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ؛ وَلَكِنْ كُفْرُ تَضْيِيعِ الْعَمَلِ كَمَا كَانَ الْعَمَلُ إيمَانًا وَلَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ إقْرَارٌ بِاَللَّهِ فَلَمَّا كَانَ مِنْ تَرْكِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ إقْرَارٌ بِاَللَّهِ كَافِرًا يُسْتَتَابُ وَمَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ مِثْلُ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ أَوْ تَرْكِ الْوَرِعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا قَدْ زَالَ عَنْهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ مَنْ خَالَفَنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِمَّنْ قَالَ : إنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ إلَّا الْخَوَارِجُ وَحْدَهَا فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ بِقَوْلِنَا : كَافِرٌ مِنْ جِهَةِ تَضْيِيعِ الْعَمَلِ أَنْ يُسْتَتَابَ وَلَا تَزُولُ عَنْهُ الْحُدُودُ وَكَمَا لَمْ يَكُنْ بِزَوَالِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ اسْتِتَابَةٍ وَلَا إزَالَةِ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ عَنْهُ إذْ لَمْ يَزَلْ أَصْلُ الْإِيمَانِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا اسْتِتَابَتُهُ وَإِزَالَةُ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ عَنْهُ بِإِثْبَاتِنَا لَهُ اسْمَ الْكُفْرِ مِنْ قِبَلِ الْعَمَلِ إذْ لَمْ يَأْتِ بِأَصْلِ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ جَحْدٌ بِاَللَّهِ أَوْ بِمَا قَالَ . قَالُوا : وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إيمَانًا وَالْجَهْلُ بِهِ كُفْرًا وَكَانَ الْعَمَلُ بِالْفَرَائِضِ إيمَانًا وَالْجَهْلُ بِهَا قَبْلَ نُزُولِهَا لَيْسَ بِكُفْرِ لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقَرُّوا بِاَللَّهِ أَوَّلَ مَا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا الْفَرَائِضَ الَّتِي اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ جَهْلُهُمْ بِذَلِكَ كُفْرًا ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْفَرَائِضَ فَكَانَ إقْرَارُهُمْ بِهَا وَالْقِيَامُ بِهَا إيمَانًا وَإِنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهَا لِتَكْذِيبِهِ خَبَرَ اللَّهِ ؛ وَلَوْ لَمْ يَأْتِ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ مَا كَانَ بِجَهْلِهَا كَافِرًا وَبَعْدَ مَجِيءِ الْخَبَرِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِالْخَبَرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ بِجَهْلِهَا كَافِرًا،

وَالْجَهْلُ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ كُفْرٌ قَبْلَ الْخَبَرِ وَبَعْدَ الْخَبَرِ . قَالُوا : فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا : إنَّ تَرْكَ التَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ كُفْرٌ ؛ وَإِنَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ مَعَ تَصْدِيقِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهَا كُفْرٌ ؛ لَيْسَ بِكُفْرِ بِاَللَّهِ إنَّمَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : كَفَّرْتنِي حَقِّي وَنِعْمَتِي يُرِيدُ ضَيَّعْت حَقِّي وَضَيَّعْت شُكْرَ نِعْمَتِي ؛ قَالُوا : وَلَنَا فِي هَذَا قُدْوَةٌ بِمَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ إذْ جَعَلُوا لِلْكُفْرِ فُرُوعًا دُونَ أَصْلِهِ لَا يَنْقُلُ صَاحِبَهُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَثْبَتُوا لِلْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ فُرُوعًا لِلْأَصْلِ لَا يَنْقُلُ تَرْكُهُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : حَدَّثَنَا ابْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ هِشَامٍ يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ عَنْ حجير عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إلَيْهِ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قَالَ هِيَ بِهِ كُفْرٌ قَالَ ابْنُ طَاوُوسٍ : وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ . حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ

أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هُوَ بِهِ كَفَرَ وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِهِ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَهُوَ كَافِرٌ . قَالَ : هُوَ بِهِ كَفَرَ وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ . حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ عَنْ طَاوُوسٍ قَالَ لَيْسَ بِكُفْرِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ . حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : قَالُوا : وَقَدْ صَدَقَ عَطَاءٌ قَدْ يُسَمَّى الْكَافِرُ ظَالِمًا وَيُسَمَّى الْعَاصِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظَالِمًا فَظُلْمٌ يَنْقُلُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَظُلْمٌ لَا يَنْقُلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } وَقَالَ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِذَلِكَ . أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ } .

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ نَشَرَ الْمُصْحَفَ فَقَرَأَ فِيهِ فَدَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَرَأَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَانْتَعَلَ وَأَخَذَ رِدَاءَهُ ثُمَّ أَتَى إلَى أبي بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَيْت قَبْلُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } وَقَدْ نَرَى أَنَّا نَظْلِمُ وَنَفْعَلُ . فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إنَّمَا ذَلِكَ الشِّرْكُ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَكَذَلِكَ " الْفِسْقُ فسقان " : فِسْقٌ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَفِسْقٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَيُسَمَّى الْكَافِرُ فَاسِقًا وَالْفَاسِقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسِقًا ذَكَرَ اللَّهُ إبْلِيسَ فَقَالَ : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } وَكَانَ ذَلِكَ الْفِسْقُ مِنْهُ كُفْرًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } يُرِيدُ الْكُفَّارَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } وَسُمِّيَ الْفَاسِقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسِقًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْإِسْلَامِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فَقَالَتْ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْفُسُوقِ هَاهُنَا : هِيَ الْمَعَاصِي . قَالُوا : فَلَمَّا كَانَ الظُّلْمُ ظلمين وَالْفِسْقُ فسقين كَذَلِكَ الْكُفْرُ كُفْرَانِ :

( أَحَدُهُمَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ) و ( الْآخَرُ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ) وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ " شِرْكَانِ " : شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَشِرْكٌ فِي الْعَمَلِ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَهُوَ الرِّيَاءُ قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمُرَاءَاةَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الطِّيرَةُ شِرْكٌ } . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : فَهَذَانِ مَذْهَبَانِ هُمَا فِي الْجُمْلَةِ مَحْكِيَّانِ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُوَافَقِيهِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ حَكَى الشالنجي إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ يَطْلُبُهَا بِجُهْدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ هَلْ يَكُونُ مُصِرًّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ ؟ قَالَ : هُوَ مُصِرٌّ مِثْلَ قَوْلِهِ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ : { لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فَقُلْت لَهُ : مَا هَذَا الْكُفْرُ ؟ فَقَالَ : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ يَكُونُ نَاقِصًا مِنْ إيمَانِهِ قَالَ : وَسَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ " الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ " فَقَالَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْإِسْلَامُ إقْرَارٌ . قَالَ : وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ لَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ إلَّا بِإِيمَانِ وَلَا إيمَانَ إلَّا بِإِسْلَامِ .

" قُلْت " : وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمَامُ الْكَلَامِ بِتَلَازُمِهِمَا وَإِنْ كَانَ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ .
وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " : أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةٍ وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ إيمَانٌ إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُسَمَّى إيمَانًا قَالُوا إنَّمَا الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ الْمَعْرِفَةَ وَذَكَرَ مَا احْتَجُّوا بِهِ . . . إلَى أَنْ قَالَ : وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْآثَارِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ ودَاوُد ابْنُ عَلِيٍّ والطبري وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ ؛ فَقَالُوا : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ مَعَ الْإِخْلَاصِ بِالنِّيَّةِ الصَّادِقَةِ . قَالُوا : وَكُلُّ مَا يُطَاعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي وَأَهْلُ الذُّنُوبِ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنُونَ غَيْرُ مُسْتَكْمِلِي الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّمَا صَارُوا نَاقِصِي الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِهِمْ الْكَبَائِرَ . أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . الْحَدِيثُ يُرِيدُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ جَمِيعِ الْإِيمَانِ عَنْ فَاعِلِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَوْرِيثِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ إذَا صَلَّوْا إلَى الْقِبْلَةِ وَانْتَحَلُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا

بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ ؛ ثُمَّ قَالَ : وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ . قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ جِمَاعُ الطَّاعَاتِ وَمَنْ قَصَرَ مِنْهَا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ فَاسِقٌ ؛ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَحَقِّقُونَ بِالِاعْتِزَالِ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ . إلَى أَنْ قَالَ : وَعَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْآثَارِ ؛ وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا فِي الْأَمْصَارِ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَتَوَقَّفَ فِي نُقْصَانِهِ . وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى وَابْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . ثُمَّ ذَكَرَ حُجَجَ الْمُرْجِئَةِ ؛ ثُمَّ حُجَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدَّ عَلَى الْخَوَارِجِ التَّكْفِيرَ بِالْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ لِلْعُصَاةِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وبالموارثة وَبِحَدِيثِ عبادة : { مَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ } وَقَالَ : الْإِيمَانُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ؛ فَلَيْسَ نَاقِصُ الْإِيمَانِ كَكَامِلِ الْإِيمَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أَيْ حَقًّا . وَلِذَلِكَ قَالَ : { هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ ؛ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } - يَعْنِي حَقًّا - وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ : { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَكْمَلَ حَتَّى يَكُونَ غَيْرُهُ أَنْقَصَ

وَقَوْلُهُ : { أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } . وَقَوْلُهُ : { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْإِيمَانِ أَوْثَقُ وَأَكْمَلُ مِنْ بَعْضٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ } الْحَدِيثُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَإِصَابَةُ السُّنَّةِ . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ : مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةُ : يَعْنِي الشَّهَادَتَيْنِ ؛ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ؛ وَالزَّكَاةَ وَصِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ وَالْحَجَّ . قَالَ وَأَرْكَانُ الْإِيمَانِ سَبْعَةٌ : يَعْنِي الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جبرائيل وَالْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ ؛ وَالْإِيمَانَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَكِلَاهُمَا قَدْ رُوِيَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ كَمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ : وَالْإِيمَانُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ ؛ وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَالْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ ؛ يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْإِيمَانَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا ؛ لَكِنْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْإِنْسَانُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ ؛ وَأَنَّهُمَا قَدْ خُلِقَتَا قَبْلَ آدَمَ . وَالْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانُ بِجَمِيعِ أَقْدَارِ اللَّهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَحُلْوِهَا وَمُرِّهَا ؛ إنَّهَا مِنْ اللَّهِ قَضَاءً وَقَدَرًا وَمَشِيئَةً وَحُكْمًا وَأَنَّ ذَلِكَ عَدْلٌ مِنْهُ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ؛ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ غَيْبِهَا وَمَعْنَى حَقَائِقِهَا . قَالَ : وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ : إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ وَهَذَا قَدْ أَذْهَبَ التَّفَاوُتَ وَالْمَقَامَاتِ وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِ الْمُرْجِئَةِ : وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّ

الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ أَدْخَلُوا التَّضَادَّ وَالتَّغَايُرَ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الإباضية ؛ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ وَتَفْصِيلٍ فَمَثَلُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الشَّهَادَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ فَشَهَادَةُ الرَّسُولِ غَيْرُ شَهَادَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهُمَا شَيْئَانِ فِي الْأَعْيَانِ . وَإِحْدَاهُمَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ كَشَيْءِ وَاحِدٍ كَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ أَحَدُهُمَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ فَهُمَا كَشَيْءِ وَاحِدٍ لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا إسْلَامَ لَهُ ؛ وَلَا إسْلَامَ لِمَنْ لَا إيمَانَ لَهُ إذْ لَا يَخْلُو الْمُسْلِمُ مِنْ إيمَانٍ بِهِ يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْ إسْلَامٍ بِهِ يُحَقِّقُ إيمَانَهُ مِنْ حَيْثُ اشْتَرَطَ اللَّهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْإِيمَانَ ؛ وَاشْتَرَطَ لِلْإِيمَانِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَقَالَ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } وَقَالَ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ : { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا } فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى عُقُودِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ فَهُوَ مُنَافِقٌ نِفَاقًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَمَنْ كَانَ عَقْدُهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ وَلَا يَعْمَلُ بِأَحْكَامِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا لَا يَثْبُتُ مَعَهُ تَوْحِيدٌ ؛ وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْغَيْبِ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ عَامِلًا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ ؛ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمُؤْمِنُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا ؛ وَلَجَازَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ . وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ ؛ وَكُلَّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ قَالَ : وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْقَلْبِ فِي الْجِسْمِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ ؛ لَا يَكُونُ ذُو جِسْمٍ حَيٍّ لَا قَلْبَ لَهُ ؛ وَلَا ذُو قَلْبٍ بِغَيْرِ

جِسْمٍ ؛ فَهُمَا شَيْئَانِ مُنْفَرِدَانِ ؛ وَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى مُنْفَصِلَانِ ؛ وَمَثَلُهُمَا أَيْضًا مَثَلُ حَبَّةٍ لَهَا ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَهِيَ وَاحِدَةٌ . لَا يُقَالُ : حَبَّتَانِ : لِتَفَاوُتِ صِفَتِهِمَا . فَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ هُوَ ظَاهِرُ الْإِيمَانِ ؛ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ ؛ وَالْإِيمَانُ بَاطِنُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ ؛ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَفِي لَفْظٍ : { الْإِيمَانُ سِرٌّ } فَالْإِسْلَامُ أَعْمَالُ الْإِيمَانِ ؛ وَالْإِيمَانُ عُقُودُ الْإِسْلَامِ ؛ فَلَا إيمَانَ إلَّا بِعَمَلِ ؛ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِعَقْدِ . وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ؛ أَحَدُهُمَا مُرْتَبِطٌ بِصَاحِبِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } أَيْ لَا عَمَلَ إلَّا بِعَقْدِ وَقَصْدٍ لِأَنَّ " إنَّمَا " تَحْقِيقٌ لِلشَّيْءِ وَنَفْيٌ لِمَا سِوَاهُ ؛ فَأَثْبَتَ بِذَلِكَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ ؛ وَعَمَلُ الْقُلُوبِ مِنْ النِّيَّاتِ ؛ فَمَثَلُ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الشَّفَتَيْنِ مِنْ اللِّسَانِ لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ إلَّا بِهِمَا ؛ لِأَنَّ الشَّفَتَيْنِ تَجْمَعُ الْحُرُوفَ ؛ وَاللِّسَانَ يُظْهِرُ الْكَلَامَ ؛ وَفِي سُقُوطِ أَحَدِهِمَا بُطْلَانُ الْكَلَامِ ؛ وَكَذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْعَمَلِ ذَهَابُ الْإِيمَانِ ؛ وَلِذَلِكَ حِينَ عَدَّدَ اللَّهُ نِعَمَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْكَلَامِ ذَكَرَ الشَّفَتَيْنِ مَعَ اللِّسَانِ فِي قَوْلِهِ : { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } { وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ } بِمَعْنَى أَلَمْ نَجْعَلْهُ نَاظِرًا مُتَكَلِّمًا ؛ فَعَبَّرَ عَنْ الْكَلَامِ بِاللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَكَانٌ لَهُ وَذَكَرَ الشَّفَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي جَرَتْ بِهِ النِّعْمَةُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا . وَمَثَلُ " الْإِيمَانِ " و " الْإِسْلَامِ " أَيْضًا كَفُسْطَاطِ قَائِمٍ فِي الْأَرْضِ لَهُ ظَاهِرٌ

وَأَطْنَابٌ وَلَهُ عَمُودٌ فِي بَاطِنِهِ فَالْفُسْطَاطُ مِثْلُ الْإِسْلَامِ لَهُ أَرْكَانٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعَلَانِيَةِ وَالْجَوَارِحِ وَهِيَ الْأَطْنَابُ الَّتِي تُمْسِكُ أَرْجَاءَ الْفُسْطَاطِ ، وَالْعَمُودُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْفُسْطَاطِ مَثَلُهُ كَالْإِيمَانِ لَا قِوَامَ لِلْفُسْطَاطِ إلَّا بِهِ فَقَدْ احْتَاجَ الْفُسْطَاطُ إلَيْهَا إذْ لَا قِوَامَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِمَا كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِالْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَا نَفْعَ لَهُ إلَّا بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ صَالِحُ الْأَعْمَالِ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ ضِدَّ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَاحِدًا فَلَوْلَا أَنَّهُمَا كَشَيْءِ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى مَا كَانَ ضِدُّهُمَا وَاحِدًا فَقَالَ : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ } وَقَالَ : { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . فَجَعَلَ ضِدَّهُمَا الْكُفْرَ . قَالَ : وَعَلَى مِثْلِ هَذَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ ؛ فَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } وَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ إنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا إيمَانَ بَاطِنٌ إلَّا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ وَلَا إسْلَامَ ظَاهِرٌ عَلَانِيَةً إلَّا بِإِيمَانِ سِرٍّ وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ قَرِينَانِ لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ . قَالَ : فَأَمَّا تَفْرِقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَفْصِيلُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعُقُودُهَا عَلَى مَا تُوجِبُ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْنَاهَا أَنْ تَكُونَ عُقُودًا مِنْ تَفْصِيلِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مِمَّا يُوجِبُ الْأَفْعَالَ

الظَّاهِرَةَ الَّتِي وَصَفَهَا أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَةً لَا أَنَّ ذَلِكَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ وَتَضَادٍّ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْحُكْمِ قَالَ : وَيَجْتَمِعَانِ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٍ فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عُقُودِ الْقَلْبِ وَصْفَ قَلْبِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ وَصْفَ جِسْمِهِ . قَالَ : و " أَيْضًا " فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ آمَنَ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عُقُودِ الْقَلْبِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ مَنْ وَصَفَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ وَصْفِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ إنْ عَمِلَ بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ الْإِسْلَامُ ثُمَّ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا وَصَفَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ . قُلْت : كَأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ أَوْ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إذَا أُنْكِرَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَرْكَانِ أَوْ عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَلَمْ يُصَدِّقْهُ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَرَ خِلَافَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ خِلَافًا ؛ وَإِلَّا فَأَبُو طَالِبٍ كَانَ عَارِفًا بِأَقْوَالِهِمْ وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مُرَادُهُ فَإِنَّهُ عَقَدَ " الْفَصْلَ الثَّالِثَ وَالثَّلَاثِينَ " فِي بَيَانِ تَفْصِيلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَشَرْحِ عُقُودِ مُعَامَلَةِ الْقَلْبِ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَجْوَدُ مِمَّا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَكِنْ يُنَازَعُ فِي شَيْئَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الْمُفَصَّلُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ .

وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يُطْلِقُ مُؤْمِنًا دُونَ مُسْلِمٍ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أو مُسْلِمٌ " لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ : لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ بَلْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ الْأَبْرَارِ فَهَذَانِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِمَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَيَقُولُونَ : لَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ " أو مُسْلِمٌ " لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَالسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَنْفِي الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ الْمُتَّقِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مَعَ السَّابِقِينَ الْمُقَرِّبِينَ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ مَوْعُودُونَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ ؛ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُنْفَى الْإِيمَانُ عَنْ شَخْصٍ لِكَوْنِ غَيْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ إيمَانًا نُفِيَ الْإِيمَانُ عَنْ أَكْثَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ بَلْ وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : نَفْيُ الِاسْمِ لِنَفْيِ كَمَالِهِ الْمُسْتَحَبِّ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ خُصَّ مَنْ قِيلَ فِيهِ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا عَنْ دَرَجَةِ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَكُونُ إيمَانُهُ نَاقِصًا عَنْ إيمَانِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فَلَا يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِ ثُمَّ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَإِنْ قَدَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ هَؤُلَاءِ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مِثْلِ إيمَانِهِمْ وَلَا يَكُونُ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ وَإِنْ

دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا يَكُونُ كَمَنْ قُدِّرَ أَنَّهُ آمَنَ إيمَانًا مُجْمَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ تَفْصِيلُ الْإِيمَانِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ وَيَعْمَلَ بِشَيْءِ مِنْهُ فَهُوَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَكِنْ لَا يَكُونُ مِثْلَ أُولَئِكَ . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : الْأَبْرَارُ أَهْلُ الْيَمِينِ هُمْ أَيْضًا عَلَى دَرَجَاتٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } الْآيَةُ فَدَرَجَةُ الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَمَّلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَقَدْ يُرِيدُ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِمْ : لَيْسَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْمَعْنَى : أَيْ لَيْسَ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ مَنْ حَقَّقَ خَاصَّةَ الْإِيمَانِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَوْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ وَاجِبًا لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مَذْمُومًا وَلَا يُمْدَحُ مَدْحَ أُولَئِكَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبِينَ . فَيُقَالُ : وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْفِي عَنْهُ الْإِيمَانَ . فَيُقَالُ : هُوَ مُسْلِمٌ لَا مُؤْمِنٌ كَمَا يُقَالُ : لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا مُفْتٍ وَلَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } وَهَذَا كَثِيرٌ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فُضِّلَ بِهِ الْفَاضِلُ يَكُونُ مَقْدُورًا لِمَنْ دُونَهُ فَكَذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ وَلَا أَكْثَرُهُمْ فَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَحَقَّقُوا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهَا غَيْرَهُمْ وَلَا تَرَكُوا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ

مَا هُوَ مِنْ الْمَوَاهِبِ وَالْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } وَقَالَ : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } . وَمِثْلُ هَذِهِ السَّكِينَةِ قَدْ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَجَزَاءً عَلَى عَمَلٍ سَابِقٍ كَمَا قَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } كَمَا قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } وَكَمَا قَالَ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَلِهَذَا قِيلَ : مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ؛ وَهَذَا الْجِنْسُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ ؛ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ هُوَ أَيْضًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَإِقْدَارِهِ لَهُمْ ؛ لَكِنَّ الْأُمُورَ قِسْمَانِ : مِنْهُ مَا جِنْسُهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ لِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَمِنْهُ مَا جِنْسُهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُمْ ؛ إذَا قِيلَ : إنَّ اللَّهَ يُعْطِي مَنْ أَطَاعَهُ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ يَكُونُ بِهَا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَعْنَى . قَالَ تَعَالَى : { إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَدْ قَالَ : { إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ وَهَذَا الثَّبَاتُ يُوحِي إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ .

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُذَمُّ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ ذَاكَ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَفْضُولُ تَرَكَ وَاجِبًا فَيُقَالُ : وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يُؤْمَرُ الْقَادِرُ عَلَى الْفِعْلِ بِمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَاجِزُ عَنْهُ وَيُؤْمَرُ بَعْضُ النَّاسِ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ ؛ لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ قَدْ يُعْطَى الْإِنْسَانُ مِثْلَ أَجْرِ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا وَيُرِيدُهَا جُهْدَهُ وَلَكِنَّ بَدَنَهُ عَاجِزٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } فَاسْتَثْنَى أُولِي الضَّرَرِ . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } . وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري : { هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ : { إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ : رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَتَّقِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ وَعَبْدٍ

رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ } . وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَه : { مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ : رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْت فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْتَبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَرَجُلٍ لَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا وَلَا مَالًا وَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْت مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ } .
كَالشَّخْصَيْنِ إذَا تَمَاثَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ مَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا وَحُبًّا وَقُوَّةً وَحَالًا وَمَقَامًا فَقَدْ يَتَمَاثَلَانِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبَدَنِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَدَنُ الْآخَرِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : إنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَالْمُنَافِقُ قُوَّتُهُ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ ذُو الصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } وَقَدْ قَالَ : { رَأَيْت كَأَنِّي أَنْزِعُ عَلَى قَلِيبٍ فَأَخَذَهَا ابْن أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ فِي

يَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ حَتَّى صَدَرَ النَّاسُ بِعَطَنِ } فَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَضْعَفُ وَسَوَاءٌ أَرَادَ قَصْرَ مُدَّتِهِ أَوْ أَرَادَ ضَعْفَهُ عَنْ مِثْلِ قُوَّةِ عُمَرَ فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْوَى إيمَانًا مِنْ عُمَرَ . وَعُمَرُ أَقْوَى عَمَلًا مِنْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ ؛ وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ قُوَّةِ الْعَمَلِ وَصَاحِبُ الْإِيمَانِ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِ غَيْرِهِ ، وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سِيرَتِهِ مَكْتُوبٌ مِثْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ . وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُزِنَ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ } وَكَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَحْصُلُ لِعُمَرِ بِسَبَبِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَهُوَ قَدْ دَعَاهُ إلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ بِجُهْدِهِ وَالْمُعِينُ عَلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ يُرِيدُهُ إرَادَةً جَازِمَةً كَانَ كَفَاعِلِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } وَقَالَ : { مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ } وَقَالَ : { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ { مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بَلْ يَتَفَاضَلَانِ وَيَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ فَلَا يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ

وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ لَمْ يَهِبْهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا وَهَبَهُ لِلْفَاضِلِ وَلَا أَعْطَى قَلْبَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَنَالُ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الْفَاضِلَ مَا أَعْطَى الْمَفْضُولَ وَلِهَذَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْفَاضِلُ أَقَلَّ عَمَلًا مِنْ الْمَفْضُولِ كَمَا فَضَّلَ اللَّهُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُدَّةَ نُبُوَّتِهِ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً - عَلَى نُوحٍ وَقَدْ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَفَضَّلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ عَمِلُوا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَأَعْطَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجْرَيْنِ وَأَعْطَى كُلًّا مِنْ أُولَئِكَ أَجْرًا أَجْرًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ وَكَانَ أُولَئِكَ أَكْثَرَ عَمَلًا ؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَهُوَ فَضْلُهُ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَفَضَّلَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَخَصَّهُمْ بِهَا . وَهَكَذَا سَائِرُ مَنْ يُفَضِّلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُفَضِّلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا التَّفْضِيلَ بِالْجَزَاءِ كَمَا يَخُصُّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ بِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَبِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْيَقِينَ وَالصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْإِخْلَاصَ ؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا فَضَّلَهُ فِي الْجَزَاءِ بِمَا فَضَّلَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } { وَلَا تُؤْمِنُوا إلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وَقَالَ : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } وَقَالَ : { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } .

وَقَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أَسْبَابُ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابُ الْعَذَابِ وَكَذَلِكَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ قَدْ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ بِأَسْبَابِ الرِّزْقِ . وَإِذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَخْتَصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ فَذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُمْ اللَّهُ بِهِ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَنْفِي عَنْ غَيْرِهِمْ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّفْضِيلِ فَإِنَّ الذَّمَّ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ . لَكِنْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو طَالِبٍ . يُقَالُ : فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ وَيُقَالُ : إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ آخَرَ وَعَلَى هَذَا يُنْفَى الْإِيمَانُ عَمَّنْ فَاتَهُ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ ؛ بَلْ الْكَمَالُ الَّذِي يُفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ فَاتَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ بَلْ يُنْفَى عَنْهُ الْكَمَالُ الَّذِي وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهِ لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ يَقْتَضِي الذَّمَّ حَيْثُ كَانَ فَلَا يُنْفَى إلَّا عَمَّنْ لَهُ ذَنْبٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : " أو مُسْلِمٌ " تَوَقَّفَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ جَمَاهِيرُ النَّاسِ . ثُمَّ طَائِفَةٌ يَقُولُونَ : قَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ مُنَافِقُونَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ طَائِفَةٌ كَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ : بَلْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ ؛ بَلْ كَانَ مَعَهُمْ تَصْدِيقٌ يُقْبَلُ مَعَهُ مِنْهُمْ مَا عَمِلُوهُ لِلَّهِ وَلِهَذَا جَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } كَمَا

قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّ مَعَهُ التَّصْدِيقَ . وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيهِمْ . وَأَبُو طَالِبٍ جَعَلَ مَنْ كَانَ مَذْمُومًا لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يُعْطُوا شَيْئًا وَجَعْلُ ذَلِكَ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَيَقُولُونَ : إثْبَاتُ الْإِسْلَامِ لَهُمْ دُونَ الْإِيمَانِ كَإِثْبَاتِهِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كِلَاهُمَا مَذْمُومٌ لَا لِمُجَرَّدِ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } وَلَمْ يَسْلُبْ عَمَّنْ دُونَهُ الْإِيمَانَ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } . فَأَثْبَتَ الْإِيمَانَ لِلْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } { وَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ : لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ } وَكَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُرْسِلُهُ فِي جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ : { إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ ؛ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ فِي " الصَّحِيحِ " وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَسْأَلُك حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَك . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا تَدُلُّ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ

بِإِحْسَانِ أَنَّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَخُصُّهُ اللَّهُ بِاجْتِهَادِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ وَذَلِكَ الْآخَرُ عَاجِزٌ لَهُ أَجْرٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي خُصَّ بِهِ هَذَا وَالْعَمَلُ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا زِيَادَةٌ فِي إيمَانِهِ وَهُوَ إيمَانٌ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَغَيْرُهُ عَاجِزٌ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ . فَهَذَا قَدْ فُضِّلَ بِإِيمَانِ وَاجِبٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهُ . وَهَذَا حَالُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِيمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ إذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ اجْتِهَادِ الْآخَرِ وَعَجْزِهِ كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ مُثَابٌ مُؤْمِنٌ وَذَلِكَ خَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِمَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى هَذَا ؛ وَذَلِكَ الْمُخْطِئُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَمًّا وَلَا عِقَابًا وَإِنْ كَانَ ذَاكَ لَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ذُمَّ وَعُوقِبَ كَمَا خَصَّ اللَّهُ أُمَّةَ نَبِيِّنَا بِشَرِيعَةِ فَضَّلَهَا بِهِ وَلَوْ تَرَكَنَا مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ فِيهَا شَيْئًا ؛ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ ؛ وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا لَا يَذُمُّونَ بِتَرْكِ ذَلِكَ لَكِنْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَفَضَّلَ أُمَّتَهُ عَلَى الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ .
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ فَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مُسْلِمًا وَلَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كَالْأَعْرَابِ وَكَالشَّخْصِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أو مُسْلِمٌ " وَكَسَائِرِ مَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ كَالزَّانِي وَالشَّارِبِ

وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُعَلِّقْ وَعْدَ الْجَنَّةِ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ مَعَ إيجَابِهِ الْإِسْلَامَ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ ؛ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ وَمَعَ هَذَا فَمَا قَالَ : إنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا قَالَ : وَعَدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } فَهُوَ يُعَلِّقُهَا بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَقَوْلُهُ : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَوْلُهُ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } وَقَوْلُهُ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } وَقَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } وَقَالَ : { وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ

فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ . فَالْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ وَبِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَذَابِ عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ . فَلَوْ كَانَ مَنْ أَتَى مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ قَدْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا لَكَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ وَكَانَتْ الْجَنَّةُ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مُؤْمِنًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْجَنَّةُ لَمْ تُعَلَّقْ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ وَعْدُ الْجَنَّةِ مُعَلَّقًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَكَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ " التَّقْوَى " وَاسْمُ " الْبِرِّ " فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } وَبَاسِمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فَلَمَّا لَمْ يَجْرِ اسْمُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْمَجْرَى عُلِمَ أَنَّ مُسَمَّاهُ لَيْسَ مُلَازِمًا لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا يُلَازِمُهُ اسْمُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى طَاعَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ فَهَذَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ وَلَا يُخْلِدُهُ فِي النَّارِ ؛ لِأَنَّ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ .

وَهَكَذَا سَائِرُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ إيمَانُهُمْ نَاقِصٌ وَإِذَا كَانَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ عُوقِبَ بِهَا إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ فَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ وَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ . لَكِنَّ مَعَهُمْ أَيْضًا مَا يُخَالِفُ الْإِيمَانَ مِنْ النِّفَاقِ فَلَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ مُؤْمِنِينَ بِأَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مُنَافِقِينَ لَا سِيَّمَا إنْ كَانُوا لِلْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَمَا يَدْخُلُ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَأَوْلَى لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَدْخُلُونَ بِهِ فِي خِطَابِ اللَّهِ بِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهْيٌ لَهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي مَعَهُمْ إنْ اقْتَضَى شُمُولَ لَفْظِ الْخِطَابِ لَهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَلَيْسُوا بِأَسْوَأِ حَالًا مِنْ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَتَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَيُحْشَرُ بِهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمِلَلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ يُضْرَبُ { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ صَالِحًا لِلَّهِ : فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَيَكُونُ

مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُحْشَرُ بِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الذُّنُوبِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ عُذِّبَ وَأُخْرِجَ مِنْ النَّارِ ؛ إذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِفَاقٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } فَلَمْ يَقُلْ : إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمُجَرَّدِ هَذَا إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ بَلْ هُمْ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَإِخْلَاصَهُ لِلَّهِ وَقَالَ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } فَيَكُونُ لَهُمْ حُكْمُهُمْ . وَقَدْ بَيَّنَ تَفَاضُلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَإِنَّهُ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ وَمَنْ كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَأَتَى بِالْكَبَائِرِ فَذَاكَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِيمَانُهُ يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ ؛ وَيُخْرِجُهُ بِهِ مِنْ النَّارِ وَلَوْ أَنَّهُ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَعْدُ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ . وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ النَّاسَ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ وَيُسَمَّى مُسْلِمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد . وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَفِيهِ كُفْرٌ دُونَ الْكُفْرِ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ : ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ . وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ فِي السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ } . إنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ : مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ ؛ وَاسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ اسْمِ الْإِيمَانِ مَعَ إثْبَاتِ اسْمِ الْإِسْلَامِ وَبِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَمَعَهُ كُفْرٌ ===

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفتن

  ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر منذ 8 ساعات ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بيْنَكُمْ وبيْنَ بَنِي الأصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْ...