ج15.وج16وج17. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
الْإِلَهِيَّ
وَزَعَمَ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ لَهُمْ : أَنَّهُ غَايَةُ فَلْسَفَتِهِمْ
وَنِهَايَةُ حِكْمَتِهِمْ - فَالْحَقُّ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ قَلِيلٌ نَزْرٌ
وَغَالِبُهُ عِلْمٌ بِأَحْكَامِ ذِهْنِيَّةٍ لَا حَقَائِقَ خَارِجِيَّةٍ .
وَلَيْسَ عَلَى أَكْثَرِهِ قِيَاسٌ مَنْطِقِيٌّ . فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمُجَرَّدَ
وَالْوُجُوبَ وَالْإِمْكَانَ وَالْعِلَّةَ الْمُجَرَّدَةَ وَالْمَعْلُولَ
وَانْقِسَامَ ذَلِكَ إلَى جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ وَهُوَ الْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ ؛
وَإِلَى عِلَّتَيْ وُجُودِهَا . وَهُمَا الْفَاعِلُ وَالْغَايَةُ ؛ وَالْكَلَامُ
فِي انْقِسَامِ الْوُجُودِ إلَى الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ التِّسْعَةِ ؛
الَّتِي هِيَ : الْكَمُّ وَالْكَيْفُ وَالْإِضَافَةُ وَالْأَيْنُ وَمَتَى
وَالْوَضْعُ وَالْمِلْكُ ؛ وَأَنْ يُفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ ؛ كَمَا أَنْشَدَ
بَعْضهمْ فِيهَا :
زَيْدُ الطَّوِيلُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَالِكِ * * * فِي دَارِهِ بِالْأَمْسِ كَانَ
يتكي
فِي يَدِهِ سَيْفٌ نَضَاهُ فَانْتَضَى * * * فَهَذِهِ عَشْرُ مَقُولَاتٍ سواء
لَيْسَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى أَقْسَامِهَا قِيَاسٌ مَنْطِقِيٌّ ؛ بَلْ غَالِبُهَا
مُجَرَّدُ اسْتِقْرَاءٍ قَدْ نُوزِعَ صَاحِبُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ .
فَإِذَا كَانَتْ صِنَاعَتُهُمْ بَيْنَ عُلُومٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى
الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ . وَبَيْنَ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا
فِيهِ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ : كَانَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ فِي عُلُومِهِمْ
بَلْ كَانَ فِيهِ مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ عَنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ
النَّافِعَةِ مَا ضَرَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ
كَمَا سَدَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ طَرِيقَ الْعِلْمِ وَأَوْقَعَهُمْ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِ عُلُومِهِمْ مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي لَا تُحَدُّ لِلْأَوَّلِينَ والآخرين . وَأَيْضًا لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ حَقَّقَ عِلْمًا مِنْ الْعُلُومِ وَصَارَ إمَامًا فِيهِ مُسْتَعِينًا بِصِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ لَا مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا فَالْأَطِبَّاءُ والحساب وَالْكُتَّابُ وَنَحْوُهُمْ يُحَقِّقُونَ مَا يُحَقِّقُونَ مِنْ عُلُومِهِمْ وَصِنَاعَاتِهِمْ بِغَيْرِ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ . وَقَدْ صُنِّفَ فِي الْإِسْلَامِ عُلُومُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرُوضِ وَالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَيْسَ فِي أَئِمَّةِ هَذِهِ الْفُنُونِ مَنْ كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى الْمَنْطِقِ بَلْ عَامَّتُهُمْ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُعَرَّبَ هَذَا الْمَنْطِقُ الْيُونَانِيُّ . وَأَمَّا الْعُلُومُ الْمَوْرُوثَةُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ صِرْفًا وَإِنْ كَانَ الْفِقْهُ وَأُصُولُهُ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ فَهِيَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ لِأَهْلِهَا الْتِفَاتاً إلَى الْمَنْطِقِ إذْ لَيْسَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - الَّتِي هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ - وَأَفْضَلُهَا الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ : مَنْ كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى الْمَنْطِقِ أَوْ يُعَرِّجُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي تَحْقِيقِ الْعُلُومِ وَكَمَالِهَا بِالْغَايَةِ الَّتِي لَا يُدْرِكُ أَحَدٌ شَأْوَهَا كَانُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا وَأَقَلَّهُمْ تَكَلُّفًا وَأَبَرَّهُمْ قُلُوبًا . وَلَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ كَلَامٌ فِيمَا تَكَلَّمُوا فِيهِ إلَّا وَجَدْت بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمَ مِمَّا بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْفَرَقِ بَلْ الَّذِي وَجَدْنَاهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْعُلُومِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ
الصِّنَاعَةِ أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا وَاضْطِرَابًا وَأَقَلُّهُمْ عِلْمًا وَتَحْقِيقًا وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ تَحْقِيقِ عِلْمٍ مَوْزُونٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ قَدْ يُحَقِّقُ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ . فَذَلِكَ لِصِحَّةِ الْمَادَّةِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا وَصِحَّةِ ذِهْنِهِ وَإِدْرَاكِهِ لَا لِأَجْلِ الْمَنْطِقِ . بَلْ إدْخَالُ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ فِي الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ يُطَوِّلُ الْعِبَارَةَ وَيُبْعِدُ الْإِشَارَةَ وَيَجْعَلُ الْقَرِيبَ مِنْ الْعِلْمِ بَعِيدًا وَالْيَسِيرَ مِنْهُ عَسِيرًا . وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي الْخِلَافِ وَالْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُفِدْ إلَّا كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَالتَّشْقِيقِ ؛ مَعَ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ حَشْوِ الْكَلَامِ وَأَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنْ طَرِيقَةِ ذَوِي الْأَحْلَامِ . نَعَمْ لَا يُنْكَرُ أَنَّ فِي الْمَنْطِقِ مَا قَدْ يَسْتَفِيدُ بِبَعْضِهِ مَنْ كَانَ فِي كُفْرٍ وَضَلَالٍ وَتَقْلِيدٍ مِمَّنْ نَشَأَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ كَعَوَامِّ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ فَأَوْرَثَهُمْ الْمَنْطِقُ تَرْكَ مَا عَلَيْهِ أُولَئِكَ مِنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ . وَلَكِنْ يَصِيرُ غَالِبُ هَؤُلَاءِ مُدَاهِنِينَ لِعَوَامِّهِمْ مُضِلِّينَ لَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ يَصِيرُونَ مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً لَا يُقِرُّونَ بِحَقِّ وَلَا بِبَاطِلِ بَلْ يَتْرُكُونَ الْحَقَّ كَمَا تَرَكُوا الْبَاطِلَ . فَأَذْكِيَاءُ طَوَائِفِ الضَّلَالِ إمَّا مُضَلِّلُونَ مُدَاهِنُونَ وَإِمَّا زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ لَا يَكَادُ يَخْلُو أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ هَذَيْنِ
فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَنْطِقُ وَقَفَهُمْ عَلَى حَقٍّ يَهْتَدُونَ بِهِ : فَهَذَا لَا يَقَعُ بِالْمَنْطِقِ . فَفِي الْجُمْلَةِ : مَا يَحْصُلُ بِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ شَحْذِ ذِهْنٍ أَوْ رُجُوعٍ عَنْ بَاطِلٍ أَوْ تَعْبِيرٍ عَنْ حَقٍّ : فَإِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أَسْوَأِ حَالٍ لَا لِمَا فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ مِنْ الْكَمَالِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ الْمُشْرِكَ إذَا تَمَجَّسَ وَالْمَجُوسِيَّ إذَا تَهَوَّدَ : حَسُنَتْ حَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا كَانَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ . لَكِنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَةً لِأَهْلِ الْحَقِّ الْمُبِينِ . وَهَذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهِ . بَلْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ نَظَرَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا دِقَّةٌ وَلَهَا نَوْعُ إحَاطَةٍ كَمَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ لِأَهْلِهِ مِنْ التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ وَالتَّقْسِيمِ وَالتَّحْدِيدِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَنْطِقِ وَأَنَّ أَهْلَهُ يَتَكَلَّمُونَ فِي صُورَةِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْقَوَاعِدِ . فَالْمَعَانِي فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى وَضْعٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ قَوَالِبِهَا الَّتِي هِيَ الْأَلْفَاظُ فَإِنَّهَا تَتَنَوَّعُ فَمَتَى تَعَلَّمُوا أَكْمَلَ الصُّوَرِ وَالْقَوَالِبِ لِلْمَعَانِي مَعَ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ كَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ وَأَنْفَعَ وَأَعْوَنَ عَلَى تَحْقِيقِ الْعُلُومِ مِنْ صِنَاعَةٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ فِي أُمُورٍ فِطْرِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى اصْطِلَاحٍ خَاصٍّ . هَذَا لَعَمْرِي عَنْ مَنْفَعَتِهِ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ .
وَأَمَّا مَنْفَعَتُهُ فِي عِلْمِ الْإِسْلَامِ خُصُوصًا : فَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ وَلِهَذَا تَجِدُ الَّذِينَ اتَّصَلَتْ إلَيْهِمْ عُلُومُ الْأَوَائِلِ فَصَاغُوهَا بِالصِّيغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِعُقُولِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِيهَا مِنْ الْكَمَالِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْإِحَاطَةِ وَالِاخْتِصَارِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْأَوَائِلِ وَإِنْ كَانَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ فِيهِ نِفَاقٌ وَضَلَالٌ لَكِنْ عَادَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْجُمْلَةِ بَرَكَةُ مَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَمَا أُوتِيَتْهُ أُمَّتُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ الَّذِي لَمْ يُشْرِكْهَا فِيهِ أَحَدٌ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ صِنَاعَةَ الْمَنْطِقِ وَضَعَهَا مُعَلِّمُهُمْ الْأَوَّلُ : أَرِسْطُو صَاحِبُ التَّعَالِيمِ الَّتِي لِمُبْتَدَعَةِ الصَّابِئَةِ يَزِنُ بِهَا مَا كَانَ هُوَ وَأَمْثَالُهُ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ مِنْ حِكْمَتِهِمْ وَفَلْسَفَتِهِمْ الَّتِي هِيَ غَايَةُ كَمَالِهِمْ . وَهِيَ قِسْمَانِ : نَظَرِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ . فَأَصَحُّ النَّظَرِيَّةِ - وَهِيَ الْمَدْخَلُ إلَى الْحَقِّ - هِيَ الْأُمُورُ الْحِسَابِيَّةُ الرِّيَاضِيَّةُ . وَأَمَّا الْعَمَلِيَّةُ : فَإِصْلَاحُ الْخُلُقِ وَالْمَنْزِلِ وَالْمَدِينَةِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الَّذِي يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ جُهَّالِ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ التَّقَدُّمَ عَلَى ذَلِكَ . وَفِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ صَلَاحِ الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ . وَفِيهَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ : مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ .
فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى جُهَّالِ الْأُمَمِ كَبَادِيَةِ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ أَمْثَلُ إذَا خَلَوْا عَنْ ضَلَالِهِمْ فَأَمَّا مَعَ ضَلَالِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ الْبَاقُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ مِنْ جُهَّالِ بَنِي آدَمَ أَمْثَلَ مِنْهُمْ . فَأَمَّا أَضَلُّ أَهْلِ الْمِلَلِ - مِثْلُ جُهَّالِ النَّصَارَى وَسَامِرَةِ الْيَهُودِ - فَهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَأَهْدَى وَأَحْكَمُ وَأَتْبَعُ لِلْحَقِّ . وَهَذَا قَدْ بَسَطْته بَسْطًا كَثِيرًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا : بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ قَلِيلَةُ الْمَنْفَعَةِ عَظِيمَةُ الْحَشْوِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ الْخِلْقِيَّةَ قَلَّ أَنْ يُنْتَفَعَ فِيهَا بِصِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ . إذْ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الْمُوجَبَةُ - وَإِنْ كَانَتْ تُوجَدُ فِي الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ - لَكِنَّ أَهْلَ السِّيَاسَةِ لِنُفُوسِهِمْ وَلِأَهْلِهِمْ وَلِمُلْكِهِمْ إنَّمَا يَنَالُونَ تِلْكَ الْآرَاءَ الْكُلِّيَّةَ مِنْ أُمُورٍ لَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا إلَى الْمَنْطِقِ وَمَتَى حَصَلَ ذَلِكَ الرَّأْيُ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِالْعَمَلِ . ثُمَّ الْأُمُورُ الْعَمَلِيَّةُ لَا تَقِفُ عَلَى رَأْيٍ كُلِّيٍّ بَلْ مَتَى عَلِمَ الْإِنْسَانُ انْتِفَاعَهُ بِعَمَلِ عَمَلِهِ وَأَيُّ عَمَلٍ تَضَرَّرَ بِهِ تَرَكَهُ . وَهَذَا قَدْ يَعْلَمُهُ بِالْحِسِّ الظَّاهِرِ أَوْ الْبَاطِنِ لَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى رَأْيٍ كُلِّيٍّ . فَعُلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ لَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ الْمَنْطِقِ فِيهَا . وَلِهَذَا كَانَ
الْمُؤَدِّبُونَ لِنُفُوسِهِمْ وَلِأَهْلِهِمْ السَّائِسُونَ لِمُلْكِهِمْ لَا يَزِنُونَ آرَاءَهُمْ بِالصِّنَاعَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا وَالْغَالِبُ عَلَى مَنْ يَسْلُكُهُ : التَّوَقُّفُ وَالتَّعْطِيلُ . وَلَوْ كَانَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْآرَاءِ تَقِفُ مَعْرِفَتُهُمْ بِهَا وَاسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا عَلَى وَزْنِهَا بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَكَانَ تَضَرُّرُهُمْ بِذَلِكَ أَضْعَافَ انْتِفَاعِهِمْ بِهِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ لَا تَكْفِي فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحَصِّلًا لِنَعِيمِ الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } كَذَلِكَ قَالَ : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { الْكَافِرُونَ } . فأخبر هُنَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ : أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَ اللَّهِ وَحَّدُوا اللَّهَ وَتَرَكُوا الشِّرْكَ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ - وَهُوَ كَافِرٌ بِالتَّوْحِيدِ وَبِالرِّسَالَةِ - أَنَّهُ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قَالَ اللَّهُ : { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } { أَوْ تَقُولُوا إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ مُرِيبٍ } { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إنْ أَنْتُمْ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } . وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّوْحِيدِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنُهُوا عَنْ عِبَادَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ سِوَاهُ أَوْ اتِّخَاذِهِ إلَهًا ؛ وَيُخْبِرُ أَنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ هُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمْ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ . وَذَكَرَ هَذَا عَنْ عَامَّةِ الرُّسُلِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرُّسُلِ مُشْرِكُونَ . فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ مُتَلَازِمَانِ . وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هُوَ وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ مُتَلَازِمَانِ . فَالثَّلَاثَةُ مُتَلَازِمَةٌ . وَلِهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } وَلِهَذَا أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُشْرِكُونَ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } . وَأَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ الْأَشْقِيَاءِ : أَنَّ الرُّسُلَ أَنْذَرَتْهُمْ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الرُّسُلَ أَنْذَرَتْهُمْ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالرِّسَالَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } الْآيَةُ . فَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ : أَنَّهُمْ قَدْ جَاءَتْهُمْ الرِّسَالَةُ وَأُنْذِرُوا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } الْآيَةُ . فَأَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ : أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ وَهِيَ آيَاتُهُ
وَأَنَّهُمْ أَنْذَرُوهُمْ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَكَذَلِكَ قَالَ : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا } { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } - إلَى قَوْلِهِ - { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِهِ وَهِيَ رِسَالَتُهُ وَبِلِقَائِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْآخِرُ . وَقَدْ أَخْبَرَ أَيْضًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّ الرِّسَالَةَ عَمَّتْ بَنِي آدَمَ وَأَنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَأَصْلَحَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . وَقَالَ تَعَالَى { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا } - إلَى قَوْلِهِ - { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } الْآيَةُ . فَذَكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ وَذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ وَفِي هَذِهِ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّهُمَا
مُتَلَازِمَانِ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ كُلُّهُمْ مُتَلَازِمٌ . فَمَنْ آمَنَ بِوَاحِدِ مِنْهُمْ فَقَدْ آمَنَ بِهِمْ كُلِّهِمْ وَمَنْ كَفَرَ بِوَاحِدِ مِنْهُمْ فَقَدْ كَفَرَ بِهِمْ كُلِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } الْآيَةُ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَأَنَّ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا . وَقَالَ تَعَالَى : { وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } . فَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ : تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ - هِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ . وَالْحَاصِلُ : أَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ . فَأَهْلُ هَذَا الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ : هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَالْخَارِجُونَ عَنْ هَذَا الْإِيمَانِ : مُشْرِكُونَ أَشْقِيَاءُ . فَكُلُّ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَلَنْ يَكُونَ إلَّا مُشْرِكًا وَكُلُّ مُشْرِكٍ مُكَذِّبٌ لِلرُّسُلِ وَكُلُّ مُشْرِكٍ وَكَافِرٍ بِالرُّسُلِ فَهُوَ كَافِرٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَكُلُّ مَنْ كَفَرَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهُوَ كَافِرٌ بِالرُّسُلِ وَهُوَ مُشْرِكٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } { وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ لَهُمْ أَعْدَاءٌ وَهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ الْمُزَخْرَفَ وَهُوَ الْمُزَيَّنُ الْمُحَسَّنُ يُغَرِّرُونَ بِهِ . وَالْغُرُورُ : هُوَ التَّلْبِيسُ وَالتَّمْوِيهُ . وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ كَلَامٍ وَكُلِّ عَمَلٍ يُخَالِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَمْرِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين ثُمَّ قَالَ : { وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ كَلَامَ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ تَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ . فَعُلِمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الرُّسُلِ وَتَرْكَ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ مُتَلَازِمَانِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْآخِرَةِ أَصْغَى إلَى زُخْرُفِ أَعْدَائِهِمْ فَخَالَفَ الرُّسُلَ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي أَصْنَافِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا } - الْآيَةُ . فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا اتِّبَاعَ الْكِتَابِ - وَهُوَ الرِّسَالَةُ - يَقُولُونَ إذَا جَاءَ تَأْوِيلُهُ - وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ - : جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ
أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا اتِّبَاعَ آيَاتِهِ يُصِيبُهُمْ مَا ذَكَرْنَا . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ أَصْلَ السَّعَادَةِ وَأَصْلَ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ فِي حِكْمَتِهِمْ وَفَلْسَفَتِهِمْ الْمُبْتَدَعَةِ لَيْسَ فِيهَا الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الْمَخْلُوقَاتِ . بَلْ كُلُّ شِرْكٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا حَدَثَ بِرَأْيِ جِنْسِهِمْ إذْ بَنَوْهُ عَلَى مَا فِي الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ مِنْ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَإِنَّ صِنَاعَةَ الطَّلَاسِمِ وَالْأَصْنَامِ وَالتَّعَبُّدَ لَهَا يُورِثُ مَنَافِعَ وَيَدْفَعُ مَضَارَّ . فَهُمْ الْآمِرُونَ بِالشِّرْكِ وَالْفَاعِلُونَ لَهُ . وَمَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالشِّرْكِ مِنْهُمْ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ بَلْ يُقِرُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ رَجَحَ الْمُوَحِّدُونَ تَرْجِيحًا مَا . فَقَدْ يُرَجِّحُ غَيْرُهُ الْمُشْرِكِينَ . وَقَدْ يُعْرِضُ عَنْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ جِدًّا . وَلِهَذَا كَانَ رُءُوسُهُمْ الْمُتَقَدِّمُونَ والمتأخرون يَأْمُرُونَ بِالشِّرْكِ . فَالْأَوَّلُونَ يُسَمُّونَ الْكَوَاكِبَ الْآلِهَةَ الصُّغْرَى وَيَعْبُدُونَهَا بِأَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ . كَذَلِكَ كَانُوا فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يَنْهَوْنَ عَنْ الشِّرْكِ وَيُوجِبُونَ التَّوْحِيدَ ؛ بَلْ يُسَوِّغُونَ الشِّرْكَ أَوْ يَأْمُرُونَ بِهِ أَوْ لَا يُوجِبُونَ التَّوْحِيدَ .
وَقَدْ رَأَيْت مِنْ مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَةِ الْأَنْفُسِ الْمُفَارِقَةِ - أَنْفُسِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ - مَا هُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ . وَهُمْ إذَا ادَّعَوْا التَّوْحِيدَ فَإِنَّمَا تَوْحِيدُهُمْ بِالْقَوْلِ ؛ لَا بِالْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ . وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّوْحِيدِ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ . وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَعْرِفُونَهُ . وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي يَدَّعُونَهُ : إنَّمَا هُوَ تَعْطِيلُ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَفِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْإِشْرَاكِ . فَلَوْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ بِالْقَوْلِ وَالْكَلَامِ - وَهُوَ أَنْ يَصِفُوا اللَّهَ بِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ - لَكَانَ مَعَهُمْ التَّوْحِيدُ دُونَ الْعَمَلِ . وَذَلِكَ لَا يَكْفِي فِي السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَيُتَّخَذَ إلَهًا ؛ دُونَ مَا سِوَاهُ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَكَيْفَ وَهُمْ فِي الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ مُعَطِّلُونَ جَاحِدُونَ ؛ لَا مُوَحِّدُونَ وَلَا مُخْلِصُونَ ؟ . وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ : فَلَيْسَ فِيهِ لِلْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ وَذَوِيهِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ . وَاَلَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْمِلَلِ مِنْهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ . وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ : فَأَحْسَنَهُمْ حَالًا مَنْ يُقِرُّ بِمَعَادِ الْأَرْوَاحِ دُونَ الْأَجْسَادِ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يُنْكِرُ الْمَعَادَيْنِ جَمِيعًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِمَعَادِ
الْأَرْوَاحِ الْعَالِمَةِ دُونَ الْجَاهِلَةِ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ
الثَّلَاثَةُ لِمُعَلِّمِهِمْ الثَّانِي أَبِي نَصْرٍ الْفَارَابِيِّ . وَلَهُمْ
فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ مَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا فِيهِ إلَى
الصَّوَابِ .
وَقَدْ أَضَلُّوا بِشُبُهَاتِهِمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَلِ مَنْ لَا
يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ . فَإِذَا كَانَ مَا بِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ
وَالنَّجَاةُ مِنْ الشَّقَاوَةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَصْلًا كَانَ مَا يَأْمُرُونَ
بِهِ مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالسِّيَاسَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ
الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } .
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ : فَالصَّوَابُ
مِنْهَا مَنْفَعَتُهُ فِي الدُّنْيَا . وَأَمَّا " الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ
" فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ مَا تَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ وَالسَّعَادَةُ
بَلْ وَغَالِبُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْهُ لَيْسَ بِمُتَيَقَّنِ مَعْلُومٍ بَلْ قَدْ
صَرَّحَ أَسَاطِينُ الْفَلْسَفَةِ : أَنَّ الْعُلُومَ الْإِلَهِيَّةَ لَا سَبِيلَ
فِيهَا إلَى الْيَقِينِ وَإِنَّمَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْأَحْرَى وَالْأَخْلَقِ
؛ فَلَيْسَ مَعَهُمْ فِيهَا إلَّا الظَّنُّ { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئًا } وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِلرُّسُلِ
أَمْرٌ عَظِيمٌ بَاهِرٌ حَتَّى قِيلَ مَرَّةً لِبَعْضِ الْأَشْيَاخِ الْكِبَارِ
مِمَّنْ يَعْرِفُ الْكَلَامَ وَالْفَلْسَفَةَ وَالْحَدِيثَ وَغَيْرَ ذَلِكَ : مَا
الْفَرْقُ الَّذِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ ؟ فَقَالَ : السَّيْفُ
الْأَحْمَرُ . يُرِيدُ أَنَّ الَّذِي يَسْلُكُ طَرِيقَتَهُمْ يُرِيدُ أَنْ
يُوَفِّقَ بَيْنَ مَا يَقُولُونَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ
فَيَدْخُلُ مِنْ السَّفْسَطَةِ وَالْقَرْمَطَةِ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْمُحَالِ
الَّذِي لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسَائِلِ إخْوَانِ
الصَّفَا وَأَمْثَالُهُمْ . وَمِنْ هُنَا
ضَلَّتْ
الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ وَمَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ . وَهَذَا
بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُهُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ
أَنَّ مُعَلِّمَهُمْ وَضَعَ مَنْطِقَهُمْ لِيَزِنَ بِهِ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ هَذِهِ
الْأُمُورِ الَّتِي يَخُوضُونَ فِيهَا وَاَلَّتِي هِيَ قَلِيلَةُ الْمَنْفَعَةِ.
وَأَكْثَرُ مَنْفَعَتِهَا : إنَّمَا هِيَ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَقَدْ
يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَيْضًا . فَأَمَّا أَنْ
يُوزَنَ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ مَا لَيْسَ مِنْ عُلُومِهِمْ وَمَا هُوَ فَوْقَ
قَدْرِهِمْ أَوْ يُوزَنَ بِهَا مَا يُوجِبُ السَّعَادَةَ وَالنَّعِيمَ
وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ : فَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ هُوَ فِيهَا
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا . وَالْقَوْمُ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ
ذَكَاءٌ وَفِطْنَةٌ ؛ وَفِيهِمْ زُهْدٌ وَأَخْلَاقٌ - فَهَذَا الْقَدْرُ لَا
يُوجِبُ السَّعَادَةَ وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ إلَّا بِالْأُصُولِ
الْمُتَقَدِّمَةِ : مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ
عِبَادَتِهِ ؛ وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ وَالْعَمَلِ
الصَّالِحِ . وَإِنَّمَا قُوَّةُ الذَّكَاءِ بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَدَنِ
وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ . فَاَلَّذِي يُؤْتَى فَضَائِلَ عِلْمِيَّةً
وَإِرَادِيَّةً بِدُونِ هَذِهِ الْأُصُولِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤْتَى
قُوَّةً فِي جِسْمِهِ وَبَدَنِهِ بِدُونِ هَذِهِ الْأُصُولِ . وَأَهْلُ الرَّأْيِ
وَالْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ
وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؛ وَيُؤْمِنَ بِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مُتَلَازِمَةٌ . فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَزِمَ أَنْ يُؤْمِنَ بِرُسُلِهِ وَيُؤْمِنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ فَيَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ وَإِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ يَخْلُدُ فِي الْعَذَابِ هَذَا إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ . وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْعِلْمِ قَدْ يُعَارِضُونَ الرُّسُلَ وَقَدْ يُتَابِعُونَهُمْ ؛ ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَذَكَرَ فِرْعَوْنَ ؛ وَاَلَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ لَمَّا آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْمَلَأَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَذَكَرَ قَوْلَ عُلَمَائِهِمْ كَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } - إلَى قَوْلِهِ - { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } وَالسُّلْطَانُ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } وَقَوْلِهِ : { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الْحُجَّةُ " ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ " سُورَةَ حم غَافِر " مِنْ حَالِ مُخَالِفِي الرُّسُلِ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْعُلَمَاءِ مِثْلَ مَقُولِ الْفَلَاسِفَةِ وَعُلَمَائِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ : مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } { إذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ } { فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } وَخَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَعَامَّةِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَطَائِفَةٍ مِنْ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى خِطَابِ هَؤُلَاءِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَالْمَقَايِيسِ لَهُمْ وَذِكْرِ قِصَصِهِمْ وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مَعَهُمْ . فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ
سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فَأَخْبَرَ بِمَا مَكَّنَهُمْ فِيهِ مِنْ أَصْنَافِ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ . وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ حَيْثُ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا رُسُلَهُ . وَلِهَذَا حَدَّثَنِي ابْنُ الشَّيْخِ الحصيري عَنْ وَالِدِهِ الشَّيْخِ الحصيري (*) - شَيْخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَنِهِ - قَالَ : كَانَ فُقَهَاءُ بخارى يَقُولُونَ فِي ابْنِ سِينَا : كَانَ كَافِرًا ذَكِيًّا . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } الْآيَةُ وَالْقُوَّةُ تَعُمُّ قُوَّةَ الْإِدْرَاكِ النَّظَرِيَّةَ وَقُوَّةَ الْحَرَكَةِ الْعَمَلِيَّةَ . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } فَأَخْبَرَ بِفَضْلِهِمْ فِي الْكَمِّ وَالْكَيْفِ وَأَنَّهُمْ أَشَدَّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي آثَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } .
وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْعِلْمِ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ } { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } - إلَى قَوْلِهِ - { إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يُذْكَرُ فِيهِ مِنْ أَقْوَالِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ وَأَفْعَالِهِمْ وَمَا أُوتُوهُ مِنْ قُوَى الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الَّتِي لَمْ تَنْفَعْهُمْ لَمَّا خَالَفُوا الرُّسُلَ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَالْمُلُوكِ مِنْ النِّفَاقِ وَالضَّلَالِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا يُقَالُ : صَدَّ صُدُودًا أَيْ أَعْرَضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } وَيُقَالُ : صَدَّ غَيْرَهُ يَصُدُّهُ وَالْوَصْفَانِ يَجْتَمِعَانِ فِيهِمْ وَمِثْلَ قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى
مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { مَثَلُ
الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ : طَعْمُهَا
طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
مَثَلُ التَّمْرَةِ : طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ
الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ : رِيحُهَا طَيِّبٌ
وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ
الْحَنْظَلَةِ : طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا } " فَبَيَّنَ أَنَّ فِي
الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ : مُؤْمِنِينَ وَمُنَافِقِينَ .
فَصْلٌ :
وَهَذَا الْمَقَامُ لَا أَذْكُرُ فِيهِ مَوَارِدَ النِّزَاعِ فَيُقَالُ : هُوَ
الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمُخْتَلِفِ بِالْمُخْتَلِفِ ؛ لَكِنْ أَنَا أَصِفُ
جِنْسَ كَلَامِهِمْ فَأَقُولُ : لَا رَيْبَ أَنَّ كَلَامَهُمْ كُلَّهُ مُنْحَصِرٌ
فِي الْحُدُودِ الَّتِي تُفِيدُ التَّصَوُّرَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحُدُودُ
حَقِيقِيَّةً أَوْ رَسْمِيَّةً أَوْ لَفْظِيَّةً وَفِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي
تُفِيدُ التَّصْدِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَقْيِسَةَ عُمُومٍ وَشُمُولٍ أَوْ
شِبْهٍ وَتَمْثِيلٍ أَوْ اسْتِقْرَاءٍ وَتَتَبُّعٍ . وَكَلَامُهُمْ غَالِبُهُ لَا
يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ : إمَّا فِي الْعِلْمِ وَإِمَّا فِي الْقَوْلِ فَإِمَّا
أَنْ يَتَكَلَّفُوا عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُونَهُ : فَيَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَعْلُومًا لَهُمْ فَيَتَكَلَّفُونَ مِنْ بَيَانِهِ مَا هُوَ زِيَادَةٌ وَحَشْوٌ وَعَنَاءٌ وَتَطْوِيلُ طَرِيقٍ وَهَذَا مِنْ الْمُنْكَرِ الْمَذْمُومِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ : لَا أَعْلَمُ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِمَا لَا يَعْلَمُ : لَا أَعْلَمُ " . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْقَوْلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } لَا سِيَّمَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَكَذَلِكَ ذَمَّ الْكَلَامَ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَأَمَرَ بِأَنْ نَقُولَ الْقَوْلَ السَّدِيدَ وَالْقَوْلَ الْبَلِيغَ . وَهَؤُلَاءِ كَلَامُهُمْ فِي الْحُدُودِ غَالِبُهُ مِنْ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ قَدْ يَكْثُرُ كَلَامُهُمْ فِي الْأَقْيِسَةِ وَالْحُجَجِ كَثِيرٌ مِنْهُ كَذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْهُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقَوْلٌ بِخِلَافِ الْحَقِّ . أَمَّا ( الْأَوَّلُ : فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْحُدُودَ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا يُفِيدُونَ بِهَا تَصَوُّرَ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بِذِكْرِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُمَيِّزَةِ حَتَّى يُرَكَّبَ الْحَدُّ مِنْ الْجِنْسِ الْمُشْتَرَكِ وَالْفَصْلِ الْمُمَيَّزِ . وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّ التَّصَوُّرَاتِ
لَا
تَحْصُلُ إلَّا بِالْحُدُودِ وَيَقُولُونَ : الْحُدُودُ الْمُرَكَّبَةُ لَا
تَكُونُ إلَّا لِلْأَنْوَاعِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ دُونَ
الْأَنْوَاعِ الْبَسِيطَةِ .
وَقَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُلَخَّصَ الْمَنْطِقِ وَمَضْمُونَهُ
وَأَشَرْت إلَى بَعْضِ مَا دَخَلَ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ
الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ لَكِنْ نَذْكُرُ
هُنَا وُجُوهًا :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : قَوْلُهُمْ : " إنَّ التَّصَوُّرَ الَّذِي لَيْسَ
بِبَدِيهِيِّ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْحَدِّ " بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ
هُوَ قَوْلُ الْحَادِّ . فَإِنَّ الْحَدَّ هُنَا هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى
مَاهِيَّةِ الْمَحْدُودِ . فَالْمَعْرِفَةُ بِالْحَدِّ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ
الْحَدِّ ؛ فَإِنَّ الْحَادَّ الَّذِي ذَكَرَ الْحَدَّ إنْ كَانَ عَرَفَ
الْمَحْدُودَ بِغَيْرِ حَدٍّ بَطَلَ قَوْلُهُمْ : " لَا يُعْرَفُ إلَّا
بِالْحَدِّ " وَإِنْ كَانَ عَرَفَهُ بِحَدِّ آخَرَ فَالْقَوْلُ فِيهِ
كَالْقَوْلِ فِي الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَادُّ عَرَفَهُ بَعْدَ
الْحَدِّ الْأَوَّلِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَإِنْ كَانَ تَأَخَّرَ لَزِمَ
التَّسَلْسُلُ.
الْوَجْهُ
الثَّانِي : أَنَّهُمْ إلَى الْآنَ لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ حَدٌّ لِشَيْءِ مِنْ
الْأَشْيَاءِ إلَّا مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُهُمْ وَيُنَازِعُهُ فِيهِ آخَرُونَ .
فَإِنْ كَانَتْ الْأُصُولُ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْحُدُودِ لَزِمَ أَلَّا
يَكُونَ إلَى الْآنَ أَحَدٌ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ الْأُمُورِ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ
يَنْتَظِرُ صِحَّتَهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ
بِغَيْرِ حَدٍّ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ فَلَا يَكُونُ لِبَنِي آدَمَ شَيْءٌ مِنْ
الْمَعْرِفَةِ وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ وَمُغَالَطَةٌ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْحُدُودِ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ
فِي بَنِي آدَمَ لَا سِيَّمَا الصِّنَاعَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ . فَإِنَّ وَاضِعَهَا
هُوَ أَرِسْطُو وَسَلَكَ خَلْفَهُ فِيهَا طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ . وَمِنْ
الْمَعْلُومِ أَنَّ عُلُومَ بَنِي آدَمَ - عَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ -
حَاصِلَةٌ بِدُونِ ذَلِكَ . فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ " إنَّ الْمَعْرِفَةَ
مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا " أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَلَا رَيْبَ فِي
اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعُلَمَاءِ
وَالْعَامَّةِ . فَإِنَّ الْقُرُونَ الثَّلَاثَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - الَّذِينَ
كَانُوا أَعْلَمَ بَنِي آدَمَ عُلُومًا وَمَعَارِفَ - لَمْ يَكُنْ تَكَلُّفُ
هَذِهِ الْحُدُودِ مَنْ عَادَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَبْتَدِعُوهَا وَلَمْ تَكُنْ الْكُتُبُ الْأَعْجَمِيَّةُ الرُّومِيَّةُ عُرِّبَتْ لَهُمْ . وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَهُمْ مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَمِنْ حِينِ حَدَثَتْ صَارَ بَيْنَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْجَهْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَكَذَلِكَ عِلْمُ " الطِّبِّ " و " الْحِسَابِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَجِدُ أَئِمَّةَ هَذِهِ الْعُلُومِ يَتَكَلَّفُونَ هَذِهِ الْحُدُودَ الْمُرَكَّبَةَ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ إلَّا مَنْ خَلَطَ ذَلِكَ بِصِنَاعَتِهِمْ مَنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ . وَكَذَلِكَ " النُّحَاةُ " مِثْلُ سِيبَوَيْهِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مِثْلُ كِتَابِهِ وَفِيهِ حِكْمَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ : لَمْ يَتَكَلَّفْ فِيهِ حَدَّ الِاسْمِ وَالْفَاعِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ . وَلَمَّا تَكَلَّفَ النُّحَاةُ حَدَّ الِاسْمِ ذَكَرُوا حُدُودًا كَثِيرَةً كُلُّهَا مَطْعُونٌ فِيهَا عِنْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ مَا تَكَلَّفَ مُتَأَخِّرُوهُمْ مِنْ حَدِّ الْفَاعِلِ وَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا عِنْدَهُمْ مَنْ هُوَ إمَامٌ فِي الصِّنَاعَةِ وَلَا حَاذِقٌ فِيهَا . وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِلطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَيْنَهُمْ وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا النَّاظِرُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِمِثْلِ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا إلَّا مَنْ لَيْسَ بِإِمَامِ فِي الْفَنِّ . وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ حَدٌّ . وَكَذَلِكَ حُدُودُ أَهْلِ الْكَلَامِ .
فَإِذَا
كَانَ حُذَّاقُ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ أَحَكَمُوهُ بِدُونِ
هَذِهِ الْحُدُودِ الْمُتَكَلَّفَةِ : بَطَلَ دَعْوَى تَوَقُّفِ الْمَعْرِفَةِ
عَلَيْهَا . وَأَمَّا عُلُومُ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَا يُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ :
فَهِيَ مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَلَهُمْ مِنْ الْبَصَائِرِ
وَالْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمَعَارِفِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ هَذِهِ
الْحُدُودِ الْمُتَكَلَّفَةِ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَةُ
الْأَشْيَاءِ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهَا ؟ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِابْنِ آدَمَ مِنْ الْحِسِّ
الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَا يُحِسُّ بِهِ الْأَشْيَاءَ وَيَعْرِفُهَا ؛
فَيَعْرِفُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ وَذَوْقِهِ وَلَمْسِهِ الظَّاهِرِ مَا
يَعْرِفُ وَيَعْرِفُ أَيْضًا بِمَا يَشْهَدُهُ وَيُحِسُّهُ بِنَفْسِهِ وَقَلْبِهِ
مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . فَهَذِهِ هِيَ الطُّرُقُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا
الْأَشْيَاءُ فَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْرَفَ بِمُجَرَّدِهِ
مُفْرَدَاتُ الْأَشْيَاءِ إلَّا بِقِيَاسِ تَمْثِيلٍ أَوْ تَرْكِيبِ أَلْفَاظٍ
وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقِيقَةِ . فَالْمَقْصُودُ
أَنَّ الْحَقِيقَةَ : إنْ تَصَوَّرَهَا بِبَاطِنِهِ أَوْ ظَاهِرِهِ اسْتَغْنَى
عَنْ الْحَدِّ الْقَوْلِيِّ وَإِنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا بِذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ
يَتَصَوَّرَ حَقِيقَتَهَا بِالْحَدِّ الْقَوْلِيِّ . وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ
يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ . فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الْمَحْسُوسَاتِ
الْمَذُوقَةَ
-
مَثَلًا - كَالْعَسَلِ : لَمْ يُفِدْهُ الْحَدُّ تَصَوُّرَهَا . وَمَنْ لَمْ
يَذُقْ ذَلِكَ كَمَنْ أُخْبِرَ عَنْ السُّكَّرِ - وَهُوَ لَمْ يَذُقْهُ - لَمْ
يُمْكِنْ أَنْ يَتَصَوَّرَ حَقِيقَتَهُ بِالْكَلَامِ وَالْحَدِّ بَلْ يُمَثَّلُ
لَهُ وَيُقَرَّبُ إلَيْهِ وَيُقَالُ لَهُ : طَعْمُهُ يُشْبِهُ كَذَا أَوْ يُشْبِهُ
كَذَا وَكَذَا وَهَذَا التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ لَيْسَ هُوَ الْحَدَّ الَّذِي
يَدَّعُونَهُ . وَكَذَلِكَ الْمَحْسُوسَاتُ الْبَاطِنَةُ مِثْلُ الْغَضَبِ
وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَنْ وَجَدَهَا
فَقَدْ تَصَوَّرَهَا . وَمَنْ لَمْ يَجِدْهَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَتَصَوَّرَهَا
بِالْحَدِّ وَلِهَذَا لَا يَتَصَوَّرُ الْأَكْمَهُ الْأَلْوَانَ بِالْحَدِّ وَلَا
الْعِنِّينُ الْوِقَاعَ بِالْحَدِّ . فَإِذَنْ الْقَائِلُ : بِأَنَّ الْحُدُودَ
هِيَ الَّتِي تُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقَائِقِ قَائِلٌ لِلْبَاطِلِ الْمَعْلُومِ
بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْحُدُودَ إنَّمَا هِيَ أَقْوَالٌ كُلِّيَّةٌ
كَقَوْلِنَا : " حَيَوَانٌ نَاطِقٌ " وَ " لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى
مَعْنًى " وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَتَصَوُّرُ مَعْنَاهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ
وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ مُمْتَنِعَةً لِسَبَبِ
آخَرَ فَهِيَ إذَنْ لَا تَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِخُصُوصِهَا
وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ . وَالْمَعَانِي الْكُلِّيَّةُ
وُجُودُهَا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ . فَمَا فِي الْخَارِجِ لَا
يَتَعَيَّنُ وَلَا يُعْرَفُ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ وَمَا فِي الذِّهْنِ لَيْسَ هُوَ
حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ . فَالْحَدُّ لَا يُفِيدُ تَصَوُّرَ حَقِيقَةٍ أَصْلًا .
الْوَجْهُ
السَّادِسُ : أَنَّ الْحَدَّ مِنْ بَابِ الْأَلْفَاظِ ؛ وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ
الْمُسْتَمِعَ عَلَى مَعْنَاهُ إنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَصَوَّرَ مُفْرَدَاتِ
اللَّفْظِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ لَا يَدُلُّ
الْمُسْتَمِعَ عَلَى مَعْنَاهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ
لِلْمَعْنَى وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ حَتَّى يُعْرَفَ الْمَعْنَى . فَتَصَوُّرُ
الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى فَهْمِ الْمُرَادِ
بِالْأَلْفَاظِ فَلَوْ اُسْتُفِيدَ تَصَوُّرُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لَزِمَ
الدَّوْرُ . وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِاللَّفْظِ
الْمُفْرَدِ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِلْمُسْتَمِعِ مَعْنَاهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ
بِحِسِّهِ أَوْ بِنَظَرِهِ وَإِلَّا لَمْ يَتَصَوَّرْ إدْرَاكَهُ لَهُ بِقَوْلِ
مُؤَلَّفٍ مَنْ جِنْسٍ وَفَصْلٍ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ الْحَدَّ هُوَ الْفَصْلُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ
الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ يُفِيدُ مَا تُفِيدُهُ الْأَسْمَاءُ مِنْ التَّمْيِيزِ
وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ
يُفِيدُ التَّمْيِيزَ . فَأَمَّا تَصَوُّرُ حَقِيقَةٍ فَلَا لَكِنَّهَا قَدْ
تَفْصِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِالْإِجْمَالِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ
إدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ فِي شَيْءٍ . وَالشَّرْطُ فِي ذَلِكَ : أَنْ تَكُونَ
الصِّفَاتُ ذَاتِيَّةً بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّقْسِيمِ وَالتَّحْدِيدِ
لِلْكُلِّ كَالتَّقْسِيمِ لِجُزْئِيَّاتِهِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ : وَهُوَ أَنَّ الْحِسَّ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقِيقَةِ تَصَوُّرًا مُطْلَقًا . أَمَّا عُمُومُهَا وَخُصُوصُهَا : فَهُوَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْلِ . فَإِنَّ الْقَلْبَ يَعْقِلُ مَعْنًى مِنْ هَذَا الْمُعَيَّنِ وَمَعْنًى يُمَاثِلُهُ مِنْ هَذَا الْمُعَيَّنِ فَيَصِيرُ فِي الْقَلْبِ مَعْنًى عَامًّا مُشْتَرَكًا وَذَلِكَ هُوَ عَقْلُهُ : أَيْ عَقْلُهُ لِلْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ . فَإِذَا عَقَلَ مَعْنَى الْحَيَوَانِيَّةِ الَّذِي يَكُونُ فِي هَذَا الْحَيَوَانِ وَهَذَا الْحَيَوَانِ وَمَعْنَى النَّاطِقِ الَّذِي يَكُونُ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ وَهَذَا الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ عَقَلَ أَنَّ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ مَعْنًى يَكُونُ نَظِيرُهُ فِي الْحَيَوَانِ وَمَعْنًى لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْحَيَوَانِ . فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : الْجِنْسُ . وَالثَّانِي : الَّذِي يُقَالُ لَهُ : الْفَصْلُ وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي النَّوْعِ . فَهَذَا حَقٌّ وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ بِعَقْلِهِ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عَامٌّ لِلْإِنْسَانِ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ بِمَعْنَى أَنَّ مَا فِي هَذَا نَظِيرُ مَا فِي هَذَا إذْ لَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ الْخَارِجَةِ عُمُومٌ وَهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ . فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِك : الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَقَوْلِك : الْإِنْسَانُ هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِحَاطَةِ وَالْحَصْرِ فِي الثَّانِي لَا مِنْ جِهَةِ تَصْوِيرِ
حَقِيقَتِهِ بِاللَّفْظِ وَالْإِحَاطَةِ . وَالْحَصْرُ هُوَ التَّمْيِيزُ الْحَاصِلُ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ وَهُوَ قَوْلُك : إنْسَانٌ وَبَشَرٌ . فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ إذَا فُهِمَ مُسَمَّاهُ أَفَادَ مِنْ التَّمْيِيزِ مَا أَفَادَهُ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ فِي سَلَامَتِهِ عَنْ الْمَطَاعِنِ . وَأَمَّا تَصَوُّرُ أَنَّ فِيهِ مَعْنًى عَامًّا وَمَعْنًى خَاصًّا فَلَيْسَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْحَدِّ كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِالْحَدِّ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ التَّمْيِيزِ الْحَاصِلِ بِالْأَسْمَاءِ . وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . وَأَمَّا إدْرَاكُ صِفَاتٍ فِيهِ بَعْضُهَا مُشْتَرَكٌ وَبَعْضُهَا مُخْتَصٌّ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا قَدْ لَا يُتَفَطَّنُ لَهُ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ لَكِنَّ هَذَا يُتَفَطَّنُ لَهُ بِالْحَدِّ وَبِغَيْرِ الْحَدِّ . فَلَيْسَ فِي الْحَدِّ إلَّا مَا يُوجَدُ فِي الْأَسْمَاءِ أَوْ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي تُذْكَرُ لِلْمُسَمَّى . وَهَذَانِ نَوْعَانِ مَعْرُوفَانِ : ( الْأَوَّلُ : مَعْنَى الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ . وَ ( الثَّانِي : مَعْرِفَةُ الْجُمَلِ الْمُرَكَّبَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ الَّتِي يُخْبَرُ بِهَا عَنْ الْأَشْيَاءِ وَتُوصَفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ . وَكِلَا هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْحَدِّ الْمُتَكَلَّفِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحَدَّ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ إلَّا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْكَلَامِ بِلَا تَكَلُّفٍ . فَسَقَطَتْ فَائِدَةُ خُصُوصِيَّةِ الْحَدِّ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُودِ صِفَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ وَمُخْتَصَّةٍ حَقٌّ ؛ لَكِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ تِلْكَ الصِّفَاتِ بِجَعْلِ بَعْضِهَا ذَاتِيًّا تَتَقَوَّمُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْمَحْدُودِ وَبَعْضِهَا لَازِمًا لِحَقِيقَةِ الْمَحْدُودِ : تَفْرِيقٌ بَاطِلٌ بَلْ جَمِيعُ الصِّفَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلْمَحْدُودِ - طَرْدًا وَعَكْسًا - هِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ . فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلِ وَالْخَاصَّةِ وَلَا بَيْنَ الْجِنْسِ وَالْعَرَضِ الْعَامِّ . وَذَلِكَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُرَكَّبَةَ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ : إمَّا أَنْ يُعْنَى بِهَا الْخَارِجَةُ أَوْ الذِّهْنِيَّةُ أَوْ شَيْءٌ ثَالِثٌ . فَإِنْ عُنِيَ بِهَا الْخَارِجَةُ : فَالنُّطْقُ وَالضَّحِكُ فِي الْإِنْسَانِ حَقِيقَتَانِ لَازِمَتَانِ يَخْتَصَّانِ بِهِ . وَإِنْ عُنِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي فِي الذِّهْنِ : فَالذِّهْنُ يَعْقِلُ اخْتِصَاصَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ . وَإِنْ قِيلَ : بَلْ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ يَتَوَقَّفُ عَقْلُ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهَا فَلَا يَعْقِلُ الْإِنْسَانُ فِي الذِّهْنِ حَتَّى يَفْهَمَ النُّطْقَ ؛ وَأَمَّا الضَّحِكُ فَهُوَ تَابِعٌ لِفَهْمِ الْإِنْسَانِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ " الذَّاتِيُّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ الْحَقِيقَةِ بِدُونِ فَهْمِهِ أَوْ مَا تَقِفُ الْحَقِيقَةُ فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ عَلَيْهِ " .
قِيلَ
: إدْرَاكُ الذِّهْنِ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ . فَإِنَّ كَوْنَ الذِّهْنِ لَا
يَفْهَمُ هَذَا إلَّا بَعْدَ هَذَا : أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ إدْرَاكِ
الذِّهْنِ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا ثَابِتًا لِلْمَوْصُوفِ فِي نَفْسِهِ . فَلَا بُدَّ
أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ بِوَصْفِ ثَابِتٍ فِي
نَفْسِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْإِدْرَاكُ لَهُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ إنْ كَانَ
أَحَدُهُمَا جُزْءًا لِلْحَقِيقَةِ دُونَ الْآخَرِ وَإِلَّا فَلَا .
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : أَنْ يُقَالَ : كَوْنُ الذِّهْنِ لَا يَعْقِلُ هَذَا إلَّا
بَعْدَ هَذَا : إنْ كَانَ إشَارَةً إلَى أَذْهَانٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ الَّتِي
تَصَوَّرَتْ هَذَا : لَمْ يَكُنْ هَذَا حُجَّةً لِأَنَّهُمْ هُمْ وَضَعُوهَا
هَكَذَا . فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : أَنَّ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَذْهَانِنَا
عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ الذَّاتِيُّ وَمَا أَخَّرْنَاهُ فَهُوَ الْعَرَضِيُّ .
وَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّا تَحَكَّمْنَا بِجَعْلِ بَعْضِ الصِّفَاتِ
ذَاتِيًّا وَبَعْضِهَا عَرَضِيًّا لَازِمًا وَغَيْرَ لَازِمٍ وَإِنْ كَانَ
الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا الْفُرْقَانُ مُجَرَّدَ تَحَكُّمٍ بِلَا سُلْطَانٍ
. وَلَا يُسْتَنْكَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْمُفْتَرِقَيْنِ
وَيُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ . فَمَا أَكْثَرَ هَذَا فِي
مَقَايِيسِهِمْ الَّتِي ضَلُّوا بِهَا وَأَضَلُّوا . وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ أَفْسَدَ
دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَابْتَدَعَ مَا غَيَّرَ بِهِ الصَّابِئَةُ مَذَاهِبَ أَهْلِ
الْإِيمَانِ الْمُهْتَدِينَ . وَإِنْ قَالُوا : بَلْ جَمِيعُ أَذْهَانِ بَنِي
آدَمَ وَالْأَذْهَانِ الصَّحِيحَةِ لَا تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ
إلَّا بَعْدَ خُطُورِ نُطْقِهِ بِبَالِهَا دُونَ ضَحِكِهِ . قِيلَ لَهُمْ : لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحِ . وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ هَذَا التَّرْتِيبُ إلَّا فِيمَنْ يُقَلِّدُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْحُدُودَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ لَكُمْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا مِيزَانَ الْمَعْقُولَاتِ وَإِلَّا فَبَنُو آدَمَ قَدْ لَا يَخْطُرُ لِأَحَدِهِمْ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ وَقَدْ يَخْطُرُ لَهُ هَذَا دُونَ هَذَا وَبِالْعَكْسِ . وَلَوْ خَطَرَ لَهُ الْوَصْفَانِ وَعَرَفَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ضَاحِكٌ : لَمْ يَكُنْ بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَتِهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُدْرِكًا لِحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ أَصْلًا . وَكُلُّ هَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ مَعْقُولٌ . فَلَا يُغَالِطُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ لِهَيْبَةِ التَّقْلِيدِ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مَنْ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ضَلَالًا مَعَ دَعْوَى التَّحْقِيقِ ؛ فَهُمْ فِي الْأَوَائِلِ كَمُتَكَلِّمَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَوَاخِرِ . وَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ خَيْرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَالصَّابِئِينَ . كَانُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَعْلَمَ وَأَحْكَمَ فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ جِدًّا . وَمِنْ هُنَا يَقُولُونَ : الْحُدُودُ الذَّاتِيَّةُ عُسْرَةٌ وَإِدْرَاكُ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ صَعْبٌ وَغَالِبُ مَا بِأَيْدِي النَّاسِ : حُدُودٌ رَسْمِيَّةٌ . وَذَلِكَ كُلُّهُ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا تَفْرِيقًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِمُجَرَّدِ التَّحَكُّمِ الَّذِي هُمْ أَدْخَلُوهُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَلَا فِي الْمَعْقُولِ وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاعٌ مُبْتَدَعٌ وَضَعَهُ وَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِيمَا تَمَاثَلَا فِيهِ - لَا تَعْقِلُهُ الْقُلُوبُ
الصَّحِيحَةُ
- إذْ ذَاكَ مِنْ بَابِ مَعْرِفَةِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا ضَابِطَ
لَهَا . وَأَكْثَرُ مَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ الْأَجْنَاسِ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ
مَعَارِفِهِمْ وَيَدَّعُونَ اخْتِصَاصَ فُضَلَائِهِمْ بِهِ هُوَ : مِنْ الْبَاطِلِ
الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ : قَوْلُهُمْ : الْحَقِيقَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ
الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَالْجِنْسُ هُوَ الْجُزْءُ الْمُشْتَرَكُ وَالْفَصْلُ هُوَ
الْجُزْءُ الْمُمَيَّزُ . يُقَالُ لَهُمْ : هَذَا التَّرْكِيبُ : إمَّا أَنْ
يَكُونَ فِي الْخَارِجِ أَوْ فِي الذِّهْنِ . فَإِنْ كَانَ فِي الْخَارِجِ
فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ نَوْعٌ كُلِّيٌّ يَكُونُ مَحْدُودًا بِهَذَا الْحَدِّ
إلَّا الْأَعْيَانُ الْمَحْسُوسَةُ وَالْأَعْيَانُ فِي كُلِّ عَيْنٍ صِفَةٌ
يَكُونُ نَظِيرُهَا لِسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ كَالْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ
الْإِرَادِيَّةِ وَصِفَةٌ لَيْسَ مِثْلُهَا لِسَائِرِ الْحَيَوَانِ وَهِيَ
النُّطْقُ . وَفِي كُلِّ عَيْنٍ يَجْتَمِعُ هَذَانِ الْوَصْفَانِ كَمَا يَجْتَمِعُ
سَائِرُ الصِّفَاتِ وَالْجَوَاهِرِ الْقَائِمَةِ لِأُمُورِ مُرَكَّبَةٍ مِنْ
الصِّفَاتِ الْمَجْعُولَةِ فِيهَا . وَإِنْ أَرَدْتُمْ بالحيوانية والناطقية
جَوْهَرًا فَلَيْسَ فِي الْإِنْسَانِ جَوْهَرَانِ أَحَدُهُمَا حَيٌّ وَالْآخَرُ
نَاطِقٌ . بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ صِفَتَانِ . فَإِنْ كَانَ
الْجَوْهَرُ مُرَكَّبًا مِنْ عَرْضَيْنِ لَمْ يَصِحَّ . وَإِنْ كَانَ مِنْ جَوْهَرٍ عَامٍّ وَخَاصٍّ فَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ . فَبَطَلَ كَوْنُ الْحَقِيقَةِ الْخَارِجَةِ مُرَكَّبَةً . وَإِنْ جَعَلُوهَا تَارَةً جَوْهَرًا وَتَارَةً صِفَةً : كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الْأَقَانِيمِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ تَنَاقُضًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ قَالُوا : الْمُرَكَّبُ الْحَقِيقِيَّةُ الذِّهْنِيَّةُ الْمَعْقُولَةُ . قِيلَ - أَوَّلًا - تِلْكَ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالْحُدُودِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُطَابِقَةً لِلْخَارِجِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَرْكِيبٌ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ تَرْكِيبٌ . وَلَيْسَ فِي الذِّهْنِ إلَّا تَصَوُّرُ الْحَيِّ النَّاطِقِ . وَهُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ صِفَتَانِ كَمَا قَدَّمْنَا . فَلَا تَرْكِيبَ فِيهِ بِحَالِ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ صِفَاتِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ مِنْهَا مَا هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا . كَالْجِنْسِ وَالْعَرَضِ الْعَامِّ وَمِنْهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِلْحَقِيقَةِ وَمِنْهَا مَا هُوَ عَارِضٌ لَهَا وَهُوَ مَا ثَبَتَ لَهَا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ كَالْبَطِيءِ الزَّوَالِ وَسَرِيعِهِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي مَدَارُهُ عَلَى تَحَكُّمِ ذِهْنِ الْحَادِّ . وَلَا تَنَازُعَ فِي أَنَّ بَعْضَ الصِّفَاتِ قَدْ يَكُونُ أَظْهَرَ وَأَشْرَفَ . فَإِنَّ النُّطْقَ أَشْرَفُ مِنْ الضَّحِكِ . وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِ : { إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي جَعْلِ هَذَا ذَاتِيًّا تُتَصَوَّرُ بِهِ الْحَقِيقَةُ دُونَ الْآخَرِ .
الْوَجْهُ
الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ قَدْ تُعْلَمُ وَلَا
يُتَصَوَّرُ بِهَا كُنْهُ الْمَحْدُودِ كَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ وَغَيْرِهِ .
فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُوجِبِ لِفَهْمِ الْحَقِيقَةِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّ الْحَدَّ إذَا كَانَ لَهُ جُزْءَانِ فَلَا
بُدَّ لِجُزْأَيْهِ مِنْ تَصَوُّرٍ : كَالْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ : فَإِنْ
احْتَاجَ كُلُّ جُزْءٍ إلَى حَدٍّ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ أَوْ الدَّوْرُ . فَإِنْ
كَانَتْ الْأَجْزَاءُ مُتَصَوَّرَةً بِنَفْسِهَا بِلَا حَدٍّ - وَهُوَ تَصَوُّرُ
الْحَيَوَانِ أَوْ الْحَسَّاسِ أَوْ الْمُتَحَرِّكِ بِالْإِرَادَةِ أَوْ النَّامِي
أَوْ الْجِسْمِ - فَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ هَذِهِ أَعَمُّ . وَإِذَا كَانَتْ
أَعَمَّ لِكَوْنِ إدْرَاكِ الْحِسِّ لِأَفْرَادِهَا أَكْثَرَ . فَإِنْ كَانَ
إدْرَاكُ الْحِسِّ لِأَفْرَادِهَا كَافِيًا فِي التَّصَوُّرِ فَالْحِسُّ قَدْ
أَدْرَكَ أَفْرَادَ النَّوْعِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا فِي ذَلِكَ لَمْ
تَكُنْ الْأَجْزَاءُ مَعْرُوفَةً فَيَحْتَاجُ الْمُعَرَّفُ إلَى مُعَرِّفٍ
وَأَجْزَاءُ الْحَدِّ إلَى حَدٍّ .
الْوَجْهُ
الرَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّ الْحُدُودَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّمْيِيزِ
وَكُلَّمَا قَلَّتْ الْأَفْرَادُ كَانَ التَّمْيِيزُ أَيْسَرَ وَكُلَّمَا كَثُرَتْ
كَانَ أَصْعَبَ . فَضَبْطُ الْعَقْلِ الْكُلِّيِّ تَقِلُّ أَفْرَادُهُ مَعَ ضَبْطِ
كَوْنِهِ كُلِّيًّا أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِمَّا كَثُرَتْ أَفْرَادُهُ وَإِنْ كَانَ
إدْرَاكُ الْكُلِّيِّ الْكَثِيرِ الْأَفْرَادِ أَيْسَرَ عَلَيْهِ فَذَاكَ إذَا
أَدْرَكَهُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَحْصُلُ بِحُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ
الْأَفْرَادِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا فِي أَجْزَاءِ
الْمَحْدُودِ : أَنْ تَكُونَ مُتَمَيِّزَةً تَمْيِيزًا كُلِّيًّا لِيُعْلَمَ
كَوْنُهَا صِفَةً لِلْمَحْدُودِ أَوْ مَحْمُولَةً عَلَيْهِ أَمْ لَا . فَإِذَا
كَانَ ضَبْطُهَا كُلِّيَّةً أَصْعَبَ وَأَتْعَبَ مِنْ ضَبْطِ أَفْرَادِ
الْمَحْدُودِ كَانَ ذَلِكَ تَعْرِيفًا لِلْأَسْهَلِ مَعْرِفَةً بِالْأَصْعَبِ
مُفْرَدَةً وَهَذَا عَكْسُ الْوَاجِبِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا . وَقَدْ مَيَّزَ كُلَّ مُسَمًّى بِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى مَا
يَفْصِلُهُ مِنْ الْجِنْسِ الْمُشْتَرَكِ وَيَخُصُّهُ دُونَ مَا سِوَاهُ
وَيُبَيِّنُ بِهِ مَا يَرْسُمُ مَعْنَاهُ
فِي النَّفْسِ . وَمَعْرِفَةُ حُدُودِ الْأَسْمَاءِ وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّهُ بِهَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ بَنِي آدَمَ فِي النُّطْقِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لَهُمْ لَا سِيَّمَا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كُتُبِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ كَالْخَمْرِ وَالرِّبَا . فَهَذِهِ الْحُدُودُ هِيَ الْفَاصِلَةُ الْمُمَيِّزَةُ بَيْنَ مَا يَدْخُلُ فِي الْمُسَمَّى وَيَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ الِاسْمُ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ مَنْ سَمَّى الْأَشْيَاءَ بِأَسْمَاءِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ . فَإِنَّهُ أَثْبَتَ لِلشَّيْءِ صِفَةً بَاطِلَةً كَإِلَهِيَّةِ الْأَوْثَانِ . فَالْأَسْمَاءُ النُّطْقِيَّةُ سَمْعِيَّةٌ . وَأَمَّا نَفْسُ تَصَوُّرِ الْمَعَانِي فَفِطْرِيٌّ يَحْصُلُ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَبِإِدْرَاكِ الْحِسِّ وَشُهُودِهِ بِبَصَرِ الْإِنْسَانِ بِبَاطِنِهِ وَبِظَاهِرِهِ وَبِسَمْعِهِ يَعْلَمُ أَسْمَاءَهَا وَبِفُؤَادِهِ يَعْقِلُ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرَكَةَ وَالْمُخْتَصَّةَ . وَاَللَّهُ أَخْرَجَنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا وَجَعَلَ لَنَا السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ . فَأَمَّا الْحُدُودُ الْمُتَكَلَّفَةُ فَلَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ لَا فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الْحِسِّ وَلَا فِي السَّمْعِ إلَّا مَا هُوَ كَالْأَسْمَاءِ مَعَ التَّطْوِيلِ أَوْ مَا هُوَ كَالتَّمْيِيزِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ . وَلِهَذَا لَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ جَعَلُوا الْحَدَّ نَوْعَيْنِ : نَوْعًا بِحَسَبِ الِاسْمِ ؛ وَهُوَ بَيَانُ مَا يَدْخُلُ فِيهِ . وَنَوْعًا بِحَسَبِ الصِّفَةِ أَوْ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمُسَمَّى وَزَعَمُوا كَشْفَ
الْحَقِيقَةِ
وَتَصْوِيرَهَا وَالْحَقِيقَةُ الْمَذْكُورَةُ إنْ ذُكِرَتْ بِلَفْظِ دَخَلَتْ فِي
الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ بِلَفْظِ فَلَا تُدْرَكُ بِلَفْظِ
وَلَا تُحَدُّ بِمَقَالِ إلَّا كَمَا تَقَدَّمَ . وَهَذِهِ نُكَتٌ تُنَبِّهُ عَلَى
جُمَلِ الْمَقْصُودِ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ : أَنَّ فِي الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ
وَالْمُخْتَصَّةِ - كالحيوانية والناطقية - إنْ أَرَادُوا بِالِاشْتِرَاكِ : أَنَّ
نَفْسَ الصِّفَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ مُشْتَرَكَةٌ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛
إذْ لَا اشْتِرَاكَ فِي الْمُعَيَّنَاتِ الَّتِي يَمْنَعُ تَصَوُّرُهَا مِنْ
وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهَا . وَإِنْ أَرَادُوا بِالِاشْتِرَاكِ : أَنَّ مِثْلَ
تِلْكَ الصِّفَةِ حَاصِلَةٌ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ . قِيلَ لَهُمْ : لَا رَيْبَ
أَنَّ بَيْنَ حَيَوَانِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَحَيَوَانِيَّةِ الْفَرَسِ قَدْرًا
مُشْتَرَكًا وَكَذَلِكَ بَيْنَ صَوْتَيْهِمَا وَتَمْيِيزِهِمَا قَدْرًا
مُشْتَرَكًا . فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ تَمْيِيزٌ وَلِلْفَرَسِ تَمْيِيزٌ
وَلِهَذَا صَوْتٌ هُوَ النُّطْقُ وَلِذَاكَ صَوْتٌ هُوَ الصَّهِيلُ فَقَدْ خُصَّ
كُلُّ صَوْتٍ بِاسْمِ يَخُصُّهُ . فَإِذَا كَانَ حَقِيقَةُ أَحَدِ هَذَيْنِ يُخَالِفُ
الْآخَرَ وَيَخْتَصُّ بِنَوْعِهِ فَمِنْ أَيْنَ جَعَلْتُمْ حَيَوَانِيَّةَ
أَحَدِهِمَا مُمَاثِلَةً لِحَيَوَانِيَّةِ الْآخَرِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ ؟
وَهَلَّا قِيلَ : إنَّ بَيْنَ حيوانيتهما قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَمُمَيَّزًا كَمَا
أَنَّ بَيْنَ صَوْتَيْهِمَا
كَذَلِكَ ؟ . وَذَلِكَ أَنَّ الْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ الْإِرَادِيَّةَ إمَّا أَنْ تُوجَدَ لِلْجِسْمِ أَوْ لِلنَّفْسِ . فَإِنَّ الْجِسْمَ يَحُسُّ وَيَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ وَالنَّفْسَ تَحُسُّ وَتَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ مَا بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ النُّطْقُ هُوَ لِلنَّفْسِ بِالتَّمْيِيزِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَهُوَ لِلْجِسْمِ أَيْضًا بِتَمْيِيزِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ . فَكُلٌّ مِنْ جِسْمِهِ وَنَفْسِهِ يُوصَفُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ . وَلَيْسَتْ حَرَكَةُ نَفْسِهِ وَإِرَادَتُهَا وَمَعْرِفَتُهَا وَنُطْقُهَا مِثْلَ مَا لِلْفَرَسِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ . وَكَذَلِكَ مَا يَقُومُ بِجِسْمِهِ مِنْ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ لَيْسَ مِثْلَ مَا لِلْفَرَسِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ . فَإِنَّ الَّذِي يُلَائِمُ جِسْمَهُ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَمَلْبَسٍ ومنكح وَمَشْمُومٍ وَمَرْئِيٍّ وَمَسْمُوعٍ . بِحَيْثُ يُحِسُّهُ وَيَتَحَرَّكُ إلَيْهِ حَرَكَةً إرَادِيَّةً لَيْسَ هُوَ مِثْلَ مَا لِلْفَرَسِ . فَالْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ هِيَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانِ وَبِالْمَعْنَى الْخَاصِّ لَيْسَ إلَّا لِلْإِنْسَانِ . وَكَذَلِكَ التَّمْيِيزُ سَوَاءٌ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ . وَأَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ : حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا : حَرْبٌ وَمُرَّةُ } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَالْحَارِثُ هُوَ الْعَامِلُ الْكَاسِبُ الْمُتَحَرِّكُ . وَالْهَمَّامُ هُوَ الدَّائِمُ الْهَمِّ الَّذِي هُوَ مُقَدَّمُ الْإِرَادَةِ . فَكُلُّ إنْسَانٍ حَارِثٌ فَاعِلٌ بِإِرَادَتِهِ وَكَذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِإِحْسَاسِهِ .
فَحَيَوَانِيَّةُ الْإِنْسَانِ وَنُطْقُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيهِ مَا يَشْتَرِكُ مَعَ الْحَيَوَانِ فِيهِ وَفِيهِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَكَذَلِكَ بِنَاءُ بِنْيَتِهِ . فَإِنَّ نُمُوَّهُ وَاغْتِذَاءَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبَاتِ فِيهِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فَلَيْسَ مِثْلَهُ هُوَ . إذْ هَذَا يَغْتَذِي بِمَا يَلَذُّ بِهِ وَيَسُرُّ نَفْسَهُ وَيَنْمُو بِنُمُوِّ حِسِّهِ وَحَرَكَتِهِ وَهَمِّهِ وَحَرْثِهِ . وَلَيْسَ النَّبَاتُ كَذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ النَّوْعِ وَأَفْرَادُهُ . فَنُطْقُ الْعَرَبِ بِتَمْيِيزِ قُلُوبِهِمْ وَبَيَانِ أَلْسِنَتِهِمْ أَكْمَلُ مِنْ نُطْقِ غَيْرِهِمْ حَتَّى لَيَكُونُ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ هُوَ دُونَ الْبَهَائِمِ فِي النُّطْقِ وَالتَّمْيِيزِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تُدْرَكُ نِهَايَتُهُ . وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ اشْتِرَاكَ أَفْرَادِ الصِّنْفِ وَأَصْنَافِ النَّوْعِ وَأَنْوَاعِ الْجِنْسِ وَالْأَجْنَاسِ السَّافِلَةِ فِي مُسَمَّى الْجِنْسِ الْأَعْلَى : لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فِيهَا بِالسَّوَاءِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْخَارِجَةِ شَيْءٌ مُشْتَرَكٌ وَلَكِنَّ الذِّهْنَ فَهِمَ مَعْنًى يُوجَدُ فِي هَذَا وَيُوجَدُ نَظِيرُهُ فِي هَذَا . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ نَظِيرًا لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْمُشَابَهَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى حَقِيقَةٍ تُخَالِفُ حَقِيقَةَ مَا فِي الْآخَرِ . وَمِنْ هُنَا يَغْلَطُ القياسيون الَّذِينَ يَلْحَظُونَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ الْجَامِعَ دُونَ الْفَارِقِ الْمُمَيِّزِ . وَالْعَرَبُ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ : أَعْظَمِ النَّاسِ
إدْرَاكًا لِلْفُرُوقِ وَتَمْيِيزًا لِلْمُشْتَرَكَاتِ . وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي عُقُولِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَلِهَذَا لَمَّا نَاظَرَ مُتَكَلِّمُو الْإِسْلَامِ الْعَرَبُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمَةِ الصَّابِئَةِ عُجْمِ الرُّومِ وَذَكَرُوا فَضْلَ مَنْطِقِهِمْ وَكَلَامِهِمْ عَلَى مَنْطِقِ أُولَئِكَ وَكَلَامِهِمْ : ظَهَرَ رُجْحَانُ كَلَامِ الْإِسْلَامِيِّينَ كَمَا فَعَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَانِي فِي كِتَابِ الدَّقَائِقِ الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ كَثِيرًا مِنْ مَذَاهِبِهِمْ الْفَاسِدَةِ فِي الْأَفْلَاكِ وَالنُّجُومِ وَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ : وَوَاجِبِ الْوُجُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَتَكَلَّمَ عَلَى مَنْطِقِهِمْ وَتَقْسِيمِهِمْ الْمَوْجُودَاتِ كَتَقْسِيمِهِمْ الْمَوْجُودَ إلَى الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ ثُمَّ تَقْسِيمِ الْأَعْرَاضِ إلَى الْمَقُولَاتِ التِّسْعَةِ وَذَكَرَ تَقْسِيمَ مُتَكَلِّمَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي فِيهِ مِنْ التَّمْيِيزِ وَالْجَمْعِ وَالْفَرْقِ مَا لَيْسَ فِي كَلَامِ أُولَئِكَ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْبَيَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الرَّحْمَنِ } { عَلَّمَ الْقُرْآنَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } وَقَالَ : { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وَالْبَيَانُ : بَيَانُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ كَمَا أَنَّ الْعَمَى وَالْبَكَمُ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } وَقَالَ : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ؟ إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ } " وَفِي الْأَثَرِ : " { الْعِيُّ عِيُّ الْقَلْبِ لَا عِيُّ اللِّسَانِ } " أَوْ قَالَ : " { شَرُّ الْعِيِّ عِيُّ الْقَلْبِ } " وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ : " إنَّكُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٌ خُطَبَاؤُهُ . وَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ " .
وَتَبَيُّنُ الْأَشْيَاءِ لِلْقَلْبِ ضِدُّ اشْتِبَاهِهَا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ } - الْحَدِيثُ " . وَقَدْ قُرِئَ قَوْله تَعَالَى { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ أَيْ وَلِتَتَبَيَّنَ أَنْتَ سَبِيلَهُمْ . فَالْإِنْسَانُ يَسْتَبِينُ الْأَشْيَاءَ . وَهُمْ يَقُولُونَ : قَدْ بَانَ الشَّيْءُ وَبَيَّنْته وَتَبَيَّنَ الشَّيْءُ وَتَبَيَّنْته وَاسْتَبَانَ الشَّيْءُ وَاسْتَبَنْته كُلُّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [ و ] (1) هُوَ هُنَا مُتَعَدٍّ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } أَيْ مُتَبَيِّنَةٍ . فَهُنَا هُوَ لَازِمٌ . وَالْبَيَانُ كَالْكَلَامِ يَكُونُ مَصْدَرُ بَانَ الشَّيْءُ بَيَانًا وَيَكُونُ اسْمَ مَصْدَرٍ لبين كَالْكَلَامِ وَالسَّلَامِ لسلم وَكَلَّمَ فَيَكُونُ الْبَيَانُ بِمَعْنَى تَبَيُّنِ الشَّيْءِ . وَيَكُونُ بِمَعْنَى بَيَّنْت الشَّيْءَ : أَيْ أَوْضَحْته . وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا } " . وَالْمَقْصُودُ ببيان الْكَلَامِ حُصُولُ الْبَيَانِ لِقَلْبِ الْمُسْتَمِعِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الشَّيْءُ وَيَسْتَبِينَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } الْآيَةُ . وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِي لَا يَسْتَبِينُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } وَقَالَ { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وَقَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } وَقَالَ : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وَقَالَ : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا } وَقَالَ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } الْآيَةُ . وَقَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ } وَقَالَ : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْمَعْلُومَةُ الَّتِي لَيْسَ فِي زِيَادَةِ وَصْفِهَا إلَّا كَثْرَةُ كَلَامٍ وَتَفَيْهُقٌ وَتَشَدُّقٌ وَتَكَبُّرٌ وَالْإِفْصَاحُ بِذِكْرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْتَقْبَحُ ذِكْرُهَا : فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا } " وَفِي الْحَدِيثِ : " { الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ } " وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ } " . وَفِي حَدِيثِ { سَعْدٍ لَمَّا سَمِعَ ابْنَهُ أَوْ لَمَّا وَجَدَ ابْنَهُ يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وَكَذَا وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا وَكَذَا وَكَذَا قَالَ : يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ ؛ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ إنَّك إنْ أُعْطِيت الْجَنَّةَ أُعْطِيتهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ وَإِنْ أُعِذْت مِنْ النَّارِ أُعِذْت مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الشَّرِّ } " . وَعَامَّةُ الْحُدُودِ الْمَنْطِقِيَّةِ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ : حَشْوٌ لِكَلَامِ كَثِيرٍ يُبَيِّنُونَ بِهِ الْأَشْيَاءَ ؛ وَهِيَ قَبْلَ بَيَانِهِمْ أَبْيَنُ مِنْهَا بَعْدَ بَيَانِهِمْ . فَهِيَ مَعَ كَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنْ تَضْيِيعِ الزَّمَانِ وَإِتْعَابِ الْفِكْرِ وَاللِّسَانِ لَا تُوجِبُ إلَّا الْعَمَى وَالضَّلَالَ وَتَفْتَحُ بَابَ
الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمْ يُورِدُ عَلَى حَدِّ الْآخَرِ مِنْ الْأَسْئِلَةِ مَا يَفْسُدُ بِهِ وَيَزْعُمُ سَلَامَةَ حَدِّهِ مِنْهُ وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ : تَجِدُهُمْ مُتَكَافِئِينَ أَوْ مُتَقَارِبِينَ لَيْسَ لِأَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ رُجْحَانٌ مُبِينٌ فَإِمَّا أَنْ يُقْبَلَ الْجَمِيعُ أَوْ يُرَدَّ الْجَمِيعُ أَوْ يُقْبَلَ مِنْ وَجْهٍ وَيُرَدَّ مِنْ وَجْهٍ . هَذَا فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَشْتَرِكُ فِي تَمْيِيزِ الْمَحْدُودِ وَفَصْلِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَأَمَّا مَتَى أَدْخَلَ أَحَدُهُمَا فِي الْحَدِّ مَا أَخْرَجَهُ الْآخَرُ أَوْ بِالْعَكْسِ : فَالْكَلَامُ فِي هَذَا عِلْمٌ يُسْتَفَادُ بِهِ حَدُّ الِاسْمِ وَمَعْرِفَةُ عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي حَدِّ الْخَمْرِ : هَلْ هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ الْمُشْتَدُّ أَمْ هِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ ؟ وَحَدِّ الْغِيبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ كَمَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالَ : ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ } - الْحَدِيثُ " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " وَقَوْلِ عُمَرَ عَلَى الْمِنْبَرِ : " الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ : " { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنًا وَثَوْبُهُ حَسَنًا أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : لَا إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } " وَمِنْهُ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَشَرْحُهُ وَبَيَانُهُ . فَكُلُّ مَنْ شَرَحَ كَلَامَ غَيْرِهِ وَفَسَّرَهُ وَبَيَّنَ تَأْوِيلَهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ حُدُودِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِيهِ .
فَكُلُّ
مَا كَانَ مِنْ حَدٍّ بِالْقَوْلِ فَإِنَّمَا هُوَ حَدٌّ لِلِاسْمِ بِمَنْزِلَةِ
التَّرْجَمَةِ وَالْبَيَانِ . فَتَارَةً يَكُونُ لَفْظًا مَحْضًا إنْ كَانَ
الْمُخَاطَبُ يَعْرِفُ الْمَحْدُودَ وَتَارَةً يَحْتَاجُ إلَى تَرْجَمَةِ
الْمَعْنَى وَبَيَانِهِ إذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ لَمْ يَعْرِفْ الْمُسَمَّى .
وَذَلِكَ يَكُونُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ أَوْ تَرْكِيبِ صِفَاتٍ وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ
تَصْوِيرَ الْحَقِيقَةِ لِمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا بِغَيْرِ الْكَلَامِ
فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ حَدِّ الشَّيْءِ أَوْ
الْحَدِّ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ أَوْ حَدِّ الْحَقَائِقِ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ
التَّمْيِيزِ إلَّا ذِكْرُ بَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي لِلْمَحْدُودِ كَمَا
تَقَدَّمَ وَفِيهِ مِنْ التَّخْلِيطِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ .
وَأَمَّا " مَسْأَلَةُ الْقِيَاسِ " فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَقَامَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : فِي الْقِيَاسِ الْمُطْلَقِ الَّذِي جَعَلُوهُ مِيزَانَ
الْعُلُومِ وَحَرَّرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ . وَ الثَّانِي : فِي جِنْسِ
الْأَقْيِسَةِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الْعُلُومِ . أَمَّا الْأَوَّلُ :
فَنَقُولُ : لَا نِزَاعَ أَنَّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ إذَا كَانَتَا مَعْلُومَتَيْنِ
وَأُلِّفَتَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَدِلِ : أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ
بِالنَّتِيجَةِ . وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا : " { كُلُّ
مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " ؛ لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى مُنَازِعٍ
يُنَازِعُهُ بَلْ التَّرْكِيبُ فِي هَذَا كَمَا قَالَ أَيْضًا
فِي الصَّحِيحِ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُسْكِرَاتِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْخَمْرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ . فَهُوَ بَيَانٌ لِمَعْنَى الْخَمْرِ وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { سُئِلَ عَنْ شَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُسَمَّى الْمَزْرُ وَشَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الْعَسَلِ يُسَمَّى الْبِتْعُ . وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " . فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ - وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ - أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ . ثُمَّ جَاءَ بِمَا كَانُوا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنَّ " { كُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " حَتَّى يُثَبِّتَ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " لَتَأَوَّلَهُ مُتَأَوِّلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ كَمَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ . وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد : قَوْلُهُ " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " أَبْلَغُ . فَإِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ خَمْرًا . وَلَوْ قَالَ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " فَقَطْ لَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُشْبِهُ الْخَمْرَ فِي التَّحْرِيمِ فَلَمَّا زَادَ " { وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ دُخُولَهُ فِي اسْمِ الْخَمْرِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ . وَالْغَرَضُ هُنَا : أَنَّ صُورَةَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورَةَ فِطْرِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّمٍ . بَلْ هِيَ عِنْدَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْحِسَابِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُطَوِّلُونَ الْعِبَارَاتِ وَيُغَرِّبُونَهَا .
وَكَذَلِكَ انْقِسَامُ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي تُسَمَّى " الْقَضِيَّةَ " - وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ - إلَى خَاصٍّ وَعَامٍّ وَمَنْفِيٍّ وَمُثْبَتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْقَضِيَّةَ الصَّادِقَةَ يَصْدُقُ عَكْسُهَا وَعَكْسُ نَقِيضِهَا وَيَكْذِبُ نَقِيضُهَا . وَأَنَّ جُمْلَتَهَا تَخْتَلِفُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ تَقْسِيمُ الْقِيَاسِ إلَى الْحَمْلِيِّ الْإِفْرَادِيِّ ؛ والاستثنائي التلازمي والتعاندي وَغَيْرِ ذَلِكَ : غَالِبُهُ - وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا - فَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ . وَالْحَقُّ الَّذِي هُوَ فِيهِ : فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْكَلَامِ وَتَكْثِيرِهِ بِلَا فَائِدَةٍ ؛ وَمِنْ سُوءِ التَّعْبِيرِ وَالْعِيِّ فِي الْبَيَانِ ؛ وَمِنْ الْعُدُولِ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْقَرِيبِ إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَدِيرِ الْبَعِيدِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَيَانِهِ . فَحَقُّهُ النَّافِعُ فِطْرِيٌّ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ إلَّا مَعْرِفَةُ اصْطِلَاحِهِمْ وَطَرِيقِهِمْ أَوْ خَطَئِهِمْ . وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ ذِي مَقَالَةٍ مِنْ الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةِ . فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَعْرِفَةِ لُغَتِهِ وَضَلَالِهِ . فَاحْتِيجَ إلَيْهِ لِبَيَانِ ضَلَالِهِ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ الْمُوقِنُونَ حَالَهُ . وَيَسْتَبِينُ لَهُمْ مَا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ حُكْمِهِ جَزَاءً وَأَمْرًا ؛ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِيمَا يُذَمُّ بِهِ مَنْ تَكَلَّفَ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُفِيدُ ؛ وَكَثْرَةِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : ذِكْرُ وُجُوهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ عِلْمًا إلَّا بِوَاسِطَةِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ . فَلَا بُدَّ مِنْ كُلِّيَّةٍ جَامِعَةٍ ثَابِتَةٍ فِي كُلِّ قِيَاسٍ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ أَيْضًا . وَلِهَذَا قَالُوا : لَا قِيَاسَ عَنْ سَالِبَتَيْنِ وَلَا عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعُلُومُ الْكُلِّيَّةُ الْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةُ هِيَ أُصُولَ الْأَقْيِسَةِ وَالْأَدِلَّةَ وَقَوَاعِدَهَا الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا وَتَحْتَاجُ إلَيْهَا . ثُمَّ قَالُوا : إنَّ مَبَادِئَ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ هِيَ الْعُلُومُ الْيَقِينِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْحِسِّيَّاتُ الْبَاطِنَةُ وَالظَّاهِرَةُ وَالْعَقْلِيَّاتُ وَالْبَدِيهِيَّاتُ والمتواترات وَالْمُجَرَّبَاتُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ : الْحَدْسِيَّاتُ . وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ ؛ إذْ الْحِسُّ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ لَا يُدْرِكُ إلَّا أُمُورًا مُعَيَّنَةً لَا تَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ أَدْرَكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ بِالْحِسِّ فَهِيَ تَبَعٌ لِلْحِسِّيَّاتِ . وَكَذَلِكَ التَّجْرِبَةُ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ مَحْسُوسَةٍ . وَإِنَّمَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ عَلَى النَّظَائِرِ بِالتَّشْبِيهِ وَهُوَ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَالْحَدْسِيَّاتِ - عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهَا مِنْهُمْ - مِنْ جِنْسِ التَّجْرِيبِيَّاتِ . لَكِنَّ الْفَرْقَ : أَنَّ التَّجْرِبَةَ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمُجَرِّبِ كَالْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ
وَالْحَدْسُ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ فِعْلٍ كَاخْتِلَافِ أَشْكَالِ الْقَمَرِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مُقَابَلَتِهِ لِلشَّمْسِ . وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَجْرِبَةٌ عِلْمِيَّةٌ بِلَا عَمَلٍ فَالْمُسْتَفَادُ بِهِ أَيْضًا أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ جُزْئِيَّةٌ لَا تَصِيرُ عَامَّةً إلَّا بِوَاسِطَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَأَمَّا الْبَدِيهِيَّاتُ - وَهِيَ الْعُلُومُ الْأَوَّلِيَّةُ الَّتِي يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِي النُّفُوسِ ابْتِدَاءً بِلَا وَاسِطَةٍ مِثْلُ الْحِسَابِ وَهِيَ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ - فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ مِثْلُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَدَدِ الْمُطْلَقِ وَالْمِقْدَارِ الْمُطْلَقِ وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُسَاوِيَةَ لِشَيْءِ وَاحِدٍ هِيَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي أَنْفُسِهَا . فَإِنَّك إذَا حَكَمْت عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْحِسِّ مِثْلُ الْعَقْلِ . فَإِنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا هُوَ عَقْلُ مَا عَلِمْته بِالْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ بِعَقْلِ الْمَعَانِي الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ . فَأَمَّا أَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ عَقْلُ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَفْرَادُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ يَحْصُلُ بِغَيْرِ حِسٍّ فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ . وَإِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إلَى نَفْسِهِ وَجَدَ أَنَّهُ لَا يَعْقِلُ ذَلِكَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الْحِسِّ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ لِكُلِّيَّاتِ مُقَدَّرَةٍ فِي نَفْسِهِ مِثْلُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْمُسْتَقِيمِ وَالْمُنْحَنَى وَالْمُثَلَّثِ وَالْمُرَبَّعِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْرِضُهُ هُوَ وَيُقَدِّرُهُ . فَأَمَّا الْعِلْمُ بِمُطَابَقَةِ ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ وَالْعِلْمُ بِالْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْحِسِّ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ . فَإِذَا اجْتَمَعَ الْحِسُّ وَالْعَقْلُ - كَاجْتِمَاعِ الْبَصَرِ وَالْعَقْلِ - أَمْكَنَ أَنْ يُدْرِكَ الْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ الْمَعْنِيَّةَ وَيَعْقِلَ حُكْمَهَا الْعَامَّ
الَّذِي يَنْدَرِجُ فِيهِ أَمْثَالُهَا لَا أَضْدَادُهَا وَيُعْلَمُ الْجَمْعُ وَالْفَرْقُ . وَهَذَا هُوَ اعْتِبَارُ الْعَقْلِ وَقِيَاسُهُ . وَإِذَا انْفَرَدَ الْإِحْسَاسُ الْبَاطِنُ أَوْ الظَّاهِرُ أَدْرَكَ وُجُودَ الْمَوْجُودِ الْمُعَيَّنِ . وَإِذَا انْفَرَدَ الْمَعْقُولُ الْمُجَرَّدُ عَلِمَ الْكُلِّيَّاتِ الْمُقَدَّرَةَ فِيهِ الَّتِي قَدْ يَكُونُ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَلَا يُعْلَمُ وُجُودُ أَعْيَانِهَا وَعَدَمُ وُجُودِ أَعْيَانِهَا إلَّا بِإِحْسَاسِ بَاطِنٍ أَوْ ظَاهِرٍ . فَإِنَّك إذَا قُلْت : مَوْجُودٌ أَنَّ الْمِائَةَ عُشْرُ الْأَلْفِ لَمْ تَحْكُمْ عَلَى شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ ؛ بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَالَمِ مَا يَعُدُّ بِالْمِائَةِ وَالْأَلْفِ لَكُنْت عَالِمًا بِأَنَّ الْمِائَةَ الْمُقَدَّرَةَ فِي عَقْلِك عُشْرُ الْأَلْفِ وَلَكِنْ إذَا أَحْسَسْت بِالرِّجَالِ وَالدَّوَابِّ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَحْسَسْت بِحِسِّك أَوْ بِخَبَرِ مَنْ أَحَسَّ أَنَّ هُنَاكَ مِائَةَ رَجُلٍ أَوْ دِرْهَمٍ وَهُنَاكَ أَلْفٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ : حَكَمْت عَلَى أَحَدِ الْمَعْدُودَيْنِ بِأَنَّهُ عُشْرُ الْآخَرِ . فَأَمَّا الْمَعْدُودَاتُ فَلَا تُدْرَكُ إلَّا بِالْحِسِّ . وَالْعَدَدُ الْمُجَرَّدُ يُعْقَلُ بِالْقَلْبِ وَبِعَقْلِ الْقَلْبِ وَالْحِسِّ يُعْلَمُ الْعَدَدُ وَالْمَعْدُودُ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ الْمَقَادِيرُ الْهَنْدَسِيَّةُ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . فَالْعُلُومُ الْأَوَّلِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْمَحْضَةُ لَيْسَتْ إلَّا فِي الْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ كَالْعَدَدِ وَالْمِقْدَارِ لَا فِي الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ .
فَإِذَا كَانَتْ مَوَادُّ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ لَا يُدْرَكُ بِعَامَّتِهَا إلَّا أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ لَيْسَتْ كُلِّيَّةً وَهِيَ الْحِسُّ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ وَالتَّوَاتُرُ وَالتَّجْرِبَةُ وَالْحَدْسُ وَاَلَّذِي يُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةَ الْأَوَّلِيَّةَ إنَّمَا يُدْرِكُ أُمُورًا مُقَدَّرَةً ذِهْنِيَّةً لَمْ يَكُنْ فِي مَبَادِئِ الْبُرْهَانِ وَمُقَدِّمَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُعْلَمُ بِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَالْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إلَّا بِوَاسِطَةِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ . فَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ وَمَادَّتِهِ حُصُولُ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ . وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . وَبِتَحْرِيرِهِ وَجَوْدَةِ تَصَوُّرِهِ تَنْفَتِحُ عُلُومٌ عَظِيمَةٌ وَمَعَارِفُ . وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ عَلَيْهِمْ اللَّبْسُ . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ عَظَائِمِ الْعُلُومِ الَّتِي يَظْهَرُ لَك بِهِ مَا يَجِلُّ عَنْ الْوَصْفِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّرِيقَةِ الْفِطْرِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ وَبَيْنَ الطَّرِيقَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَنْطِقِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ لَك بِإِجْمَاعِهِمْ وَبِالْعَقْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ لَا يُفِيدُ إلَّا بِوَاسِطَةِ قَضِيَّةٍ وَتَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْقَضَايَا الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ مَوَادُّ الْبُرْهَانِ وَأُصُولُهُ لَيْسَ فِيهَا قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَلَيْسَ فِيهَا مَا تُعْلَمُ بِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ إلَّا الْعَقْلُ الْمُجَرَّدُ الَّذِي يَعْقِلُ الْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أُصُولِ بُرْهَانِهِمْ عِلْمٌ بِقَضِيَّةِ عَامَّةٍ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عِلْمٌ .
وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مَا يُمْكِنُ النِّزَاعُ فِيهِ إلَّا الْقَضَايَا الْبَدِيهِيَّةُ فَإِنَّ فِيهَا عُمُومًا وَقَدْ يَظُنُّ أَنَّ بِهِ تَعَلُّمَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ فَيَفْرِضُ أَنَّهَا تُفِيدُ الْعُلُومَ الْكُلِّيَّةَ . لَكِنَّ بَقِيَّةَ الْمَبَادِئِ لَيْسَ فِيهَا عِلْمٌ كُلِّيٌّ . فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَجْعَلَ مُقَدِّمَةَ الْبُرْهَانِ إلَّا الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ الْبَدِيهِيَّةَ الْمَحْضَةَ . إذْ هِيَ الْكُلِّيَّةُ . وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْقَضَايَا فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ تُجْعَلَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْبُرْهَانِ ؟ إلَّا أَنْ يُقَالَ : تُعْلَمُ بِهَا أُمُورٌ جُزْئِيَّةٌ وَبِالْعَقْلِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ فَبِمَجْمُوعِهِمَا يَتِمُّ الْبُرْهَانُ كَمَا يُعْلَمُ بِالْحِسِّ أَنَّ مَعَ هَذَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمَعَ هَذَا أَلْفَانِ وَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ فَيُعْلَمُ أَنَّ مَالَ هَذَا أَكْثَرُ . فَيُقَالُ : هَذَا صَحِيحٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ قَضِيَّةً جُزْئِيَّةً مُعَيَّنَةً . وَهُوَ كَوْنُ مَالِ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ مَالِ هَذَا . وَالْأُمُورُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لَا تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إلَى قِيَاسٍ . بَلْ قَدْ تُعْلَمُ بِلَا قِيَاسٍ وَتُعْلَمُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَتُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ . فَإِنَّك تَعْلَمُ بِالْحِسِّ أَنَّ هَذَا مِثْلُ هَذَا وَتَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِنْ نَعْتِهِ كَيْت وَكَيْت فَتَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ مِثْلُهُ وَتَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ . وَكَذَلِكَ قَدْ يُعْلَمُ أَنَّ زَيْدًا أَكْبَرُ مِنْ عَمْرٍو وَعَمْرًا أَكْبَرُ مِنْ خَالِدٍ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي تُعْلَمُ بِدُونِ قِيَاسِ الشُّمُولِ الَّذِي اشْتَرَطُوا فِيهِ مَا اشْتَرَطُوا .
فَقَدْ
تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ الْمَنْطِقِيَّ الَّذِي وَضَعُوهُ
وَحَدَّدُوهُ لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ
الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ . فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ : " إنَّهُ مِيزَانُ
الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ الْبُرْهَانِيَّةِ " وَلَكِنْ يُعْلَمُ بِهِ
أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ شَخْصِيَّةٌ جُزْئِيَّةٌ وَتِلْكَ تُعْلَمُ بِغَيْرِهِ
أَجْوَدَ مِمَّا تُعْلَمُ بِهِ .
وَهَذَا هُوَ : الْوَجْهُ الثَّانِي فَنَقُولُ : أَمَّا الْأُمُورُ الْمَوْجُودَةُ
الْمُحَقَّقَةُ فَتُعْلَمُ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَتُعْلَمُ
بِالْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ وَتُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ
قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ وَلَا شُمُولٌ وَلَا عُمُومٌ بَلْ تَكُونُ الْحُدُودُ
الثَّلَاثَةُ فِيهِ - الْأَصْغَرُ وَالْأَوْسَطُ وَالْأَكْبَرُ - أَعْيَانًا
جُزْئِيَّةً والمقدمتان وَالنَّتِيجَةُ قَضَايَا جُزْئِيَّةً . وَعِلْمُ هَذِهِ
الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ أَصَحُّ وَأَوْضَحُ وَأَكْمَلُ .
فَإِنَّ مَنْ رَأَى بِعَيْنِهِ زَيْدًا فِي مَكَانٍ وَعَمْرًا فِي مَكَانٍ آخَرَ :
اسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِكَوْنِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ لَا
يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَكَذَلِكَ مَنْ وَزَنَ دَرَاهِمَ كُلٍّ مِنْهَا أَلْفَ
دِرْهَمٍ اسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْهَا
بِأَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِلصَّنْجَةِ وَهِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْأَشْيَاءُ
الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ .
وَلِهَذَا يُسَمَّى هَؤُلَاءِ " أَهْلَ كَلَامٍ " أَيْ لَمْ يُفِيدُوا
عِلْمًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا . وَإِنَّمَا أَتَوْا بِزِيَادَةِ كَلَامٍ قَدْ
لَا يُفِيدُ . وَهُوَ مَا ضَرَبُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ لِإِيضَاحِ مَا عُلِمَ
بِالْحِسِّ . وَإِنْ كَانَ هَذَا
الْقِيَاسُ وَأَمْثَالُهُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَعَ مَنْ يُنْكِرُ الْحِسَّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ هَذَا الدِّينَارَ مِثْلُ هَذَا وَهَذَا الدِّرْهَمَ مِثْلُ هَذَا وَأَنَّ هَذِهِ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ مِثْلُ هَذَا ثُمَّ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ أَحَدِهِمَا وَأَحْكَامِهِ الطَّبِيعِيَّةِ ؛ مِثْلُ الِاغْتِذَاءِ وَالِانْتِفَاعِ أَوْ الْعَادِيَّةِ مِثْلُ الْقِيمَةِ وَالسِّعْرِ أَوْ الشَّرْعِيَّةِ : مِثْلُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ - عَلِمَ أَنَّ حُكْمَ الْآخَرِ مِثْلُهُ . فَأَقْيِسَةُ التَّمْثِيلِ تُفِيدُ الْيَقِينَ بِلَا رَيْبٍ أَعْظَمُ مِنْ أَقْيِسَةِ الشُّمُولِ وَلَا يُحْتَاجُ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّمَاثُلِ إلَى أَنْ يُضْرَبَ لَهُمَا قِيَاسُ شُمُولٍ بَلْ يَكُونُ مِنْ زِيَادَةِ الْفُضُولِ . وَبِهَذَا الطَّرِيقِ عُرِفَتْ الْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ قِيَاسِ شُمُولٍ يَنْعَقِدُ فِي النَّفْسِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ اتِّفَاقِيًّا لَمَا كَانَ أَكْثَرِيًّا . فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ . فَإِنَّ النَّاسَ الْعَالِمِينَ بِمَا جَرَّبُوهُ لَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ هَذَا وَلَكِنْ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِمْ بِالتَّمَاثُلِ يُبَادِرُونَ إلَى التَّسْوِيَةِ فِي الْحُكْمِ . لِأَنَّ نَفْسَ الْعِلْمِ بِالتَّمَاثُلِ يُوجِبُ ذَلِكَ بِالْبَدِيهَةِ الْعَقْلِيَّةِ فَكَمَا عُلِمَ بِالْبَدِيهَةِ الْعَقْلِيَّةِ : أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ عُلِمَ بِهَا أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ
حُكْمُ مِثْلِهِ وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِثْلُ الْوَاحِدِ كَمَا عُلِمَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُسَاوِيَةَ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ . فَالتَّمَاثُلُ وَالِاخْتِلَافُ فِي الصِّفَةِ أَوْ الْقَدْرِ قَدْ يُعْلَمُ بِالْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَالْعِلْمُ بِأَنَّ الْمِثْلَيْنِ سَوَاءٌ وَأَنَّ الْأَكْثَرَ وَالْأَكْبَرَ أَعَظْمُ وَأَرْجَحُ يُعْلَمُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ . وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ زَيْدًا أَخُو عَمْرٍو وَعَمْرًا أَخُو بَكْرٍ فَزَيْدٌ أَخُو بَكْرٍ . وَمِثْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ وَعُمَرُ أَفْضَلُ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ . فَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ . وَأَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْمَدِينَةُ لَا يَجِبُ أَنْ يُحَجَّ إلَيْهَا فَبَيْتُ الْمَقْدِسِ لَا يُحَجُّ إلَيْهِ . وَقَبْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْقُبُورِ وَلَا يُشْرَعُ اسْتِلَامُهُ وَلَا تَقْبِيلُهُ فَقَبْرُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ لَا يُشْرَعُ اسْتِلَامُهُ وَلَا تَقْبِيلُهُ . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ مِلْءُ الْعَالَمِ . وَهَذَا أَبْلَغُ فِي إفَادَةِ حُكْمِ الْمُعَيَّنِ مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ . فَدَلَالَةُ الِاسْمِ الْخَاصِّ عَلَى الْمُعَيَّنِ أَبْلَغُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَامِّ أُمُورٌ أُخْرَى لَيْسَتْ فِي الْخَاصِّ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَبِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَالْأَقْيِسَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَعْظَمُ مِمَّا يُعْلَمُ أَعْيَانُهَا بِقِيَاسِ الشُّمُولِ . فَإِذَا كَانَ قِيَاسُ الشُّمُولِ - الَّذِي حَرَّرُوهُ - لَا يُفِيدُ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأُمُورُ الْمُعَيَّنَةُ
-
كَمَا تَبَيَّنَ - لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا ؛ وَلَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ
فِي عِلْمٍ كُلِّيٍّ وَلَا عِلْمٍ مُعَيَّنٍ بَلْ صَارَ كَلَامُهُمْ فِي
الْقِيَاسِ الَّذِي حَرَّرُوهُ كَالْكَلَامِ فِي الْحُدُودِ . وَهَذَا هَذَا .
فَتَدَبَّرْهُ فَإِنَّهُ عَظِيمُ الْقَدْرِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ
قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَالْحِسُّ لَا يُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَإِنَّمَا تُدْرَكُ
بِالْعَقْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً بِقِيَاسِ آخَرَ لِمَا
يَلْزَمُ مِنْ الدَّوْرِ أَوْ التَّسَلْسُلِ . فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَايَا
كُلِّيَّةٍ تُعْقَلُ بِلَا قِيَاسٍ كَالْبَدِيهِيَّاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا .
فَنَقُولُ : إذْ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ
الْعَقْلِيَّةِ مَا يَبْتَدِئُ فِي النُّفُوسِ وَيَبْدَهُهَا بِلَا قِيَاسٍ وَجَبَ
الْجَزْمُ بِأَنَّ الْعُلُومَ الْكُلِّيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ قَدْ تَسْتَغْنِي عَنْ
الْقِيَاسِ . وَهَذَا مِمَّا اعْتَرَفُوا بِهِ هُمْ وَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ : أَنَّ
مِنْ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ مَا هُوَ بَدِيهِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَسْبٍ
بِالْحَدِّ وَالْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ . وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ : إذَا جَازَ هَذَا فِي عِلْمٍ كُلِّيٍّ جَازَ فِي آخَرَ
إذْ لَيْسَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ ابْتِدَاءً مِنْ الْعُلُومِ
الْبَدِيهِيَّةِ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ
فَصْلٌ يَطَّرِدُ ؛ بَلْ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قُوَّةِ الْعَقْلِ وَصَفَائِهِ وَكَثْرَةِ إدْرَاكِ الْجُزْئِيَّات الَّتِي تُعْلَمُ بِوَاسِطَتِهَا الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ . فَمَا مِنْ عِلْمٍ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ إلَّا وَعِلْمُهُ يُمْكِنُ بِدُونِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ . فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِتَوَقُّفِ شَيْءٍ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ عَلَيْهِ . وَهَذَا يَتَبَيَّنُ : بِالْوَجْهِ الرَّابِعِ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ : هَبْ أَنَّ صُورَةَ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ وَمَادَّتَهُ تُفِيدُ عُلُومًا كُلِّيَّةً لَكِنْ مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ الْكُلِّيَّ لَا يُنَالُ حَتَّى يَقُولَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّفُونَ الْقَافُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ هُمْ وَمَنْ قَلَّدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَعُلَمَائِهِمْ : إنَّ مَا لَيْسَ بِبَدِيهِيِّ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْحَدِّ وَالْقِيَاسِ وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ . فَالْقَائِلُ لِذَلِكَ لَمْ يَمْتَحِنْ أَحْوَالَ نَفْسِهِ . وَلَوْ امْتَحَنَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ لَوَجَدَ لَهُ عُلُومًا كُلِّيَّةً بِدُونِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ وَتَصَوُّرَاتٍ كَثِيرَةً بِدُونِ الْحَدِّ . وَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ بَنِي جِنْسِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ - مَعَ تَفَاوُتِ فِطَرِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَمَوَاهِبِ الْحَقِّ لَهُمْ - هُمْ بِمَنْزِلَتِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَمْنَحُ أَحَدًا عِلْمًا إلَّا بِقِيَاسِ مَنْطِقِيٍّ يَنْعَقِدُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَزْعُمَ هَؤُلَاءِ : أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا كَذَلِكَ بَلْ صَعِدُوا إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَزَعَمُوا أَنَّ عِلْمَهُ بِأُمُورِ خَلْقِهِ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ . وَلَيْسَ مَعَهُمْ بِهَذَا النَّفْيِ الَّذِي لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ مِنْ حُجَّةٍ إلَّا عَدَمُ
الْعِلْمِ
فَيَدَّعُونَ الْعِلْمَ وَقَدْ تَكَلَّمُوا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ
السَّالِبَةِ الَّتِي تَعُمُّ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ بِلَا
عِلْمٍ لَهُمْ بِهَا أَصْلًا : وَيَزِيدُ هَذَا بَيَانًا :
الْوَجْهِ الْخَامِسِ : وَهُوَ أَنَّ الْمَبَادِئَ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي
جَعَلُوهَا مُفِيدَةً لِلْيَقِينِ - وَهِيَ الْحِسِّيَّاتُ الْبَاطِنَةُ
وَالظَّاهِرَةُ وَالْبَدِيهِيَّاتُ والتجريبيات وَالْحَدْسِيَّاتُ - لَا رَيْبَ
أَنَّهَا تُفِيدُ الْيَقِينَ الْحِسِّيَّ . فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ الْيَقِينَ
لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا ؟ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى النَّفْيِ حَتَّى
يَصِحَّ قَوْلُهُمْ : لَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ بِدُونِهَا . فَهَذَا صَحِيحٌ
لَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ رُءُوسِهِمْ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ
وَإِيمَانٌ يَجِبُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ الْخَارِجِ
عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ . وَمِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ صَارَ مُنَافِقًا وَتَزَنْدَقَ
مَنْ نَافَقَ مِنْهُمْ . وَصَارَ عِنْدَ عُقَلَاءِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ
وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ الْمَنْطِقَ مَظِنَّةُ التَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ وَالْعِنَادِ
وَالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ حَتَّى حَكَى لَنَا بَعْضُ النَّاسِ : أَنَّ شَخْصًا
مِنْ الْأَعَاجِمِ جَاءَ لِيَقْرَأَ عَلَى بَعْضِ شُيُوخِهِمْ مَنْطِقًا فَقَرَأَ
مِنْهُ قِطْعَةً ثُمَّ قَالَ : حواجا أَيْ بَابُ تَرْكِ الصَّلَاةِ ؟ فَضَحِكُوا
مِنْهُ .
وَهَذَا مَوْجُودٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ : أَنَّ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِالْمَنْطِقِ وَأَهْلِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَادَّةٌ مِنْ دِينٍ وَعَقْلٍ يَسْتَفِيدُ بِهَا الْحَقَّ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَإِلَّا فَسَدَ عَقْلُهُ وَدِينُهُ . وَلِهَذَا يُوجَدُ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَفَسَادِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ لِكُلِّ نَاظِرٍ مِنْ الرِّجَالِ . وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَنْ خَلَطَهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ . فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ فُضَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ يَقُولُونَ : الْمَنْطِقُ كَالْحِسَابِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُعْلَمُ بِهِ صِحَّةُ الْإِسْلَامِ وَلَا فَسَادُهُ وَلَا ثُبُوتُهُ وَلَا انْتِفَاؤُهُ . فَهَذَا كَلَامُ مَنْ رَأَى ظَاهِرَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْأُمُورِ الْمُفْرَدَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى ثُمَّ عَلَى تَأْلِيفِ الْمُفْرَدَاتِ وَهُوَ الْقَضَايَا وَنَقِيضُهَا وَعَكْسُهَا الْمُسْتَوِي وَعَكْسُ النَّقِيضِ ثُمَّ عَلَى تَأْلِيفِهَا بِالْحَدِّ وَالْقِيَاسِ وَعَلَى مَوَادِّ الْقِيَاسِ وَإِلَّا فَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُمُورٍ فَاسِدَةٍ وَدَعَاوَى بَاطِلَةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِاسْتِقْصَائِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الدَّاعِي إلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ وَعَلَى آلِهِ وَمَنْ اتَّبَعَ هُدَاهُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنِّي كُنْت دَائِمًا أَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْطِقَ
الْيُونَانِيَّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الذَّكِيُّ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ
الْبَلِيدُ . وَلَكِنْ كُنْت أَحْسَبُ أَنَّ قَضَايَاهُ صَادِقَةٌ لِمَا رَأَيْنَا
مِنْ صِدْقِ كَثِيرٍ مِنْهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ لِي فِيمَا بَعْدُ خَطَأُ طَائِفَةٍ
مِنْ قَضَايَاهُ وَكَتَبْت فِي ذَلِكَ شَيْئًا ؛ وَلَمَّا كُنْت بالإسكندرية
اجْتَمَعَ بِي مَنْ رَأَيْته يُعَظِّمُ الْمُتَفَلْسِفَةَ بِالتَّهْوِيلِ
وَالتَّقْلِيدِ فَذَكَرْت لَهُ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ التَّجْهِيلِ
وَالتَّضْلِيلِ . وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنِّي كَتَبْت فِي قَعْدَةٍ بَيْنَ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمَنْطِقِ مَا عَلَّقْته تِلْكَ السَّاعَةَ .
وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ هِمَّتِي لِأَنَّ هِمَّتِي كَانَتْ فِيمَا كَتَبْته
عَلَيْهِمْ فِي " الْإِلَهِيَّاتِ " وَتَبَيَّنَ لِي أَنَّ كَثِيرًا
مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ هُوَ مِنْ أَصُوَلِ فَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي
الْإِلَهِيَّاتِ ،
مِثْلَ
مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَرْكِيبِ الْمَاهِيَّاتِ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي سَمَّوْهَا
ذَاتِيَّاتٍ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَصْرِ طُرُقِ الْعِلْمِ فِيمَا ذَكَرُوهُ
مِنْ الْحُدُودِ وَالْأَقْيِسَةِ الْبُرْهَانِيَّاتِ بَلْ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ
الْحُدُودِ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ التَّصَوُّرَاتُ . بَلْ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ
صُوَرِ الْقِيَاسِ وَمَوَادِّهِ الْيَقِينِيَّاتِ . فَأَرَادَ بَعْضُ النَّاسِ
أَنْ يَكْتُبَ مَا عَلَّقْته إذْ ذَاكَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَيْهِمْ فِي
الْمَنْطِقِ فَأَذِنْت فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَفْتَحُ بَابَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ
وَإِنْ كَانَ مَا فُتِحَ مِنْ بَابِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ يَحْتَمِلُ أَضْعَافَ مَا
عَلَّقْته . فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ بَنَوْا " الْمَنْطِقَ " عَلَى
الْكَلَامِ فِي الْحَدِّ وَنَوْعِهِ وَالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ وَنَوْعِهِ .
قَالُوا : لِأَنَّ الْعِلْمَ إمَّا تَصَوُّرٌ وَإِمَّا تَصْدِيقٌ فَالطَّرِيقُ الَّذِي
يُنَالُ بِهِ التَّصَوُّرُ هُوَ الْحَدُّ وَالطَّرِيقُ الَّذِي يُنَالُ بِهِ
التَّصْدِيقُ هُوَ الْقِيَاسُ .
فَنَقُولُ : الْكَلَامُ فِي " أَرْبَعِ مَقَامَاتٍ " : مَقَامَيْنِ
سَالِبَيْنِ وَمَقَامَيْنِ مُوجَبَيْنِ . فَالْأَوَّلَانِ أَحَدُهُمَا فِي قَوْلِهِمْ
إنَّ التَّصَوُّرَ الْمَطْلُوبَ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْحَدِّ . والثَّانِي أَنَّ
التَّصْدِيقَ الْمَطْلُوبَ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْقِيَاسِ . وَالْآخَرَانِ فِي
أَنَّ الْحَدَّ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّصَوُّرَاتِ وَأَنَّ الْقِيَاسَ أَوْ
الْبُرْهَانَ الْمَوْصُوفَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّصْدِيقَاتِ .
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي قَوْلِهِمْ : " إنَّ التَّصَوُّرَ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْحَدِّ " وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : لَا رَيْبَ أَنَّ النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَالْمُثْبِتِ وَالْقَضِيَّةُ سَلْبِيَّةً أَوْ إيجَابِيَّةً إذَا لَمْ تَكُنْ بَدِيهِيَّةً لَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ وَأَمَّا السَّلْبُ بِلَا عِلْمٍ ؛ فَهُوَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ فَقَوْلُهُمْ لَا تَحْصُلُ التَّصَوُّرَاتُ إلَّا بِالْحَدِّ قَضِيَّةٌ سَالِبَةٌ وَلَيْسَتْ بَدِيهِيَّةً فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَا أَسَّسُوهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ أَسَاسًا لِمِيزَانِ الْعِلْمِ وَلِمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ عَنْ أَنْ يَزِلَّ فِي فِكْرِهِ ؟ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : الْحَدُّ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْمَحْدُودِ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ هُنَا . وَيُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الْمَحْدُودِ وَهُوَ مُرَادُهُمْ هُنَا . وَهُوَ تَفْصِيلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِالْإِجْمَالِ . فَيُقَالُ إذَا كَانَ الْحَدُّ قَوْلَ الْحَادِّ فَالْحَادُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَرَّفَ الْمَحْدُودَ بِحَدِّ أَوْ بِغَيْرِ حَدٍّ ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْكَلَامُ فِي الْحَدِّ الثَّانِي كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلدَّوْرِ أَوْ التَّسَلْسُلِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ بَطَلَ سَلْبُهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : إنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَدِّ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْأُمَمَ جَمِيعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعُلُومِ وَالْمَقَالَاتِ وَأَهْلِ الْأَعْمَالِ
وَالصِّنَاعَاتِ يَعْرِفُونَ الْأُمُورَ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَتِهَا وَيُحَقِّقُونَ مَا يُعَانُونَهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّمٍ بِحَدِّ وَلَا نَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلُومِ يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ الْحُدُودِ : لَا أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَلَا النَّحْوِ وَلَا الطِّبِّ وَلَا الْحِسَابِ وَلَا أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ مَعَ أَنَّهُمْ يَتَصَوَّرُونَ مُفْرَدَاتِ عِلْمِهِمْ فَعُلِمَ اسْتِغْنَاءُ التَّصَوُّرِ عَنْ هَذِهِ الْحُدُودِ . ( الرَّابِعُ : إلَى السَّاعَةِ لَا يُعْلَمُ لِلنَّاسِ حَدٌّ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِمْ بَلْ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ الْإِنْسَانُ وَحَدُّهُ بِالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضَاتُ الْمَشْهُورَةُ . وَكَذَا حَدُّ الشَّمْسِ وَأَمْثَالُهُ حَتَّى إنَّ النُّحَاةَ لَمَّا دَخَلَ مُتَأَخِّرُوهُمْ فِي الْحُدُودِ ذَكَرُوا لِلِاسْمِ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ حَدًّا وَكُلُّهَا مُعْتَرِضَةٌ عَلَى أَصْلِهِمْ . وَالْأُصُولِيُّونَ ذَكَرُوا لِلْقِيَاسِ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ حَدًّا وَكُلُّهَا أَيْضًا مُعْتَرِضَةٌ . وَعَامَّةُ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَالنُّحَاةِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ مُعْتَرِضَةٌ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إلَّا الْقَلِيلُ فَلَوْ كَانَ تَصَوُّرُ الْأَشْيَاءِ مَوْقُوفًا عَلَى الْحُدُودِ وَلَمْ يَكُنْ إلَى السَّاعَةِ قَدْ تَصَوَّرَ النَّاسُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالتَّصْدِيقُ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّصَوُّرِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَصَوُّرٌ لَمْ يَحْصُلْ تَصْدِيقٌ فَلَا يَكُونُ عِنْدَ بَنِي آدَمَ عِلْمٌ مِنْ عَامَّةِ عُلُومِهِمْ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ السَّفْسَطَةِ . ( الْخَامِسُ : أَنَّ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ إنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَهُمْ بِالْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ الْمُؤَلَّفِ مِنْ الذَّاتِيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُمَيِّزَةِ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَهَذَا الْحَدُّ إمَّا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ كَمَا قَدْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ قَدْ تَصَوَّرَ
حَقِيقَةً
مِنْ الْحَقَائِقِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا وَقَدْ تُصُوِّرَتْ الْحَقَائِقُ
فَعُلِمَ اسْتِغْنَاءُ التَّصَوُّرِ عَنْ الْحَدِّ . ( السَّادِسُ : أَنَّ
الْحُدُودَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا تَكُونُ لِلْحَقَائِقِ الْمُرَكَّبَةِ وَهِيَ
الْأَنْوَاعُ الَّتِي لَهَا جِنْسٌ وَفَصْلٌ فَأَمَّا مَا لَا تَرْكِيبَ فِيهِ
وَهُوَ مَا لَا يَدْخُلُ مَعَ غَيْرِهِ تَحْتَ جِنْسٍ كَمَا مَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ
بِالْعَقْلِ فَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَقَدْ عَرَّفُوهُ وَهُوَ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ
الْمَطْلُوبَةِ عِنْدَهُمْ فَعُلِمَ اسْتِغْنَاءُ التَّصَوُّرِ عَنْ الْحَدِّ بَلْ
إذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ هَذَا بِلَا حَدٍّ فَمَعْرِفَةُ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ
أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْجِنْسِ وَأَشْخَاصُهَا مَشْهُورَةٌ .
وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّصَوُّرِ
التَّامِّ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ . بَلْ يَكْفِي فِيهِ
أَدْنَى تَصَوُّرٍ وَلَوْ بِالْخَاصَّةِ وَتَصَوُّرُ الْعَقْلِ مِنْ هَذَا
الْبَابِ وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ جِنْسَ التَّصَوُّرِ لَا
يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ .
السَّابِعُ : أَنَّ سَامِعَ الْحَدِّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا قَبْلَ ذَلِكَ
بِمُفْرَدَاتِ أَلْفَاظِهِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى مَعَانِيهَا الْمُفْرَدَةِ لَمْ
يُمْكِنْهُ فَهْمُ الْكَلَامِ وَالْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى الْمَعْنَى
وَمَوْضُوعٌ لَهُ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرِ الْمَعْنَى . وَإِنْ كَانَ مُتَصَوَّرًا
لِمُسَمَّى اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ قَبْلَ سَمَاعِهِ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ
إنَّمَا تَصَوُّرُهُ بِسَمَاعِهِ . ( الثَّامِنُ : إذَا كَانَ الْحَدُّ قَوْلُ
الْحَادِّ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَصَوُّرَ الْمَعَانِي
لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَتَصَوَّرُ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ بِدُونِ لَفْظٍ وَالْمُسْتَمِعَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُخَاطَبٍ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَا تُتَصَوَّرُ الْمُفْرَدَاتُ إلَّا بِالْحَدِّ . ( التَّاسِعُ : أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ الْمُتَصَوَّرَةَ إمَّا أَنْ يَتَصَوَّرَهَا الْإِنْسَانُ بِحَوَاسِّهِ الظَّاهِرَةِ كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَالْأَجْسَامِ الَّتِي تَحْمِلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ الْبَاطِنَةِ كَالْجُوعِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَكُلُّهَا غَنِيَّةٌ عَنْ الْحَدِّ . ( الْعَاشِرُ : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْمُعْتَرِضِ : أَنْ يَطْعَنَ عَلَى الْحَدِّ بِالنَّقْضِ فِي الطَّرْدِ أَوْ فِي الْمَنْعِ وَبِالْمُعَارَضَةِ بِحَدِّ آخَرَ فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَمِعُ لِلْحَدِّ يُبْطِلُهُ بِالنَّقْضِ تَارَةً وَبِالْمُعَارَضَةِ أُخْرَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ كِلَيْهِمَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ عُلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصَوُّرُ الْمَحْدُودِ بِدُونِ الْحَدِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . ( الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ مَا يَكُونُ بَدِيهِيًّا لَا يَحْتَاجُ إلَى حَدٍّ وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ كَوْنُ الْعِلْمِ بَدِيهِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ النَّظَرِيُّ عِنْدَ رَجُلٍ بَدِيهِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ لِوُصُولِهِ إلَيْهِ بِأَسْبَابِهِ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ تَوَاتُرٍ أَوْ قَرَائِنَ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْإِدْرَاكِ تَفَاوُتًا لَا يَنْضَبِطُ فَقَدْ يَصِيرُ الْبَدِيهِيُّ عِنْدَ هَذَا دُونَ ذَاكَ بَدِيهِيًّا كَذَلِكَ أَيْضًا بِمِثْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي حَصَلَتْ لِهَذَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَدٍّ .
الْمَقَامُ الثَّانِي : وَهُوَ " الْحَدُّ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْأَشْيَاءِ " فَنَقُولُ : الْمُحَقِّقُونَ مِنْ النُّظَّارِ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ فَائِدَتُهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ كَالِاسْمِ لَيْسَ فَائِدَتُهُ تَصْوِيرَ الْمَحْدُودِ وَتَعْرِيفَ حَقِيقَتِهِ . وَإِنَّمَا يَدَّعِي هَذَا أَهْلُ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيُّونَ أَتْبَاعُ أَرِسْطُو ؛ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ . فَأَمَّا جَمَاهِيرُ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فَعَلَى خِلَافِ هَذَا . وَإِنَّمَا أَدْخَلَ هَذَا مَنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ بَعْدَ أَبِي حَامِدٍ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ وَهُمْ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْحُدُودِ بِطَرِيقَةِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ . وَأَمَّا سَائِرُ النُّظَّارِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ والكَرَّامِيَة وَالشِّيعَةُ وَغَيْرُهُمْ فَعِنْدَهُمْ إنَّمَا يُفِيدُ الْحَدُّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ . وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فورك وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ والنسفي وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ والطوسي وَمُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْصَمِ وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ مِنْ صِنَاعَةِ الْحَدِّ لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ وَضَعُوهَا وَضْعًا وَقَدْ كَانَتْ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ تَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ بِدُونِ هَذَا الْوَضْعِ وَعَامَّةُ الْأُمَمِ
بَعْدَهُمْ تَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ بِدُونِ وَضْعِهِمْ . وَهُمْ إذَا تَدَبَّرُوا وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ بِدُونِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ الْوَضْعِيَّةِ . ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ الْوَضْعِيَّةَ زَعَمُوا أَنَّهَا تُفِيدُ تَعْرِيفَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِهَا وَكِلَا هَذَيْنِ غَلَطٌ وَلَمَّا رَامُوا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضٍ إذْ جَعَلُوا التَّصَوُّرَ بِمَا جَعَلُوهُ ذَاتِيًّا فَلَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ عِنْدَهُمْ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ . فَأَدَّى ذَلِكَ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ حَيْثُ جَعَلُوا صِفَةً ذَاتِيَّةً دُونَ أُخْرَى مَعَ تَسَاوِيهِمَا أَوْ تَقَارُبِهِمَا وَطَلَبُ الْفِرَقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ مُمْتَنِعٌ . وَبَيْنَ الْمُتَقَارِبَاتِ عُسْرٌ . فَالْمَطْلُوبُ إمَّا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ . فَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا بَطَلَ بِالْكُلِّيَّةِ . وَإِنْ كَانَ مُتَعَسِّرًا فَهُوَ بَعْدَ حُصُولِهِ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا كَانَ يُعْرَفُ قَبْلَ حُصُولِهِ فَصَارُوا بَيْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ عَلَيْهِمْ مَا شَرَطُوهُ أَوْ يَنَالُوهُ وَلَا يَحْصُلَ بِهِ مَا قَصَدُوهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَيْسَ مَا وَضَعُوهُ مِنْ الْحَدِّ طَرِيقًا لِتَصَوُّرِ الْحَقَائِقِ فِي نَفْسِ مَنْ لَا يَتَصَوَّرُهَا بِدُونِ الْحَدِّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفِيدُ مِنْ تَمْيِيزِ الْمَحْدُودِ مَا تُفِيدُهُ الْأَسْمَاءُ . وَقَدْ تَفَطَّنَ الْفَخْرُ الرَّازِي لِمَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ وَقَرَّرَ فِي " مُحَصِّلِهِ " وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ لَا تَكُونُ مُكْتَسَبَةً . وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِنَا : إنَّ الْحَدَّ لَا يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْمَحْدُودِ . وَهَذَا " مَقَامٌ شَرِيفٌ " يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ لِسَبَبِ إهْمَالِهِ دَخَلَ الْفَسَادُ
فِي الْعُقُولِ أَوْ الْأَدْيَانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ إذْ خَلَطُوا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ فِي الْحُدُودِ بِالْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ الَّتِي عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الْعُلُومِ : الطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَصَارُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الْحُدُودِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُحَقِّقُونَ لِذَلِكَ . وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْحُدُودِ إنَّمَا هِيَ لَفْظِيَّةٌ لَا تُفِيدُ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ حُدُودِهِمْ . وَيَسْلُكُونَ الطُّرُقَ الصَّعْبَةَ الطَّوِيلَةَ وَالْعِبَارَاتِ الْمُتَكَلَّفَةَ الْهَائِلَةَ وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إلَّا تَضْيِيعُ الزَّمَانِ وَإِتْعَابُ الْأَذْهَانِ وَكَثْرَةُ الْهَذَيَانِ . وَدَعْوَى التَّحْقِيقِ بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَشَغْلُ النُّفُوسِ بِمَا لَا يَنْفَعُهَا بَلْ قَدْ يَصُدُّهَا عَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ . وَإِثْبَاتُ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ النِّفَاقِ فِي الْقُلُوبِ وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ أَصْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ . وَهَذَا مِنْ تَوَابِعِ الْكَلَامِ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ السَّلَفُ خَيْرًا وَأَحْسَنَ مِنْ هَذَا إذْ هُوَ كَلَامٌ فِي أَدِلَّةٍ وَأَحْكَامٍ . وَلَمْ يَكُنْ قُدَمَاءُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَرْضَوْنَ أَنْ يَخُوضُوا فِي الْحُدُودِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَنْطِقِيِّينَ كَمَا جَدَّ فِي ذَلِكَ مُتَأَخِّرُوهُمْ الَّذِينَ ظَنُّوا ذَلِكَ مِنْ التَّحْقِيقِ . وَإِنَّمَا هُوَ زَيْغٌ عَنْ سَوَاءِ الطَّرِيقِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحُدُودُ وَنَحْوُهَا لَا تُفِيدُ الْإِنْسَانَ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ وَإِنَّ ما تُفِيدُهُ كَثْرَةُ كَلَامٍ سَمَّوْهُمْ " أَهْلَ الْكَلَامِ " . وَهَذَا لَعَمْرِي فِي الْحُدُودِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا بَاطِلٌ فَأَمَّا حُدُودُ الْمَنْطِقِيِّينَ الَّتِي يَدَّعُونَ
أَنَّهُمْ
يُصَوِّرُونَ بِهَا الْحَقَائِقَ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ يَجْمَعُونَ بِهَا بَيْنَ
الْمُخْتَلِفَيْنِ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُفِيدُ تَصْوِيرَ الْحَقَائِقِ مِنْ
وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَدَّ مُجَرَّدُ قَوْلِ الْحَادِّ وَدَعْوَاهُ فَقَوْلُهُ
مَثَلًا : حَدُّ الْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ قَضِيَّةٌ خَبَرِيَّةٌ
وَمُجَرَّدُ دَعْوَى خَلِيَّةٍ عَنْ حُجَّةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُ
لَهَا عَالِمًا بِصِدْقِهَا بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ
الْأَوَّلُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ بِهَذَا الْحَدِّ
. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ عِنْدَهُ فَمُجَرَّدُ قَوْلِ الْخَبَرِ الَّذِي لَا
دَلِيلَ مَعَهُ لَا يُفِيدُهُ الْعِلْمَ وَكَيْفَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ
بِمَعْصُومِ فِي قَوْلِهِ ؟ فَتَبَيَّنَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنَّ الْحَدَّ
لَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْحُدُودِ . فَإِنْ قِيلَ : يُفِيدُهُ مُجَرَّدُ
تَصَوُّرِ الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْكَمَ أَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ
الْمَسْئُولُ عَنْهُ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُ . قُلْنَا : فَحِينَئِذٍ يَكُونُ
كَمُجَرَّدِ دِلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ عَلَى مَعْنَاهُ وَهُوَ دَلَالَةُ
الِاسْمِ عَلَى مُسَمَّاهُ . وَهَذَا تَحْقِيقُ مَا قُلْنَاهُ : مِنْ أَنَّ
دِلَالَةَ الْحَدِّ كَدَلَالَةِ الِاسْمِ وَمُجَرَّدَ الِاسْمِ لَا يُوجِبُ
تَصَوُّرَ الْمُسَمَّى لِمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ دُونَ ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ
فَكَذَلِكَ الْحَدُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْحَدُّ لَا يَمْنَعُ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ
دَلِيلٌ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ
إبْطَالُهُ
بِالنَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ . فَيُقَالُ : إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَادُّ قَدْ
أَقَامَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْحَدِّ امْتَنَعَ أَنْ يَعْرِفَ الْمُسْتَمِعُ
الْمَحْدُودَ بِهِ إذَا جُوِّزَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ
صِحَّةَ الْحَدِّ بِقَوْلِهِ وَقَوْلُهُ مُحْتَمِلٌ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ
امْتَنَعَ أَنْ يَعْرِفَهُ بِقَوْلِهِ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ هَؤُلَاءِ
يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ طُرُقٌ عَقْلِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ وَيَجْعَلُونَ
الْعِلْمَ بِالْمُفْرِدِ أَصْلَ الْعِلْمِ بِالْمُرَكَّبِ وَيَجْعَلُونَ
الْعُمْدَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْحَادِّ بِلَا
دَلِيلٍ وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ عَنْ أَمْرٍ عَقْلِيٍّ لَا حِسِّيٍّ يَحْتَمِلُ
الصَّوَابَ وَالْخَطَأَ وَالصِّدْقَ وَالْكَذِبَ . ثُمَّ يَعِيبُونَ عَلَى مَنْ
يَعْتَمِدُ عَلَى الْأُمُورِ السَّمْعِيَّةِ عَلَى نَقْلِ الْوَاحِدِ الَّذِي
مَعَهُ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا يُفِيدُ الْمُسْتَمِعَ الْعَالِمَ بِهَا الْعِلْمَ
الْيَقِينِيَّ زَاعِمِينَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَخَبَرُ
الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ لَكِنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ قَوْلُهُمْ فِي
الْحَدِّ فَإِنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا دَلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ . بَلْ وَلَا
يُمْكِنُ عِنْدَهُمْ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ . فَلَمْ يَكُنْ الْحَدُّ
مُفِيدًا لِتَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ . وَلَكِنْ إنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ قَدْ
تَصَوَّرَ الْمَحْدُودَ قَبْلَ هَذَا أَوْ تَصَوَّرَهُ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ
بِدُونِ الْحَدِّ وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ حَدُّهُ عَلِمَ صِدْقَهُ فِي حَدِّهِ
وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ الْحَدُّ أَفَادَ التَّصَوُّرَ وَهَذَا بَيِّنٌ .
وَتَلْخِيصُهُ أَنَّ تَصَوُّرَ الْمَحْدُودِ بِالْحَدِّ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ
الْعِلْمِ بِصِدْقِ قَوْلِ الْحَادِّ وَصِدْقُ قَوْلِهِ لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ
الْخَبَرِ فَلَا يُعْلَمُ الْمَحْدُودُ بِالْحَدِّ .
الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ الْحَدُّ مُفِيدًا لِتَصَوُّرِ
الْمَحْدُودِ لَمْ يَحْصُلْ
ذَلِكَ
إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ دَلِيلُ التَّصَوُّرِ
وَطَرِيقُهُ وَكَاشِفُهُ فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُعْلَمَ الْمُعَرَّفُ
الْمَحْدُودُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْمُعَرِّفِ وَالْعِلْمُ بِصِحَّةِ
الْحَدِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ . إذْ الْحَدُّ
خَبَرٌ عَنْ مُخْبَرٍ [ عَنْهُ ] (1) هُوَ الْمَحْدُودُ ، فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ
أَنْ يُعْلَمَ صِحَّةُ الْخَبَرِ وَصِدْقُهُ قَبْلَ تَصَوُّرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ
مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِلْخَبَرِ وَقَبُولِ قَوْلِهِ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِي
الْعِلْمِ بِهِ الْمُخْبِرُ ، وَالْمُخْبَرُ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ
عَنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ يَحُدُّونَ الْمَحْدُودَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي
يُسَمُّونَهَا الذَّاتِيَّةَ وَالْعَرَضِيَّةَ وَيُسَمُّونَهَا أَجْزَاءَ الْحَدِّ
وَأَجْزَاءَ الْمَاهِيَّةِ وَالْمُقَوِّمَةَ لَهَا وَالدَّاخِلَةَ فِيهَا وَنَحْوَ
ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ الْمَحْدُودَ
مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ امْتَنَعَ تَصَوُّرُهُ . وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ
مَوْصُوفٌ بِهَا كَانَ قَدْ تَصَوَّرَهُ بِدُونِ الْحَدِّ . فَثَبَتَ أَنَّهُ
عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَكُونُ قَدْ تَصَوَّرَهُ بِالْحَدِّ وَهَذَا بَيِّنٌ
. فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ : الْإِنْسَانُ هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ وَلَا
يَعْلَمُ أَنَّهُ الْإِنْسَانُ احْتَاجَ إلَى الْعِلْمِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ ؛
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَصَوِّرًا لِمُسَمَّى الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ احْتَاجَ
إلَى شَيْئَيْنِ : تَصَوُّرِ ذَلِكَ وَالْعِلْمِ بِالنِّسْبَةِ الْمَذْكُورَةِ
وَإِنْ عَرَفَ ذَلِكَ كَانَ قَدْ تَصَوَّرَ الْإِنْسَانَ بِدُونِ الْحَدِّ .
نَعَمْ الْحَدُّ قَدْ يُنَبِّهُ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ كَمَا يُنَبِّهُ
الِاسْمُ ؛ فَإِنَّ الذِّهْنَ قَدْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ الشَّيْءِ فَإِذَا
سَمِعَ اسْمَهُ وَحْدَهُ أَقْبَلَ بِذِهْنِهِ إلَى الشَّيْءِ الَّذِي أُشِيرَ
إلَيْهِ بِالِاسْمِ أَوْ الْحَدِّ . فَيَتَصَوَّرُهُ . فَتَكُونُ فَائِدَةُ
الْحَدِّ مِنْ جِنْسِ فَائِدَةِ الِاسْمِ وَتَكُونُ الْحُدُودُ لِلْأَنْوَاعِ
بِالصِّفَاتِ كَالْحُدُودِ
لِلْأَعْيَانِ بِالْجِهَاتِ . كَمَا إذَا قِيلَ : حَدُّ الْأَرْضِ مِنْ الْجَانِبِ الْقِبْلِيِّ كَذَا وَمِنْ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ كَذَا مُيِّزَتْ الْأَرْضُ بِاسْمِهَا وَحَدِّهَا وَحَدُّ الْأَرْضِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا خِيفَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْمُسَمَّى أَوْ النَّقْصِ مِنْهُ فَيُفِيدُ إدْخَالَ الْمَحْدُودِ جَمِيعِهِ وَإِخْرَاجَ مَا لَيْسَ مِنْهُ كَمَا يُفِيدُ الِاسْمُ وَكَذَلِكَ حَدُّ النَّوْعِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِالْحُدُودِ اللَّفْظِيَّةِ تَارَةً وَبِالْوَضْعِيَّةِ أُخْرَى . وَحَقِيقَةُ الْحَدِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَيَانُ مُسَمَّى الِاسْمِ فَقَطْ وَتَمْيِيزُ الْمَحْدُودِ عَنْ غَيْرِهِ ؛ لَا تَصَوُّرَ الْمَحْدُودِ . وَإِذَا كَانَ فَائِدَةُ الْحَدِّ بَيَانَ مُسَمَّى الِاسْمِ وَالتَّسْمِيَةُ أَمْرٌ لُغَوِيٌّ وَضْعِيٌّ ؛ رُجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى قَصْدِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى وَلُغَتِهِ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ وَمِنْهَا مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ . وَمِنْ هَذَا " تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَشَرْحُهُ " إذَا أُرِيدَ بِهِ تَبْيِينُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ فَهَذَا يُبْنَى عَلَى مَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِهِ ؛ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ تَبْيِينُ صِحَّتِهِ وَتَقْرِيرُهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ دَلِيلٍ بِصِحَّتِهِ . فَالْأَوَّلُ فِيهِ بَيَانُ تَصْوِيرِ كَلَامِهِ أَوْ تَصْوِيرُ كَلَامِهِ لِتَصْوِيرِ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ بِالتَّرْجَمَةِ : تَارَةً لِمَنْ يَكُونُ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُسَمَّى وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ وَتَارَةً لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُسَمَّى فَيُشَارُ إلَى الْمُسَمَّى بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ إمَّا إلَى عَيْنِهِ وَإِمَّا إلَى نَظِيرِهِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الْحَدُّ تَارَةً يَكُونُ لِلِاسْمِ وَتَارَةً يَكُونُ لِلْمُسَمَّى . وَأَئِمَّةُ الْمُصَنِّفِينَ فِي صِنَاعَةِ الْحُدُودِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَنْطِقِيِّينَ يَعْتَرِفُونَ عِنْدَ
التَّحْقِيقِ بِهَذَا كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " كِتَابِ الْمِعْيَارِ " الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الْمَنْطِقِ وَكَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ ابْنِ سِينَا وَالرَّازِيَّ وَالسُّهْرَوَرْدِي وَفِي غَيْرِهِمْ : أَنَّ الْحُدُودَ فَائِدَتُهَا مِنْ جِنْسِ فَائِدَةِ الْأَسْمَاءِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ التَّرْجَمَةِ بِلَفْظِ عَنْ لَفْظٍ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ غَرِيبِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمَا ؛ بَلْ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ هُوَ فِي أَوَّلِ دَرَجَاتِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَبِذَلِكَ الْكَلَامِ . وَهَذَا الْحَدُّ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْحُدُودِ اللَّفْظِيَّةِ مَعَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إقْرَاءِ الْعُلُومِ الْمُصَنَّفَةِ بَلْ فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْكُتُبِ ؛ بَلْ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُخَاطَبَاتِ . فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ كُتُبَ النَّحْوِ أَوْ الطِّبِّ أَوْ غَيْرِهِمَا لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ مُرَادَ أَصْحَابِهَا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَيَعْرِفَ مُرَادَهُمْ بِالْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ كُتُبَ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْحُدُودُ مَعْرِفَتُهَا مِنْ الدِّينِ فِي كُلِّ لَفْظٍ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَعْرِفَتُهَا فَرْضَ عَيْنٍ وَقَدْ تَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ الْحُدُودَ بِقَوْلِهِ : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } وَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ فِيهِ مَا قَدْ يَكُونُ الِاسْمُ " غَرِيبًا " بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَمِعِ كَلَفْظِ : ( ضِيزَى و ( قَسْوَرَةٍ و ( عَسْعَسَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَقَدْ يَكُونُ " مَشْهُورًا " لَكِنْ لَا يُعْلَمُ حَدُّهُ بَلْ يُعْلَمُ مَعْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ؛ كَاسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ
فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ إنَّمَا هُوَ بِتَعْرِيفِ عَيْنِهِ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ فَمَنْ عَرَفَ عَيْنَ الشَّيْءِ لَا يَفْتَقِرُ فِي مَعْرِفَتِهِ إلَى حَدٍّ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَإِنَّمَا يَعْرِفُ بِهِ إذَا عَرَفَ مَا يُشْبِهُهُ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَيُؤَلِّفُ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُشْتَبِهَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مَا يَخُصُّ الْمُعَرَّفَ وَمَنْ تَدَقَّقَ هَذَا وَجَدَ حَقِيقَتَهُ وَعَلِمَ مَعْرِفَةَ الْخَلْقِ بِمَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ الْغَيْبِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ . وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِّ . ( الْخَامِسُ : أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْمُفْرَدَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مَطْلُوبَةً ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْحَدِّ ؛ لِأَنَّ الذِّهْنَ إنْ كَانَ شَاعِرًا بِهَا امْتَنَعَ الطَّلَبُ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُمْتَنِعٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاعِرًا بِهَا امْتَنَعَ مِنْ النَّفْسِ طَلَبُ مَا لَا تَشْعُرُ بِهِ فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالْقَصْدَ مَسْبُوقٌ بِالشُّعُورِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْإِنْسَانُ يَطْلُبُ تَصَوُّرَ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ وَالرُّوحِ وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهَا . قِيلَ : قَدْ سَمِعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ . فَهُوَ يَطْلُبُ تَصَوُّرَ مُسَمَّاهَا ؛ كَمَا يَطْلُبُ مَنْ سَمِعَ أَلْفَاظًا لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَهَا تَصَوُّرَ مَعَانِيَهَا . وَهُوَ إذَا تَصَوَّرَ مُسَمَّى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مُسَمَّاةٌ بِهَذَا الِاسْمِ إذْ لَوْ تَصَوَّرَ حَقِيقَةً وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاسْمُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ تَصَوَّرَ مَطْلُوبَهُ فَهُنَا الْمُتَصَوَّرُ ذَاتٌ وَأَنَّهَا مُسَمَّاةٌ بِكَذَا وَهَذَا لَيْسَ تَصَوُّرًا بِالْمَعْنَى فَقَطْ ؛ بَلْ لِلْمَعْنَى وَلِاسْمِهِ . وَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَكُونُ مَطْلُوبًا . وَلَكِنْ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُفْرَدُ مَطْلُوبًا .
وأَيْضًا فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمَحْدُودِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ . وَإِذَا ثَبَتَ امْتِنَاعُ الطَّلَبِ لِلتَّصَوُّرَاتِ الْمُفْرَدَةِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً لِلْإِنْسَانِ فَلَا تَحْصُلُ بِالْحَدِّ فَلَا يُفِيدُ الْحَدُّ التَّصَوُّرَ . وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ حَاصِلَةً فَمُجَرَّدُ الْحَدِّ لَا يُوجِبُ تَصَوُّرَ الْمُسَمَّيَاتِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهَا وَمَتَى كَانَ لَهُ شُعُورٌ بِهَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْحَدِّ فِي ذَلِكَ الشُّعُورِ إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْمِ . وَالْمَقْصُودُ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ فَائِدَةِ الْحَدِّ وَفَائِدَةِ الِاسْمِ . ( السَّادِسُ ) : أَنْ يُقَالَ : الْمُفِيدُ لِتَصَوُّرِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَدُّ الْعَامُّ الْمُؤَلَّفُ مِنْ الذَّاتِيَّاتِ ؛ دُونَ الْعَرَضِيَّاتِ . وَمَبْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ . وَهُمْ يَقُولُونَ : الذَّاتِيُّ مَا كَانَ دَاخِلَ الْمَاهِيَّةِ وَالْعَرَضِيُّ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْهَا . وَقَسَّمُوهُ إلَى لَازِمٍ لِلْمَاهِيَّةِ وَلَازِمٍ لِوُجُودِهَا . وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذِكْرُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ فَاسِدَيْنِ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ وَوُجُودِهَا ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ لَهَا وَاللَّازِمِ لَهَا . ( فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ : قَوْلُهُمْ : إنَّ الْمَاهِيَّةَ لَهَا حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ وُجُودِهَا ؛ وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْمَعْدُومُ شَيْءٌ ؛ وَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ مَا يَكُونُ ؛ وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا الشَّيْءَ قَبْلَ وُجُودِهِ يُعْلَمُ وَيُرَادُ ؛ وَيُمَيَّزُ بَيْنَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَالْمَعْجُوزِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَقَالُوا : لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ . كَمَا أَنَّا نَتَكَلَّمُ فِي حَقَائِقِ
الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَاهِيَّاتُهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ وُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ فَتَخَيَّلَ الغالط أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ وَالْمَاهِيَّاتِ أُمُورٌ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي الذِّهْنِ . وَالْمُقَدَّرُ فِي الْأَذْهَانِ أَوْسَعُ مِنْ الْمَوْجُودِ فِي الْأَعْيَانِ . وَهُوَ مَوْجُودٌ وَثَابِتٌ فِي الذِّهْنِ وَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا مَوْجُودًا وَلَا ثَابِتًا ؛ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَكَذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ مَعَ دَعْوَى أَنَّ كِلَيْهِمَا فِي الْخَارِجِ غَلَطٌ عَظِيمٌ . وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الْحَقَائِقَ النَّوْعِيَّةَ كَحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ غَيْرُ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ لَا تَقْبَلُ الِاسْتِحَالَةَ وَهَذِهِ الَّتِي تُسَمَّى : " الْمُثُلَ الأفلاطونية " . وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ أَثْبَتُوا أَيْضًا ذَلِكَ فِي الْمَادَّةِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْمَكَانِ فَأَثْبَتُوا مَادَّةً مُجَرَّدَةً عَنْ الصُّوَرِ ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ : وَهِيَ الْهَيُولَى الْأَوَّلِيَّةُ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا قِدَمَ الْعَالَمِ . وَغَلَّطَهُمْ فِيهَا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ . وَالْكَلَامُ عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ وَوُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ . وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ هِيَ مَا يَرْتَسِمُ فِي النَّفْسِ مِنْ الشَّيْءِ وَالْوُجُودَ مَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ ،
وَهَذَا فَرْقٌ صَحِيحٌ . فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا فِي النَّفْسِ وَمَا فِي الْخَارِجِ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ لَا رَيْبَ فِيهِ . وَأَمَّا تَقْدِيرُ حَقِيقَةٍ لَا تَكُونُ ثَابِتَةً فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي " : وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ وَالذَّاتِيِّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّهُ إنْ جُعِلَتْ الْمَاهِيَّةُ الَّتِي فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْوُجُودُ الَّذِي فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدًا عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ وَإِنْ جُعِلَ هَذَا هُوَ نَفْسَ الْمَاهِيَّةِ بِلَوَازِمِهَا كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ : هَذَا " الْوُجُودُ بِلَوَازِمِهِ " وَهُمَا بَاطِلَانِ فَإِنَّ الزَّوْجِيَّةَ وَالْفَرْدِيَّةَ لِلْعَدَدِ مَثَلًا مِثْلُ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنُّطْقِ لِلْإِنْسَانِ . وَكِلَاهُمَا إذَا خَطَرَ بِالْبَالِ مِنْهُ الْمَوْصُوفُ مَعَ الصِّفَةِ لَمْ يُمْكِنْ تَقْدِيرُ الْمَوْصُوفِ دُونَ الصِّفَةِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ مَا جَعَلُوهُ هُوَ الذَّاتِيُّ يَتَقَدَّمُ بِصُورَةِ فِي الذِّهْنِ . فَبَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ عَنْ وَضْعِهِمْ إذْ هُمْ يُقَدِّمُونَ هَذَا فِي أَذْهَانِهِمْ وَيُؤَخِّرُونَ هَذَا وَهَذَا حُكْمٌ مَحْضٌ . وَكُلُّ مَنْ قَدَّمَ هَذَا دُونَ ذَا فَإِنَّمَا قَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَائِقَ الْخَارِجِيَّةَ الْمُسْتَغْنِيَةَ عَنَّا لَا تَكُونُ تَابِعَةً لِتَصَوُّرَاتِنَا فَلَيْسَ إذَا فَرَضْنَا هَذَا مُقَدَّمًا وَهَذَا مُؤَخَّرًا يَكُونُ هَذَا فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ . وَسَائِرُ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَسْتَحْضِرُونَ هَذَا التَّقْدِيمَ
وَالتَّأْخِيرَ
وَلَوْ كَانَ هَذَا فِطْرِيًّا كَانَتْ الْفِطْرَةُ تُدْرِكُهُ بِدُونِ
التَّقْلِيدِ كَمَا تُدْرِكُ سَائِرَ الْأُمُورِ الْفِطْرِيَّةِ . وَاَلَّذِي فِي
الْفِطْرَةِ أَنَّ هَذِهِ اللَّوَازِمَ كُلَّهَا لَوَازِمُ لِلْمَوْصُوفِ وَقَدْ
يَخْطِرُ بِالْبَالِ ؛ وَقَدْ لَا يَخْطِرُ . أَمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا خَارِجًا
عَنْ الذَّاتِ وَهَذَا دَاخِلًا فِي الذَّاتِ . فَهَذَا تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَيْسَ
لَهُ شَاهِدٌ لَا فِي الْخَارِجِ وَلَا فِي الْفِطْرَةِ .
والثَّانِي : أَنَّ كَوْنَ الْوَصْفِ ذَاتِيًّا لِلْمَوْصُوفِ : هُوَ أَمْرٌ
تَابِعٌ لِحَقِيقَتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا سَوَاءٌ تَصَوَّرَتْهُ أَذْهَانُنَا
أَوْ لَمْ تَتَصَوَّرْهُ . فَلَا بُدَّ إذَا كَانَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ ذَاتِيًّا
دُونَ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَمْرًا يَعُودُ إلَى
حَقِيقَتِهِمَا الْخَارِجَةِ الثَّابِتَةِ بِدُونِ الذِّهْنِ . وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْخَارِجَةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ إلَّا مُجَرَّدُ
التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الذِّهْنِ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا أَنْ
تَكُونَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَاهِيَّةُ هِيَ مَا يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ لَا مَا
يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ . وَذَلِكَ أَمْرٌ يَتْبَعُ تَقْدِيرَ صَاحِبِ الذِّهْنِ .
وَحِينَئِذٍ فَيَعُودُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ إلَى أُمُورٍ مُقَدَّرَةٍ فِي
الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ وَهِيَ التَّخَيُّلَاتُ وَالتَّوَهُّمَاتُ
الْبَاطِلَةُ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أُصُولِهِمْ .
السَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : هَلْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْحَدِّ التَّامِّ
وَكَوْنِهِ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقِيقَةِ أَنْ تُتَصَوَّرَ جَمِيعُ صِفَاتِهِ
الذَّاتِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ
شَرَطُوا لَزِمَ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ . وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا
وَاكْتَفَوْا بِالْجِنْسِ الْقَرِيبِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ
وَإِذَا عَارَضَهُمْ مَنْ يُوجِبُ ذِكْرَ جَمِيعِ
الْأَجْنَاسِ أَوْ يَحْذِفُ جَمِيعَ الْأَجْنَاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ إلَّا أَنَّ هَذَا وَضْعُهُمْ وَاصْطِلَاحُهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُلُومَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْضَاعِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ مِنْ بَابِ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ الَّذِي جَعَلُوهُ مِنْ بَابِ الْحَقَائِقِ الذَّاتِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ وَهَذَا عَيْنُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ كَمَنْ يَجِيءُ إلَى شَخْصَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ فَيَجْعَلُ هَذَا مُؤْمِنًا وَهَذَا كَافِرًا وَهَذَا عَالِمًا وَهَذَا جَاهِلًا وَهَذَا سَعِيدًا وَهَذَا شَقِيًّا مِنْ غَيْرِ افْتِرَاقٍ بَيْنَ ذَاتَيْهِمَا بَلْ بِمُجَرَّدِ وَضْعِهِ وَاصْطِلَاحِهِ . فَهُمْ مَعَ دَعْوَاهُمْ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَيُسَوُّونَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ . ( الثَّامِنُ : أَنَّ اشْتِرَاطَهُمْ ذِكْرَ الْفُصُولِ الْمُمَيِّزَةِ مَعَ تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ إذْ مَا مِنْ مُمَيِّزٍ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْمَحْدُودِ الْمُطَابِقَةِ لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إلَّا وَيُمْكِنُ الْآخَرَ أَنْ يَجْعَلَهُ عَرَضِيًّا لَازِمًا لِلْمَاهِيَّةِ . ( التَّاسِعُ : أَنَّ فِيمَا قَالُوهُ دَوْرًا فَلَا يَصِحُّ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَحْدُودَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِذِكْرِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ . ثُمَّ يَقُولُونَ : الذَّاتِيُّ هُوَ مَا لَا يُمْكِنُ تَصَوُّرُ الْمَاهِيَّةِ بِدُونِ تَصَوُّرِهِ . فَإِذَا كَانَ الْمُتَعَلِّمُ لَا يَتَصَوَّرُ الْمَحْدُودَ حَتَّى يَتَصَوَّرَ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةَ وَلَا يَعْرِفَ أَنَّ الصِّفَةَ ذَاتِيَّةٌ حَتَّى يَتَصَوَّرَ الْمَوْصُوفُ الَّذِي هُوَ الْمَحْدُودُ ، وَلَا يَتَصَوَّرُ الْمَوْصُوفَ حَتَّى يَتَصَوَّرَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ وَيُمَيِّزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ الذَّاتِ عَلَى مَعْرِفَةِ
الذَّاتِيَّاتِ
وَيَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ الذَّاتِيَّاتِ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ فَلَا
يُعْرَفُ هُوَ وَلَا تُعْرَفُ الذَّاتِيَّاتُ . وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ يَجْتَاحُ
أَصْلَ كَلَامِهِمْ . وَيُبَيِّنُ أَنَّهُمْ مُتَحَكِّمُونَ فِيمَا وَضَعُوهُ لَمْ
يَبْنُوهُ عَلَى أَصْلٍ عِلْمِيٍّ تَابِعٍ لِلْحَقَائِقِ . لَكِنْ قَالُوا : هَذَا
ذَاتِيٌّ وَهَذَا غَيْرُ ذَاتِيٍّ بِمُجَرَّدِ التَّحَكُّمِ . وَلَمْ يَعْتَمِدُوا
عَلَى أَمْرٍ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَغَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ
يُعْرَفْ الْمَحْدُودُ إلَّا بِالْحَدِّ وَالْحَدُّ غَيْرُ مُمْكِنٍ لَمْ يُعْرَفْ
وَذَلِكَ بَاطِلٌ .
الْعَاشِرُ : أَنَّهُ يَحْصُلُ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ نِزَاعٌ لَا
يُمْكِنُ فَصْلُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَمَا اسْتَلْزَمَ تَكَافُؤَ
الْأَدِلَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ .
فَصْلٌ :
قَوْلُهُمْ : " إنَّهُ لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ إلَّا
بِالْقِيَاسِ " الَّذِي ذَكَرُوا صُورَتَهُ وَمَادَّتَهُ قَضِيَّةٌ
سَلْبِيَّةٌ لَيْسَتْ مَعْلُومَةً بِالْبَدِيهَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهَا
دَلِيلًا أَصْلًا . وَصَارُوا مُدَّعِينَ مَا لَمْ يُثْبِتُوهُ قَائِلِينَ
بِغَيْرِ عِلْمٍ . إذْ الْعِلْمُ بِهَذَا السَّلْبِ مُتَعَذِّرٌ عَلَى أَصْلِهِمْ
؛ فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ
يَعْلَمَ شَيْئًا مِنْ التَّصْدِيقَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بَدِيهَةً عِنْدَهُمْ
إلَّا بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ الشُّمُولِيِّ الَّذِي وَصَفُوا
مَادَّتَهُ وَصُورَتَهُ .
ثُمَّ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ أَنَّ التَّصْدِيقَاتِ مِنْهَا بَدِيهِيٌّ وَمِنْهَا نَظَرِيٌّ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا نَظَرِيَّةً لِافْتِقَارِ النَّظَرِيِّ إلَى الْبَدِيهِيِّ وَحِينَئِذٍ فَيَأْتِي مَا تَقَدَّمَ فِي التَّصَوُّرَاتِ مِنْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ فَقَدْ يَكُونُ النَّظَرِيُّ عِنْدَ شَخْصٍ بَدِيهِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ . وَالْبَدِيهِيُّ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ مَا يَكْفِي تَصَوُّرُ طَرَفَيْهِ - مَوْضُوعِهِ وَمَحْمُولِهِ - فِي حُصُولِ تَصْدِيقِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وَسَطٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الدَّلِيلُ - الَّذِي هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ - سَوَاءٌ كَانَ تَصَوُّرُ الطَّرَفَيْنِ بَدِيهِيًّا أَمْ لَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي قُوَى الْأَذْهَانِ أَعْظَمَ مِنْ تَفَاوُتِهِمْ فِي قُوَى الْأَبْدَانِ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ فِي سُرْعَةِ التَّصَوُّرِ وَجَوْدَتِهِ فِي غَايَةٍ يُبَايِنُ بِهَا غَيْرَهُ مُبَايَنَةً كَثِيرَةً . وَحِينَئِذٍ فَيَتَصَوَّرُ الطَّرَفَيْنِ تَصَوُّرًا تَامًّا بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ اللَّوَازِمُ الَّتِي لَا تَتَبَيَّنُ لِمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ وَكَوْنُ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ الدَّلِيلُ قَدْ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ فِي بَعْضِ الْقَضَايَا بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ أَمْرٌ بَيِّنٌ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ تَكُونُ عِنْدَهُ الْقَضِيَّةُ حِسِّيَّةً أَوْ مُجَرَّبَةً أَوْ بُرْهَانِيَّةً أَوْ مُتَوَاتِرَةً وَغَيْرُهُ إنَّمَا عَرَفَهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِ الْمَحْمُولِ لِلْمَوْضُوعِ إلَى دَلِيلٍ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ بِأَدِلَّةِ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا حَتَّى يَضْرِبَ لَهُ أَمْثَالًا .
وَقَدْ
ذَكَرَ المناطقة أَنَّ الْقَضَايَا الْمَعْلُومَةَ بِالتَّوَاتُرِ وَالتَّجْرِبَةِ
وَالْحَوَاسِّ يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ عَلِمَهَا وَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى
غَيْرِهِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى
الْمُنَازِعِ وَهَذَا تَفْرِيقٌ فَاسِدٌ وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِلْحَادِ
وَالْكُفْرِ . فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ
الْمُعْجِزَاتِ وَغَيْرِهَا . يَقُولُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ : بِنَاءً عَنْ هَذَا
الْفَرْقِ هَذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدِي فَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيَّ
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إنْكَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ
الْبِدَعِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ لِمَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ
الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّهَا غَيْرُ
مَعْلُومَةٍ لَنَا كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْكُفَّارِ أَنَّ مُعْجِزَاتِ
الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَهُ ؛ وَهَذَا لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْلَمُوا
السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ
تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ أَمْ لَا .
وَقَدْ ذَهَبَ الْفَلَاسِفَةُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ إلَى جَهَالَاتٍ قَوْلُهُمْ :
إنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْعُقُولُ الْعَشْرَةُ وَإِنَّهَا قَدِيمَةٌ
أَزَلِيَّةٌ وَإِنَّ الْعَقْلَ رَبُّ مَا سِوَاهُ وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْ
مِثْلَهُ أَحَدٌ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَلَمْ
يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ رَبُّ الْعَالَمِ كُلِّهِ
وَيَقُولُونَ : إنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ مُبْدِعُ كُلِّ مَا تَحْتَ فَلَكِ
الْقَمَرِ وَهَذَا أَيْضًا كُفْرٌ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ كُفَّارِ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَيَقُولُونَ : إنَّ الرَّبَّ لَا
يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَيْسَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ وَلَا
يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ الْعَالِمَ ؛ بَلْ الْعَالِمُ فَيْضٌ فَاضَ عَنْهُ
بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ
وَأَنَّهُ
إذَا تَوَجَّهَ الْمُسْتَشْفِعُ إلَى مَنْ يُعَظِّمُهُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْعَالِيَةِ
كَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَإِنَّهُ
يَتَّصِلُ بِذَلِكَ الْمُعَظَّمِ الْمُسْتَشْفَعِ بِهِ فَإِذَا فَاضَ عَلَى ذَلِكَ
مَا يَفِيضُ مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ فَاضَ عَلَى هَذَا مِنْ جِهَةِ شَفِيعِهِ
وَيُمَثِّلُونَهُ بِالشَّمْسِ إذَا طَلَعَتْ عَلَى مِرْآةٍ فَانْعَكَسَ الشُّعَاعُ
الَّذِي عَلَى الْمِرْآةِ عَلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَأَشْرَقَ بِذَلِكَ الشُّعَاعِ
فَذَلِكَ الشُّعَاعُ حَصَلَ لَهُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمِرْآةِ وَحَصَلَ
لِلْمِرْآةِ بِمُقَابَلَةِ الشَّمْسِ .
وَيَقُولُونَ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْعُقُولُ الْعَشْرَةُ أَوْ الْقُوَى
الصَّالِحَةُ فِي النَّفْسِ وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ هِيَ الْقُوَى الْخَبِيثَةُ
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا عُرِفَ فَسَادُهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ ؛ بَلْ
بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ . فَإِذَا كَانَ شِرْكُ هَؤُلَاءِ
وَكُفْرُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ شِرْكِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكُفْرِهِمْ فَأَيُّ
كَمَالٍ لِلنَّفْسِ فِي هَذِهِ الْجَهَالَاتِ . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مُفْتَقِرٌ
إلَى بَسْطٍ كَثِيرٍ . وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا ادَّعَوْا فِي الْبُرْهَانِ
الْمَنْطِقِيِّ . وَأَيْضًا فَإِذَا قَالُوا : إنَّ الْعُلُومَ لَا تَحْصُلُ إلَّا
بِالْبُرْهَانِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ قِيَاسٌ شُمُولِيٌّ وَعِنْدَهُمْ لَا
بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا إنَّهُ لَا
نِتَاجَ عَنْ قَضِيَّتَيْنِ سَالِبَتَيْنِ وَلَا جُزْئِيَّتَيْنِ فِي شَيْءٍ مِنْ
أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ لَا بِحَسَبِ صُورَتِهِ - كَالْحَمْلِيِّ وَالشَّرْطِيِّ
الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ - وَلَا بِحَسَبِ مَادَّتِهِ لَا الْبُرْهَانِيِّ
وَلَا الْخَطَابِيِّ وَلَا الْجَدَلِيِّ بَلْ وَلَا الشِّعْرِيِّ .
فَيُقَالُ : إذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مَا يُسَمُّونَهُ بُرْهَانًا مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ : أَيْ مِنْ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا كُلِّيَّةً وَإِلَّا فَمَتَى جُوِّزَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَكُونُ كُلِّيَّةً بَلْ جُزْئِيَّةً لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِمُوجَبِهَا . وَالْمُهْمَلَةُ وَالْمُطْلَقَةُ الَّتِي يَحْتَمِلُ لَفْظُهَا أَنْ تَكُونَ كُلِّيَّةً وَجُزْئِيَّةً فِي قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالْقِيَاسِ الَّذِي يَخُصُّونَهُ بِاسْمِ الْبُرْهَانِ مِنْ الْعِلْمِ بِقَضِيَّةِ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ فَيُقَالُ الْعِلْمُ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ إنْ كَانَ بَدِيهِيًّا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا بَدِيهِيًّا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِنْ كَانَ نَظَرِيًّا احْتَاجَ إلَى عِلْمٍ بَدِيهِيٍّ فَيُفْضِي إلَى الدَّوْرِ الْمُعْيِي أَوْ [ التَّسَلْسُلِ فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ ] (*) وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ . وَهَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا مَبَادِئَ الْبُرْهَانِ وَيُسَمُّونَهَا " الْوَاجِبُ قَبُولُهَا " سَوَاءٌ كَانَتْ حِسِّيَّةً ظَاهِرَةً أَوْ بَاطِنَةً وَهِيَ الَّتِي يُحِسُّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ كَانَتْ مِنْ التَّجْرِيبِيَّاتِ أَوْ الْمُتَوَاتِرَاتِ أَوْ الْحَدْسِيَّاتِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ النَّفْسِيَّاتِ الْوَاجِبِ قَبُولُهَا مِثْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ نُورِ الْقَمَرِ مُسْتَفَادًا مِنْ الشَّمْسِ إذَا رَأَى اخْتِلَافَ أَشْكَالِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مُحَاذَاتِهِ لِلشَّمْسِ كَمَا يَخْتَلِفُ إذَا قَارَبَهَا بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْهِلَالِ وَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الِاسْتِقْبَالِ عِنْدَ الْإِبْدَارِ . وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ : هَلْ الْحَدْسُ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ أَمْ لَا ؟ وَمِثْلَ الْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةِ وَمِثْلَ قَوْلِنَا الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ
وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَالنَّقِيضَانِ لَا يَرْتَفِعَانِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ فَمَا مِنْ قَضِيَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ تُجْعَلُ مُقَدِّمَةً فِي الْبُرْهَانِ إلَّا وَالْعِلْمُ بِالنَّتِيجَةِ مُمْكِنٌ بِدُونِ تَوَسُّطِ ذَلِكَ الْبُرْهَانِ بَلْ هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا . فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فَهُوَ نِصْفُ كُلِّ اثْنَيْنِ وَأَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ نِصْفُهُمْ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ نِصْفُ هَذَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَهَلُمَّ جَرًّا فِي سَائِرِ الْقَضَايَا الْأُخَرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْكُلَّ أَعْظَمُ مِنْ جُزْئِهِ بِدُونِ تَوَسُّطِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ . وَكَذَلِكَ هَذَانِ النَّقِيضَانِ مَنْ تَصَوَّرَهُمَا نَقِيضَيْنِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ . وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا كَمَا يَعْلَمُ الْمُعَيَّنَ الْآخَرَ وَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا مَعًا وَكَذَلِكَ الضِّدَّانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَا يَكُونُ أَسْوَدَ أَبْيَضَ وَلَا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا سَاكِنًا كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ كَذَلِكَ . وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَى قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَكُونُ أَسْوَدَ أَبْيَضَ وَلَا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا سَاكِنًا . وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا يَعْلَمُ تَضَادَّهُمَا فَإِنْ عَلِمَ تَضَادَّ الْمُعَيَّنَيْنِ عَلِمَ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَدِّ الْأَكْبَرِ . وَذَلِكَ لَا يُغْنِي دُونَ الْعِلْمِ بِالْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَدِّ الْأَصْغَرِ وَالْعِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ وَهُوَ أَنَّ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ يُمْكِنُ بِدُونِ الْعِلْمِ
بِالْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى : وَهُوَ أَنَّ كُلَّ ضِدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ . فَلَا يَفْتَقِرُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي خَصُّوهُ بِاسْمِ الْبُرْهَانِ وَإِنْ كَانَ الْبُرْهَانُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ أَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا سَمَّوْهُ هُمْ الْبُرْهَانَ ؛ وَإِنَّمَا خَصُّوا هُمْ لَفْظَ الْبُرْهَانِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ الَّذِي خَصُّوا صُورَتَهُ وَمَادَّتَهُ بِمَا ذَكَرُوهُ . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ إبْطَالُ قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ الْأَحْوَالَ وَيَقُولُ : إنَّهَا لَا مَوْجُودَةٌ وَلَا مَعْدُومَةٌ فَقِيلَ : هَذَانِ نَقِيضَانِ وَكُلُّ نَقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ ؛ فَإِنَّ هَذَا جَعْلٌ لِلْوَاحِدِ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْحَالِ لِلْوَاحِدِ لَا مَوْجُودَةً وَلَا مَعْدُومَةً كَانَ الْعِلْمُ بِأَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا مُمْكِنًا بِدُونِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَلَا يَفْتَقِرُ الْعِلْمُ بِالنَّتِيجَةِ إلَى الْبُرْهَانِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : إنَّ هَذَا مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ لِوُجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ أَوْ لِأَحَدِ طَرَفَيْهِ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ . أَوْ قِيلَ : هَذَا مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ فَتِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ وَهِيَ قَوْلُنَا : كُلُّ مُحْدَثٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَفْرَادِهَا الْمَطْلُوبَةِ بِالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ عِنْدَهُمْ بِدُونِ الْعِلْمِ
بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا يَتِمُّ الْبُرْهَانُ عِنْدَهُمْ إلَّا بِهَا فَيُعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْحَدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَهَذَا الْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ ؛ فَإِنْ شَكَّ عَقْلُهُ وَجَوَّزَ أَنْ يُحْدِثَ هُوَ بِلَا مُحْدَثٍ أَحْدَثَهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ مُمْكِنٌ - يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ - بِدُونِ مُرَجِّحٍ يُرَجِّحُ وُجُودَهُ جُوِّزَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ وَإِنْ جَزَمَ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَحْتَجْ عِلْمُهُ بِالنَّتِيجَةِ الْمُعَيَّنَةِ - وَهُوَ قَوْلُنَا : وَهَذَا مُحْدَثٌ فَلَهُ مُحْدِثٌ أَوْ هَذَا مُمْكِنٌ فَلَهُ مُرَجِّحٌ - إلَى الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ . وَمِمَّا يُوضِحُ هَذَا : أَنَّك لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ مَطْلُوبًا بِالنَّظَرِ وَيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِقِيَاسِ بُرْهَانِيٍّ يَعْلَمُ صِحَّتَهُ إلَّا وَيُمْكِنُهُ الْعِلْمُ بِهِ بِدُونِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ الْمَنْطِقِيِّ ؛ وَلِهَذَا لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْعُقَلَاءِ غَيْرَ هَؤُلَاءِ يَنْظِمُ دَلِيلَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ كَمَا يَنْظِمُهُ هَؤُلَاءِ بَلْ يَذْكُرُونَ الدَّلِيلَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْمَدْلُولِ ثُمَّ الدَّلِيلُ قَدْ يَكُونُ مُقَدِّمَةً وَاحِدَةً وَقَدْ يَكُونُ مُقَدِّمَتَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثَ مُقَدِّمَاتٍ بِحَسَبِ حَاجَةِ النَّاظِرِ الْمُسْتَدِلِّ ؛ إذْ حَاجَةُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ . وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُحَصِّلِ . وَبَيَّنَّا تَخْطِئَةَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ لِمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عِلْمٍ نَظَرِيٍّ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُمَا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْهُمَا . وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْ الْمَوَادِّ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِنُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِهَا فَسَادُ مَنْطِقِهِمْ . وَأَمَّا إذَا أَخَذْته مِنْ الْمَوَادِّ الْمَعْلُومَةِ بِنُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ الِاحْتِيَاجُ إلَى الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ كَمَا إذَا أَرَدْنَا تَحْرِيمَ
النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَقُلْنَا : النَّبِيذُ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ أَوْ قُلْنَا : هُوَ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ . فَقَوْلُنَا : النَّبِيذُ الْمُسْكِرُ خَمْرٌ يُعْلَمُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " وَقَوْلُنَا " كُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " يُعْلَمُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ ؛ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " . وَفِي لَفْظٍ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " . وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَذَا عَلَى النَّظْمِ الْمَنْطِقِيِّ لِتَبْيِينِ النَّتِيجَةِ بالمقدمتين كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَنْطِقِيُّونَ ؛ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ مِمَّنْ يَظُنُّهُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِثْلَ هَذَا الطَّرِيقِ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ ؛ بَلْ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ عَقْلًا وَعِلْمًا مِنْ آحَادِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيِّينَ ؛ بَلْ يَعُدُّونَهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يُحْسِنُونَ إلَّا الصِّنَاعَاتِ كَالْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْعُلُومُ الْبُرْهَانِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ الْيَقِينِيَّةُ وَالْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ رِجَالِهَا . وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُتُبِهِمْ وَبَسَطُوا الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ كُلِّ خَمْرٍ حَرَامًا هُوَ مِمَّا عَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ . فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا شَكَّ بَعْضُهُمْ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ كَالنَّبِيذِ الْمَصْنُوعِ مِنْ الْعَسَلِ وَالْحُبُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا شَرَابٌ مَصْنُوعٌ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ : الْبِتْعُ وَشَرَابٌ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ : الْمَزْرُ قَالَ - وَكَانَ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ - فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " فَأَجَابَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَضِيَّةِ كُلِّيَّةٍ بَيَّنَ بِهَا أَنَّ كُلَّ مَا يُسْكِرُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ . وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ مَا يُسْكِرُ فَهُوَ خَمْرٌ وَهَاتَانِ قَضِيَّتَانِ كُلِّيَّتَانِ صَادِقَتَانِ مُتَطَابِقَتَانِ الْعِلْمُ بِأَيِّهِمَا كَانَ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ . إذْ لَيْسَ الْعِلْمُ بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِمَا جَمِيعًا ؛ فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " وَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ حَرَامٌ وَلَكِنْ قَدْ يَحْصُلُ الشَّكُّ هَلْ أَرَادَ الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ أَوْ أَرَادَ جِنْسَ الْمُسْكِرِ وَهَذَا شَكٌّ فِي مَدْلُولِ قَوْلِهِ فَإِذَا عَلِمَ مُرَادَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ الْمَطْلُوبَ . وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ النَّبِيذَ خَمْرٌ . وَالْعِلْمُ بِهَذَا أَوْكَدُ فِي التَّحْرِيمِ ؛ فَإِنَّ مَنْ يُحَلِّلُ النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَا يُسَمِّيهِ خَمْرًا فَإِذَا عَلِمَ بِالنَّصِّ أَنَّ " { كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " كَانَ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمٌ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمِنْ بِالرَّسُولِ فَهَذَا لَا يُسْتَدَلُّ بِنَصِّهِ . وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَهَذَا لَا يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " بَلْ يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " وَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ بِهَذَا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْمُسْكِرَ اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ عِنْدَ
الشَّارِعِ . وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ عِنْدَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ كُلَّ مُسْكِرٍ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِ " الْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ " بَلْ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّمْثِيلِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمِثَالَ كَثِيرًا مَا يُمَثِّلُ بِهِ مَنْ صَنَّفَ فِي الْمَنْطِقِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . والمنطقيون يُمَثِّلُونَ بِصُورَةِ مُجَرَّدَةٍ عَنْ الْمَوَادِّ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لِئَلَّا يُسْتَفَادَ الْعِلْمُ بِالْمِثَالِ مِنْ صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا يَقُولُونَ : كُلُّ أ : بـ وَكُلُّ بـ : ج . فَكُلُّ أ : ج وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِلْمُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ . فَإِذَا جُرِّدَتْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمُعَيَّنَاتِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ إذَا طُولِبُوا بِالْعِلْمِ بالمقدمتين الْكُلِّيَّتَيْنِ فِي جَمِيعِ مَطَالِبِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُؤْخَذْ عَنْ الْمَعْصُومِينَ تَجِدُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْعِلْمُ فِيهَا بِالْمُعَيَّنَاتِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِهَا مَوْقُوفًا عَلَى الْبُرْهَانِ . فَالْقَضَايَا النَّبَوِيَّةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي سَمَّوْهُ بُرْهَانًا . وَمَا يُسْتَفَادُ بِالْعَقْلِ مِنْ الْعُلُومِ أَيْضًا لَا يَحْتَاجُ إلَى قِيَاسِهِمْ الْبُرْهَانِيِّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَا فِي السَّمْعِيَّاتِ وَلَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ فَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ لَا يَحْصُلُ عِلْمٌ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ الْقَضَايَا الْحِسِّيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا جُزْئِيَّةً فَنَحْنُ لَمْ نُدْرِكْ بِالْحِسِّ إلَّا إحْرَاقَ هَذِهِ النَّارِ وَهَذِهِ النَّارِ لَمْ نُدْرِكْ أَنَّ كُلَّ نَارٍ مُحْرِقَةٌ فَإِذَا جَعَلْنَا هَذِهِ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً وَقُلْنَا : كُلُّ نَارٍ مُحْرِقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَنَا طَرِيقٌ
نَعْلَمُ
بِهِ صِدْقَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ عِلْمًا يَقِينِيًّا إلَّا
وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ بِطَرِيقِ
الْأَوْلَى . وَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِالْأُمُورِ
الْمُعَيَّنَةِ ؛ فَإِنَّ الْبُرْهَانَ لَا يُفِيدُ إلَّا الْعِلْمَ بِقَضِيَّةِ
كُلِّيَّةٍ فَالنَّتَائِجُ الْمَعْلُومَةُ بِالْبُرْهَانِ لَا تَكُونُ إلَّا
كُلِّيَّةً كَمَا يَقُولُونَ هُمْ ذَلِكَ . وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تَكُونُ
كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . قِيلَ : فَعَلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ لَا يُفِيدُ الْبُرْهَانُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مَوْجُودٍ ؛ بَلْ
بِأُمُورِ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا يُعْلَمُ تَحَقُّقُهَا فِي
الْأَعْيَانِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبُرْهَانِ عِلْمٌ بِمَوْجُودِ فَيَكُونُ
قَلِيلَ الْمَنْفَعَةِ جِدًّا ؛ بَلْ عَدِيمَ الْمَنْفَعَةِ . وَهُمْ لَا
يَقُولُونَ بِذَلِكَ بَلْ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودَاتِ
الْخَارِجِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَلَكِنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ كَمَا
بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . أَنَّ الْمَطَالِبَ الطَّبِيعِيَّةَ
الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ اللَّازِمَةِ بَلْ الْأَكْثَرِيَّةِ فَلَا
تُفِيدُ مَقْصُودَ الْبُرْهَانِ .
وَأَمَّا " الْإِلَهِيَّاتُ " : فَكُلِّيَّاتُهُمْ فِيهَا أَفْسَدُ مِنْ
كُلِّيَّاتِ الطَّبِيعِيَّةِ وَغَالِبُ كَلَامِهِمْ فِيهَا ظُنُونٌ كَاذِبَةٌ
فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَضَايَا صَادِقَةً يُؤَلَّفُ مِنْهَا الْبُرْهَانُ ؛
وَلِهَذَا حَدَّثُونَا بِإِسْنَادِ مُتَّصِلٍ عَنْ فَاضِلِ زَمَانِهِ فِي
الْمَنْطِقِ وَهُوَ الخونجي صَاحِبُ " كَشْفِ أَسْرَارِ الْمَنْطِقِ " و
" الْمُوجَزِ " وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ : أَمُوتُ
وَمَا عَرَفْت
شَيْئًا إلَّا عِلْمِي بِأَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إلَى الْمُؤَثِّرِ . ثُمَّ قَالَ : الِافْتِقَارُ وَصْفٌ سَلْبِيٌّ فَأَنَا أَمُوتُ وَمَا عَرَفْت شَيْئًا . وَكَذَلِكَ حَدَّثُونَا عَنْ آخَرَ مِنْ أَفَاضِلِهِمْ . وَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ خَبِرَهُمْ وَيَعْرِفُ أَنَّهُمْ أَجْهَلُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالطُّرُقِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ ؛ إلَّا مَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ عِلْمًا مِنْ غَيْرِ الطُّرُقِ الْمَنْطِقِيَّةِ فَتَكُونُ عُلُومُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ ؛ لَا مِنْ جِهَتِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ تَعَبِهِمْ فِي الْبُرْهَانِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَزِنُونَ بِهِ الْعُلُومَ وَمَنْ عَرَفَ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ الْعُلُومِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مَا حَرَّرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ حُصُولَ الْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى بُرْهَانِهِمْ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ أَنَّ الْعِلْمَ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ فَإِنْ عَرَفُوهَا بِاعْتِبَارِ الْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ وَأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ كَمَا إذَا عَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ النَّارَ مُحْرِقَةٌ فَالنَّارُ الْغَائِبَةُ مُحْرِقَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مِثْلُهَا وَحُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ فَيُقَالُ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ بَلْ الظَّنَّ فَإِذَا كَانُوا إنَّمَا عَلِمُوا الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ رَجَعُوا فِي الْيَقِينِ إلَى مَا يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ . وَإِنْ قَالُوا : بَلْ عِنْدَ الْإِحْسَاسِ بِالْجُزْئِيَّاتِ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ عِلْمٌ كُلِّيٌّ مِنْ وَاهِبِ الْعَقْلِ - أَوْ تَسْتَعِدُّ النَّفْسُ عِنْدَ الْإِحْسَاسِ بِالْجُزْئِيَّاتِ لِأَنْ يَفِيضَ عَلَيْهَا الْكُلِّيُّ مِنْ وَاهِبِ الْعَقْلِ - أَوْ قَالُوا : مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ - عِنْدَهُمْ - أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . قِيلَ لَهُمْ الْكَلَامُ فِيهَا بِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ الَّذِي فِي النَّفْسِ عِلْمٌ لَا ظَنٌّ وَلَا جَهْلٌ .
فَإِنْ قَالُوا : هَذَا الْعِلْمُ بِالْبَدِيهَةِ أَوْ الضَّرُورَةِ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِأَنَّ هَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ مَعْلُومَةٌ بِالْبَدِيهَةِ وَالضَّرُورَةِ وَأَنَّ النَّفْسَ مُضْطَرَّةٌ إلَى هَذَا الْعِلْمِ . وَهَذَا إنْ كَانَ حَقًّا فَالْعِلْمُ بِالْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِأَنْوَاعِ الْكُلِّيَّاتِ يَحْصُلُ أَيْضًا فِي النَّفْسِ بِالْبَدِيهَةِ وَالضَّرُورَةِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ جَزْمَ الْعُقَلَاءِ بِالشَّخْصِيَّاتِ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ أَعْظَمُ مِنْ جَزْمِهِمْ بِالْكُلِّيَّاتِ وَجَزْمَهُمْ بِكُلِّيَّةِ الْأَنْوَاعِ أَعْظَمُ مِنْ جَزْمِهِمْ بِكُلِّيَّةِ الْأَجْنَاسِ وَالْعِلْمُ بِالْجُزْئِيَّاتِ أَسْبَقُ إلَى الْفِطْرَةِ فَجَزْمُ الْفِطْرَةِ بِهَا أَقْوَى . ثُمَّ كُلَّمَا قَوِيَ الْعَقْلُ اتَّسَعَتْ الْكُلِّيَّاتُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْعِلْمَ بِالْأَشْخَاصِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ وَلَا إنَّ الْعِلْمَ بِالْأَنْوَاعِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْأَجْنَاسِ بَلْ قَدْ يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ كَذَلِكَ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ كَذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ عِلْمُهُ بِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ مَوْقُوفًا عَلَى الْبُرْهَانِ وَإِذَا عَلِمَ حُكْمَ سَائِرِ النَّاسِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ فَالنَّفْسُ تَحْكُمُ بِذَلِكَ بِوَاسِطَةِ عِلْمِهَا أَنَّ ذَلِكَ الْغَائِبَ مِثْلُ هَذَا الشَّاهِدِ أَوْ أَنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِكَوْنِهِ حَسَّاسًا مُتَحَرِّكًا بِالْإِرَادَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْلِيلِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ الْفُقَهَاءُ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ . وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ وَقِيَاسَهُمْ هُوَ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ وَأَنَّ
قِيَاسَ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسَ الشُّمُولِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ بِالْمَادَّةِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنْ كَانَتْ يَقِينِيَّةً فِي أَحَدِهِمَا كَانَتْ يَقِينِيَّةً فِي الْآخَرِ وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً فِي أَحَدِهِمَا كَانَتْ ظَنِّيَّةً فِي الْآخَرِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ مُؤَلَّفٌ مِنْ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ الْأَصْغَرِ وَالْأَوْسَطِ وَالْأَكْبَرِ وَالْحَدُّ الْأَوْسَطُ فِيهِ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ عِلَّةً وَمَنَاطًا وَجَامِعًا . فَإِذَا قَالَ فِي مَسْأَلَةِ النَّبِيذِ : كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إثْبَاتِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى وَحِينَئِذٍ يَتْمُ الْبُرْهَانُ وَحِينَئِذٍ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَيَكُونُ حَرَامًا قِيَاسًا عَلَى خَمْرِ الْعِنَبِ . بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ الْإِسْكَارِ فَإِنَّ الْإِسْكَارَ هُوَ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ فَبِمَا بِهِ يُقَرَّرُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ بِهِ يُقَرَّرُ أَنَّ السُّكْرَ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ بَلْ التَّفْرِيقُ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَسْهَلُ عَلَيْهِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ لَهُ بِالتَّحْرِيمِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُهُ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ . وَلَا يَكْفِي فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ إثْبَاتُهُ فِي أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ لِثُبُوتِهِ فِي الْجُزْءِ الْآخَرِ ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَمْرٍ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِلْزَامِهِ لِلْحُكْمِ ؛ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُشْتَرِكَ بَيْنَهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ وَالْمُشْتَرِكُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ . وَهَذَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ وَأَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ وَهَذَا السُّؤَالُ أَعْظَمُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ وَجَوَابُهُ هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ غَالِبًا
فِي
تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ قَدْ يَمْنَعُ الْوَصْفَ فِي
الْأَصْلِ وَقَدْ يَمْنَعُ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ يَمْنَعُ الْوَصْفَ فِي
الْفَرْعِ وَقَدْ يَمْنَعُ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً فِي الْحُكْمِ وَيَقُولُ :
لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرْته فِي الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ الْعِلَّةُ
أَوْ دَلِيلُ الْعِلَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : مَنْ
نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ سَبْرٍ وَتَقْسِيمٍ أَوْ الْمُنَاسَبَةِ أَوْ الدَّوَرَانِ
عِنْدَ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ فَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ
الْمُشْتَرَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ إمَّا عِلَّةٌ وَإِمَّا دَلِيلُ الْعِلَّةِ
هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَكْبَرِ
وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى فَإِنْ أَثْبَتَ
الْعِلَّةَ كَانَ بُرْهَانَ عِلَّةٍ وَإِنْ أَثْبَتَ دَلِيلَهَا كَانَ بُرْهَانَ
دَلَالَةٍ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ بَلْ أَفَادَ الظَّنَّ فَكَذَلِكَ
الْمُقَدِّمَةُ الْكُبْرَى فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ لَا تَكُونُ إلَّا ظَنِّيَّةً
وَهَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ ؛ وَلِهَذَا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ
يَسْتَعْمِلُونَ فِي الْفِقْهِ الْقِيَاسَ الشُّمُولِيَّ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي
الْعَقْلِيَّاتِ الْقِيَاسُ التَّمْثِيلِيُّ وَحَقِيقَةُ أَحَدِهِمَا هُوَ
حَقِيقَةُ الْآخَرِ .
وَمَنْ قَالَ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ كَأَبِي
الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ وَالرَّازِي وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرِهِمْ
: مِنْ أَنَّ الْعَقْلِيَّاتِ لَيْسَ فِيهَا قِيَاسٌ ؛ وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ فِي
الشَّرْعِيَّاتِ وَلَكِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ عَلَى الدَّلِيلِ
الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ مُطْلَقًا فَقَوْلُهُمْ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ نُظَّارِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ وَسَائِرِ الْعُقَلَاءِ ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ يُسْتَدَلُّ
بِهِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّهُ
إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُشْتَرَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ كَانَ هَذَا
دَلِيلًا
فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ . وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْفَرْعِ
وَالْأَصْلِ فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ كَانَ هَذَا دَلِيلًا فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ
وَحَيْثُ لَا يُسْتَدَلُّ بِالْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ لَا يُسْتَدَلُّ
بِالْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ . وَأَبُو الْمَعَالِي وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ
النُّظَّارِ لَا يَسْلُكُونَ طَرِيقَةَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَلَا يَرْضَوْنَهَا ؛
بَلْ يَسْتَدِلُّونَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ عِنْدَهُمْ
لِمَدْلُولَاتِهَا ؛ غَيْرَ أَنَّ الْمَنْطِقِيِّينَ وَجُمْهُورَ النُّظَّارِ
يَقِيسُونَ الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِكُ مُسْتَلْزِمًا
لِلْحُكْمِ كَمَا يُمَثِّلُونَ بِهِ مِنْ الْجَمْعِ بِالْحَدِّ وَالْعِلَّةِ
وَالشَّرْطِ وَالدَّلِيلِ وَمُنَازِعُهُمْ يَقُولُ : لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ فِي
الْغَائِبِ لِأَجْلِ ثُبُوتِهِ فِي الشَّاهِدِ ؛ بَلْ نَفْسُ الْقَضِيَّةِ
الْكُلِّيَّةِ كَافِيَةٌ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى
التَّمْثِيلِ فَيُقَالُ لَهُمْ : وَهَكَذَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّهُ مَتَى
قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالْوَصْفِ الْجَامِعِ لَمْ
يَحْتَجْ إلَى الْأَصْلِ بَلْ نَفْسُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ
يَتَعَلَّقُ بِالْوَصْفِ كَافٍ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا كُلِّيًّا
وَالْكُلِّيُّ لَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا كَانَ تَعْيِينُ الْأَصْلِ مِمَّا
يُعْلَمُ بِهِ تَحَقُّقُ هَذَا الْكُلِّيِّ وَهَذَا أَمْرٌ نَافِعٌ فِي
الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ فَعَلِمْت أَنَّ الْقِيَاسَ حَيْثُ قَامَ
الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجَامِعَ مَنَاطُ الْحُكْمِ أَوْ عَلَى إلْغَاءِ
الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَهُوَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَدَلِيلٌ
صَحِيحٌ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى " الْقِيَاسِ " . فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ : هُوَ حَقِيقَةٌ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ
مَجَازٌ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ - كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ
المقدسي . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَلْ هُوَ بِالْعَكْسِ حَقِيقَةٌ فِي الشُّمُولِ
مَجَازٌ فِي التَّمْثِيلِ -
كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ . وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَالْقِيَاسُ الْعَقْلِيُّ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْآخَرِ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ صُورَةُ الِاسْتِدْلَالِ . وَ " الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ " تَقْدِيرُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ تَقْدِيرَ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ بِنَظِيرِهِ الْمُعَيَّنِ وَتَقْدِيرَهُ بِالْأَمْرِ الْكُلِّيِّ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ هُوَ مِثَالٌ فِي الذِّهْنِ لِجُزْئِيَّاتِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مُطَابِقًا مُوَافِقًا لَهُ . وَ " قِيَاسُ الشُّمُولِ " هُوَ انْتِقَالُ الذِّهْنِ مِنْ الْمُعَيَّنِ إلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ اللَّازِمِ إلَى الْمَلْزُومِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُعَيَّنُ فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ خَاصٍّ إلَى عَامٍّ ثُمَّ انْتِقَالٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ مِنْ جُزْئِيٍّ إلَى كُلِّيٍّ ثُمَّ مِنْ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ إلَى الْجُزْئِيِّ الْأَوَّلِ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْكُلِّيِّ . وَلِهَذَا كَانَ الدَّلِيلُ أَخَصَّ مِنْ مَدْلُولِهِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الدَّلِيلِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَاللَّازِمُ لَا يَكُونُ أَخَصَّ مِنْ مَلْزُومِهِ بَلْ أَعَمَّ مِنْهُ أَوْ مُسَاوِيهِ وَهُوَ الْمُعْنَى بِكَوْنِهِ أَعَمَّ .
وَالْمَدْلُولُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْمُخْبَرُ عَنْهُ الْمَوْصُوفُ الْمَوْضُوعُ إمَّا أَخَصُّ مِنْ الدَّلِيلِ أَوْ مُسَاوِيهِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ لَا يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ الدَّلِيلِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ الدَّلِيلُ لَازِمًا لَهُ فَلَا يُعْلَمُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَهُ فَلَا يَكُونُ الدَّلِيلُ دَلِيلًا وَإِنَّمَا يَكُونُ ؛ إذَا كَانَ لَازِمًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الْمَوْصُوفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ الَّذِي يُسَمَّى الْمَوْضُوعَ . وَالْمُبْتَدَأُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ وَخَبَرٌ وَحُكْمٌ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْمَحْمُولَ وَالْخَبَرَ وَهَذَا كَالسُّكْرِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَأَخَصُّ مِنْ التَّحْرِيمِ وَقَدْ يَكُونُ الدَّلِيلُ مُسَاوِيًا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لِلْحُكْمِ لَازِمًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ . فَهَذَا هُوَ جِهَةُ دِلَالَتِهِ سَوَاءٌ صُوِّرَ قِيَاسَ شُمُولٍ وَتَمْثِيلٍ أَوْ لَمْ يُصَوَّرْ كَذَلِكَ . وَهَذَا أَمْرٌ يَعْقِلُهُ الْقَلْبُ وَإِنْ لَمْ يُعَبِّرْ عَنْهُ اللِّسَانُ . وَلِهَذَا كَانَتْ أَذْهَانُ بَنِي آدَمَ تَسْتَدِلُّ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَدْلُولَاتِ وَإِنْ لَمْ يُعَبِّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِالْعِبَارَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ بِعِبَارَاتِ مُبَيِّنَةٍ لِمَعَانِيهِمْ وَإِنْ لَمْ يَسْلُكُوا اصْطِلَاحَ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَا الْمَنْطِقِ وَلَا غَيْرِهِمْ فَالْعِلْمُ بِذَلِكَ الْمَلْزُومِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيِّنًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِدَلِيلِ آخَرَ . وَأَمَّا " قِيَاسُ التَّمْثِيلِ " فَهُوَ انْتِقَالُ الذِّهْنِ مِنْ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ إلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَلْزَمُ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ . ثُمَّ الْعِلْمُ بِذَلِكَ اللُّزُومِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيِّنًا كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ يَتَصَوَّرُ الْمُعَيَّنَيْنِ أَوَّلًا وَهُمَا الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى لَازِمِهِمَا
وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ ثُمَّ إلَى لَازِمِ اللَّازِمِ وَهُوَ الْحُكْمُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْحُكْمَ لَازِمُ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى هُنَاكَ قَضِيَّةً كُبْرَى ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى إثْبَاتِ هَذَا اللَّازِمِ لِلْمَلْزُومِ الْأَوَّلِ الْمُعَيَّنِ فَهَذَا هُوَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي تَصْوِيرِ الدَّلِيلِ وَنَظْمِهِ وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ الَّتِي بِهَا صَارَ دَلِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ . وَمِنْ ظُلْمِ هَؤُلَاءِ وَجَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَثَلَ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ : السَّمَاءُ مُؤَلَّفَةٌ فَتَكُونُ مُحْدَثَةً قِيَاسًا عَلَى الْإِنْسَانِ . ثُمَّ يُورِدُونَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ : السَّمَاءُ مُؤَلَّفَةٌ وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ لَوَرَدَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ وَزِيَادَةً . وَلَكِنْ إذَا أُخِذَ قِيَاسُ الشُّمُولِ فِي مَادَّةٍ بَيِّنَةٍ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ هُوَ مِثَالٌ فِي الذِّهْنِ لِجُزْئِيَّاتِهِ وَلِهَذَا كَانَ مُطَابِقًا مُوَافِقًا لَهُ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّمْثِيلُ أَبْيَنَ . وَلِهَذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ يَقِيسُونَ بِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِّ إنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالْمِثَالِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْمِثَالِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ بِحَيْثُ يُعْرَفُ بِهِ مَا يُلَازِمُ الْمَحْدُودَ طَرْدًا وَعَكْسًا - بِحَيْثُ يُوجَدُ حَيْثُ وُجِدَ وَيَنْتَفِي حَيْثُ انْتَفَى - فَإِنَّ الْحَدَّ الْمُمَيِّزَ لِلْمَحْدُودِ هُوَ مَا بِهِ يُعْرَفُ الْمُلَازِمُ الْمُطَابِقُ طَرْدًا وَعَكْسًا فَكُلَّمَا حَصَلَ هَذَا فَقَدْ مُيِّزَ الْمَحْدُودُ مِنْ غَيْرِهِ . وَهَذَا هُوَ الْحَدُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النُّظَّارِ وَلَا يُسَوِّغُونَ إدْخَالَ الْجِنْسِ الْعَامِّ فِي الْحَدِّ فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْحَدَّ بِحَسَبِ الِاسْمِ فَسَأَلَ بَعْضُ الْعَجَمِ عَنْ مُسَمَّى الْخُبْزِ فَأُرِيَ رَغِيفًا وَقِيلَ لَهُ هَذَا فَقَدْ يَفْهَمُ أَنَّ هَذَا لَفْظٌ يُوجَدُ
فِيهِ
كُلُّ مَا هُوَ خُبْزٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى صُورَةِ الرَّغِيفِ أَوْ غَيْرِ
صُورَتِهِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَذَكَرَهُ
الْمَنْطِقِيُّونَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُحَصِّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وُجِدَ
هَذَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمُجَرَّدَةِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ
الْجِيمِ لِلْأَلِفِ وَالْحَدُّ الْأَوْسَطُ هُوَ الْبَاءُ فَقِيلَ كُلُّ أَلِفٍ
بَاءٌ وَكُلُّ بَاءٍ جِيمٌ أَنْتَجَ : كُلُّ أَلِفٍ جِيمٌ . وَإِذَا قِيلَ : كُلُّ
أَلِفٍ جِيمٌ قِيَاسًا عَلَى الدَّالِ لِأَنَّ الدَّالَ هِيَ جِيمٌ وَإِنَّمَا
كَانَتْ جِيمًا لِأَنَّهَا بَاءٌ وَالْأَلِفُ أَيْضًا بَاءٌ فَيَكُونُ الْأَلِفُ
جِيمًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُسْتَلْزِمِ لِلْجِيمِ وَهُوَ الْبَاءُ كَانَ
هَذَا صَحِيحًا فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ لَكِنْ فِيهِ زِيَادَةُ مِثَالٍ قِيسَتْ
عَلَيْهِ الْأَلِفُ مَعَ أَنَّ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ وَهُوَ الْبَاءُ مَوْجُودٌ
فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ كَوْنِ الْبُرْهَانِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ
قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ صَحِيحٌ وَلِهَذَا لَا يُثْبِتُونَ بِهِ إلَّا مَطْلُوبًا
كُلِّيًّا . وَيَقُولُونَ : الْبُرْهَانُ لَا يُفِيدُ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ ثُمَّ
أَشْرَفُ الْكُلِّيَّاتِ هِيَ الْعَقْلِيَّاتُ الْمَحْضَةُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ
التَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيلَ وَهِيَ الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا النَّفْسُ فَتَصِيرُ
عَالَمًا مَعْقُولًا مُوَازِيًا لِلْعَالَمِ الْمَوْجُودِ بِخِلَافِ الْقَضَايَا
الَّتِي تَتَبَدَّلُ وَتَتَغَيَّرُ . وَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بِهِ هُوَ
الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّبْدِيلَ وَالتَّغْيِيرَ
فَتِلْكَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ الْوَاجِبِ قَبُولُهَا ؛ بَلْ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْقَضَايَا الَّتِي جِهَتُهَا الْوُجُوبُ كَمَا يُقَالُ كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّغْيِيرَ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْعُلُومُ " ثَلَاثَةً " : إمَّا عِلْمٌ لَا يَتَجَرَّدُ عَنْ الْمَادَّةِ لَا فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ وَهُوَ " الطَّبِيعِيُّ " وَمَوْضُوعُهُ الْجِسْمُ . وَإِمَّا مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَهُوَ " الرِّيَاضِيُّ " : كَالْكَلَامِ فِي الْمِقْدَارِ وَالْعَدَدِ . وَأَمَّا مَا يَتَجَرَّدُ عَنْ الْمَادَّةِ مِنْهَا وَهُوَ " الْإِلَهِيُّ " وَمَوْضُوعُهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِلَوَاحِقِهِ الَّتِي تَلْحَقُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ . كَانْقِسَامِهِ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَجَوْهَرٍ وَعَرَضٍ . وَانْقَسَمَ الْجَوْهَرُ إلَى مَا هُوَ حَالٌّ وَإِلَى مَا هُوَ مَحَلٌّ . وَمَا لَيْسَ بِحَالِّ وَلَا مَحَلٍّ بَلْ هُوَ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِحَالِّ وَلَا مَحَلٍّ وَلَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ . ( فَالْأَوَّلُ هُوَ الصُّورَةُ وَ ( الثَّانِي هُوَ الْمَادَّةُ . وَهُوَ الْهَيُولَى وَمَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِمْ الْمَحَلُّ . وَ ( الثَّالِثُ هُوَ النَّفْسُ . وَ ( الرَّابِعُ هُوَ الْعَقْلُ . وَ ( الْأَوَّلُ يَجْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ مِنْ مَقُولَةِ الْجَوْهَرِ ؛ وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ سِينَا امْتَنَعُوا مِنْ تَسْمِيَتِهِ جَوْهَرًا وَقَالُوا : الْجَوْهَرُ مَا إذَا وُجِدَ كَانَ وُجُودُهُ لَا فِي مَوْضُوعٍ أَيْ لَا فِي مَحَلٍّ يَسْتَغْنِي عَنْ الْحَالِّ فِيهِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا وُجُودُهُ غَيْرُ مَاهِيَّتِهِ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ جَوْهَرًا . وَهَذَا مِمَّا
خَالَفُوا فِيهِ سَلَفَهُمْ وَنَازَعُوهُمْ فِيهِ نِزَاعًا لَفْظِيًّا وَلَمْ يَأْتُوا بِفَرْقِ صَحِيحٍ مَعْقُولٍ فَإِنَّ تَخْصِيصَ اسْمِ الْجَوْهَرِ بِمَا ذَكَرُوهُ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : بَلْ هُوَ كُلُّ مَا لَيْسَ فِي مَوْضُوعٍ كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ كُلُّ مَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ كُلُّ مَا هُوَ مُتَحَيِّزٌ أَوْ كُلُّ مَا قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ أَوْ كُلُّ مَا حَمَلَ الْأَعْرَاضَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْفَرْقُ الْمَعْنَوِيُّ فَدَعْوَاهُمْ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنَاتِ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا فِي الْخَارِجِ بَاطِلٌ . وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْأَوَّلَ وُجُودٌ مُقَيَّدٌ بِالسُّلُوبِ أَيْضًا بَاطِلٌ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى الْبُرْهَانِ . فَيُقَالُ : هَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ ضَلَّ بِهِ طَوَائِفُ فَهُوَ كَلَامٌ مُزَخْرَفٌ وَفِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ لَكِنْ نُنَبِّهُ هُنَا عَلَى بَعْضِ مَا فِيهِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ : أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ الْبُرْهَانُ لَا يُفِيدُ إلَّا الْعِلْمَ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا مَوْجُودٌ مُعَيَّنٌ ؛ لَمْ يُعْلَمْ بِالْبُرْهَانِ شَيْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ ؛ فَلَا يُعْلَمُ بِهِ مَوْجُودٌ أَصْلًا بَلْ إنَّمَا يُعْلَمُ بِهِ أُمُورٌ مُقَدَّرَةٌ فِي الْأَذْهَانِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّفْسَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ كَمَالَهَا فِي الْعِلْمِ فَقَطْ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ قَضِيَّةً كَاذِبَةً كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَيْسَ هَذَا عِلْمًا تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ ؛ إذْ لَمْ تَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ
الْمَوْجُودَاتِ
وَلَا صَارَتْ عَالَمًا مَعْقُولًا مُوَازِيًا لِلْعَالَمِ الْمَوْجُودِ بَلْ
صَارَتْ عَالَمًا لِأُمُورِ كُلِّيَّةٍ مُقَدَّرَةٍ لَا يُعْلَمُ بِهَا شَيْءٌ
مِنْ الْعَالَمِ الْمَوْجُودِ ؛ وَأَيُّ خَيْرٍ فِي هَذَا فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَكُونَ كَمَالًا .
ََوَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : أَشْرَفُ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ " وَاجِبُ
الْوُجُودِ " وَوُجُودُهُ مُعَيَّنٌ لَا كُلِّيٌّ ؛ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ لَا
يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَوَاجِبُ الْوُجُودِ
يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ ؛ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ
مِنْهُ مَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ ؛ بَلْ إنَّمَا
عُلِمَ أَمْرٌ كُلِّيٌّ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ
عُلِمَ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَكَذَلِكَ " الْجَوَاهِرُ الْعَقْلِيَّةُ "
عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْعُقُولُ الْعَشْرَةُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ
يَجْعَلُهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ : كالسهروردي الْمَقْتُولِ وَأَبِي
الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمَا . كُلُّهَا جَوَاهِرُ مُعَيَّنَةٌ ؛ لَا أُمُورٌ
كُلِّيَّةٌ فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ نَعْلَمْ شَيْئًا
مِنْهَا ؛ وَكَذَلِكَ الْأَفْلَاكُ الَّتِي يَقُولُونَ : إنَّهَا أَزَلِيَّةٌ
أَبَدِيَّةٌ فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً
فَلَا نَعْلَمُ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَلَا الْعُقُولَ وَلَا شَيْئًا مِنْ
النُّفُوسِ وَلَا الْأَفْلَاكَ وَلَا الْعَنَاصِرَ وَلَا الْمُوَلَّدَاتِ وَهَذِهِ
جُمْلَةُ الْمَوْجُودَاتِ عِنْدَهُمْ فَأَيُّ عِلْمٍ هُنَا تَكْمُلُ بِهِ
النَّفْسُ ؟
الثَّالِثُ : أَنَّ تَقْسِيمَهُمْ الْعُلُومَ إلَى الطَّبِيعِيِّ وَالرِّيَاضِيِّ
وَالْإِلَهِيِّ وَجَعْلَهُمْ الرِّيَاضِيَّ أَشْرَفَ مِنْ الطَّبِيعِيِّ .
وَالْإِلَهِيَّ أَشْرَفَ مِنْ الرِّيَاضِيِّ . هُوَ مِمَّا قَلَبُوا بِهِ
الْحَقَائِقَ فَإِنَّ الْعِلْمَ الطَّبِيعِيَّ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْأَجْسَامِ
الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَمَبْدَأِ (1)
حَرَكَاتِهَا وَتَحَوُّلَاتِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَمَا فِيهَا مِنْ الطَّبَائِعِ أَشْرَفُ مِنْ مُجَرَّدِ تَصَوُّرِ مَقَادِيرَ مُجَرَّدَةٍ وَأَعْدَادٍ مُجَرَّدَةٍ فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ لَا يَتَصَوَّرُ إلَّا شَكْلًا مُدَوَّرًا أَوْ مُثَلَّثًا أَوْ مُرَبَّعًا - وَلَوْ تَصَوَّرَ كُلَّ مَا فِي إقليدس - أَوْ لَا يَتَصَوَّرُ إلَّا أَعْدَادًا مُجَرَّدَةً لَيْسَ فِيهِ عِلْمٌ بِمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَالَ النَّفْسِ ؛ وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ طُلِبَ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْمَعْدُودَاتِ وَالْمُقَدَّرَاتِ الْخَارِجَةِ الَّتِي هِيَ أَجْسَامٌ وَأَعْرَاضٌ لَمَا جُعِلَ عِلْمًا وَإِنَّمَا جَعَلُوا عِلْمَ الْهَنْدَسَةِ مَبْدَأَ تَعَلُّمِ الْهَيْئَةِ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى بَرَاهِينِ الْهَيْئَةِ أَوْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فِي عِمَارَةِ الدُّنْيَا هَذَا مَعَ أَنَّ بَرَاهِينَهُمْ الْقِيَاسِيَّةَ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ دَلَالَةً مُطَّرِدَةً يَقِينِيَّةً سَالِمَةً عَنْ الْفَسَادِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَوَادِّ الرِّيَاضِيَّةِ . فَإِنَّ " عِلْمَ الْحِسَابِ " الَّذِي هُوَ عِلْمٌ بِالْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ و " الْهَنْدَسَةِ " الَّتِي هِيَ عِلْمٌ بِالْكَمِّ الْمُتَّصِلِ عِلْمٌ يَقِينِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ أَلْبَتَّةَ مِثْلَ جَمْعِ الْأَعْدَادِ وَقِسْمَتِهَا وَضَرْبِهَا وَنِسْبَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ ؛ فَإِنَّك إذَا جَمَعْت مِائَةً إلَى مِائَةٍ عَلِمْت أَنَّهُمَا مِائَتَانِ فَإِذَا قَسَمْتهَا عَلَى عَشْرَةٍ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَشْرَةٌ وَإِذَا ضَرَبْتهَا فِي عَشْرَةٍ كَانَ الْمُرْتَفِعُ مِائَةً . وَالضَّرْبُ مُقَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ ؛ فَإِنَّ ضَرْبَ الْأَعْدَادِ الصَّحِيحَةِ تَضْعِيفُ آحَادِ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِآحَادِ الْعَدَدِ الْآخَرِ فَإِذَا قُسِمَ الْمُرْتَفِعُ بِالضَّرْبِ عَلَى أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ خَرَجَ الْمَضْرُوبُ الْآخَرُ . وَإِذَا ضُرِبَ الْخَارِجُ بِالْقِسْمَةِ فِي الْمَقْسُومِ عَلَيْهِ خَرَجَ الْمَقْسُومُ فَالْمَقْسُومُ نَظِيرُ الْمُرْتَفَعِ بِالضَّرْبِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَضْرُوبِينَ نَظِيرُ الْمَقْسُومِ وَالْمَقْسُومِ عَلَيْهِ وَالنِّسْبَةُ
تَجْمَعُ
هَذِهِ كُلَّهَا فَنِسْبَةُ أَحَدِ الْمَضْرُوبَيْنِ إلَى الْمُرْتَفِعِ
كَنِسْبَةِ الْوَاحِدِ إلَى الْمَضْرُوبِ الْآخَرِ وَنِسْبَةُ الْمُرْتَفِعِ إلَى
أَحَدِ الْمَضْرُوبَيْنِ نِسْبَةُ الْآخَرِ إلَى الْوَاحِدِ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ
وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْحِسَابُ أَمْرٌ مَعْقُولٌ مِمَّا
يَشْتَرِكُ فِيهِ ذووا الْعُقُولِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ إلَّا يَعْرِفُ
مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فِي الْعِلْمِ وَلِهَذَا يُمَثِّلُونَ بِهِ
فِي قَوْلِهِمْ : الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَضَايَاهُ
كُلِّيَّةٌ وَاجِبَةُ الْقَبُولِ لَا تَنْتَقِضُ أَلْبَتَّةَ .
وَهَذَا كَانَ مَبْدَأَ فَلْسَفَتِهِمْ الَّتِي وَضَعَهَا " فيثاغورس "
وَكَانُوا يُسَمُّونَ أَصْحَابَهُ أَصْحَابَ الْعَدَدِ وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ
الْأَعْدَادَ الْمُجَرَّدَةَ مَوْجُودَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الذِّهْنِ ثُمَّ
تَبَيَّنَ لِأَفْلَاطُونَ وَأَصْحَابِهِ غَلَطُ ذَلِكَ . وَظَنُّوا أَنَّ
الْمَاهِيَّاتِ الْمُجَرَّدَةَ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ الْمُطْلَقِ
مَوْجُودَاتٌ خَارِجَ الذِّهْنِ وَأَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ ثُمَّ
تَبَيَّنَ لِأَرِسْطُو وَأَصْحَابِهِ غَلَطُ ذَلِكَ ؛ فَقَالُوا : بَلْ هَذِهِ
الْمَاهِيَّاتُ الْمُطْلَقَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ مُقَارِنَةٌ لِوُجُودِ
الْأَشْخَاصِ وَمَشَى مَنْ مَشَى مِنْ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ
عَلَى هَذَا وَهُوَ أَيْضًا غَلَطٌ . فَإِنَّ مَا فِي الْخَارِجِ لَيْسَ
بِكُلِّيٍّ أَصْلًا وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا مَا هُوَ مُعَيَّنٌ مَخْصُوصٌ .
وَإِذَا قِيلَ الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ فِي الْخَارِجِ فَمَعْنَاهُ إنَّمَا هُوَ
كُلِّيٌّ فِي الذِّهْنِ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ لَكِنْ إذَا وُجِدَ فِي الْخَارِجِ
لَا يَكُونُ إلَّا مُعَيَّنًا لَا يَكُونُ كُلِّيًّا فَكَوْنُهُ كُلِّيًّا
مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ فِي الذِّهْنِ وَمَنْ أَثْبَتَ مَاهِيَّةً لَا فِي الذِّهْنِ
وَلَا
فِي الْخَارِجِ فَتَصَوُّرُ قَوْلِهِ تَصَوُّرًا تَامًّا يَكْفِي فِي الْعِلْمِ
بِفَسَادِ قَوْلِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ
. وَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ - هُوَ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ
بَرَاهِينُ صَادِقَةٌ لَكِنْ - لَا تَكْمُلُ بِذَلِكَ نَفْسٌ وَلَا تَنْجُو بِهِ
مِنْ عَذَابٍ وَلَا تُنَالُ بِهِ سَعَادَةٌ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ
الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ فِي عُلُومِ هَؤُلَاءِ : هِيَ بَيْنَ عُلُومٍ صَادِقَةٍ
لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَبَيْنَ ظُنُونٍ
كَاذِبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا وَإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ . يُشِيرُونَ
بِالْأَوَّلِ إلَى الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَبِالثَّانِي إلَى مَا
يَقُولُونَهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَفِي أَحْكَامِ النُّجُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛
لَكِنْ قَدْ تَلْتَذُّ النَّفْسُ بِذَلِكَ كَمَا تَلْتَذُّ بِغَيْرِ ذَلِكَ
فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَلْتَذُّ بِعِلْمِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ وَسَمَاعِ مَا
لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْغُولًا عَنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَهَمُّ
عِنْدَهُ مِنْهُ كَمَا قَدْ يَلْتَذُّ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ
مِنْ جِنْسِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ .
وَأَيْضًا فَفِي الْإِدْمَانِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ تَعْتَادُ النَّفْسُ
الْعِلْمَ الصَّحِيحَ وَالْقَضَايَا الصَّحِيحَةَ الصَّادِقَةَ وَالْقِيَاسَ
الْمُسْتَقِيمَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَصْحِيحُ الذِّهْنِ وَالْإِدْرَاكِ
وَتُعَوَّدُ النَّفْسُ أَنَّهَا تَعْلَمُ الْحَقَّ وَتَقُولُهُ لِتَسْتَعِينَ
بِذَلِكَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ :
إنَّهُ كَانَ أَوَائِلُ الْفَلَاسِفَةِ أَوَّلَ مَا يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ
الْعِلْمَ الرِّيَاضِيَّ وَكَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِهِمْ فِي آخِرِ أَمْرِهِ إنَّمَا
يَشْتَغِلُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ فِي طُرُقِهِمْ وَطُرُقِ مَنْ
عَارَضَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَلَمْ
يَجِدْ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ حَقٌّ أَخَذَ يَشْغَلُ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ الرِّيَاضِيِّ كَمَا كَانَ يَتَحَرَّى مِثْلَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ كَابْنِ وَاصِلٍ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا يَشْتَغِلُونَ وَقْتَ بَطَالَتِهِمْ بِعِلْمِ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْهَنْدَسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيحًا لِلنَّفْسِ وَهُوَ عِلْمٌ صَحِيحٌ لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَلَطٌ . وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : إذَا لَهَوْتُمْ فَالْهُوا بِالرَّمْيِ وَإِذَا تَحَدَّثْتُمْ فَتَحَدَّثُوا بِالْفَرَائِضِ . فَإِنَّ حِسَابَ الْفَرَائِضِ عِلْمٌ مَعْقُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ مَشْرُوعٍ فَتَبْقَى فِيهِ رِيَاضَةُ الْعَقْلِ وَحِفْظُ الشَّرْعِ . لَكِنْ لَيْسَ هُوَ عِلْمًا يُطْلَبُ لِذَاتِهِ وَلَا تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ . وَأُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ وَيَدْعُونَهَا بِأَنْوَاعِ الدَّعَوَاتِ . كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَمَا صُنِّفَ عَلَى طَرِيقِهِمْ مِنْ الْكُتُبِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ وَدَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ الَّتِي بِهَا يُعَظَّمُ إبْلِيسُ وَجُنُودُهُ . وَكَانَ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ يُغْوِيهِمْ بِأَشْيَاءَ هِيَ الَّتِي دَعَتْهُمْ إلَى ذَلِكَ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ وَكَانُوا يَرْصُدُونَ الْكَوَاكِبَ لِيَتَعَلَّمُوا مَقَادِيرَهَا وَمَقَادِيرَ حَرَكَاتِهَا وَمَا بَيْنَ بَعْضِهَا مِنْ الِاتِّصَالَاتِ مُسْتَعِينِينَ بِذَلِكَ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ مُنَاسِبًا لَهَا .
وَلَمَّا كَانَتْ الْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةً وَلَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ حِسَابِهَا إلَّا بِمَعْرِفَةِ الْهَنْدَسَةِ وَأَحْكَامِ الْخُطُوطِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَالْمُنْحَنِيَةِ تَكَلَّمُوا فِي " الْهَنْدَسَةِ " لِذَلِكَ وَلِعِمَارَةِ الدُّنْيَا . فَلِهَذَا صَارُوا يَتَوَسَّعُونَ فِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذَلِكَ غَرَضٌ إلَّا مُجَرَّدُ تَصَوُّرِ الْأَعْدَادِ وَالْمَقَادِيرِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْغَايَةُ مِمَّا يُوجَبُ طَلَبُهَا بِالسَّعْيِ الْمَذْكُورِ وَرُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ غَايَةً لِبَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ فَإِنَّ لَذَّاتِ النُّفُوسِ أَنْوَاعٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْتَذُّ بِالشَّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَالْقِمَارِ حَتَّى يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَمَّا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْهُ . وَكَانَ مَبْدَأُ وَضْعِ " الْمَنْطِقِ " مِنْ الْهَنْدَسَةِ وَسَمَّوْهُ حُدُودًا لِحُدُودِ تِلْكَ الْأَشْكَالِ ؛ لِيَنْتَقِلُوا مِنْ الشَّكْلِ الْمَحْسُوسِ إلَى الشَّكْلِ الْمَعْقُولِ وَهَذَا لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَتَعَذُّرِ الْمَعْرِفَةِ عَلَيْهِمْ إلَّا بِالطَّرِيقِ الْبَعِيدَةِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَسَّرَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِيمَانِ مَا بَرَزُوا بِهِ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَأَمَّا " الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ " الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْلُومٌ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هُوَ عَامٌّ بِأُمُورِ كُلِّيَّةٍ مُطْلَقَةٍ لَا تُوجَدُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الذِّهْنِ . وَلَيْسَ فِي هَذَا مِنْ كَمَالِ النَّفْسِ شَيْءٌ . وَإِنْ عَرَفُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِخُصُوصِهِ فَهُوَ عِلْمٌ بِمُعَيَّنِ يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ . وَهَذَا مِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانَ فَبُرْهَانُهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بِخُصُوصِهِ ، لَا وَاجِبِ الْوُجُودِ وَلَا غَيْرِهِ
وَإِنَّمَا
يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ كُلِّيٍّ . وَالْكُلِّيُّ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ
وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ . وَوَاجِبُ الْوُجُودِ يَمْنَعُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ
وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ . وَمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَمْنَعُ الشَّرِكَةَ
فِيهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَرَفَ اللَّهَ وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ لِلرَّبِّ إلَّا
مَعْرِفَةَ الْكُلِّيَّاتِ - كَمَا يَزْعُمُهُ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ وَظَنَّ
أَنَّ ذَلِكَ كَمَالٌ لِلرَّبِّ فَكَذَلِكَ يَظُنُّهُ كَمَالًا لِلنَّفْسِ
بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا سِيَّمَا إذَا قَالَ : إنَّ النَّفْسَ لَا تُدْرِكُ
إلَّا الْكُلِّيَّاتِ . وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الْجُزْئِيَّاتِ الْبَدَنُ - فَهَذَا
فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَهَذِهِ الْكُلِّيَّاتُ الَّتِي لَا تُعْرَفُ بِهَا
الْجُزْئِيَّاتُ الْمَوْجُودَةُ لَا كَمَالَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ وَالنَّفْسُ
إنَّمَا تُحِبُّ مَعْرِفَةَ الْكُلِّيَّاتِ لِتُحِيطَ بِهَا بِمَعْرِفَةِ
الْجُزْئِيَّاتِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لَمْ تَفْرَحْ النَّفْسُ بِذَلِكَ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّ النَّفْسَ تَكْمُلُ
بِالْكُلِّيَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ كَمَا يَزْعُمُونَ فَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي
الْعِلْمِ الْأَعْلَى عِنْدَهُمْ النَّاظِرِ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ لَيْسَ
كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ تَصَوُّرَ مَعْنَى الْوُجُودِ فَقَطْ أَمْرٌ ظَاهِرٌ حَتَّى
يُسْتَغْنَى عَنْ الْحَدِّ عِنْدَهُمْ لِظُهُورِهِ فَلَيْسَ هُوَ الْمَطْلُوبَ
وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ أَقْسَامُهُ وَنَفْسُ أَقْسَامِهِ إلَى وَاجِبٍ
وَمُمْكِنٍ وَجَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَعِلَّةٍ وَمَعْلُولٍ وَقَدِيمٍ وَحَادِثٍ : هُوَ
أَخَصُّ مِنْ مُسَمَّى الْوُجُودِ وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ انْقِسَامِ الْأَمْرِ
الْعَامِّ فِي الذِّهْنِ إلَى أَقْسَامٍ بِدُونِ مَعْرِفَةِ الْأَقْسَامِ مِمَّا
يَقْتَضِي عِلْمًا كُلِّيًّا عَظِيمًا عَالِيًا عَلَى تَصَوُّرِ الْوُجُودِ .
فَإِذَا عَرَفْت الْأَقْسَامَ فَلَيْسَ مَا هُوَ عِلْمٌ بِمَعْلُومِ لَا يَقْبَلُ
التَّغْيِيرَ وَالِاسْتِحَالَةَ وَلَيْسَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ أَصْلًا يَدُلُّهُمْ
أَنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ هَكَذَا . وَجَمِيعُ
مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى دَوَامِ الْفَاعِلِ وَالْفَاعِلِيَّةِ وَالزَّمَانِ وَالْحَرَكَةِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ نَوْعِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ لَا قِدَمِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَلَا دَوَامِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ . فَالْجَزْمُ أَنَّ مَدْلُولَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ هُوَ هَذَا الْعَالَمُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ جَهْلٌ مَحْضٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ إلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَوْجُودِ غَيْرَ هَذَا الْعَالَمِ . وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْقَوْمِ إيمَانٌ بِالْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لَا بِاَللَّهِ وَلَا بِمَلَائِكَتِهِ وَلَا كُتُبِهِ وَلَا رُسُلِهِ وَلَا الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَإِذَا قَالُوا : نَحْنُ نُثْبِتُ الْعَالَمَ الْعَقْلِيَّ أَوْ الْمَعْقُولَ الْخَارِجَ عَنْ الْمَحْسُوسِ وَذَلِكَ هُوَ الْغَيْبُ . فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة خَطَأٌ وَضَلَالٌ ؛ فَإِنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ إنَّمَا يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أُمُورٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا مَوْجُودَةٍ فِي الْأَعْيَانِ . وَالرُّسُلُ أَخْبَرَتْ عَمَّا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ أَكْمَلُ وَأَعْظَمُ وُجُودًا مِمَّا نَشْهَدُهُ فِي الدُّنْيَا . فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا وَهُمْ لَمَّا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَالُوا : إنَّ الرُّسُلَ قَصَدُوا إخْبَارَ الْجُمْهُورِ بِمَا يُتَخَيَّلُ إلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ فِي الْعَدْلِ الَّذِي أَقَامُوهُ لَهُمْ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الرُّسُلَ عَرَفَتْ مَا عَرَفْنَاهُ مِنْ نَفْيِ هَذِهِ الْأُمُورِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ هَذَا وَإِنَّمَا كَانَ كَمَالُهُمْ فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ لَا النَّظَرِيَّةُ .
وَأَقَلُّ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ إذَا تَصَوَّرَ حَقِيقَةَ مَا عِنْدَهُمْ وَجَدَهُ مِمَّا لَا يَرْضَى بِهِ أَقَلُّ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ . وَإِذَا عَلِمَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَعَلِمَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَهُ عَالَمٌ آخَرُ مِنْهُ خُلِقَ وَأَنَّهُ سَوْفَ يَسْتَحِيلُ وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً بَلْ هِيَ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ . وَهَبْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُوجِبُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْكُلِّيَّةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَزَلِيَّةً أَبَدِيَّةً لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ . فَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ عِلْمًا بِكُلِّيَّاتِ ثَابِتَةٍ وَعَامَّةُ " فَلْسَفَتِهِمْ الْأُولَى " وَ " حِكْمَتِهِمْ الْعُلْيَا " مِنْ هَذَا النَّمَطِ وَكَذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ : كَصَاحِبِ " الْمَبَاحِثِ الْمَشْرِقِيَّةِ " وَصَاحِبِ " حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ " وَصَاحِبِ " دَقَائِقِ الْحَقَائِقِ " و " رُمُوزِ الْكُنُوزِ " وَصَاحِبِ " كَشْفِ الْحَقَائِقِ " وَصَاحِبِ " الْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ " وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَمْ يُجَرِّدْ الْقَوْلَ لِنَصْرِ مَذْهَبِهِمْ مُطْلَقًا وَلَا تَخَلَّصَ مِنْ إشْرَاكِ ضَلَالِهِمْ مُطْلَقًا بَلْ شَارَكَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَشَارَكَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَحَالِّهِمْ وَتَخَلَّصَ مِنْ بَعْضِ وَبَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَيْضًا لَمْ يُنْصِفْهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَصَابُوا وَأَخْطَأَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِمُرَادِهِمْ أَوْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ أَنَّ مَا قَالُوا : صَوَابٌ . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَّبِعُونَ كَلَامَ ابْنِ سِينَا . و " ابْنُ سِينَا " تَكَلَّمَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ وَالشَّرَائِعِ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا سَلَفُهُ وَلَا وَصَلَتْ إلَيْهَا عُقُولَهُمْ وَلَا بَلَغَتْهَا عُلُومُهُمْ فَإِنَّهُ اسْتَفَادَهَا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ
وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أُخِذَ عَنْ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى
الْمُسْلِمِينَ كالْإِسْمَاعِيلِيَّة . وَكَانَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ
وَأَتْبَاعُهُمْ مَعْرُوفِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِلْحَادِ وَأَحْسَنُ
مَا يُظْهِرُونَ دِينَ الرَّفْضِ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ
الْمَحْضَ . وَقَدْ صَنَّفَ الْمُسْلِمُونَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ
أَسْتَارِهِمْ كُتُبًا كِبَارًا وَصِغَارًا وَجَاهَدُوهُمْ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ
إذْ كَانُوا بِذَلِكَ أَحَقَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
إلَّا كِتَابُ " كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَهَتْكِ الْأَسْتَارِ "
لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الطَّيِّبِ وَكِتَابُ عَبْدِ الْجَبَّارِ
بْنِ أَحْمَدَ وَكِتَابُ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَكَلَامُ أَبِي إسْحَاقَ
وَكَلَامُ ابْنِ فورك وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى والشَّهْرَستَانِي . وَغَيْرُ
هَذَا مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ ابْنَ سِينَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّ أَهْلَ
بَيْتِهِ وَأَبَاهُ وَأَخَاهُ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ وَأَنَّهُ
إنَّمَا اشْتَغَلَ بِالْفَلْسَفَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَسْمَعُهُمْ
يَذْكُرُونَ الْعَقْلَ وَالنَّفْسَ . وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ
يَنْتَسِبُ إلَيْهِمْ هُمْ مَعَ الْإِلْحَادِ الظَّاهِرِ وَالْكُفْرِ الْبَاطِنِ
أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مَنْ سَلَفِهِ الْفَلَاسِفَةِ : كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ ؛
فَإِنَّ أُولَئِكَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ إلَّا مَا عِنْدَ
عُبَّادِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ .
وَقَدْ ذَكَرْت كَلَامَ أَرِسْطُو نَفْسِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي " عِلْمِ
مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ " فِي " مَقَالَةِ اللَّامِ " وَغَيْرِهَا
وَهُوَ آخِرُ مُنْتَهَى فَلْسَفَتِهِ وَبَيَّنْت بَعْضَ مَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ
فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ الْمَعْرُوفِينَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي
الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مَعَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ مِثْلَ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ أَجْهَلُ
مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا أَبْعَدُ عَنْ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ . نَعَمْ لَهُمْ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ كَلَامٌ غَالِبُهُ جَيِّدٌ . وَهُوَ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاسِعٌ وَلَهُمْ عُقُولٌ عَرَفُوا بِهَا ذَلِكَ وَهُمْ قَدْ يَقْصِدُونَ الْحَقَّ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ الْعِنَادُ ؛ لَكِنَّهُمْ جُهَّالٌ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ إلَى الْغَايَةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إلَّا قَلِيلٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ . وَابْنُ سِينَا لَمَّا عَرَفَ شَيْئًا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ قَدْ تَلَقَّى مَا تَلَقَّاهُ عَنْ الْمَلَاحِدَةِ وَعَمَّنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ مَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا عَرَفَهُ بِعَقْلِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ مَا أَخَذَهُ مِنْ سَلَفِهِ . وَمِمَّا أَحْدَثَهُ مِثْلَ كَلَامِهِ فِي النُّبُوَّاتِ وَأَسْرَارِ الْآيَاتِ وَالْمَنَامَاتِ ؛ بَلْ وَكَلَامِهِ فِي بَعْضِ الطَّبِيعِيَّاتِ وَكَلَامِهِ فِي وَاجِبِ الْوُجُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِلَّا فَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ ذِكْرُ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَلَا شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لِوَاجِبِ الْوُجُودِ وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ " الْعِلَّةَ الْأُولَى " وَيُثْبِتُونَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِلَّةٌ غائية لِلْحَرَكَةِ الْفَلَكِيَّةِ يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهِ . فَابْنُ سِينَا أَصْلَحَ تِلْكَ الْفَلْسَفَةَ الْفَاسِدَةَ بَعْضَ إصْلَاحٍ حَتَّى رَاجَتْ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ الطَّلَبَةِ النُّظَّارِ . وَصَارَ يَظْهَرُ لَهُمْ بَعْضُ مَا فِيهَا مِنْ التَّنَاقُضِ فَيَتَكَلَّمُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ ؛ وَلَكِنْ سَلَّمُوا لَهُمْ أُصُولًا فَاسِدَةً فِي الْمَنْطِقِ وَالطَّبِيعِيَّاتِ وَالْإِلَهِيَّاتِ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا دَخَلَ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى ضَلَالِهِمْ فِي مَطَالِبَ عَالِيَةٍ إيمَانِيَّةٍ وَمَقَاصِدَ سَامِيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ خَرَجُوا بِهَا
عَنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَصَارُوا بِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ بَلْ يُسَفْسِطُونَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَيُقَرْمِطُونَ فِي السَّمْعِيَّاتِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ النَّفْسَ تَكْمُلُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ . كَمَا زَعَمُوهُ مَعَ أَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ النَّفْسَ لَهَا قُوَّتَانِ : قُوَّةٌ عِلْمِيَّةٌ نَظَرِيَّةٌ وَقُوَّةٌ إرَادِيَّةٌ عَمَلِيَّةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ كَمَالِ الْقُوَّتَيْنِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَعِبَادَتُهُ تَجْمَعُ مَحَبَّتَهُ وَالذُّلَّ لَهُ فَلَا تَكْمُلُ نَفْسٌ قَطُّ إلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ مَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْعُبُودِيَّةَ لَهُ ؛ وَبِهَذَا بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ كُلَّهَا تَدْعُوَا إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَمَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ ؛ مَقْصُودُهَا إصْلَاحُ أَخْلَاقِ النَّفْسِ لِتَسْتَعِدَّ لِلْعِلْمِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ كَمَالُ النَّفْسِ أَوْ مَقْصُودُهَا إصْلَاحُ الْمَنْزِلِ وَالْمَدِينَةِ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ ؛ فَيَجْعَلُونَ الْعِبَادَاتِ وَسَائِلَ مَحْضَةً إلَى مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْعِلْمِ ؛ وَلِذَلِكَ يَرَوْنَ هَذَا سَاقِطًا عَمَّنْ حَصَّلَ الْمَقْصُودَ كَمَا تَفْعَلُ الْمَلَاحِدَةُ الْإِسْماعِيلِيَّة وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِلْحَادِ أَوْ بَعْضِهِ وَانْتَسَبَ إلَى الصُّوفِيَّةِ أَوْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ الشِّيعَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ . فالْجَهْمِيَّة قَالُوا : الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ قَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ بِمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ . وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْكَمَالَ مَعْرِفَةَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ وَلَوَاحِقِهِ . وَهَذَا أَمْرٌ
لَوْ
كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَكُنْ كَمَالًا لِلنَّفْسِ إلَّا
بِمَعْرِفَةِ خَالِقِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَهَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة مِنْ
أَعْظَمِ الْمُبْتَدِعَةِ بَلْ جَعَلَهُمْ غَيْرُ وَاحِدٍ خَارِجِينَ عَنْ
الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً . كَمَا يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفِ بْنِ أَسْبَاطٍ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ كَفَّرَ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَغَيْرِهِمَا مَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ . وَقَالُوا : هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ
أَنْ يَكُونَ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَالْيَهُودُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ مُؤْمِنِينَ . فَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة خَيْرٌ مِنْ
قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ أَصْلُ مَا تَكْمُلُ بِهِ النُّفُوسُ
لَكِنْ لَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ عِلْمِ النَّفْسِ وَبَيْنَ إرَادَتِهَا الَّتِي
هِيَ مَبْدَأُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَجَعَلُوا الْكَمَالَ فِي نَفْسِ
الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ
الْخَشْيَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ
أُصُولِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَبَعُدُوا عَنْ
الْكَمَالِ غَايَةَ الْبُعْدِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى
بُرْهَانِهِمْ فَقَطْ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا لَزِمَهُمْ بِسَبَبِ
أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ بَيَانَ مَا فِي كَلَامِهِمْ مِنْ الْبَاطِلِ وَالنَّقْضِ لَا
يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُمْ أَشْقِيَاءَ فِي الْآخِرَةِ إلَّا إذَا بَعَثَ اللَّهُ
إلَيْهِمْ رَسُولًا فَلَمْ يَتَّبِعُوهُ بَلْ يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ مَنْ جَاءَتْهُ
الرُّسُلُ بِالْحَقِّ فَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ إلَى طَرِيقِ هَؤُلَاءِ كَانَ
مِنْ الْأَشْقِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ
وَالْقَوْمُ
لَوْلَا الْأَنْبِيَاءُ لَكَانُوا أَعْقَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ . لَكِنَّ
الْأَنْبِيَاءَ جَاءُوا بِالْحَقِّ وَبَقَايَاهُ فِي الْأُمَمِ وَإِنْ كَفَرُوا
بِبَعْضِهِ . حَتَّى مُشْرِكُو الْعَرَبِ كَانَ عِنْدَهُمْ بَقَايَا مِنْ دِينِ
إبْرَاهِيمَ فَكَانُوا خَيْرًا مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ
يُوَافِقُونَ أَرِسْطُو وَأَمْثَالَهُ عَلَى أُصُولِهِمْ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ بِقِيَاسِهِمْ
الْبُرْهَانِيِّ مَعْرِفَةَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ فَتِلْكَ لَيْسَ فِيهَا
مَا هُوَ وَاجِبُ الْبَقَاءِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ أَزَلًا وَأَبَدًا بَلْ هِيَ
قَابِلَةٌ لِلتَّغَيُّرِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَمِمَّا قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ
اللَّازِمِ لِمَوْصُوفِهِ فَنَفْسُ الْمَوْصُوفِ لَيْسَ وَاجِبَ الْبَقَاءِ فَلَا
يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ عِلْمًا بِمَوْجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَلَيْسَ لَهُمْ
عَلَى أَزَلِيَّةِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ كَمَا بُسِطَ فِي
مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا غَايَةُ أَدِلَّتِهِمْ تَسْتَلْزِمُ دَوَامَ نَوْعِ
الْفَاعِلِيَّةِ وَنَوْعِ الْمَادَّةِ وَالْمُدَّةِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِوُجُودِ
عَيْنٍ بَعْدَ عَيْنٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ أَبَدًا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ
مَفْعُولٍ مُحْدَثٍ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ
الصَّرِيحِ وَالنَّقْلِ الصَّحِيحِ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ
الْمُعَيَّنَ مُقَارِنٌ لِفَاعِلِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا مِمَّا يَقْضِي صَرِيحُ
الْعَقْلِ بِامْتِنَاعِهِ . أَيُّ شَيْءٍ قُدِّرَ فَاعِلُهُ لَا سِيَّمَا إذَا
كَانَ فَاعِلًا بِاخْتِيَارِهِ . كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ
الْيَقِينِيَّةُ لَيْسَتْ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُقَصِّرُونَ فِي مَعْرِفَةِ
أُصُولِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ : كالرَّازِي وَأَمْثَالِهِ كَمَا بُسِطَ فِي
مَوْضِعِهِ .
وَمَا يَذْكُرُونَ مِنْ اقْتِرَانِ الْمَعْلُولِ بِعِلَّتِهِ فَإِذَا أُرِيدَ
بِالْعِلَّةِ مَا يَكُونُ مُبْدِعًا لِلْمَعْلُولِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِصَرِيحِ
الْعَقْلِ . وَلِهَذَا تُقِرُّ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ الَّتِي
لَمْ تَفْسُدْ بِالتَّقْلِيدِ الْبَاطِلِ . وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُسْتَقَرًّا فِي الْفِطَرِ كَانَ نَفْسُ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مُوجِبًا لِأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَإِنْ قُدِّرَ دَوَامُ الخالقية لِمَخْلُوقِ بَعْدَ مَخْلُوقٍ فَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ سِوَاهُ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ ؛ بَلْ ذَلِكَ أَعْظَمُ فِي الْكَمَالِ وَالْجُودِ وَالْإِفْضَالِ . وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ . كَمَا يُمَثِّلُونَ بِهِ مِنْ حَرَكَةِ الْخَاتَمِ بِحَرَكَةِ الْيَدِ وَحُصُولِ الشُّعَاعِ عَنْ الشَّمْسِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَاعِلِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَاب الْمَشْرُوطِ وَالشَّرْطُ قَدْ يُقَارِنُ الْمَشْرُوطَ وَأَمَّا الْفَاعِلُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَارِنَهُ مَفْعُولُهُ الْمُعَيَّنُ وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءِ بَعْدَ شَيْءٍ فَقِدَمُ نَوْعِ الْفِعْلِ كَقِدَمِ نَوْعِ الْحَرَكَةِ . وَذَلِكَ لَا يُنَافِي حُدُوثَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا ؛ بَلْ يَسْتَلْزِمُهُ لِامْتِنَاعِ قِدَمِ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ . وَهَذَا مِمَّا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ حَتَّى أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ قَالُوا : بِقِدَمِ الْعَالَمِ فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ مُبْدِعًا وَلَا عِلَّةً فَاعِلِيَّةً ؛ بَلْ عِلَّةً غائية يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا لِأَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ إرَادِيَّةٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ وَهُوَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ مُبْدِعًا لِلْعَالَمِ وَإِنَّمَا هُوَ عِلَّةٌ غائية لِلتَّشَبُّهِ بِهِ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ وَافَقُوا سَائِرَ الْعُقَلَاءِ فِي أَنَّ الْمُمْكِنَ الْمَعْلُولَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا بِقِدَمِ عِلَّتِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَمُوَافِقُوهُ ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ رُشْدٍ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا طَرِيقَةَ
أَرِسْطُو وَسَائِرَ الْعُقَلَاءِ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنُوا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا مِمَّا خَالَفَ بِهِ سَلَفَهُ وَجَمَاهِيرَ الْعُقَلَاءِ وَكَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُرَكِّبَ مَذْهَبًا مِنْ مَذَاهِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَذْهَبِ سَلَفِهِ فَيَجْعَلُ الْمَوْجُودَ الْمُمْكِنَ مَعْلُولَ الْوَاجِبِ . مَعَ كَوْنِهِ أَزَلِيًّا قَدِيمًا بِقِدَمِهِ . وَاتَّبَعَهُ عَلَى إمْكَانِ ذَلِكَ أَتْبَاعُهُ فِي ذَلِكَ كالسهروردي الْحَلَبِيِّ وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ والطوسي وَغَيْرِهِمْ . وَزَعَمَ الرَّازِيَّ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي مُحَصِّلِهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْمَفْعُولِ الْمَعْلُولِ يَكُونُ قَدِيمًا لِلْمُوجَبِ بِالذَّاتِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ الْمُتَقَدِّمُونَ الَّذِينَ نُقِلَتْ إلَيْنَا أَقْوَالُهُمْ كَأَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ . وَإِنَّمَا قَالَهُ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ . والمتكلمون إذْ قَالُوا : بِقِدَمِ مَا يَقُومُ بِالْقَدِيمِ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَقُولُونَ إنَّهَا مَفْعُولَةٌ وَلَا مَعْلُولَةٌ لِعِلَّةِ فَاعِلَةٍ ؛ بَلْ الذَّاتُ الْقَدِيمَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ عِنْدَهُمْ فَصِفَاتُهَا مِنْ لَوَازِمِهَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ كَوْنِ الْوَاجِبِ وَاجِبًا قَدِيمًا إلَّا بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَيَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ قِدَمٌ مُمْكِنٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَاعِلِهِ . وَكَذَلِكَ أَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ قَدِيمٌ يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُمْكِنُ لَمْ يَزَلْ وَاجِبًا سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ . وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ فِي أَنَّ الْمُمْكِنَ قَدْ يَكُونُ قَدِيمًا وَاجِبًا بِغَيْرِهِ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا - كَمَا يَقُولُونَهُ فِي الْفَلَكِ هُوَ الَّذِي فَتَحَ عَلَيْهِمْ فِي " الْإِمْكَانِ " - مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْقَادِحَةِ فِي قَوْلِهِمْ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنْهُ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ
تَقْرِيرِ هَذَا ؛ وَلَكِنْ نَبَّهْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ بُرْهَانَهُمْ الْقِيَاسِيَّ لَا يُفِيدُ أُمُورًا كُلِّيَّةً وَاجِبَةَ الْبَقَاءِ فِي الْمُمْكِنَاتِ . وَأَمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَالْقِيَاسُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ كُلِّيٍّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ . إذْ كَانَ مَدْلُولُ الْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ إلَّا أُمُورًا كُلِّيَّةً مُشْتَرَكَةً وَتِلْكَ لَا تَخْتَصُّ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ - رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَلَمْ يَعْرِفُوا بِبُرْهَانِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ دَوَامُهَا لَا مِنْ الْوَاجِبِ وَلَا مِنْ الْمُمْكِنَاتِ . وَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ إنَّمَا تَكْمُلُ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَبْقَى بِبَقَاءِ مَعْلُومِهِ . لَمْ يَسْتَفِيدُوا بِبُرْهَانِهِمْ مَا تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ الْعِلْمِ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَا تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسَ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِبُرْهَانِهِمْ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى بِذِكْرِ آيَاتِهِ . وَإِنْ اسْتَعْمَلُوا فِي ذَلِكَ " الْقِيَاسَ " اسْتَعْمَلُوا قِيَاسَ الْأَوْلَى ؛ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا قِيَاسَ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ وَلَا قِيَاسَ تَمْثِيلٍ مَحْضٍ . فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا مَثِيلَ لَهُ وَلَا يَجْتَمِعُ هُوَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ كُلِّيٍّ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ ؛ بَلْ مَا ثَبَتَ لِغَيْرِهِ مِنْ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ فَثُبُوتُهُ لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَمَا تَنَزَّهَ غَيْرُهُ عَنْهُ مِنْ النَّقَائِصِ فَتَنَزُّهُهُ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ الْبُرْهَانِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ
فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا يَذْكُرُهُ فِي دَلَائِلِ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِمْكَانِ الْمَعَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ السَّنِيَّةِ وَالْمَعَالِمِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَعْظَمُ مَا تَكْمُلُ بِهِ النُّفُوسُ مِنْ الْمَعَارِفِ . وَإِنْ كَانَ كَمَالُهَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ كَمَالِ عِلْمِهَا وَقَصْدِهَا جَمِيعًا . فَلَا بُدَّ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالذُّلِّ لَهُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ فَكَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَاتِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ " الْآيَةَ " هِيَ الْعَلَامَةُ وَهِيَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ عَيْنَ الْمَدْلُولِ . لَا يَكُونُ مَدْلُولُهُ أَمْرًا كُلِّيًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَطْلُوبِ وَغَيْرِهِ . بَلْ نَفْسُ الْعِلْمِ بِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِعَيْنِ الْمَدْلُولِ . كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ آيَةُ النَّهَارِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } . فَنَفْسُ الْعِلْمِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِوُجُودِ النَّهَارِ . وَكَذَلِكَ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلْمُ بِنُبُوَّتِهِ بِعَيْنِهِ لَا يُوجِبُ أَمْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ آيَاتُ الرَّبِّ تَعَالَى نَفْسُ الْعِلْمِ بِهَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ تَعَالَى لَا يُوجِبُ عِلْمًا كُلِّيًّا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ هَذَا مُسْتَلْزِمًا لِهَذَا هُوَ جِهَةُ الدَّلِيلِ فَكُلُّ دَلِيلٍ فِي الْوُجُودِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ وَالْعِلْمُ بِاسْتِلْزَامِ الْمُعَيِّنِ لِلْمُعَيَّنِ الْمَطْلُوبِ أَقْرَبُ إلَى الْفِطْرَةِ مِنْ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ مُعَيَّنٍ
مِنْ مُعَيَّنَاتِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ يَسْتَلْزِمُ النَّتِيجَةَ وَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ هَذَا شَأْنُهَا . فَإِنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ إنْ لَمْ تُعْلَمْ مُعَيَّنَاتُهَا بِغَيْرِ التَّمْثِيلِ وَإِلَّا لَمْ تُعْلَمْ إلَّا بِالتَّمْثِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ لُزُومِ الْمَدْلُولِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ فَإِذَا كَانَ كُلِّيًّا فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الْمَطْلُوبِ يَلْزَمُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الدَّلِيلِ كَمَا إذَا قِيلَ : كُلُّ أ بـ وَكُلُّ بـ ج فَكُلُّ ج أ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِيمِ يَلْزَمُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَاءِ وَكُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَاءِ يَلْزَمُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأَلِفِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلْمَ بِلُزُومِ الْجِيمِ الْمُعَيَّنِ لِلْبَاءِ الْمُعَيَّنِ وَالْبَاءِ الْمُعَيَّنِ لِلْأَلِفِ الْمُعَيَّنِ أَقْرَبُ إلَى الْفِطْرَةِ مِنْ هَذَا . وَإِذَا قِيلَ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ تَحْصُلُ فِي الذِّهْنِ ضَرُورَةً أَوْ بَدِيهَةً مِنْ وَاهِبِ الْعَقْلِ . قِيلَ حُصُولُ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الذِّهْنِ مِنْ وَاهِبِ الْعَقْلِ أَقْرَبُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى . يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ بِدُونِ وُجُودِ ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ . وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا أَيْضًا لِأُمُورِ كُلِّيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ لَوَازِمِهِ . وَتِلْكَ الْكُلِّيَّاتُ الْمُشْتَرَكَةُ مِنْ لَوَازِمَ الْمُعَيَّنِ : أَعْنِي يَلْزَمُهُ مَا يَخُصُّهُ مِنْ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ وَالْكُلِّيُّ الْمُشْتَرَكُ يَلْزَمُهُ بِشَرْطِ وُجُودِهِ . وَوُجُودُ الْعَالَمِ الَّذِي يَتَصَوَّرُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَيَعْلَمُ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ بِمَا يَخُصُّهَا وَيَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْخَاصِّ وُجُودُ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ كَمَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ هَذَا الْإِنْسَانِ وُجُودُ الْإِنْسَانِيَّةِ والحيوانية . فَكُلُّ مَا
سِوَى الرَّبِّ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ بِعَيْنِهَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ شَيْءٍ سِوَاهُ بِدُونِ وُجُودِ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ الْكُلِّيَّ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ . فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لَهَا مُبْدِعًا . ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمُعَيَّنِ وُجُودُ الْمُطْلَقِ الْمُطَابِقِ فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ تَحَقَّقَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ وَإِذَا تَحَقَّقَ الْفَاعِلُ لِكُلِّ شَيْءٍ تَحَقَّقَ الْفَاعِلُ الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ وَإِذَا تَحَقَّقَ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ تَحَقَّقَ الْقَدِيمُ الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ وَإِذَا تَحَقَّقَ الْغِنَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ تَحَقَّقَ الْغِنَى الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ وَإِذَا تَحَقَّقَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ تَحَقَّقَ الرَّبُّ الْمُطَابِقُ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْحَيَوَانُ تَحَقَّقَ الْإِنْسَانُ الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ وَالْحَيَوَانُ الْمُطْلَقُ الْمُطَابِقُ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ مُطْلَقًا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَإِذَا عَلِمَ إنْسَانٌ وُجُودَ إنْسَانٍ مُطْلَقٍ وَحَيَوَانٍ مُطْلَقٍ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِنَفْسِ الْعَيْنِ . كَذَلِكَ إذَا عَلِمَ وَاجِبًا مُطْلَقًا وَفَاعِلًا مُطْلَقًا وَغَنِيًّا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِنَفْسِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ هُوَ مَدْلُولُ آيَاتِهِ تَعَالَى . فَآيَاتُهُ تَسْتَلْزِمُ عَيْنَهُ الَّتِي يَمْنَعُ تَصَوُّرُهَا مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهَا . وَكُلُّ مَا سِوَاهُ دَلِيلٌ عَلَى عَيْنِهِ وَآيَةٌ لَهُ . فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لِعَيْنِهِ وَكُلُّ مَلْزُومٍ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى مَلْزُومٍ وَيَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ شَيْءٍ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ إلَّا مَعَ تَحَقُّقِ عَيْنِهِ فَكُلُّهَا لَازِمَةٌ لِنَفْسِهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ آيَةٌ لَهُ وَدِلَالَتُهَا بِطَرِيقِ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الذِّهْنِ فَلَمْ يَعْلَمُوا بِبُرْهَانِهِمْ مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ تَعَالَى .
وَأَمَّا " قِيَاسُ الْأَوْلَى " الَّذِي كَانَ يَسْلُكُهُ السَّلَفُ اتِّبَاعًا لِلْقُرْآنِ : فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا نَقْصَ فِيهَا أَكْمَلُ مِمَّا عَلِمُوهُ ثَابِتًا لِغَيْرِهِ مَعَ التَّفَاوُتِ الَّذِي لَا يَضْبِطُهُ الْعَقْلُ كَمَا لَا يَضْبِطُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ بَلْ إذَا كَانَ الْعَقْلُ يُدْرِكُ مِنْ التَّفَاضُلِ الَّذِي بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ مَا لَا يَنْحَصِرُ قَدْرُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِ مَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقٍ كَانَ هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ لِلرَّبِّ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَثْبُتُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ بِمَا لَا يُدْرَكُ قَدْرُهُ . فَكَأَنَّ " قِيَاسَ الْأَوْلَى " يُفِيدُهُ أَمْرًا يَخْتَصُّ بِهِ الرَّبُّ مَعَ عِلْمِهِ بِجِنْسِ ذَلِكَ الْأَمْرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْحُذَّاقُ يَخْتَارُونَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَقُولَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مَقُولَةٌ بِطْرِيقِ التَّشْكِيكِ لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَلَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي تَتَمَاثَلُ أَفْرَادُهُ ؛ بَلْ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي تَتَفَاضَلُ أَفْرَادُهُ كَمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ عَلَى الشَّدِيدِ كَبَيَاضِ الثَّلْجِ وَعَلَى مَا دُونَهُ كَبَيَاضِ الْعَاجِ . فَكَذَلِكَ لَفْظُ الْوُجُودِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَهُوَ فِي الْوَاجِبِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنْ فَضْلِ هَذَا الْبَيَاضِ عَلَى هَذَا الْبَيَاضِ ؛ لَكِنَّ هَذَا التَّفَاضُلَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشَكَّكَةِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْمَعْنَى مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا فَلَا بُدَّ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشَكَّكَةِ مِنْ مَعْنًى كُلِّيٍّ مُشْتَرَكٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ . وَذَلِكَ هُوَ مَوْرِدُ " التَّقْسِيمِ " : تَقْسِيمُ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ إذَا قِيلَ الْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ ؛ فَإِنَّ مَوْرِدَ التَّقْسِيمِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ . ثُمَّ كَوْنُ
وُجُودِ
هَذَا الْوَاجِبِ أَكْمَلَ مِنْ وُجُودِ الْمُمْكِنِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ
مُسَمَّى الْوُجُودِ مَعْنًى كُلِّيًّا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا وَهَكَذَا فِي
سَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ
: كَاسْمِ الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَكَذَلِكَ
فِي صِفَاتِهِ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ
وَفَرَحِهِ وَسَائِرِ مَا نَطَقَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
وَالنَّاسُ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْبَابِ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : كَأَبِي
الْعَبَّاسِ النَّاشِئِ مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَسْبَقَ
مِنْ أَبِي عَلِيٍّ : هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْخَالِقِ مَجَازٌ فِي الْمَخْلُوقِ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ :
بِالْعَكْسِ هِيَ مَجَازٌ فِي الْخَالِقِ حَقِيقَةٌ فِي الْمَخْلُوقِ وَقَالَ
جَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ هِيَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا . وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفِ
النُّظَّارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة وَالْفُقَهَاءِ
وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ ؛ لَكِنَّ
كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَنَاقَضُ فَيُقِرُّ فِي بَعْضِهَا بِأَنَّهَا
حَقِيقَةٌ كَاسْمِ الْمَوْجُودِ وَالنَّفْسِ وَالذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ وَيُنَازِعُ فِي بَعْضِهَا لِشُبَهِ نفاة الْجَمِيعِ . وَالْقَوْلُ فِيمَا
نَفَاهُ نَظِيرُ الْقَوْلِ فِيمَا أَثْبَتَهُ ؛ وَلَكِنْ هُوَ لِقُصُورِهِ فَرَّقَ
بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَنَفْيُ الْجَمِيعِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَوْجُودَ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَقَدِيمٍ
وَحَادِثٍ وَغَنِيٍّ وَفَقِيرٍ وَمَفْعُولٍ وَغَيْرِ مَفْعُولٍ وَأَنَّ وُجُودَ
الْمُمْكِنِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْوَاجِبِ . وَوُجُودَ الْمُحْدَثِ
يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْقَدِيمِ وَوُجُودَ الْفَقِيرِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ
الْغَنِيِّ وَوُجُودَ الْمَفْعُولِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ
غَيْرِ الْمَفْعُولِ . وَحِينَئِذٍ فَبَيْنَ الْوُجُودَيْنِ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ وَالْوَاجِبُ يَخْتَصُّ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْجَمِيعِ . وَالْأَسْمَاءُ الْمُشَكَّكَةُ هِيَ مُتَوَاطِئَةٌ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ نُظَّارِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَخُصُّونَ الْمُشَكَّكَةَ بِاسْمِ ؛ بَلْ لَفْظُ الْمُتَوَاطِئَةِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَالْمُشَكَّكَةُ قِسْمٌ مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ الْعَامَّةِ وَقَسِيمُ الْمُتَوَاطِئَةِ الْخَاصَّةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ كُلِّيٍّ وَهُوَ مُسَمَّى الْمُتَوَاطِئَةِ الْعَامَّةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُطْلَقًا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَهَذَا مَدْلُولُ قِيَاسِهِمْ الْبُرْهَانِيِّ . وَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ التَّفَاضُلِ وَهُوَ مَدْلُولُ الْمُشَكَّكَةِ الَّتِي هِيَ قَسِيمُ الْمُتَوَاطِئَةِ الْخَاصَّةِ وَذَلِكَ هُوَ مَدْلُولُ الْأَقْيِسَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَهِيَ قِيَاسُ الْأَوْلَى . وَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ خَاصَّةِ الرَّبِّ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ عَمَّا سِوَاهُ وَذَلِكَ مَدْلُولُ آيَاتِهِ سُبْحَانَهُ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتُهَا ثُبُوتَ نَفْسِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ قِيَاسٌ لَا بُرْهَانِيٌّ وَلَا غَيْرُ بُرْهَانِيٍّ . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ قِيَاسَهُمْ الْبُرْهَانِيَّ لَا يُحَصِّلُ الْمَطْلُوبَ الَّذِي بِهِ تَكْمُلُ النَّفْسُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَوْجُودَاتِ وَمَعْرِفَةِ خَالِقِهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ : لَا تُعْلَمُ الْمَطَالِبُ إلَّا بِهِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذَا الْمَقَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى بُطْلَانِ " قَضِيَّتِهِمْ السَّالِبَةِ " وَهِيَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعُلُومَ النَّظَرِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِوَاسِطَةِ بُرْهَانِهِمْ .
ثُمَّ لَمْ يَكْفِهِمْ هَذَا السَّلْبُ الْعَامُّ الَّذِي تَحَجَّرُوا فِيهِ وَاسِعًا ؛ وَقَصَرُوا الْعُلُومَ عَلَى طَرِيقٍ ضَيِّقَةٍ لَا تُحَصِّلُ إلَّا مَطْلُوبًا لَا طَائِلَ فِيهِ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ ؛ إنَّمَا يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحَدِّ الْأَوْسَطِ ؛ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ . وَهُمْ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ خَيْرٌ مِمَّنْ نَفَى عِلْمَهُ وَعِلْمَ أَنْبِيَائِهِ مِنْ سَلَفِهِمْ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْبِيَائِهِ وَكُتُبِهِ . فَابْنُ سِينَا لَمَّا تَمَيَّزَ عَنْ أُولَئِكَ ؛ بِمَزِيدِ عِلْمٍ وَعَقْلٍ ؛ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ الْمَنْطِقِيَّ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ . وَصَارَ سَالِكُو هَذِهِ الطَّرِيقِ وَإِنْ كَانُوا أَعْلَمَ مِنْ سَلَفِهِمْ وَأَكْمَلَ فَهُمْ أَضَلُّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَجْهَلُ إذْ كَانَ أُولَئِكَ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ وَصِفَاتِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِهَؤُلَاءِ الضُّلَّالِ لِمَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ الْكِبْرِ وَالْخَيَالِ وَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مَنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ متنقصين أَوْ مُعَادِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } وَقَالَ : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } .
وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَمُتَابَعَةِ هَؤُلَاءِ لَهُ والنمرود بْنِ كَنْعَانَ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَمُخَالَفَتِهِمْ لِمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رُسُلِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ آلَ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَآلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةً لِأَهْلِ النَّارِ قَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ } { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ } { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَالَ فِي آلِ إبْرَاهِيمَ : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُتَأَخِّرِيهِمْ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ جَعَلُوا عِلْمَ الرَّبِّ يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ وَكَذَلِكَ عِلْمُ أَنْبِيَائِهِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ إلَّا بِالْبُرْهَانِ الَّذِي وَصَفُوهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا السَّلْبُ بَاطِلًا فِي عِلْمِ آحَادِ النَّاسِ كَانَ بُطْلَانُهُ
أَوْلَى
فِي عِلْمِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ مَلَائِكَتِهِ
وَأَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
فَصْلٌ :
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا جِنْسَ الدَّلِيلِ إلَى الْقِيَاسِ
وَالِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ قَالُوا : لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ : إمَّا أَنْ
يَكُونَ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ ؛ أَوْ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى
الْكُلِّيِّ ؛ أَوْ بِأَحَدِ الْجُزْئِيَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَرُبَّمَا
عَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ . فَقَالُوا : إمَّا أَنْ
يُسْتَدَلَّ بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ
بِأَحَدِ الْخَاصَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ . قَالُوا : وَالْأَوَّلُ هُوَ "
الْقِيَاسُ " يَعْنُونَ بِهِ قِيَاسَ الشُّمُولِ فَإِنَّهُمْ يَخُصُّونَهُ
بِاسْمِ الْقِيَاسِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ يَخُصُّونَ
بِاسْمِ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلَ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فَاسْمُ
الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا . قَالُوا : وَالِاسْتِدْلَالُ
بِالْجُزْئِيَّاتِ عَلَى الْكُلِّيِّ هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ فَإِنْ كَانَ تَامًّا
فَهُوَ الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ وَهُوَ يُفِيدُ الْيَقِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ
نَاقِصًا لَمْ يُفِدْ الْيَقِينَ .
فَالْأَوَّلُ هُوَ اسْتِقْرَاءُ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ
بِمَا وُجِدَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ .
وَالثَّانِي اسْتِقْرَاءُ أَكْثَرِهَا وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ :
الْحَيَوَانُ إذَا أَكَلَ حَرَّكَ فَكَّهُ الْأَسْفَلَ لِأَنَّا اسْتَقْرَيْنَاهَا
فَوَجَدْنَاهَا هَكَذَا فَيُقَالُ لَهُ التِّمْسَاحُ يُحَرِّكُ الْأَعْلَى .
ثُمَّ قَالُوا : إنَّ الْقِيَاسَ يَنْقَسِمُ إلَى " اقْتِرَانِيٍّ وَاسْتِثْنَائِيٍّ " فالاستثنائي مَا تَكُونُ النَّتِيجَةُ أَوْ نَقِيضُهَا مَذْكُورَةً فِيهِ بِالْفِعْلِ . وَالِاقْتِرَانِيُّ مَا تَكُونُ فِيهِ بِالْقُوَّةِ : كَالْمُؤَلَّفِ مِنْ الْقَضَايَا الْحَمْلِيَّةِ . كَقَوْلِنَا كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . والاستثنائي مَا يُؤَلَّفُ مِنْ الشَّرْطِيَّاتِ وَهُوَ نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا مُتَّصِلَةٌ - كَقَوْلِنَا إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً فَالْمُصَلِّي مُتَطَهِّرٌ - وَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ الْمُقَدَّمِ يُنْتِجُ عَيْنَ التَّالِي وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقِيضَ الْمُقَدَّمِ . وَ ( الثَّانِي الْمُنْفَصِلَةُ وَهِيَ : إمَّا مَانِعَةُ الْجَمْعِ وَالْخُلُوِّ كَقَوْلِنَا الْعَدَدُ إمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ ؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ ؛ وَلَا يَخْلُو الْعَدَدُ عَنْ أَحَدِهِمَا وَإِمَّا مَانِعَةُ الْجَمْعِ فَقَطْ : كَقَوْلِنَا هَذَا إمَّا أَسْوَدُ وَإِمَّا أَبْيَضُ أَيْ : لَا يَجْتَمِعُ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ . وَقَدْ يَخْلُو الْمَحَلُّ عَنْهُمَا وَأَمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوِّ فَهِيَ الَّتِي يَمْتَنِعُ فِيهَا عَدَمُ الْجُزْأَيْنِ جَمِيعًا وَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا وَقَدْ يَقُولُونَ مَانِعَةُ الْجَمْعِ وَالْخُلُوِّ هِيَ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ ؛ وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلنَّقِيضَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَمَانِعَةُ الْجَمْعِ ؛ هِيَ أَخَصُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ ؛ فَإِنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَقَدْ يَرْتَفِعَانِ وَهُمَا أَخَصُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ . وَأَمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوِّ فَإِنَّهَا أَعَمُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ وَقَدْ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ تَمْثِيلُ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ؛ فَإِنَّ أَمْثَالَهُمَا كَثِيرَةٌ . وَيُمَثِّلُونَهُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ : هَذَا رَكِبَ الْبَحْرَ أَوْ لَا يَغْرَقُ فِيهِ أَيْ لَا يَخْلُو
مِنْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَغْرَقُ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْبَحْرِ فَإِمَّا أَنْ لَا يَغْرَقَ فِيهِ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ رَاكِبَهُ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاكِبَهُ وَقَدْ يَجْتَمِعُ أَنْ يَرْكَبَ وَيَغْرَقَ . وَالْأَمْثَالُ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِنَا هَذَا حَيٌّ أَوْ لَيْسَ بِعَالِمِ أَوْ قَادِرٍ أَوْ سَمِيعٍ أَوْ بَصِيرٍ أَوْ مُتَكَلِّمٍ فَإِنَّهُ إنْ وُجِدَتْ الْحَيَاةُ فَهُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ وَإِنْ عُدِمَتْ عُدِمَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ . وَقَدْ يَكُونُ حَيًّا مَنْ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ هَذَا مُتَطَهِّرٌ أَوْ لَيْسَ بِمُصَلٍّ فَإِنَّهُ إنْ عُدِمَتْ الصَّلَاةُ عُدِمَتْ الطَّهَارَةُ وَإِنْ وُجِدَتْ الطَّهَارَةُ فَهُوَ الْقِسْمُ الْآخَرُ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْهُمَا . وَكَذَلِكَ كُلُّ عَدَمِ شَرْطٍ وَوُجُودِ مَشْرُوطِهِ فَإِنَّهُ إذَا رُدِّدَ الْأَمْرُ بَيْنَ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ وَعَدَمِ الشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْخُلُوِّ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ وَإِذَا عُدِمَ عُدِمَ الشَّرْطُ فَصَارَ الْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ وَعَدَمِ الشَّرْطِ . ثُمَّ قَسَّمُوا الِاقْتِرَانِيَّ إلَى الْأَشْكَالِ الْأَرْبَعَةِ - لِكَوْنِ الْحَدِّ الْأَوْسَطِ إمَّا مَحْمُولًا فِي الْكُبْرَى مَوْضُوعًا فِي الصُّغْرَى - وَهُوَ الشَّكْلُ الطَّبِيعِيُّ وَهُوَ يُنْتِجُ الْمَطَالِبَ الْأَرْبَعَةَ الْجُزْئِيَّ وَالْكُلِّيَّ وَالْإِيجَابِيَّ وَالسَّلْبِيَّ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوْسَطُ مَحْمُولًا فِيهِمَا وَهُوَ الثَّانِي وَلَا يُنْتِجُ إلَّا السَّلْبَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا فِيهِمَا وَلَا يُنْتِجُ إلَّا الْجُزْئِيَّاتِ وَالرَّابِعُ يُنْتِجُ الْجُزْئِيَّاتِ وَالسَّلْبَ الْكُلِّيَّ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ الطَّبْعِ . ثُمَّ إذَا أَرَادُوا بَيَانَ الْإِنْتَاجِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ احْتَاجُوا إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالنَّقِيضِ وَالْعَكْسِ وَعَكْسِ النَّقِيضِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ
الْقَضِيَّةِ كَذِبُ نَقْضِهَا وَصِدْقُ عَكْسِهَا الْمُسْتَوِي وَعَكْسُ نَقِيضِهَا فَإِذَا صَدَقَ قَوْلُنَا : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْحُجَّاجِ بِكَافِرِ صَحَّ قَوْلُنَا لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْكُفَّارِ بِحَاجِّ . فَنَقُولُ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطْوِيلًا يُبْعِدُ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ . فَلَا يَخْلُو عَنْ خَطَأٍ يَصُدُّ عَنْ الْحَقِّ أَوْ طَرِيقٍ طَوِيلٍ يُتْعِبُ صَاحِبَهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْحَقِّ مَعَ إمْكَانِ وُصُولِهِ بِطَرِيقِ قَرِيبٍ كَمَا كَانَ يُمَثِّلُهُ بَعْضُ سَلَفِنَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ لَهُ : أَيْنَ أُذُنُك فَرَفَعَ [ يَدَهُ رَفْعًا ](*) شَدِيدًا ثُمَّ أَدَارَهَا إلَى أُذُنِهِ الْيُسْرَى وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْإِشَارَةُ إلَى الْيُمْنَى أَوْ الْيُسْرَى مِنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ . وَمَا أَحْسَنَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } فَأَقْوَمُ الطَّرِيقِ إلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَأَمَّا طَرِيقُ هَؤُلَاءِ فَهِيَ مَعَ ضَلَالِهِمْ فِي الْبَعْضِ وَاعْوِجَاجِ طَرِيقِهِمْ وَطُولِهَا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ إنَّمَا تُوصِلُهُمْ إلَى أَمْرٍ لَا يُنْجِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَ لَهُمْ السَّعَادَةَ فَضْلًا عَنْ حُصُولِ الْكَمَالِ لِلْأَنْفُسِ الْبَشَرِيَّةِ بِطَرِيقِهِمْ . بَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَصْرِ الدَّلِيلِ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ حَصْرٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ؛ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ . فَقَوْلُهُمْ أَيْضًا : إنَّ الْعِلْمَ الْمَطْلُوبَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُقَدِّمَتَيْنِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ . وَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى الْحَصْرِ بِقَوْلِهِمْ : إمَّا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ أَوْ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّ
أَوْ بِأَحَدِ الْجُزْأَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقِيَاسُ وَالثَّانِي هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ وَالثَّالِثُ هُوَ التَّمْثِيلُ . فَيُقَالُ : لَمْ تُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى انْحِصَارِ الِاسْتِدْلَالِ فِي الثَّلَاثَةِ ؛ فَإِنَّكُمْ إذَا عَنَيْتُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ حَاصِرًا . وَقَدْ بَقِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ الْمُلَازِمِ لَهُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَكَذَاكَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ الْمُلَازِمِ لَهُ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وُجُودُ الْآخَرِ وَمِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ . فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا سَمَّيْتُمُوهُ قِيَاسًا وَلَا اسْتِقْرَاءً وَلَا تَمْثِيلًا وَهَذِهِ هِيَ الْآيَاتُ . وَهَذَا كَالِاسْتِدْلَالِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى النَّهَارِ وَبِالنَّهَارِ عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَيْسَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِكُلِّيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ بَلْ الِاسْتِدْلَالُ بِطُلُوعِ مُعَيَّنٍ عَلَى نَهَارٍ مُعَيَّنٍ اسْتِدْلَالٌ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ وَبِجِنْسِ النَّهَارِ عَلَى جِنْسِ الطُّلُوعِ اسْتِدْلَالٌ بِكُلِّيٍّ عَلَى كُلِّيٍّ وَكَذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ - بِالْكَوَاكِبِ عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ اسْتِدْلَالٌ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْجَدْيِ وَبَنَاتِ نَعْشٍ وَالْكَوْكَبِ الصَّغِيرِ الْقَرِيبِ مِنْ الْقُطْبِ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ الْقُطْبَ وَكَذَلِكَ بِظُهُورِ كَوْكَبٍ عَلَى ظُهُورِ نَظِيرِهِ فِي الْعَرْضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِطُلُوعِهِ عَلَى غُرُوبِ آخَرَ وَتَوَسُّطِ آخَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا النَّاسُ . قَالَ تَعَالَى : { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } .
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ وَالْأَمْكِنَةِ بِالْأَمْكِنَةِ أَمْرٌ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَأَهْلُ الْمِلَلِ وَالْفَلَاسِفَةُ فَإِذَا اُسْتُدِلَّ بِظُهُورِ الثُّرَيَّا عَلَى ظُهُورِ مَا قَرُبَ مِنْهَا مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا وَيَمِينًا وَشِمَالًا مِنْ الْكَوَاكِبِ كَانَ اسْتِدْلَالًا بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ لِتَلَازُمِهِمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . فَإِنْ قُضِيَ بِهِ قَضَاءً كُلِّيًّا كَانَ اسْتِدْلَالًا بِكُلِّيٍّ عَلَى كُلِّيٍّ وَلَيْسَ اسْتِدْلَالًا بِكُلِّيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ بَلْ بِأَحَدِ الْكُلِّيَّيْنِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَمَنْ عَرَفَ مِقْدَارَ أَبْعَادِ الْكَوَاكِبِ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ وَعَلِمَ مَا يُقَارِنُ مِنْهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ اسْتَدَلَّ بِمَا رَآهُ مِنْهَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ . وَمَنْ عَلِمَ الْجِبَالَ وَالْأَنْهَارَ وَالرِّيَاحَ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَا يُلَازِمُهَا مِنْ الْأَمْكِنَةِ . ثُمَّ اللُّزُومُ إنْ كَانَ دَائِمًا لَا يُعْرَفُ لَهُ ابْتِدَاءٌ . بَلْ هُوَ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ : كَوُجُودِ الْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ الْعَظِيمَةِ : النِّيلِ وَالْفُرَاتِ وسيحان وجيحان وَالْبَحْرِ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ مُطَّرِدًا . وَإِنْ كَانَ اللُّزُومُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةً مِثْلَ الْكَعْبَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْخَلِيلَ بَنَاهَا وَلَمْ تَزَلْ مُعَظَّمَةً لَمْ يَعْلُ عَلَيْهَا جَبَّارٌ قَطُّ اسْتَدَلَّ بِهَا بِحَسَبِ ذَلِكَ فَيَسْتَدِلُّ بِهَا وَعَلَيْهَا فَإِنَّ أَرْكَانَ الْكَعْبَةِ مُقَابِلَةٌ لِجِهَاتِ الْأَرْضِ الْأَرْبَعِ : الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يُقَابِلُ الْمُشْرِقَ وَالْغَرْبِيُّ - الَّذِي يُقَابِلُهُ وَيُقَالُ لَهُ : الشَّامِيُّ - يُقَابِلُ الْمَغْرِبَ وَالْيَمَانِيُّ يُقَابِلُ الْجَنُوبَ وَمَا يُقَابِلُهُ يُقَالُ لَهُ الْعِرَاقِيُّ - إذَا قِيلَ
لِلَّذِي يَلِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَجَرِ الشَّامِيِّ وَإِنْ قِيلَ لِذَاكَ الشَّامِيُّ قِيلَ لِهَذَا الْعِرَاقِيُّ فَهَذَا الشَّامِيُّ الْعِرَاقِيُّ يُقَابِلُ الشَّمَالَ وَهُوَ يُقَابِلُ الْقُطْبَ وَحِينَئِذٍ فَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْجِهَاتِ وَيُسْتَدَلُّ بِالْجِهَاتِ عَلَيْهَا . وَمَا كَانَ مُدَّتُهُ أَقْصَرَ مِنْ مُدَّةِ الْكَعْبَةِ كَالْأَبْنِيَةِ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَشْجَارِ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا بِحَسَبِ ذَلِكَ . فَيُقَالُ عَلَامَةُ الدَّارِ الْفُلَانِيَّةِ أَنَّ عَلَى بَابِهَا شَجَرَةً مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ اسْتِدْلَالٌ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَكِلَاهُمَا مُعَيَّنٌ جُزْئِيٌّ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَلِهَذَا عَدَلَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَرِيقِهِمْ فَقَالُوا : الدَّلِيلُ هُوَ الْمُرْشِدُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ ؛ وَهُوَ مَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ مُسْتَلْزِمًا لِلْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ أَوْ مَا يَكُونُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيهِ مُوَصِّلًا إلَى عِلْمٍ أَوْ إلَى اعْتِقَادٍ رَاجِحٍ . وَلَهُمْ نِزَاعٌ اصْطِلَاحِيٌّ هَلْ يُسَمَّى هَذَا الثَّانِي دَلِيلًا أَوْ يُخَصُّ بِاسْمِ الْأَمَارَةِ وَالْجُمْهُورُ يُسَمُّونَ الْجَمِيعَ دَلِيلًا . وَمِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مَنْ لَا يُسَمِّي بِالدَّلِيلِ إلَّا الْأَوَّلَ . ثُمَّ الضَّابِطُ فِي الدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ فَكُلَّمَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ التَّلَازُمُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِكُلِّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَسْتَدِلُّ الْمُسْتَدِلُّ بِمَا عَلِمَهُ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْهُ . ثُمَّ إنْ كَانَ اللُّزُومُ قَطْعِيًّا كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا
- وَقَدْ يَتَخَلَّفُ - كَانَ الدَّلِيلُ ظَنِّيًّا . فَالْأَوَّلُ كَدَلَالَةِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى خَالِقِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَإِنَّ وُجُودَهَا مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ ذَلِكَ وَوُجُودَهَا بِدُونِ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَلَا تُوجَدُ إلَّا دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ وَمِثْلُ دَلَالَةِ خَبَرِ الرَّسُولِ عَلَى ثُبُوتِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ عَلَيْهِ إلَّا الْحَقَّ إذْ كَانَ مَعْصُومًا فِي خَبَرِهِ عَنْ اللَّهِ لَا يَسْتَقِرُّ فِي خَبَرِهِ عَنْهُ خَطَأٌ أَلْبَتَّةَ . فَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَلْزِمٌ لِمَدْلُولِهِ لُزُومًا وَاجِبًا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ بِحَالِ . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَلْزُومُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا فَقَدْ يَكُونُ الدَّلِيلُ وُجُودًا وَعَدَمًا وَيُسْتَدَلُّ بِكُلِّ مِنْهُمَا عَلَى وُجُودٍ وَعَدَمٍ فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ عَلَى انْتِفَاءِ نَقِيضِهِ وَضِدِّهِ وَيُسْتَدَلُّ بِانْتِفَاءِ نَقِيضِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَيُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الْمَلْزُومِ عَلَى ثُبُوتِ اللَّازِمِ وَبِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ . بَلْ كُلُّ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لِمَدْلُولِهِ . وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا كُلُّ مَا ذَكَرُوهُ وَمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ . فَإِنَّ مَا يُسَمُّونَهُ الشَّرْطِيَّ الْمُتَّصِلَ مَضْمُونُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ الْمَلْزُومِ عَلَى ثُبُوتِ اللَّازِمِ وَبِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ سَوَاءٌ عَبَّرَ عَنْ هَذَا بِصِيغَةِ الشَّرْطِ أَوْ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ ؛ فَاخْتِلَافُ صِيَغِ الدَّلِيلِ مَعَ اتِّحَادِ مَعْنَاهُ . لَا يُغَيِّرُ حَقِيقَتَهُ . وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ لَا فِي الْأَلْفَاظِ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً فَالْمُصَلِّي مُتَطَهِّرٌ وَإِنْ كَانَتْ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ عَالِمًا قَادِرًا فَهُوَ حَيٌّ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : صِحَّةُ الصَّلَاةِ تَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ وَقَوْلِهِ : يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ثُبُوتُ الطَّهَارَةِ . وَقَوْلِهِ : لَا يَكُونُ مُصَلِّيًا إلَّا مَعَ الطَّهَارَةِ . وَقَوْلِهِ : الطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ عُدِمَ الْمَشْرُوطُ . وَقَوْلِهِ : كُلُّ مُصَلٍّ مُتَطَهِّرٌ فَمَنْ لَيْسَ بِمُتَطَهِّرِ فَلَيْسَ بِمُصَلٍّ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْلِيفِ لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَضَمَّنُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنْ حَصْرِ النَّاسِ فِي عِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ . وَإِذَا اتَّسَعَتْ الْعُقُولُ وَتَصَوُّرَاتُهَا . اتَّسَعَتْ عِبَارَاتُهَا . وَإِذَا ضَاقَتْ الْعُقُولُ وَالْعِبَارَاتُ وَالتَّصَوُّرَاتُ بَقِيَ صَاحِبُهَا كَأَنَّهُ مَحْبُوسُ الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ كَمَا يُصِيبُ أَهْلَ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ : تَجِدُهُمْ مِنْ أَضْيَقِ النَّاسِ عِلْمًا وَبَيَانًا وَأَعْجَزِهِمْ تَصَوُّرًا وَتَعْبِيرًا . وَلِهَذَا مَنْ كَانَ ذَكِيًّا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْعُلُومِ وَسَلَكَ مَسْلَكَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ : طَوَّلَ وَضَيَّقَ وَتَكَلَّفَ وَتَعَسَّفَ وَغَايَتُهُ بَيَانُ الْبَيِّنِ وَإِيضَاحُ الْوَاضِحِ مِنْ الْعِيِّ وَقَدْ يُوقِعُهُ ذَلِكَ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ السَّفْسَطَةِ الَّتِي عَافَى اللَّهُ مِنْهَا مَنْ لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَهُمْ . وَكَذَلِكَ تَكَلُّفَاتُهُمْ فِي حُدُودِهِمْ : مِثْلَ حَدِّهِمْ لِلْإِنْسَانِ وَلِلشَّمْسِ بِأَنَّهَا كَوْكَبٌ يَطْلُعُ نَهَارًا وَهَلْ مَنْ يَجِدُ الشَّمْسَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِّ وَنَحْوَهُ إلَّا مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ . وَهَلْ عِنْدَ النَّاسِ شَيْءٌ أَظْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّمْسَ فَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ اللَّفْظَ فَيُتَرْجِمَ لَهُ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ رَآهَا لِعَمَاهُ فَهَذَا لَا يَرَى النَّهَارَ وَلَا الْكَوَاكِبَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى
مَعَ
أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ النَّاسِ مَا يُعَرِّفُ ذَلِكَ بِدُونِ
طَرِيقِهِمْ . وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ مِنْ
الْحَمْلِيَّاتِ يُغْنِي عَنْ جَمِيعِ صُوَرِ الْقِيَاسِ . وَتَصْوِيرُهُ
فِطْرِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّمِهِ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ
لَا يَحْتَاجُ إلَى تَصَوُّرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَزْعُمُونَهُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : الِاسْتِدْلَالُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ
بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ طَرْدًا وَعَكْسًا
وَذَلِكَ أَنَّ احْتِيَاجَ الْمُسْتَدِلِّ إلَى الْمُقَدِّمَاتِ مِمَّا يَخْتَلِفُ
فِيهِ حَالُ النَّاسِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَّا إلَى مُقَدِّمَةٍ
وَاحِدَةٍ لِعِلْمِهِ بِمَا سِوَى ذَلِكَ . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا
يَحْتَاجُ فِي عِلْمِهِ بِذَلِكَ إلَى اسْتِدْلَالٍ بَلْ قَدْ يَعْلَمُهُ
بِالضَّرُورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى أَرْبَعٍ وَأَكْثَرَ فَمَنْ
أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ هَذَا الْمُسْكِرَ الْمُعَيَّنَ مُحَرَّمٌ . فَإِنْ
كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ مُحَرَّمٌ وَلَكِنْ لَا يَعْرِفُ هَلْ هَذَا
الْمُسْكِرُ الْمُعَيَّنُ يُسْكِرُ أَمْ لَا لَمْ يَحْتَجْ إلَّا إلَى مُقَدِّمَةٍ
وَاحِدَةٍ . وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ فَإِذَا قِيلَ لَهُ هَذَا
حَرَامٌ فَقَالَ مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ : الدَّلِيلُ
عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ تَمَّ الْمَطْلُوبُ . وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَ
اثْنَانِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ : هَلْ هُوَ مُسْكِرٌ أَمْ لَا ؟
كَمَا يَسْأَلُ النَّاسُ كَثِيرًا عَنْ بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ وَلَا يَكُونُ السَّائِلُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُسْكِرُ أَوْ لَا تُسْكِرُ وَلَكِنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِخَبَرِ مَنْ يُصَدِّقُهُ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ عُلِمَ تَحْرِيمُهُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَقَعُ الشَّكُّ فِي انْدِرَاجِهِ تَحْتَ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ وَالْأَعْيَانِ مَعَ الْعِلْمِ بِحُكْمِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ كَتَنَازُعِ النَّاسِ فِي النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ : هَلْ هُمَا مِنْ الْمَيْسِرِ أَمْ لَا ؟ وَتَنَازُعِهِمْ فِي النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ الْخَمْرِ أَمْ لَا ؟ وَتَنَازُعِهِمْ فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } أَمْ لَا ؟ وَتَنَازُعِهِمْ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } هَلْ هُوَ الزَّوْجُ أَوْ الْوَلِيُّ الْمُسْتَقِلُّ ؟ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَقَدْ يَحْتَاجُ الِاسْتِدْلَالُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُحَرَّمٌ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ مُسْكِرٌ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ وَيَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ وَيَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْخَمْرَ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ لِنَشْأَتِهِ بَيْنَ جُهَّالٍ أَوْ زَنَادِقَةٍ يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ . أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا خَمْرٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْخَمْرَ ؛ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُ أَبَاحَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ فَظَنَّ أَنَّهُ مِنْهُمْ كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَبَاحَ شُرْبَهَا لِلتَّدَاوِي أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذَا لَا يَكْفِيهِ فِي الْعِلْمِ
بِتَحْرِيمِ
هَذَا النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ تَحْرِيمًا عَامًّا إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ
مُسْكِرٌ وَأَنَّهُ خَمْرٌ . وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ . وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَمَا
حَرَّمَهُ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَأَنَّهُ حَرَّمَهُ تَحْرِيمًا عَامًّا لَمْ
يُبِحْهُ لِلتَّدَاوِي أَوْ لِلتَّلَذُّذِ .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ تَخْصِيصَ الِاسْتِدْلَالِ بِمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلٌ
أَنَّهُمْ قَالُوا فِي حَدِّ الْقِيَاسِ الَّذِي يَشْمَلُ الْبُرْهَانِيَّ
وَالْخَطَابِيّ وَالْجَدَلِيَّ وَالشِّعْرِيَّ والسوفسطائي : إنَّهُ قَوْلٌ
مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ أَوْ عِبَارَةٌ عَمَّا أُلِّفَ مِنْ أَقْوَالٍ إذَا
سَلِمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ . قَالُوا : وَاحْتَرَزْنَا
بِقَوْلِنَا : مِنْ أَقْوَالٍ عَنْ الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي
تَسْتَلْزِمُ لِذَاتِهَا صِدْقَ عَكْسِهَا وَعَكْسِ نَقِيضِهَا وَكَذِبَ نَقِضْهَا
وَلَيْسَتْ قِيَاسًا . قَالُوا : وَلَمْ نَقُلْ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ
لِأَنَّا لَا يُمْكِنُنَا تَعْرِيفُ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُقَدِّمَةٌ
إلَّا بِكَوْنِهَا جُزْءَ الْقِيَاسِ فَلَوْ أَخَذْنَاهَا فِي حَدِّ الْقِيَاسِ
كَانَ دَوْرًا . وَالْقَضِيَّةُ الْخَبَرِيَّةُ إذَا كَانَتْ جُزْءَ الْقِيَاسِ
سَمَّوْهَا مُقَدِّمَةً وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَفَادَةً بِالْقِيَاسِ سَمَّوْهَا
نَتِيجَةً وَإِنْ كَانَتْ مُجَرَّدَةً عَنْ ذَلِكَ سَمَّوْهَا قَضِيَّةً
وَتُسَمَّى أَيْضًا قَضِيَّةٌ مَعَ تَسْمِيَتِهَا نَتِيجَةً وَمُقَدِّمَةً .
وَهِيَ الْخَبَرُ وَلَيْسَتْ هِيَ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ فِي اصْطِلَاحِ
النُّحَاةِ . بَلْ أَعَمُّ مِنْهُ . فَإِنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ لَا
يَكُونُ إلَّا جُمْلَةً اسْمِيَّةً وَالْقَضِيَّةُ تَكُونُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً
وَفِعْلِيَّةً كَمَا لَوْ قِيلَ قَدْ كَذَبَ زَيْدٌ وَمَنْ كَذَبَ اسْتَحَقَّ
التَّعْزِيرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْقَوْلِ - فِي
قَوْلِهِمْ الْقِيَاسُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ - الْقَضِيَّةُ الَّتِي
هِيَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ خَبَرِيَّةٌ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الْمُفْرَدَ الَّذِي
هُوَ
الْحَدُّ فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ حُدُودٍ : أَصْغَرُ وَأَوْسَطُ وَأَكْبَرُ كَمَا إذَا قِيلَ : النَّبِيذُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَالنَّبِيذُ وَالْمُسْكِرُ وَالْحَرَامُ كُلٌّ مِنْهَا مُفْرَدٌ وَهِيَ الْحُدُودُ فِي الْقِيَاسِ . فَلَيْسَ مُرَادُهُمْ بِالْقَوْلِ هَذَا بَلْ مُرَادُهُمْ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ قَوْلٌ ؛ كَمَا فَسَّرُوا مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالُوا : الْقِيَاسُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ ؛ إذَا سَلِمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ . وَاللَّازِمُ إنَّمَا هِيَ النَّتِيجَةُ وَهِيَ قَضِيَّةٌ وَخَبَرٌ وَجُمْلَةٌ تَامَّةٌ وَلَيْسَتْ مُفْرَدًا . وَلِذَلِكَ قَالُوا : الْقِيَاسُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ ؛ فَسَمَّوْا مَجْمُوعَ الْقَضِيَّتَيْنِ قَوْلًا . وَإِذَا كَانُوا قَدْ جَعَلُوا الْقِيَاسَ مُؤَلَّفًا مِنْ أَقْوَالٍ وَهِيَ الْقَضَايَا لَمْ يَجِبْ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلَانِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا كَقَوْلِهِ : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّلَاثَةُ فَصَاعِدًا وَهُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَلَكِنْ قَدْ يُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْعَدَدِ فَيَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَلَا يَكُونُ الْجَمْعُ مُخْتَصًّا بِاثْنَيْنِ . فَإِذَا قَالُوا : هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ إنْ أَرَادُوا جِنْسَ الْعَدَدِ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَلَّفًا مِنْ ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ وَأَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِالِاثْنَيْنِ . وَإِنْ أَرَادُوا الْجَمْعَ الْحَقِيقِيَّ . لَمْ يَكُنْ مُؤَلَّفًا إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ فَصَاعِدًا وَهُمْ قَطْعًا مَا أَرَادُوا هَذَا . فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْأَوَّلُ . فَإِذَا قِيلَ : هُمْ يَلْتَزِمُونَ ذَلِكَ . وَيَقُولُونَ : نَحْنُ نَقُولُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ الْقِيَاسُ
مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ . وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ . فَيُقَالُ : هَذَا خِلَافُ مَا فِي كُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَلْتَزِمُونَ إلَّا مُقَدِّمَتَيْنِ فَقَطْ . وَقَدْ صَرَّحُوا أَنَّ الْقِيَاسَ الْمُوَصِّلَ إلَى الْمَطْلُوبِ سَوَاءٌ كَانَ اقْتِرَانِيًّا أَوْ اسْتِثْنَائِيًّا لَا يَنْقُصُ عَنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمُتَّحِدَ لَا يَزِيدُ عَلَى جُزْأَيْنِ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ . فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ اقْتِرَانِيًّا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْ الْمَطْلُوبِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُنَاسِبَ مُقَدِّمَةً مِنْهُ : أَيْ يَكُونُ فِيهَا إمَّا مُبْتَدَأً وَإِمَّا خَبَرًا وَلَا يَكُونُ هُوَ نَفْسَ الْمُقَدِّمَةِ . قَالُوا : وَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ أَكْثَرُ مِنْ جُزْأَيْنِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ . وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ اسْتِثْنَائِيًّا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَةٍ شَرْطِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ أَوْ مُنْفَصِلَةٍ تَكُونُ مُنَاسِبَةً لِكُلِّ الْمَطْلُوبِ أَوْ نَقِيضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّمَةٍ اسْتِثْنَائِيَّةٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى ثَالِثَةٍ . قَالُوا : لَكِنْ رُبَّمَا أُدْرِجَ فِي الْقِيَاسِ قَوْلٌ زَائِدٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْ الْقِيَاسِ إمَّا غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْقِيَاسِ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْقِيَاسِ إمَّا لِتَرْوِيجِ الْكَلَامِ وَتَحْسِينِهِ أَوْ لِبَيَانِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا . وَيُسَمُّونَ هَذَا الْقِيَاسَ الْمُرَكَّبَ . قَالُوا : وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَقْيِسَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ سِيقَتْ لِبَيَانِ مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ ؛ إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ الْمُبَيِّنَ لِلْمَطْلُوبِ بِالذَّاتِ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا وَالْبَاقِي
لِبَيَانِ مُقَدِّمَاتِ الْقِيَاسِ . قَالُوا : رُبَّمَا حَذَفُوا بَعْضَ مُقْدِمَاتِ الْقِيَاسِ إمَّا تَعْوِيلًا عَلَى فَهْمِ الذِّهْنِ لَهَا أَوْ لِتَرْوِيجِ الْمُغَلِّطَةِ حَتَّى لَا يَطَّلِعَ عَلَى كَذِبِهَا عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِهَا . قَالُوا : ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْأَقْيِسَةُ لِبَيَانِ الْمُقَدِّمَاتِ قَدْ صُرِّحَ فِيهَا بِنَتَائِجِهَا فَيُسَمَّى الْقِيَاسُ مَفْصُولًا وَإِلَّا فَمَوْصُولٌ . وَمَثَّلُوا الْمَوْصُولَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ : كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ وَكُلُّ جِسْمٍ جَوْهَرٌ . فَكُلُّ إنْسَانٍ جَوْهَرٌ . وَالْمَفْصُولُ بِقَوْلِهِمْ : كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ فَكُلُّ إنْسَانٍ جِسْمٌ ثُمَّ يَقُولُ كُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ وَكُلُّ جِسْمٍ جَوْهَرٌ فَكُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ فَيَلْزَمُ مِنْهُمَا أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ جَوْهَرٌ . فَيُقَالُ لَهُمْ : أَمَّا الْمَطْلُوبُ الَّذِي لَا يَزِيدُ عَلَى جُزْأَيْنِ فَذَاكَ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ . وَالْمَطْلُوبُ فِي الْعَقْلِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا اثْنَانِ وَهُوَ ثُبُوتُ النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ أَوْ انْتِفَاؤُهَا . وَإِنْ شِئْت قُلْت : اتِّصَافُ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا وَإِنْ شِئْت قُلْت : نِسْبَةُ الْمَحْمُولِ إلَى الْمَوْضُوعِ وَالْخَبَرِ إلَى الْمُبْتَدَأِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الْمَقْصُودِ بِالْقَضِيَّةِ . فَإِذَا كَانَتْ النَّتِيجَةُ أَنَّ النَّبِيذَ حَرَامٌ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامِ ؛ أَوْ الْإِنْسَانَ حَسَّاسٌ أَوْ لَيْسَ بِحَسَّاسِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَالْمَطْلُوبُ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ لِلنَّبِيذِ أَوْ انْتِفَاؤُهُ وَكَذَلِكَ ثُبُوتُ الْحِسِّ لِلْإِنْسَانِ أَوْ انْتِفَاؤُهُ . وَالْمُقَدِّمَةُ الْوَاحِدَةُ إذَا نَاسَبَتْ ذَلِكَ
الْمَطْلُوبَ حَصَلَ بِهَا الْمَقْصُودُ . وَقَوْلُنَا النَّبِيذُ خَمْرٌ يُنَاسِبُ الْمَطْلُوبَ وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ . فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ وَلَكِنْ يَشُكُّ فِي النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هَلْ يُسَمَّى فِي لُغَةِ الشَّارِعِ خَمْرًا ؟ فَقِيلَ النَّبِيذُ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } كَانَتْ الْقَضِيَّةُ وَهِيَ قَوْلُنَا : قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } يُفِيدُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ ؛ وَإِنْ كَانَ نَفْسُ قَوْلِهِ قَدْ تَضَمَّنَ قَضِيَّةً أُخْرَى . وَالِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَاتٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْمُسْتَمِعِ وَهِيَ أَنَّ مَا صَحَّحَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فَقَدْ وَجَبَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ وَأَنَّ مَا حَرَّمَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَلَوْ لَزِمَ أَنْ نَذْكُرَ كُلَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا كَانَتْ الْمُقَدِّمَاتُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ ؛ بَلْ قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرٍ . وَعَلَى مَا قَالُوهُ فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ : النَّبِيُّ حَرَّمَ ذَلِكَ وَمَا حَرَّمَهُ فَهُوَ حَرَامٌ . فَهَذَا حَرَامٌ وَكَذَلِكَ : يَقُولُ النَّبِيُّ أَوْجَبَهُ وَمَا أَوْجَبَهُ النَّبِيُّ فَقَدْ وَجَبَ فَإِذَا احْتَجَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَهُوَ حَرَامٌ . وَإِذَا احْتَجَّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ بِمِثْلِ قَوْلِ اللَّهِ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْحَجَّ فِي
كِتَابِهِ
وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا
يَعْتَبِرُهُ الْعُقَلَاءُ لُكْنَةً وَعِيًّا وَإِيضَاحًا لِلْوَاضِحِ وَزِيَادَةَ
قَوْلٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا . وَهَذَا التَّطْوِيلُ الَّذِي لَا يُفِيدُ فِي
قِيَاسِهِمْ نَظِيرُ تَطْوِيلِهِمْ فِي حُدُودِهِمْ : كَقَوْلِهِمْ فِي حَدِّ
الشَّمْسِ : إنَّهَا كَوْكَبٌ تَطْلُعُ نَهَارًا . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ
الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا تَضْيِيعَ الزَّمَانِ وَإِتْعَابَ الْأَذْهَانِ
وَكَثْرَةَ الْهَذَيَانِ . ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُمْ فِي حُدُودِهِمْ
وَبَرَاهِينِهِمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي تَحْدِيدِ الْأُمُورِ
الْمَعْرُوفَةِ بِدُونِ تَحْدِيدِهِمْ وَيَتَنَازَعُونَ فِي الْبُرْهَانِ عَلَى
أُمُورٍ مُسْتَغْنِيَةٍ عَنْ بَرَاهِينِهِمْ .
وَقَوْلُهُمْ : لَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ أَكْثَرُ مِنْ جُزْأَيْنِ . فَلَا يَفْتَقِرُ
إلَى أَكْثَرَ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ فَيُقَالُ : إنْ أَرَدْتُمْ لَيْسَ لَهُ إلَّا
اسْمَانِ مُفْرَدَانِ ؛ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ
التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِأَسْمَاءِ مُتَعَدِّدَةٍ مِثْلَ مَنْ شَكَّ فِي النَّبِيذِ
هَلْ هُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ أَمْ لَيْسَ حَرَامًا لَا بِنَصِّ وَلَا قِيَاسٍ .
فَإِذَا قَالَ الْمُجِيبُ ؛ النَّبِيذُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ كَانَ الْمَطْلُوبُ
ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ . وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَ هَلْ الْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ
قَطْعِيٌّ ؟ فَقَالَ : الْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ كَانَ الْمَطْلُوبُ
ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ . وَإِذَا قَالَ : هَلْ الْإِنْسَانُ جِسْمٌ حَسَّاسٌ نَامٍ
مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ نَاطِقٌ أَمْ لَا ؟ فَالْمَطْلُوبُ هُنَا سِتَّةُ
أَجْزَاءٍ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْمَوْضُوعُ وَالْمَحْمُولُ الَّذِي هُوَ
مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَهُوَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ قَدْ تَكُونُ جُمْلَةً
مُرَكَّبَةً مِنْ لَفْظَيْنِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ إذَا
كَانَ
مَضْمُونُهَا مُقَيَّدًا بِقُيُودٍ كَثِيرَةٍ . مِثْلَ قَوْله تَعَالَى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْقُيُودِ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ الصِّفَاتِ وَالْعَطْفَ وَالْأَحْوَالَ وَظَرْفَ الْمَكَانِ وَظَرْفَ الزَّمَانِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَتْ الْقَضِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِقُيُودِ كَثِيرَةٍ لَمْ تَكُنْ مُؤَلَّفَةً مِنْ لَفْظَيْنِ بَلْ مِنْ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَيْسَ إلَّا مَعْنَيَانِ سَوَاءٌ عَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظَيْنِ أَوْ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ قِيلَ : وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . بَلْ قَدْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ مَعْنًى وَاحِدًا وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَيَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةً فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ بِحَسَبِ طَلَبِ الطَّالِبِ وَهُوَ النَّاظِرُ الْمُسْتَدِلُّ وَالسَّائِلُ الْمُتَعَلِّمُ الْمُنَاظِرُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يَطْلُبُ مَعْنًى وَاحِدًا وَقَدْ يَطْلُبُ مَعْنَيَيْنِ وَقَدْ يَطْلُبُ مَعَانِيَ وَالْعِبَارَةُ عَنْ مَطْلُوبِهِ قَدْ تَكُونُ بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظَيْنِ وَقَدْ تَكُونُ بِأَكْثَرَ . فَإِذَا قَالَ : النَّبِيذُ حَرَامٌ فَقِيلَ : لَهُ نَعَمْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي جَوَابِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ : هُوَ حَرَامٌ . فَإِنْ قَالُوا : الْقَضِيَّةُ الْوَاحِدَةُ قَدْ تَكُونُ فِي تَقْدِيرِ قَضَايَا كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ التَّمْثِيلِ بِالْإِنْسَانِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الْوَاحِدَةَ فِي تَقْدِيرِ خَمْسِ قَضَايَا وَهِيَ خَمْسُ مَطَالِبَ وَالتَّقْدِيرُ : هَلْ هُوَ جِسْمٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ حَسَّاسٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
هُوَ نَامٍ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ مُتَحَرِّكٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ نَاطِقٌ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ هَلْ النَّبِيذُ حَرَامٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ حَرَامًا فَهَلْ تَحْرِيمُهُ بِالنَّصِّ أَوْ بِالْقِيَاسِ ؟ فَيُقَالُ : إذَا رَضِيتُمْ بِمِثْلِ هَذَا وَهُوَ أَنْ تَجْعَلُوا الْوَاحِدَ فِي تَقْدِيرِ عَدَدٍ فَالْمُفْرَدُ قَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى قَضِيَّةٍ فَإِذَا قَالَ : النَّبِيذُ الْمُسْكِرُ حَرَامٌ فَقَالَ الْمُجِيبُ : نَعَمْ ؛ فَلَفْظُ نَعَمْ فِي تَقْدِيرِ قَوْلِهِ : هُوَ حَرَامٌ : وَإِنْ قَالَ : مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ : تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ أَوْ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الَّتِي جُعِلَ الدَّلِيلُ فِيهَا اسْمًا مُفْرَدًا وَهُوَ جُزْءٌ وَاحِدٌ لَمْ يَجْعَلْهُ قَضِيَّةً مُؤَلَّفَةً مِنْ اسْمَيْنِ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ اسْمٌ مُضَافٌ . وَقَوْلَهُ : إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ بِالْفَتْحِ مُفْرَدٌ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ أَنَّ وَمَا فِي خَبَرِهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ الْمُفْرَدِ وَإِنَّ الْمَكْسُورَةَ وَمَا فِي خَبَرِهَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ . وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ النَّصُّ أَوْ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَوْ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْفُلَانِيَّةُ أَوْ الْحَدِيثُ الْفُلَانِيُّ ؛ أَوْ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِيَامُ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ أَوْ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِخَمْرِ الْعِنَبِ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِيمَا يُعَبَّرُ فِيهِ عَنْ الدَّلِيلِ بَاسِمٍ مُفْرَدٍ لَا بِالْقَضِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ . ثُمَّ هَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ مُفْرَدٍ هُوَ إذَا فُصِلَ عُبِّرَ عَنْهُ بِأَلْفَاظِ مُتَعَدِّدَةٍ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَكُمْ : إنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ لَا يَكُونُ إلَّا جُزْأَيْنِ فَقَطْ ؛ إنْ أَرَدْتُمْ لَفْظَيْنِ فَقَطْ وَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى لَفْظَيْنِ فَهُوَ أَدِلَّةٌ لَا دَلِيلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ الْمَوْصُوفَ بِصِفَاتِ تَحْتَاجُ كُلُّ صِفَةٍ إلَى دَلِيلٍ . قِيلَ لَكُمْ : وَكَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي اللَّفْظَيْنِ : هُمَا دَلِيلَانِ لَا دَلِيلٌ وَاحِدٌ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُقَدِّمَةٍ تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُ الْعَدَدِ بِاثْنَيْنِ دُونَ مَا زَادَ تَحَكُّمٌ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ قَدْ يَحْصُلُ بِلَفْظِ مُفْرَدٍ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِثَلَاثَةٍ أَوْ بِأَرْبَعَةٍ وَأَكْثَرَ فَجَعْلُ الْجَاعِلِ اللَّفْظَيْنِ هُمَا الْأَصْلَ الْوَاجِبَ دُونَ مَا زَادَ وَمَا نَقَصَ وَأَنَّ الزَّائِدَ إنْ كَانَ فِي الْمَطْلُوبِ جُعِلَ مَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةً وَإِنْ كَانَ فِي الدَّلِيلِ تُذْكَرُ مُقَدِّمَاتُ جَعْلِ ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ أَقْيِسَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُقَالَ : بَلْ الْأَصْلُ فِي الْمَطْلُوبِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَدَلِيلَهُ جُزْءًا وَاحِدًا فَإِذَا زَادَ الْمَطْلُوبُ عَلَى ذَلِكَ جَعَلَ مَطْلُوبَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً بِحَسَبِ دَلَالَتِهِ وَهَذَا إذَا قِيلَ فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّلِيلِ مُفْرَدٌ فَيُجْعَلُ مَعْنَاهُ مُفْرَدًا وَالْقِيَاسُ هُوَ الدَّلِيلَ . وَلَفْظُ " الْقِيَاسِ " يَقْتَضِي التَّقْدِيرَ كَمَا يُقَالُ قِسْت هَذَا بِهَذَا وَالتَّقْدِيرُ يَحْصُلُ بِوَاحِدِ ؛ وَإِذَا قُدِّرَ بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ يَكُونُ تَقْدِيرَيْنِ وَثَلَاثَةً لَا تَقْدِيرًا وَاحِدًا فَتَكُونُ تِلْكَ التَّقْدِيرَاتُ أَقْيِسَةً لَا قِيَاسًا وَاحِدًا فَجَعْلُهُمْ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَيْنِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ فِي مَعْنَى أَقْيِسَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَا نَقَصَ عَنْ الِاثْنَيْنِ نِصْفَ
قِيَاسٍ
لَا قِيَاسٌ تَامٌّ ؛ اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ لَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى مَعْقُولٍ
كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ اللَّازِمَةِ
لِلْمَاهِيَّةِ وَالْوُجُودِ بِمِثْلِ هَذَا التَّحَكُّمِ . وَحِينَئِذٍ
فَيُعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَرْجِعُوا فِيمَا سَمَّوْهُ حَدًّا وَبُرْهَانًا
إلَى حَقِيقَةٍ مَوْجُودَةٍ وَلَا أَمْرٍ مَعْقُولٍ بَلْ إلَى اصْطِلَاحٍ
مُجَرَّدٍ كَتَنَازُعِ النَّاسِ فِي " الْعِلَّةِ " هَلْ هِيَ اسْمٌ
لِمَا يَسْتَلْزِمُ الْمَعْلُولَ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا بِحَالِ فَلَا
يَقْبَلُ النَّقِيضَ وَالتَّخْصِيصَ أَوْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا
لِلْمَعْلُولِ ؛ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْمَعْلُولُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ
وُجُودِ مَانِعٍ وَكَاصْطِلَاحِ بَعْضِ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْجَدَلِ فِي
تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمْ " الدَّلِيلَ " لِمَا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ
لِلْمَدْلُولِ مُطْلَقًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ عَدَمُ الْمُعَارِضِ
وَالْآخَرُ يُسَمِّي الدَّلِيلَ لِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْتَلْزِمَ
الْمَدْلُولَ وَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ اسْتِلْزَامُهُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ
وُجُودِ مَانِعٍ .
وَتَنَازَعَ أَهْلُ الْجَدَلِ هَلْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي
ذِكْرِ الدَّلِيلِ لِتَبْيِينِ الْمُعَارِضِ جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا حَيْثُ
يُمْكِنُ التَّفْصِيلُ أَوْ لَا يَتَعَرَّضُ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا أَوْ
يَتَعَرَّضُ لِتَبْيِينِهِ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا . وَهَذِهِ أُمُورٌ وَضْعِيَّةٌ
اصْطِلَاحِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَصْطَلِحُ عَلَيْهَا النَّاسُ
لِلتَّعْبِيرِ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ لَيْسَتْ حَقَائِقَ ثَابِتَةً فِي
أَنْفُسِهَا لِأُمُورِ مَعْقُولَةٍ تَتَّفِقُ فِيهَا الْأُمَمُ كَمَا يَدَّعِيهِ
هَؤُلَاءِ فِي مَنْطِقِهِمْ . بَلْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْعِلَّةَ
وَالدَّلِيلَ يُرَادُ بِهِ هَذَا أَوْ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ
جَعْلِ هَؤُلَاءِ الدَّلِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ فَإِنَّ
هَذَا تَخْصِيصٌ لِعَدَدِ دُونَ عَدَدٍ بِلَا مُوجِبٍ وَأُولَئِكَ
لَحَظُوا صِفَاتٍ ثَابِتَةً فِي الْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ . وَهُوَ وَصْفُ التَّمَامِ أَوْ مُجَرَّدُ الِاقْتِضَاءِ فَكَانَ مَا اعْتَبَرَهُ أُولَئِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَالْعَقْلِ مِمَّا اعْتَبَرَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَرْجِعُوا إلَّا إلَى مُجَرَّدِ التَّحَكُّمِ . وَلِهَذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ الْعَارِفُونَ يَصِفُونَ مَنْطِقَهُمْ بِأَنَّهُ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَضَعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْيُونَانِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعُقَلَاءُ ؛ وَلَا طَلَبُ الْعُقَلَاءِ لِلْعِلْمِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ كَمَا لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى التَّعْبِيرِ بِلُغَاتِهِمْ مِثْلَ : فيلاسوفيا ؛ وسوفسطيقا وأنولوطيقا وأثولوجيا وقاطيغورياس وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ لُغَاتِهِمْ الَّتِي يُعَبِّرُونَ بِهَا عَنْ مَعَانِيهِمْ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ سَائِرَ الْعُقَلَاءِ مُحْتَاجُونَ إلَى هَذِهِ اللُّغَةِ . لَا سِيَّمَا مَنْ كَرَّمَهُ اللَّهُ بِأَشْرَفِ اللُّغَاتِ الْجَامِعَةِ لِأَكْمَلِ مَرَاتِبِ الْبَيَانِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا تَتَصَوَّرُهُ الْأَذْهَانُ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَكْمَلِ تَعْرِيفٍ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ السيرافي فِي مُنَاظَرَتِهِ الْمَشْهُورَةِ " لمتى " الْفَيْلَسُوفِ ؛ لَمَّا أَخَذَ " متى " يَمْدَحُ الْمَنْطِقَ وَيَزْعُمُ احْتِيَاجَ الْعُقَلَاءِ إلَيْهِ . وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَأَنَّ الْحَاجَةَ إنَّمَا تَدْعُو إلَى تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى اصْطِلَاحٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ اللُّغَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ الْمَعَانِي فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّعَلُّمِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَلَيْهَا فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ بِخِلَافِ الْمَنْطِقِ .
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّ تَعَلُّمَ الْمَنْطِقِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ أَوْ إنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ بِالشَّرْعِ وَجَهْلِهِ بِفَائِدَةِ الْمَنْطِقِ . وَفَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . فَإِنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَرَفُوا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَيُكْمِلُ عِلْمَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ الْمَنْطِقُ الْيُونَانِيُّ . فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يُوثَقُ بِالْعِلْمِ إنْ لَمْ يُوزَنْ بِهِ أَوْ يُقَالُ إنَّ فِطَرَ بَنِي آدَمَ فِي الْغَالِبِ لَمْ تَسْتَقِمْ إلَّا بِهِ فَإِنْ قَالُوا : نَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ بَلْ إلَى الْمَعَانِي الَّتِي تُوزَنُ بِهَا الْعُلُومُ . قِيلَ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْمَعْلُومَاتِ ؛ وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يَزِنُوا مَا جَهِلُوهُ بِمَا عَلِمُوهُ وَهَذَا مِنْ الْمَوَازِينِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ حَيْثُ قَالَ : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } وَقَالَ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } . وَهَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَ أُمَّتِنَا وَغَيْرِ أُمَّتِنَا ؛ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ قَطُّ بِمَنْطِقِ الْيُونَانِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْأُمَمَ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى الْمَعَانِي الْمَنْطِقِيَّةِ الَّتِي عَبَّرُوا عَنْهَا بِلِسَانِهِمْ ؛ وَهُوَ كَلَامُهُمْ فِي الْمَعْقُولَاتِ الثَّانِيَةِ ؛ فَإِنَّ " مَوْضُوعَ الْمَنْطِقِ " هُوَ الْمَعْقُولَاتُ مِنْ حَيْثُ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى عِلْمِ مَا لَمْ يُعْلَمْ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ - الْمَعْقُولَاتِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ النِّسَبُ الثَّانِيَةُ لِلْمَاهِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقَةٌ عَرَضَ لَهَا إنْ كَانَتْ مُوصِلَةً إلَى تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ بِحَاصِلِ أَوْ مُعِينَةً فِي ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهٍ جُزْئِيٍّ بَلْ عَلَى قَانُونٍ كُلِّيٍّ وَيَدَّعُونَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْطِقِ يَنْظُرُ فِي جِنْسِ الدَّلِيلِ ؛ كَمَا
أَنَّ صَاحِبَ أُصُولِ الْفِقْهِ يَنْظُرُ فِي الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَمَرْتَبَتِهِ فَيُمَيِّزُ مَا هُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَمَا لَيْسَ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ . وَيَنْظُرُ فِي مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ حَتَّى يُقَدِّمَ الرَّاجِحَ عَلَى الْمَرْجُوحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ ؛ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْطِقِ يَنْظُرُ فِي الدَّلِيلِ الْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ الشَّرْعِيِّ ؛ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَا هُوَ دَلِيلٌ وَمَا لَيْسَ بِدَلِيلِ ؛ وَيَدَّعُونَ أَنَّ نِسْبَةَ مَنْطِقِهِمْ إلَى الْمَعَانِي ؛ كَنِسْبَةِ الْعَرُوضِ إلَى الشِّعْرِ وَمَوَازِينِ الْأَمْوَالِ إلَى الْأَمْوَالِ ؛ وَمَوَازِينِ الْأَوْقَاتِ إلَى الْأَوْقَاتِ ؛ وَكَنِسْبَةِ الذِّرَاعِ إلَى الْمَذْرُوعَاتِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ مَنْطِقَهُمْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَغَيْرِ الدَّلِيلِ ؛ لَا فِي صُورَةِ الدَّلِيلِ وَلَا فِي مَادَّتِهِ ؛ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ تُوزَنَ بِهِ الْمَعَانِي ؛ بَلْ وَلَا يَصِحُّ وَزْنُ الْمَعَانِي بِهِ ؛ بَلْ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ أَكْذَبِ الدَّعَاوَى . وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَعَانِي الَّتِي وَضَعُوهَا فِي الْمَنْطِقِ وَزَعَمُوا أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْمَطْلُوبَةَ لَا تُنَالُ إلَّا بِهَا . وَالتَّصْدِيقَاتُ الْمَطْلُوبَةُ لَا تُنَالُ إلَّا بِهَا . فَذَكَرُوا لِمَنْطِقِهِمْ " أَرْبَعَ دَعَاوَى " : دَعْوَتَانِ سَالِبَتَانِ وَدَعْوَتَانِ مُوجَبَتَانِ . ادَّعَوْا أَنَّهُ لَا تُنَالُ التَّصَوُّرَاتُ بِغَيْرِ مَا ذَكَرُوهُ فِيهِ مِنْ الطَّرِيقِ وَأَنَّ التَّصْدِيقَاتِ لَا تُنَالُ بِغَيْرِ مَا ذَكَرُوهُ فِيهِ مِنْ الطَّرِيقِ وَهَاتَانِ الدَّعْوَتَانِ مِنْ أَظْهَرِ الدَّعَاوَى كَذِبًا وَادَّعَوْا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِهِ تَصَوُّرُ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مُتَصَوِّرَةً وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذِهِ الدَّعَاوَى الثَّلَاثَةِ وَسَيَأْتِي
الْكَلَامُ
عَلَى دَعْوَاهُمْ الرَّابِعَةِ الَّتِي هِيَ أَمْثَلُ مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ
دَعْوَاهُمْ أَنَّ بُرْهَانَهُمْ يُفِيدُ الْعِلْمَ التصديقي . وَإِنْ قَالُوا :
إنَّ الْعِلْمَ التصديقي أَوْ التصوري أَيْضًا لَا يُنَالُ بِدُونِهِ . فَهُمْ
ادَّعَوْا أَنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ عَلَى عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مَسْدُودَةٌ إلَّا
مِنْ الطَّرِيقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرُوهُمَا مِنْ الْحَدِّ وَمَا ذَكَرُوهُ
مِنْ الْقِيَاسِ . وَادَّعَوْا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الطَّرِيقَتَيْنِ
تُوصِلَانِ إلَى الْعُلُومِ الَّتِي يَنَالُهَا بَنُو آدَمَ بِعُقُولِهِمْ
بِمَعْنَى أَنَّ مَا يُوصِلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي
ذَكَرُوهُ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَمَا ذَكَرُوهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ بِهَا تُوزَنُ
الطُّرُقُ الْعِلْمِيَّةُ وَيُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ الطَّرِيقِ الصَّحِيحَةِ
وَالْفَاسِدَةِ . فَمُرَاعَاةُ هَذَا الْقَانُونِ تَعْصِمُ الذِّهْنَ أَنْ يَزِلَّ
فِي الْفِكْرِ الَّذِي يُنَالُ بِهِ تَصَوُّرٌ أَوْ تَصْدِيقٌ . هَذَا مُلَخَّصُ
مَا قَالُوهُ . وَكُلُّ هَذِهِ الدَّعَاوَى كَذِبٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ :
فَلَا مَا نَفَوْهُ مِنْ طُرُقِ غَيْرِهِمْ كُلُّهَا بَاطِلٌ وَلَا مَا
أَثْبَتُوهُ مِنْ طُرُقِهِمْ كُلِّهَا حَقٌّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَوْا
فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي طُرُقِهِمْ مَا هُوَ حَقٌّ كَمَا أَنَّ فِي طُرُقِ
غَيْرِهِمْ مَا هُوَ بَاطِلٌ فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ
يُصَنِّفُ كَلَامًا إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ مَا هُوَ حَقٌّ .
فَمَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْحَقِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجْمُوعِ مَا
مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا مَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ بَلْ وَمَعَ
الْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ مِنْ الْعَرَبِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْحَقِّ
أَكْثَرُ مِمَّا مَعَ
هَؤُلَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا مَعَهُمْ فِي مَجْمُوعِ فَلْسَفَتِهِمْ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ لِلْأَخْلَاقِ وَالْمَنَازِلِ وَالْمَدَائِنِ . وَلِهَذَا كَانَ الْيُونَانُ مُشْرِكِينَ كُفَّارًا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ شَرًّا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ بِكَثِيرِ وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِ دِينِ الْمَسِيحِ إلَيْهِمْ فَحَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْهُدَى وَالتَّوْحِيدِ مَا اسْتَفَادُوهُ مِنْ دِينِ الْمَسِيحِ مَا دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِشَرِيعَتِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَكَانُوا مِنْ جِنْسِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . ثُمَّ لَمَّا غُيِّرَتْ مِلَّةُ الْمَسِيحِ صَارُوا فِي دِينٍ مُرَكَّبٍ مِنْ حَنِيفِيَّةٍ وَشِرْكٍ : بَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُهُمْ . وَكَلَامُنَا هُنَا فِي " بَيَانِ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ " الَّذِينَ يَبْنُونَ ضَلَالَهُمْ بِضَلَالِ غَيْرِهِمْ فَيَتَعَلَّقُونَ بِالْكَذِبِ فِي الْمَنْقُولَاتِ وَبِالْجَهْلِ فِي الْمَعْقُولَاتِ كَقَوْلِهِمْ : إنَّ أَرِسْطُو وَزِيرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ وَزِيرَ الْإِسْكَنْدَرِ وَذُو الْقَرْنَيْنِ يُقَالُ لَهُ الْإِسْكَنْدَرُ . وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْإِسْكَنْدَرَ الَّذِي وُزِرَ لَهُ أَرِسْطُو هُوَ ابْنُ فَيَلْبَس الْمَقْدُونِيِّ . الَّذِي يُؤَرَّخُ لَهُ تَارِيخُ الرُّومِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ إنَّمَا ذَهَبَ إلَى أَرْضِ الْقُدْسِ لَمْ يَصِلْ إلَى السَّدِّ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ أَخْبَارَهُ وَكَانَ مُشْرِكًا يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ . وَكَذَلِكَ أَرِسْطُو وَقَوْمُهُ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ مُوَحِّدًا مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَكَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذَا وَمَنْ يُسَمِّيهِ الْإِسْكَنْدَرَ يَقُولُ : هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ دَارًا .
وَلِهَذَا
كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ إنَّمَا رَاجُو عَلَى أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ
الْعَقْلِ وَالدِّينِ " كَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ " الَّذِينَ
رَكَّبُوا مَذْهَبَهُمْ مِنْ فَلْسَفَةِ الْيُونَانِ وَدِينِ الْمَجُوس
وَأَظْهَرُوا الرَّفْضَ وَكَجُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ
وَإِنَّمَا ينفقون فِي دَوْلَةٍ جَاهِلِيَّةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْعِلْمِ
وَالْإِيمَانِ إمَّا كُفَّارًا وَإِمَّا مُنَافِقِينَ كَمَا نَفَّقَ مَنْ نَفَّقَ
مِنْهُمْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْمَلَاحِدَةِ . ثُمَّ نَفَّقَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ التُّرْكُ . وَكَذَلِكَ إنَّمَا ينفقون دَائِمًا عَلَى أَعْدَاءِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ .
وَكَلَامُنَا الْآنَ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي
الدَّلِيلِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ وَقَدْ عُلِمَ
ضَعْفُهُ . ثُمَّ إنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى
مُقَدِّمَاتٍ وَقَدْ تَكْفِي فِيهِ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ قَالُوا : إنَّهُ
رُبَّمَا أُدْرِجَ فِي الْقِيَاسِ قَوْلٌ زَائِدٌ : أَيْ مُقَدِّمَةٌ ثَالِثَةٌ
زَائِدَةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لِغَرَضِ فَاسِدٍ أَوْ صَحِيحٍ كَبَيَانِ
الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَيُسَمُّونَهُ الْمُرَكَّبَ . قَالُوا : وَمَضْمُونُهُ
أَقْيِسَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ - سِيقَتْ لِبَيَانِ أَكْثَرَ مِنْ مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ
إلَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهَا - بِالذَّاتِ لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا . قَالُوا :
وَرُبَّمَا حُذِفَتْ إحْدَى الْمُقَدِّمَاتِ إمَّا لِلْعِلْمِ بِهَا أَوْ لِغَرَضِ
فَاسِدٍ وَقَسَّمُوا الْمُرَكَّبَ إلَى مَفْصُولٍ وَمَوْصُولٍ . فَيُقَالُ هَذَا
اعْتِرَافٌ مِنْكُمْ بِأَنَّ مِنْ الْمَطَالِبِ مَا يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَاتٍ
وَمَا يَكْفِي فِيهِ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ . ثُمَّ قُلْتُمْ إنَّ ذَلِكَ الَّذِي
يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَاتٍ هُوَ فِي مَعْنَى
أَقْيِسَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ . فَيُقَالُ لَكُمْ : إذَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ قِيَاسٌ وَاحِدٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ هُوَ فِي مَعْنَى أَقْيِسَةٍ كُلُّ قِيَاسٍ لِبَيَانِ مُقَدِّمَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ . فَقُولُوا إنَّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ . وَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ . فَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ . وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ . فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتَ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْخَبَرِ لِلْمُبْتَدَأِ أَوْ الْمَحْمُولِ لِلْمَوْضُوعِ إلَّا بِوَسَطِ بَيْنَهُمَا هُوَ الدَّلِيلُ فَاَلَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَقَدْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ . وَأَمَّا دَعْوَى الْحَاجَةِ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدِّمَتَانِ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَطَالِبِ فَهُوَ كَدَعْوَى الِاحْتِيَاجِ فِي بَعْضِهَا إلَى ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ وَأَرْبَعٍ وَخَمْسٍ ؛ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَطَالِبِ وَلَيْسَ تَقْدِيرُ عَدَدٍ بِأَوْلَى مِنْ عَدَدٍ . وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ حَذْفِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِوُضُوحِهَا أَوْ لِتَغْلِيطِ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَذْفِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ . وَمَنْ احْتَجَّ عَلَى مَسْأَلَةٍ بِمُقَدِّمَةٍ لَا تَكْفِي وَحْدَهَا لِبَيَانِ الْمَطْلُوبِ أَوْ مُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ لَا تَكْفِي . طُولِبَ بِالتَّمَامِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ كِفَايَةٌ . وَإِذَا ذُكِرَتْ الْمُقَدِّمَاتُ مُنِعَ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ الْمَنْعَ وَعُورِضَ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ الْمُعَارَضَةَ حَتَّى يَتِمَّ الِاسْتِدْلَالُ فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُ الدَّلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِ شَرَابٍ خَاصٍّ قَالَ : هَذَا حَرَامٌ فَقِيلَ لَهُ لِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ نَبِيذٌ مُسْكِرٌ فَهَذِهِ
الْمُقَدِّمَةُ كَافِيَةٌ إنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إذَا سَلَّمَ لَهُ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ وَإِنْ مَنْعَهُ إيَّاهَا وَقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ احْتَاجَ إلَى بَيَانِهَا بِخَبَرِ مَنْ يُوثَقُ بِخَبَرِهِ أَوْ بِالتَّجْرِبَةِ فِي نَظِيرِهَا وَهَذَا قِيَاسُ تَمْثِيلٍ . وَهُوَ مُفِيدٌ لِلْيَقِينِ فَإِنَّ الشَّرَابَ الْكَثِيرَ إذَا جَرَّبَ بَعْضَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ عَلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ مُسْكِرٌ لِأَنَّ حُكْمَ بَعْضِهِ مِثْلُ بَعْضِهِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقَضَايَا التَّجْرِيبِيَّةِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْخُبْزَ يُشْبِعُ وَالْمَاءَ يَرْوِي وَأَمْثَالِ ذَلِكَ إنَّمَا مَبْنَاهَا عَلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ : بَلْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحِسِّيَّاتِ الَّتِي عَلِمَ أَنَّهَا كُلِّيَّةٌ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ حَرَامٌ . احْتَاجَ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ . إلَى إثْبَاتِ أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ وَإِلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَيُثْبِتُ الثَّانِيَةَ بِأَدِلَّةِ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَ { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } . وَبِأَنَّهُ { سُئِلَ عَنْ شَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ وَشَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَهِيَ وَأَضْعَافُهَا مَعْرُوفَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ شَرَابٍ أَسْكَرَ . فَإِنْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ خَمْرٌ لَكِنْ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ أَوْ لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ حَرَامٌ مُطْلَقًا أَثْبَتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ الثَّالِثَةَ وَهَلُمَّ جَرًّا . وَمَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ تَكْفِي فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ أَنَّ
الدَّلِيلَ
هُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ
؛ وَلَمَّا كَانَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمًا لِلْأَوْسَطِ . وَالْأَوْسَطُ
لِلثَّالِثِ ثَبَتَ أَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَلْزِمٌ لِلثَّالِثِ . فَإِنَّ
مَلْزُومَ الْمَلْزُومِ مَلْزُومٌ وَلَازِمَ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَإِنَّ الْحُكْمَ
لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الدَّلِيلِ لَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ لُزُومُهُ إيَّاهُ إلَّا
بِوَسَطِ بَيْنَهُمَا فَالْوَسَطُ مَا يُقْرَنُ بِقَوْلِك : لِأَنَّهُ . وَهَذَا
مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ . وَابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ ؛ ذَكَرُوا
الصِّفَاتِ اللَّازِمَةَ لِلْمَوْصُوفِ - وَأَنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ بَيِّنَ
اللُّزُومِ . وَرَدُّوا بِذَلِكَ عَلَى مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ بَيْنَ
الذَّاتِيِّ وَاللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ بِأَنَّ اللَّازِمَ مَا افْتَقَرَ إلَى
وَسَطٍ بِخِلَافِ الذَّاتِيِّ فَقَالُوا لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الصِّفَاتِ
اللَّازِمَةِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى وَسَطٍ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ اللُّزُومُ
وَالْوَسَطُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ هُوَ الدَّلِيلُ .
وَأَمَّا مَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْوَسَطَ هُوَ مَا يَكُونُ
مُتَوَسِّطًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ اللَّازِمِ الْقَرِيبِ وَاللَّازِمِ
الْبَعِيدِ فَهَذَا خَطَأٌ . وَمَعَ هَذَا يَسْتَبِينُ حُصُولُ الْمُرَادِ عَلَى
التَّقْدِيرَيْنِ فَنَقُولُ إذَا كَانَتْ اللَّوَازِمُ مِنْهَا مَا لُزُومُهُ
لِلْمَلْزُومِ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَتَوَسَّطُ
بَيْنَهُمَا فَهَذَا نَفْسُ تَصَوُّرِهِ وَتَصَوُّرُ الْمَلْزُومِ يَكْفِي فِي
الْعِلْمِ بِثُبُوتِهِ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَسَطٌ فَذَلِكَ الْوَسَطُ
إنْ كَانَ لُزُومُهُ لِلْمَلْزُومِ الْأَوَّلِ وَلُزُومُ الثَّانِي لَهُ بَيِّنًا
لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى وَسَطٍ ثَانٍ . وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَلْزُومَيْنِ غَيْرَ
بَيِّنٍ بِنَفْسِهِ احْتَاجَ إلَى وَسَطٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
بَيِّنًا ؛ احْتَاجَ إلَى وَسَطَيْنِ ؛ وَهَذَا الْوَسَطُ هُوَ حَدٌّ يَكْفِي
فِيهِ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا طَلَبَ الدَّلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِ
النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ ؛ فَقِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{
كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } أَوْ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } فَهَذَا الْأَوْسَطُ
وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَفْتَقِرُ
عِنْدَ الْمُؤْمِنِ لُزُومُ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ لَهُ إلَى وَسَطٍ وَلَا
يَفْتَقِرُ لُزُومُ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِتَحْرِيمِ
الْمُسْكِرِ إلَى وَسَطٍ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا حَرَّمَ
كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَّمَ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ وَكُلُّ
مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا
حَرَّمَ شَيْئًا حُرِّمَ . وَلَوْ قَالَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَنَّهُ
مُسْكِرٌ فَالْمُخَاطَبُ إنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ مُسْكِرٌ وَالْمُسْكِرُ
مُحَرَّمٌ سَلِمَ لَهُ التَّحْرِيمُ وَلَكِنَّهُ غَافِلٌ عَنْ كَوْنِهِ مُسْكِرًا
أَوْ جَاهِلٌ بِكَوْنِهِ مُسْكِرًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : لِأَنَّهُ خَمْرٌ
فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ خَمْرٌ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ وَإِذَا أَقَرَّ بَعْدَ
إنْكَارِهِ فَقَدْ يَكُونُ جَاهِلًا فَعَلِمَ أَوْ غَافِلًا فَذَكَرَ فَلَيْسَ كُلُّ
مَنْ عَلِمَ شَيْئًا كَانَ ذَاكِرًا لَهُ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيُّونَ فِي الْعِلْمِ
بِالْمُقَدِّمَتَيْن هَلْ هُوَ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ أَمْ لَا بُدَّ
مِنْ التَّفَطُّنِ لِأَمْرِ ثَالِثٍ ؟ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِينَا
وَغَيْرِهِ . قَالُوا : لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّ
الْبَغْلَةَ لَا تَلِدُ ثُمَّ يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ . وَيَرَى بَغْلَةً
مُنْتَفِخَةَ الْبَطْنِ . فَيَقُولُ : أَهَذِهِ حَامِلٌ أَمْ لَا ؟ فَيُقَالُ لَهُ
: أَمَا تَعْلَمُ أَنَّهَا بَغْلَةٌ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى . وَيُقَالُ لَهُ : أَمَا
تَعْلَمُ أَنَّ الْبَغْلَةَ لَا تَلِدُ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى . قَالَ فَحِينَئِذٍ
يَتَفَطَّنُ لِكَوْنِهَا لَا تَلِدُ . وَنَازَعَهُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ
وَقَالُوا : هَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ انْدِرَاجَ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ تَحْتَ
الْأُخْرَى إنْ كَانَ مُغَايِرًا للمقدمتين كَانَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً أُخْرَى لَا
بُدَّ فِيهَا مِنْ الْإِنْتَاجِ وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ
الْتِئَامِهَا مَعَ الْأُولَيَيْنِ كَالْكَلَامِ فِي
كَيْفِيَّةِ الْتِئَامِ الْأُولَيَيْنِ وَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى اعْتِبَارِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا مُغَايِرًا للمقدمتين ؛ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الْإِنْتَاجِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُغَايِرٌ لِلْمَشْرُوطِ . وَهُنَا لَا مُغَايَرَةَ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا . وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَغْلَةِ فَذَلِكَ إنَّمَا يُمْكِنُ إذَا كَانَ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَقَطْ إمَّا الصُّغْرَى وَإِمَّا الْكُبْرَى أَمَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الذِّهْنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الشَّكُّ أَصْلًا فِي النَّتِيجَةِ . قُلْت : وَ " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ لَزَمَهُمْ فِي ظَنِّهِمْ الْحَاجَةَ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لَا فِي الْإِنْتَاجِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُغَايِرٌ لِلْمَشْرُوطِ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ مَا بِهِ يُعْلَمُ الْمَطْلُوبُ سَوَاءٌ كَانَ مُقَدِّمَةً أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَالْمَغْفُولُ عَنْهُ لَيْسَ بِمَعْلُومِ حَالَ الْغَفْلَةِ ؛ فَإِذَا تَذَكَّرَ صَارَ مَعْلُومًا بِالْفِعْلِ . وَهُنَا الدَّلِيلُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْبَغْلَةَ لَا تَلِدُ وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ كَانَ ذَاهِلًا عَنْهَا فَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا الْعِلْمَ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الدَّلَالَةُ فَإِنَّ الْمَغْفُولَ عَنْهُ لَا يَدُلُّ حِينَمَا يَكُونُ مَغْفُولًا عَنْهُ بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ حَالَ كَوْنِهِ مَذْكُورًا . إذْ هُوَ بِذَلِكَ يَكُونُ مَعْلُومًا عِلْمًا حَاضِرًا . وَالرَّبُّ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ كَمَالَ الْحَيَاةِ والقيومية فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ كَمَا لَا يَمُوتُونَ . وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُ أَحَدُنَا النَّفَسَ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ وَجْهَ الدَّلِيلِ الْعِلْمُ بِلُزُومِ الْمَدْلُولِ لَهُ سَوَاءٌ سُمِّيَ اسْتِحْضَارًا أَوْ تَفَطُّنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ فَمَتَى اسْتَحْضَرَ فِي ذِهْنِهِ لُزُومَ الْمَدْلُولِ لَهُ ؛ عَلِمَ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ . وَهَذَا اللُّزُومُ إنْ كَانَ بَيِّنًا لَهُ . وَإِلَّا فَقَدَ يَحْتَاجُ فِي بَيَانِهِ إلَى مُقَدِّمَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَكْثَرَ . وَالْأَوْسَاطُ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ . فَلَيْسَ مَا كَانَ وَسَطًا مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ فِي حَقِّ هَذَا . هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فِي حَقِّ الْآخَرِ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَسَطٌ آخَرُ فَالْوَسَطُ هُوَ الدَّلِيلُ وَهُوَ الْوَاسِطَةُ فِي الْعِلْمِ بَيْنَ اللَّازِمِ وَالْمَلْزُومِ وَهُمَا الْمَحْكُومُ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَا دَامَ حُكْمًا لَهُ وَالْأَوَاسِطُ - الَّتِي هِيَ الْأَدِلَّةُ - مِمَّا يَتَنَوَّعُ وَيَتَعَدَّدُ بِحَسَبِ مَا يَفْتَحُهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ الْهِدَايَةِ كَمَا إذَا كَانَ الْوَسَطُ خَبَرًا صَادِقًا فَقَدْ يَكُونُ الْخَبَرُ لِهَذَا غَيْرَ الْخَبَرِ لِهَذَا . وَإِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ وَثَبَتَ عِنْدَ دَارِ السُّلْطَانِ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فَأَشَاعُوا ذَلِكَ فِي الْبَلَدِ فَكُلُّ قَوْمٍ يَحْصُلُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِخَبَرِ مِنْ غَيْرِ الْمُخْبِرِينَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا غَيْرَهُمْ . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الَّذِي بُلِّغَهُ النَّاسُ عَنْ الرَّسُولِ بُلِّغَ كُلُّ قَوْمٍ بِوَسَائِطَ غَيْرِ وَسَائِطِ غَيْرِهِمْ لَا سِيَّمَا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ . فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مُقْرِئُونَ وَمُعَلِّمُونَ وَلِهَؤُلَاءِ مُقْرِئُونَ وَمُعَلِّمُونَ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَسَائِطُ وَهُمْ الْأَوْسَاطُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ وَفَعَلَهُ وَهُمْ الَّذِينَ دَلُّوهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَخْبَارِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ . وَكَذَلِكَ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي تُنَالُ بِالْعَقْلِ أَوْ الْحِسِّ إذَا نَبَّهَ عَلَيْهَا مُنَبِّهٌ أَوْ أَرْشَدَ إلَيْهَا مُرْشِدٌ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْوَسَطَ فِي اللَّوَازِمِ هُوَ الْوَسَطَ فِي نَفْسِ ثُبُوتِهَا
لِلْمَوْصُوفِ . فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ ؛ فَالْوَسَطُ الذِّهْنِيُّ أَعَمُّ مِنْ الْخَارِجِيِّ كَمَا أَنَّ الدَّلِيلَ أَعَمُّ مِنْ الْعِلَّةِ ؛ فَكُلُّ عِلَّةٍ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْمَعْلُولِ ؛ وَلَيْسَ كُلُّ دَلِيلٍ يَكُونُ عِلَّةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْكَنَ جَعْلُهُ مُتَوَسِّطًا فِي الذِّهْنِ فَيَكُونُ دَلِيلًا وَلَا يَنْعَكِسُ لِأَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ فَالْعِلَّةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلْمَعْلُولِ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا ؛ وَالْوَسَطُ الَّذِي يَلْزَمُ الْمَلْزُومَ وَيَلْزَمُهُ اللَّازِمُ الْبَعِيدُ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ اللَّازِمِ فَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى غَيْرِهَا وَقَدْ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمُقَدِّمَاتِ فَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِنَّ فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْحَاجَةِ بِمُقَدِّمَتَيْنِ دُونَ مَا زَادَ وَمَا نَقَصَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَلِهَذَا لَا تَجِدُ فِي سَائِرِ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ وَمُصَنِّفِي الْعُلُومَ مَنْ يَلْتَزِمُ فِي اسْتِدْلَالِهِ الْبَيَانَ بِمُقَدِّمَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ وَيَجْتَهِدُ فِي رَدِّ الزِّيَادَةِ إلَى اثْنَتَيْنِ . وَفِي تَكْمِيلِ النَّقْصِ بِجَعْلِهِ مُقَدِّمَتَيْنِ إلَّا أَهْلَ مَنْطِقِ الْيُونَانِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ ؛ دُونَ مَنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ أَوْ سَلَكَ مَسْلَكَ غَيْرِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَنُظَّارِهِمْ وَسَائِرِ طَوَائِفِ الْمِلَلِ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالْهَنْدَسَةِ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا مَنْ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيِّينَ كَمَا قَلَّدُوهُمْ فِي الْحُدُودِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ ؛ وَمَا اسْتَفَادُوا بِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْهُمْ عِلْمًا إلَّا عَمَّا يُسْتَغْنَى عَنْ بَاطِلِ كَلَامِهِمْ أَوْ مَا
يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ أَوْ التَّطْوِيلِ الْكَثِيرِ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ تَارَةً يَقِفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَتَارَةً عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَتَارَةً عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ؛ كَانَتْ طَرِيقَةُ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَذْكُرُوا مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ؛ وَلَا يَلْتَزِمُونَ فِي كُلِّ اسْتِدْلَالٍ أَنْ يَذْكُرُوا مُقَدِّمَتَيْنِ ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَسْلُكُ سَبِيلَ الْمَنْطِقِيِّينَ بَلْ كُتُبُ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَخُطَبَائِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ فِي نَظَرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ ؛ وَمُنَاظَرَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ تَعْلِيمًا وَإِرْشَادًا وَمُجَادَلَةً عَلَى مَا ذَكَرْت ؛ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَصْنَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ إلَّا مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ . وَمَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ يَعِيبُونَ طَرِيقَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ ؛ وَيُبَيِّنُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْعِيِّ وَاللُّكْنَةِ وَقُصُورِ الْعَقْلِ وَعَجْزِ النُّطْقِ ؛ وَيُبَيِّنُونَ أَنَّهَا إلَى إفْسَادِ الْمَنْطِقِ الْعَقْلِيِّ وَاللِّسَانِيِّ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى تَقْوِيمِ ذَلِكَ . وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَسْلُكُوهَا فِي نَظَرِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ لَا مَعَ مَنْ يُوَالُونَهُ وَلَا مَعَ مَنْ يُعَادُونَهُ . وَإِنَّمَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا مِنْ زَمَنِ " أَبِي حَامِدٍ " . فَإِنَّهُ أَدْخَلَ مُقَدِّمَةً مِنْ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " الْمُسْتَصْفَى " وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَثِقُ بِعِلْمِهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ هَذَا الْمَنْطِقَ . وَصَنَّفَ فِيهِ " مِعْيَارَ الْعِلْمِ " وَ " مَحَكَّ النَّظَرِ " ؛ وَصَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ " الْقِسْطَاسَ الْمُسْتَقِيمَ " ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَ مَوَازِينَ : الثَّلَاثَ الْحَمْلِيَّاتِ ؛ وَالشَّرْطِيَّ الْمُتَّصِلَ وَالشَّرْطِيَّ الْمُنْفَصِلَ . وَغَيَّرَ عِبَارَاتِهَا إلَى أَمْثِلَةٍ أَخَذَهَا مِنْ كَلَامِ الْمُسْلِمِينَ
وَذَكَرَ أَنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ بَعْضَ أَهْلِ التَّعْلِيمِ وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي تَهَافُتِهِمْ وَبَيَّنَ كُفْرَهُمْ بِسَبَبِ مَسْأَلَةِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَإِنْكَارِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَإِنْكَارِ الْمُعَادِ ؛ وَبَيَّنَ فِي آخِرِ كُتُبِهِ ؛ أَنَّ طَرِيقَهُمْ فَاسِدَةٌ ؛ لَا تُوصِلُ إلَى يَقِينٍ ؛ وَذَمَّهَا أَكْثَرَ مِمَّا ذَمَّ طَرِيقَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَكَانَ أَوَّلًا يَذْكُرُ فِي كُتُبِهِ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِمْ : إمَّا بِعِبَارَتِهِمْ ؛ وَإِمَّا بِعِبَارَةِ أُخْرَى ثُمَّ فِي آخِرِ أَمْرِهِ بَالَغَ فِي ذَمِّهِمْ ؛ وَبَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَهُمْ مُتَضَمِّنَةٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ مَا يُوجِبُ ذَمَّهَا وَفَسَادَهَا أَعْظَمَ مِنْ طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ ؛ وَمَاتَ وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ . وَالْمَنْطِقُ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِيهِ مَا يَقُولُ ؛ مَا حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ ؛ وَلَا أَزَالَ عَنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ ؛ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْمَنْطِقُ شَيْئًا . وَلَكِنْ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ عُمُرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ يُدْخِلُونَ الْمَنْطِقَ الْيُونَانِيَّ فِي عُلُومِهِمْ حَتَّى صَارَ مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَّا هَذَا وَإِنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ هُوَ أَمْرٌ صَحِيحٌ مُسَلَّمٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا زَالَ الْعُقَلَاءُ وَالْفُضَلَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ يَعِيبُونَ ذَلِكَ وَيَطْعَنُونَ فِيهِ . وَقَدْ صَنَّفَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ يَعِيبُونَهُ عَيْبًا مُجْمَلًا لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ آثَارِهِ وَلَوَازِمِهِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا فِي أَهْلِهِ مِمَّا يُنَاقِضُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَيُفْضِي بِهِمْ الْحَالُ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَوَقُّفِ كُلِّ مَطْلُوبٍ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ
لَيْسَ
كَذَلِكَ وَهُمْ يُسَمُّونَ الْقِيَاسَ الَّذِي حُذِفَتْ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ
قِيَاسَ الضَّمِيرِ وَيَقُولُونَ إنَّهَا قَدْ تُحْذَفُ إمَّا لِلْعِلْمِ بِهَا
وَإِمَّا غَلَطًا أَوْ تَغْلِيطًا . فَيُقَالُ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً كَانَتْ
كَغَيْرِهَا مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَعْلُومَةِ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ إضْمَارُ
مُقَدِّمَةٍ بِأَوْلَى مِنْ إضْمَارِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ ؛ فَإِنْ
جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَّا إلَى
مُقَدِّمَةٍ أَنَّ الْأُخْرَى تُضْمَرُ مَحْذُوفَةً جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ فِيمَا
يَحْتَاجُ إلَى ثِنْتَيْنِ أَنَّ الثَّالِثَةَ مَحْذُوفَةٌ وَكَذَلِكَ فِيمَا
يَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثٍ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَجَدَ
الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَهْلِ
الْبَيَانِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْبَرَاهِينَ وَالْحُجَجَ الْيَقِينِيَّةَ
بِأَبْيَنِ الْعِبَارَاتِ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِي كَلَامِهِمْ
مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ بَلْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ كَانَ
مِنْ الْمُضَيِّقِينَ فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ عُقُولًا وَأَلْسِنَةً وَمَعَانِيهِمْ
مِنْ جِنْسِ أَلْفَاظِهِمْ تَجِدُ فِيهَا مِنْ الرِّكَّةِ وَالْعِيِّ مَا لَا
يَرْضَاهُ عَاقِلٌ .
وَكَانَ يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ الْكِنْدِيُّ فَيْلَسُوفَ الْإِسْلَامِ فِي
وَقْتِهِ أَعْنِي الْفَيْلَسُوفَ الَّذِي فِي الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَلَيْسَ
الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالُوا : لِبَعْضِ أَعْيَانِ
الْقُضَاةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِنَا : ابْنُ سِينَا مِنْ فَلَاسِفَةِ
الْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ لِلْإِسْلَامِ فَلَاسِفَةٌ . كَانَ يَعْقُوبُ
يَقُولُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ الْعَدَمُ فَقْدُ وُجُودِ كَذَا وَأَنْوَاعِ
هَذِهِ الْإِضَافَاتِ . وَمَنْ وَجَدَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ فَصَاحَةً أَوْ
بَلَاغَةً كَمَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ كَلَامِ ابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ . فَلِمَا
اسْتَفَادَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عُقُولِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَإِلَّا
فَلَوْ مَشَى عَلَى طَرِيقَةِ سَلَفِهِ وَأَعْرَضَ عَمَّا تَعَلَّمَهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ
لَكَانَ
عَقْلُهُ وَلِسَانُهُ يُشْبِهُ عُقُولَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ مَا
ينفقون عَلَى مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا يَقُولُونَهُ وَيُعَظِّمُهُمْ بِالْجَهْلِ
وَالْوَهْمِ أَوْ يَفْهَمُ بَعْضَ مَا يَقُولُونَهُ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ كُلَّهُ
مَعَ عَدَمِ تَصَوُّرِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ
الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُعْرَفُ بِالْعُقُولِ
السَّلِيمَةِ وَمَا قَالَهُ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ مُنَاقِضًا لِمَا قَالُوهُ .
وَهُوَ إنَّمَا وَصَلَ إلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِمْ بَعْدَ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ
وَاقْتَرَنَ بِهَا حُسْنُ ظَنٍّ فَتَوَرَّطَ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِيمَا لَا
يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . ثُمَّ إنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا
أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ الْفُضَلَاءِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِهِمْ الظَّنَّ
ابْتِدَاءً ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ ضَلَالِهِمْ مَا أَوْجَبَ رُجُوعَهُمْ
عَنْهُمْ وَتَبَرُّؤَهُمْ مِنْهُمْ . بَلْ وَرَدَّهُمْ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا بَقِيَ
مِنْ الضُّلَّالِ . وَضَلَالُهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ ظَاهِرٌ لِأَكْثَرِ
النَّاسِ وَلِهَذَا كَفَّرَهُمْ فِيهَا نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ قَاطِبَةً .
وَإِنَّمَا الْمَنْطِقُ الْتَبَسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى طَائِفَةٍ لَمْ
يَتَصَوَّرُوا حَقَائِقَهُ وَلَوَازِمَهُ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا قَالَ سَائِرُ
الْعُقَلَاءِ فِي تَنَاقُضِهِمْ فِيهِ وَاتَّفَقَ أَنَّ فِيهِ أُمُورًا ظَاهِرَةً
مِثْلَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ لَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ فِيهِ بَلْ طَوَّلُوا فِيهِ الطَّرِيقَ وَسَلَكُوا الْوَعْرَ
وَالضَّيِّقَ وَلَمْ يَهْتَدُوا فِيهِ إلَى مَا يُفِيدُ التَّحْقِيقَ وَلَيْسَ
الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَانَ مَا أَخْطَئُوا فِي إثْبَاتِهِ بَلْ
مَا أَخْطَئُوا فِي نَفْيِهِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ لَا
يَحْصُلُ إلَّا بِبُرْهَانِهِمْ وَهُوَ مِنْ الْقِيَاسِ .
وَجَعَلُوا أَصْنَافَ الْحُجَجِ " ثَلَاثَةً " : الْقِيَاسَ
وَالِاسْتِقْرَاءَ وَالتَّمْثِيلَ وَزَعَمُوا أَنَّ التَّمْثِيلَ لَا يُفِيدُ
الْيَقِينَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْقِيَاسَ الَّذِي تَكُونُ مَادَّتُهُ
مِنْ الْقَضَايَا الَّتِي ذَكَرُوهَا . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ : أَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسَ الشُّمُولِ مُتَلَازِمَانِ وَأَنَّ مَا حَصَلَ بِأَحَدِهِمَا عَنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ حَصَلَ بِالْآخَرِ مِثْلُهُ إذَا كَانَتْ الْمَادَّةُ وَاحِدَةً . وَالِاعْتِبَارُ بِمَادَّةِ الْعِلْمِ لَا بِصُورَةِ الْقَضِيَّةِ بَلْ إذَا كَانَتْ الْمَادَّةُ يَقِينِيَّةً سَوَاءٌ كَانَتْ صُورَتُهَا فِي صُورَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَوْ صُورَةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَسَوَاءٌ كَانَتْ صُورَةُ الْقِيَاسِ اقْتِرَانِيًّا أَوْ اسْتِثْنَائِيًّا - بِعِبَارَتِهِمْ أَوْ بِأَيِّ عِبَارَةٍ شِئْت لَا سِيَّمَا فِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ وَأَبْيَنُ فِي الْعَقْلِ وَأَوْجَزُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ - . وُجِدَ هَذَا فِي أَظْهَرِ الْأَمْثِلَةِ إذَا قُلْت : هَذَا إنْسَانٌ وَكُلُّ إنْسَانٍ مَخْلُوقٌ أَوْ حَيَوَانٌ أَوْ حَسَّاسٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ أَوْ نَاطِقٌ أَوْ مَا شِئْت مِنْ لَوَازِمِ الْإِنْسَانِ فَإِنْ شِئْت صَوَّرْت الدَّلِيلَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنْ شِئْت قُلْت : هُوَ إنْسَانٌ فَهُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ حَسَّاسٌ أَوْ حَيَوَانٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ شِئْت قُلْت هَذَا إنْسَانٌ والإنسانية مُسْتَلْزِمَةٌ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ فَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ وَإِنْ شِئْت قُلْت : إنْ كَانَ إنْسَانًا فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْإِنْسَانِ ؛ وَإِنْ شِئْت قُلْت : إمَّا أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَّصِفَ وَالثَّانِي بَاطِلٌ ؛ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَازِمَةٌ لِلْإِنْسَانِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِهَا . وَأَمَّا الِاسْتِقْرَاءُ فَإِنَّمَا يَكُونُ يَقِينِيًّا ؛ إذَا كَانَ اسْتِقْرَاءً تَامًّا . وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ قَدْ حَكَمْت عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِمَا وَجَدْته فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ وَهَذَا
لَيْسَ اسْتِدْلَالًا بِجُزْئِيٍّ عَلَى كُلِّيٍّ وَلَا بِخَاصِّ عَلَى عَامٍّ ؛ بَلْ اسْتِدْلَالٌ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّ وُجُودَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا لِذَلِكَ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ . فَقَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِخَاصِّ جُزْئِيٍّ عَلَى عَامٍّ كُلِّيٍّ لَيْسَ بِحَقِّ ؛ وَكَيْفَ ذَلِكَ . وَالدَّلِيلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَلْزُومًا لِلْمَدْلُولِ ؟ فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ وُجُودُ الدَّلِيلِ مَعَ عَدَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ الْمَدْلُولُ لَازِمًا لَهُ ؛ لَمْ يَكُنْ إذَا عَلِمْنَا ثُبُوتَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ ؛ نَعْلَمُ ثُبُوتَ الْمَدْلُولِ مَعَهُ ؛ إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مَعَهُ ؛ وَتَارَةً لَا يَكُونُ مَعَهُ ؛ فَإِنَّا إذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ ؛ ثُمَّ قُلْنَا إنَّهُ مَعَهُ دَائِمًا كُنَّا قَدْ جَمَعْنَا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَهَذَا اللُّزُومُ الَّذِي نَذْكُرُهُ هَهُنَا يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ اللُّزُومُ . وَكُلَّمَا كَانَ اللُّزُومُ أَقْوَى وَأَتَمَّ وَأَظْهَرَ ؛ كَانَتْ الدَّلَالَةُ أَقْوَى وَأَتَمَّ وَأَظْهَرَ : كَالْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ مَا مِنْهَا مَخْلُوقٌ إلَّا وَهُوَ مَلْزُومٌ لِخَالِقِهِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِدُونِ وُجُودِ خَالِقِهِ بَلْ وَلَا بِدُونِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ . وَإِذَا كَانَ الْمَدْلُولُ لَازِمًا لِلدَّلِيلِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّازِمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَلْزُومِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْهُ فَالدَّلِيلُ لَا يَكُونُ إلَّا أَعَمَّ مِنْهُ وَإِذَا قَالُوا فِي الْقِيَاسِ يُسْتَدَلُّ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ فَلَيْسَ الْجُزْئِيُّ هُوَ الْحُكْمَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْجُزْئِيُّ هُوَ الْمَوْصُوفُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَخَصَّ مِنْ الدَّلِيلِ وَقَدْ يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ صِيغَةُ هَذَا وَحُكْمُهُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا أَعَمَّ مِنْ الدَّلِيلِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَدْلُولُ اللَّازِمُ لِلدَّلِيلِ وَالدَّلِيلُ هُوَ لَازِمٌ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ الْمَوْصُوفِ .
فَإِذَا
قِيلَ : النَّبِيذُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ خَمْرٌ فَكَوْنُهُ خَمْرًا هُوَ الدَّلِيلُ
وَهُوَ لَازِمٌ لِلنَّبِيذِ وَالتَّحْرِيمُ لَازِمٌ لِلْخَمْرِ وَالْقِيَاس
الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ إذَا قُلْت كُلُّ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ
فِيهِ مُسْكِرٌ أَوْ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ فَأَنْتَ لَمْ تَسْتَدِلّ
بِالْمُسْكِرِ أَوْ الْخَمْرِ الَّذِي هُوَ كُلِّيٌّ عَلَى نَفْسِ مَحَلِّ النِّزَاعِ
الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ فَلَيْسَ هُوَ اسْتِدْلَالًا
بِذَلِكَ الْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ بَلْ اسْتَدْلَلْت بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ
هَذَا النَّبِيذِ فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ هَذَا النَّبِيذِ مُنْدَرِجًا فِي
تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ قَالَ : مَنْ قَالَ إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْكُلِّيِّ
عَلَى الْجُزْئِيِّ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ مَا ثَبَتَ
لِلْكُلِّيِّ فَقَدْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ وَالتَّحْرِيمُ
هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْخَمْرِ وَهُوَ ثَابِتٌ لَهَا فَهُوَ ثَابِتٌ لِكُلِّ فَرْدٍ
مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِكُلِّيٍّ عَلَى ثُبُوتِ كُلِّيٍّ
آخَرَ لِجُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ . وَذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ
كَالْجُزْئِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْكُلِّيِّ وَهُوَ كُلِّيٌّ
بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ وَهَذَا مِمَّا مَا لَا يُنَازِعُونَ
فِيهِ ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ
الْأَصْغَرِ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ وَالْأَكْبَرُ أَعَمُّ مِنْهُ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ ؛
وَالْأَكْبَرُ هُوَ الْحُكْمُ وَالصِّفَةُ وَالْخَبَرُ . وَهُوَ مَحْمُولُ
النَّتِيجَةِ . وَالْأَصْغَرُ هُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْمَوْصُوفُ
الْمُبْتَدَأُ . وَهُوَ مَوْضُوعُ النَّتِيجَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي التَّمْثِيلِ : إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِجُزْئِيٍّ عَلَى
جُزْئِيٍّ . فَإِنْ أُطْلِقَ ذَلِكَ وَقِيلَ : إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمُجَرَّدِ
الْجُزْئِيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ . فَهَذَا غَلَطٌ . فَإِنَّ " قِيَاسَ
التَّمْثِيلِ " إنَّمَا يَدُلُّ بِحَدِّ أَوْسَطَ : وَهُوَ اشْتِرَاكُهُمَا
فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ أَوْ دَلِيلِ الْحُكْمِ مَعَ الْعِلَّةِ . فَإِنَّهُ قِيَاسُ
عِلَّةٍ أَوْ قِيَاسُ دَلَالَةٍ .
وَأَمَّا " قِيَاسُ الشَّبَهِ " : فَإِذَا قِيلَ بِهِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلَّةُ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلَّةَ وَمَا اسْتَلْزَمَهَا لَمْ يَكُنْ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ مُقْتَضِيًا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ بَلْ كَانَ الْمُشْتَرِكُ قَدْ تَكُونُ مَعَهُ الْعِلَّةُ وَقَدْ لَا تَكُونُ . فَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ بَلْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا إلَّا إذَا اشْتَرَكَا فِيهَا . وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الِاشْتِرَاكَ فِيهَا إلَّا إذَا عَلِمْنَا اشْتِرَاكَهُمَا فِيهَا أَوْ فِي مَلْزُومِهَا فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللَّازِمِ فَإِذَا قَدَّرْنَا أَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِي الْمَلْزُومِ وَلَا فِيهَا كَانَ الْقِيَاسُ بَاطِلًا قَطْعًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ الْعِلَّةُ مُخْتَصَّةً بِالْأَصْلِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّةُ الْقِيَاسِ وَقَدْ يَعْلَمُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ بِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُ الْعِلَّةِ وَلَا دَلِيلُهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْفَارِقِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ وَإِذَا كَانَ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ إنَّمَا يَكُونُ تَامًّا بِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ . أَوْ بِإِبْدَاءِ جَامِعٍ وَهُوَ كُلِّيٌّ يَجْمَعُهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ لُزُومَ الْحُكْمِ لِلْكُلِّيِّ وَلُزُومَ الْكُلِّيِّ لِجُزْئِيَّاتِهِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قِيَاسِ الشُّمُولِ . لَيْسَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِهِ لِجُزْئِيٍّ عَلَى ثُبُوتِهِ لِجُزْئِيٍّ آخَرَ . فَأَمَّا إذَا قِيلَ : بِمَ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ ؟ قِيلَ : بِمَا تُعْلَمُ بِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُبْرَى فِي الْقِيَاسِ فَبَيَانُ الْحَدِّ الْأَوْسَطِ هُوَ الْمُشْتَرَكُ الْجَامِعُ وَلُزُومُ الْحَدِّ الْأَكْبَرِ لَهُ هُوَ لُزُومُ الْحُكْمِ لِلْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ إذَا كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَلْزُومَ
الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَإِنْ كَانَ اللُّزُومُ عَنْ الذَّاتِ كَانَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى الذَّاتِ وَإِنْ كَانَ فِي صِفَةٍ أَوْ حُكْمٍ كانت الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّفَةِ أَوْ الْحُكْمِ فَقَدْ تَبَيَّنَ مَا فِي حَصْرِهِمْ مِنْ الْخَلَلِ . وَأَمَّا تَقْسِيمُهُمْ إلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَكُلُّهَا تَعُودُ إلَى مَا ذَكَرَ فِي اسْتِلْزَامِ الدَّلِيلِ لِلْمَدْلُولِ . وَمَا ذَكَرُوهُ فِي " الِاقْتِرَانِيِّ " يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ " الِاسْتِثْنَائِيِّ " . وَكَذَلِكَ " الِاسْتِثْنَائِيُّ " يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ " الِاقْتِرَانِيِّ " فَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ مَادَّةُ الدَّلِيلِ وَالْمَادَّةُ لَا تُعْلَمُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَلْ مَنْ عَرَفَ الْمَادَّةَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا عَلِمَ الدَّلَالَةَ سَوَاءٌ صُوِّرَتْ بِصُورَةِ قِيَاسٍ أَوْ لَمْ تُصَوَّرْ وَسَوَاءٌ عُبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَاتِهِمْ أَوْ بِغَيْرِهَا . بَلْ الْعِبَارَاتُ الَّتِي صَقَلَتْهَا عُقُولُ الْمُسْلِمِينَ وَأَلْسِنَتُهُمْ خَيْرٌ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ . وَ " الِاقْتِرَانِيُّ " كُلُّهُ يَعُودُ إلَى لُزُومِ هَذَا لِهَذَا وَهَذَا لِهَذَا كَمَا ذُكِرَ . وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ " الِاسْتِثْنَائِيُّ " الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ ؛ فَإِنَّ الشَّرْطِيَّ الْمُتَّصِلَ اسْتِدْلَالٌ بِاللُّزُومِ بِثُبُوتِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدَّمُ وَهُوَ الشَّرْطُ عَلَى ثُبُوتِ اللَّازِمِ الَّذِي هُوَ التَّالِي وَهُوَ الْجَزَاءُ أَوْ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ وَهُوَ التَّالِي الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدَّمُ وَهُوَ الشَّرْطُ . وَأَمَّا " الشَّرْطِيُّ الْمُنْفَصِلُ " وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ " السَّبْرَ
وَالتَّقْسِيمَ " وَقَدْ يُسَمِّيهِ أَيْضًا الْجَدَلِيُّونَ " التَّقْسِيمَ وَالتَّرْدِيدَ " فَمَضْمُونُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ وَبِانْتِفَائِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ . وَ " أَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ " . وَلِهَذَا كَانَ فِي مَانِعَةِ الْجَمْعِ وَالْخُلُوِّ الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ - أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ هَذَا انْتَفَى نَقِيضُهُ وَكَذَا الْآخَرُ وَإِنْ انْتَفَى هَذَا ثَبَتَ نَقِيضُهُ وَكَذَا الْآخَرُ - وَمَانِعَةُ الْجَمْعِ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ وَالْأَمْرَانِ مُتَنَافِيَانِ وَمَانِعَةُ الْخُلُوِّ فِيهَا تَنَاقُضٌ وَلُزُومٌ وَالنَّقِيضَانِ لَا يَرْتَفِعَانِ فَمَنَعَتْ الْخُلُوَّ مِنْهُمَا وَلَكِنَّ جَزَاءَهَا وُجُودُ شَيْءٍ وَعَدَمُ آخَرَ ؛ لَيْسَ هُوَ وُجُودَ الشَّيْءِ وَعَدَمَهُ وَوُجُودَ شَيْءٍ وَعَدَمَ آخَرَ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا لَازِمًا لِلْآخَرِ وَإِنْ كَانَا لَا يَرْتَفِعَانِ لِأَنَّ ارْتِفَاعَهُمَا يَقْتَضِي ارْتِفَاعَ وُجُودِ شَيْءٍ وَعَدَمِهِ مَعًا . وَبِالْجُمْلَةِ مَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا وَلَهُ لَازِمٌ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ وَلَهُ مُنَافٍ مُضَادٌّ لِوُجُودِهِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِثُبُوتِ مَلْزُومِهِ وَعَلَى انْتِفَائِهِ بِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ بِوُجُودِ مُنَافِيهِ وَيُسْتَدَلُّ بِانْتِفَاءِ مُنَافِيهِ عَلَى وُجُودِهِ إذَا انْحَصَرَ الْأَمْرُ فِيهِمَا فَلَمْ يُمْكِنْ عَدَمُهُمَا جَمِيعًا كَمَا لَمْ يُمْكِنْ وُجُودُهُمَا جَمِيعًا . وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَحْصُلُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الشَّيْءِ وَمَلْزُومِهَا وَلَازِمِهَا وَإِذَا تَصَوَّرَتْهُ الْفِطْرَةُ عَبَّرَتْ عَنْهُ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْعِبَارَاتِ وَصَوَّرَتْهُ فِي أَنْوَاعِ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ لَا يَخْتَصُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي الْقِيَاسِ فَضْلًا عَمَّا سَمَّوْهُ الْبُرْهَانَ ؛ فَإِنَّ الْبُرْهَانَ شَرَطُوا لَهُ مَادَّةً مُعَيَّنَةً وَهِيَ الْقَضَايَا الَّتِي ذَكَرُوهَا وَأَخْرَجُوا مِنْ الْأَوَّلِيَّاتِ مَا سَمَّوْهُ وَهْمِيَّاتٍ وَمَا سَمَّوْهُ مَشْهُورَاتٍ وَحُكْمُ الْفِطْرَةِ بِهِمَا - لَا سِيَّمَا بِمَا سَمَّوْهُ وَهْمِيَّاتٍ - أَعْظَمُ مِنْ حُكْمِهَا بِكَثِيرِ مِنْ الْيَقِينِيَّاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا مَوَادَّ الْبُرْهَانِ .
وَقَدْ
بَسَطْت الْقَوْلَ عَلَى هَذَا وَبَيَّنْت كَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ وَتَنَاقُضَهُمْ
وَأَنَّ مَا أَخْرَجُوهُ يَخْرُجُ بِهِ مَا يَنَالُ بِهِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ مِنْ
الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ وَلَا يَبْقَى
بِأَيْدِيهِمْ إلَّا أُمُورٌ مُقَدَّرَةٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا
فِي الْأَعْيَانِ . وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَا يَتَّسِعُ لِحِكَايَةِ
أَلْفَاظِهِمْ فِي هَذَا وَمَا أَوْرَدْته عَلَيْهِمْ لَذَكَرْته فَقَدْ ذَكَرْت
ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ
فَإِنَّهَا هِيَ الْمَطْلُوبَةُ .
وَالْكَلَامُ فِي " الْمَنْطِقِ " إنَّمَا وَقَعَ لَمَّا زَعَمُوا
أَنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزَلَّ فِي
فِكْرِهِ فَاحْتَجْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي هَذِهِ الْآلَةِ . هَلْ هِيَ كَمَا
قَالُوا ؛ أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؟ وَمِنْ شُيُوخِهِمْ مَنْ إذَا بُيِّنَ
لَهُ مِنْ فَسَادِ أَقْوَالِهِمْ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ ضَلَالُهُمْ وَعَجَزَ عَنْ
دَفْعِ ذَلِكَ يَقُولُ : هَذِهِ عُلُومٌ قَدْ صَقَلَتْهَا الْأَذْهَانُ أَكْثَرَ
مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ وَقَبِلَهَا الْفُضَلَاءُ . فَيُقَالُ لَهُ عَنْ هَذَا
أَجْوِبَةٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَمَا زَالَ الْعُقَلَاءُ
الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ وَيُبَيِّنُونَ
خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ . فَأَمَّا الْقُدَمَاءُ فَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ
كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ وَفِي كُتُبِ أَخْبَارِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا
لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ . فَأَمَّا أَيَّامُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ كَلَامَ
نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَيَانِ فَسَادِ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أُصُولِهِمْ
الْمَنْطِقِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ بَلْ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّةِ
كَثِيرٌ قَدْ صَنَّفَ فِيهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ نُظَّارِ
الْمُسْلِمِينَ حَتَّى الرَّافِضَةِ
وَأَمَّا شَهَادَةُ سَائِرِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعُلَمَاءِ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ فَهَذَا الْبَيَانُ عَامٌّ لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مُعَانِدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا كَانَ أَعْيَانُ الْأَذْكِيَاءِ الْفُضَلَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مُعْلِنِينَ بِتَخْطِئَتِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ إمَّا جُمْلَةً وَإِمَّا تَفْصِيلًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْعُقَلَاءُ قَاطِبَةً تَلَقَّوْا كَلَامَهُمْ بِالْقَبُولِ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةِ فَإِنَّ الْفَلْسَفَةَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ أَرِسْطُو وَتَلَقَّاهَا مَنْ قَبْلَهُ بِالْقَبُولِ طَعَنَ أَرِسْطُو فِي كَثِيرٍ مِنْهَا وَبَيَّنَ خَطَأَهُمْ وَابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ خَالَفُوا الْقُدَمَاءَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَبَيَّنُوا خَطَأَهُمْ وَرَدُّ الْفَلَاسِفَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَكْثَرُ مِنْ رَدِّ كُلِّ طَائِفَةٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ . وَأَبُو الْبَرَكَاتِ وَأَمْثَالُهُ قَدْ رَدُّوا عَلَى أَرِسْطُو مَا شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا قَصَدْنَا الْحَقَّ لَيْسَ قَصْدُنَا التَّعَصُّبَ لِقَائِلِ مُعَيَّنٍ وَلَا لِقَوْلِ مُعَيَّنٍ . ( وَالثَّالِثُ ) : أَنَّ دِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ أَقْدَمُ مِنْ فَلْسَفَتِهِمْ وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ الطَّوَائِفِ أَعْظَمُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي فَلْسَفَتِهِمْ وَكَذَلِكَ دِينُ الْيَهُودِ الْمُبَدَّلُ أَقْدَمُ مِنْ فَلْسَفَةِ أَرِسْطُو وَدِينُ النَّصَارَى الْمُبَدَّلُ قَرِيبٌ مِنْ زَمَنِ أَرِسْطُو فَإِنَّ أَرِسْطُو كَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فَإِنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فَيَلْبَس الَّذِي يُؤَرَّخُ بِهِ تَارِيخُ الرُّومِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى .
(
الرَّابِعُ ) : أَنْ يُقَالَ : فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ . فَهَذِهِ
الْعُلُومُ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَقْلِيدٌ لِقَائِلِ وَإِنَّمَا
تُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصَحَّحَ بِالنَّقْلِ ؛ بَلْ
وَلَا يُتَكَلَّمَ فِيهَا إلَّا بِالْمَعْقُولِ الْمُجَرَّدِ فَإِذَا دَلَّ
الْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ عَلَى بُطْلَانِ الْبَاطِلِ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ
؛ فَإِنَّ أَهْلَهَا لَمْ يَدَّعُوا أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ عَنْ شَيْءٍ يَجِبُ
تَصْدِيقُهُ بَلْ عَنْ عَقْلٍ مَحْضٍ فَيَجِبُ التَّحَاكُمُ فِيهَا إلَى مُوجِبِ
الْعَقْلِ الصَّرِيحِ .
فَصْلٌ :
وَقَدْ احْتَجُّوا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دُونَ الْقِيَاسِ
الَّذِي هُوَ قِيَاسُ الشُّمُولِ وَأَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ دُونَ
الِاسْتِقْرَاءِ فَقَالُوا : إنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ لَا يُفِيدُ إلَّا
الظَّنَّ وَأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا بِخِلَافِ
الِاسْتِقْرَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ لَا
يَكُونُ إلَّا كُلِّيًّا . قَالُوا : وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ هُوَ
الْحُكْمُ عَلَى كُلِّيٍّ بِمَا تَحَقَّقَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ فَإِنْ كَانَ فِي
جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ كَانَ الِاسْتِقْرَاءُ تَامًّا كَالْحُكْمِ عَلَى
الْمُتَحَرِّكِ بِالْجِسْمِيَّةِ لِكَوْنِهَا مَحْكُومًا بِهَا عَلَى جَمِيعِ
جُزْئِيَّاتِ الْمُتَحَرِّكِ مِنْ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ
وَالنَّاقِصِ كَالْحُكْمِ عَلَى الْحَيَوَانِ بِأَنَّهُ إذَا أَكَلَ تَحَرَّكَ
فَكُّهُ الْأَسْفَلُ عِنْدَ الْمَضْغِ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِ
جُزْئِيَّاتِهِ . وَلَعَلَّهُ فِيمَا لَمْ يُسْتَقْرَأْ عَلَى خِلَافِهِ
كَالتِّمْسَاحِ وَالْأَوَّلُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْيَقِينِيَّاتِ بِخِلَافِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْجَدَلِيَّاتِ . وَأَمَّا " قِيَاسُ التَّمْثِيلِ " : فَهُوَ الْحُكْمُ عَلَى شَيْءٍ بِمَا حُكِمَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِمْ : الْعَالَمُ مَوْجُودٌ فَكَانَ قَدِيمًا كَالْبَارِي . أَوْ هُوَ جِسْمٌ فَكَانَ مُحْدَثًا كَالْإِنْسَانِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَرْعٍ وَأَصْلٍ وَعِلَّةٍ وَحُكْمٍ فَالْفَرْعُ مَا هُوَ مِثْلُ الْعَالَمِ فِي هَذَا الْمِثَالِ وَالْأَصْلُ مَا هُوَ مِثْلَ الْبَارِي أَوْ الْإِنْسَانِ وَالْعِلَّةِ الْمَوْجُودِ أَوْ الْجِسْمِ وَالْحُكْمِ الْقَدِيمِ أَوْ الْمُحْدَثِ . قَالُوا : وَيُفَارِقُ الِاسْتِقْرَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ فِيهِ قَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِقْرَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا كُلِّيًّا . قَالُوا : وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْيَقِينِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اشْتِرَاكِ أَمْرَيْنِ فِيمَا يَعُمُّهُمَا اشْتِرَاكُهُمَا فِيمَا حُكِمَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا ؛ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَظَنِّيٌّ فَإِنَّ الْمُسَاعِدَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ . أَمَّا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ : فَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرُ تَلَازُمِ الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِقْرَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَعْوَاهُ فِي الْفَرْعِ إذْ هُوَ غَيْرُ
الْمَطْلُوبِ فَيَكُونُ الِاسْتِقْرَاءُ نَاقِصًا لَا سِيَّمَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مُرَكَّبَةً مِنْ أَوْصَافِ الْمُشْتَرَكِ وَمِنْ غَيْرِهَا وَيَكُونُ وُجُودُهَا فِي الْأَوْصَافِ مُتَحَقِّقًا فِيهَا فَإِذَا وُجِدَ الْمُشْتَرَكُ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِكَمَالِ عِلَّتِهِ وَعِنْدَ انْتِفَائِهِ فَيَنْتَفِي لِنُقْصَانِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْفَرْعِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِجَوَازِ تَخَلُّفِ بَاقِي الْأَوْصَافِ أَوْ بَعْضِهَا . وَأَمَّا " السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ " : فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَى حَصْرِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ فِي جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَإِبْطَالِ كُلِّ مَا عَدَا الْمُسْتَبْقَى . وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ يَقِينِيٍّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ لِذَاتِ الْأَصْلِ لَا لِخَارِجِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ ؛ وَإِنْ ثَبَتَ لِخَارِجِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهَا أَبَدًا ؛ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَعَ الْبَحْثِ عَنْهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْعَادِيَاتِ فَإِنَّا لَا نَشُكُّ مَعَ سَلَامَةِ الْبَصَرِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ فِي عَدَمِ بَحْرِ زِئْبَقٍ وَجَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ بَيْنَ أَيْدِينَا ؛ وَنَحْنُ لَا نُشَاهِدُهُ ؛ وَإِنْ كَانَ مُنْحَصِرًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِالْمَجْمُوعِ أَوْ بِالْبَعْضِ الَّذِي لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْفَرْعِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ مَعَ الْمُشْتَرَكِ فِي صُورَةٍ مَعَ تَخَلُّفِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ فِي الْأَصْلِ مِمَّا لَا يُوجِبُ اسْتِقْلَالَهُ بِالتَّعْلِيلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةِ أُخْرَى وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا عِلَّةَ لَهُ سِوَاهُ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِخُصُوصِهِ لَا لِعُمُومِهِ وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَلْزَمُ لِعُمُومِ ذَاتِهِ الْحُكْمَ فَمَعَ بُعْدِهِ يُسْتَغْنَى عَنْ التَّمْثِيلِ .
قَالُوا : وَالْفِرَاسَةُ الْبَدَنِيَّةُ هِيَ عَيْنُ التَّمْثِيلِ غَيْرَ أَنَّ الْجَامِعَ فِيهَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ دَلِيلُ الْعِلَّةِ لَا نَفْسُهَا وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهَا اسْتِدْلَالٌ بِمَعْلُولِ الْعِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِهَا ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِهَا عَلَى مَعْلُولِهَا الْآخَرِ . إذْ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ الْمِزَاجَ عِلَّةٌ لِخُلُقٍ بَاطِنٍ وَخُلُقٍ ظَاهِرٍ . فَيُسْتَدَلُّ بِالْخُلُقِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمِزَاجِ ثُمَّ بِالْمِزَاجِ عَلَى الْخُلُقِ الْبَاطِنِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِعَرْضِ الْأَعْلَى عَلَى الشَّجَاعَةِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِمَا مَعْلُولَيْ مِزَاجٍ وَاحِدٍ كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَسَدِ ثُمَّ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الدَّوَرَانِ أَوْ التَّقْسِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمَيْنِ فِي الْأَصْلِ وَاحِدَةٌ فَلَا مَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا فِي الْفَرْعِ بِغَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ الْحُكْمُ الْآخَرُ . هَذَا كَلَامُهُمْ . فَيُقَالُ : تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ قِيَاسِ الشُّمُولِ وَقِيَاسِ التَّمْثِيلِ ؛ بِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ وَالثَّانِيَ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَرْقٌ بَاطِلٌ . بَلْ حَيْثُ أَفَادَ أَحَدُهُمَا الْيَقِينَ أَفَادَ الْآخَرُ الْيَقِينَ . وَحَيْثُ لَا يُفِيدُ أَحَدُهُمَا إلَّا الظَّنَّ لَا يُفِيدُ الْآخَرُ إلَّا الظَّنَّ . فَإِنَّ إفَادَةَ الدَّلِيلِ لِلْيَقِينِ أَوْ الظَّنِّ لَيْسَ لِكَوْنِهِ عَلَى صُورَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ . بَلْ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِ أَحَدِهِمَا لِمَا يُفِيدُ الْيَقِينَ . فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَلْزِمٍ لِلْحُكْمِ يَقِينًا حَصَلَ بِهِ الْيَقِينُ . وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ إلَّا عَلَى مَا يُفِيدُ الْحُكْمُ ظَنًّا لَمْ يُفِدْ إلَّا الظَّنَّ . وَاَلَّذِي يُسَمَّى فِي أَحَدِهِمَا حَدًّا أَوْسَطَ : هُوَ فِي الْآخَرِ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ وَالْقَضِيَّةُ الْكُبْرَى الْمُتَضَمِّنَةُ لُزُومَ الْحَدِّ الْأَكْبَرِ لِلْأَوْسَطِ : هُوَ بَيَانُ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ
الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ . فَمَا بِهِ يَتَبَيَّنُ صِدْقُ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى بِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ . فَلُزُومُ الْأَكْبَرِ لِلْأَوْسَطِ هُوَ لُزُومُ الْحُكْمِ لِلْمُشْتَرَكِ . فَإِذَا قُلْت : النَّبِيذُ حَرَامٌ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِكَوْنِهَا مُسْكِرَةً وَهَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ ؛ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . فَالنَّتِيجَةُ : قَوْلُك : النَّبِيذُ حَرَامٌ ؛ وَالنَّبِيذُ هُوَ مَوْضُوعُهَا وَهُوَ الْحَدُّ الْأَصْغَرُ ؛ وَالْحَرَامُ مَحْمُولُهَا وَهُوَ الْحَدُّ الْأَكْبَرُ ؛ وَالْمُسْكِرُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَهُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ : الْمَحْمُولُ فِي الصُّغْرَى الْمَوْضُوعُ فِي الْكُبْرَى . فَإِذَا قُلْت : النَّبِيذُ حَرَامٌ قِيَاسًا عَلَى خَمْرِ الْعِنَبِ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْإِسْكَارُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ فَثَبَتَ التَّحْرِيمُ لِوُجُودِ عِلَّتِهِ ؛ فَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْت عَلَى تَحْرِيمِ النَّبِيذِ بِالسُّكْرِ وَهُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ لَكِنْ زِدْت فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ ذِكْرَ الْأَصْلِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْفَرْعُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ شُعُورَ النَّفْسِ بِنَظِيرِ الْفَرْعِ أَقْوَى فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ مُجَرَّدِ دُخُولِهِ فِي الْجَامِعِ الْكُلِّيِّ . وَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَأْثِيرِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْأَصْلِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ . وَالْقِيَاسُ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِبْدَاءِ الْجَامِعِ أَوْ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَ " الْجَامِعُ " إمَّا الْعِلَّةُ وَإِمَّا دَلِيلُهَا وَإِمَّا الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ فَهُنَا إلْغَاءُ الْفَارِقِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ .
فَإِذَا
قِيلَ : هَذَا مُسَاوٍ لِهَذَا . وَمُسَاوِي الْمُسَاوِي مُسَاوٍ ؛ كَانَتْ
الْمُسَاوَاةُ هِيَ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ ؛ وَإِلْغَاءُ الْفَارِقِ عِبَارَةٌ عَنْ
الْمُسَاوَاةِ . فَإِذَا قِيلَ : لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إلَّا
كَذَا وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك هَذَا مُسَاوٍ لِهَذَا .
وَحُكْمُ الْمُسَاوِي حُكْمُ مُسَاوِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ
عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فَظَنِّيٌّ . فَيُقَالُ : لَا نُسَلِّمُ . فَإِنَّ هَذِهِ
دَعْوَى كُلِّيَّةٌ وَلَمْ تُقِيمُوا عَلَيْهَا دَلِيلًا . ثُمَّ نَقُولُ :
الَّذِي يَدُلُّ بِهِ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ بِهِ
عَلَى صِدْقِ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى وَكُلُّ مَا يَدُلُّ بِهِ عَلَى صِدْقِ
الْكُبْرَى فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ يَدُلُّ بِهِ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكِ
فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ سَوَاءٌ كَانَ عِلْمِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا . فَإِنَّ
الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ فِي التَّمْثِيلِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ وَلُزُومُ
الْحُكْمِ لَهُ هُوَ لُزُومُ الْأَكْبَرِ لِلْأَوْسَطِ وَلُزُومُ الْأَوْسَطِ
لِلْأَصْغَرِ هُوَ لُزُومُ الْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ لِلْأَصْغَرِ وَهُوَ ثُبُوتُ
الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ . فَإِذَا كَانَ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ . وَهُوَ
الْمُسَمَّى بِالْجَامِعِ وَالْعِلَّةِ أَوْ دَلِيلِ الْعِلَّةِ أَوْ الْمَنَاطِ
أَوْ مَا كَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ ثَابِتًا فِي
الْفَرْعِ لَازِمًا لَهُ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِصِدْقِ الْمُقَدِّمَةِ
الصُّغْرَى . وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا لِلْوَصْفِ لَازِمًا لَهُ ؛ كَانَ
ذَلِكَ مُوجِبًا لِصِدْقِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى . وَذِكْرُ الْأَصْلِ
يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إثْبَاتِ
إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَصْلِ الْمُعَيَّنِ ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ هُوَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا وَتَمَاثُلُهُمَا وَهُوَ إلْغَاءُ الْفَارِقِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ بِإِبْدَاءِ الْعِلَّةِ ؛ فَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْأَصْلِ إذَا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ وَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إثْبَاتُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ إلَيْهِ فَيُذْكَرُ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكِ ؛ وَهُوَ الْحَدُّ الْأَكْبَرُ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسِ الشُّمُولِ أَخَذُوا يُظْهِرُونَ كَوْنَ أَحَدِهِمَا ظَنِّيًّا فِي مَوَادَّ مُعَيَّنَةٍ وَتِلْكَ الْمَوَادُّ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ . وَإِلَّا فَإِذَا أَخَذُوهُ فِيمَا يُسْتَفَادُ بِهِ الْيَقِينُ مِنْ قِيَاسِ الشُّمُولِ ؛ أَفَادَ الْيَقِينَ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَيْضًا . وَكَانَ ظُهُورُ الْيَقِينِ بِهِ هُنَاكَ أَتَمَّ . فَإِذَا قِيلَ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ : كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ فَكُلُّ إنْسَانٍ جِسْمٌ ؛ كَانَ الْحَيَوَانُ هُوَ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ ، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ ؛ بِأَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ جِسْمٌ قِيَاسًا عَلَى الْفَرَسِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ ؛ فَإِنَّ كَوْنَ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ حَيَوَانًا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِهَا أَجْسَامًا . وَإِذَا نُوزِعَ فِي عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ ؛ فَقِيلَ لَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَيَوَانِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الْجِسْمِيَّةَ كَانَ هَذَا نِزَاعًا فِي قَوْلِهِ كُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إذَا سُمِّيَ عِلَّةً ؛ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ ؛ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ ؛ أَوْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِذَلِكَ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي الْجَمِيعَ عِلَّةً ؛ لَا سِيَّمَا مَنْ يَقُولُ إنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْمُعَرَّفُ ؛ وَهُوَ الْأَمَارَةُ وَالْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ ؛ لَا يُرَادُ بِهَا الْبَاعِثُ وَالدَّاعِي وَمَنْ قَالَ إنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهَا الدَّاعِي وَهُوَ الْبَاعِثُ فَإِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي عِلَلِ الْأَفْعَالِ . وَأَمَّا غَيْرُ الْأَفْعَالِ فَقَدْ تُفَسَّرُ الْعِلَّةُ فِيهَا بِالْوَصْفِ الْمُسْتَلْزِمِ كَاسْتِلْزَامِ الْإِنْسَانِيَّةِ لِلْحَيَوَانِيَّةِ والْحَيَوَانِيَّةِ لِلْجِسْمِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْآخَرِ عَلَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ أَنَّ مَا بِهِ يُعْلَمُ كَوْنُ الْحَيَوَانِ جِسْمًا ؛ يُعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ جِسْمٌ حَيْثُ بَيَّنَّا أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ أَوْ عَدِيمُهَا ؛ وَأَنَّ مَا بِهِ يُعْلَمُ صِدْقُ الْكُبْرَى فِي الْعَقْلِيَّاتِ ؛ يُعْلَمُ صِدْقُ أَفْرَادِهَا الَّتِي مِنْهَا الصُّغْرَى . بَلْ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ صِدْقُ النَّتِيجَةِ . ثُمَّ قَالَ : وَتَنَاقُضُهُمْ وَفَسَادُ قَوْلِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى " الْمَنْطِقِ " . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْبُرْهَانِ . وَأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ قِيَاسَ الشُّمُولِ . وَيَسْتَخِفُّونَ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ . وَأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَاكَ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . بَلْ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ . وَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ الصَّحِيحِ أَوْلَى بِإِفَادَةِ الْمَطْلُوبِ عِلْمًا كَانَ أَوْ ظَنًّا مِنْ مُجَرَّدِ قِيَاسِ الشُّمُولِ وَلِهَذَا كَانَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ يَسْتَدِلُّونَ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَدِلُّونَ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ بَلْ لَا يَصِحُّ قِيَاسُ الشُّمُولِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ إلَّا بِتَوَسُّطِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَكُلُّ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ فِي تِلْكَ
الصُّورَةِ وَمَثَّلْنَا هَذَا بِقَوْلِهِمْ الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَشْهَرِ أَقْوَالِهِمْ الْفَاسِدَةِ الْإِلَهِيَّةِ . وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الصَّحِيحَةُ فَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ فِيهَا : فَإِنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ فَلَا نِتَاجَ عَنْ سَالِبَتَيْنِ وَلَا عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَالْكُلِّيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ فَإِذَا عُرِفَ تَحَقُّقُ بَعْضِ أَفْرَادِهِ فِي الْخَارِجِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كُلِّيًّا مُوجِبًا فَإِنَّهُ إذَا أَحَسَّ الْإِنْسَانُ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ انْتَزَعَ مِنْهُ وَصْفًا كُلِّيًّا لَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَتْ أَفْرَادُهُ وَالْعِلْمُ بِثُبُوتِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لِأَصْلِ فِي الْخَارِجِ هُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ . وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ التَّمْثِيلِيُّ أَصْلٌ لِلْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ . إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي حُصُولِهِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ وَحْدُهُ أَقْوَى مِنْهُ . وَهَؤُلَاءِ يُمَثِّلُونَ الْكُلِّيَّاتِ بِمِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ : الْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ وَالنَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمَا مِنْ كُلِّيٍّ مِنْ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَفْرَادِهِ الْخَارِجَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَإِذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ فِي النَّفْسِ ضُرِبَ لَهَا الْمَثَلُ بِفَرْدِ مِنْ أَفْرَادِهَا وَبَيْنَ انْتِفَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْ ثُبُوتِ الْجَامِعِ . وَحِينَئِذٍ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ . وَهَذَا حَقِيقَةُ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ .
وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْثِيلِ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمِ بِمُعَيَّنِ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إذَا عَلِمَ الْكُلِّيَّ مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ فِي الْخَارِجِ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ أَنْ يَعْلَمَهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعَيَّنِ مَا زَادَهُ إلَّا كَمَالًا ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا نَفَوْهُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ أَكْمَلُ مِمَّا أَثْبَتُوهُ . وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ فِي " الْمَنْطِقِ الْإِلَهِيِّ " بَلْ وَ " الطَّبِيعِيِّ " غَيَّرُوا بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ أَرِسْطُو لَكِنْ مَا زَادُوهُ فِي الْإِلَهِيِّ هُوَ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِ أَرِسْطُو فَإِنِّي قَدْ رَأَيْت الْكَلَامَيْنِ . وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ أَجْهَلُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرِ كَثِيرٍ . وَأَمَّا فِي الطَّبِيعِيَّاتِ فَغَالِبُ كَلَامِهِ جَيِّدٌ . وَأَمَّا الْمَنْطِقُ فَكَلَامُهُ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْإِلَهِيِّ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَضْعِيفِ " قِيَاسِ التَّمْثِيلِ " إنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ مُتَأَخِّرِيهِمْ لَمَّا رَأَوْا اسْتِعْمَالَ الْفُقَهَاءِ لَهُ غَالِبًا وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ كَثِيرًا فِي الْمَوَادِّ الظَّنِّيَّةِ وَهُنَاكَ الظَّنُّ حَصَلَ مِنْ الْمَادَّةِ لَا مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ فَلَوْ صَوَّرُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ لَمْ يُفِدْ أَيْضًا إلَّا الظَّنَّ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الضَّعْفَ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ فَجَعَلُوا صُورَةَ قِيَاسِهِمْ يَقِينِيًّا وَصُورَةَ قِيَاسِ الْفُقَهَاءِ ظَنِّيًّا وَمَثَّلُوهُ بِأَمْثِلَةِ كَلَامِيَّةٍ لِيُقَرِّرُوا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِالْأَقْيِسَةِ الظَّنِّيَّةِ كَمَا مَثَّلُوهُ مِنْ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ : بِأَنَّ الْفَلَكَ جِسْمٌ مُؤَلَّفٌ فَكَانَ مُحْدَثًا قِيَاسًا عَلَى الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُوَلَّدَاتِ ثُمَّ أَخَذُوا يُضَعِّفُونَ هَذَا الْقِيَاسَ . لَكِنْ إنَّمَا
ضَعَّفُوهُ
بِضَعْفِ مَادَّتِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَهْمِيَّة
وَالْقَدَرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى
حُدُوثِ الْأَجْسَامِ أَدِلَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَجْلِ مَادَّتِهَا لَا لِكَوْنِ
صُورَتِهَا ظَنِّيَّةً . وَلِهَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَوِّرُوهَا
بِصُورَةِ التَّمْثِيلِ أَوْ الشُّمُولِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا ( الْمَقَامُ الرَّابِعُ ) : وَهُوَ قَوْلُهُمْ : إنَّ الْقِيَاسَ أَوْ
الْبُرْهَانَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّصْدِيقَاتِ فَهُوَ أَدَقُّ الْمَقَامَاتِ .
[ وَذَلِكَ أَنَّ خَطَأَ الْمَنْطِقِيِّينَ فِي الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ :
وَهِيَ مَنْعُ إمْكَانِ التَّصَوُّرِ إلَّا بِالْحَدِّ وَحُصُولُ التَّصَوُّرِ
بِالْحَدِّ وَمَنْعُ حُصُولِ التَّصْدِيقِ بِالْحَدِّ وَمَنْعُ حُصُولِ
التَّصْدِيقِ بِالْقِيَاسِ وَاضِحٌ بِأَدْنَى تَدَبُّرٍ ومدركه قَرِيبٌ
وَالْعِلْمُ بِهِ ظَاهِرٌ ] (*) . وَإِنَّمَا يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ
بِالتَّهْوِيلِ وَالتَّطْوِيلِ وَأَظْهَرُهَا خَطَأً دَعْوَاهُمْ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ
الْمَطْلُوبَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَدِّ وَيَلِيهِ
قَوْلُهُمْ إنَّ شَيْئًا مِنْ التَّصْدِيقَاتِ الْمَطْلُوبَةِ لَا تُنَالُ إلَّا
بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ الْعَامَّ أَمْرٌ لَا
سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِهِ وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَصْلًا مَعَ أَنَّهُ
مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ الْمَطْلُوبَةِ
بِدُونِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ كَمَا تَحْصُلُ تَصَوُّرَاتٌ مَطْلُوبَةٌ
بِدُونِ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْحَدِّ بِخِلَافِ هَذَا الْمَقَامِ
الرَّابِعِ " فَإِنَّ كَوْنَ الْقِيَاسِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُفِيدُ النَّتِيجَةَ هُوَ أَمْرٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ . لَكِنَّ الَّذِي بَيَّنَهُ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ الْمَنْسُوبِ إلَى أَرِسْطُو : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَمَوَادِّهِ مَعَ كَثْرَةِ التَّعَبِ الْعَظِيمِ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ عِلْمِيَّةٌ . بَلْ كُلُّ مَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِقِيَاسِهِمْ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِدُونِ قِيَاسِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ فِي قِيَاسِهِمْ مَا يُحَصِّلُ الْعِلْمَ بِالْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ بِدُونِهِ وَلَا حَاجَةَ إلَى مَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِدُونِهِ . فَصَارَ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ فِي الْعِلْمِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَفِيهِ تَطْوِيلٌ كَثِيرٌ مُتْعِبٌ فَهُوَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْعِلْمِ فِيهِ إتْعَابُ الْأَذْهَانِ وَتَضْيِيعُ الزَّمَانِ وَكَثْرَةُ الْهَذَيَانِ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ بَيَانُ الْعِلْمِ وَبَيَانُ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْعِلْمِ . قَالُوا : وَهَذَا لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْمَطْلُوبَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُعَوِّقَةِ لَهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ تَعَبِ الذِّهْنِ كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ لِيَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ فَإِذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الْمَعْرُوفَ وَصَلَ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ بِسَعْيٍ مُعْتَدِلٍ فَإِذَا قُيِّضَ لَهُ مَنْ يَسْلُكُ بِهِ التَّعَاسِيفَ : - وَالْعَسْفُ فِي اللُّغَةِ الْأَخْذُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ بِحَيْثُ يَدُورُ بِهِ طُرُقًا دَائِرَةً وَيَسْلُكُ بِهِ مَسَالِكَ مُنْحَرِفَةً - فَإِنَّهُ يَتْعَبُ تَعَبًا كَثِيرًا حَتَّى يَصِلَ إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ إنْ وَصَلَ وَإِلَّا فَقَدْ يَصِلُ إلَى غَيْرِ الْمَطْلُوبِ . فَيَعْتَقِدُ اعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةً وَقَدْ يَعْجِزُ بِسَبَبِ
مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ فَلَا هُوَ نَالَ مَطْلُوبَهُ وَلَا هُوَ اسْتَرَاحَ هَذَا إذَا بَقِيَ فِي الْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ . وَلِهَذَا حَكَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ مَوْتِ إمَامِ الْمَنْطِقِيِّينَ فِي زَمَانِهِ الخونجي أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ : أَمُوتُ وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا إلَّا عِلْمِي بِأَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إلَى الْوَاجِبِ . ثُمَّ قَالَ : الِافْتِقَارُ وَصْفٌ سَلْبِيٌّ أَمُوتُ وَمَا عَلِمْت شَيْئًا . فَهَذَا حَالُهُمْ إذَا كَانَ مُنْتَهَى أَحَدِهِمْ الْجَهْلَ الْبَسِيطَ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُنْتَهَاهُ الْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ فَكَثِيرٌ . وَالْوَاصِلُ مِنْهُمْ إلَى عِلْمٍ يُشَبِّهُونَهُ بِمَنْ قِيلَ لَهُ : أَيْنَ أُذُنُك ؟ فَأَدَارَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَمَدَّهَا إلَى أُذُنِهِ بِكُلْفَةِ . وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوصِلَهَا إلَى أُذُنِهِ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ ؛ وَهُوَ أَقْرَبُ وَأَسْهَلُ . وَالْأُمُورُ الْفِطْرِيَّةُ مَتَى جُعِلَ لَهَا طُرُقٌ غَيْرُ الْفِطْرِيَّةِ كَانَ تَعْذِيبًا لِلنُّفُوسِ بِلَا مَنْفَعَةٍ لَهَا كَمَا لَوْ قِيلَ لِرَجُلِ : اقْسِمْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ بِالسَّوِيَّةِ فَإِنَّ هَذَا مُمْكِنٌ بِلَا كُلْفَةٍ فَلَوْ قَالَ لَهُ قَائِلٌ : اصْبِرْ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُك الْقِسْمَةُ حَتَّى تَعْرِفَ حَدَّهَا وَتُمَيِّزَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الضَّرْبِ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ عَكْسُ الضَّرْبِ فَإِنَّ الضَّرْبَ هُوَ تَضْعِيفُ آحَادِ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِآحَادِ الْعَدَدِ الْآخَرِ وَالْقِسْمَةُ تَوْزِيعُ آحَادِ ( أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ عَلَى آحَادِ الْعَدَدِ الْآخَرِ . وَلِهَذَا إذَا ضَرَبَ الْخَارِجَ بِالْقِسْمَةِ فِي الْمَقْسُومِ عَلَيْهِ عَادَ الْمَقْسُومُ . وَإِذَا قَسَمَ الْمُرْتَفِعُ بِالضَّرْبِ عَلَى أَحَدِ الْمَضْرُوبَيْنِ خَرَجَ الْمَضْرُوبُ الْآخَرُ . ثُمَّ يُقَالُ : مَا ذَكَرْته فِي حَدِّ الضَّرْبِ لَا يَصِحُّ فَإِنَّهُ إنَّمَا
يَتَنَاوَلُ ضَرْبَ الْعَدَدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْمَكْسُورِ بَلْ الْحَدُّ الْجَامِعُ لَهُمَا أَنْ يُقَالَ : الضَّرْبُ طَلَبُ جُمْلَةٍ تَكُونُ نِسْبَتُهَا إلَى أَحَدِ الْمَضْرُوبَيْنِ كَنِسْبَةِ الْوَاحِدِ إلَى الْمَضْرُوبِ الْآخَرِ فَإِذَا قِيلَ : اضْرِبْ النِّصْفَ فِي الرُّبُعِ فَالْخَارِجُ هُوَ الثُّمُنُ وَنِسْبَتُهُ إلَى الرُّبُعِ كَنِسْبَةِ النِّصْفِ إلَى الْوَاحِدِ . فَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا لَكِنْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ مَعَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ عَدَدٍ يَعْرِفَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ إذَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقْسِمَهُ حَتَّى يَتَصَوَّرَ هَذَا كُلَّهُ كَانَ هَذَا تَعْذِيبًا لَهُ بِلَا فَائِدَةٍ وَقَدْ لَا يَفْهَمُ هَذَا الْكَلَامَ وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ فِيهِ إشْكَالَاتٌ . فَكَذَلِكَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ هُوَ الْمُرْشِدُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَكُلَّمَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ . وَلِهَذَا قِيلَ : الدَّلِيلُ مَا يَكُونُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيهِ مُوَصِّلًا إلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَلْزُومًا لَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَبُرْهَانًا لَهُ - سَوَاءٌ كَانَا وُجُودِيَّيْنِ أَوْ عَدَمِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا وُجُودِيًّا وَالْآخَرُ عَدَمِيًّا ؛ فَأَبَدًا : الدَّلِيلُ مَلْزُومٌ لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ؛ وَالْمَدْلُولُ لَازِمٌ لِلدَّلِيلِ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الدَّلِيلُ مُقَدِّمَةً وَاحِدَةً مَتَى عُلِمَتْ عُلِمَ الْمَطْلُوبُ ؛ وَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ ؛ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ وَأَرْبَعٍ وَخَمْسٍ وَأَكْثَرَ ؛ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ يَتَسَاوَى فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْمَطَالِبِ ؛ بَلْ ذَلِكَ
بِحَسَبِ عِلْمِ الْمُسْتَدِلِّ الطَّالِبِ بِأَحْوَالِ الْمَطْلُوبِ وَالدَّلِيلِ وَلَوَازِمِ ذَلِكَ ؛ وَمَلْزُومَاتِهِ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مَا بِهِ يَعْلَمُ الْمَطْلُوبَ مُقَدِّمَةً وَاحِدَةً ؛ كَانَ دَلِيلُهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ لَهُ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ كَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمٌ ؛ وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُسْكِرٌ ؛ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ هُوَ خَمْرٌ . فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَّا إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ . فَإِذَا قِيلَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } . حَصَلَ مَطْلُوبُهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُقَالَ : كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ . وَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ . وَلَا أَنْ يُقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ . فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَعْلُومٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الْمُسْكِرَاتِ كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ هُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَنَّهُ جَعَلَهُ عَامًّا لَا خَاصًّا حَصَلَ مَطْلُوبُهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَيُرْوَى بِلَفْظَيْنِ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } . { وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . وَلَمْ يَقُلْ : كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ . كَالنَّظْمِ الْيُونَانِيِّ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ قَدْرًا فِي عِلْمِهِ وَبَيَانِهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَيَانِهِمْ . فَإِنَّهُ إنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ لَمْ يَحْتَجْ مَعَ قَوْلِهِ إلَى دَلِيلٍ . وَإِنْ قَصَدَ بَيَانَ الدَّلِيلِ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عَامَّةَ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُقَرِّرُ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ . وَأَحْسَنُهُمْ بَيَانًا لَهُ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ جَمِيعُ الْمَطَالِبِ تَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ . وَلَا يَكْفِي فِي جَمِيعِهَا
مُقَدِّمَتَانِ ؛ بَلْ يَذْكُرُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ سَوَاءٌ كَانَ مُقَدِّمَةً أَوْ مُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ . وَمَا قَصَدَ بِهِ هُدًى عَامًّا كَالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ بَيَانًا لِلنَّاسِ يَذْكُرُ فِيهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ عَامَّةً . وَهَذَا إنَّمَا يُمْكِنُ بَيَانُ أَنْوَاعِهَا الْعَامَّةِ . وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ شَخْصٍ فَلَا ضَابِطَ لَهُ حَتَّى يُذْكَرَ فِي كَلَامٍ . بَلْ هَذَا يَزُولُ بِأَسْبَابِ تَخْتَصُّ بِصَاحِبِهِ كَدُعَائِهِ لِنَفْسِهِ وَمُخَاطَبَةِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَهُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ . وَنَظَرِهِ فِيمَا يَخُصُّ حَالَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَ " أَيْضًا " فَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ تِلْكَ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ قِيَاسِهِمْ . فَلَا تُعْلَمُ كُلِّيَّةٌ بِقِيَاسِهِمْ إلَّا وَالْعِلْمُ بِجُزْئِيَّاتِهَا مُمْكِنٌ بِدُونِ قِيَاسِهِمْ . وَرُبَّمَا كَانَ أَيْسَرَ . فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعَيَّنَاتِ قَدْ يَكُونُ أَبْيَنَ مِنْ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْعِلْمُ وَالطَّرِيقُ إلَيْهِ هُوَ الدَّلِيلُ . فَمَنْ عَرَفَ دَلِيلَ مَطْلُوبِهِ عَرَفَ مَطْلُوبَهُ سَوَاءٌ نَظَمَهُ بِقِيَاسِهِمْ أَمْ لَا وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ دَلِيلَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ قِيَاسُهُمْ وَلَا يُقَالُ إنَّ قِيَاسَهُمْ يَعْرِفُ صَحِيحَ الْأَدِلَّةِ مِنْ فَاسِدِهَا فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَقُولُهُ جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ قِيَاسِهِمْ فَإِنَّ حَقِيقَةَ قِيَاسِهِمْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا شَكْلُ الدَّلِيلِ وَصُورَتُهُ . وَأَمَّا كَوْنُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ مُسْتَلْزِمًا لِمَدْلُولِهِ فَهَذَا لَيْسَ فِي قِيَاسِهِمْ مَا يَتَعَرَّضُ
لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَإِنَّمَا هَذَا بِحَسَبِ عِلْمِهِ بِالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ . وَلَيْسَ فِي قِيَاسِهِمْ بَيَانُ صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ وَلَا فَسَادِهَا . وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي هَذَا إذَا تَكَلَّمُوا فِي مَوَادِّ الْقِيَاسِ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ جِهَةِ مَا يَصْدُقُ بِهَا وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا فِيهِ خَطَأٌ كَثِيرٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي كُلِّ بُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ فِي الْعَالَمِ هُوَ اللُّزُومُ فَمَنْ عَرَفَ أَنَّ هَذَا لَازِمٌ لِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِالْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ . وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ اللُّزُومِ وَلَا تَصَوَّرَ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ . بَلْ مَنْ عَرَفَ أَنَّ كَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَذَا أَوْ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَا كَانَ كَذَا وَأَمْثَالُ هَذَا فَقَدْ عَلِمَ اللُّزُومَ . كَمَا يَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ آيَةٌ لِلَّهِ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ : لَمَّا سَمِعْت هَذِهِ الْآيَةَ أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ انْصَدَعَ . فَإِنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ يَقُولُ : أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ ؟ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ فَهَذَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا فَعُلِمَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا فِطْرِيَّةٌ بَدِيهِيَّةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي النُّفُوسِ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدِ إنْكَارُهَا ؛ فَلَا يُمْكِنُ صَحِيحَ الْفِطْرَةِ أَنْ يَدَّعِيَ وُجُودَ حَادِثٍ بِدُونِ مُحْدِثٍ أَحْدَثَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : هَذَا أَحْدَثَ نَفْسَهُ .
وَكَثِيرٌ
مِنْ النُّظَّارِ يَسْلُكُ طَرِيقًا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ
وَيَقُولُ : لَا يُوصَلُ إلَى مَطْلُوبٍ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ ؛ وَلَا يَكُونُ
الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ فِي النَّفْيِ ؛ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا فِي صِحَّةٍ
ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ كُلَّمَا كَانَ النَّاسُ إلَى
مَعْرِفَتِهِ أَحْوَجَ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَى عُقُولِ النَّاسِ مَعْرِفَةَ
أَدِلَّتِهِ فَأَدِلَّةُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَأَعْلَامِ
النُّبُوَّة وَأَدِلَّتِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ؛ وَطُرُقُ النَّاسِ فِي
مَعْرِفَتِهَا كَثِيرَةٌ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الطُّرُقِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ . أَوْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ
غَيْرِهِ . وَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ كُلَّمَا كَانَ الطَّرِيقُ أَدَقَّ
وَأَخْفَى وَأَكْثَرَ مُقَدِّمَاتٍ وَأَطْوَلَ كَانَ أَنْفَعَ لَهُ ؛ لِأَنَّ
نَفْسَهُ اعْتَادَتْ النَّظَرَ فِي الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ ؛ فَإِذَا كَانَ
الدَّلِيلُ قَلِيلَ الْمُقَدِّمَاتِ أَوْ كَانَتْ جَلِيَّةً لَمْ تَفْرَحْ
نَفْسُهُ بِهِ ؛ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ مَعَهُ الطُّرُقُ الْكَلَامِيَّةُ
الْمَنْطِقِيَّةُ وَغَيْرُهَا لِمُنَاسَبَتِهَا لِعَادَتِهِ ؛ لَا لِكَوْنِ
الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهَا مُطْلَقًا . فَإِنَّ مِنْ
النَّاسِ مَنْ إذَا عَرَفَ مَا يَعْرِفُهُ جُمْهُورُ النَّاسِ وَعُمُومُهُمْ أَوْ
مَا يُمْكِنُ غَيْرَ الْأَذْكِيَاءِ مَعْرِفَتُهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ نَفْسِهِ
قَدْ امْتَازَ عَنْهُمْ بِعِلْمِ . فَيُحِبُّ مَعْرِفَةَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ
الدَّقِيقَةِ الْكَثِيرَةِ الْمُقَدِّمَاتِ . وَلِهَذَا يَرْغَبُ كَثِيرٌ مِنْ
عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي النَّظَرِ فِي الْعُلُومِ الصَّادِقَةِ الدَّقِيقَةِ
كَالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ وَعَوِيصِ الْفَرَائِضِ وَالْوَصَايَا وَالدُّورِ
وَهُوَ عِلْمٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ . وَ " عِلْمُ الْفَرَائِضِ نَوْعَانِ
" : أَحْكَامٌ وَحِسَابٌ . فَالْأَحْكَامُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : عِلْمُ
الْأَحْكَامِ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَهَذَا أَوَّلُهَا . وَيَلِيهِ
عِلْمُ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ فِيمَا
اُخْتُلِفَ
فِيهِ مِنْهَا وَيَلِيهِ عِلْمُ أَدِلَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَأَمَّا " حِسَابُ الْفَرَائِضِ " فَمَعْرِفَةُ أُصُولِ الْمَسَائِلِ
وَتَصْحِيحُهَا وَالْمُنَاسَخَاتُ وَقِسْمَةُ التَّرِكَاتِ . وَهَذَا الثَّانِي
كُلُّهُ عِلْمٌ مَعْقُولٌ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَسَائِرِ حِسَابِ الْمُعَامَلَاتِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا النَّاسُ . ثُمَّ
قَدْ ذَكَرُوا حِسَابَ الْمَجْهُولِ الْمُلَقَّبَ بِحِسَابِ الْجَبْرِ
وَالْمُقَابَلَةِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عِلْمٌ قَدِيمٌ لَكِنَّ إدْخَالَهُ فِي
الْوَصَايَا وَالدَّوْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ أَدْخَلَهُ
فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الخوارزمي . وَبَعْضُ النَّاسِ يَذْكُرُ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهِ وَأَنَّهُ تَعَلَّمَ ذَلِكَ
مِنْ يَهُودِيٍّ وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى عَلِيٍّ .
وَلَفْظُ " الدُّورِ " يُقَالُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : "
الدُّورُ الْكَوْنِيُّ " الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ
أَنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا وَلَا يَكُونُ هَذَا حَتَّى
يَكُونَ هَذَا وَطَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ : هُوَ مُمْتَنِعٌ
. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ نَوْعَانِ : كَمَا يَقُولُهُ الآمدي وَغَيْرُهُ "
دَوْرٌ قبلي " وَ " دَوْرٌ معي " فالقبلي مُمْتَنِعٌ وَهُوَ
الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْعِلَلِ وَفِي الْفَاعِلِ وَالْمُؤَثِّرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
. مِثْلَ أَنْ يُقَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ
فَاعِلًا لِلْآخَرِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الدَّوْرِ وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ
هَذَا قَبْلَ ذَاكَ وَذَاكَ قَبْلَ هَذَا . وَ " المعي " مُمْكِنٌ
وَهُوَ دَوْرُ الشَّرْطِ مَعَ الْمَشْرُوطِ . وَأَحَدُ الْمُتَضَايِفَيْنِ مَعَ
الْآخَرِ مِثْلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأُبُوَّةُ إلَّا مَعَ الْبُنُوَّةِ وَلَا
يَكُونَ الْبُنُوَّةُ إلَّا مَعَ الْأُبُوَّةِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ الْفِقْهِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ السريجية وَغَيْرِهَا . وَقَدْ أَفْرَدْنَا فِيهِ مُؤَلَّفًا وَبَيَّنَّا أَنَّهُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا . وَبَيَّنَّا هَلْ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الدَّوْرِ أَمْ لَا ؟ . ( الثَّالِثُ : الدَّوْرُ الْحِسَابِيُّ ؛ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا يُعْلَمُ هَذَا حَتَّى يُعْلَمَ هَذَا . فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُطْلَبُ حَلُّهُ بِالْحِسَابِ وَالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ حِسَابِ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ . وَإِنْ كَانَ حِسَابُ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ صَحِيحًا فَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ وَمَعْرِفَتَهَا لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى شَيْءٍ يُتَعَلَّمُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا صَحِيحًا . بَلْ طُرُقُ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ فِيهَا تَطْوِيلٌ . يُغْنِي اللَّهُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَنْطِقِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَا بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الْعِلْمِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَالْعِلْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْعِلْمِ بِالْهِلَالِ ؛ فَكُلُّ هَذَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ بِالطُّرُقِ الَّتِي كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ يَسْلُكُونَهَا وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ . وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ أَحْدَثُوا طُرُقًا أُخَرَ ؛ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الشَّرِيعَةِ إلَّا بِهَا . وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْقِبْلَةِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَطْوَالِ الْبِلَادِ وَعُرُوضِهَا . وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عِلْمًا صَحِيحًا حِسَابِيًّا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُسْلِمِينَ بِقِبْلَتِهِمْ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى هَذَا . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْقُطْبِ وَلَا بِالْجَدْيِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . بَلْ إذَا جَعَلَ مَنْ فِي الشَّامِ وَنَحْوِهَا الْمَغْرِبَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَشْرِقَ عَنْ شِمَالِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ . وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ وَقْتِ طُلُوعِ الْهِلَالِ بِالْحِسَابِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ عَرَفُوا أَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الشَّمْسِ وَأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْقُرْصَانُ عِنْدَ الِاسْتِسْرَارِ لَا يُرَى لَهُ ضَوْءٌ فَإِذَا فَارَقَ الشَّمْسَ صَارَ فِيهِ النُّورُ فَهُمْ أَكْثَرُ مَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَضْبُطُوا بِالْحِسَابِ كَمْ بُعْدُهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَنْ الشَّمْسِ . هَذَا إذَا قُدِّرَ صِحَّةُ تَقْوِيمِ الْحِسَابِ وَتَعْدِيلِهِ فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ عِلْمَ التَّقْوِيمِ وَالتَّعْدِيلِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَعْلَى مَسِيرِ الْكَوَاكِبِ وَأَدْنَاهُ فَيَأْخُذُونَ مُعَدَّلَهُ فَيَحْسِبُونَهُ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ حَزَرُوا ارْتِفَاعَهُ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ وَلَا انْتِفَائِهَا ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَهَا أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْ صَفَاءِ الْهَوَاءِ وَكَدَرِهِ وَارْتِفَاعِ النَّظَرِ وَانْخِفَاضِهِ وَحِدَّةِ الْبَصَرِ وكلاله فَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَرَاهُ . وَيَرَاهُ مَنْ هُوَ أَحَدُّ بَصَرًا مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَلِهَذَا كَانَ قُدَمَاءُ عُلَمَاءِ " الْهَيْئَةِ " كَبَطْلَيْمُوسَ صَاحِبِ الْمَجِسْطِي وَغَيْرِهِ لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِحَرْفِ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ كوشيار الدَّيْلَمِيَّ وَنَحْوِهِ لَمَّا رَأَوْا الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِاعْتِبَارِ الرُّؤْيَةِ . فَأَحَبُّوا أَنْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ بِالْحِسَابِ
فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يُرَى عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ دَرَجَةٍ أَوْ عَشْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَقَدْ أَخْطَأَ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَاهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا الْعَقْلَ اعْتَبَرُوا وَلَا الشَّرْعَ عَرَفُوا . وَلِهَذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حُذَّاقُ صِنَاعَتِهِمْ . ثُمَّ قَالَ : فَصُورَةُ الْقِيَاسِ لَا تَدْفَعُ صِحَّتَهَا لَكِنْ نُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ بِهِ عِلْمٌ بِالْمَوْجُودَاتِ . كَمَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُمْ للمقدمتين دُونَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ شَرْطٌ بَاطِلٌ . فَهُوَ وَإِنْ حَصَلَ بِهِ يَقِينٌ فَلَا يُسْتَفَادُ بِخُصُوصِهِ يَقِينٌ مَطْلُوبٌ بِشَيْءِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ . فَنَقُولُ : إنَّ صُورَةَ الْقِيَاسِ إذَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مَعْلُومَةً لَا رَيْبَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْيَقِينَ فَإِذَا قِيلَ كُلُّ أ بـ وَكُلُّ بـ ج وَكَانَتْ الْمُقَدِّمَتَانِ مَعْلُومَتَيْنِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِأَنَّ كُلَّ أ ج لَكِنْ يُقَالُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَشْكَالِ وَشَرْطِ نِتَاجِهَا تَطْوِيلٌ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ كَثِيرُ التَّعَبِ . فَإِنَّهُ مَتَى كانت الْمَادَّةُ صَحِيحَةً أَمْكَنَ تَصْوِيرُهَا بِالشَّكْلِ الْأَوَّلِ الْفِطْرِيِّ فَبَقِيَّةُ الْأَشْكَالِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَهِيَ إنَّمَا تُفِيدُ بِالرَّدِّ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ إمَّا بِإِبْطَالِ النَّقِيضِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قِيَاسُ الْخَلْفِ وَإِمَّا بِالْعَكْسِ الْمُسْتَوِي أَوْ عَكْسِ النَّقِيضِ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ . إذَا رُدَّ عَلَى التَّنَاقُضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . فَهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِصِحَّةِ الْقَضِيَّةِ عَلَى بُطْلَانِ نَقْضِهَا وَعَلَى ثُبُوتِ عَكْسِهَا الْمُسْتَوِي وَعَكْسِ نَقِيضِهَا بَلْ تَصَوُّرُ الذِّهْنِ
لِصُورَةِ
الدَّلِيلِ يُشْبِهُ حِسَابَ الْإِنْسَانِ لِمَا مَعَهُ مِنْ الرَّقِيقِ
وَالْعَقَارِ . وَالْفِطْرَةُ تَتَصَوَّرُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ مِنْ غَيْرِ
تَعْلِيمٍ . وَالنَّاسُ بِفِطَرِهِمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ
التَّدَاخُلِ وَالتَّلَازُمِ وَالتَّقْسِيمِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْحِسَابِ
وَنَحْوِهِ والمنطقيون قَدْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ . وَالْحَاصِلُ أَنَّا لَا
نُنْكِرُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ إذَا كَانَتْ مَوَادُّهُ يَقِينِيَّةً
؛ لَكِنْ نَقُولُ : إنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِهِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى
الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ ؛ بَلْ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ
مِنْ الْعِلْمِ مُتَوَقِّفًا عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ . ثُمَّ الْمَوَادُّ
الْيَقِينِيَّةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَا يَحْصُلُ بِهَا عِلْمٌ بِالْأُمُورِ
الْمَوْجُودَةِ فَلَا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودٌ تَزْكُو بِهِ النُّفُوسُ بَلْ
وَلَا عِلْمٌ بِالْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ عَلَى مَا هِيَ
عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ . فَلَا يُمْكِنُ
قَطُّ أَنْ يَتَحَصَّلَ بِالْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ الْمَنْطِقِيِّ الَّذِي
يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانِيَّ عِلْمٌ إلَّا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِقِيَاسِ
التَّمْثِيلِ الَّذِي يَسْتَضْعِفُونَهُ . فَإِنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ
فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ .
وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْكُلِّيَّةِ كُلِّيَّةً لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِهِ إلَّا
مَعَ الْجَزْمِ بِتَمَاثُلِ أَفْرَادِهِ فِي القدر الْمُشْتَرَكِ وَهَذَا يَحْصُلُ
بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ بِوُجُوهِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَوَادَّ الْيَقِينِيَّةَ قَدْ حَصَرُوهَا فِي الْأَصْنَافِ
الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ .
أَحَدُهَا : الْحِسِّيَّاتُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحِسَّ لَا يُدْرِكُ أَمْرًا كُلِّيًّا عَامًّا أَصْلًا فَلَيْسَ فِي الْحِسِّيَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَةً فِي الْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ . وَإِذَا مَثَّلُوا ذَلِكَ : بِأَنَّ النَّارَ تُحْرِقُ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِعُمُومِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَإِنَّمَا مَعَهُمْ التَّجْرِبَةُ وَالْعَادَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ اشْتِمَالِ النَّارِ عَلَى قُوَّةٍ مُحْرِقَةٍ فَالْعِلْمُ بِأَنَّ كُلَّ نَارٍ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْقُوَّةِ هُوَ أَيْضًا حُكْمٌ كُلِّيٌّ وَإِنْ قِيلَ : إنَّ الصُّورَةَ النَّارِيَّةَ لَا بُدَّ أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ الْقُوَّةِ . وَإِنَّ مَا لَا قُوَّةَ فِيهِ لَيْسَ بِنَارِ فَهَذَا الْكَلَامُ إنْ صَحَّ لَا يُفِيدُ الْجَزْمَ بِأَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ هَذِهِ الْقُوَّةُ يُحْرِقُ مَا لَاقَاهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْغَالِبَ فَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَالشُّمُولِ وَالْعَادَةِ وَالِاسْتِقْرَاءِ النَّاقِصِ - إذَا سَلِمَ لَهُمْ ذَلِكَ - كَيْفَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تُحْرِقُ السمندل وَالْيَاقُوتَ وَالْأَجْسَامَ الْمَطْلِيَّةَ بِأُمُورِ مَصْنُوعَةٍ وَلَا أَعْلَمُ فِي الْقَضَايَا الْحِسِّيَّةِ كُلِّيَّةً لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا مَعَ أَنَّ الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ لَيْسَتْ حِسِّيَّةً وَإِنَّمَا الْقَضِيَّةُ الْحِسِّيَّةُ : أَنَّ هَذِهِ النَّارَ تُحْرِقُ فَإِنَّ الْحِسَّ لَا يُدْرِكُ إلَّا شَيْئًا خَاصًّا . وَأَمَّا الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ فَيَقُولُونَ : إنَّ النَّفْسَ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا هَذِهِ الْمُعَيَّنَاتِ مُسْتَعِدَّةٌ لِأَنْ تُفِيضَ عَلَيْهَا قَضِيَّةً كُلِّيَّةً بِالْعُمُومِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَلَا يُوثَقُ بِعُمُومِهِ إنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ الْعَامَّ لَازِمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ . وَهَذَا إذَا عُلِمَ عُلِمَ فِي جَمِيعِ الْمُعَيَّنَاتِ فَلَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ بِالْمُعَيَّنَاتِ مَوْقُوفًا عَلَى هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقَضَايَا الْعَادِيَّاتِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ .
الثَّانِي
: " الْوِجْدَانِيَّاتُ الْبَاطِنِيَّةُ " . كَإِدْرَاكِ كُلِّ أَحَدٍ
جُوعَهُ وَأَلَمَهُ وَلَذَّتَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا جُزْئِيَّاتٌ ؛ بَلْ هَذِهِ لَا
يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي إدْرَاكِ كُلِّ جُزْئِيٍّ مِنْهَا كَمَا قَدْ
يَشْتَرِكُونَ فِي إدْرَاكِ بَعْضِ الْحِسِّيَّاتِ الْمُنْفَصِلَةِ كَالشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ فَفِيهَا مِنْ الْخُصُوصِ فِي الْمُدْرِكِ وَالْمُدْرَكِ مَا لَيْسَ
فِي الْحِسِّيَّاتِ الْمُنْفَصِلَةِ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي نَوْعِهَا فَهِيَ
تُشْبِهُ الْعَادِيَّاتِ . وَلَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً عَلَى وُجُوبِ تَسَاوِي
النُّفُوسِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَلْ وَلَا عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ .
أَنَّهَا مُسْتَوِيَةُ الْأَفْرَادِ .
الثَّالِثُ : " الْمُجَرَّبَاتُ " وَهِيَ كُلُّهَا جُزْئِيَّةٌ .
فَإِنَّ التَّجْرِبَةَ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ . وَكَذَلِكَ
" الْمُتَوَاتِرَاتُ " فَإِنَّ الْمُتَوَاتِرَ إنَّمَا هُوَ مَا عُلِمَ
بِالْحِسِّ مِنْ مَسْمُوعٍ أَوْ مَرْئِيٍّ . فَالْمَسْمُوعُ قَوْلٌ مُعَيَّنٌ
وَالْمَرْئِيُّ جِسْمٌ مُعَيَّنٌ أَوْ لَوْنٌ مُعَيَّنٌ أَوْ عَمَلٌ مُعَيَّنٌ
أَوْ أَمْرٌ مُعَيَّنٌ . وَأَمَّا " الْحَدْسِيَّاتُ " إنْ جُعِلَتْ
يَقِينِيَّةً فَهِيَ نَظِيرُ الْمُجَرَّبَاتِ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا
يَعُودُ إلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَإِنَّمَا يَعُودُ إلَى أَنَّ "
الْمُجَرَّبَاتِ " تَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُجَرِّبِينَ
وَالْحَدْسِيَّاتُ تَكُونُ عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَبَعْضُ النَّاسِ يُسَمِّي
الْكُلَّ تَجْرِيبِيَّاتٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ إلَّا الْأَوَّلِيَّاتُ الَّتِي
هِيَ الْبَدِيهِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْأَوَّلِيَّاتُ الْكُلِّيَّةُ إنَّمَا
هِيَ قَضَايَا مُطْلَقَةٌ فِي الْأَعْدَادِ وَالْمَقَادِيرِ وَنَحْوِهَا مِثْلَ
قَوْلِهِمْ : الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ
لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذِهِ مُقَدَّرَاتٌ فِي
الذِّهْنِ لَيْسَتْ فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّةً .
فَقَدْ
تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ الْبُرْهَانِيَّةَ الَّتِي يَجِبُ
الْقَطْعُ بِكُلِّيَّتِهَا الَّتِي يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي قِيَاسِهِمْ لَا
تُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ
فِي مُقَدَّرَاتٍ ذِهْنِيَّةٍ فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُهُمْ مَعْرِفَةُ الْأُمُورِ
الْمَوْجُودَةِ بِالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِحَصْرِ أَقْسَامِ الْمَوْجُودِ . بَلْ
أَرِسْطُو لَمَّا حَصَرَ أَجْنَاسَ الْمَوْجُودَاتِ فِي " الْمَقُولَاتِ
الْعَشْرِ " : الْجَوْهَرِ وَالْكَمِّ وَالْكَيْفِ وَالْأَيْنِ وَمَتَى
وَالْوَضْعِ وَأَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ وَالْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ .
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ صِحَّةِ هَذَا الْحَصْرِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ
قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ فَتِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ
تَنْتَهِيَ إلَى أَنْ تُعْلَمَ بِغَيْرِ قِيَاسٍ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ
وَالتَّسَلْسُلُ ؛ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ قَضَايَا
كُلِّيَّةٌ مَعْلُومَةٌ بِغَيْرِ قِيَاسٍ . فَنَقُولُ : لَيْسَ فِي
الْمَوْجُودَاتِ مَا تَعْلَمُ لَهُ الْفِطْرَةُ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً بِغَيْرِ
قِيَاسٍ إلَّا وَعِلْمُهَا بِالْمُفْرَدَاتِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ تِلْكَ
الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِهَا بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ
الْكُلِّيَّةِ مِثْلَ قَوْلِنَا : الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالْجِسْمُ لَا
يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِنَّ الْعِلْمَ
بِأَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ فِي الْفِطْرَةِ أَقْوَى مِنْ
الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفُ كُلِّ اثْنَيْنِ وَهَكَذَا مَا يُفْرَضُ
مِنْ الْآحَادِ . فَيُقَالُ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ
إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمَ بِالْمَوْجُودِ الْخَارِجِيِّ
أَوْ الْعِلْمَ بِالْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ : أَمَّا الثَّانِي فَفَائِدَتُهُ قَلِيلَةٌ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا مِنْ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ إلَّا وَحُكْمُهُ بِعِلْمِ تَعَيُّنِهِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى مِنْ الْعِلْمِ بِهِ عَنْ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ يَتَنَاوَلُهُ فَلَا يَتَحَصَّلُ بِالْقِيَاسِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ ؛ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ تَطْوِيلًا . وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ الْقِيَاسُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِأَجْلِ الغالط وَالْمُعَانِدِ فَيُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ وَتُذْكَرُ الْكُلِّيَّةُ رَدًّا لِغَلَطِهِ وَعِنَادِهِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : الضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَأَيُّ شَيْئَيْنِ عُلِمَ تَضَادُّهُمَا فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ قَبْلَ اسْتِحْضَارِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ بِأَنَّ كُلَّ ضِدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَمَا مِنْ جِسْمٍ مُعَيَّنٍ إلَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . فَمَا مِنْ مُعَيَّنٍ مَطْلُوبٍ عِلْمُهُ بِهَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ إلَّا وَهُوَ يُعْلَمُ قَبْلَ أَنْ تُعْلَمَ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ وَلَا يُحْتَاجُ فِي الْعِلْمِ بِهِ إلَيْهَا . وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِهَا مَا يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ مِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَارِجِ . وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ الْخَارِجِيَّةُ فَتُعْلَمُ بِدُونِ هَذَا الْقِيَاسِ وَإِذَا قِيلَ إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ بِهَذَا الْقِيَاسِ فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يُنْكِرُونَ أَنَّهُ يَقِينِيٌّ . فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إنْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ الشُّمُولِ يَنْقَسِمُ إلَى يَقِينِيٍّ وَظَنِّيٍّ بَطَلَ تَفْرِيقُهُمْ وَإِنْ ادَّعَوْا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ يَكُونُ يَقِينِيًّا دُونَ التَّمْثِيلِ مُنِعُوا ذَلِكَ وَبُيِّنَ لَهُمْ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَحْصُلُ
فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ بِالتَّمْثِيلِ . فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِمَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ قِيَاسًا عَلَى مَا عُلِمَ مِنْهَا وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ بَلْ هَذَا مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْعَقْلِ الَّتِي فَارَقَ بِهَا الْحِسَّ إذْ الْحِسُّ لَا يُعْلَمُ إلَّا مُعَيَّنًا وَالْعَقْلُ يُدْرِكُهُ كُلِّيًّا مُطْلَقًا لَكِنْ بِوَاسِطَةِ التَّمْثِيلِ ثُمَّ الْعَقْلُ يُدْرِكُهَا كُلَّهَا مَعَ عُزُوبِ الْأَمْثِلَةِ الْمُعَيَّنَةِ عَنْهُ لَكِنْ هِيَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا صَارَتْ فِي ذِهْنِهِ كُلِّيَّةً عَامَّةً بَعْدَ تَصَوُّرِهِ لِأَمْثَالِ مُعَيَّنَةٍ مِنْ أَفْرَادِهَا ؛ وَإِذَا بَعُدَ عَهْدُ الذِّهْنِ بِالْمُفْرَدَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فَقَدْ يَغْلَطُ كَثِيرًا بِأَنْ يَجْعَلَ الْحُكْمَ إمَّا أَعَمَّ وَإِمَّا أَخَصَّ وَهَذَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ كَثِيرًا حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ صَحِيحٌ وَيَكُونُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُمْ يَتَصَوَّرُونَ الشَّيْءَ بِعُقُولِهِمْ وَيَكُونُ مَا تَصَوَّرُوهُ مَعْقُولًا بِالْعَقْلِ فَيَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي مَاهِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ بِنَفْسِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ وَلَا فِي الذِّهْنِ فَيَقُولُونَ : الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالسَّوَادُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ الَّتِي جَرَّدُوهَا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ السَّلْبِيَّةِ وَالثُّبُوتِيَّةِ مُحَقَّقَةٌ فِي الْخَارِجِ عَلَى هَذَا التَّجْرِيدِ وَذَلِكَ غَلَطٌ كَغَلَطِ أَوَّلِيهِمْ فِيمَا جَرَّدُوهُ مِنْ الْعَدَدِ وَالْمُثُلِ الْأَفْلاطونيَّةِ وَغَيْرِهَا بَلْ هَذِهِ الْمُجَرَّدَاتُ لَا تَكُونُ إلَّا مُقَدَّرَةً فِي الذِّهْنِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا فَرَضَهُ الذِّهْنُ أَمْكَنَ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ وَهَذَا الَّذِي يُسَمَّى الْإِمْكَانَ الذِّهْنِيَّ . فَإِنَّ الْإِمْكَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ .
" ذِهْنِيٌّ " وَهُوَ أَنْ يَعْرِضَ الشَّيْءُ عَلَى الذِّهْنِ فَلَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ بَلْ يَقُولُ يُمْكِنُ هَذَا لَا لِعِلْمِهِ بِإِمْكَانِهِ ؛ بَلْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِامْتِنَاعِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ مُمْتَنِعًا فِي الْخَارِجِ . وَ " خَارِجِيٌّ " وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ إمْكَانُ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ وَهَذَا يَكُونُ بِأَنْ يُعْلَمَ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ أَوْ وُجُودُ نَظِيرِهِ أَوْ وُجُودُ مَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْوُجُودِ مِنْهُ . فَإِذَا كَانَ الْأَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ الْوُجُودِ مَوْجُودًا مُمْكِنَ الْوُجُودِ فَالْأَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ مِنْهُ أَوْلَى . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ " إمْكَانِ الْمَعَادِ " . فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَتَارَةً يُخْبِرُ عَمَّنْ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ قَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ قَالُوا : { أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } قَالَ : { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } وَعَنْ { الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } وَعَنْ : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } وَعَنْ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى } الْقِصَّةُ . وَكَمَا أَخْبَرَ عَنْ الْمَسِيحِ أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ : أَنَّهُمْ بُعِثُوا بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ . وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى فَإِنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ مِنْ الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } الْآيَةُ
وَقَوْلِهِ : { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } { قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } . وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ خَلْقَهُمَا أَعْظَمُ مِنْ إعَادَةِ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى إمْكَانِهِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا } إلَى قَوْلِهِ : { كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى } فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا عِنْدَ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ . فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ وَمَا هُوَ أَبْلَغُ وَأَكْمَلُ مِنْهَا عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ الْأَغَالِيطِ الْكَثِيرَةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ خَطَأَهُمْ فِيهَا كَثِيرٌ جِدًّا وَلَعَلَّ ضَلَالَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ هُدَاهُمْ وَجَهْلَهُمْ أَكْثَرُ مَنْ عِلْمِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي كِتَابِهِ " أَقْسَامِ الذَّاتِ " لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ يُعْرَفُ بِالْوُجُودِ لَا بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الآمدي . وَأَبْعَدُ مِنْ إثْبَاتِهِ الْإِمْكَانُ الْخَارِجِيُّ بِالْإِمْكَانِ الذِّهْنِيِّ مَا يَسْلُكُهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ كَابْنِ سِينَا فِي إثْبَاتِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ بِمُجَرَّدِ إمْكَانِ تَصَوُّرِهِ فِي الذِّهْنِ كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إثْبَاتَ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ مَعْقُولٍ لَا يَكُونُ مَحْسُوسًا بِحَالِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِتَصَوُّرِ الْإِنْسَانِ الْكُلِّيِّ الْمُطْلَقِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْأَفْرَادِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَهَذَا إنَّمَا يُفِيدُ إمْكَانَ وُجُودِ هَذِهِ الْمَعْقُولَاتِ فِي الذِّهْنِ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ فَأَيْنَ طُرُقُ هَؤُلَاءِ فِي إثْبَاتِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ مِنْ طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ . ثُمَّ إنَّهُمْ يُمَثِّلُونَ بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ يُرِيدُونَ خُرُوجَ النَّاسِ عَمَّا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا مِثْلَ هَذِهِ الْقَضَايَا الْكَاذِبَةِ ؛ وَالْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ أُصُولًا عَقْلِيَّةً يُعَارَضُ بِهَا مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مِنْ الْآيَاتِ وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ . وَمَا تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا . وَأَفْسَدُوا بِأُصُولِهِمْ الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ وَالسَّمْعِيَّةَ ؛ فَإِنَّ مَبْنَى الْعَقْلِ عَلَى صِحَّةِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا وَمَبْنَى السَّمْعِ عَلَى تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَمَّلُوا لِلنَّاسِ الْأَمْرَيْنِ فَدَلُّوهُمْ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا تُعْلَمُ الْمَطَالِبُ الَّتِي يُمْكِنُهُمْ عِلْمُهُمْ بِهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَأَخْبَرُوهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ الْغَيْبِ بِمَا يَعْجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ .
وَلَيْسَ تَعْلِيمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَقْصُورًا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ ؛ بَلْ هُمْ بَيَّنُوا مِنْ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا تُعْلَمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَلْبَتَّةَ . فَتَعْلِيمُهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ جَامِعٌ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُمْ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ مَعَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْكِبْرِ الَّذِي مَا هُمْ بَالِغِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وَقَالَ : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } وَقَالَ : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَقَدْ أَلَّفْت كِتَابَ " دَفْعِ تَعَارُضِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ " ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانُوا يَتَصَوَّرُونَ فِي أَذْهَانِهِمْ مَا يَظُنُّونَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ كَانَ أَكْثَرُ عُلُومِهِمْ مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ فِي " الْإِلَهِيِّ " وَ " الرِّيَاضِيِّ " . وَإِذَا تَأَمَّلَ الْخَبِيرُ بِالْحَقَائِقِ كَلَامَهُمْ فِي أَنْوَاعِ عُلُومِهِمْ لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ عِلْمًا بِمَعْلُومَاتِ مَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْقِسْمَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ " الطَّبِيعِيَّ " وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ " الرِّيَاضِيِّ " . وَأَمَّا " الرِّيَاضِيُّ " الْمُجَرَّدُ فِي الذِّهْنِ فَهُوَ الْحُكْمُ بِمَقَادِيرَ ذِهْنِيَّةٍ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ . وَاَلَّذِي سَمَّوْهُ " عِلْمَ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ " إذَا تُدُبِّرَ :
لَمْ يُوجَدْ فِيهِ عِلْمٌ بِمَعْلُومِ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا تَصَوَّرُوا أُمُورًا مُقَدَّرَةً فِي أَذْهَانِهِمْ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ وَلِهَذَا مُنْتَهَى نَظَرِهِمْ وَآخِرُ فَلْسَفَتِهِمْ وَحِكْمَتِهِمْ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ وَالْمَشْرُوطُ بِسَلْبِ جَمِيعِ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَدَّعُونَ فِي الْمَطَالِبِ الْبُرْهَانِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يَكُونُونَ قَدَّرُوهُ فِي أَذْهَانِهِمْ . وَيَقُولُونَ : نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةِ . وَإِذَا ذُكِرَ لَهُمْ شَيْءٌ قَالُوا : نَتَكَلَّمُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَنَحْوَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ فَيُطَالِبُونَ بِتَحْقِيقِ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْخَارِجِ وَيُقَالُ : بَيِّنُوا هَذَا أَيُّ شَيْءٍ هُوَ ؟ فَهُنَالِكَ يَظْهَرُ جَهْلُهُمْ وَأَنَّ مَا يَقُولُونَهُ هُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ . مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ : اُذْكُرُوا مِثَالَ ذَلِكَ وَالْمِثَالُ أَمْرٌ جُزْئِيٌّ فَإِذَا عَجَزُوا عَنْ التَّمْثِيلِ . وَقَالُوا : نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلَا عِلْمٍ . وَفِيمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ لَهُ مَعْلُومًا فِي الْخَارِجِ ؛ بَلْ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مَعْلُومٌ فِي الْخَارِجِ وَفِيمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْلُومٌ فِي الْخَارِجِ وَإِلَّا فَالْعِلْمُ بِالْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ إذَا كَانَ كُلِّيًّا كَانَتْ مَعْلُومَاتُهُ ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ . وَقَدْ كَانَ الخسرو شَاهِي مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَمِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ الرَّازِيَّ وَكَانَ يَقُولُ : مَا عَثَرْنَا إلَّا عَلَى هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ وَكَانَ قَدْ وَقَعَ فِي حِيرَةٍ وَشَكٍّ حَتَّى كَانَ يَقُولُ : وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ .
وَ
الْمَقْصُودُ أَنَّ الَّذِي يَدَّعُونَهُ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ هُوَ إذَا كَانَ
عِلْمًا فَهُوَ مِمَّا يُعْرَفُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ لَا يَقِفُ عَلَى
الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ الشُّمُولِيِّ أَصْلًا بَلْ مَا يَدَّعُونَ ثُبُوتَهُ
بِهَذَا الْقِيَاسِ تُعْلَمُ أَفْرَادُهُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِدُونِ
هَذَا . الْقِيَاسُ وَذَلِكَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ . وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ
عَلَيْهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانِيَّ اسْتِدْلَالًا عَلَى
الْأَجْلَى بِالْأَخْفَى . وَهُمْ يَعِيبُونَ فِي صِنَاعَةِ الْحَدِّ أَنْ
يُعْرَفَ الْجَلِيُّ بِالْخَفِيِّ وَهَذَا فِي صِنَاعَةِ الْبُرْهَانِ أَشَدُّ
عَيْبًا فَإِنَّ الْبُرْهَانَ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا بَيَانُ الْمَدْلُولِ
عَلَيْهِ وَتَعْرِيفُهُ وَكَشْفُهُ وَإِيضَاحُهُ فَإِذَا كَانَ هُوَ أَوْضَحَ
وَأَظْهَرَ كَانَ بَيَانًا لِلْجَلِيِّ بِالْخَفِيِّ .
قَالَ : ثُمَّ إنَّ الْفَلَاسِفَةَ أَصْحَابَ هَذَا الْمَنْطِقِ الْبُرْهَانِيِّ
الَّذِي وَضَعَهُ أَرِسْطُو وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الطَّبِيعِيِّ وَالْإِلَهِيِّ
لَيْسُوا أُمَّةً وَاحِدَةً بَلْ أَصْنَافٌ مُتَفَرِّقُونَ وَبَيْنَهُمْ مِنْ
التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ أَعْظَمُ مِمَّا
بَيْنَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ كُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ
وَالْكُتُبِ كَانَ أَعْظَمَ فِي تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فَإِنَّهُمْ
يَكُونُونَ أَضَلَّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ
أَبِي أمامة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ . ثُمَّ
قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ
خَصِمُونَ } } إذْ لَا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَّا
كِتَابٌ مُنَزَّلٌ وَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى { كَانَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ
مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } الْآيَةُ وَقَالَ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } وَقَالَ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } الْآيَةَ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فَقَالَ : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } وَلِهَذَا يُوجَدُ أَتْبَعُ النَّاسِ لِلرَّسُولِ أَقَلُّ اخْتِلَافًا مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ لِلسُّنَّةِ وَكُلُّ مَنْ قَرُبَ لِلسُّنَّةِ كَانَ أَقَلَّ اخْتِلَافًا مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهَا كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ فَنَجِدُهُمْ أَكْثَرَ الطَّوَائِفِ اخْتِلَافًا . وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْفَلَاسِفَةِ فَلَا يَحْصُرُهُ أَحَدٌ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ " مَقَالَاتِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيِّينَ " فَأَتَى بِالْجَمِّ الْغَفِيرِ سِوَى مَا ذَكَرَهُ الْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا وَكَذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ " الدَّقَائِقِ " الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَرَجَّحَ فِيهِ مَنْطِقَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْعَرَبِ عَلَى مَنْطِقِ الْيُونَانِ . وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ . وَصَنَّفَ الْغَزَالِيُّ كِتَابَ " التَّهَافُتِ " فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ . وَمَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ يُصَنِّفُونَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي الْمَنْطِقِ وَيُبَيِّنُونَ خَطَأَهُمْ
فِيمَا ذَكَرُوهُ فِي الْحَدِّ وَالْقِيَاسِ جَمِيعًا كَمَا يُبَيِّنُونَ خَطَأَهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ يَلْتَفِتُ إلَى طَرِيقِهِمْ ؛ بَلْ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ والكَرَّامِيَة وَالشِّيعَةُ وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ كَانُوا يَعِيبُونَهَا وَيُبَيِّنُونَ فَسَادَهَا . وَأَوَّلُ مَنْ خَلَطَ مَنْطِقَهُمْ بِأُصُولِ الْمُسْلِمِينَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَطُولُ ذَكَرَهُ . وَهَذَا الرَّدُّ عَلَيْهِمْ مَذْكُورٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْكَلَامِ . وَفِي كِتَابِ " الْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ " لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى النوبختي فَصْلٌ جَيِّدٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ طَرِيقَة أَرِسْطُو فِي الْمَنْطِقِ قَالَ : وَقَدْ اعْتَرَضَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَوْضَاعِ الْمَنْطِقِ هَذِهِ وَقَالُوا : أَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمَنْطِقِ إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُبْنَى مِنْ مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ فَغَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ إذَا أَرَادَ مَثَلًا أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ فَلَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى نَفْسِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْمُتَضَادَّاتِ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَةٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ : أَنْ يَقُولَ : إنَّ كُلَّ قَابِلٍ لِلْمُتَضَادَّاتِ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ جَوْهَرٌ لِأَنَّ الْخَاصَّ دَاخِلٌ فِي الْعَامِّ فَعَلَى أَيِّهِمَا دَلَّ اسْتَغْنَى عَنْ الْآخَرِ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ الْإِنْسَانُ إذَا شَاهَدَ الْأَثَرَ أَنَّ لَهُ مُؤَثِّرًا وَالْكِتَابَةَ أَنَّ لَهَا كَاتِبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ .
قَالُوا
: فَنَقُولُ : إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ . فَإِذَا ذُكِرَتْ
إحْدَاهُمَا اُسْتُغْنِيَ بِمَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِ عَنْ الْأُخْرَى فَتَرَكَ
ذِكْرَهَا لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا . قُلْنَا لَسْنَا نَجِدُ مُقَدِّمَتَيْنِ
كُلِّيَّتَيْنِ يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى صِحَّةِ نَتِيجَةٍ ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ
إذَا قَالَ : الْجَوْهَرُ لِكُلِّ حَيٍّ وَالْحَيَاةُ لِكُلِّ إنْسَانٍ فَتَكُونُ
النَّتِيجَةُ أَنَّ الْجَوْهَرَ لِكُلِّ إنْسَانٍ فَسَوَاءٌ فِي الْعُقُولِ قَوْلُ
الْقَائِلِ : الْجَوْهَرُ لِكُلِّ حَيٍّ وَقَوْلُهُ لِكُلِّ إنْسَانٍ . وَلَا
يَجِدُونَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَمَلِيَّةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَقِفُ عَلَى
مُقَدِّمَتَيْنِ بَيِّنَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ
كَانَتْ إحْدَاهُمَا كَافِيَةً . وَنَقُولُ لَهُمْ أَرُونَا مُقَدِّمَتَيْنِ
أُولَيَيْنِ لَا تَحْتَاجَانِ إلَى بُرْهَانٍ يَتَقَدَّمُهُمَا يُسْتَدَلُّ
بِهِمَا عَلَى شَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ . وَتَكُونُ الْمُقَدِّمَتَانِ فِي
الْعُقُولِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ النَّتِيجَةِ فَإِذَا كُنْتُمْ لَا
تَجِدُونَ ذَلِكَ بَطَلَ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ .
قَالَ النوبختي : وَقَدْ سَأَلْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ أَنْ يُوجِدَ
نِيَّةً فَمَا أَوْجَدَ نِيَّةً فَمَا ذَكَرَهُ أرسطاطاليس غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَا
مَعْرُوفٍ . قَالَ : فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الشَّكْلَيْنِ
الْبَاقِيَيْنِ فَهُمَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلَيْنِ عَلَى مَا بَنَاهُمَا عَلَيْهِ .
وَإِذَا كَانَا يَصِحَّانِ ؛ بِقَلْبِ مُقَدِّمَتَيْهِمَا حَتَّى يَعُودَا إلَى
الشَّكْلِ الْأَوَّلِ . فَالْكَلَامُ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ هُوَ الْكَلَامُ
فِيهَا . . انْتَهَى . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّة : وَمَقْصُودُهُ أَنَّ سَائِرَ
الْأَشْكَالِ إنَّمَا تُنْتَجُ بِالرَّدِّ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَسَائِرُ الْأَشْكَالِ وَنِتَاجُهَا فِيهِ كُلْفَةٌ
وَمَشَقَّةٌ مَعَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فَإِنَّ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ
يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ الْمَوَادِّ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ
الْكُلِّيَّةَ
وَالْجُزْئِيَّةَ . وَقَدْ عُلِمَ انْتِفَاءُ فَائِدَتِهِ فَانْتِفَاءُ فَائِدَةِ
فُرُوعِهِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَيْهِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - لَمْ يَزَلْ
فِيهَا مَنْ يَتَفَطَّنُ لِمَا فِي كَلَامِ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ الْبَاطِلِ
وَيَرُدُّهُ . وَهُمْ لِمَا هَدَاهُمْ اللَّهُ بِهِ يَتَوَافَقُونَ فِي قَبُولِ
الْحَقِّ وَرَدِّ الْبَاطِلِ رَأْيًا وَرِوَايَةً مِنْ غَيْرِ تَشَاعُرٍ وَلَا
تَوَاطُؤٍ . وَهَذَا الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ يُوَافِقُ
مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ
الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ بَلْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ تَطْوِيلًا وَتَكْثِيرًا
لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ الْعَامَّةَ لَا تُوجَدُ
فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّةً عَامَّةً وَإِنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّةً فِي
الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ فِي الْخَارِجِ
فَهِيَ أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ كُلُّ مَوْجُودٍ لَهُ حَقِيقَةٌ تَخُصُّهُ يَتَمَيَّزُ
بِهَا عَمَّا سِوَاهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ
الِاسْتِدْلَالُ بِالْقِيَاسِ عَلَى خُصُوصِ وُجُودٍ مُعَيَّنٍ وَهُمْ
مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَقَائِلُونَ إنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ
مُعَيَّنٍ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى جُزْئِيٍّ
وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كُلِّيٍّ . فَإِذًا الْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ
أَمْرٍ مَوْجُودٍ بِعَيْنِهِ . وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَإِنَّمَا هُوَ مَوْجُودٌ
بِعَيْنِهِ فَلَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنْ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ
وَإِنَّمَا يُفِيدُ أُمُورًا كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً مُقَدَّرَةً فِي الْأَذْهَانِ
لَا مُحَقَّقَةً فِي الْأَعْيَانِ . فَمَا يَذْكُرُهُ النُّظَّارُ مِنْ
الْأَدِلَّةِ الْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بَرَاهِينَ عَلَى إثْبَاتِ
الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ لَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى عَيْنِهِ . وَإِنَّمَا
يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ مُطْلَقٍ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ
فِيهِ .
فَإِذَا
قَالَ : هَذَا مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ .
إنَّمَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى مُحْدَثٍ مُطْلَقٍ كُلِّيٍّ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ
مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا تُعْلَمُ عَيْنُهُ بِعِلْمِ آخَرَ
يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ . وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَذَا ؛ لِأَنَّ
النَّتِيجَةَ لَا تَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتُ فِيهَا
قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ . وَالْكُلِّيُّ لَا يَدُلُّ عَلَى
مُعَيَّنٍ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْآيَاتِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الْآيَةَ .
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُعَيَّنِ كَالشَّمْسِ الَّتِي هِيَ آيَةُ
النَّهَارِ . وَالدَّلِيلُ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ قَدْ
يَكُونُ بِمُعَيَّنِ عَلَى مُعَيَّنٍ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِالنَّجْمِ وَغَيْرِهِ
مِنْ الْكَوَاكِبِ عَلَى الْكَعْبَةِ فَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى نَفْسِ الْخَالِقِ
سُبْحَانَهُ لَا عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَإِنَّ
كُلَّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ نَفْسُهُ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ
عَيْنِ الْخَالِقِ نَفْسِهِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ الْمُكَرَّرَ فِي قِيَاسِ
الشُّمُولِ وَهُوَ الْخَمْرُ مِنْ قَوْلِك : كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ
حَرَامٌ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ
الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَالْقِيَاسَانِ مُتَلَازِمَانِ . كُلُّ
مَا عُلِمَ بِهَذَا الْقِيَاسِ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِهَذَا الْقِيَاسِ . ثُمَّ إنْ
كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا فَهُوَ قَطْعِيٌّ فِي الْقِيَاسَيْنِ أَوْ ظَنِّيًّا
فَظَنِّيٌّ فِيهِمَا . وَأَمَّا دَعْوَى مَنْ يَدَّعِي مِنْ الْمَنْطِقِيِّينَ
وَأَتْبَاعِهِمْ : أَنَّ الْيَقِينَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ دُونَ
قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . فَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ . وَهُوَ قَوْلُ
مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ حَقِيقَةَ الْقِيَاسَيْنِ . وَقَدْ يُعْلَمُ بِنَصِّ : أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ قِيَاسُ الشُّمُولِ لِإِفَادَةِ الْحُكْمِ بَلْ وَلَا قِيَاسٌ مِنْ الْأَقْيِسَةِ . فَإِنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ بِلَا قِيَاسٍ فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ لَا عِلْمَ تصديقي إلَّا بِالْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : بَيَانُ قِلَّةِ مَنْفَعَتِهِ أَوْ عَدَمِهَا . فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ إنْ كَانَ ثَمَّ قَضِيَّةٌ عُلِمَتْ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ تُفِيدُ الْعُمُومَ . وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ حَصَلَ مُدَّعَاهُ . فَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الْمُتَلَقَّاةُ عَنْ الرَّسُولِ تُفِيدُ الْعِلْمَ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ . وَأَمَّا مَا يُسْتَفَادُ مِنْ عُلُومِهِمْ فَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ فِيهِ إمَّا مُنْتَقِضَةٌ وَإِمَّا أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَإِمَّا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَوْجُودَاتِ الْمُعَيَّنَةِ بَلْ بِالْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ كَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مَا وُجِدَ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَدُخُولُ الْمُعَيَّنِ فِيهِ لَا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالْحِسِّ فَلَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ مُحَصِّلًا لِلْمَقْصُودِ أَوْ تَكُونُ مِمَّا لَا اخْتِصَاصَ لَهُمْ بِهَا بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهَا سَائِرُ الْأُمَمِ بِدُونِ خُطُورِ مَنْطِقِهِمْ بِالْبَالِ مَعَ اسْتِوَاءِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسِ الشُّمُولِ . وَإِثْبَاتُ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ وَالنُّبُوَّاتِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْأَقْيِسَةِ بَلْ يُعْلَمُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّة عَلَى مُعَيَّنٍ لَا شَرِكَةَ فِيهِ يَحْصُلُ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ وَمَا يَحْصُلُ مِنْهَا بِالشُّمُولِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَحْصُلُ بِالتَّمْثِيلِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ الرَّبُّ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ الرَّسُولُ إلَّا بِانْضِمَامِ عِلْمٍ آخَرَ إلَيْهِ .
الْوَجْهُ
الْخَامِسُ : أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْقِيَاسُ الشُّمُولِيُّ - وَهُوَ الْعِلْمُ
بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ - فَنَقُولُ قَدْ عُلِمَ
وَسَلَّمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِثُبُوتِ بَعْضِ
الْأَحْكَامِ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ بَدِيهِيًّا ؛ فَإِنَّ النَّتِيجَةَ إذَا
افْتَقَرَتْ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى
مُقَدِّمَتَيْنِ تُعْلَمَانِ بِدُونِ مُقَدِّمَتَيْنِ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ أَوْ
التَّسَلْسُلُ الْبَاطِلَانِ وَإِذَا فُرِضَ مُقَدِّمَتَانِ طَرِيقُ الْعِلْمِ
بِهِمَا وَاحِدٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْقِيَاسِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ
إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلَّ حَيَوَانٍ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ .
فَالْعِلْمُ بِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ أَبْيَنُ
وَأَظْهَرُ . فالْمُقَدِّمَتانِ إنْ كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِمَا وَاحِدًا
وَقَدْ عُلِمَتَا فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِمَا . وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ
الْعِلْمِ بِهِمَا مُخْتَلِفًا فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ إحْدَاهُمَا احْتَاجَ إلَى
بَيَانِهَا وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيَانِ الْأُخْرَى الَّتِي عَلِمَهَا . وَهَذَا
ظَاهِرٌ فِي كُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْطِقَهُمْ يُعْطِي
تَضْيِيعَ الزَّمَانِ وَكَثْرَةَ الْهَذَيَانِ وَإِتْعَابَ الْأَذْهَانِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : لَا رَيْبَ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْكُبْرَى أَعَمُّ مِنْ
الصُّغْرَى أَوْ مِثْلُهَا وَلَا تَكُونُ أَخَصَّ مِنْهَا وَالنَّتِيجَةُ أَخَصُّ
مِنْ الْكُبْرَى أَوْ مُسَاوِيَةٌ لَهَا وَأَعَمُّ مِنْ الصُّغْرَى أَوْ مِثْلُهَا
وَلَا تَكُونُ أَخَصَّ مِنْهَا . وَالْحِسُّ يُدْرِكُ الْمُعَيَّنَاتِ أَوَّلًا
ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهَا إلَى الْقَضَايَا الْعَامَّةِ . فَيَرَى هَذَا
الْإِنْسَانَ وَهَذَا الْإِنْسَانَ وَكُلٌّ مِمَّا رَآهُ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ
بِالْإِرَادَةِ . فَنَقُولُ الْعِلْمُ بِالْقَضِيَّةِ الْعَامَّةِ إمَّا أَنْ
يَكُونَ بِتَوَسُّطِ قِيَاسٍ وَالْقِيَاسُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ
عَامَّةٍ . فَلَزِمَ أَنْ لَا يُعْلَمَ الْعَامُّ إلَّا بِعَامِّ وَذَلِكَ
يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ أَوْ التَّسَلْسُلَ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ
الْأَمْرُ إلَى قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ عَامَّةٍ
مَعْلُومَةٍ
بِالْبَدِيهَةِ . وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ . وَإِنْ أَمْكَنَ عِلْمُ
الْقَضِيَّةِ الْعَامُّ بِغَيْرِ تَوَسُّطِ قِيَاسٍ أَمْكَنَ عِلْمُ الْأُخْرَى
فَإِنَّ كَوْنَ الْقَضِيَّةِ بَدِيهِيَّةً أَوْ نَظَرِيَّةً لَيْسَ وَصْفًا
لَازِمًا لَهَا يَجِبُ اسْتِوَاءُ جَمِيعِ النَّاسِ فِيهِ . بَلْ هُوَ أَمْرٌ
نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ بِحَسَبِ حَالِ النَّاسِ فَمَنْ عَلِمَهَا بِلَا دَلِيلٍ
كَانَتْ بَدِيهِيَّةً لَهُ وَمَنْ احْتَاجَ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ كَانَتْ
نَظَرِيَّةً لَهُ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأُمُورِ . فَإِذَا كَانَتْ الْقَضَايَا
الْكُلِّيَّةُ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَيْسَ
لِذَلِكَ حَدٌّ فِي نَفْسِ الْقَضَايَا ؛ بَلْ ذَلِكَ بِحَسَبِ أَحْوَالِ بَنِي
آدَمَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ فِيمَا عَلِمَهُ زَيْدٌ بِالْقِيَاسِ إنَّهُ لَا
يُمْكِنُ غَيْرَهُ أَنْ يَعْلَمَهُ بِلَا قِيَاسٍ بَلْ هَذَا نَفْيٌ كَاذِبٌ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : قَدْ تَبَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ
يُمْكِنُ جَعْلُهُ قِيَاسَ تَمْثِيلٍ وَبِالْعَكْسِ .
فَإِنْ قِيلَ : مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ بِأَنَّ الْجَامِعَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ ؟
قِيلَ : مِنْ حَيْثُ نَعْلَمُ الْقَضِيَّةَ الْكُبْرَى فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ .
فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : هَذَا فَاعِلٌ مُحْكِمٌ لِفِعْلِهِ وَكُلُّ مُحْكِمٍ
لِفِعْلِهِ فَهُوَ عَالِمٌ . فَأَيُّ شَيْءِ ذُكِرَ فِي عِلَّةِ هَذِهِ
الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ .
وَزِيَادَةُ أَنَّ هُنَاكَ أَصْلًا يُمَثَّلُ بِهِ قَدْ وُجِدَ فِيهِ الْحُكْمُ
مَعَ الْمُشْتَرَكِ . وَفِي الشُّمُولِ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْ الْأَفْرَادِ
الَّتِي ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ الْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ مَعَ بَعْضِ أَفْرَادِهِ أَثْبَتُ فِي الْعَقْلِ مِنْ ذِكْرِهِ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ باتفاق الْعُقَلَاءِ . وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الْعَقْلَ تَابِعٌ لِلْحِسِّ فَإِذَا أَدْرَكَ الْحِسُّ الْجُزْئِيَّاتِ أَدْرَكَ الْعَقْلُ مِنْهَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا فَالْكُلِّيَّاتُ تَقَعُ فِي النَّفْسِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ فَمَعْرِفَةُ الْجُزْئِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي مَعْرِفَةِ الْكُلِّيَّاتِ فَكَيْفَ يَكُونُ ذِكْرُهَا مُضْعِفًا لِلْقِيَاسِ وَعَدَمُ ذِكْرِهَا مُوجِبًا لِقُوَّتِهِ وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْعَقْلِ ؛ فَإِنَّ خَاصَّةَ الْعَقْلِ مَعْرِفَةُ الْكُلِّيَّاتِ بِتَوَسُّطِ مَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ . فَمَنْ أَنْكَرَهَا أَنْكَرَ خَاصَّةَ عَقْلِ الْإِنْسَانِ وَمَنْ جَعَلَ ذِكْرَهَا بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ مَحَالِّهَا الْمُعَيَّنَةِ أَقْوَى مِنْ ذِكْرِهَا مَعَ التَّمْثِيلِ بِمَوَاضِعِهَا الْمُعَيَّنَةِ كَانَ مُكَابِرًا . وَقَدْ اتفق الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْكُلِّيَّاتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ الْحَالُ إذَا ذُكِرَ مَعَ الْمِثَالِ كَالْحَالِ إذَا ذُكِرَ مُجَرَّدًا عَنْهُ . وَمَنْ تَدَبَّرَ جَمِيعَ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ فِي الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَجَدَ الْأَمْرَ كَذَلِكَ . وَالْإِنْسَانُ قَدْ يُنْكِرُ أَمْرًا حَتَّى يَرَى وَاحِدًا مِنْ جِنْسِهِ فَيُقِرُّ بِالنَّوْعِ وَيَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ حُكْمًا كُلِّيًّا وَلِهَذَا يَقُولُ سُبْحَانَهُ : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ إنَّمَا جَاءَهُ رَسُولٌ وَاحِدٌ . وَلَكِنْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِجِنْسِ الرُّسُلِ لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبُهُمْ بِالْوَاحِدِ بِخُصُوصِهِ .
وَمِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ الْعَقْلِ مَعْرِفَةُ التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ . فَإِذَا رَأَى الشَّيْئَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلِمَ أَنَّ هَذَا مِثْلُ هَذَا فَجَعَلَ حُكْمَهُمَا وَاحِدًا كَمَا إذَا رَأَى الْمَاءَ وَالْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالتُّرَابَ وَالْهَوَاءَ وَالْهَوَاءَ ثُمَّ حَكَمَ بِالْحُكْمِ الْكُلِّيِّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ . وَإِذَا حَكَمَ عَلَى بَعْضِ الْأَعْيَانِ وَمِثْلِهِ بِالنَّظِيرِ وَذَكَرَ الْمُشْتَرَكَ كَانَ أَحْسَنَ فِي الْبَيَانِ فَهَذَا قِيَاسُ الطَّرْدِ . وَإِذَا رَأَى الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ . وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ فِي كِتَابِهِ يَتَنَاوَلُ قِيَاسَ الطَّرْدِ وَقِيَاسَ الْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَهْلَكَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ بِتَكْذِيبِهِمْ كَانَ مِنْ الِاعْتِبَارِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلُوا أَصَابَهُ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ فَيَتَّقِي تَكْذِيبَ الرُّسُلِ حَذَرًا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَهَذَا قِيَاسُ الطَّرْدِ . وَيُعْلَمُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُكَذِّبْ الرُّسُلَ لَا يُصِيبُهُ ذَلِكَ وَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِالْمُعَذَّبِينَ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الْفَرْعِ عَكْسُ حُكْمِ الْأَصْلِ لَا نَظِيرُهُ . وَالِاعْتِبَارُ يَكُونُ بِهَذَا وَبِهَذَا . قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } وَقَالَ : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } إلَى قَوْلِهِ { إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } وَقَالَ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . " وَالْمِيزَانَ " فَسَّرَهُ السَّلَفُ بِالْعَدْلِ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا يُوزَنُ بِهِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ ذَلِكَ كَمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ . فَمَا يُعْرَفُ
بِهِ
تَمَاثُلُ الْمُتَمَاثِلَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْمَقَادِيرِ هُوَ مِنْ
الْمِيزَانِ . وَكَذَلِكَ مَا يُعْرَفُ بِهِ اخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفَاتِ .
فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ
أَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَتُوقِعُ بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . ثُمَّ رَأَيْنَا النَّبِيذَ
يُمَاثِلُهَا فِي ذَلِكَ كَانَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ
هُوَ الْمِيزَانَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا لِنَزِنَ بِهِ هَذَا
وَنَجْعَلَهُ مِثْلَ هَذَا . فَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ .
فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ مِنْ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ .
وَمَنْ عَلِمَ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ الْمُعَيَّنِ فَمَعَهُ
الْمِيزَانُ فَقَطْ . وَالْمَقْصُودُ بِهَا وَزْنُ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي
الْخَارِجِ . وَإِلَّا فَالْكُلِّيَّاتُ لَوْلَا جُزْئِيَّاتُهَا الْمُعَيَّنَةُ
لَمْ يَكُنْ بِهَا اعْتِبَارٌ . كَمَا أَنَّهُ لَوْلَا الْمَوْزُونَاتُ لَمْ
يَكُنْ إلَى الْمِيزَانِ مِنْ حَاجَةٍ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ أَحَدُ
الْمَوْزُونَيْنِ وَاعْتُبِرَ بِالْآخَرِ بِالْمِيزَانِ كَانَ أَتَمَّ فِي
الْوَزْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمِيزَانُ وَهُوَ الْوَصْفَ الْكُلِّيَّ
الْمُشْتَرَكَ فِي الْعَقْلِ أَيُّ شَيْءٍ حَضَرَ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمُفْرَدَةِ
وُزِنَ بِهَا مَعَ مَغِيبِ الْآخَرِ .
وَلَا يَجُوزُ لِعَاقِلِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَقْلِيَّ الَّذِي
أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ مَنْطِقُ الْيُونَانِ لِوُجُوهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْمَوَازِينَ مَعَ كُتُبِهِ قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَ الْيُونَانَ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ .
وَهَذَا الْمَنْطِقُ الْيُونَانِيُّ وَضَعَهُ أَرِسْطُو قَبْلَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ
سَنَةٍ فَكَيْفَ كَانَتْ الْأُمَمُ الْمُتَقَدِّمَةُ تَزِنُ بِهِ ؟! .
الثَّانِي : أَنَّ أُمَّتَنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ مَا زَالُوا يَزِنُونَ بِالْمَوَازِينِ الْعَقْلِيَّةِ . وَلَمْ يُسْمَعْ سَلَفًا بِذِكْرِ هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ . وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ لَمَّا عُرِّبَتْ الْكُتُبُ الرُّومِيَّةُ فِي عَهْدِ دَوْلَةِ الْمَأْمُونِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا . ( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ مَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ عُرِّبَ وَعَرَفُوهُ يَعِيبُونَهُ وَيَذُمُّونَهُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ وَلَا إلَى أَهْلِهِ فِي مَوَازِينِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ . وَلَا يَقُولُ الْقَائِلُ لَيْسَ فِيهِ مِمَّا انْفَرَدُوا بِهِ إلَّا اصْطِلَاحَاتٌ لَفْظِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأُمَمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ فِيهِ مَعَانِي كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ . ثُمَّ هَذَا جَعَلُوهُ مِيزَانَ الْمَوَازِينِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ . وَزَعَمُوا أَنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزِلَّ فِي فِكْرِهِ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ احْتَاجَ الْمِيزَانُ إلَى مِيزَانٍ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ . وَ أَيْضًا فَالْفِطْرَةُ إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وُزِنَتْ بِالْمِيزَانِ الْعَقْلِيِّ وَإِنْ كَانَتْ بَلِيدَةً أَوْ فَاسِدَةً لَمْ يَزِدْهَا الْمَنْطِقُ إلَّا بَلَادَةً وَفَسَادًا . وَلِهَذَا يُوجَدُ عَامَّةُ مَنْ يَزِنُ بِهِ عُلُومَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَخَبَّطَ وَلَا يَأْتِيَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْمُودِ وَمَتَى أَتَى بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْمُودِ أَعْرَضَ عَنْ اعْتِبَارِهَا بِالْمَنْطِقِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعَجْزِ وَالتَّطْوِيلِ وَتَبْعِيدِ الطَّرِيقِ وَجَعْلِ الْوَاضِحَاتِ خَفِيَّاتٍ وَكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالتَّغْلِيطِ . فَإِنَّهُمْ إذَا عَدَلُوا عَنْ الْمَعْرِفَةِ الْفِطْرِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لِلْمُعَيَّنَاتِ إلَى أَقْيِسَةٍ كُلِّيَّةٍ ، وَضَعُوا
أَلْفَاظَهَا وَصَارَتْ مُجْمَلَةً تَتَنَاوَلُ حَقًّا وَبَاطِلًا حَصَلَ بِهَا مِنْ الضَّلَالِ مَا هُوَ ضِدُّ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَوَازِينِ . وَصَارَتْ هَذِهِ الْمَوَازِينُ عَائِلَةً لَا عَادِلَةً . وَكَانُوا فِيهَا مِنْ الْمُطَفِّفِينَ : { الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } وَأَيْنَ الْبَخْسُ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ الْبَخْسِ فِي الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ الْبَخْسَ بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَرِثَ مَوَازِينَ مِنْ أَبِيهِ يَزِنُ بِهَا تَارَةً لَهُ وَتَارَةً عَلَيْهِ . وَلَا يَعْرِفُ أَهِيَ عَادِلَةٌ أَمْ عَائِلَةٌ . وَالْمِيزَانُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ مَعَ الْكِتَابِ مِيزَانٌ عَادِلَةٌ تَتَضَمَّنُ اعْتِبَارَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ وَخِلَافِهِ فَتُسَوِّي بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي فِطَرِ عِبَادِهِ وَعُقُولِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ . فَإِذَا قِيلَ : إنْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ . فَكَيْفَ جَعَلَهُ اللَّهُ مِمَّا أَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ . قِيلَ : لِأَنَّ الرُّسُلَ ضَرَبَتْ لِلنَّاسِ الْأَمْثَالَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَعْرِفُونَ بِهَا التَّمَاثُلَ وَالِاخْتِلَافَ . فَإِنَّ الرُّسُلَ دَلَّتْ النَّاسَ وَأَرْشَدَتْهُمْ إلَى مَا بِهِ يَعْرِفُونَ الْعَدْلَ وَيَعْرِفُونَ الْأَقْيِسَةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ . فَلَيْسَتْ الْعُلُومُ النَّبَوِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى الْخَبَرِ بَلْ الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَيَّنَتْ الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ دِينُ اللَّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا . وَضَرَبَتْ الْأَمْثَالَ فَكَمُلَتْ الْفِطْرَةُ بِمَا نَبَّهَتْهَا عَلَيْهِ وَأَرْشَدَتْهَا لِمَا كَانَتْ الْفِطْرَةُ مُعْرِضَةً عَنْهُ
أَوْ كَانَتْ الْفِطْرَةُ قَدْ فَسَدَتْ بِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ الْفَاسِدَةِ فَأَزَالَتْ ذَلِكَ الْفَسَادَ . وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ مَمْلُوءَانِ مِنْ هَذَا يُبَيِّنُ اللَّهُ الْحَقَائِقَ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ . وَيُبَيِّنُ طَرِيقَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ . وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الْآيَةُ وَقَوْلِهِ : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أَيْ هَذَا حُكْمٌ جَائِرٌ لَا عَادِلٌ فَإِنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ . وَمِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ قَوْلُهُ : { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ } وَقَوْلُهُ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } الْآيَةُ . وَ الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَقْلِيَّ حَقٌّ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ . وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِمَنْطِقِ الْيُونَانِ بَلْ هِيَ الْأَقْيِسَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ سَوَاءٌ صِيغَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ أَوْ بِصِيغَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَصِيَغُ التَّمْثِيلِ هِيَ الْأَصْلُ وَهِيَ الْحَمْلُ وَالْمِيزَانُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ الْجَامِعُ . ( الْوَجْهُ الثَّامِنُ ) : أَنَّهُمْ كَمَا حَصَرُوا الْيَقِينَ فِي الصُّورَةِ الْقِيَاسِيَّةِ حَصَرُوهُ فِي الْمَادَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا مِنْ الْقَضَايَا : الْحِسِّيَّاتِ وَالْأَوَّلِيَّاتِ وَالمُتَواتِراتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ . وَالْحَدْسِيَّاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى نَفْيِ مَا سِوَى هَذِهِ الْقَضَايَا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ إنَّمَا اعْتَبَرُوا فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِاشْتِرَاكِ
بَنِي آدَمَ فِيهِ وَتَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ بَنِي آدَمَ إنَّمَا يَشْتَرِكُونَ كُلُّهُمْ فِي بَعْضِ الْمَرْئِيَّاتِ وَبَعْضِ الْمَسْمُوعَاتِ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ عَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَيَرَوْنَ جِنْسَ السَّحَابِ وَالْبَرْقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا يَرَاهُ هَؤُلَاءِ عَيْنَ مَا يَرَاهُ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ يَشْتَرِكُونَ فِي سَمَاعِ صَوْتِ الرَّعْدِ وَأَمَّا مَا يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ كَلَامِ بَعْضٍ وَصَوْتِهِ فَهَذَا لَا يَشْتَرِكُ بَنُو آدَمَ فِي عَيْنِهِ بَلْ كُلُّ قَوْمٍ يَسْمَعُونَ مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُمْ وَكَذَا أَكْثَرُ الْمَرْئِيَّاتِ . وَأَمَّا الشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ فَهَذَا لَا يَشْتَرِكُ جَمِيعُ النَّاسِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ بَلْ الَّذِي يَشُمُّهُ هَؤُلَاءِ وَيَذُوقُونَهُ وَيَلْمِسُونَهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي يَشُمُّهُ وَيَذُوقُهُ وَيَلْمِسُهُ هَؤُلَاءِ . لَكِنْ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْجِنْسِ لَا فِي الْعَيْنِ . وَكَذَلِكَ مَا يُعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْحَدْسِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَيُجَرِّبُ هَؤُلَاءِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَيُجَرِّبُوهُ . وَلَكِنْ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْجِنْسِ كَمَا يُجَرِّبُ قَوْمٌ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ وَيُجَرِّبُ آخَرُونَ جِنْسَ تِلْكَ الْأَدْوِيَةِ فَيُتَّفَقُ فِي مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ لَا فِي مَعْرِفَةِ عَيْنِ الْمُجَرَّبِ . ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا يَقُولُونَ فِي الْمَنْطِقِ : إنَّ الْمُتَوَاتِرَاتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ وَالْحَدْسِيَّاتِ تَخْتَصُّ بِمَنْ عَلِمَهَا فَلَا يَقُومُ مِنْهَا بُرْهَانٌ عَلَى غَيْرِهِ . فَيُقَالُ لَهُمْ ؛ وَكَذَلِكَ الْمَشْمُومَاتُ وَالْمَذُوقَاتُ . وَالْمَلْمُوسَاتُ بَلْ اشْتِرَاكُ
النَّاسِ فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ أَكْثَرُ فَإِنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ يَنْقُلُهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ فَيَكْثُرُ السَّامِعُونَ لَهُ وَيَشْتَرِكُونَ فِي سَمَاعِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ بِخِلَافِ مَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ أَحَسَّهُ فَإِذَا قَالَ : رَأَيْت أَوْ سَمِعْت أَوْ ذُقْت أَوْ لَمَسْت أَوْ شَمَمْت فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذَا بُرْهَانًا عَلَى غَيْرِهِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِي تِلْكَ الْحِسِّيَّاتِ عَدَدٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ أَحَسَّهَا وَلَا يُمْكِنُ عِلْمُهَا لِمَنْ لَمْ يُحِسَّهَا إلَّا بِطَرِيقِ الْخَبَرِ . وَعَامَّةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ بِأَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ هِيَ مِنْ الْعِلْمِ بِعَادَةِ ذَلِكَ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ " الْحَدْسِيَّاتِ " وَعَامَّةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْفَلَكِيَّةِ كَعِلْمِ الْهَيْئَةِ فَهُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُجَرَّبَاتِ وَهَذِهِ لَا يَقُومُ فِيهَا بُرْهَانٌ فَإِنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ جُرِّبَتْ وَكَوْنَ الْحَرَكَاتِ جُرِّبَتْ لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا بِالنَّقْلِ . وَالتَّوَاتُرُ فِي هَذَا قَلِيلٌ . وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تُنْقَلَ التَّجْرِبَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ أَوْ بَعْضِ أَهْلِ الْحِسَابِ . وَغَايَةُ مَا يُوجَدُ . أَنْ يَقُولَ بَطْلَيْمُوسُ : هَذَا مِمَّا رَصَدَهُ فُلَانٌ وَأَنْ يَقُولَ جالينوس : هَذَا مِمَّا جَرَّبْته أَوْ ذَكَرَ لِي فُلَانٌ أَنَّهُ جَرَّبَهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ غَيْرَهُ جَرَّبَهُ أَيْضًا فَذَاكَ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يُجَرِّبُوا جَمِيعَ مَا جَرَّبُوهُ وَلَا عَلِمُوا بِالْأَرْصَادِ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ
عَلِمُوهُ
. وَإِنْ ذَكَرُوا جَمَاعَةً رَصَدُوا فَغَايَتُهُ أَنَّهُ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ
الْخَاصِّ الَّذِي تَنْقُلُهُ طَائِفَةٌ . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ
عَلَيْهِ بُرْهَانٌ بِمَا تَوَاتَرَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ
يُقِيمَ عَلَى غَيْرِهِ بُرْهَانًا بِمِثْلِ هَذَا التَّوَاتُرِ وَيُعَظِّمَ
عِلْمَ الْهَيْئَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ عِلْمٌ عَقْلِيٌّ
مَعْلُومٌ بِالْبُرْهَانِ . وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَقُومُ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ
الْعَقْلِيُّ عِنْدَهُمْ هَذَا حَالُهُ فَمَا الظَّنُّ بِالْإِلَهِيَّاتِ الَّتِي
إذَا نُظِرَ فِيهَا كَلَامُ مُعَلِّمِهِمْ الْأَوَّلِ أَرِسْطُو وَتَدَبَّرَهُ
الْفَاضِلُ الْعَاقِلُ لَمْ يُفِدْهُ إلَّا الْعِلْمَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ
أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنَّ كُفَّارَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَهُمْ مِنْ عِلْمِ
الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ الَّذِي ذَكَرُوهُ
بَلْ الْفِرَاسَةُ أَيْضًا وَأَمْثَالُهَا . فَإِنْ أَدْخَلُوا ذَلِكَ فِيمَا
ذَكَرُوهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ مَا
لَمْ يَذْكُرُوهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ ضَابِطٌ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِينَا
وَأَتْبَاعُهُ : أَنَّ الْقَضَايَا الْوَاجِبَ قَبُولُهَا الَّتِي هِيَ مَادَّةُ
الْبُرْهَانُ : الْأَوَّلِيَّاتُ وَالْحِسِّيَّاتُ وَالْمُجَرَّبَاتُ
وَالْحَدْسِيَّاتُ وَالمُتَواتِراتِ وَرُبَّمَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ قَضَايَا
مَعَهَا حُدُودُهَا وَلَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلًا عَلَى هَذَا الْحَصْرِ وَلِهَذَا
اعْتَرَفَ الْمُنْتَصِرُونَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ مُنْتَشِرٌ غَيْرُ
مُنْحَصِرٍ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ دَلِيلٍ عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ
يَلْزَمْ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي قِيَاسِهِمْ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا .
وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ الْمَنْطِقُ آلَةً قَانُونِيَّةً تَعْصِمُ
مُرَاعَاتُهَا مِنْ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ
إذَا
ذُكِرَ لَهُ قَضَايَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ لَمْ
يُمْكِنْ وَزْنُهَا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ . وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيِّينَ
يُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقِيَاسِهِمْ وَهَذَا فِي غَايَةِ
الْجَهْلِ . لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ مِنْ أَخْبَارِ
الْأَنْبِيَاءِ . فَإِذَا كَانَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ لَا سَبِيلَ إلَى
مَعْرِفَتِهِ بِطَرِيقِهِمْ لَزِمَ أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَى مَا يُكَذِّبُونَ بِهِ مِمَّا لَيْسَ
فِي قِيَاسِهِمْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَا عَلِمُوهُ خَسِيسٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا جَهِلُوهُ
فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ النَّجَاةَ وَلَا السَّعَادَةَ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا هُوَ عِلْمٌ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ
لَيْسَ عِلْمًا وَمَا هُوَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ بِعِلْمِ يَجْعَلُونَهُ عِلْمًا .
فَزَعَمُوا أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ
وَصِفَاتِهِ وَالْمَعَادِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا
أَخْبَرُوا الْجُمْهُورَ بِمَا يَتَخَيَّلُونَهُ فِي ذَلِكَ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ
فِي إقَامَةِ مَصْلَحَةِ دُنْيَاهُمْ لَا لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ الْحَقَّ
وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَذِبِ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ وَيَقُولُونَ إنَّ
النَّبِيَّ حَاذِقٌ بِالشَّرَائِعِ الْعَمَلِيَّةِ دُونَ الْعِلْمِيَّةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْفَيْلَسُوفَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ . وَعَلَى
نَبِيِّنَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَ
نَبِيٍّ بِعَيْنِهِ لَا مُحَمَّدٍ وَلَا
غَيْرِهِ . وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ التَّتَارُ وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ قِيلَ : إنَّ " هُولَاكُو " أَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ قَالَ : ذَاكَ لِسَانُهُ عَرَبِيٌّ وَلَا تَحْتَاجُونَ إلَى شَرِيعَتِهِ . وَمَنْ تَبِعَ النَّبِيَّ مِنْهُمْ فِي الشَّرَائِعِ الْعَمَلِيَّةِ لَا يَتْبَعُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ ؛ بَلْ النَّبِيُّ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْكَلَامِ إذَا قَلَّدُوا مَذْهَبًا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ اقْتَصَرُوا فِي تَقْلِيدِهِ عَلَى الْقَضَايَا الْفِقْهِيَّةِ وَلَا يَلْتَزِمُونَ مُوَافَقَتَهُ فِي الْأُصُولِ وَمَسَائِلِ التَّوْحِيدِ . بَلْ قَدْ يَجْعَلُونَ شُيُوخَهُمْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ . وَعَنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِقِيَاسِهِمْ وَكَذَا أَخْبَرَ عَنْ أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ مِمَّا كَانَ وَسَيَكُونُ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِقِيَاسِهِمْ : لَا الْبُرْهَانِيِّ وَلَا غَيْرِهِ فَإِنَّ أَقْيِسَتَهُمْ لَا تُفِيدُ إلَّا أُمُورًا كُلِّيَّةً وَهَذِهِ أُمُورٌ خَاصَّةٌ وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَكُونُ مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُعَيَّنَةِ حَتَّى أَخْبَرَ عَنْ التتر الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ سِتّمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ إخْبَارِهِ وَكَذَلِكَ عَنْ النَّارِ الَّتِي خَرَجَتْ قَبْلَ مَجِيءِ التتر سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ هـ . فَهَلْ يُتَصَوَّرُ أَنَّ قِيَاسَهُمْ وَبُرْهَانَهُمْ يَدُلُّ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ أَوْ أُمَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَضْلًا عَنْ مَوْصُوفٍ بِالصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا ؟ .
ثُمَّ
مِنْ بَلَايَاهُمْ وكفرياتهم أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ الْبَارِيَ - تَعَالَى -
لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَلَا يَعْرِفُ عَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى وَلَا
غَيْرَهُمَا وَلَا شَيْئًا مِنْ تَفَاصِيلِ الْحَوَادِثِ . وَالْكَلَامُ
وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ
يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ مَا هُوَ
فِي غَايَةِ الضَّلَالِ . فِرَارًا مِنْ لَازِمٍ لَيْسَ لَهُمْ قَطُّ دَلِيلٌ
عَلَى نَفْيِهِ .
الْوَجْه الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِالْحِسِّيَّاتِ
الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ كَالْجُوعِ وَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ . وَنَفَوْا
وُجُودَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَصَّ بِرُؤْيَتِهِ بَعْضُ النَّاسِ
كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَمَا تَرَاهُ النَّفْسُ عِنْدَ الْمَوْتِ .
وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَاطِقَانِ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ . وَلِبَسْطِ هَذِهِ
الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ
الْقَوَاعِدِ الْفَاسِدَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ مِنْ نَفْيِ مَا لَمْ يُعْلَمْ نَفْيُهُ
أَوْجَبَ لَهُمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ مَا صَارَ حَاجِبًا وَأَنَّهُمْ بِهِ
أَسْوَأُ حَالًا مِنْ كُفَّارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنْ يُقَالَ : كَوْنُ الْقَضِيَّةِ "
بُرْهَانِيَّةً " مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلْمُسْتَدِلِّ
بِهَا وَكَوْنُهَا " جَدَلِيَّةً " مَعْنَاهُ كَوْنُهَا مُسَلَّمَةً
وَكَوْنُهَا " خَطَابِيَّةً " مَعْنَاهُ كَوْنُهَا مَشْهُورَةً أَوْ
مَقْبُولَةً أَوْ مَظْنُونَةً . وَجَمِيعُ هَذِهِ الْفُرُوقِ هِيَ نِسَبٌ وَإِضَافَاتٌ
عَارِضَةٌ لِلْقَضِيَّةِ لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهَا فَضْلًا
عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَاتِيَّةً لَهَا عَلَى أَصْلِهِمْ . بَلْ لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ صِفَةٌ لَهَا فِي نَفْسِهَا بَلْ هَذِهِ صِفَاتٌ نِسْبِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ شُعُورِ الشَّاعِرِ بِهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَضِيَّةَ قَدْ تَكُونُ حَقًّا وَالْإِنْسَانُ لَا يَشْعُرُ بِهَا ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَظُنَّهَا أَوْ يَعْلَمَهَا . وَكَذَلِكَ قَدْ تَكُونُ خَطَابِيَّةً أَوْ جَدَلِيَّةً وَهِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا بَلْ تَكُونُ بُرْهَانِيَّةً أَيْضًا كَمَا قَدْ سَلَّمُوا ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَخْبَرُوا بِالْقَضَايَا الَّتِي هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا لَا تَكُونُ كَذِبًا بَاطِلًا قَطُّ . وَبَيَّنُوا مِنْ الطُّرُقِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا صِدْقُ الْقَضَايَا مَا هُوَ مُشْتَرِكٌ . فَيَنْتَفِعُ بِهِ جِنْسُ بَنِي آدَمَ وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ لِلنَّاسِ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ فَلَمْ يَسْلُكُوا هَذَا الْمَسْلَكَ . بَلْ سَلَكُوا فِي الْقَضَايَا الْأَمْرَ النِّسْبِيَّ فَجَعَلُوا الْبُرْهَانِيَّاتِ مَا عَلِمَهُ الْمُسْتَدِلُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلُوهُ بُرْهَانِيًّا وَإِنْ عِلْمَهُ مُسْتَدِلٌّ آخَرُ . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ الْبُرْهَانِيَّاتِ عِنْدَ إنْسَانٍ وَطَائِفَةٍ مَا لَيْسَ مِنْ الْبُرْهَانِيَّاتِ عِنْدَ آخَرِينَ . فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحَدَّ الْقَضَايَا الْعِلْمِيَّةُ بِحَدِّ جَامِعٍ بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَنْ عَلِمَهَا وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا حَتَّى إنَّ أَهْلَ الصِّنَاعَاتِ عِنْدَ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ مِنْ الْقَضَايَا الَّتِي يَعْلَمُونَهَا مَا لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُمْ وَحِينَئِذٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ طَرِيقَتُهُمْ مُمَيِّزَةً لِلْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ مِنْ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمِنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ . وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَتُهَا مُشْتَرِكَةً بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ ؛ بِخِلَافِ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِالْقَضَايَا الصَّادِقَةِ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ
وَالصِّدْقِ
وَالْكَذِبِ فَكُلُّ مَا نَاقَضَ الصِّدْقَ فَهُوَ كَذِبٌ وَكُلُّ مَا نَاقَضَ
الْحَقَّ فَهُوَ بَاطِلٌ فَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ
حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَأَنْزَلَ أَيْضًا
الْمِيزَانَ وَمَا يُوزَنُ بِهِ وَيُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ .
وَلِكُلِّ حَقٍّ مِيزَانٌ يُوزَنُ بِهِ بِخِلَافِ مَا فَعَلَهُ الْفَلَاسِفَةُ
الْمَنْطِقِيُّونَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِلْحَقِّ وَلَا
مُفَرِّقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلَا هُوَ مِيزَانٌ يُعْرَفُ بِهِ
الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ . وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَمَا كَانَ فِي
كَلَامِهِمْ مُوَافِقًا لَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَهُوَ مِنْهُ . وَمَا
خَالَفَهُ فَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْبَاطِلَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا . فَإِنْ قِيلَ :
نَحْنُ نَجْعَلُ الْبُرْهَانِيَّاتِ إضَافِيَّةً . فَكُلُّ مَا عَلِمَهُ
الْإِنْسَانُ بِمُقَدِّمَاتِهِ فَهُوَ بُرْهَانِيٌّ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
بُرْهَانِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ . قِيلَ : لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ
سَلَكَ هَذَا السَّبِيلَ لَمْ يَجِدْ مَوَادَّ الْبُرْهَانِ فِي أَشْيَاءَ
مُعَيَّنَةٍ مَعَ إمْكَانِ عِلْمِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لِأُمُورِ أُخْرَى
بِغَيْرِ تِلْكَ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي عَيَّنُوهَا . وَإِذَا
قَالُوا : نَحْنُ لَا نُعَيِّنُ الْمَوَادَّ فَقَدْ بَطَلَ أَحَدُ أَجْزَاءِ
الْمَنْطِقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّهُمْ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ طَرِيقَهُمْ
كُلِّيَّةٌ مُحِيطَةٌ بِطُرُقِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لِبَنِي آدَمَ - مَعَ أَنَّ
الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ إمَّا بِالْحِسِّ وَإِمَّا
بِالْعَقْلِ وَإِمَّا بِالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ مَعْلُومَاتٍ كَثِيرَةً لَا تُعْلَمُ بِطُرُقِهِمْ الَّتِي ذَكَرُوهَا . وَمِنْ ذَلِكَ مَا عَلِمَهُ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعُلُومِ - أَرَادُوا إجْرَاءَ ذَلِكَ عَلَى قَانُونِهِمْ الْفَاسِدِ . فَقَالُوا : النَّبِيُّ لَهُ قُوَّةٌ أَقْوَى مِنْ قُوَّةِ غَيْرِهِ . وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَنَالُ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمِ مُعَلِّمٍ فَإِذَا تَصَوَّرَ أَدْرَكَ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الْحَدَّ الَّذِي قَدْ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَى غَيْرِهِ إدْرَاكُهُ بِلَا تَعْلِيمٍ ؛ لِأَنَّ قُوَى الْأَنْفُسِ فِي الْإِدْرَاكِ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ : فَجَعَلُوا مَا يُخْبِرُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ . فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ إنَّمَا تُعْرَفُ بِهِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ وَالرُّسُلُ أَخْبَرُوا بِأُمُورِ مُعَيَّنَةٍ شَخْصِيَّةٍ جُزْئِيَّةٍ مَاضِيَةٍ وَحَاضِرَةٍ وَمُسْتَقْبَلَةٍ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا عَلِمَتْهُ الرُّسُلُ لَمْ يَكُنْ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ . بَلْ جَعَلَ ابْنُ سِينَا عِلْمَ الرَّبِّ بِمَفْعُولَاتِهِ فِي هَذَا الْبَابِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا تَقَرَّرَ فَسَادُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ مِنْ حَصْرِ طَرِيقِ الْعِلْمِ : مَادَّةً وَصُورَةً وَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا مِنْ الْعُلُومِ الصَّادِقَةِ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ وَأَكْثَرَ مِمَّا أَثْبَتُوهُ وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الطَّرِيقِ إنَّمَا يُفِيدُ عُلُومًا قَلِيلَةً خَسِيسَةً لَا كَثِيرَةً وَلَا شَرِيفَةً . وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الْقَوْمِ ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَخَسِّ النَّاسِ عِلْمًا وَعَمَلًا . وَكُفَّارُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَشْرَفُ عِلْمًا وَعَمَلًا مِنْهُمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَالْفَلْسَفَةُ كُلُّهَا لَا يَصِيرُ صَاحِبُهَا فِي دَرَجَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ
فَضْلًا عَنْ دَرَجَتِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَدْ أَنْشَدَ ابْنُ القشيري فِي الرَّدِّ عَلَى " الشِّفَاءِ " لِابْنِ سِينَا : قَطَعْنَا الْأُخُوَّةَ مِنْ مَعْشَرٍ بِهِمْ مَرَضٌ مِنْ كِتَابِ الشفا وَكَمْ قُلْت : يَا قَوْمِ أَنْتُمْ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنْ كِتَابِ الشفا فَلَمَّا اسْتَهَانُوا بِتَنْبِيهِنَا رَجَعْنَا إلَى اللَّهِ حَتَّى كَفَى فَمَاتُوا عَلَى دِينِ رسطاطالس وَعِشْنَا عَلَى مِلَّةِ الْمُصْطَفَى . فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ مِنْ حَصْرِ طُرُقِ الْعِلْمِ يُوجَدُ نَحْوٌ مِنْهُ فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمِي الْمُسْلِمِينَ . بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُهُ بِعَيْنِهِ إمَّا بِعِبَارَاتِهِمْ وَإِمَّا بِتَغْيِيرِ الْعِبَارَةِ . فَالْجَوَابُ : أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ حَقًّا بَلْ كُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَهُوَ حَقٌّ . وَمَا قَالَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّا يُوَافِقُ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ . وَمَا قَالُوهُ مِمَّا يُخَالِفُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَقَدْ عُرِفَ ذَمُّ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِأَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ . قَالَ : وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْمٍ أَرَادُوا بِزَعْمِهِمْ نَصْرَ الشَّرْعِ بِعُقُولِهِمْ النَّاقِصَةِ وَأَقْيِسَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ . فَكَانَ مَا فَعَلُوهُ مِمَّا جَرَّأَ الْمُلْحِدِينَ أَعْدَاءَ الدِّينِ
عَلَيْهِ
فَلَا الْإِسْلَامَ نَصَرُوا وَلَا الْأَعْدَاءَ كَسَرُوا . ثُمَّ مِنْ
الْعَجَائِبِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ الْمَعْصُومِينَ
الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ إلَّا الْحَقَّ وَيُعْرِضُونَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ
وَيُقَلِّدُونَ وَيُسَاكِنُونَ مُخَالِفَ مَا جَاءُوا بِهِ مَنْ يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ وَأَنَّهُ يُخْطِئُ تَارَةً وَيُصِيبُ أُخْرَى
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
قَالَ " السيوطي " : هَذَا آخِرُ مَا لَخَّصْته مِنْ كِتَابِ ابْنِ
تَيْمِيَّة . وَقَدْ أَوْرَدْت عِبَارَتَهُ بِلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي
الْغَالِبِ . وَحَذَفْت مِنْ كِتَابِهِ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُ فِي عِشْرِينَ
كُرَّاسًا . وَلَمْ أَحْذِفْ مِنْ الْمُهِمِّ شَيْئًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ .
قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي ضَبْطِ كُلِّيَّاتِ " الْمَنْطِقِ " وَالْخَلَلِ فِيهِ .
بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ مَدَارِكَ الْعِلْمِ مُنْحَصِرَةٌ فِي " الْحَدِّ
" وَجِنْسِهِ مِنْ الرَّسْمِ وَنَحْوِهِ وَفِي الْقِيَاسِ وَنَحْوِهِ مِنْ
الِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ : إمَّا " تَصَوُّرٌ
" وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْمُفْرَدَاتِ وَإِمَّا " تَصْدِيقٌ " وَهُوَ
الْعِلْمُ بِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ
وَكُلٌّ مِنْ الْعِلْمَيْنِ : إمَّا " بَدِيهِيٌّ " لَا يَحْتَاجُ إلَى
طَرِيقٍ وَإِمَّا " نَظَرِيٌّ " مُفْتَقِرٌ إلَى الطَّرِيقِ وَطَرِيقُ
التَّصَوُّرِ هُوَ " الْحَدُّ " وَطَرِيقُ التَّصْدِيقِ هُوَ "
الْقِيَاسُ " الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانَ - إنْ كَانَتْ
مُقَدِّمَاتُهُ يَقِينِيَّةً . ثُمَّ قَالُوا : " الْحَدُّ " هُوَ الْقَوْلُ
الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَإِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ
الْمَحْدُودِ كَمَا أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى
وَيُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى ،
إذْ الْمَفْهُومُ مِنْ الْحَدِّ وَالِاسْمِ هُوَ الْمَحْدُودُ وَالْمُسَمَّى كَمَا أَنَّ " الْمَاهِيَّةَ " هِيَ الْمَقُولَةُ فِي جَوَابِ مَا هُوَ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا جَوَابُ مَا يُقَالُ فِي السُّؤَالِ بِصِيغَةِ مَا هُوَ فَتَكُونُ الْمَاهِيَّةُ هِيَ الْحَدَّ وَهِيَ ذَاتُ الشَّيْءِ أَيْضًا وَهَذِهِ الْمَصَادِرُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الْجُمَلِ الِاسْتِفْهاميّةِ مُوَلَّدَةٌ مِثْلَ الْمَاهِيَّةِ وَالْمَائِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْحَيْثِيَّةِ والأينية واللمية بِمَنْزِلَةِ الْمَصَادِرِ مِنْ الْجُمَلِ الْخَبَرِيَّةِ كَالْحَوْقَلَةِ والقلحدة وَالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالُوا : " الْمَاهِيَّةُ " مُرَكَّبَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَتَكَلَّمُوا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ بِأَنَّ " الذَّاتِيَّةَ " هِيَ الَّتِي يَمْتَنِعُ تَصَوُّرُ الْمَوْصُوفِ إلَّا بِتَصَوُّرِهَا فَالذَّاتُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا فِي الْوُجُودِ وَالذِّهْنِ كَالتَّجْسِيمِ لِلْحَيَوَانِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ " الْعَرَضِيُّ " . ثُمَّ هُوَ يَنْقَسِمُ : إلَى لَازِمٍ وَعَارِضٍ مُفَارِقٍ ؛ وَاللَّازِمُ : إمَّا لَازِمٌ لِلْمَاهِيَّةِ كَالزَّوْجِيَّةِ لِلْأَرْبَعَةِ وَالْفَرْدِيَّةِ لِلثَّلَاثَةِ وَإِمَّا لَازِمٌ لِوُجُودِهَا دُونَ مَاهِيَّتِهَا كَالسَّوَادِ لِلْقَارِ وَالْحُدُوثِ لِلْحَيَوَانِ . وَالْعَارِضُ الْمُفَارِقُ إمَّا بَطِيءُ الزَّوَالِ كَالشَّبَابِ وَالْمَشِيبِ وَإِمَّا سَرِيعُ الزَّوَالِ كَحُمْرَةِ الْخَجَلِ وَصُفْرَةِ الْوَجَلِ وَالْمُشْكِلُ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَاللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ لَا فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَلَا الذِّهْنِيِّ
فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الذَّاتِيَّ يَسْبِقُ تَصَوُّرُهُ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ بِحَيْثُ لَا تُفْهَمُ الذَّاتُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ لَازِمِ الْمَاهِيَّةِ . ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ : إمَّا أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ الْجِنْسُ وَهُوَ الْجِنْسُ الْعَامُّ وَالْعَرَضُ الْعَامُّ وَإِمَّا يَنْفَرِدَ بِهِ نَوْعٌ وَهُوَ الْفَصْلُ وَالْخَاصَّةُ وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُمَيَّزِ وَهُوَ النَّوْعُ فَهَذِهِ " الْكُلِّيَّاتُ الْخَمْسُ " الْجِنْسُ وَالْفَصْلُ وَالنَّوْعُ وَالْخَاصَّةُ وَالْعَرَضُ الْعَامُّ . فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَأَقْسَامِهَا غَالِبُ مَنْفَعَتِهِ فِي الْحُدُودِ وَالْحَقَائِقِ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ إذَا سَلِمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَ " الْمُقَدِّمَةُ " هِيَ الْقَضِيَّةُ وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُفْرَدَيْنِ فَكَانَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثِ مَرَاتِبَ : ( الْأُولَى ) الْكَلَامُ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَلْفَاظُهَا وَمَعَانِيهَا لِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُتَوَاطِئَةِ وَالْمُفْرَدَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ وَالْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ . وَ " الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ " الْكَلَامُ فِي الْقَضَايَا وَأَقْسَامِهَا : مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ وَجِهَاتِ الْقَضَايَا وَفِي أَحْكَامِ الْقَضَايَا : مِثْلَ كَذِبِ النَّقِيضِ وَصِدْقِ الْعَكْسِ وَعَكْسِ النَّقِيضِ .
وَ
" الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ " : الْكَلَامُ فِي الْقِيَاسِ
وَضُرُوبِهِ وَشُرُوطِ نِتَاجِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ
عَامَّةٍ إيجَابِيَّةٍ وَأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَحْصُلُ عَنْ سَالِبَتَيْنِ وَلَا
خَاصِّيَّتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ وَلَا سَالِبَةٍ صُغْرَى وَجُزْئِيَّةٍ كُبْرَى
بَلْ إمَّا مُوجَبَتَانِ فِيهِمَا كُلِّيَّةٌ وَإِمَّا صُغْرَى سَالِبَةٌ
وَكُبْرَى جُزْئِيَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ صُوَرِ الْقِيَاسِ
وَأَنْوَاعِهِ الَّتِي تَتَبَيَّنُ بِبُرْهَانِ الْخَلْفِ الْمَرْدُودِ إلَى
حُكْمِ نَقِيضِ الْقَضِيَّةِ أَوْ بِالرَّدِّ إلَى عَكْسِ الْقَضِيَّةِ أَوْ
عَكْسِ نَقِيضِهَا .
ثُمَّ بَيَّنُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَوَادَّ الْقِيَاسِ فَقَسَّمُوهُ : إلَى "
بُرْهَانِيٍّ " وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ يَقِينِيَّةً وَحَصَرُوا
الْيَقِينِيَّاتِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ الْبَاطِنَةِ
وَالظَّاهِرَةِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ والمتواترات وَالْمُجَرَّبَاتِ وَزَادَ
بَعْضُهُمْ الْحَدْسِيَّاتِ . وَإِلَى " خَطَابِيٍّ " : وَهُوَ مَا
كَانَتْ مَوَادُّهُ مَشْهُورَةً يَقِينِيَّةً أَوْ غَيْرَ يَقِينِيَّةٍ . وَإِلَى
" جَدَلِيٍّ " : وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مُسَلَّمَةً مِنْ
الْمُنَازِعِ يَقِينِيَّةً أَوْ مَشْهُورَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَإِلَى "
شعري " : وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مَشْعُورًا بِهَا غَيْرَ
مُعْتَقَدَةٍ كَالْمُفْرِحَةِ وَالْمُحْزِنَةِ وَالْمُضْحِكَةِ . وَإِلَى "
مغلطي سُوفِسْطَائِيٍّ " وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مُمَوَّهَةً بِشُبَهِ
الْحَقِّ .
فَصْلٌ
:
النَّاسُ فِي مُسَمَّى الْقِيَاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْثِيلِ مَجَازٌ فِي الشُّمُولِ وَهُوَ
قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ .وَالثَّانِي : الْعَكْسُ وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ حَزْمٍ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ الَّذِي عَلَيْهِ
الْجُمْهُورُ ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْجُمْهُورِ يَنْقَسِمُ
إلَى : عَقْلِيٍّ وَهُوَ مَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْعَقْلِ وَإِلَى شَرْعِيٍّ
وَهُوَ مَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَصْلٍ مَعْلُومٍ بِالشَّرْعِ . وَكُلٌّ مِنْ
الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَكُلُّ مَا يُسَمَّى قِيَاسًا يَنْقَسِمُ : إلَى
قِيَاسِ تَمْثِيلٍ وَقِيَاسِ شُمُولٍ . فَالْأَوَّلُ إلْحَاقُ الشَّيْءِ
بِنَظِيرِهِ وَالثَّانِي إدْخَالُ الشَّيْءِ تَحْتَ حُكْمِ الْمَعْنَى الْعَامِّ
الَّذِي يَشْمَلُهُ ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَّصِلٌ بِالْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا
بُدَّ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ مِنْ مَعْنًى مُشْتَرَكٍ يَكُونُ شَامِلًا لَهُمَا
وَلَا بُدَّ فِي الْمَعْنَى الشَّامِلِ لِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ تَسْوِيَةِ
أَحَدِ الِاثْنَيْنِ بِالْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَالْقِيَاسُ ثَابِتٌ
فِيهِمَا وَهُوَ التَّقْدِيرُ وَالِاعْتِبَارُ وَالْحُسْبَانُ .
فَصْلٌ
:
الْفَسَادُ فِي الْمَنْطِقِ : فِي الْبُرْهَانِ وَفِي الْحَدِّ .
أَمَّا " الْبُرْهَانُ " فَصُورَتُهُ صُورَةٌ صَحِيحَةٌ وَإِذَا كَانَتْ
مَوَادُّهُ صَحِيحَةً فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يُفِيدُ عِلْمًا صَحِيحًا لَكِنَّ
الْخَطَأَ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَصْرَ مَوَادِّهِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَجْنَاسِ
الْمَذْكُورَةِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ فَأَصَابُوا فِيمَا أَثْبَتُوهُ
دُونَ مَا نَفَوْهُ فَمِنْ أَيْنَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ لَا يَقِينَ إلَّا مِنْ
هَذِهِ الْجِهَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنْ رَجَعَ فِيهِ الْإِنْسَانُ إلَى مَا
يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ سَائِرَ النَّوْعِ حَتَّى
الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ يَقِينٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ
ثُمَّ الْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ يُفِيدُ الْعِلْمَ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ
عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِقَلْبِ بَشَرٍ عِلْمٌ إلَّا بِهَذَا الْبُرْهَانِ
الْمَوْصُوفِ بَلْ قَدْ رَأَيْنَا عُلُومًا كَثِيرَةً هِيَ لِقَوْمِ ضَرُورِيَّةٌ
أَوْ حِسِّيَّةٌ وَلِآخَرِينَ نَظَرِيَّةٌ قِيَاسِيَّةٌ فَلِهَذَا كَذَّبُوا بِمَا
لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَهُوَ مَا حَصَلَ مِنْ الْعُلُومِ بِغَيْرِ هَذِهِ
الْمَوَادِّ الْمَحْصُورَةِ أَوْ بِغَيْرِ قِيَاسٍ أَصْلًا بَلْ زَعَمَ أَفْضَلُ
الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَنَّ عُلُومَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لَا
تَحْصُلُ إلَّا
بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ عِلْمَ الرَّبِّ كَذَلِكَ وَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا سِوَى مَحْضِ قِيَاسِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ عَلَى نَفْسِهِ وَقِيَاسِ الرَّبِّ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ . فَهَذَا مَوْضِعٌ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَيَقَّنَهُ وَيَعْلَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَغَيْرَهُمْ إنَّمَا ضَلُّوا غَالِبًا مِنْ جِهَةِ مَا نَفَوْهُ وَكَذَّبُوا بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ مَا أَثْبَتُوهُ وَعَلِمُوهُ وَلِهَذَا كَانَ الْمَنْطِقُ مَظِنَّةَ الزَّنْدَقَةِ لِمَنْ لَمْ يَقْوَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إلَّا بِهَذِهِ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ عِنْدَهُ فِي غَالِبِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَيَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُ بِهِ أَوْ يُعْرِضُ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ فَيَكُونُ عَدَمُ إيمَانِهِ وَعِلْمِهِ مِنْ اعْتِقَادِهِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُفِيدَةً لِلْعِلْمِ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ كَوْنِهَا تُفِيدُهُ وَبَيْنَ كَوْنِهَا تُفِيدُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى عِلْمٍ كُلِّيٍّ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ إيجَابِيَّةٍ وَالْكُلِّيُّ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الْكُلِّيُّ . فَجَمِيعُ الْحَقَائِقِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ بِأَعْيَانِهَا وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِهِ - إنْ عُلِمَ - صِفَةٌ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَلَا يُعْلَمُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ خَوَاصِّ الرُّبُوبِيَّةِ أَلْبَتَّةَ وَلَا شَيْءٌ مِنْ خَوَاصِّ مَلَكٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا وَلِيٍّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ بَلْ وَلَا مَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَلَا السُّفْلِيَّةِ ؛ فَإِذًا الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا أَوْ حَاصِلًا
بِغَيْرِ
الْقِيَاسِ وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ وَاقِعٌ فَإِنَّهُ مُنْتَفٍ عِنْدَهُمْ إذْ لَا
طَرِيقَ لَهُمْ غَيْرُ الْقِيَاسِ وَحَاصِلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ
وَأَتْبَاعِهِمْ بَلْ حَاصِلُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جَمِيعِ أُولِي
الْعِلْمِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَسَائِرِ الْآدَمِيِّينَ . وَ
" أَيْضًا " فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ
فَإِنْ كَانَتْ نَظَرِيَّةً افْتَقَرَتْ إلَى أُخْرَى وَإِنْ كَانَتْ بَدِيهِيَّةً
فَإِذَا جَازَ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهَا بَدِيهَةً فَمَا
الْمَانِعُ أَنْ يَحْصُلَ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ وَهُوَ أَسْهَلُ .
وَأَمَّا " الْحَدُّ " فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ :
أَحَدُهَا : دَعْوَاهُمْ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ النَّظَرِيَّةَ لَا تُعْلَمُ إلَّا
بِالْحَدِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي أَنَّ
التَّصْدِيقَاتِ النَّظَرِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْبُرْهَانِ الَّذِي
حَصَرُوا مَوَادَّهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَنَّ
الْحَادَّ إنْ عَرَفَ الْمَحْدُودَ بِحَدِّ غَيْرِهِ فَقَدْ لَزِمَ الدَّوْرُ أَوْ
التَّسَلْسُلُ وَإِنْ عَرَفَهُ بِغَيْرِ حَدٍّ بَطَلَ الْمُدَّعَى فَإِنْ قِيلَ :
بَلْ عَرَفَهُ بِالْحَدِّ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ كَمَا عَرَفَ
التَّصْدِيقَ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِهِ قِيلَ : الْبُرْهَانُ مُبَايِنٌ لِلنَّتِيجَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ
بالمقدمتين لَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْعِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ وَأَمَّا الْحَدُّ
الْمُنْعَقِدُ فِي النَّفْسِ فَهُوَ نَفْسُ الْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ وَهُوَ
الْمَطْلُوبُ فَأَيْنَ الْحَدُّ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ وَهَذَا
أَحَدُ مَا يُبَيِّنُ .
الْمَوْضِعُ
الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ إنَّ الْحَدَّ لَا تُعْرَفُ بِهِ
مَاهِيَّةُ الْمَحْدُودِ بِحَالِ بِخِلَافِ الْبُرْهَانِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى
الْمَطْلُوبِ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَادِّ ؛ فَلِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّيْءَ
قَبْلَ أَنْ يَحُدَّهُ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ حَدُّهُ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ
أَنْ يُطَابِقَهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَلَوْلَا مَعْرِفَتُهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَحُدَّهُ لَمْ تَصِحَّ مَعْرِفَتُهُ بِالْمُطَابَقَةِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ
إلَى الْمُسْتَمِعِ فَلِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ
بَدِيهِيَّةً وَلَمْ يُقِمْ الْحَادُّ عَلَيْهِ دَلِيلًا امْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ
لَهُ عِلْمٌ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْحَادِّ الْمُتَكَلِّمِ بِالْحَدِّ ؛ وَلِهَذَا
تَجِدُ الْمُسْتَمِعَ يُعَارِضُ الْحَدَّ وَيُنَاقِضُهُ فِي طَرْدِهِ وَعَكْسِهِ
وَلَوْلَا تَصَوُّرُهُ الْمَحْدُودَ بِدُونِ الْحَدِّ لَامْتَنَعَتْ
الْمُعَارَضَةُ وَالْمُنَاقَضَةُ . وَإِنَّمَا فَائِدَةُ الْحَدِّ التَّمْيِيزُ
بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ لَا تَصْوِيرُهُ ؛ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِاسْمِ
الْحَدِّ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ الْفَاصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛
وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَتَصَوَّرُ مَاهِيَّةَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا . مِثْلُ مَنْ
يَتَصَوَّرُ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ وَالْعِلْمَ فَيَتَصَوَّرُهُ مُطْلَقًا لَا
عَامًّا ؛ فَالْحَدُّ يُمَيِّزُ الْعَامَّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ خَبَرٍ
وَعِلْمٍ وَأَمْرٍ . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ الَّذِي يُتَصَوَّرُ
بِالْبَدِيهَةِ مِنْ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ
غَيْرُ الْمَطْلُوبِ بِالْحَدِّ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْعَامَّةُ ؛ ثُمَّ
التَّمْيِيزُ لِلْأَسْمَاءِ تَارَةً وَلِلصِّفَاتِ أُخْرَى فَالْحَدُّ إمَّا
بِحَسَبِ الِاسْمِ وَهُوَ الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي
الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ كُلِّ عَالِمٍ وَإِمَّا
بِحَسَبِ الْوَصْفِ وَهُوَ تَفْهِيمُ الْحَقِيقَةِ الَّتِي عُرِفَتْ صِفَتُهَا
وَهَذَا يَحْصُلُ بِالرَّسْمِ وَالْخَوَاصِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ
لِلْمَاهِيَّةِ بِحَيْثُ يَدَّعِي
أَنَّ هَذَا لَا تُفْهَمُ الْمَاهِيَّةُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ إذَا رَجَعَ إلَى ذِهْنِهِ لَمْ يَجِدْ أَحَدَهُمَا سَابِقًا وَالْآخَرَ لَاحِقًا ثُمَّ إذَا كَانَ الْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِيِّ إلَى تَصَوُّرِ الذَّاتِ وَالْمَرْجِعُ فِي تَصَوُّرِهَا إلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِيِّ كَانَ دَوْرًا ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ الْمَاهِيَّةَ إلَّا بِالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَلَا نَعْرِفُ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ حَتَّى نَتَصَوَّرَ الذَّاتَ ؛ فَإِنَّ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ مَا تَقِفُ مَعْرِفَةُ الذَّاتِ عَلَيْهَا فَلَا تُعْرَفُ الذَّاتِيَّةُ . إلَّا بِأَنْ نَعْرِفَ أَنَّ فَهْمَ الذَّاتِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا فَلَا تُرِيدُ أَنْ تَفْهَمَ الذَّاتَ حَتَّى تَعْرِفَ الذَّاتِيَّةَ وَبَسْطُ هَذَا كَثِيرٌ . ( الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ ) : دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ مُرَكَّبَةٌ وَلَا تَرْكِيبَ فِي الذِّهْنِ.
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
قَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ مُلَخَّصَ " الْمَنْطِقِ " الْمُعَرَّبِ
الَّذِي بَلَّغَتْهُ الْعَرَبُ عَنْ الْيُونَانِيِّينَ وَعَرَّبَتْهُ لَفْظًا
وَمَعْنًى فَإِنَّهَا أَحْسَنَتْ أَلْفَاظَهُ وَحَرَّرَتْ مَعَانِيَهُ وَهُوَ
الْمَنْسُوبُ إلَى أَرِسْطُو الْيُونَانِيِّ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَتْبَاعُهُ مِنْ
الصَّابِئِينَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُبْتَدِعِينَ " الْمُعَلِّمَ الْأَوَّلَ
" لِأَنَّهُ وَضَعَ التَّعَالِيمَ الَّتِي يَتَعَلَّمُونَهَا مِنْ
الْمَنْطِقِ وَالطَّبِيعِيِّ وَمَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ . فَإِنَّ هَذِهِ
التَّعَالِيمَ لَمَّا اتَّصَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ وَعُرِّبَتْ كُتُبُهَا مَعَ مَا
عُرِّبَ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْهَيْئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ
انْتِشَارُ تَعْرِيبِهَا فِي دَوْلَةِ الْخَلِيفَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ
الْمُلَقَّبِ بِالْمَأْمُونِ أَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ فَحَرَّرُوهَا لَفْظًا
وَمَعْنًى . لَكِنْ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ .
فَمِنْهُمْ مَنْ اتَّبَعَهَا مَعَ مَا يَنْتَحِلُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُمْ صَابِئَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَمَّوْنَ بِالْفَلَاسِفَةِ فَصَارُوا مُؤْمِنِينَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ لَمَّا بَدَّلُوا بَعْضَ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ أَتْبَاعَهَا لَكِنْ تَلَقَّى عَنْهُمْ أَشْيَاءَ يَظُنُّ أَنَّهَا جَمِيعَهَا تُوَافِقُ الْإِسْلَامَ وَتَنْصُرُهُ وَكَثِيرٌ مِنْهَا تُخَالِفُهُ وَتَخْذُلُهُ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا قِيلَ هُمْ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا إعْرَاضًا مُجْمَلًا وَلَمْ يَتَّبِعْ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ مَا يُغْنِي عَنْ كُلِّ حَقِّهَا وَيَدْفَعُ بَاطِلَهَا وَلَمْ يُجَاهِدْهُمْ الْجِهَادَ الْمَشْرُوعَ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقَوَاعِدِ . وَذَكَرْت فِي تَلْخِيصِ جُمَلِ الْمَنْطِقِ مَا وَقَعَ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بِسَبَبِهِ وَبَعْضَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الْخَلَلِ . وَهُنَا تَلْخِيصُ ذَلِكَ فَأَقُولُ : مَقْصُودُ الْكَلَامِ فِي طُرُقِ الْعِلْمِ بِالتَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ ( فَالْأَوَّلُ ) كَالْحَدِّ وَالرَّسْمِ وَ ( الثَّانِي ) كَالْقِيَاسِ بِأَنْوَاعِهِ مِنْ الْبُرْهَانِ وَغَيْرِهِ وَكَالتَّمْثِيلِ وَالِاسْتِقْرَاءِ . وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ لَا يُنَالُ إلَّا بِجِنْسِ الْحَدِّ
وَالْمَطْلُوبَ
مِنْ التَّصْدِيقَاتِ لَا يُنَالُ إلَّا بِجِنْسِ الْقِيَاسِ وَقَدْ يُسَمَّى
جِنْسُ الْقِيَاسِ بِالنِّسْبَةِ كَمَا يُسَمَّى جِنْسُ الْقَوْلِ الشَّارِحِ
حَدًّا وَأَمَّا الْبَدِيهِيُّ مِنْ النَّوْعَيْنِ فَمُسْتَغْنٍ عَنْ الْحَدِّ
وَالْبُرْهَانِ فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ الْحُدُودَ تُفِيدُ تَصْوِيرَ
الْحَقَائِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا وَأَنَّ الْقِيَاسَ يُفِيدُ
التَّصْدِيقَ بِالْحَقَائِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ وَفِي كِلَا
الْأَمْرَيْنِ وَقَعَ الْخَطَأُ . أَمَّا فِي الْحَدِّ فَفِي كِلَا
الْقَضِيَّتَيْنِ السَّلْبُ وَالْإِيجَابُ فِيمَا أَثْبَتُوهُ وَفِيمَا نَفَوْهُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقَائِقِ
وَإِنَّمَا يُفِيدُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ وَتَصَوُّرُ
الْحَقَائِقِ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ الَّذِي هُوَ كَلَامُ الْحَادِّ
بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إدْرَاكِهَا بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَإِذَا لَمْ تُدْرَكْ
ضُرِبَ الْمَثَلُ لَهَا فَيَحْصُلُ بِالْمِثَالِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ
التَّصْوِيرِ - لَا قِيَاسُ التَّصْدِيقِ - نَوْعٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ
كَإِدْرَاكِنَا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الثَّوَابِ
وَالْعِقَابِ . وَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً تَكُونُ
لِلتَّصْوِيرِ وَتَارَةً تَكُونُ لِلتَّصْدِيقِ وَهَذَا الْوَجْهُ مُقَرَّرٌ
بِوُجُوهِ مُتَعَدِّدَةٍ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا تَلْخِيصُ الْمَقْصُودِ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ النَّفْيُ فَإِنَّ إدْرَاكَ الْحَقَائِقِ
الْمُتَصَوَّرَةِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْحَدِّ لَوْ فُرِضَ
أَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَدِّ بَلْ تَحْصُلُ بِأَسْبَابِ الْإِدْرَاكِ
الْمَعْرُوفَةِ
وَقَدْ تَحْصُلُ مِنْ الْكَلَامِ بِالْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْحَدِّ وَرُبَّمَا كَانَ الِاسْمُ فِيهَا أَنْفَعَ مِنْ الْحَدِّ وَهَذَا أَيْضًا مُقَرَّرٌ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يُفِيدُ التَّصْدِيقَ إذَا صَحَّتْ مُقَدِّمَاتُهُ وَتَأْلِيفُهَا ؛ لَكِنَّ الْخَطَأَ فِيهِ مِنْ النَّفْيِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا . ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ التصديقي فِي النَّفْسِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْقِيَاسِ بَلْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ . ( الثَّانِي ) أَنَّ الْقِيَاسَ الْبُرْهَانِيَّ لَيْسَتْ مَوَادُّهُ مُنْحَصِرَةً فِيمَا ذَكَرُوهُ فِي الْحِسِّيَّاتِ والوجديات وَالْبَدِيهِيَّاتِ وَالنَّظَرِيَّاتِ والمتواترات والتجريبيات وَالْحَدْسِيَّاتِ كَمَا بَيَّنْت هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ
:
عَنْ " كُتُبِ الْمَنْطِقِ " .
فَأَجَابَ :
أَمَّا " كُتُبُ الْمَنْطِقِ " فَتِلْكَ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى عِلْمٍ
يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى اجْتِهَادُ بَعْضِ النَّاسِ إلَى
أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ الْعُلُومَ لَا
تَقُومُ إلَّا بِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ
عَقْلًا وَشَرْعًا . أَمَّا " عَقْلًا " فَإِنَّ جَمِيعَ عُقَلَاءِ
بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ حَرَّرُوا
عُلُومَهُمْ بِدُونِ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ . وَأَمَّا " شَرْعًا "
فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ
اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ تَعَلُّمَ هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ عَلَى أَهْلِ
الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ . وَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ فَبَعْضُهُ حَقٌّ
وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ وَالْحَقُّ الَّذِي فِيهِ كَثِيرٌ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرُهُ لَا
يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَالْقَدْرُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهُ فَأَكْثَرُ
الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ تَسْتَقِلُّ بِهِ وَالْبَلِيدُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ
وَالذَّكِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَمَضَرَّتُهُ عَلَى
مَنْ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِعُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ السَّلْبِيَّةِ الْفَاسِدَةِ مَا رَاجَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَكَانَتْ سَبَبَ نِفَاقِهِمْ وَفَسَادِ عُلُومِهِمْ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ كَلَامٌ بَاطِلٌ بَلْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْحَدِّ وَالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ وَأَقْسَامِ الْقِيَاسِ وَالْبُرْهَانِ وَمَوَادِّهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ
عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - :
عَنْ " الْعَقْلِ " الَّذِي لِلْإِنْسَانِ هَلْ هُوَ عَرَضٌ ؟ وَمَا
هِيَ " الرُّوحُ " الْمُدَبِّرَةُ لِجَسَدِهِ ؟ هَلْ هِيَ النَّفْسُ ؟
وَهَلْ لَهَا كَيْفِيَّةٌ تُعْلَمُ ؟ وَهَلْ هِيَ عَرَضٌ أَوْ جَوْهَرٌ ؟ وَهَلْ
يُعْلَمُ مَسْكَنُهَا مِنْ الْجَسَدِ ؟ وَمَسْكَنُ الْعَقْلِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، " الْعَقْلُ " فِي كِتَابِ
اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ
أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ أَمْرٌ يَقُومُ بِالْعَاقِلِ سَوَاءٌ سُمِّيَ
عَرَضًا أَوْ صِفَةً لَيْسَ هُوَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا سَوَاءٌ سُمِّيَ
جَوْهَرًا أَوْ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا يُوجَدُ التَّعْبِيرُ
بِاسْمِ " الْعَقْلِ " عَنْ الذَّاتِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي هِيَ
جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ
الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ وَيَدَّعُونَ ثُبُوتَ عُقُولٍ
عَشَرَةٍ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ مَنْ يَذْكُرُهُ مِنْ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو أَوْ
غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ . وَمَنْ تَلَقَّى ذَلِكَ
عَنْهُمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَلِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى
هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ مَا يَذْكُرُونَهُ
مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ وَالْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ مِنْهُ إلَّا نَفْسُ الْإِنْسَانِ وَمَا يَقُومُ بِهَا مِنْ الْعُلُومِ وَتَوَابِعهَا ؛ فَإِنَّ أَصْلَ تَسْمِيَتِهِمْ لِهَذِهِ الْأُمُورِ مُفَارَقَاتٍ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مُفَارَقَةِ النَّفْسِ الْبَدَنَ بِالْمَوْتِ وَهَذَا أَمْرٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ نَفْسَ الْمَيِّتِ تُفَارِقُ بَدَنَهُ بِالْمَوْتِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ بِالْمَوْتِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الْحَيَاةُ الْقَائِمَةُ بِالْبَدَنِ . وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَالرِّيحِ الْمُتَرَدِّدَةِ فِي الْبَدَنِ أَوْ الْبُخَارِ الْخَارِجِ مِنْ الْقَلْبِ . فَفِي الْجُمْلَةِ النَّفْسُ الْمُفَارِقَةُ لِلْبَدَنِ بِالْمَوْتِ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَلَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْبَدَنِ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا وَهَذَا مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الْمُحْدَثِ مِنْ أَتْبَاعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَالْفَلَاسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ النَّفْسَ تَبْقَى إذَا فَارَقَتْ الْبَدَنَ ؛ لَكِنْ يَصِفُونَ النَّفْسَ بِصِفَاتِ بَاطِلَةٍ فَيَدَّعُونَ أَنَّهَا إذَا فَارَقَتْ الْبَدَنَ كَانَتْ عَقْلًا . وَالْعَقْلُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمَادَّةِ وَعَلَائِقِ الْمَادَّةِ وَالْمَادَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْجِسْمُ وَقَدْ يَقُولُونَ : هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِالْهَيُولَى وَالْهَيُولَى فِي لُغَتِهِمْ هُوَ بِمَعْنَى الْمَحَلِّ . وَيَقُولُونَ : الْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ .
وَالْعَقْلُ عِنْدَهُمْ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يُوصَفُ بِحَرَكَةِ وَلَا سُكُونٍ وَلَا تَتَجَدَّدُ لَهُ أَحْوَالٌ أَلْبَتَّةَ . فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ النَّفْسَ إذَا فَارَقَتْ الْبَدَنَ لَا يَتَجَدَّدُ لَهَا حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ لَا عُلُومٌ وَلَا تَصَوُّرَاتٌ . وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا إرَادَاتٌ . وَلَا فَرَحٌ وَسُرُورٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ بَلْ تَبْقَى عِنْدَهُمْ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ أَزَلًا وَأَبَدًا كَمَا يَزْعُمُونَهُ فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ النُّفُوسَ وَاحِدَةٌ بِالْعَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هِيَ مُتَعَدِّدَةٌ . وَفِي كَلَامِهِمْ مِنْ الْبَاطِلِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَوْضِعَ : فَهُمْ يُسَمُّونَ مَا اقْتَرَنَ بِالْمَادَّةِ الَّتِي هِيَ الْهَيُولَى وَهِيَ الْجِسْمُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَفْسًا كَنَفْسِ الْإِنْسَانِ الْمُدَبِّرَةِ لِبَدَنِهِ . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْفَلَكِ نَفْسًا تُحَرِّكُهُ كَمَا لِلنَّاسِ نُفُوسٌ لَكِنْ كَانَ قُدَمَاؤُهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ نَفْسَ الْفَلَكِ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْفَلَكِ كَنُفُوسِ الْبَهَائِمِ وَكَمَا يَقُومُ بِالْإِنْسَانِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ كَابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ زَعَمُوا أَنَّ النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَنَفْسِ الْإِنْسَانِ وَمَا دَامَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مُدَبِّرَةً لِبَدَنِهِ سَمَّوْهَا نَفْسًا فَإِذَا فَارَقَتْ سَمَّوْهَا عَقْلًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمَادَّةِ وَعَنْ عَلَائِقِ الْمَادَّةِ . وَأَمَّا النَّفْسُ فَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ .
وَأَصْلُ
تَسْمِيَتِهِمْ هَذِهِ مُجَرَّدَاتٍ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ
يُجَرِّدُ الْأُمُورَ الْعَقْلِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ عَنْ الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ
الْمُعَيَّنَةِ فَإِنَّهُ إذَا رَأَى أَفْرَادًا لِلْإِنْسَانِ كَزَيْدِ وَعَمْرٍو
عَقَلَ قَدْرًا مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْأَنَاسِيِّ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِيَّةِ
الْكُلِّيَّةِ الْمُشْتَرِكَةِ الْمَعْقُولَةِ فِي قَلْبِهِ . وَإِذَا رَأَى
الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَبَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرَ ذَلِكَ
مِنْ أَفْرَادِ الْحَيَوَانِ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا كُلِّيًّا مُشْتَرِكًا
بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَهِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ الْمَعْقُولَةُ .
وَإِذَا رَأَى مَعَ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ وَالشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ عَقَلَ مِنْ
ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرِكًا كُلِّيًّا وَهُوَ الْجِسْمُ النَّامِي الْمُغْتَذِي
وَقَدْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ النَّفْسَ النَّبَاتِيَّةَ.
وَإِذَا رَأَى مَعَ ذَلِكَ سَائِرَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ
وَالسُّفْلِيَّةِ الْعُنْصُرِيَّةِ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرِكًا
كُلِّيًّا هُوَ الْجِسْمُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ وَإِذَا رَأَى مَا سِوَى ذَلِكَ
مِنْ الْمَوْجُودَاتِ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا وَهُوَ
الْوُجُودُ الْعَامُّ الْكُلِّيُّ الَّذِي يَنْقَسِمُ إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ
وَهَذَا الْوُجُودُ هُوَ عِنْدَهُمْ مَوْضُوعُ " الْعِلْمِ الْأَعْلَى "
النَّاظِرِ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَهِيَ " الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى
" وَ " الْحِكْمَةُ الْعُلْيَا " عِنْدَهُمْ . وَهُمْ يُقَسِّمُونَ
الْوُجُودَ : إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَالْأَعْرَاضُ يَجْعَلُونَهَا "
تِسْعَةَ أَنْوَاعٍ " هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ
يَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَنْطِقِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْمُفْرَدَاتِ
الَّتِي تَنْتَهِي إلَيْهَا الْحُدُودُ الْمُؤَلَّفَةُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَكَ
سَبِيلَهُمْ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ فَقَالُوا : " الْكَلَامُ فِي هَذَا لَا
يَخْتَصُّ بِالْمَنْطِقِ "
فَأَخْرَجُوهَا
مِنْهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ ابْنِ سِينَا كَأَبِي حَامِدٍ
وَالسُّهْرَوَرْدِي الْمَقْتُولِ وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرِهِمْ .
وَهَذِهِ هِيَ " الْمَقُولَاتُ الْعَشْرُ " الَّتِي يُعَبِّرُونَ
عَنْهَا بِقَوْلِهِمْ : الْجَوْهَرُ . وَالْكَمُّ . وَالْكَيْفُ . وَالْأَيْنُ .
وَمَتَى وَالْإِضَافَةُ وَالْوَضْعُ وَالْمِلْكُ وَأَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ
وَقَدْ جُمِعَتْ فِي بَيْتَيْنِ وَهِيَ :
زَيْدُ الطَّوِيلُ الْأَسْوَدُ ابْنُ مَالِكِ * * * فِي دَارِهِ بِالْأَمْسِ كَانَ
متكي
فِي يَدِهِ سَيْفٌ نَضَاهُ فانتضا * * * فَهَذِهِ عَشْرُ مَقُولَاتٍ سوا
وَأَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِ أَتْبَاعِهِ أَنْكَرُوا حَصْرَ
الْأَعْرَاضِ فِي تِسْعَةِ أَجْنَاسٍ وَقَالُوا : إنَّ هَذَا لَا يَقُومُ عَلَيْهِ
دَلِيلٌ . وَيُثْبِتُونَ إمْكَانَ رَدِّهَا إلَى ثَلَاثَةٍ وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ الْأَعْدَادِ . وَجَعَلُوا الْجَوَاهِرَ " خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ " :
الْجِسْمَ وَالْعَقْلَ وَالنَّفْسَ وَالْمَادَّةَ وَالصُّورَةَ . فَالْجِسْمُ
جَوْهَرٌ حِسِّيٌّ وَالْبَاقِيَةُ جَوَاهِرُ عَقْلِيَّةٌ ؛ لَكِنْ مَا
يَذْكُرُونَهُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى إثْبَاتِ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ
إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ .
وَهَذِهِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا " الْمُجَرَّدَاتِ الْعَقْلِيَّةَ "
وَيَقُولُونَ : الْجَوَاهِرُ تَنْقَسِمُ إلَى مَادِّيَّاتٍ وَمُجَرَّدَاتٍ
فَالْمَادِّيَّاتُ الْقَائِمَةُ بِالْمَادَّةِ وَهِيَ الْهَيُولَى وَهِيَ
الْجِسْمُ وَالْمُجَرَّدَاتُ هِيَ الْمُجَرَّدَاتُ عَنْ الْمَادَّةِ وَهَذِهِ
الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُجَرَّدَاتِ أَصْلُهَا هِيَ هَذِهِ الْأُمُورُ
الْكُلِّيَّةُ الْمَعْقُولَةُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ كَمَا أَنَّ الْمُفَارَقَاتِ أَصْلُهَا مُفَارَقَةُ النَّفْسِ الْبَدَنَ وَهَذَانِ أَمْرَانِ لَا يُنْكَرَانِ ؛ لَكِنْ ادَّعَوْا فِي صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَحْوَالِهَا أُمُورًا بَاطِلَةً وَادَّعَوْا أَيْضًا ثُبُوتَ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِأَنْفُسِهَا وَيَقُولُونَ فِيهَا : الْعَاقِلُ وَالْمَعْقُولُ وَالْعَقْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَمَا يَقُولُونَ : مِثْلَ ذَلِكَ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ . فَيَقُولُونَ : هُوَ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وعقل وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وعشق وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ . وَيَجْعَلُونَ الصِّفَةَ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَيَجْعَلُونَ كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى فَيَجْعَلُونَ نَفْسَ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ نَفْسَ الْعَاقِلِ الْعَالِمِ وَنَفْسَ الْعِشْقِ الَّذِي هُوَ الْحُبُّ نَفْسَ الْعَاشِقِ الْمُحِبِّ وَنَفْسَ اللَّذَّةِ هِيَ نَفْسُ الْعِلْمِ وَنَفْسُ الْحُبِّ وَيَجْعَلُونَ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ هِيَ نَفْسَ الْعِلْمِ فَيَجْعَلُونَ الْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةَ وَهُوَ الْإِرَادَةَ وَهُوَ الْمَحَبَّةَ وَهُوَ اللَّذَّةَ وَيَجْعَلُونَ الْعَالِمَ الْمُرِيدَ الْمُحِبَّ الْمُلْتَذَّ هُوَ نَفْسَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْإِرَادَةِ وَهُوَ نَفْسُ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ نَفْسُ اللَّذَّةِ فَيَجْعَلُونَ الْحَقَائِقَ الْمُتَنَوِّعَةَ شَيْئًا وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَ نَفْسَ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ هِيَ نَفْسَ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ ثُمَّ يَتَنَاقَضُونَ فَيُثْبِتُونَ لَهُ عِلْمًا لَيْسَ هُوَ نَفْسَ ذَاتِهِ كَمَا تَنَاقَضَ ابْنُ سِينَا فِي إشَارَاتِهِ . وَغَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِمَوْضِعِ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ بِلَفْظِ الْعَقْلِ عَنْ جَوْهَرٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَيُثْبِتُونَ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةً يُسَمُّونَهَا الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ لِلْمَادَّةِ وَإِذَا حُقِّقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ غَيْرُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا النَّاطِقَةَ وَغَيْرُ مَا يَقُومُ بِهَا مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى عَقْلًا .
وَكَانَ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ يُسَمُّونَ " الرَّبَّ " عَقْلًا وَجَوْهَرًا . وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا سِوَى نَفْسِهِ وَلَا يُرِيدُ شَيْئًا وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَيُسَمُّونَهُ " الْمَبْدَأَ " وَ " الْعِلَّةَ الْأُولَى " لِأَنَّ الْفَلَكَ عِنْدَهُمْ مُتَحَرِّكٌ لِلتَّشَبُّهِ بِهِ أَوْ مُتَحَرِّكٌ لِلشَّبَهِ بِالْعَقْلِ فَحَاجَةُ الْفَلَكِ عِنْدَهُمْ إلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُتَشَبِّهٌ بِهَا كَمَا يَتَشَبَّهُ الْمُؤْتَمُّ بِالْإِمَامِ وَالتِّلْمِيذُ بِالْأُسْتَاذِ . وَقَدْ يَقُولُ : إنَّهُ يُحَرِّكُهُ كَمَا يُحَرِّكُ الْمَعْشُوقُ عَاشِقَهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ أَبْدَعَ شَيْئًا وَلَا فَعَلَ شَيْئًا وَلَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَلَا يُقَسِّمُونَ الْوُجُودَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَيَجْعَلُونَ الْمُمْكِنَ هُوَ مَوْجُودًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا كَالْفَلَكِ عِنْدَهُمْ . وَإِنَّمَا هَذَا فِعْلُ ابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَهُمْ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ سَلَفَهُمْ وَجَمِيعَ الْعُقَلَاءِ وَخَالَفُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْضًا فَتَنَاقَضُوا ؛ فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِمَا صَرَّحَ بِهِ سَلَفُهُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَأَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ . وَأَمَّا الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ فَيَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ بَلْ كُلُّ مَا قَبِلَ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُحْدَثًا وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . لَكِنَّ ابْنَ سِينَا وَمُتَّبِعُوهُ تَنَاقَضُوا فَذَكَرُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إلَى : وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ . وَأَنَّ الْمُمْكِنَ قَدْ يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَمْتَنِعُ
عَدَمُهُ وَيَقُولُونَ : هُوَ وَاجِبٌ بِغَيْرِهِ وَجَعَلُوا الْفَلَكَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ؛ فَخَرَجُوا عَنْ إجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ وَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مُمْكِنٍ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَأَلَّا يُوجَدَ وَأَنَّهُ مَعَ هَذَا يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا مُمْتَنِعَ الْعَدَمِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ . وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ لِمَنْ تَصَوَّرَ حَقِيقَةَ الْمُمْكِنِ الَّذِي يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ إنَّمَا تَسَلَّطُوا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ . وَلَمْ يَحْتَجُّوا لِمَا نَصَرُوهُ بِحُجَجِ صَحِيحَةٍ فِي الْمَعْقُولِ . فَقَصَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي مَعْرِفَةِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ . ( حَتَّى قَالُوا : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ [ ثُمَّ حَدَثَ مَا حَدَثَ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَزَعَمُوا دَوَامَ امْتِنَاعِ كَوْنِ الرَّبِّ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ ] ثُمَّ حَدَثَ مَا حَدَثَ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَزَعَمُوا دَوَامَ امْتِنَاعِ كَوْنِ الرَّبِّ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ ؛ لِزَعْمِهِمْ امْتِنَاعَ دَوَامِ الْحَوَادِثِ ) (*) ثُمَّ صَارَ أَئِمَّتُهُمْ كَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَبِي الهذيل الْعَلَّافِ إلَى امْتِنَاعِ دَوَامِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي فَقَالَ الْجَهْمُ : بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَقَالَ أَبُو الهذيل : بِفَنَاءِ حَرَكَاتِهِمَا وَأَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ دَائِمًا فِي سُكُونٍ وَيَزْعُمُ بَعْضُ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ أَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَأَنَّ كُلَّ مَا لَهُ ابْتِدَاءٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ انْتِهَاءٌ . وَلَمَّا رَأَوْا الشَّرْعَ قَدْ جَاءَ بِدَوَامِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أُكُلُهَا
دَائِمٌ
وَظِلُّهَا } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } ظَنُّوا
أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُ الشَّرْعِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعَقْلِ وَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ لَا تُنَاقِضُ
الْحُجَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الصَّحِيحَةَ بَلْ يَمْتَنِعُ تَعَارُضُ الْحُجَجِ
الصَّحِيحَةِ سَوَاءً كَانَتْ عَقْلِيَّةً أَوْ سَمْعِيَّةً أَوْ سَمْعِيَّةً
وَعَقْلِيَّةً . بَلْ إذَا تَعَارَضَتْ حُجَّتَانِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ
إحْدَاهُمَا أَوْ فَسَادِهِمَا جَمِيعًا . وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى جَوَازِ
دَوَامِ الْحَوَادِثِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي وَذَكَرُوا فُرُوعًا
عَرَفَ حُذَّاقُهُمْ ضَعْفَهَا كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَهُوَ لُزُومُهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ ثُمَّ صَارَ
قَادِرًا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ يُوجِبُ كَوْنَهُ قَادِرًا وَأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ ثُمَّ صَارَ
الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ بِدُونِ سَبَبٍ يُوجِبُ تَجَدُّدَ الْإِمْكَانِ .
وَإِذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا قَالُوا : كَانَ فِي الْأَزَلِ قَادِرًا عَلَى مَا
لَمْ يَزَلْ فَقِيلَ لَهُمْ : الْقَادِرُ لَا يَكُونُ قَادِرًا مَعَ كَوْنِ
الْمَقْدُورِ مُمْتَنِعًا بَلْ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مُمْتَنِعَةً
وَإِنَّمَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَإِذَا كَانَ
لَمْ يَزَلْ قَادِرًا فَلَمْ يَزَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ . وَلَمَّا كَانَ
أَصْلُ هَؤُلَاءِ هَذَا صَارُوا فِي كَلَامِ اللَّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
فِرْقَةٌ قَالَتْ : الْكَلَامُ لَا يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ بَلْ لَا يَكُونُ
كَلَامُهُ إلَّا مَخْلُوقًا ؛ لِأَنَّهُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ
وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ
وَقُدْرَتِهِ وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَإِذَا
كَانَ الْكَلَامُ
بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ كَانَ مَخْلُوقًا لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ . إذْ لَوْ قَامَ بِذَاتِهِ كَانَتْ قَدْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ وَالْحَوَادِثُ لَا تَقُومُ بِهِ لِأَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ . قَالُوا : إذْ بِهَذَا الْأَصْلِ أَثْبَتْنَا حُدُوثَ الْأَجْسَامِ وَبِهِ ثَبَتَ حُدُوثُ الْعَالَمِ . قَالُوا : وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَادِثُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ إمَّا مَعَهُ وَإِمَّا بَعْدَهُ . وَمَا كَانَ مَعَ الْحَادِثِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ حَادِثٌ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ نَوْعِ الْحَوَادِثِ وَبَيْنَ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْحَادِثَ الْمُعَيَّنَ وَالْحَوَادِثَ الْمَحْصُورَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَزَلِيَّةً دَائِمَةً وَمَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا فَهُوَ إمَّا مَعَهَا وَإِمَّا بَعْدَهَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَادِثٌ قَطْعًا . وَهَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ . وَلَكِنَّ مَوْضِعَ النَّظَرِ وَالنِّزَاعِ " نَوْعُ الْحَوَادِثِ " . وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّوْعُ دَائِمًا فَيَكُونُ الرَّبُّ لَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ ؟ فَلَمَّا تَفَطَّنَ لِهَذَا الْفَرْقِ طَائِفَةٌ قَالُوا : وَهَذَا أَيْضًا مُمْتَنِعٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَذَكَرُوا عَلَى ذَلِكَ حُجَجًا كَحُجَّةِ التَّطْبِيقِ وَحُجَّةِ امْتِنَاعِ انْقِضَاءِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرَ عَامَّةَ مَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ . وَأُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الرَّبِّ يَصِيرُ فَاعِلًا بَعْدَ
أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُ أَثَرِهِ عَنْهُ - ظَنُّوا أَنَّهُمْ إذَا أَبْطَلُوا هَذَا الْقَوْلَ فَقَدْ سَلِمَ لَهُمْ مَا ادَّعَوْهُ عَنْ " قِدَمِ الْعَالَمِ " كَالْأَفْلَاكِ وَجِنْسِ الْمُوَلَّدَاتِ وَمَوَادِّ الْعَنَاصِرِ وَضَلُّوا ضَلَالًا عَظِيمًا خَالَفُوا بِهِ صَرَائِحَ الْعُقُولِ وَكَذَّبُوا بِهِ كُلَّ رَسُولٍ . فَإِنَّ الرُّسُلَ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . لَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . وَالْعُقُولُ الصَّرِيحَةُ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ إلَّا الْعِلَّةُ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَعْلُولِهَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ . فَإِنَّ حُدُوثَ ذَلِكَ الْحَادِثِ عَنْ عِلَّةٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِمَعْلُولِهَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُولُهَا لَازِمًا لَهَا كَانَ قَدِيمًا مَعَهَا لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهَا فَلَا يَكُونُ لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ سَبَبٌ اقْتَضَى حُدُوثَهُ فَتَكُونُ الْحَوَادِثُ كُلُّهَا حَدَثَتْ بِلَا مُحْدِثٍ وَهَؤُلَاءِ فَرُّوا مِنْ أَنْ يُحْدِثَهَا الْقَادِرُ بِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَذَهَبُوا إلَى أَنَّهَا تَحْدُثُ بِغَيْرِ مُحْدِثٍ أَصْلًا لَا قَادِرٍ وَلَا غَيْرِ قَادِرٍ . فَكَانَ مَا فَرُّوا إلَيْهِ شَرًّا مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ وَكَانُوا شَرًّا مِنْ الْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ . وَاعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَصْنُوعَ الْمُبْتَدَعَ الْمُعَيَّنَ كَالْفَلَكِ يُقَارِنُ فَاعِلَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا لَا يَتَقَدَّمُ الْفَاعِلُ عَلَيْهِ تَقَدُّمًا زَمَانِيًّا وَأُولَئِكَ قَالُوا : بَلْ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يَتَرَاخَى عَنْهُ أَثَرُهُ ثُمَّ يَحْدُثُ الْأَثَرُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ اقْتَضَى حُدُوثَهُ فَأَقَامَ الْأَوَّلُونَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا كَمَا أَقَامَ هَؤُلَاءِ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ
عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْآخَرِينَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ أَهْلِ الْمُقَارَنَةِ أَشَدُّ فَسَادًا وَمُنَاقَضَةً لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ . وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ أَهْلِ التَّرَاخِي . وَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ وَيُقِرُّ بِهِ عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَمْ يَهْتَدِ لَهُ الْفَرِيقَانِ : وَهُوَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ أَثَرِهِ عَقِبَ تَأَثُّرِهِ التَّامِّ لَا يَقْتَرِنُ بِهِ وَلَا يَتَرَاخَى كَمَا إذَا طَلَّقْت الْمَرْأَةَ فَطَلَقَتْ . وَأَعْتَقْت الْعَبْدَ فَعَتَقَ . وَكَسَرْت الْإِنَاءَ فَانْكَسَرَ وَقَطَعْت الْحَبْلَ فَانْقَطَعَ فَوُقُوعُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ لَيْسَ مُقَارِنًا لِنَفْسِ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعَهُ وَلَا هُوَ أَيْضًا مُتَرَاخٍ عَنْهُ بَلْ يَكُونُ عَقِبَهُ مُتَّصِلًا بِهِ . وَقَدْ يُقَالُ هُوَ مَعَهُ وَمُفَارِقٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَكُونُ عَقِبَهُ مُتَّصِلًا بِهِ كَمَا يُقَالُ : هُوَ بَعْدَهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عَقِبَ التَّأْثِيرِ التَّامِّ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَكُونُ مَا يَشَاءُ تَكْوِينَهُ فَإِذَا كَوَّنَهُ كَانَ عَقِبَ تَكْوِينِهِ مُتَّصِلًا بِهِ لَا يَكُونُ مَعَ تَكْوِينِهِ فِي الزَّمَانِ وَلَا يَكُونُ مُتَرَاخِيًا عَنْ تَكْوِينِهِ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ فِي الزَّمَانِ ؛ بَلْ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِتَكْوِينِهِ كَاتِّصَالِ أَجْزَاءِ الْحَرَكَةِ وَالزَّمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ . وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ قِيلَ مَعَ ذَلِكَ بِدَوَامِ فَاعِلِيَّتِهِ ومتكلميته وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ وَمَنْ قَالَ إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ بَلْ وَلَا عِلْمٌ بَلْ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ . فَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ شَرْعًا وَعَقْلًا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ وَافَقَتْهُمْ عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ : هُوَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ كَلَامُهُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ كَمَا تَلْزَمُ ذَاتَه الْحَيَاةُ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ مَعَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ وَامْتِنَاعِ تَخْصِيصِهِ بِعَدَدِ دُونَ عَدَدٍ وَقَالُوا : ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا . وَقَالُوا : إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ . فَإِنَّ مَعْنَى " آيَةِ الْكُرْسِيِّ " وَ " آيَةِ الدَّيْنِ " وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } مَعْنًى وَاحِدٌ . فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ لَهُمْ : تَصَوُّرُ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِفَسَادِهِ وَقَالُوا لَهُمْ : مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ . إنْ قُلْتُمْ كُلَّهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ عِلْمَ اللَّهِ . وَإِنْ قُلْتُمْ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ . وَقَالُوا لَهُمْ : إذَا جَوَّزْتُمْ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ الْخَبَرِ هِيَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَحَقِيقَةُ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . وَالْأَمْرِ بِكُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ هُوَ حَقِيقَةُ الْخَبَرِ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ عَنْهُ فَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ هِيَ حَقِيقَةَ الْقُدْرَةِ وَحَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ هِيَ حَقِيقَةَ الْإِرَادَةِ . فَاعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِأَنَّ هَذَا لَازِمٌ لَهُمْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ وَلَزِمَهُمْ إمْكَانُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ الذَّاتِ هِيَ حَقِيقَةَ الصِّفَاتِ وَحَقِيقَةُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ هِيَ حَقِيقَةَ الْوُجُوبِ الْمُمْكِنِ وَالْتَزَمَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا :
الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَعَيْنُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ هُوَ عَيْنُ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدَثِ . وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَتْبَاعِهِمَا كَمَا بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مَعَ قِيَامِ الْكَلَامِ بِهِ مَنْ قَالَ : كَلَامُهُ الْمُعَيَّنُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ . وَزَعَمُوا أَنَّ كُلًّا مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ فَقَالَ لَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ : مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْبَاءَ قَبْلَ السِّينِ وَالسِّينَ قَبْلَ الْمِيمِ فَكَيْفَ يَكُونَانِ مَعًا أَزَلًا وَأَبَدًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّوْتَ الْمُعَيَّنَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ . فَقَالَتْ ( الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ - مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ - بَلْ نَقُولُ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ لَا شَرْعًا وَلَا عَقْلًا بَلْ هَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ وَعَلَيْهِ دَلَّتْ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَنَقُولُ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَأَنَّهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ لَكِنْ نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَزَلِ مُتَكَلِّمًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ
يَكُونَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَهُوَ أَصْلُ هَؤُلَاءِ . فَقِيلَ لَهُمْ : مَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ لَا صِفَةُ نَقْصٍ وَأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ صَارَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ . وَقَالُوا لَهُمْ : إذَا قُلْتُمْ تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ مُمْتَنِعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ أَوْجَبَ تَجَدُّدَ قُدْرَتِهِ وَتَجَدُّدَ إمْكَانِ الْكَلَامِ لَهُ قُلْتُمْ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْكَلَامِ وَلَمْ يَزَلْ الْكَلَامُ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَهُ ثُمَّ صَارَ قَادِرًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ وَهَذَا مُخَالَفَةٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَسَلْبٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْ الْبَارِي وَجَعْلُهُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ الَّذِي صَارَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ . وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَمَا شَاءَ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَسَلَفِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ
عَنْهُ
. وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا أَوْ قَادِرًا عَلَى
الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . وَقَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ
فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي قَالَهَا هَؤُلَاءِ
الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة
والكَرَّامِيَة والسالمية وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ
انْتَسَبُوا إلَى بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَخَالَفُوا بِهَا إجْمَاعَ
السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةَ وَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَخَالَفُوا
بِهَا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ هِيَ
الَّتِي سَلَّطَتْ أُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ
قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ .
فَصْلٌ :
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ اسْمَ الْعَقْلِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِ
الْعُقَلَاءِ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى عَرَضًا قَائِمًا
بِالْعَاقِلِ . وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى { لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ } . وَقَوْلِهِ : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ
لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } . وَقَوْلِهِ : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْعَقْلَ مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَقْلُ
لَا يُسَمَّى بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِهِ صَاحِبُهُ .
وَلَا الْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ ؛ بَلْ إنَّمَا يُسَمَّى بِهِ الْعِلْمُ
الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِالْعِلْمِ وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ النَّارِ : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } . وَالْعَقْلُ الْمَشْرُوطُ فِي التَّكْلِيفِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عُلُومًا يُمَيِّزُ بِهَا الْإِنْسَانُ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالْفُلُوسِ وَلَا بَيْنَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَلَا يَفْقَهُ مَا يُقَالُ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَيْسَ بِعَاقِلِ . أَمَّا مَنْ فَهِمَ الْكَلَامَ وَمَيَّزَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ فَهُوَ عَاقِلٌ . ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الْعَقْلُ هُوَ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْعَقْلُ هُوَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِ تِلْكَ الْعُلُومِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَ الْعَقْلِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَقَدْ يُرَادُ بِالْعَقْلِ نَفْسُ الْغَرِيزَةِ الَّتِي فِي الْإِنْسَانِ الَّتِي بِهَا يَعْلَمُ وَيُمَيِّزُ وَيَقْصِدُ الْمَنَافِعَ دُونَ الْمَضَارِّ كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالْحَارِثُ المحاسبي وَغَيْرُهُمَا : أَنَّ الْعَقْلَ غَرِيزَةٌ . وَهَذِهِ الْغَرِيزَةُ ثَابِتَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ كَمَا أَنَّ فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بِهَا يُبْصِرُ ؛ وَفِي اللِّسَانِ قُوَّةً بِهَا يَذُوقُ وَفِي الْجِلْدِ قُوَّةً بِهَا يَلْمِسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ الْقُوَى وَالطَّبَائِعَ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلْقُوَى وَالطَّبَائِعِ
يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ أَيْضًا وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا فَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُشْبِعُ بِالْخُبْزِ وَلَا يَرْوِي بِالْمَاءِ وَلَا يُنْبِتُ الزَّرْعَ بِالْمَاءِ بَلْ يَفْعَلُ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُنَزِّلُ الْمَاءَ بِالسَّحَابِ وَيُخْرِجُ الثَّمَرَ بِالْمَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَقَالَ : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } وَقَالَ : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } وَقَالَ : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } وَقَالَ : { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ سَبَبٌ لِبَعْضِ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الشِّبَعَ يَحْصُلُ بِالْأَكْلِ لَا بِالْعَدِّ وَيَحْصُلُ بِأَكْلِ الطَّعَامِ لَا بِأَكْلِ الْحَصَى وَأَنَّ الْمَاءَ سَبَبٌ لِحَيَاةِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ كَمَا قَالَ : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } وَأَنَّ الْحَيَوَانَ يُرْوَى بِشُرْبِ الْمَاءِ لَا بِالْمَشْيِ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَوْضِعٌ آخَرُ.
فَصْلٌ
:
وَالرُّوحُ الْمُدَبِّرَةُ لِلْبَدَنِ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ هِيَ
الرُّوحُ الْمَنْفُوخَةُ فِيهِ وَهِيَ النَّفْسُ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ
{ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامَ عَنْ
الصَّلَاةِ : إنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حَيْثُ شَاءَ وَرَدَّهَا حَيْثُ
شَاءَ } { وَقَالَ لَهُ بِلَالٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي
أَخَذَ بِنَفْسِك } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى
عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : يَقْبِضُهَا قبضين : قَبْضُ الْمَوْتِ
وَقَبْضُ النَّوْمِ ثُمَّ فِي النَّوْمِ يَقْبِضُ الَّتِي تَمُوتُ وَيُرْسِلُ
الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى حَتَّى يَأْتِيَ أَجَلُهَا وَقْتَ الْمَوْتِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا نَامَ : بِاسْمِك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي
وَبِك أَرْفَعُهُ إنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَارْحَمْهَا وَإِنْ
أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ } وَقَدْ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ الشُّهَدَاءَ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي
حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ
فِي الْجَنَّةِ ثُمَّ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ } وَثَبَتَ أَيْضًا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ : { أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قُبِضَتْ رُوحُهُ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اُخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْك . وَيُقَالُ اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ اُخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْك } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ تَعْلَقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ ثُمَّ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ } فَسَمَّاهَا نَسَمَةً . وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ : { أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِبَلَ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَقِبَلَ شِمَالِهِ أَسْوِدَةٌ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى وَأَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَسْوِدَةُ نَسَمُ بَنِيهِ : عَنْ يَمِينِهِ السُّعَدَاءُ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْقِيَاءُ } وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ : { وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ } فَقَدْ سَمَّى الْمَقْبُوضَ وَقْتَ الْمَوْتِ وَوَقْتَ النَّوْمِ رُوحًا وَنَفْسًا . وَسَمَّى الْمَعْرُوجَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ رُوحًا وَنَفْسًا . لَكِنْ يُسَمَّى نَفْسًا بِاعْتِبَارِ تَدْبِيرِهِ لِلْبَدَنِ وَيُسَمَّى رُوحًا بِاعْتِبَارِ لُطْفِهِ فَإِنَّ لَفْظَ " الرُّوحِ " يَقْتَضِي اللُّطْفَ وَلِهَذَا تُسَمَّى الرِّيحُ رُوحًا . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرِّيحُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ } أَيْ مِنْ الرُّوحِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فَإِضَافَةُ الرُّوحِ إلَى اللَّهِ إضَافَةُ مِلْكٍ لَا إضَافَةُ وَصْفٍ إذْ كَلُّ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ إنْ كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ صِفَةً قَائِمَةً بِغَيْرِهَا لَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ تَقُومُ بِهِ فَهُوَ صِفَةٌ لِلَّهِ.
فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } وَقَوْلِهِ : { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا } وَهُوَ جِبْرِيلُ : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } { قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا } { قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا } وَقَالَ : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } وَقَالَ عَنْ آدَمَ : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا : عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ وَحَيَاةُ اللَّهِ وَأَمْرُ اللَّهِ لَكِنْ قَدْ يُعَبَّرُ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ عَنْ الْمَفْعُولِ بِهِ فَيُسَمَّى الْمَعْلُومُ عِلْمًا وَالْمَقْدُورُ قُدْرَةً وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا وَالْمَخْلُوقُ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْلُوقًا . كَقَوْلِهِ : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ . أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ هَذِهِ إلَى تِلْكَ فَرَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ } وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْجَنَّةِ : { أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي } كَمَا قَالَ لِلنَّارِ : { أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِك مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا } .
فَصْلٌ
:
وَلَكِنَّ لَفْظَ " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ
عِدَّةِ مَعَانٍ : فَيُرَادُ بِالرُّوحِ الْهَوَاءُ الْخَارِجُ مِنْ الْبَدَنِ
وَالْهَوَاءُ الدَّاخِلُ فِيهِ وَيُرَادُ بِالرُّوحِ الْبُخَارُ الْخَارِجُ مِنْ
تَجْوِيفِ الْقَلْبِ مِنْ سويداه السَّارِي فِي الْعُرُوقِ وَهُوَ الَّذِي
تُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ الرُّوحَ وَيُسَمَّى الرُّوحُ الْحَيَوَانِيُّ .
فَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ غَيْرُ الرُّوحِ الَّتِي تُفَارِقُ بِالْمَوْتِ الَّتِي
هِيَ النَّفْسُ . وَيُرَادُ بِنَفْسِ الشَّيْءِ ذَاتُهُ وَعَيْنُهُ كَمَا يُقَالُ
رَأَيْت زَيْدًا نَفْسَهُ وَعَيْنَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { تَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } وَقَالَ : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ }
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قَالَ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ : لَقَدْ
قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَّ بِمَا قلتيه لَوَزَنَتْهُنَّ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَ
اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ } وَفِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حِينَ
يَذْكُرُنِي إنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي
فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ } . فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ
الْمُرَادُ فِيهَا بِلَفْظِ النَّفْسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : اللَّهُ
نَفْسُهُ
الَّتِي هِيَ ذَاتُهُ الْمُتَّصِفَةُ بِصِفَاتِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا ذَاتًا مُنْفَكَّةً عَنْ الصِّفَاتِ وَلَا الْمُرَادُ بِهَا صِفَةً لِلذَّاتِ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ يَجْعَلُونَهَا مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ أَنَّهَا الذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الصِّفَاتِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ . وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ النَّفْسِ الدَّمُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحَيَوَانِ كَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ " مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ " وَمِنْهُ يُقَالُ نَفِسَتْ الْمَرْأَةُ إذَا حَاضَتْ وَنَفِسَتْ (*) إذَا نَفَّسَهَا وَلَدُهَا وَمِنْهُ قِيلَ النُّفَسَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظباة نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظباة تَسِيلُ فَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ بِالنَّفْسِ لَيْسَا هُمَا مَعْنَى الرُّوحِ وَيُرَادُ بِالنَّفْسِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ صِفَاتُهَا الْمَذْمُومَةُ فَيُقَالُ : فُلَانٌ لَهُ نَفْسٌ وَيُقَالُ : اُتْرُكْ نَفْسَك وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي مَرْثَدٍ " رَأَيْت رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت أَيْ رَبِّ كَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْك فَقَالَ اُتْرُكْ نَفْسَك " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ ذَاتَه وَإِنَّمَا يَتْرُكُ هَوَاهَا وَأَفْعَالَهَا الْمَذْمُومَةَ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ يُقَالُ فُلَانٌ لَهُ لِسَانٌ فُلَانٌ لَهُ يَدٌ طَوِيلَةٌ فُلَانٌ لَهُ قَلْبٌ يُرَادُ بِذَلِكَ لِسَانٌ نَاطِقٌ وَيَدٌ عَامِلَةٌ صَانِعَةٌ وَقَلْبٌ حَيٌّ عَارِفٌ بِالْحَقِّ مُرِيدٌ لَهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . كَذَلِكَ النَّفْسُ لَمَّا كَانَتْ حَالَ تَعَلُّقِهَا بِالْبَدَنِ يَكْثُرُ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ هَوَاهَا صَارَ
لَفْظُ " النَّفْسِ " يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ النَّفْسِ الْمُتَّبِعَةِ لِهَوَاهَا أَوْ عَنْ اتِّبَاعِهَا الْهَوَى بِخِلَافِ لَفْظِ " الرُّوحِ " فَإِنَّهَا لَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ ذَلِكَ إذْ كَانَ لَفْظُ " الرُّوحِ " لَيْسَ هُوَ بِاعْتِبَارِ تَدْبِيرِهَا لِلْبَدَنِ . وَيُقَالُ النُّفُوسُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : وَهِيَ " النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ " الَّتِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ هَوَاهَا بِفِعْلِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي . وَ " النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ " وَهِيَ الَّتِي تُذْنِبُ وَتَتُوبُ فَعَنْهَا خَيْرٌ وَشَرٌّ لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ الشَّرَّ تَابَتْ وَأَنَابَتْ فَتُسَمَّى لَوَّامَةً لِأَنَّهَا تَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَى الذُّنُوبِ وَلِأَنَّهَا تَتَلَوَّمُ أَيْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ . وَ " النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ " وَهِيَ الَّتِي تُحِبُّ الْخَيْرَ وَالْحَسَنَاتِ وَتُرِيدُهُ وَتُبْغِضُ الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَكْرَهُ ذَلِكَ وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ لَهَا خُلُقًا وَعَادَةً وَمَلَكَةً . فَهَذِهِ صِفَاتٌ وَأَحْوَالٌ لِذَاتٍ وَاحِدَةٍ وَإِلَّا فَالنَّفْسُ الَّتِي لِكُلِّ إنْسَانٍ هِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ . وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْأَطِبَّاءِ : إنَّ النُّفُوسَ ثَلَاثَةٌ : نَبَاتِيَّةٌ مَحَلُّهَا الْكَبِدُ ؛ وَحَيَوَانِيَّةٌ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وناطقية مَحَلُّهَا الدِّمَاغُ . وَهَذَا إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهَا ثَلَاثُ قُوًى تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَعْيَانٍ قَائِمَةٍ بِأَنْفُسِهَا فَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : " هَلْ لَهَا كَيْفِيَّةٌ تُعْلَمُ ؟ "
فَهَذَا سُؤَالٌ مُجْمَلٌ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُعْلَمُ مِنْ
صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا هَلْ
لَهَا مِثْلٌ مِنْ جِنْسِ مَا يَشْهَدُهُ مِنْ الْأَجْسَامِ أَوْ هَلْ لَهَا مِنْ
جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا
لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْعَنَاصِرِ : الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالنَّارِ
وَالتُّرَابِ وَلَا مِنْ جِنْسِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ
وَالْمَعْدِنِ وَلَا مِنْ جِنْسِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ فَلَيْسَ لَهَا
نَظِيرٌ مَشْهُودٌ وَلَا جِنْسٌ مَعْهُودٌ : وَلِهَذَا يُقَالُ ؛ إنَّهُ لَا
يُعْلَمُ كَيْفِيَّتُهَا وَيُقَالُ إنَّهُ " مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ
رَبَّهُ " مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ وَمِنْ جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ وَمِنْ
جِهَةِ الِامْتِنَاعِ . فَأَمَّا " الِاعْتِبَارُ " فَإِنَّهُ يَعْلَمُ
الْإِنْسَانُ أَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ فَيَتَوَصَّلُ
بِذَلِكَ إلَى أَنْ يَفْهَمَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ
أَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَوَّرْ
لِهَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ نَفْسِهِ وَنَظَرِهِ إلَيْهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ
يَفْهَمَ مَا غَابَ عَنْهُ كَمَا أَنَّهُ لَوْلَا تَصَوُّرُهُ لِمَا فِي
الدُّنْيَا : مِنْ الْعَسَلِ وَاللَّبَنِ
وَالْمَاءِ وَالْخَمْرِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَصَوَّرَ مَا أُخْبِرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْغَيْبِ : لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْبُ مِثْلَ الشَّهَادَةِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ " . فَإِنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا أَنَّهَا فِي الْجَنَّةِ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِهَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الدُّنْيَا بِحَيْثُ يَجُوزُ عَلَى هَذِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى تِلْكَ وَيَجِبُ لَهَا مَا يَجِبُ لَهَا وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهَا مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا وَتَكُونُ مَادَّتُهَا مَادَّتَهَا وَتَسْتَحِيلُ اسْتِحَالَتَهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَاءَ الْجَنَّةِ لَا يَفْسُدُ وَيَأْسَنُ وَلَبَنَهَا لَا يَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ وَخَمْرَهَا لَا يَصَّدَّعُ شَارِبُهَا وَلَا يُنْزِفُ عَقْلُهُ فَإِنَّ مَاءَهَا لَيْسَ نَابِعًا مِنْ تُرَابٍ وَلَا نَازِلًا مِنْ سَحَابٍ مِثْلَ مَا فِي الدُّنْيَا وَلَبَنَهَا لَيْسَ مَخْلُوقًا مِنْ أَنْعَامٍ كَمَا فِي الدُّنْيَا ؛ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ فِي الِاسْمِ ؛ وَبَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَتَشَابُهٌ ؛ عُلِمَ بِهِ مَعْنَى مَا خُوطِبْنَا بِهِ مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ الْحَقِيقَةِ فَالْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ لِمَا فِي الدُّنْيَا . فَإِذَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ قَدِيرٌ ؛ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ إذْ كَانَ بُعْدُهَا عَنْ مُمَاثَلَةِ خَلْقِهِ أَعْظَمَ مِنْ بُعْدِ مُمَاثَلَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صِغَارِ الْحَيَوَانِ لَهَا حَيَاةٌ وَقُوَّةٌ وَعَمَلٌ وَلَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِلْمَلَائِكَةِ الْمَخْلُوقِينَ ؛ فَكَيْفَ يُمَاثِلُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَيْئًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ وَصَفَاتِهِ بِأَسْمَاءِ وَسَمَّى بِهَا بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ فَسَمَّى نَفْسَهُ حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا عَزِيزًا جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا
مَلِكًا
رَءُوفًا رَحِيمًا ؛ وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ عَلِيمًا وَبَعْضَهُمْ حَلِيمًا
وَبَعْضَهُمْ رَءُوفًا رَحِيمًا ؛ وَبَعْضَهُمْ سَمِيعًا بَصِيرًا ؛ وَبَعْضَهُمْ
مَلِكًا ؛ وَبَعْضَهُمْ عَزِيزًا ؛ وَبَعْضَهُمْ جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا . وَمَعْلُومٌ
أَنَّهُ لَيْسَ الْعَلِيمُ كَالْعَلِيمِ وَلَا الْحَلِيمُ كَالْحَلِيمِ وَلَا
السَّمِيعُ كَالسَّمِيعِ ؛ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ ؛ قَالَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } وَقَالَ : {
وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } وَقَالَ : { إنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }
وَقَالَ : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ
بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }
وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : {
أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا
ذُكِرَ ؛ لَكِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْتَبِرُ بِمَا عَرَفَهُ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ .
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَانْسَدَّتْ عَلَيْهِ طُرُقُ الْمَعَارِفِ لِلْأُمُورِ الْغَائِبَةِ
. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ " الْمُقَابَلَةِ " فَيُقَالُ : مَنْ عَرَفَ
نَفْسَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَمَنْ عَرَفَ
نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْغِنَى وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ
بِالْعَجْزِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْجَهْلِ
عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِلْمِ وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالذُّلِّ عَرَفَ رَبَّهُ
بِالْعِزِّ وَهَكَذَا أَمْثَالُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِنْ
نَفْسِهِ إلَّا الْعَدَمُ وَصِفَاتُ النَّقْصِ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى الْعَدَمِ
وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى فَلَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ
ذَاتِهِ يَمْتَنِعُ انْفِكَاكُهُ عَنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَزَلًا وَأَبَدًا
وَيَمْتَنِعُ عَدَمُهَا لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ أَزَلًا وَأَبَدًا
وَصِفَاتُ كَمَالِهِ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَيَمْتَنِعُ ارْتِفَاعُ اللَّازِمِ
إلَّا بِارْتِفَاعِ الْمَلْزُومِ فَلَا يُعَدُّ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ
إلَّا بِعَدَمِ ذَاتِهِ
وَذَاتُهُ
يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْعَدَمُ فَيَمْتَنِعُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ
الْعَدَمُ . وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ " الْعَجْزِ وَالِامْتِنَاعِ "
فَإِنَّهُ يُقَالُ : إذَا كَانَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ
الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ بَلْ هِيَ هُوِيَّتُهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهَا
وَلَا يُحِيطُ عِلْمًا بِحَقِيقَتِهَا فَالْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ أَوْلَى أَنْ
لَا يَعْلَمُ الْعَبْدُ كَيْفِيَّتَهُ وَلَا يُحِيطَ عِلْمًا بِحَقِيقَتِهِ
وَلِهَذَا قَالَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ بِرَبِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك
وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ
كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ :
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذَا فِي سُجُودِهِ . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ
وَغَيْرُهُ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ " وَإِنْ كَانَ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ فَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ : هَلْ هُوَ جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ ؟ فَلَفْظُ "
الْجَوْهَرِ " فِيهِ إجْمَالٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالسُّؤَالِ
الْجَوْهَرَ فِي اللُّغَةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ لَفْظَ "
الْجَوْهَرِ " لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَإِنَّهُ مُعَرَّبٌ وَإِنَّمَا
أَرَادَ السَّائِلُ الْجَوْهَرَ فِي الِاصْطِلَاحِ مِنْ تَقْسِيمِ الْمَوْجُودَاتِ
إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ .
وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ بِالْجَوْهَرِ الْمُتَحَيِّزَ فَيَكُونُ الْجِسْمُ الْمُتَحَيِّزُ عِنْدَهُمْ جَوْهَرًا وَقَدْ يُرِيدُونَ بِهِ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ . وَالْعُقَلَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي إثْبَاتِ هَذَا ؛ وَهُوَ أَنَّ الْأَجْسَامَ هَلْ هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ ؟ أَمْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ؟ أَمْ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ؛ أَصَحُّهَا " الثَّالِثُ " أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً لَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ كالهشامية والضرارية والنجارية والْكُلَّابِيَة وَكَثِيرٍ مِنْ الكَرَّامِيَة وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ بَلْ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ لَفْظَ " الْجَوْهَرِ " يُقَالُ عَلَى الْمُتَحَيِّزِ مُتَنَازِعُونَ : هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ جَوْهَرٍ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ ؟ ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : كُلُّ مَوْجُودٍ فَإِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ وَيَدْخُلُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ فِي مُسَمَّى الْجَوْهَرِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : كُلُّ مَوْجُودٍ فَإِمَّا جِسْمٌ أَوْ عَرَضٌ وَيَدْخُلُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ فِي مُسَمَّى الْجِسْمِ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا وَبِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالنَّصَارَى مَنْ يُسَمِّيهِ جَوْهَرًا وَلَا يُسَمِّيهِ جِسْمًا وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُسَمِّيهِ جِسْمًا وَلَا يُسَمِّيهِ جَوْهَرًا إلَّا أَنَّ الْجِسْمَ عِنْدَهُ
هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ أَوْ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ ؛ وَالْجَوْهَرُ عِنْدَهُ هُوَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ . وَلَفْظُ " الْعَرَضِ " فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعْنًى وَهُوَ مَا يَعْرِضُ وَيَزُولُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى } وَعِنْدَ أَهْلِ الِاصْطِلَاحِ الْكَلَامِيِّ قَدْ يُرَادُ بِالْعَرَضِ مَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ مُطْلَقًا وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَقُومُ بِالْجِسْمِ مِنْ الصِّفَاتِ وَيُرَادُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الِاصْطِلَاحِ أُمُورٌ أُخْرَى . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَعَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إثْبَاتُ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَحَيَاةً وَكَلَامًا وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هِيَ صِفَاتٌ وَلَيْسَتْ أَعْرَاضًا ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَهَذِهِ بَاقِيَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ تُسَمَّى أَعْرَاضًا لِأَنَّ الْعَرَضَ قَدْ يَبْقَى وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ عَرَضٍ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَإِذَا كَانَتْ الصِّفَاتُ الْبَاقِيَةُ تُسَمَّى أَعْرَاضًا جَازَ أَنْ تُسَمَّى هَذِهِ أَعْرَاضًا : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَنَا لَا أُطْلِقُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ مُسْتَنَدُهُ الشَّرْعُ . وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ هَلْ يُسَمَّى اللَّهُ بِمَا صَحَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِإِطْلَاقِهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ أَمْ لَا يُطْلَقُ إلَّا مَا أَطْلَقَ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَعَامَّةُ النُّظَّارِ يُطْلِقُونَ مَا لَا نَصَّ فِي إطْلَاقِهِ وَلَا إجْمَاعَ كَلَفْظِ الْقَدِيمِ وَالذَّاتِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُدْعَى بِهَا وَبَيْنَ مَا يُخْبَرُ بِهِ عَنْهُ لِلْحَاجَةِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كَمَا قَالَ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وَأَمَّا إذَا اُحْتِيجَ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ هُوَ بِقَدِيمِ وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا ذَاتٍ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقِيلَ فِي تَحْقِيقِ الْإِثْبَاتِ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدِيمٌ مَوْجُودٌ وَهُوَ ذَاتٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَقِيلَ لَيْسَ بِشَيْءِ فَقِيلَ بَلْ هُوَ شَيْءٌ فَهَذَا سَائِغٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُدْعَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ : يَا شَيْءُ إذْ كَانَ هَذَا لَفْظًا يَعُمُّ كُلَّ مَوْجُودٍ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " ذَاتٌ وَمَوْجُودٌ " وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ إلَّا إذَا سَمَّى بِالْمَوْجُودِ الَّذِي يَجِدُهُ مَنْ طَلَبَهُ كَقَوْلِهِ : { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ } فَهَذَا أَخَصُّ مِنْ الْمَوْجُودِ الَّذِي يَعُمُّ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَالنَّفْسُ - وَهِيَ الرُّوحُ الْمُدَبِّرَةُ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ - هِيَ مِنْ بَابِ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ الَّتِي تُسَمَّى جَوْهَرًا وَعَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِغَيْرِهَا . وَأَمَّا التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِلَفْظِ " الْجَوْهَرِ " " وَالْجِسْمِ " فَفِيهِ نِزَاعٌ بَعْضُهُ اصْطِلَاحِيٌّ وَبَعْضُهُ مَعْنَوِيٌّ . فَمَنْ عَنَى بِالْجَوْهَرِ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ فَهِيَ جَوْهَرٌ وَمَنْ عَنَى بِالْجِسْمِ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَقَالَ إنَّهُ يُشَارُ إلَيْهَا فَهِيَ عِنْدُهُ جِسْمٌ وَمَنْ عَنَى بِالْجِسْمِ الْمُرَكَّبَ
مِنْ
الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ أَوْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَبَعْضُ هَؤُلَاءِ
قَالَ إنَّهَا جِسْمٌ أَيْضًا . وَمَنْ عَنَى بِالْجَوْهَرِ الْمُتَحَيِّزَ
الْقَابِلَ لِلْقِسْمَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا جَوْهَرٌ وَالصَّوَابُ
أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا مِنْ
الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ الْمُتَحَيِّزَاتِ
الْمَشْهُودَةِ الْمَعْهُودَةِ وَأَمَّا الْإِشَارَةُ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يُشَارُ
إلَيْهَا وَتَصْعَدُ وَتَنْزِلُ وَتَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ وَتُسَلُّ مِنْهُ كَمَا
جَاءَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّوَاهِدُ الْعَقْلِيَّةُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ أَيْنَ مَسْكَنُهَا مِنْ الْجَسَدِ ؟ فَلَا اخْتِصَاصَ
لِلرُّوحِ بِشَيْءِ مِنْ الْجَسَدِ بَلْ هِيَ سَارِيَةٌ فِي الْجَسَدِ كَمَا
تَسْرِي الْحَيَاةُ الَّتِي هِيَ عَرَضٌ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ فَإِنَّ الْحَيَاةَ
مَشْرُوطَةٌ بِالرُّوحِ فَإِذَا كَانَتْ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ كَانَ فِيهِ
حَيَاةٌ وَإِذَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَيْنَ مَسْكَنُ الْعَقْلِ فِيهِ ؟ فَالْعَقْلُ قَائِمٌ
بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَعْقِلُ وَأَمَّا مِنْ الْبَدَنِ فَهُوَ
مُتَعَلِّقٌ بِقَلْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ
: بِمَاذَا نِلْت الْعِلْمَ : قَالَ : " بِلِسَانِ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ
" لَكِنَّ لَفْظَ " الْقَلْبِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُضْغَةُ
الصَّنَوْبَرِيَّةُ الشَّكْلِ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ الْبَدَنِ
الَّتِي جَوْفُهَا عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ
صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ
} . وَقَدْ يُرَادُ بِالْقَلْبِ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا فَإِنَّ قَلْبَ
الشَّيْءِ بَاطِنُهُ كَقَلْبِ الْحِنْطَةِ وَاللَّوْزَةِ وَالْجَوْزَةِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَلِيبُ قَلِيبًا لِأَنَّهُ أَخْرَجَ قَلْبَهُ وَهُوَ
بَاطِنُهُ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا أُرِيدَ بِالْقَلْبِ هَذَا فَالْعَقْلُ
مُتَعَلِّقٌ بِدِمَاغِهِ أَيْضًا وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّمَاغِ
. كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ
أَحْمَد وَيَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : إنَّ أَصْلَ الْعَقْلِ فِي
الْقَلْبِ فَإِذَا كَمُلَ انْتَهَى إلَى الدِّمَاغِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ
الرُّوحَ الَّتِي هِيَ النَّفْسُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا وَهَذَا وَمَا يَتَّصِفُ
مِنْ الْعَقْلِ بِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَهَذَا لَكِنَّ مَبْدَأَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّمَاغِ وَمَبْدَأَ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ . وَالْعَقْلُ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ فَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الِاخْتِيَارِيُّ أَصْلُهُ الْإِرَادَةُ وَأَصْلُ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ وَالْمُرِيدُ لَا يَكُونُ مُرِيدًا إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمُرَادِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُتَصَوِّرًا فَيَكُونُ مِنْهُ هَذَا وَهَذَا وَيَبْتَدِئُ ذَلِكَ مِنْ الدِّمَاغِ وَآثَارُهُ صَاعِدَةٌ إلَى الدِّمَاغِ فَمِنْهُ الْمُبْتَدَأُ وَإِلَيْهِ الِانْتِهَاءُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ . وَهَذَا مِقْدَارُ مَا وَسِعَتْهُ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُئِلَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
أَيُّمَا أَفْضَلُ : الْعِلْمُ ، أَوْ العقل ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَهُوَ الْكِتَابُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ عَقْلِ الْإِنْسَانِ ؛
لِأَنَّ هَذَا صِفَةُ الْخَالِقِ : وَالْعَقْلُ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ وَصِفَةُ
الْخَالِقِ أَفْضَلُ مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَقْلِ أَنْ
يَعْقِلَ الْعَبْدُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ فَيَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَيَتْرُكَ مَا
نُهِيَ عَنْهُ فَهَذَا الْعَقْلُ يَدْخُلُ صَاحِبُهُ بِهِ الْجَنَّةَ . وَهُوَ
أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ صَاحِبُهُ بِهِ الْجَنَّةَ . كَمَنْ
يَعْلَمُ وَلَا يَعْمَلُ . وَإِنْ أُرِيدَ الْعَقْلُ الْغَرِيزَةُ الَّتِي
جَعَلَهَا اللَّهُ فِي الْعَبْدِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ
فَاَلَّذِي يَحْصُلُ بِهِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ
وَغَرِيزَةُ الْعَقْلِ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ . وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِنْ
وَسَائِلِهَا . وَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَقْلِ الْعُلُومُ الَّتِي تَحْصُلُ
بِالْغَرِيزَةِ فَهَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ فَلَا يُقَالُ : أَيُّمَا
أَفْضَلُ الْعِلْمُ أَوْ الْعَقْلُ وَلَكِنْ يُقَالُ أَيُّمَا أَفْضَلُ هَذَا الْعِلْمُ أَوْ هَذَا الْعِلْمُ فَالْعُلُومُ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فَالْعِلْمُ بِاَللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ بِخَلْقِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَفْضَلَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهَا صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَانَتْ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ " ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ " : ثُلُثٌ تَوْحِيدٌ وَثُلُثٌ قَصَصٌ وَثُلُثٌ أَمْرٌ وَنَهْيٌ . وَثُلُثُ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ . وَالْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ يَحْتَمِلُ مَعَانٍ كَثِيرَةً فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْجَوَابِ بِلَا تَفْصِيلٍ وَلِهَذَا كَثُرَ النِّزَاعُ فِيهَا لِمَنْ لَمْ يَفْصِلْ وَمَنْ فَصَلَ الْجَوَابَ فَقَدْ أَصَابَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ
الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - قَدَّسَ
اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - :
فَصْلٌ :
ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْقَلْبَ لِلْإِنْسَانِ
يَعْلَمُ بِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا خَلَقَ لَهُ الْعَيْنَ يَرَى بِهَا الْأَشْيَاءَ
وَالْأُذُنَ يَسْمَعُ بِهَا الْأَشْيَاءَ كَمَا خَلَقَ لَهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ
عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لِأَمْرِ مِنْ الْأُمُورِ وَعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ .
فَالْيَدُ لِلْبَطْشِ وَالرِّجْلُ لِلسَّعْيِ وَاللِّسَانُ لِلنُّطْقِ وَالْفَمُ
لِلذَّوْقِ وَالْأَنْفُ لِلشَّمِّ وَالْجِلْدُ لِلَّمْسِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ
الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ . فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَانُ
الْعُضْوَ فِيمَا خُلِقَ لَهُ وَأُعِدَّ لِأَجْلِهِ فَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ
الْقَائِمُ وَالْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَكَانَ
ذَلِكَ خَيْرًا وَصَلَاحًا لِذَلِكَ الْعُضْوِ وَ لِرَبِّهِ وَ لِلشَّيْءِ الَّذِي
اُسْتُعْمِلَ فِيهِ وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الصَّالِحُ
هُوَ الَّذِي اسْتَقَامَ حَالُهُ و { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَإِذَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ الْعُضْوُ فِي حَقِّهِ بَلْ تُرِكَ بَطَّالًا فَذَلِكَ خُسْرَانٌ وَصَاحِبُهُ مَغْبُونٌ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي خِلَافِ مَا خُلِقَ لَهُ فَهُوَ الضَّلَالُ وَالْهَلَاكُ وَصَاحِبُهُ مِنْ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا . ثُمَّ إنَّ سَيِّدَ الْأَعْضَاءِ وَرَأْسَهَا هُوَ الْقَلْبُ : كَمَا سُمِّيَ قَلْبًا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إلَى صَدْرِهِ وَقَالَ أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا } . وَإِذْ قَدْ خُلِقَ الْقَلْبُ لِأَنْ يُعْلَمَ بِهِ فَتَوَجُّهُهُ نَحْوَ الْأَشْيَاءِ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ بِهَا هُوَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ كَمَا أَنَّ إقْبَالَ الْأُذُنِ عَلَى الْكَلَامِ ابْتِغَاءَ سَمْعِهِ هُوَ الْإِصْغَاءُ وَالِاسْتِمَاعُ وَانْصِرَافَ الطَّرْفِ إلَى الْأَشْيَاءِ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهَا هُوَ النَّظَرُ . فَالْفِكْرُ لِلْقَلْبِ كَالْإِصْغَاءِ لِلْأُذُنِ وَمِثْلُهُ نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ فِيمَا سَبَقَ وَإِذَا عَلِمَ مَا نَظَرَ فِيهِ فَذَاكَ مَطْلُوبُهُ كَمَا أَنَّ الْأُذُنَ كَذَلِكَ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ أَوْ الْعَيْنُ إذَا أَبْصَرَتْ مَا نَظَرَتْ إلَيْهِ . وَكَمْ مِنْ نَاظِرٍ مُفَكِّرٍ لَمْ يُحَصِّلْ الْعِلْمَ وَلَمْ يَنَلْهُ كَمَا أَنَّهُ كَمْ مِنْ نَاظِرٍ إلَى الْهِلَالِ لَا يُبْصِرُهُ وَمُسْتَمِعٍ إلَى صَوْتٍ لَا يَسْمَعُهُ .
وَعَكْسُهُ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا بِشَيْءِ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ وَلَمْ تَسْبِقْ مِنْهُ إلَيْهِ سَابِقَةُ تَفْكِيرٍ فِيهِ كَمَنْ فَاجَأَتْهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ أَوْ سَمِعَ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصْغِيَ إلَيْهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا لِأَنَّ الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ يَقْبَلُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ وَاسْتِعْدَادٍ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا مِنْ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا وَقَدْ يَأْتِي فَضْلًا مِنْ اللَّهِ فَيَكُونُ مَوْهُوبًا . فَصَلَاحُ الْقَلْبِ وَحَقُّهُ وَاَلَّذِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهِ هُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَشْيَاءَ لَا أَقُولُ أَنْ يَعْلَمَهَا فَقَطْ فَقَدْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَنْ لَا يَكُونُ عَاقِلًا لَهُ بَلْ غَافِلًا عَنْهُ مُلْغِيًا لَهُ وَاَلَّذِي يَعْقِلُ الشَّيْءَ هُوَ الَّذِي يُقَيِّدُهُ وَيَضْبُطُهُ وَيَعِيهِ وَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ فَيَكُونُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ غَنِيًّا فَيُطَابِقَ عَمَلُهُ قَوْلَهُ وَبَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَةَ . { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } . وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا وَلَا يُؤْتَى حُكْمًا وَإِنَّ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ مِمَّنْ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا . وَهَذَا مَعَ أَنَّ النَّاسَ مُتَبَايِنُونَ فِي نَفْسِ عَقْلِهِمْ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَيْنِ كَامِلٍ وَنَاقِصٍ وَفِيمَا يَعْقِلُونَهُ مِنْ بَيْنِ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَجَلِيلٍ وَدَقِيقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُمَّهَاتُ مَا يُنَالُ بِهِ الْعِلْمُ وَيُدْرَكُ أَعْنِي الْعِلْمَ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ عَنْ سَائِر الْحَيَوَانَاتِ دُونَ مَا يُشَارِكُهَا فِيهِ مِنْ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ
وَاللَّمْسِ وَهُنَا يُدْرِكُ بِهِ مَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ وَمَا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ مَنْ يُحْسِنُ إلَيْهِ وَمَنْ يُسِيءُ إلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وَقَالَ : { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } وَقَالَ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } وَقَالَ : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } وَقَالَ : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } . وَقَالَ فِيمَا لِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْقُوَّةِ : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا } . ثُمَّ إنَّ الْعَيْنَ تَقْصُرُ عَنْ الْقَلْبِ وَالْأُذُنِ وَتُفَارِقُهُمَا فِي شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا يَرَى صَاحِبُهَا بِهَا الْأَشْيَاءَ الْحَاضِرَةَ وَالْأُمُورَ الْجُسْمَانِيَّةَ مِثْلَ الصُّوَرِ وَالْأَشْخَاصِ فَأَمَّا الْقَلْبُ وَالْأُذُنُ فَيَعْلَمُ الْإِنْسَانُ بِهِمَا مَا غَابَ عَنْهُ وَمَا لَا مَجَالَ لِلْبَصَرِ فِيهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الروحانية وَالْمَعْلُومَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَفْتَرِقَانِ : فَالْقَلْبُ يَعْقِلُ الْأَشْيَاءَ بِنَفْسِهِ إذْ كَانَ الْعِلْمُ هُوَ غِذَاءَهُ وَخَاصِّيَّتَهُ أَمَّا الْأُذُنُ فَإِنَّهَا تَحْمِلُ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْعِلْمِ إلَى الْقَلْبِ فَهِيَ بِنَفْسِهَا إنَّمَا تَحْمِلُ الْقَوْلَ وَالْكَلَامَ فَإِذَا وَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْقَلْبِ أَخَذَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ فَصَاحِبُ الْعِلْمِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ هُوَ الْقَلْبُ وَإِنَّمَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ حَجَبَةٌ لَهُ تُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَمْ
يَكُنْ لِيَأْخُذَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى إنَّ مَنْ فَقَدَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ يَفْقِدُ بِفَقْدِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا كَانَ هُوَ الْوَاسِطَةَ فِيهِ . فَالْأَصَمُّ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْعِلْمِ وَالضَّرِيرُ لَا يَدْرِي مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَشْخَاصُ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ نَظَرَ إلَى الْأَشْيَاءِ بِغَيْرِ قَلْبٍ أَوْ اسْتَمَعَ إلَى كَلِمَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ قَلْبٍ فَإِنَّهُ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا ؛ فَمَدَارُ الْأَمْرِ عَلَى الْقَلْبِ وَعِنْدَ هَذَا تَسْتَبِينُ الْحِكْمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } حَتَّى لَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْعَيْنَ كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّوَابِقِ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ هُنَا فِي أُمُورٍ غَائِبَةٍ وَحِكْمَةٍ مَعْقُولَةٍ مِنْ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ لَا مَجَالَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ فِيهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ } وَتَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . فَإِنَّ مَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ وَيَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ إمَّا رَجُلٌ رَأَى الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَهُ فَاتَّبَعَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَنْ يَدْعُوهُ إلَيْهِ فَذَلِكَ صَاحِبُ الْقَلْبِ ؛ أَوْ رَجُلٌ لَمْ يَعْقِلْهُ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَيُبَيِّنُهُ لَهُ وَيَعِظُهُ وَيُؤَدِّبُهُ فَهَذَا أَصْغَى فَ : { أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . أَيْ حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَائِبِهِ . كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : أوتى الْعِلْمَ وَكَانَ لَهُ ذِكْرَى . وَيَتَبَيَّنُ قَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا
يَعْقِلُونَ
} { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ
كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } وَقَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ
وَقْرًا } . ثُمَّ إذَا كَانَ حَقُّ الْقَلْبِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ
فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } إذْ كَانَ كُلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ
لَمْحَةَ نَاظِرٍ أَوْ يَجُولُ فِي لَفْتَةِ خَاطِرٍ فَاَللَّهُ رَبُّهُ
وَمُنْشِئُهُ وَفَاطِرُهُ وَمُبْدِئُهُ لَا يُحِيطُ عِلْمًا إلَّا بِمَا هُوَ مِنْ
آيَاتِهِ الْبَيِّنَةِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ . وَأَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا
الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ :
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ .
أَيْ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إذَا نَظَرْت إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ
إلَّا وَجَدْته إلَى الْعَدَمِ وَمَا هُوَ فَقِيرٌ إلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ
فَإِذَا نَظَرْت إلَيْهِ وَقَدْ تَوَلَّتْهُ يَدُ الْعِنَايَةِ بِتَقْدِيرِ مَنْ
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى رَأَيْته حِينَئِذٍ مَوْجُودًا
مَكْسُوًّا حَلَّلَ الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ فَقَدْ اسْتَبَانَ أَنَّ الْقَلْبَ
إنَّمَا خُلِقَ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ - أَظُنُّهُ سُلَيْمَانَ
الْخَوَّاصَ رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ : الذِّكْرُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ
الْغِذَاءِ لِلْجَسَدِ فَكَمَا لَا يَجِدُ الْجَسَدُ لَذَّةَ الطَّعَامِ مَعَ
السَّقَمِ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الذِّكْرِ مَعَ حُبِّ
الدُّنْيَا . أَوْ كَمَا قَالَ . فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِاَللَّهِ
عَاقِلًا لِلْحَقِّ مُتَفَكِّرًا فِي الْعِلْمِ فَقَدْ
وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ إذَا صُرِفَتْ إلَى النَّظَرِ فِي الْأَشْيَاءِ فَقَدْ وُضِعَتْ فِي مَوْضِعِهَا أَمَّا إذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى الْعِلْمِ وَلَمْ يُوعَ فِيهِ الْحَقُّ فَقَدْ نَسِيَ رَبَّهُ فَلَمْ يُوضَعْ فِي مَوْضِعٍ بَلْ هُوَ ضَائِعٌ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ قَدْ وُضِعَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَلْ لَمْ يُوضَعْ أَصْلًا . فَإِنَّ مَوْضِعَهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا سِوَى الْحَقِّ بَاطِلٌ فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِي الْحَقِّ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْبَاطِلُ وَالْبَاطِلُ لَيْسَ بِشَيْءِ أَصْلًا وَمَا لَيْسَ بِشَيْءِ أَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ مَوْضِعًا . وَالْقَلْبُ هُوَ نَفْسُهُ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْحَقَّ . فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ مَا خُلِقَ لَهُ . { سُنَّةَ اللَّهِ } { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَتْرُوكِ مُخِلٍّ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ فِي أَوْدِيَةِ الْأَفْكَارِ وَأَقْطَارِ الْأَمَانِي لَا يَكُونُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ مِنْ الْفَرَاغِ وَالتَّخَلِّي فَقَدْ وُضِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَا مُطْلَقٍ وَلَا مُعَلَّقٍ مَوْضُوعٍ لَا مَوْضِعَ لَهُ . وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ فَسُبْحَانَ رَبِّنَا الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَإِنَّمَا تَنْكَشِفُ لِلْإِنْسَانِ هَذِهِ الْحَالُ عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَى الْحَقِّ إمَّا فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْإِنَابَةِ أَوْ عِنْدَ الْمُنْقَلَبِ إلَى الْآخِرَةِ فَيَرَى سُوءَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَكَيْفَ كَانَ قَلْبُهُ ضَالًّا عَنْ الْحَقِّ . هَذَا إذَا صُرِفَ فِي الْبَاطِلِ . فَأَمَّا لَوْ تُرِكَ وَحَالُهُ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا فَارِغًا عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ خَالِيًا عَنْ كُلِّ فِكْرٍ فَقَدْ كَانَ يَقْبَلُ الْعِلْمَ الَّذِي لَا جَهْلَ فِيهِ وَيَرَى الْحَقَّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ فَيُؤْمِنُ بِرَبِّهِ وَيُنِيبُ إلَيْهِ . فَإِنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ لَا يُحَسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعٍ
{
فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } وَإِنَّمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْحَقِّ فِي غَالِبِ الْحَالِ شُغْلُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ فِتَنِ الدُّنْيَا
وَمَطَالِبِ الْجَسَدِ وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ
كَالْعَيْنِ النَّاظِرَةِ إلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَرَى مَعَ
ذَلِكَ الْهِلَالَ أَوْ هُوَ يَمِيلُ إلَيْهِ فَيَصُدُّهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْحَقِّ
فَيَكُونُ كَالْعَيْنِ الَّتِي فِيهَا قَذًى لَا يُمْكِنُهَا رُؤْيَةَ
الْأَشْيَاءِ . ثُمَّ الْهَوَى قَدْ يَعْتَرِضُ لَهُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ
فَيَصُدُّهُ عَنْ النَّظَرِ فِيهِ فَلَا يَتَبَيَّنُ لَهُ الْحَقُّ كَمَا قِيلَ :
حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيَصُمُّ . فَيَبْقَى فِي ظُلْمَةِ الْأَفْكَارِ
وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ كِبْرٍ يَمْنَعُهُ عَنْ أَنْ يَطْلُبَ
الْحَقَّ { فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ
وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْهَوَى بَعْدَ أَنْ عَرَفَ
الْحَقَّ فَيَجْحَدَهُ وَيُعْرِضَ عَنْهُ كَمَا قَالَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ
فِيهِمْ : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ
يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } .
ثُمَّ الْقَلْبُ لِلْعِلْمِ كَالْإِنَاءِ لِلْمَاءِ وَالْوِعَاءِ لِلْعَسَلِ
وَالْوَادِي لِلسَّيْلِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } الْآيَةُ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ
الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا : فَكَانَتْ مِنْهَا
طَائِفَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ
وَكَانَتْ
مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَسَقَى النَّاسُ وَزَرَعُوا . وَأَصَابَ
مِنْهَا طَائِفَةً إنَّمَا قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً
فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا أُرْسِلْت بِهِ
وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ
الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ } وَفِي حَدِيثِ كميل بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا .
وَبَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ : الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي
أَرْضِهِ فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا . وَهَذَا
مَثَلٌ حَسَنٌ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا لَيِّنًا كَانَ قَبُولُهُ
لِلْعِلْمِ سَهْلًا يَسِيرًا وَرَسَخَ الْعِلْمُ فِيهِ وَثَبَتَ وَأَثَّرَ وَإِنْ
كَانَ قَاسِيًا غَلِيظًا كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ صَعْبًا عَسِيرًا . وَلَا
بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ زَكِيًّا صَافِيًا سَلِيمًا حَتَّى يَزْكُوَ فِيهِ
الْعِلْمُ وَيُثْمِرَ ثَمَرًا طَيِّبًا وَإِلَّا فَلَوْ قَبِلَ الْعِلْمَ وَكَانَ
فِيهِ كَدَرٌ وَخَبَثٌ أَفْسَدَ ذَلِكَ الْعِلْمَ وَكَانَ كَالدَّغَلِ فِي
الزَّرْعِ إنْ لَمْ يَمْنَعْ الْحَبَّ مِنْ أَنْ يَنْبُتَ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ
يَزْكُوَ وَيَطِيبَ وَهَذَا بَيِّنٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ .
وَ تَلْخِيصُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْحَقِّ فَلَهُ
وَجْهَانِ :وَجْهٌ مُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ :
وِعَاءٌ وَإِنَاءٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ مَا يُوعَى فِيهِ وَيُوضَعُ
فِيهِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ وُجُودٍ وَثُبُوتٍ .
وَوَجْهٌ مُعْرِضٌ عَنْ الْبَاطِلِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ : زَكِيٌّ
وَسَلِيمٌ
وَطَاهِرٌ
؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرِّ وَانْتِفَاءِ
الْخَبَثِ وَالدَّغَلِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ عَدَمٍ وَنَفْيٍ . وَبِهَذَا
يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ إذَا صُرِفَ إلَى الْبَاطِلِ فَلَهُ وَجْهَانِ كَذَلِكَ .
وَجْهُ الْوُجُودِ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى الْبَاطِلِ مَشْغُولٌ بِهِ .
وَوَجْهُ الْعَدَمِ أَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْ الْحَقِّ غَيْرُ قَابِلٍ لَهُ وَهَذَا
يُبَيِّنُ مِنْ الْبَيَانِ وَالْحُسْنِ وَالصِّدْقِ مَا فِي قَوْلِهِ :
إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ * * * بِغَيْرِ إنَاءٍ فَهُوَ
قَلْبٌ مُضَيِّعُ
فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَ مَنْ ضَيَّعَ قَلْبَهُ فَظَلَمَ
نَفْسَهُ بِأَنْ اشْتَغَلَ بِالْبَاطِلِ وَمَلَأَ بِهِ قَلْبَهُ حَتَّى لَمْ
يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِلْحَقِّ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْوُلُوجِ فِيهِ
ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَوَصَفَ حَالَ هَذَا الْقَلْبِ بِوَجْهَيْهِ وَنَعَتَهُ
بِمَذْهَبَيْهِ فَذَكَرَ أَوَّلًا وَصْفَ الْوُجُودِ مِنْهُ فَقَالَ : إذَا مَا
وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . يَقُولُ إذَا شَغَلْته بِمَا لَمْ
يُخْلَقْ لَهُ فَصَرَفْته إلَى الْبَاطِلِ حَتَّى صَارَ مَوْضُوعًا فِيهِ . ثُمَّ
الْبَاطِلُ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ :
إحْدَاهُمَا
: تَشْغَلُ عَنْ الْحَقِّ وَلَا تُعَانِدُهُ مِثْلَ الْأَفْكَارِ وَالْهُمُومِ
الَّتِي فِي عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ .
وَالثَّانِيَةُ : تُعَانِدُ الْحَقَّ وَتَصُدُّ عَنْهُ مِثْلَ الْآرَاءِ
الْبَاطِلَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ
وَالْبِدَعِ وَشِبْهِ ذَلِكَ بَلْ الْقَلْبُ لَمْ يُخْلَقْ إلَّا لِذِكْرِ اللَّهِ
فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَيْسَ مَوْضِعًا لَهُ . ثُمَّ ذَكَرَ " ثَانِيًا
" وَصْفَ الْعَدَمِ فِيهِ فَقَالَ بِغَيْرِ إنَاءٍ ثُمَّ يَقُولُ : إذَا
وَضَعْته بِغَيْرِ إنَاءٍ ضَيَّعْته وَلَا إنَاءَ مَعَك كَمَا تَقُولُ حَضَرْت
الْمَجْلِسَ بِلَا مَحْبَرَةٍ فَالْكَلِمَةُ حَالٌ مِنْ الْوَاضِعِ . لَا مِنْ
الْمَوْضُوعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ - وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ - أَنَّهُ يَقُولُ إذَا مَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَدْ
شُغِلَ بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْحَقُّ
وَيَنْزِلُ إلَيْهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْقَلْبِ فَقَلْبُك
إذًا مُضَيَّعٌ ضَيَّعْته مِنْ وَجْهَيْ التَّضْيِيعِ وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ
مِنْ جِهَةِ أَنَّك وَضَعْته فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا
إنَاءَ مَعَك يَكُونُ وِعَاءً لِلْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْطَاهُ ؛ كَمَا
لَوْ قِيلَ لِمَلِكِ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ : إذَا اشْتَغَلَ بِغَيْرِ
الْمَمْلَكَةِ وَلَيْسَ فِي الْمَمْلَكَةِ مَنْ يُدَبِّرُهَا فَهُوَ مَلِكٌ
ضَائِعٌ لَكِنَّ الْإِنَاءَ هُنَا هُوَ الْقَلْبُ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِيمَا يَجِبُ
أَنْ يُوضَعَ فِيهِ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .
وَإِنَّمَا خَرَجَ الْكَلَامُ فِي صُورَةِ اثْنَيْنِ بِذِكْرِ نَعْتَيْنِ لِشَيْءِ وَاحِدٍ . كَمَا جَاءَ نَحْوُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } قَالَ قتادة وَالرَّبِيعُ : هُوَ الْقُرْآنُ : فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ كَبِيرَانِ فَهُوَ مَعَ وَصْفٍ وَاحِدٍ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَمَعَ الْوَصْفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاثْنَيْنِ حَتَّى لَوْ كَثُرَتْ صِفَاتُهُ لَتَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ أَشْخَاصٍ . أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يُحْسِنُ الْحِسَابَ وَالطِّبَّ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ حَاسِبٍ وَطَبِيبٍ وَالرَّجُلُ الَّذِي يُحْسِنُ النِّجَارَةَ وَالْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ نَجَّارٍ وَبَنَّاءٍ . وَالْقَلْبُ لَمَّا كَانَ يَقْبَلُ الذِّكْرَ وَالْعِلْمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَيْتِ الْإِنَاءَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَسْمَاءِ الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ رَقِيقًا وَصَافِيًا وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُسْتَطْعِمُ الْمُسْتَعْطِي فِي مَنْزِلَةِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ . وَلَمَّا كَانَ يَنْصَرِفُ عَنْ الْبَاطِلِ فَهُوَ زَكِيٌّ وَسَلِيمٌ فَكَأَنَّهُ اثْنَانِ . وَلِيَتَبَيَّنَ فِي الصُّورَةِ أَنَّ الْإِنَاءَ غَيْرُ الْقَلْبِ فَهُوَ يَقُولُ : إذَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَهُوَ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْمَطْلُوبُ فَمِثْلُك مِثْلُ رَجُلٍ بَلَغَهُ أَنَّ غَنِيًّا يُفَرِّقُ عَلَى النَّاسِ طَعَامًا وَكَانَ لَهُ زُبْدِيَّةٌ
أَوْ
سُكْرُجَةٌ فَتَرَكَهَا ثُمَّ أَقْبَلَ يَطْلُبُ طَعَامًا فَقِيلَ لَهُ : هَاتِ
إنَاءً نُعْطِيَك طَعَامًا فَأَمَّا إذَا أَتَيْت وَقَدْ وَضَعْت زُبْدِيَّتَك -
مَثَلًا - فِي الْبَيْتِ وَلَيْسَ مَعَك إنَاءٌ نُعْطِيك فَلَا تَأْخُذْ شَيْئًا
فَرَجَعْت بِخُفَّيْ حنين . وَإِذَا تَأَمَّلَ مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ بِأَسَالِيبِ
الْبَيَانِ وَتَصَارِيفِ اللِّسَانِ وَجَدَ مَوْقِعَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ
الْعَرَبِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ كِلَيْهِمَا مَوْقِعًا حَسَنًا بَلِيغًا فَإِنَّ
نَقِيضَ هَذِهِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُقْبِلًا عَلَى
الْحَقِّ وَالْعِلْمِ وَالذِّكْرِ مُعْرِضًا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ وَتِلْكَ هِيَ
الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ الْحَنَفَ هُوَ
إقْبَالُ الْقَدَمِ وَمَيْلُهَا إلَى أُخْتِهَا فَالْحَنَفُ الْمَيْلُ عَنْ
الشَّيْءِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى آخَرَ ؛ فَالدِّينُ الْحَنِيفُ هُوَ الْإِقْبَالُ
عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ . وَهُوَ الْإِخْلَاصُ
الَّذِي تَرْجَمَتْهُ كَلِمَةُ الْحَقِّ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ : " لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ " اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَهَذَا آخِرُ مَا
حَضَرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
.
__________
(*) آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْتَاسِعِ
الْجُزْءُ
الْعَاشِرُ
كِتَابُ عِلْمِ الْسُلُوكِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -
:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ
سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
أَمَّا بَعْدُ :
فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مُخْتَصَرَاتٌ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ - الَّتِي قَدْ
تُسَمَّى " الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالَ " - وَهِيَ مِنْ أُصُولِ
الْإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ ؛ مِثْلُ
مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالشُّكْرِ لَهُ وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ . اقْتَضَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ حَقَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَاسْتَكْتَبَهَا وَكُلٌّ مِنَّا عَجْلَانُ . فَأَقُولُ : هَذِهِ الْأَعْمَالُ جَمِيعُهَا وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ - الْمَأْمُورِينَ فِي الْأَصْلِ - بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَالنَّاسُ فِيهَا عَلَى " ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ " كَمَا هُمْ فِي أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ عَلَى " ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ " : ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ . فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ : الْعَاصِي بِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ . وَالْمُقْتَصِدُ : الْمُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَالتَّارِكُ الْمُحَرَّمَاتِ . وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ : الْمُتَقَرِّبُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَالتَّارِكُ لَلْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ . وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ قَدْ يَكُونُ لَهُ ذُنُوبٌ تُمْحَى عَنْهُ : إمَّا بِتَوْبَةِ - وَاَللَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ - وَإِمَّا بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ وَإِمَّا بِمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ . وَكُلٌّ مِنْ الصِّنْفَيْنِ الْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } فَحَدُّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ : هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ : إلَى " عَامٍّ " وَهُمْ الْمُقْتَصِدُونَ ،
وَ " خَاصٍّ " وَهُمْ السَّابِقُونَ وَإِنْ كَانَ السَّابِقُونَ هُمْ أَعْلَى دَرَجَاتٍ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ . وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " الْقِسْمَيْنِ " فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ . وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ : فَمَعَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ كَمَا مَعَهُ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِقَدْرِ فُجُورِهِ إذْ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحَسَنَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلثَّوَابِ وَالسَّيِّئَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِقَابِ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُثَابَ وَيُعَاقَبَ وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ .
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّخْلِيدِ : كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ إنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَإِنَّهُ لَا شَفَاعَةَ لِلرَّسُولِ وَلَا لِغَيْرِهِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ وَلَا بَعْدَهُ ؛ فَعِنْدَهُمْ لَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ ؛ وَحَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ . بَلْ مَنْ أُثِيبَ لَا يُعَاقَبُ وَمَنْ عُوقِبَ لَمْ يُثَبْ . وَدَلَائِلُ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ كَثِيرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعِهِ . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَلِهَذَا مَنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُسَمَّى حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَجْلِدُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأُتِيَ بِهِ مَرَّةً فَقَالَ رَجُلٌ لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُذْنِبَ بِالشُّرْبِ وَغَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَحَبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ الْعَابِدَ الزَّاهِدَ قَدْ يَكُونُ لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ بِدْعَةٍ وَنِفَاقٍ مَسْخُوطًا عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ كَمَا اسْتَفَاضَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ حَدِيثِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَغَيْرِهِمَا عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ : يَحْقِرُ
أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَهَؤُلَاءِ قَاتَلَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } . وَلِهَذَا قَالَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ إنَّ الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا وَالْمَعْصِيَةُ يُتَابُ مِنْهَا . وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا : أَنَّ الْمُبْتَدِعَ الَّذِي يَتَّخِذُ دِينًا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ قَدْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَهُوَ لَا يَتُوبُ مَا دَامَ يَرَاهُ حَسَنًا لِأَنَّ أَوَّلَ التَّوْبَةِ الْعِلْمُ بِأَنَّ فِعْلَهُ سَيِّئٌ لِيَتُوبَ مِنْهُ . أَوْ بِأَنَّهُ تَرَكَ حَسَنًا مَأْمُورًا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ لِيَتُوبَ وَيَفْعَلَهُ . فَمَا دَامَ يَرَى فِعْلَهُ حَسَنًا وَهُوَ سَيِّئٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يَتُوبُ . وَلَكِنَّ التَّوْبَةَ مِنْهُ مُمْكِنَةٌ وَوَاقِعَةٌ بِأَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ وَيُرْشِدَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ كَمَا هَدَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنْ هَدَى مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ
الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَهَذَا يَكُونُ بِأَنْ يَتَّبِعَ مِنْ الْحَقِّ مَا عَلِمَهُ فَمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ تَعَالَى . { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ اتِّبَاعِ الْحَقِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ تَبَعًا لِهَوَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُهُ الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ حَتَّى يَعْمَى قَلْبُهُ عَنْ الْحَقِّ الْوَاضِحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَهَذَا اسْتِفْهَامُ نَفْيٍ وَإِنْكَارٍ : أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِنَّا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إنَّهَا بِالْكَسْرِ تَكُونُ
جَزْمًا
بِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ
مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : إنَّ مِنْ ثَوَابِ
الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا وَإِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ
السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ
الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى
الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا . وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ ؛
فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى
النَّارِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى
يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصِّدْقَ أَصْلٌ يَسْتَلْزِمُ الْبِرَّ . وَأَنَّ
الْكَذِبَ يَسْتَلْزِمُ الْفُجُورَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْأَبْرَارَ
لَفِي نَعِيمٍ } { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ
إذَا أَمَرَ بَعْضَ مُتَّبِعِيهِ بِالتَّوْبَةِ وَأَحَبَّ أَنْ لَا يُنَفِّرَهُ
وَلَا يُشَعِّبَ قَلْبَهُ أَمَرَهُ بِالصِّدْقِ . وَلِهَذَا كَانَ يَكْثُرُ فِي
كَلَامِ مَشَايِخِ الدِّينِ وَأَئِمَّتِهِ ذِكْرُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ حَتَّى
يَقُولُوا : قُلْ لِمَنْ لَا يَصْدُقُ : لَا يَتَّبِعْنِي . وَيَقُولُونَ :
الصِّدْقُ سَيْفُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَمَا وُضِعَ عَلَى شَيْءٍ إلَّا قَطَعَهُ
وَيَقُولُ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَغَيْرُهُ : مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ إلَّا
صَنَعَ لَهُ وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ .
وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ
وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ
الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ يَنْقَسِمُونَ إلَى مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ هُوَ الصِّدْقُ فَإِنَّ أَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ هُوَ الْكَذِبُ ؛ وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ اللَّهُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ نَعَتَهُ بِالصِّدْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتَعَقَّبْ إيمَانَهُمْ رِيبَةٌ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الْمَأْخُوذُ عَلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ لِأَجْلِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ ؛ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِكِتَابِ يَهْدِي وَسَيْفٍ يَنْصُرُ وَكَفَى بِرَبِّك هَادِيًا وَنَصِيرًا . وَالْكِتَابُ وَالْحَدِيدُ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الْإِنْزَالِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَزَلَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْزِلْ الْآخَرُ . حَيْثُ نَزَلَ الْكِتَابُ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } وَالْحَدِيدُ أُنْزِلَ مِنْ الْجِبَالِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا . وَكَذَلِكَ وَصَفَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَى الْبِرِّ الَّذِي هُوَ جِمَاعُ الدِّينِ فِي قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } إلَى قَوْلِهِ { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْكَذِبِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } قَوْله تَعَالَى { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . قَوْله تَعَالَى { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الصِّدْقَ وَالتَّصْدِيقَ يَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ وَفِي
الْأَعْمَالِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنْ الزِّنَا فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّمْعُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . وَيُقَالُ حَمَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ حَمْلَةً صَادِقَةً إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُمْ لِلْقِتَالِ ثَابِتَةً جَازِمَةً وَيُقَالُ فُلَانٌ صَادِقُ الْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا يُرِيدُونَ بِالصَّادِقِ ؛ الصَّادِقُ فِي إرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَطَلَبِهِ وَهُوَ الصَّادِقُ فِي عَمَلِهِ وَيُرِيدُونَ الصَّادِقَ فِي خَبَرِهِ وَكَلَامِهِ وَالْمُنَافِقُ ضِدُّ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ . أَوْ كَاذِبًا فِي عَمَلِهِ كَالْمُرَائِي فِي عَمَلِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } الْآيَتَيْنِ . وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَهُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ إذْ " الْإِسْلَامُ " هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ } الْآيَةَ . فَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْبَرَ وَمَنْ اسْتَسْلَمَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ وَكُلٌّ مِنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ ضِدُّ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ ضِدُّ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ . وَيُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ .
وَلِهَذَا كَانَ رَأْسُ الْإِسْلَامِ { شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَرْكَ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين دِينًا سِوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ لَا تَنْفَعُ بِدُونِهَا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ
فَصْلٌ
:
وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ
وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرِّضَا عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ كُلُّهَا مَأْمُورٌ
بِهَا فِي حَقِّ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ لَا يَكُونُ تَرْكُهَا مَحْمُودًا فِي
حَالِ أَحَدٍ وَإِنْ ارْتَقَى مَقَامُهُ .
وَأَمَّا " الْحُزْنُ " فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ
بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَمْرِ الدِّينِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَلَا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } وَقَوْلُهُ : { إذْ
يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } وَقَوْلُهُ : { وَلَا
يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ } وَقَوْلُهُ : { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ لَا يَجْلِبُ مَنْفَعَةً وَلَا يَدْفَعُ مَضَرَّةً فَلَا فَائِدَةَ
فِيهِ وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ نَعَمْ لَا يَأْثَمُ
صَاحِبُهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُزْنِهِ مُحَرَّمٌ كَمَا يَحْزَنُ عَلَى
الْمَصَائِبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ {
إنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ عَلَى دَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا عَلَى حُزْنِ الْقَلْبِ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُ عَلَى هَذَا أَوْ يَرْحَمُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى لِسَانِهِ
} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ
الْقَلْبُ
وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } . وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالْحُزْنِ مَا يُثَابُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَيُحْمَدُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَحْمُودًا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْحُزْنِ كَالْحَزِينِ عَلَى مُصِيبَةٍ فِي دِينِهِ وَعَلَى مَصَائِبِ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا فَهَذَا يُثَابُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّ الْخَيْرِ وَبُغْضِ الشَّرِّ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْحُزْنَ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَفْضَى إلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ مِنْ الصَّبْرِ وَالْجِهَادِ وَجَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَّا كَانَ حَسَبَ صَاحِبِهِ رُفِعَ الْإِثْمُ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ الْحُزْنِ وَأَمَّا إنْ أَفْضَى إلَى ضَعْفِ الْقَلْبِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ كَانَ مَذْمُومًا عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ مَحْمُودًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى . وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا خَيْرٌ مَحْضٌ وَهِيَ حَسَنَةٌ مَحْبُوبَةٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ تَكُونُ لِلْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادَ خُرُوجَ الْخَاصَّةِ عَنْهَا : فَإِنَّ هَذِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مُؤْمِنٌ قَطُّ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْهَا كَافِرٌ أَوْ مُنَافِقٌ . وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِكَلَامِ بَيَّنَا غَلَطَهُ فِيهِ وَأَنَّهُ تَقْصِيرٌ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ بِكَلَامِ مَبْسُوطٍ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ .
وَلَكِنَّ هَذِهِ " الْمَقَامَاتِ " يَنْقَسِمُ النَّاسُ فِيهَا إلَى خُصُوصٍ وَعُمُومٍ فَلِلْخَاصَّةِ خَاصُّهَا وَلِلْعَامَّةِ عَامُّهَا . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا : " إنَّ التَّوَكُّلَ مُنَاضَلَةٌ عَنْ النَّفْسِ فِي طَلَبِ الْقُوتِ وَالْخَاصُّ لَا يُنَاضِلُ عَنْ نَفْسِهِ . وَقَالُوا : الْمُتَوَكِّلُ يَطْلُبُ بِتَوَكُّلِهِ أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ وَالْعَارِفُ يَشْهَدُ الْأُمُورَ بِفُرُوعِهَا مِنْهَا فَلَا يَطْلُبُ شَيْئًا " . فَيُقَالُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ أَعَمُّ مِنْ التَّوَكُّلِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي صَلَاحِ قَلْبِهِ وَدِينِهِ وَحِفْظِ لِسَانِهِ وَإِرَادَتِهِ وَهَذَا أَهَمُّ الْأُمُورِ إلَيْهِ وَلِهَذَا يُنَاجِي رَبَّهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ بِقَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } فَهُوَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ يَجْمَعَانِ الدِّينَ كُلَّهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ اللَّهَ جَمَعَ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَمَعَ عِلْمَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ هُمَا الْجَامِعَتَانِ اللَّتَانِ لِلرَّبِّ وَالْعَبْدِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ : الرَّحْمَنُ-ج16.=
ج16. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
الرَّحِيمُ يَقُولُ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ اللَّهُ مَجَّدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يَقُولُ اللَّهُ فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ لَهُ نِصْفُ الثَّنَاءِ وَالْخَيْرِ وَالْعَبْدُ لَهُ نِصْفُ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ وَهَاتَانِ جَامِعَتَانِ مَا لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَمَا لِلْعَبْدِ فَإِيَّاكَ نَعْبُدُ لِلرَّبِّ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِلْعَبْدِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنْت رَدِيفًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ : يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ؟ قُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟ قُلْت اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ } وَالْعِبَادَةُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ لَهَا الْعِبَادَ مِنْ جِهَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَبِهَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَهِيَ اسْمٌ يَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَنِهَايَتَهُ وَكَمَالَ الذُّلِّ لِلَّهِ وَنِهَايَتَهُ فَالْحُبُّ الْخَلِيُّ عَنْ ذُلٍّ وَالذُّلُّ الْخَلِيُّ عَنْ حُبٍّ لَا يَكُونُ عِبَادَةً وَإِنَّمَا الْعِبَادَةُ مَا يَجْمَعَ كَمَالَ الْأَمْرَيْنِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَتُهَا لِلْعَبْدِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ فَهِيَ لَهُ مِنْ جِهَةِ مَحَبَّتِهِ لَهَا وَرِضَاهُ بِهَا وَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ أَشَدَّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْ
الْفَاقِدِ لِرَاحِلَتِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ إذَا نَامَ آيِسًا مِنْهَا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَهَا فَاَللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أُمُورٌ جَلِيلَةٌ قَدْ بَسَطْنَاهَا وَشَرَحْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالتَّوَكُّلُ وَالِاسْتِعَانَةُ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ وَالطَّرِيقُ الَّذِي يَنَالُ بِهِ مَقْصُودَهُ وَمَطْلُوبَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَالِاسْتِعَانَةُ كَالدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِي فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا ابْنَ آدَمَ إنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي . فَأَمَّا الَّتِي لِي فَتَعْبُدُنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَك فَعَمَلُك أُجَازِيك بِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَمِنْك الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي فَأْتِ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يَأْتُوا إلَيْك } وَكَوْنُ هَذَا لِلَّهِ وَهَذَا لِلْعَبْدِ هُوَ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا ابْتِدَاءً فَإِنَّ الْعَبْدَ ابْتِدَاءً يُحِبُّ وَيُرِيدُ مَا يَرَاهُ مُلَائِمًا لَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ وَيَرْضَى مَا هُوَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي رِضَاهُ وَيُحِبُّ الْوَسِيلَةَ تَبَعًا لِذَلِكَ وَإِلَّا فَكُلٌّ مَأْمُورٌ بِهِ فَمَنْفَعَتُهُ عَائِدَةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَعَلَى هَذَا فَاَلَّذِي ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ الْمَقَامَاتِ الْعَامَّةِ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُطْلَبُ بِهِ إلَّا حُظُوظُ الدُّنْيَا وَهُوَ غَلَطٌ بَلْ التَّوَكُّلُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَعْظَمُ .
وَأَيْضًا
التَّوَكُّلُ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ الْوَاجِبَاتُ
والمستحبات إلَّا بِهَا وَالزَّاهِدُ فِيهَا زَاهِدٌ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ
وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَرْضَاهُ .
وَ " الزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ " هُوَ تَرْكُ الرَّغْبَةِ فِيمَا لَا
يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ فُضُولُ الْمُبَاحِ الَّتِي لَا
يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ " الْوَرَعَ
الْمَشْرُوعَ " هُوَ تَرْكُ مَا قَدْ يَضُرُّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ
تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ الَّتِي لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكُهَا تَرْكَ
مَا فِعْلُهُ أَرْجَحُ مِنْهَا كَالْوَاجِبَاتِ فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فِي
الدَّارِ الْآخِرَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ يُعِينُ عَلَى مَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ
الْآخِرَةِ فَالزُّهْدُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ بَلْ صَاحِبُهُ دَاخِلٌ فِي
قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
} كَمَا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ هُوَ ضِدُّ الزُّهْدِ
الْمَشْرُوعِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بِهَا عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ [ تَرْكِ ] (1)
مُحَرَّمٍ كَانَ عَاصِيًا وَإِلَّا كَانَ مَنْقُوصًا عَنْ دَرَجَةِ
الْمُقَرَّبِينَ إلَى دَرَجَةِ الْمُقْتَصِدِينَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوَكُّلَ
هُوَ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ مُرْضٍ لَهُ مَأْمُورٌ بِهِ دَائِمًا وَمَا كَانَ
مَحْبُوبًا لِلَّهِ مُرْضِيًا لَهُ مَأْمُورًا بِهِ دَائِمًا لَا يَكُونُ مِنْ
فِعْلِ الْمُقْتَصِدِينَ دُونَ الْمُقَرَّبِينَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ
عَنْ قَوْلِهِمْ : الْمُتَوَكِّلُ يَطْلُبُ حُظُوظَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ
الْأُمُورَ قَدْ فُرِغَ مِنْهَا فَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي
الدُّعَاءِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إنْ كَانَ
مُقَدَّرًا فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مُقَدَّرًا لَمْ يَنْفَعْ الدُّعَاءُ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ شَرْعًا وَعَقْلًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : التَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ لَا يُجْلَبُ بِهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا يُدْفَعُ بِهِ مَضَرَّةٌ وَإِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ . وَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ التَّفْوِيضِ الْمَحْضِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ فَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ . فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا أَشْبَهَهَا يَجْمَعُهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ : وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ كَوْنَ الْأُمُورِ مُقَدَّرَةً مَقْضِيَّةً يَمْنَعُ أَنْ تَتَوَقَّفَ عَلَى أَسْبَابٍ مُقَدَّرَةٍ - أَيْضًا - تَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ ؛ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُقَدِّرُ الْأُمُورَ وَيَقْضِيهَا بِالْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا مُعَلَّقَةً بِهَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِ أَفْعَالِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ طَرْدُ قَوْلِهِمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ الْأَعْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ . وَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مَرَّاتٍ فَأَجَابَ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : { قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالُوا : فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ قَالَ : كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْمِخْصَرَةِ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ : مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ النَّارِ أَوْ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً قَالَ :
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ ؟ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ لَيَكُونَنَّ إلَى السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَيَكُونَنَّ إلَى الشَّقَاوَةِ قَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ . أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فييسرون لِلسَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فييسرون لِلشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } { وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } } أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقًى نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } . وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ بِالسَّعِيدِ وَالشَّقِيِّ لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ سَعَادَةُ هَذَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَشَقَاوَةُ هَذَا بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَكْتُبُهَا ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ السَّعِيدَ يَسْعَدُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالشَّقِيَّ يَشْقَى بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فَمَنْ كَانَ سَعِيدًا يُيَسَّرُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَقْتَضِي السَّعَادَةَ ؛ وَمَنْ كَانَ شَقِيًّا يُيَسَّرُ لِلْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ
الَّتِي
تَقْتَضِي الشَّقَاوَةَ ؛ وَكِلَاهُمَا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَهُوَ مَا
يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ الْعَامَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي
ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } { إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ }
.
وَأَمَّا مَا خُلِقُوا لَهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَهُوَ إرَادَتُهُ الدِّينِيَّةُ
الَّتِي أُمِرُوا بِمُوجِبِهَا فَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ : مِنْ " الْكَلِمَاتِ
" وَ " الْأَمْرُ " وَ " الْإِرَادَةُ " وَ "
الْإِذْنُ " وَ " الْكِتَابُ " وَ " الْحُكْمُ " وَ
" الْقَضَاءُ " وَ " التَّحْرِيمُ " وَنَحْوُ ذَلِكَ مَا هُوَ
دِينِيٌّ مُوَافِقٌ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ وَمَا
هُوَ كَوْنِيٌّ مُوَافِقٌ لِمَشِيئَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ
قَالَ فِي " الْأَمْرِ الدِّينِيِّ " : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } وَقَالَ تَعَالَى : {
إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } وَنَحْوِ
ذَلِكَ . وَقَالَ فِي " الْكَوْنِيِّ " : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا
أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } عَلَى إحْدَى الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ . وَقَالَ فِي " الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ " : { يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }
{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } وَقَالَ فِي " الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ " : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْإِذْنِ الدِّينِيِّ " : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ " : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ " : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } أَيْ أَمَرَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ " : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْحُكْمِ الدِّينِيِّ " : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ " عَنْ ابْنِ يَعْقُوبَ : { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }
وَقَالَ تَعَالَى { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ " : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي " التَّحْرِيمِ الْكَوْنِيِّ " : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ " { وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيَّةِ " : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ إنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِعَاذَتِهِ { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَوْنِيُّ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ . وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الدِّينِيَّةُ فَقَدْ خَالَفَهَا الْفُجَّارُ بِمَعْصِيَتِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ الْعَوَاقِبَ الَّتِي خَلَقَ لَهَا النَّاسَ مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ ييسرون لَهَا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَصِيرُونَ بِهَا إلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ كَذَلِكَ ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الْوَلَدَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانِ فِي الْأَرْحَامِ بِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ وَاجْتِمَاعِ الْمَاءَيْنِ فِي الرَّحِمِ فَلَوْ قَالَ الْإِنْسَانُ أَنَا أَتَوَكَّلُ وَلَا أَطَأُ زَوْجَتِي فَإِنْ كَانَ قَدْ
قُضِيَ لِي بِوَلَدِ وُجِدَ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ وَلَا حَاجَةَ إلَى وَطْءٍ كَانَ أَحْمَقَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَطِئَ وَعَزَلَ الْمَاءَ فَإِنَّ عَزْلَ الْمَاءِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْوَلَدِ إذَا شَاءَ اللَّهُ إذْ قَدْ يَسْبِقُ الْمَاءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَمِنْ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري . قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَسَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَا هُوَ خَالِقٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ لِي جَارِيَةً هِيَ خَادِمَتُنَا وَسَانِيَتُنَا فِي النَّخْلِ وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ فَقَالَ اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا } . وَهَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى مَا قَدْ فَعَلَهُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْنِ كَمَا خَلَقَ آدَمَ وَمَنْ خَلَقَهُ مِنْ أَبٍ فَقَطْ كَمَا خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْقَصِيرِ وَمَنْ خَلَقَهُ مِنْ أُمٍّ فَقَطْ كَمَا خَلَقَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنْ خَلَقَ ذَلِكَ بِأَسْبَابِ أُخْرَى غَيْرِ مُعْتَادَةٍ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَجْحَدُهُ الزَّنَادِقَةُ الْمُعَطِّلُونَ لِلشَّرَائِعِ فَقَدْ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ دِقِّهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُعَظَّمِينَ يَسْتَرْسِلُ أَحَدُهُمْ مَعَ الْقَدَرِ
غَيْرَ مُحَقِّقٍ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّفْوِيضِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْجَرْيِ مَعَ الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَيَحْسَبُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَتَّى يَتْرُكَ مَا أُمِرَ بِهِ وَيَفْعَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَحَتَّى يَضْعُفَ عِنْدَهُ النُّورُ وَالْفُرْقَانُ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ وَأَبْغَضَهُ وَسَخِطَهُ فَيُسَوِّي بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } { وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . حَتَّى يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِغُلَاتِهِمْ إلَى عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ النَّبَوِيِّ الْإِلَهِيِّ الْفُرْقَانِيِّ الشَّرْعِيِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى أَيْدِي الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ فَيَشْهَدُونَ وَجْهَ الْجَمْعِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْجَمِيعِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْعَامَّةِ
وَأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُلْكِهِ وَلَا يَشْهَدُونَ وَجْهَ الْفَرْقِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَهُ الدِّينِيَّ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ الَّذِينَ عَصَوْا هَذَا الْأَمْرَ وَيَسْتَشْهِدُونَ فِي ذَلِكَ بِكَلِمَاتِ مُجْمَلَةٍ نُقِلَتْ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ أَوْ بِبَعْضِ غَلَطَاتِ بَعْضِهِمْ . وَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " مِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ عَلَى أَهْلِ طَرِيقِ اللَّهِ السَّالِكِينَ سَبِيلَ الْإِرَادَةِ : إرَادَةِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ بِسَبَبِ إهْمَالِ ذَلِكَ عَلَى طَوَائِفَ مِنْهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يَصِيرُوا مُعَاوِنِينَ عَلَى الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ لِلْمُسَلَّطِينَ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ كَاَلَّذِينَ يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ فِي مُعَاوَنَةِ مَنْ يَهْوُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ ظَانِّينَ أَنَّهُمْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ أَحْوَالٌ أُثِرُوا بِهَا فِي ذَلِكَ كَانُوا بِذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ - فَإِنَّ الْقُلُوبَ لَهَا مِنْ التَّأْثِيرِ أَعْظَمُ مِمَّا لِلْأَبْدَانِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَتْ صَالِحَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا صَالِحًا وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا فَاسِدًا فَالْأَحْوَالُ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَارَةً وَمَكْرُوهًا لِلَّهِ أُخْرَى وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي ذَلِكَ - وَيَسْتَشْهِدُونَ بِبَوَاطِنِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ الْأَمْرَ الْكَوْنِيَّ وَيُعِدُّونَ مُجَرَّدَ خَرْقِ الْعَادَةِ لِأَحَدِهِمْ بِكَشْفِ يُكْشَفُ لَهُ أَوْ بِتَأْثِيرِ يُوَافِقُ إرَادَتَهُ هُوَ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ لَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إهَانَةٌ وَأَنَّ الْكَرَامَةَ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ وَأَنَّ
اللَّهَ
لَمْ يُكْرِمْ عَبْدَهُ بِكَرَامَةِ أَعْظَمَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ
وَيَرْضَاهُ وَهُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ
وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ قَالَ
اللَّهُ فِيهِمْ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ } فَإِنْ كَانُوا مُوَافِقِينَ لَهُ فِيمَا أَوْجَبَهُ
عَلَيْهِمْ فَهُمْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ وَإِنْ كَانُوا مُوَافِقِينَ فِيمَا
أَوْجَبَهُ وَأَحَبَّهُ فَهُمْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ
مَحْبُوبٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَحْبُوبٍ وَاجِبًا وَأَمَّا مَا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ
عَبْدَهُ مِنْ السَّرَّاءِ بِخَرْقِ الْعَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا أَوْ
بِالضَّرَّاءِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَرَامَةِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَلَا
هَوَانِهِ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يَسْعَدُ بِهَا قَوْمٌ إذَا أَطَاعُوهُ فِي ذَلِكَ
وَقَدْ يَشْقَى بِهَا قَوْمٌ إذَا عَصَوْهُ فِي ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } { وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ
رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي كَلَّا } وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي
هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ " :
قِسْمٌ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ إذَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي
طَاعَةِ اللَّهِ . وَقَوْمٌ يَتَعَرَّضُونَ بِهَا لِعَذَابِ اللَّهِ إذَا
اسْتَعْمَلُوهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كبلعام وَغَيْرِهِ . وَقَوْمٌ تَكُونُ فِي
حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ .
وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الْمُتَّبِعُونَ لِنَبِيِّهِمْ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ الَّذِي إنَّمَا كَانَتْ خَوَارِقُهُ لِحُجَّةِ يُقِيمُ بِهَا دِينَ اللَّهِ أَوْ لِحَاجَةِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ . وَلِكَثْرَةِ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْأَصْلِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ مَعَ الْقَدَرِ بِدُونِ الْحِرْصِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَنْفَعُ الْعَبْدَ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ . احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد : { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فَإِنَّ الْحِرْصَ عَلَى مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ إذْ النَّافِعُ لَهُ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكُلُّ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ طَاعَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِسَعْدِ : { إنَّك لَنْ
تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكَيْسِ وَهُوَ التَّفْرِيطُ فِيمَا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْقُدْرَةَ الْمُقَارِنَةَ لِلْفِعْلِ . وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي الْقُدْرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْفِعْلَ تَكُونُ مُقَارِنَةً لَهُ وَلَا تَصْلُحُ إلَّا لِمَقْدُورِهَا كَمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَتِلْكَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا الْفِعْلُ وَقَدْ لَا يَقْتَرِنُ . كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . فَهَذَا الْمَوْضِعُ قد انقسم النَّاسُ فِيهِ إلَى " أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ " : قَوْمٌ يَنْظُرُونَ إلَى جَانِبِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ شَاهِدِينَ لِإِلَهِيَّةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَنْظُرُونَ إلَى جَانِبِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ ؛ فَهُمْ مَعَ حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ وَلِشَعَائِرِهِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ وَالْخِذْلَانُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ واللجأ إلَيْهِ وَالدُّعَاءَ لَهُ هِيَ الَّتِي تُقَوِّي الْعَبْدَ وَتُيَسِّرُ عَلَيْهِ الْأُمُورَ .
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظِّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وَيَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ فَأَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا بِأَنْ يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ إنَّمَا أَطَاقُوا حَمْلَ الْعَرْشِ بِقَوْلِهِمْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ } قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قَالَهَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ . وَ ( قِسْمٌ ثَانٍ : يَشْهَدُونَ رُبُوبِيَّةَ الْحَقِّ وَافْتِقَارَهُمْ إلَيْهِ وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ لَكِنْ عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمْ غَيْرَ نَاظِرِينَ إلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَلِهَذَا كَثِيرًا
مَا
يَعْمَلُونَ عَلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَصَرَّفُونَ بِهَا فِي الْوُجُودِ
وَلَا يَقْصِدُونَ مَا يُرْضِي الرَّبَّ وَيُحِبُّهُ وَكَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ
فَيَظُنُّونَ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ هِيَ مَرْضَاتُهُ فَيَعُودُونَ إلَى تَعْطِيلِ
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيُسَمُّونَ هَذَا حَقِيقَةً وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ
الْحَقِيقَةَ الْقَدَرِيَّةَ يَجِبُ الِاسْتِرْسَالُ مَعَهَا دُونَ مُرَاعَاةِ
الْحَقِيقَةِ الْأَمْرِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَحْوِي مَرْضَاةَ الرَّبِّ
وَمَحَبَّتَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . وَهَؤُلَاءِ كَثِيرًا
مَا يَسْلُبُونَ أَحْوَالَهُمْ وَقَدْ يَعُودُونَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَعَاصِي
وَالْفُسُوقِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ
الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى وَمَنْ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ
فَلَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَهُمْ يَقَعُونَ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ
الْمُشْرِكُونَ فِيهِ تَارَةً فِي بِدْعَةٍ يَظُنُّونَهَا شِرْعَةً وَتَارَةً فِي
الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى الْأَمْرِ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ
مَا ذَمَّ بِهِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ ذَكَرَ
مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ وَجَعَلُوهُ شِرْعَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ
أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } وَقَدْ
ذَمَّهُمْ عَلَى أَنْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَأَنْ شَرَّعُوا
مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَذَكَرَ احْتِجَاجَهُمْ بِالْقَدَرِ فِي قَوْله
تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ
شَيْءٍ } وَنَظِيرُهَا فِي النَّحْلِ وَيس وَالزُّخْرُفِ وَهَؤُلَاءِ يَكُونُ
فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ
وَاسْتِعَانَتِهِ بِهِ فَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْأَقْسَامِ .
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : هُوَ الْقِسْمُ الْمَحْمُودُ وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ حَقَّقُوا { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فَاسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ إلَهُهُمْ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ الَّذِي { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } وَأَنَّهُ { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا التَّوَكُّلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ مُقْتَضَى التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ مَقَامَاتِ عَامَّةِ أَهْلِ الطَّرِيقِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا شَدِيدًا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْمَشَايِخِ - كَصَاحِبِ " عِلَلِ الْمَقَامَاتِ " وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَشَايِخِ وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ صَاحِبُ " مَحَاسِنِ الْمَجَالِسِ " - وَظَهَرَ ضَعْفُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لِظَنِّهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهِ حَظُّ الْعَامَّةِ فَقَطْ وَظَنِّهِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ جَعَلَ الدُّعَاءَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْأَعْمَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا كَذَلِكَ كَمَنْ اشْتَغَلَ بِالتَّوَكُّلِ عَنْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ
الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا ؛ فَإِنْ غَلِطَ هَذَا فِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } كَغَلَطِ الْأَوَّلِ فِي تَرْكِ التَّوَكُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي هُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } لَكِنْ يُقَالُ : مَنْ كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ هُوَ فِي حُصُولِ مُبَاحَاتٍ فَهُوَ مِنْ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي حُصُولِ مُسْتَحَبَّاتٍ وَوَاجِبَاتٍ فَهُوَ مِنْ الْخَاصَّةِ كَمَا أَنَّ مَنْ دَعَاهُ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مُحَرَّمَاتٍ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ التَّوَكُّلِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْمَقَامُ لِلْخَاصَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } إلَى قَوْلِهِ { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ( حَسْبِي اللَّهُ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ تَارَةً وَفِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ أُخْرَى . ( فَالْأُولَى فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } الْآيَةَ . وَ ( الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالرِّضَا وَالتَّوَكُّلِ . وَالرِّضَا وَالتَّوَكُّلُ يَكْتَنِفَانِ الْمَقْدُورَ فَالتَّوَكُّلُ قَبْلَ وُقُوعِهِ . وَالرِّضَا بَعْدَ وُقُوعِهِ ؛ وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَبِقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُك نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُك قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُك بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ وَأَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك ؛ وَأَسْأَلُك الشَّوْقَ إلَى لِقَائِك مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زينا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ } رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ . وَأَمَّا مَا يَكُونُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَهُوَ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا لَا حَقِيقَةُ الرِّضَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ يَعْزِمُونَ عَلَى الرِّضَا قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ ؛ فَإِذَا وَقَعَ انْفَسَخَتْ عَزَائِمُهُمْ كَمَا يَقَعُ نَحْوُ ذَلِكَ فِي الصَّبْرِ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ
مَرْصُوصٌ } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آيَةَ الْجِهَادِ فَكَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ . وَلِهَذَا كُرِهَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ بِأَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَا يُوجِبُهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ بِالْعَهْدِ وَالنَّذْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يَطْلُبُ وِلَايَةً أَوْ يُقْدِمُ عَلَى بَلَدٍ فِيهِ طَاعُونٌ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ ؛ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : { لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا ؛ وَإِذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { قَالَ فِي الطَّاعُونِ : إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَلَكِنْ إذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْعَى فِيمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ فَيَبْخَلُ بِالْوَفَاءِ ؛ وَكَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُعَاهِدُ اللَّهَ عُهُودًا عَلَى أُمُورٍ وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ يُبْتَلَوْنَ بِنَقْضِ الْعُهُودِ . وَيَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اُبْتُلِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَيَثْبُتَ وَلَا يَتَّكِلَ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الرِّجَالِ الْمُوقِنِينَ الْقَائِمِينَ بِالْوَاجِبَاتِ . وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ
الصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ عَنْ أَنْ يَجْزَعَ فِيهَا وَالصَّبْرُ عَنْ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الصَّبْرَ فِي كِتَابِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ مَوْضِعًا وَقَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } إلَى قَوْلِهِ { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } الْآيَةَ وَجَعَلَ " الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ " مَوْرُوثَةً عَنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ بِقَوْلِهِ : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فَإِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ عِلْمٌ بِالْحَقِّ وَعَمَلٌ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الصَّبْرِ بَلْ وَطَلَبُ عِلْمِهِ يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ طَلَبَهُ لِلَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْرِفَتَهُ خَشْيَةٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ؛ وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ . بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ وَبِهِ يُمَجَّدُ اللَّهُ وَيُوَحَّدُ يَرْفَعُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ أَقْوَامًا يَجْعَلُهُمْ لِلنَّاسِ قَادَةً وَأَئِمَّةً يَهْتَدُونَ بِهِمْ وَيَنْتَهُونَ إلَى رَأْيِهِمْ . فَجَعَلَ الْبَحْثَ عَنْ الْعِلْمِ مِنْ الْجِهَادِ وَلَا بُدَّ فِي الْجِهَادِ مِنْ الصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا
قَالَ
تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } فَالْعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ
أَصْلُ الْهُدَى وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ هُوَ الرَّشَادُ وَضِدُّ الْأَوَّلِ
الضَّلَالُ وَضِدُّ الثَّانِي الْغَيُّ فَالضَّلَالُ الْعَمَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَالْغَيُّ اتِّبَاعُ الْهَوَى . قَالَ تَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } {
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } فَلَا يُنَالُ الْهُدَى إلَّا بِالْعِلْمِ
وَلَا يُنَالُ الرَّشَادُ إلَّا بِالصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ : أَلَا
إنَّ الصَّبْرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ - فَإِذَا
انْقَطَعَ الرَّأْسُ بَانَ الْجَسَدُ - ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ أَلَا لَا
إيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ
وَأَمَّا " الرِّضَا " فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ وَالْمَشَايِخُ
مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ : هَلْ
هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ
مِنْ أَعْمَالِ الْمُقْتَصِدِينَ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ
الْمُقَرَّبِينَ . قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرِّضَا عَزِيزٌ
وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مِعْوَلُ الْمُؤْمِنِ . وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنْ
اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ فَإِنْ
لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا } .
وَلِهَذَا لِمَ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا مَدْحُ الرَّاضِينَ لَا إيجَابُ ذَلِكَ وَهَذَا فِي الرِّضَا بِمَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ بِعَبْدِهِ مِنْ الْمَصَائِبِ كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالزِّلْزَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } وَقَالَ تَعَالَى { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا } فَالْبَأْسَاءُ فِي الْأَمْوَالِ وَالضَّرَّاءُ فِي الْأَبْدَانِ وَالزِّلْزَالُ فِي الْقُلُوبِ . وَأَمَّا " الرِّضَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ " فَأَصْلُهُ وَاجِبٌ وَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا } وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَحَبَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَمِنْ " النَّوْعِ الْأَوَّلِ " مَا رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ
لِلَّهِ
وَرِضَاهُ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ . وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ
اسْتِخَارَتِهِ لِلَّهِ وَسُخْطُهُ بِمَا يَقْسِمُ اللَّهُ لَهُ } .
وَأَمَّا " الرِّضَا بِالْمَنْهِيَّاتِ " مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ
وَالْعِصْيَانِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ لَا يَشْرَعُ الرِّضَا بِهَا
كَمَا لَا تَشْرَعُ مَحَبَّتُهَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَاهَا
وَلَا يُحِبُّهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ قَدَّرَهَا وَقَضَاهَا كَمَا قَالَ
سُبْحَانَهُ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا
يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ
يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } بَلْ يَسْخَطُهَا كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا
رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَتْ طَائِفَةٌ تَرْضَى مِنْ جِهَةِ
كَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى اللَّهِ خَلْقًا وَتَسْخَطُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا
مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ فِعْلًا وَكَسْبًا . وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي
الَّذِي قَبْلَهُ بَلْ هُمَا يَعُودَانِ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ
إنَّمَا قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ لِحِكْمَةِ فَهِيَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ
مَحْبُوبَةٌ مَرْضِيَّةٌ وَقَدْ تَكُونُ فِي نَفْسِهَا مَكْرُوهَةٌ وَمَسْخُوطَةٌ
. إذْ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَجْتَمِعُ فِيهِ وَصْفَانِ يُحِبُّ مِنْ أَحَدِهِمَا
وَيَكْرَهُ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا تَرَدَّدْت
عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ
يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَأَمَّا
مَنْ قَالَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ اللَّهِ وَفِعْلُهُ لَا
بِالْمَقْضِيِّ الَّذِي
هُوَ
مَفْعُولُهُ فَهُوَ خُرُوجٌ مِنْهُ عَنْ مَقْصُودِ الْكَلَامِ . فَإِنَّ
الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الرِّضَا فِيمَا يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ
صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الرِّضَا بِمَفْعُولَاتِهِ
وَالْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ . وَالرِّضَا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَكَمَالُهُ
هُوَ الْحَمْدُ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَ الْحَمْدَ بِالرِّضَا ؛ وَلِهَذَا
جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَمْدُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَذَلِكَ
بِتَضَمُّنِ الرِّضَا بِقَضَائِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ : { أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى
إلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَنَّهُ كَانَ إذَا أَتَاهُ الْأَمْرُ يَسُرُّهُ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَإِذَا أَتَاهُ الْأَمْرُ الَّذِي
يَسُوءُهُ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ } وَفِي مُسْنَدِ
الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ { قَالَ :
إذَا قُبِضَ وَلَدُ الْعَبْدِ يَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : أَقَبَضْتُمْ
وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَقُولُ : أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ
فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَقُولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِي ؟
فَيَقُولُونَ : حَمِدَك وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي
الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ } وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ وَأُمَّتُهُ هُمْ
الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ .
وَالْحَمْدُ عَلَى الضَّرَّاءِ يُوجِبُهُ مَشْهَدَانِ :
أَحَدُهُمَا : عِلْمُ الْعَبْدِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُسْتَوْجِبٌ
لِذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ لِنَفْسِهِ ؛ فَإِنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . الْخَبِيرُ الرَّحِيمُ .
وَالثَّانِي
: عِلْمُهُ بِأَنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ
اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ عَنْ {
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ
ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ
خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ }
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ قَضَاءٍ
يَقْضِيهِ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَيَشْكُرُ
عَلَى السَّرَّاءِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } وَذَكَرَهُمَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ
كِتَابِهِ . فَأَمَّا مَنْ لَا يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَا يَشْكُرُ عَلَى
الرَّخَاءِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ . وَلِهَذَا
أُجِيبُ مَنْ أَوْرَدَ هَذَا عَلَى مَا يُقْضَى عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ
الْمَعَاصِي بِجَوَابَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ لَا مَا
فَعَلَهُ الْعَبْدُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ
فَمِنَ اللَّهِ } أَيْ مِنْ سَرَّاءَ { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ } أَيْ مِنْ ضَرَّاءَ . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَبَلَوْنَاهُمْ
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أَيْ بِالسَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ
تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } فَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ يُرَادُ بِهَا المسار وَالْمَضَارُّ وَيُرَادُ بِهَا الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي . ( وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ الصَّبَّارِ الشَّكُورِ . وَالذُّنُوبُ تُنْقِصُ الْإِيمَانَ فَإِذَا تَابَ الْعَبْدُ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَقَدْ تَرْتَفِعُ دَرَجَتُهُ بِالتَّوْبَةِ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كَانَ دَاوُد بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ فَمَنْ قُضِيَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ كَانَ كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَيَعْجَبُ بِهَا وَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ } وَالْمُؤْمِنُ إذَا فَعَلَ سَيِّئَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ بِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ : أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ . أَوْ يَسْتَغْفِرُ فَيُغْفَرُ لَهُ أَوْ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ تَمْحُوهَا فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ . أَوْ يَدْعُو لَهُ إخْوَانُهُ الْمُؤْمِنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا . أَوْ يَهْدُونَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ أَوْ يَشْفَعُ فِيهِ نَبِيُّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَوْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي الْبَرْزَخِ بِالصَّعْقَةِ فَيُكَفِّرُ بِهَا عَنْهُ . أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَهْوَالِهَا بِمَا يُكَفِّرُ عَنْهُ . أَوْ يَرْحَمُهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
فَمَنْ
أَخْطَأَتْهُ هَذِهِ الْعَشَرَةُ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ كَمَا قَالَ
تَعَالَى فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوفِيكُمْ
إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ
فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } .
فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَضَاءَ خَيْرٌ لَهُ إذَا كَانَ
صَبَّارًا شَكُورًا أَوْ كَانَ قَدْ اسْتَخَارَ اللَّهَ وَعَلِمَ أَنَّ مِنْ
سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ لِلَّهِ وَرِضَاهُ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ
لَهُ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ
فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ } فَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ الرِّضَا وَالِاسْتِخَارَةُ فَالرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ
وَالِاسْتِخَارَةُ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَهَذَا أَكْمَلُ مِنْ الضَّرَّاءِ
وَالصَّبْرِ فَلِهَذَا ذَكَرَ فِي ذَاكَ الرِّضَا وَفِي هَذَا الصَّبْرَ .
ثُمَّ إذَا كَانَ الْقَضَاءُ مَعَ الصَّبْرِ خَيْرًا لَهُ فَكَيْفَ مَعَ الرِّضَا
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { الْمُصَابُ مِنْ حُرِمَ الثَّوَابُ } فِي
الْأَثَرِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَده : { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ : يَا
آلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ فِي اللَّهِ
عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ
فَائِتٍ فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا وَإِيَّاهُ فَارْجُوا . فَإِنَّ الْمُصَابَ مِنْ
حُرِمَ الثَّوَابَ } وَلِهَذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْحُزْنِ الْمُنَافِي لِلرِّضَا
قَطُّ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ فِي مَضَرَّةٍ لَكِنَّهُ
يُعْفَى عَنْهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ .
لَكِنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الرِّضَا ؛ بِخِلَافِ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ حَظِّهِ مِنْهُ وَبِهَذَا يُعْرَفُ مَعْنَى { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَكَى الْمَيِّتُ وَقَالَ : إنَّ هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ } فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ كَبُكَاءِ مَنْ يَبْكِي لِحَظِّهِ لَا لِرَحْمَةِ الْمَيِّتِ ؛ فَإِنَّ الْفُضَيْل بْنَ عِيَاضٍ لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ عَلِيٌّ فَضَحِكَ وَقَالَ : رَأَيْت أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى فَأَحْبَبْت أَنْ أَرْضَى بِمَا قَضَى اللَّهُ بِهِ : حَالُهُ حَالٌ حَسَنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْجَزَعِ . وَأَمَّا رَحْمَةُ الْمَيِّتِ مَعَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَحَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى كَحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا أَكْمَلُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ التواصي بِالصَّبْرِ وَالْمَرْحَمَةِ . وَالنَّاسُ " أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ " : مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِيهِ صَبْرٌ بِقَسْوَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِيهِ رَحْمَةٌ بِجَزَعِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِيهِ الْقَسْوَةُ وَالْجَزَعُ . وَالْمُؤْمِنُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ وَيَرْحَمُ النَّاسَ . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الرِّضَا عَنْ اللَّهِ مِنْ تَوَابِعِ الْمَحَبَّةِ لَهُ وَهَذَا إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى " الْمَأْخَذِ الْأَوَّلِ " وَهُوَ الرِّضَا عَنْهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مَعَ قَطْعِ الْعَبْدِ النَّظَرَ عَنْ حَظِّهِ بِخِلَافِ " الْمَأْخَذِ الثَّانِي " وَهُوَ الرِّضَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْمَقْضِيَّ خَيْرٌ لَهُ ثُمَّ إنَّ الْمَحَبَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ وَالرِّضَا مُتَعَلِّقٌ بِقَضَائِهِ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ مَا قَالَ هَذَا الْمُصَنِّفُ وَنَحْوُهُ . إنَّ الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ نَوْعَانِ :
مَحَبَّةٌ
لَهُ نَفْسِهِ وَمَحَبَّةٌ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِحْسَانِ وَكَذَلِكَ
الْحَمْدُ لَهُ نَوْعَانِ : حَمْدٌ لَهُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ نَفْسُهُ
وَحَمْدٌ عَلَى إحْسَانِهِ إلَى عَبْدِهِ فَالنَّوْعَانِ لِلرِّضَا
كَالنَّوْعَيْنِ لِلْمَحَبَّةِ . وَأَمَّا الرِّضَا بِهِ وَبِدِينِهِ
وَبِرَسُولِهِ فَذَلِكَ مِنْ حَظِّ الْمَحَبَّةِ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ كَمَا ذَكَرَ فِي
الْمَحَبَّةِ وُجُودَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ . وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ
الصَّحِيحَانِ هُمَا أَصْلٌ فِيمَا يُذْكَرُ مِنْ الْوَجْدِ وَالذَّوْقِ
الْإِيمَانِيِّ الشَّرْعِيِّ ؛ دُونَ الضلالي الْبِدْعِيِّ . فَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا
وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ
حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا
سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ
كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ
كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } وَهَذَا مِمَّا يَبِينُ مِنْ
الْكَلَامِ عَلَى الْمَحَبَّةِ فَنَقُولُ .
فَصْلٌ :
مَحَبَّةُ اللَّهِ بَلْ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ
الْإِيمَانِ وَأَكْبَرِ أُصُولِهِ وَأَجَلِّ قَوَاعِدِهِ ؛ بَلْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ
عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ كَمَا أَنَّ
التَّصْدِيقَ بِهِ أَصْلُ كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْوُجُودِ إنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ مَحَبَّةٍ : إمَّا عَنْ مَحَبَّةٍ مَحْمُودَةٍ أَوْ عَنْ مَحَبَّةٍ مَذْمُومَةٍ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " قَاعِدَةِ الْمَحَبَّةِ " مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ . فَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ . وَأَصْلُ الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ هِيَ مَحَبَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذْ الْعَمَلُ الصَّادِرُ عَنْ مَحَبَّةٍ مَذْمُومَةٍ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَكُونُ عَمَلًا صَالِحًا بَلْ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا فَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ { الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ : الْقَارِئُ الْمُرَائِي وَالْمُجَاهِدُ الْمُرَائِي وَالْمُتَصَدِّقُ الْمُرَائِي } . بَلْ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ هُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ سِوَاهُ وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الرُّسُلِ وَأَنْزَلَ بِهِ جَمِيعَ الْكُتُبِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَهَذَا هُوَ خُلَاصَةُ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ . قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وَالسُّورَةُ كُلُّهَا عَامَّتُهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى . كَقَوْلِهِ : { قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } إلَى قَوْلِهِ :
{ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } إلَى قَوْلِهِ : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } الْآيَةَ . إلَى قَوْلِهِ : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } ؟ { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } إلَى قَوْلِهِ { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا قَصَّهُ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَقَالَ : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَاءَهُ إنَّمَا هُوَ لِغَيْرِ الْمُخْلَصِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَأَتْبَاعُ الشَّيْطَانِ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ وَلِهَذَا خَصَّصَ الشِّرْكَ وَقَيَّدَ مَا
سِوَاهُ بِالْمَشِيئَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ وَمَا دُونَهُ يَغْفِرُهُ لِمَنْ يَشَاءُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } فَتِلْكَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ ؛ وَلِهَذَا عَمَّ وَأَطْلَقَ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَعَ سَبَبِ نُزُولِهَا . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ والآخرين إنَّمَا أُمِرُوا بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَالسُّورَةِ الَّتِي قَرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أبي لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ إبْلَاغٍ وَإِسْمَاعٍ بِخُصُوصِهِ فَقَالَ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } الْآيَةَ . وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَبِذَلِكَ بَعَثَ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَجَمِيعُ الرُّسُلِ افْتَتَحُوا دَعْوَتَهُمْ بِهَذَا الْأَصْلِ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَكَذَلِكَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَغَيْرُهُمْ كُلٌّ يَقُولُ : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } لَا سِيَّمَا أَفْضَلُ
الرُّسُلِ الَّذِينَ اتَّخَذَ اللَّهُ كِلَاهُمَا خَلِيلًا إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ بَيَّنَهُ اللَّهُ بِهِمَا وَأَيَّدَهُمَا فِيهِ وَنَشَرَهُ بِهِمَا فَإِبْرَاهِيمُ هُوَ الْإِمَامُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا } وَفِي ذُرِّيَّتِهِ جُعِلَ النُّبُوَّةُ وَالْكِتَابُ وَالرُّسُلُ فَأَهْلُ هَذِهِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ هُمْ مِنْ آلِهِ الَّذِينَ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } . فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ هِيَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَهِيَ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ إلَّا مِنْ الْخَالِقِ الَّذِي فَطَرَنَا كَمَا قَالَ صَاحِبُ يس : { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } { إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يُبَيِّنُ ضَلَالَ مَنْ اتَّخَذَ بَعْضَ الْكَوَاكِبِ رَبًّا يَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ : { فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ { وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } وَقَالَ تَعَالَى { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا
لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } الْآيَةَ . وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَقَامَ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ الْخَالِصَ لِلَّهِ دِينَ التَّوْحِيدِ وَقَمَعَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا فِي الْأَصْلِ وَمِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ { بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلتَّوْحِيدِ . وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } إلَى قَوْلِهِ { إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } { وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } { بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ } { فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ } إلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْأَصْلُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَالنُّورِ وَآلِ طسم ،
وَآلِ حم وَآلِ الر وَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَمَوَاضِعَ مِنْ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كَثِيرٌ ظَاهِرٌ فَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ وَقَاعِدَةُ الدِّينِ حَتَّى فِي سُورَتَيْ الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَهَاتَانِ السُّورَتَانِ . كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَسُنَّةِ الْفَجْرِ وَهُمَا مُتَضَمِّنَتَانِ لِلتَّوْحِيدِ . فَأَمَّا ( { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ الْإِرَادِيِّ وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ مَشَايِخُ التَّصَوُّفِ غَالِبًا . وَأَمَّا سُورَةُ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ } أَحَدٌ فَمُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّوْحِيدِ الْقَوْلِيِّ الْعَمَلِيِّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقْرَأُ : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي صَلَاتِهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلُوهُ لِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ } . وَلِهَذَا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي يَنْفِي قَوْلَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَقَوْلِ أَهْلِ التَّمْثِيلِ مَا صَارَتْ بِهِ هِيَ الْأَصْلَ الْمُعْتَمَدَ فِي مَسَائِلِ الذَّاتِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَذَكَرْنَا اعْتِمَادَ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهَا مَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ كَمَا جَاءَ تَفْسِيرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ " التَّوْحِيدُ الْعَمَلِيُّ " وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَإِنْ
كَانَ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مُرْتَبِطًا بِالْآخَرِ . فَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّة وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ إلَّا وَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ الْعَمَلِيِّ إذْ أَصْلُ قَوْلِهِمْ فِيهِ شِرْكٌ وَتَسْوِيَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومَاتِ كَمَا يُسَوِّي الْمُعَطِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومَاتِ فِي الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تَسْتَلْزِمُ مَدْحًا وَلَا ثُبُوتَ كَمَالٍ أَوْ يُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاقِصِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ وَكَمَا يُسَوُّونَ إذَا أَثْبَتُوا هُمْ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ الْمُمَثِّلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي حَقَائِقِهَا حَتَّى قَدْ يَعْبُدُونَهَا فَيَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمْ وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا وَيُسَوُّونَ الْمَخْلُوقَاتِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَالْيَهُودُ كَثِيرًا مَا يَعْدِلُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ وَيُمَثِّلُونَهُ بِهِ حَتَّى يَصِفُوا اللَّهَ بِالْعَجْزِ وَالْفَقْرِ وَالْبُخْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النَّقَائِصِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهَا وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ وَالنَّصَارَى كَثِيرًا مَا يَعْدِلُونَ الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ حَتَّى يَجْعَلُوا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ نُعُوتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَيُجَوِّزُونَ لَهُ مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَفِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ
دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ } وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْعَمَلِ الدِّينِيِّ هُوَ إخْلَاصَ الدِّينِ لِلَّهِ وَهُوَ إرَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ فَالشَّيْءُ الْمُرَادُ لِنَفْسِهِ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ وَهَذَا كَمَالُ الْمَحَبَّةِ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا جَاءَ الْمَطْلُوبُ مُسَمًّى بِاسْمِ الْعِبَادَةِ كَقَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وَأَمْثَالُ هَذَا وَالْعِبَادَةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ وَنِهَايَتَهُ وَكَمَالَ الذُّلِّ وَنِهَايَتَهُ ؛ فَالْمَحْبُوبُ الَّذِي لَا يُعَظَّمُ وَلَا يُذَلُّ لَهُ لَا يَكُونُ مَعْبُودًا وَالْمُعَظَّمُ الَّذِي لَا يُحَبُّ لَا يَكُونُ مَعْبُودًا ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا وَإِنْ كَانُوا يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ فَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ لِلَّهِ وَلِأَوْثَانِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَالْحُبُّ يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلُوا جَمِيعَ حُبِّهِمْ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَأُولَئِكَ جَعَلُوا بَعْضَ حُبِّهِمْ لِغَيْرِهِ وَأَشْرَكُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَادِ فِي الْحُبِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ . قَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } وَاسْمُ الْمَحَبَّةِ فِيهِ إطْلَاقٌ وَعُمُومٌ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ اللَّهَ وَيُحِبُّ رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ الَّتِي لِلَّهِ
لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ ؛ وَلِهَذَا جَاءَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَذْكُورَةً بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّبَتُّلِ لَهُ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَكُلُّ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ تَتَضَمَّنُ مَحَبَّةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ إنَّهُ كَمَا بَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّتَهُ أَصْلُ الدِّينِ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ بِكَمَالِهَا وَنَقْصَهُ بِنَقْصِهَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْجِهَادَ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْعَمَلِ وَهُوَ أَعْلَاهُ وَأَشْرَفُهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { أَجْرٌ عَظِيمٌ } وَالنُّصُوصُ فِي فَضَائِلِ الْجِهَادِ وَأَهْلِهِ كَثِيرَةٌ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْعَبْدُ . وَالْجِهَادُ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ الْكَامِلَةِ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } فَوَصَفَ الْمَحْبُوبِينَ الْمُحِبِّينَ بِأَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ .
فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْجِهَادِ لِأَنَّ الْمُحِبَّ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ مَحْبُوبُهُ وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُ مَحْبُوبُهُ وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِيهِ وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِيهِ ؛ وَيَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فِي ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَرْضَى الرَّبُّ لِرِضَاهُمْ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ إذْ هُمْ إنَّمَا يَرْضَوْنَ لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُونَ لِمَا يَغْضَبُ لَهُ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي طَائِفَةٍ فِيهِمْ صهيب وَبِلَالٌ : لَعَلَّك أَغْضَبْتهمْ لَئِنْ كُنْت أَغْضَبْتهمْ لَقَدْ أَغْضَبْت رَبَّك . فَقَالَ لَهُمْ : يَا إخْوَتِي هَلْ أَغْضَبْتُكُمْ قَالُوا لَا ؛ يَغْفِرُ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ } وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالُوا : مَا أَخَذَتْ السُّيُوفُ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ : أَتَقُولُونَ هَذَا لِسَيِّدِ قُرَيْشٍ ؟ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ غَضَبًا لِلَّهِ لِكَمَالِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُوَالَاةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُعَادَاةِ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ؛ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ؛ وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ؛ فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ : وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ : يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ تَعَارُضُ إرَادَتَيْنِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ عَبْدُهُ
وَيَكْرَهُ
مَا يَكْرَهُهُ وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ فَهُوَ يَكْرَهُهُ كَمَا قَالَ وَأَنَا
أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَضَى بِالْمَوْتِ فَهُوَ يُرِيدُ
أَنْ يَمُوتَ فَسَمَّى ذَلِكَ تَرَدُّدًا ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ
وُقُوعِ ذَلِكَ . وَهَذَا اتِّفَاقٌ وَاتِّحَادٌ فِي الْمَحْبُوبِ الْمَرْضِيِّ
الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمُبْغِضِ الْمَكْرُوهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَقَدْ
يُقَالُ لَهُ اتِّحَادٌ نَوْعِيٌّ وَصْفِيٌّ وَلَيْسَ ذَلِكَ اتِّحَادُ
الذَّاتَيْنِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ وَالْقَائِلُ بِهِ كَافِرٌ
وَهُوَ قَوْلُ النَّصَارَى وَالْغَالِيَةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالنُّسَّاكِ
كَالْحَلَّاجِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَهُوَ " الِاتِّحَادُ الْمُقَيَّدُ "
فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ .
وَأَمَّا " الِاتِّحَادُ الْمُطْلَقُ " الَّذِي هُوَ قَوْلُ أَهْلِ
وَحْدَةِ الْوُجُودِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ
عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ فَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلصَّانِعِ وَجُحُودٌ لَهُ وَهُوَ
جَامِعٌ لِكُلِّ شِرْكٍ ؛ فَكَمَا أَنَّ الِاتِّحَادَ نَوْعَانِ فَكَذَلِكَ
الْحُلُولُ نَوْعَانِ : قَوْمٌ يَقُولُونَ : بِالْحُلُولِ الْمُقَيَّدِ فِي بَعْضِ
الْأَشْخَاصِ وَقَوْمٌ يَقُولُونَ : بِحُلُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَهُمْ
الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ ذَاتَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ .
وَقَدْ يَقَعُ لِبَعْضِ المصطلمين مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ أَنْ
يَغِيبَ بِمَحْبُوبِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَحُبِّهِ ؛ وَيَغِيبَ بِمَذْكُورِهِ عَنْ
ذِكْرِهِ ؛ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ ؛
حَتَّى لَا يَشْهَدَ إلَّا مَحْبُوبَهُ فَيَظُنُّ فِي زَوَالِ تَمْيِيزِهِ
وَنَقْصِ عَقْلِهِ وَسُكْرِهِ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ . كَمَا قِيلَ : إنْ
مَحْبُوبًا وَقَعَ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ
أَنَا وَقَعْت فَأَنْتَ مَا الَّذِي أَوْقَعَك ؟ فَقَالَ غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ وَضَلَالٌ . لَكِنْ إنْ كَانَ هَذَا لِقُوَّةِ الْمَحَبَّةِ وَالذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ عَنْ سَبَبٍ مَحْظُورٍ زَالَ بِهِ عَقْلُهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي زَوَالِ عَقْلِهِ ؛ فَلَا يَكُونُ مُؤَاخِذًا بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي زَالَ فِيهَا عَقْلُهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ مَحْظُورٍ ؛ كَمَا قِيلَ فِي عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ : إنَّهُمْ قَوْمٌ آتَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَأَبْقَى أَحْوَالَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ زَوَالُ الْعَقْلِ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ مَشْهُورًا . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا ؛ وَفِيمَنْ يُسَلِّمُ لَهُ حَالَهُ وَمَنْ لَا يُسَلِّمُ فِي " قَاعِدَةِ " ذَلِكَ . وَبِكُلِّ حَالٍ ؛ فَالْفَنَاءُ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى مِثْلِ هَذَا حَالٌ نَاقِصٌ ؛ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ مِثْلُ هَذَا عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا عَنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ وَإِنْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ فِي صَعْقِ مُوسَى نَوْعُ تَعَلُّقٍ وَإِنَّمَا حَدَثَ زَوَالُ الْعَقْلِ عِنْدَ الْوَارِدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى بَعْضِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ مُسْتَلْزِمَةً لِمُوَافَقَةِ الْمَحْبُوبِ فِي مَحْبُوبِهِ وَمَكْرُوهِهِ وَوِلَايَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ
أَحَبَّ
اللَّهَ الْمَحَبَّةَ الْوَاجِبَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَ أَعْدَاءَهُ وَلَا
بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ مِنْ جِهَادِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ
بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } . وَالْمُحِبُّ التَّامُّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَوْمُ
اللَّائِمِ وَعَذَلُ الْعَاذِلِ بَلْ ذَلِكَ يُغْرِيهِ بِمُلَازَمَةِ الْمَحَبَّةِ
كَمَا قَدْ قَالَ أَكْثَرُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ
الْمَلَامِ الْمَحْمُودِ وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ مَنْ يَلُومُهُمْ عَلَى
مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ جِهَادِ أَعْدَائِهِ . فَإِنَّ الْمُلَامَ
عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَأَمَّا الْمُلَامُ عَلَى فِعْلِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ
أَوْ تَرْكِ مَا أَحَبَّهُ فَهُوَ لَوْمٌ بِحَقِّ وَلَيْسَ مِنْ الْمَحْمُودِ
الصَّبْرُ عَلَى هَذَا الْمَلَامِ بَلْ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ
التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ . وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ "
الملامية " الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا
يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ " الملامية "
الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى
الْمَلَامِ فِي ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَإِذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ أَصْلَ كُلِّ عَمَلٍ دِينِيٍّ فَالْخَوْفُ
وَالرَّجَاءُ وَغَيْرُهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْمَحَبَّةَ وَيَرْجِعُ إلَيْهَا
فَإِنَّ الرَّاجِيَ الطَّامِعَ إنَّمَا يَطْمَعُ فِيمَا يُحِبُّهُ لَا فِيمَا
يُبْغِضُهُ . وَالْخَائِفُ يَفِرُّ مِنْ الْخَوْفِ لِيَنَالَ الْمَحْبُوبَ . قَالَ
تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } الْآيَةَ . وَقَالَ { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } . وَ " رَحْمَتُهُ " اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ . " وَعَذَابُهُ " اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَرٍّ . وَدَارُ الرَّحْمَةِ الْخَالِصَةِ هِيَ الْجَنَّةُ وَدَارُ الْعَذَابِ الْخَالِصِ هِيَ النَّارُ وَأَمَّا الدُّنْيَا فَدَارُ امْتِزَاجٍ فَالرَّجَاءُ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَالْجَنَّةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ نَعِيمٍ وَأَعْلَاهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللَّهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ . يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه . فَيَقُولُونَ : مَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُنْجِينَا مِنْ النَّارِ ؟ قَالَ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ } وَهُوَ الزِّيَادَةُ . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ زَوَالُ الِاشْتِبَاهِ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ : مَا عَبَدْتُك شَوْقًا إلَى جَنَّتِك وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِك ؛ وَإِنَّمَا عَبَدْتُك شَوْقًا إلَى رُؤْيَتِك فَإِنَّ هَذَا الْقَائِلَ ظَنَّ هُوَ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا إلَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَاللِّبَاسُ وَالنِّكَاحُ وَالسَّمَاعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ التَّمَتُّعُ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ يُنْكِرُ رُؤْيَةَ اللَّهِ مِنْ الْجَهْمِيَّة أَوْ مَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لَا تَمَتُّعَ بِنَفْسِ رُؤْيَةِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ . فَهَؤُلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْجَنَّةِ وَالْآخِرَةِ
لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا التَّمَتُّعُ بِالْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَنْ غَلِطَ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } قَالَ فَأَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللَّهَ وَقَالَ آخَرُ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } قَالَ إذَا كَانَتْ النُّفُوسُ وَالْأَمْوَالُ بِالْجَنَّةِ فَأَيْنَ النَّظَرُ إلَيْهِ وَكُلُّ هَذَا لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا النَّظَرُ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الدَّارُ الْجَامِعَةُ لِكُلِّ نَعِيمٍ وَأَعْلَى مَا فِيهَا النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ النَّعِيمِ الَّذِي يَنَالُونَهُ فِي الْجَنَّةِ ؛ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ النُّصُوصُ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ فَإِنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْ رَبِّهِمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ مَعَ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ إذَا كَانَ عَارِفًا بِمَا يَقُولُ فَإِنَّمَا قَصْدُهُ أَنَّك لَوْ لَمْ تَخْلُقْ نَارًا أَوْ لَوْ لَمْ تَخْلُقْ جَنَّةً لَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَعْبُدَ وَيَجِبُ التَّقَرُّبُ إلَيْك وَالنَّظَرُ إلَيْك وَمَقْصُودُهُ بِالْجَنَّةِ هُنَا مِمَّا يَتَمَتَّعُ فِيهِ الْمَخْلُوقُ . وَأَمَّا عَمَلُ الْحَيِّ بِغَيْرِ حُبٍّ وَلَا إرَادَةٍ أَصْلًا فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَإِنْ تَخَيَّلَهُ بَعْضُ الغالطين مِنْ النُّسَّاكِ وَظَنَّ أَنَّ كَمَالَ الْعَبْدِ أَنْ لَا تَبْقَى لَهُ إرَادَةٌ أَصْلًا فَذَاكَ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي حَالِ الْفَنَاءِ وَالْفَانِي - الَّذِي يَشْتَغِلُ بِمَحْبُوبِهِ - لَهُ إرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُ بِهَا فَوُجُودُ الْمَحَبَّةِ شَيْءٌ وَالْإِرَادَةُ شَيْءٌ وَالشُّعُورُ بِهَا شَيْءٌ آخَرُ . فَلَمَّا لَمْ يَشْعُرُوا بِهَا ظَنُّوا انْتِفَاءَهَا وَهُوَ غَلَطٌ ؛ فَالْعَبْدُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَحَرَّكَ قَطُّ إلَّا عَنْ حُبٍّ وَبُغْضٍ وَإِرَادَةٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } فَكُلُّ إنْسَانٍ لَهُ حَرْثٌ وَهُوَ الْعَمَلُ وَلَهُ هَمٌّ وَهُوَ أَصْلُ
الْإِرَادَةِ وَلَكِنْ تَارَةً يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَا يَدْعُوهُ إلَى طَاعَتِهِ وَمِنْ إجْلَالِهِ وَالْحَيَاءِ مِنْهُ مَا يَنْهَاهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِعْمَ الْعَبْدُ صهيب لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ أَيْ هُوَ لَمْ يَعْصِهِ وَلَوْ لَمْ يَخَفْهُ فَكَيْفَ إذَا خَافَهُ فَإِنَّ إجْلَالَهُ وَإِكْرَامَهُ لِلَّهِ يَمْنَعُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ . فَالرَّاجِي الْخَائِفُ إذَا تَعَلَّقَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ بِالتَّعَذُّبِ بِاحْتِجَابِ الرَّبِّ عَنْهُ وَالتَّنَعُّمِ بِتَجَلِّيهِ لَهُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ مَحَبَّتِهِ لَهُ فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ مَحَبَّةَ التَّجَلِّي وَالْخَوْفِ مِنْ الِاحْتِجَابِ وَإِنْ تَعَلَّقَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ بِالتَّعَذُّبِ بِمَخْلُوقِ وَالتَّنَعُّمِ بِهِ فَهَذَا إنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ مَحَبَّتَهُ ثُمَّ إذَا وَجَدَ حَلَاوَةَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَجَدَهَا أَحْلَى مِنْ كُلِّ مَحَبَّةٍ ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ اشْتِغَالُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ { إنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ } وَهُوَ يُبَيِّنُ غَايَةَ تَنَعُّمِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ . فَالْخَوْفُ مِنْ التَّعَذُّبِ بِمَخْلُوقِ وَالرَّجَاءُ لَهُ يَسُوقُهُ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ . وَهَذَا كُلُّهُ يَنْبَنِي عَلَى " أَصْلِ الْمَحَبَّةِ " فَيُقَالُ قَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِذِكْرِ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وقَوْله تَعَالَى { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وقَوْله تَعَالَى { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } . وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ }
بَلْ مَحَبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَكَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ : لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك فَقَالَ وَاَللَّهِ لِأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ : الْآنَ يَا عُمَرُ } وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ صَحَابَتِهِ وَقَرَابَتِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ } وَقَالَ : { لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " إنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ إلَيَّ أَنَّهُ لَا يُحِبُّنِي إلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُنِي إلَّا مُنَافِقٌ " وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ { قَالَ لِلْعَبَّاسِ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي } يَعْنِي بَنِي هَاشِمٍ . وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ : { أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مَنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِأَجْلِي } وَأَمَّا مَحَبَّةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعَبْدِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } { وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى
مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَكَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَكَذَلِكَ حُبُّهُ لِأَهْلِهَا وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ . وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ حَقٌّ كَمَا نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَجَمِيعُ مَشَايِخِ الدِّينِ الْمُتَّبَعُونَ وَأَئِمَّةُ التَّصَوُّفِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ مَحَبَّةً حَقِيقِيَّةً ؛ بَلْ هِيَ أَكْمَلُ مَحَبَّةٍ فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مَحَبَّةً حَقِيقِيَّةً . وَأَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ وَأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ أَمِيرُ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بواسط . خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلْ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ
مُوسَى
تَكْلِيمًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَكَانَ قَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْهُ
الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَأَظْهَرَهُ وَنَاظَرَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أُضِيفَ
قَوْلُ الْجَهْمِيَّة فَقَتَلَهُ سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ أَمِيرُ خُرَاسَانَ بِهَا
ثُمَّ انْتَقَلَ ذَلِكَ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَتْبَاعِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ
وَظَهَرَ قَوْلُهُمْ أَثْنَاءَ خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ حَتَّى امْتَحَنَ أَئِمَّةَ
الْإِسْلَامِ وَدَعَوْا إلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ . وَأَصْلُ
قَوْلِهِمْ هَذَا مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئَةِ مِنْ البراهمة
والمتفلسفة وَمُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ
الرَّبَّ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ أَصْلًا وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَعْدَاءُ
إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ
وَيَبْنُونَ الْهَيَاكِلَ لِلْعُقُولِ وَالنُّجُومِ وَغَيْرِهَا وَهُمْ
يُنْكِرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْ يَكُونَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلًا وَمُوسَى
كَلِيمًا لِأَنَّ الْخُلَّةَ هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ
لِلْمُحِبِّ كَمَا قِيلَ :
قَدْ تَخَلَّلْت مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي * * * وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ
خَلِيلًا
وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ
أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ
صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ } - يَعْنِي نَفْسَهُ - . وَفِي رِوَايَةٍ : { إنِّي
أَبْرَأُ إلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ
الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا } وَفِي رِوَايَةٍ : {
إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا } فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ خَلِيلًا وَأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُحِبُّ أَشْخَاصًا كَمَا { قَالَ لِمُعَاذِ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّكَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِلْأَنْصَارِ . وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حِبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ ابْنُهُ أُسَامَةُ حِبُّهُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . { وَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ العاص : أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : عَائِشَةُ قَالَ فَمِنْ الرِّجَالِ . قَالَ أَبُوهَا } . { وَقَالَ لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ ؟ قَالَتْ : بَلَى قَالَ : فَأَحِبِّي عَائِشَةَ } . { وَقَالَ لِلْحَسَنِ : اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ } وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ . فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِمَحَبَّةِ أَشْخَاصٍ وَقَالَ : { إنِّي أَبْرَأُ إلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا } فَعُلِمَ أَنَّ الْخُلَّةَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ بِحَيْثُ هِيَ مِنْ كَمَالِهَا وَتَخَلَّلَهَا الْمُحِبُّ حَتَّى يَكُونَ الْمَحْبُوبُ بِهَا مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ لَا لِشَيْءِ آخَرَ . إذْ الْمَحْبُوبُ لِشَيْءِ غَيْرِهِ هُوَ مُؤَخَّرٌ فِي الْحُبِّ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَمِنْ كَمَالِهَا لَا تَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَالْمُزَاحَمَةَ لِتَخَلُّلِهَا الْمُحِبَّ فَفِيهَا كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَكَمَالُ الْحُبِّ . فَالْخُلَّةُ تُنَافِي الْمُزَاحَمَةَ وَتُقَدِّمُ الْغَيْرَ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَحْبُوبُ مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ
مَحَبَّةً لَا يُزَاحِمُهُ فِيهَا غَيْرُهُ وَهَذِهِ مَحَبَّةٌ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَكَهُ غَيْرُهُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا يُحَبُّ غَيْرَهُ - إذَا كَانَ مَحْبُوبًا بِحَقِّ - فَإِنَّمَا يُحَبُّ لِأَجْلِهِ وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِهِ فَمَحَبَّتُهُ بَاطِلَةٌ فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى . وَإِذَا كَانَتْ الْخُلَّةُ كَذَلِكَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ يُنْكِرُ مخاللته . وَكَذَلِكَ أَيْضًا إنْ أَنْكَرَ مَحَبَّتَهُ لِأَحَدِ مِنْ عِبَادِهِ فَهُوَ يُنْكِرُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلِيلًا بِحَيْثُ يُحِبُّ الرَّبَّ وَيُحِبُّهُ الْعَبْدُ عَلَى أَكْمَلِ مَا يَصْلُحُ لِلْعِبَادِ . وَكَذَلِكَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى أَنْكَرُوهُ لِإِنْكَارِهِمْ أَنْ تَقُومَ بِهِ صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ أَوْ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ فَكَمَا يُنْكِرُونَ أَنْ يَتَّصِفَ بِحَيَاةِ أَوْ قُدْرَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ أَنْ يَسْتَوِيَ أَوْ أَنْ يَجِيءَ فَكَذَلِكَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يُكَلِّمَ فَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ . { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } . لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ ظَاهِرًا وَالْقُرْآنُ مَتْلُوًّا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ أَخَذُوا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَتَأَوَّلُوا مَحَبَّةَ الْعِبَادِ لَهُ بِمُجَرَّدِ مَحَبَّتِهِمْ لِطَاعَتِهِ أَوْ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمُتَقَرِّبِ إلَى الْمُتَقَرَّبِ إلَيْهِ تَابِعٌ لِمَحَبَّتِهِ وَفَرْعٌ عَلَيْهِ فَمَنْ لَا يُحِبُّ الشَّيْءَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِبَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ إذْ التَّقَرُّبُ وَسِيلَةٌ وَمَحَبَّةُ الْوَسِيلَةِ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ الْمَقْصُودِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ هِيَ الْمَحْبُوبَ دُونَ الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ بِالْوَسِيلَةِ .
وَكَذَلِكَ
" الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ " إذَا قِيلَ فِي الْمُطَاعِ الْمَعْبُودِ
: إنَّ هَذَا يُحِبُّ طَاعَتَهُ وَعِبَادَتَهُ فَإِنَّ مَحَبَّتَهُ ذَلِكَ تَبَعٌ
لِمَحَبَّتِهِ وَإِلَّا فَمَنْ لَا يُحِبُّ لَا يُحِبُّ طَاعَتَهُ وَعِبَادَتَهُ
وَمَنْ كَانَ لَا يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ إلَّا لِعِوَضِ يَنَالُهُ مِنْهُ أَوْ
لِدَفْعِ عُقُوبَةٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعَاوِضًا لَهُ أَوْ مُفْتَدِيًا مِنْهُ
لَا يَكُونُ مُحِبًّا لَهُ . وَلَا يُقَالُ إنَّ هَذَا يُحِبُّهُ وَيُفَسِّرُ
ذَلِكَ بِمَحَبَّةِ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمَقْصُودِ
وَإِنْ اسْتَلْزَمَتْ مَحَبَّةَ الْوَسِيلَةِ أَوْ غَيْرَ مَحَبَّةِ الْوَسِيلَةِ
فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يُعَبِّرَ بِلَفْظَيْنِ مَحَبَّةِ الْعِوَضِ
وَالسَّلَامَةِ عَنْ مَحَبَّةِ الْعَمَلِ . أَمَّا مَحَبَّةُ اللَّهِ فَلَا
تَعَلُّقَ لَهَا بِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ الْعِوَضِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ
اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِعِوَضِ لَا يُقَالُ إنَّ الْأَجِيرَ يُحِبُّهُ بِمُجَرَّدِ
ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَسْتَأْجِرُ الرَّجُلُ مَنْ لَا يُحِبُّهُ بِحَالِ بَلْ مَنْ
يُبْغِضُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ افْتَدَى نَفْسَهُ بِعَمَلِ مِنْ عَذَابِ مُعَذَّبٍ
لَا يُقَالُ إنَّهُ يُحِبُّهُ بَلْ يَكُونُ مُبْغِضًا لَهُ . فَعُلِمَ أَنَّ مَا
وَصَفَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُ
يَمْتَنِعُ أَلَّا يَكُونَ مَعْنَاهُ إلَّا مُجَرَّدَ مَحَبَّةِ الْعَمَلِ الَّذِي
يَنَالُونَ بِهِ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ
رَبُّهُمْ مَحْبُوبًا أَصْلًا .
وَأَيْضًا فَلَفْظُ " الْعِبَادَةِ " مُتَضَمِّنٌ لِلْمَحَبَّةِ مَعَ
الذُّلِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ الْقَلْبِ لِلْبَشَرِ عَلَى
طَبَقَاتٍ . أَحَدُهَا : " الْعَلَاقَةُ " وَهُوَ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ
بِالْمَحْبُوبِ . ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " وَهُوَ انْصِبَابُ الْقَلْبِ
إلَيْهِ . ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ . ثُمَّ
" الْعِشْقُ " وَآخِرُ
الْمَرَاتِبِ هُوَ " التتيم " وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلْمَحْبُوبِ وَالْمُتَيَّمُ الْمَعْبُودُ وَتَيْمُ اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَبْقَى ذَاكِرًا مُعَبَّدًا مُذَلَّلًا لِمَحْبُوبِهِ . وَ ( أَيْضًا فَاسْمُ الْإِنَابَةِ إلَيْهِ يَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ أَيْضًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَ ( أَيْضًا فَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ حَقًّا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ مَجَازًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ ؛ فَالْمَجَازُ لَا يُطْلَقُ إلَّا بِقَرِينَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ . وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَحْبُوبًا وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَحْبُوبُ إلَّا الْأَعْمَالَ لَا فِي الدَّلَالَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَلَا الْمُنْفَصِلَةِ بَلْ وَلَا فِي الْعَقْلِ أَيْضًا وَ ( أَيْضًا فَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ صِحَّةُ إطْلَاقِ نَفْيِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ كَمَا أَطْلَقَ إمَامُهُمْ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلِمَ دَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَجَازًا بَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ . وَ أَيْضًا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ الْعَمَلِ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَحَبَّتِهِ لَيْسَ إلَّا مَحَبَّةَ الْعَمَلِ لَكَانَ هَذَا تَكْرِيرًا أَوْ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةِ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ . وَكَمَا أَنَّ
مَحَبَّتَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُفَسَّرَ بِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ رَسُولِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهَا بِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ الْعَمَلِ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ تَسْتَلْزِمُ مَحَبَّةَ رَسُولِهِ وَمَحَبَّةَ الْعَمَلِ لَهُ . وَأَيْضًا فَالتَّعْبِيرُ بِمَحَبَّةِ الشَّيْءِ عَنْ مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ لَا عَنْ مَحَبَّةِ نَفْسِهِ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ؛ فَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ تَحْرِيفٌ مَحْضٌ أَيْضًا . وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ مَحْبُوبًا مُرَادًا لِذَاتِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ مَوْجُودًا بِذَاتِهِ بَلْ لَا رَبَّ إلَّا اللَّهُ وَلَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ وَيُعَظَّمَ لِذَاتِهِ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ . وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَطَرَ الْقُلُوبَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَحْبُوبَاتِهَا وَمُرَادَاتِهَا مَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَتَنْتَهِي إلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَنَّ كُلَّ مَا أَحَبَّهُ الْمَحْبُوبُ مِنْ مَطْعُومٍ وَمَلْبُوسٍ وَمَنْظُورٍ وَمَسْمُوعٍ وَمَلْمُوسٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ قَلْبَهُ يَطْلُبُ شَيْئًا سِوَاهُ وَيُحِبُّ أَمْرًا غَيْرَهُ يتألهه وَيَصْمُدُ إلَيْهِ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَيَرَى مَا يُشْبِهُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَؤُوا
إنْ
شِئْتُمْ { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } } .
وَأَيْضًا فَكُلُّ مَا فُطِرَتْ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ مِنْ نُعُوتِ
الْكَمَالِ فَاَللَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ وَكُلُّ مَا فِي
غَيْرِهِ مِنْ مَحْبُوبٍ فَهُوَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ
الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُحَبَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْكَمَالِ . وَإِنْكَارُ
مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إنْكَارٌ لِكَوْنِهِ إلَهًا
مَعْبُودًا كَمَا أَنَّ إنْكَارَ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ يَسْتَلْزِمُ إنْكَارَ
مَشِيئَتِهِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إنْكَارَ كَوْنِهِ رَبًّا خَالِقًا فَصَارَ
إنْكَارُهَا مُسْتَلْزِمًا لِإِنْكَارِ كَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ .
وَلِكَوْنِهِ إلَهَ الْعَالَمِينَ . وَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّعْطِيلِ
وَالْجُحُودِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَتْ الْأُمَّتَانِ قَبْلَنَا عَلَى مَا
عِنْدَهُمْ مِنْ مَأْثُورٍ وَحِكَمٍ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ أَنَّ أَعْظَمَ الْوَصَايَا أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ بِكُلِّ
قَلْبِك وَعَقْلِك وَقَصْدِك وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ
إبْرَاهِيمَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ . وَإِنْكَارُ ذَلِكَ هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُشْرِكِينَ
وَالصَّابِئِينَ أَعْدَاءِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى
ذَلِكَ مِنْ مُتَفَلْسِفٍ وَمُتَكَلِّمٍ وَمُتَفَقِّهٍ وَمُبْتَدِعٍ أَخَذَهُ عَنْ
هَؤُلَاءِ ؛ وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ
الإسْماعيليَّة وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ إمَامُ الْحُنَفَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ
الْعَالَمِينَ } وَقَالَ أَيْضًا : { لَا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ } { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وَهُوَ السَّلِيمُ مِنْ الشِّرْكِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : " إنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ تُوجِبُ مَحَبَّتَهُ لَهُ وَتَمَتُّعَهُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ " . فَهَذَا الْكَلَامُ مُجْمَلٌ فَإِنْ أَرَادُوا بِالْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَوَالُدٌ فَهَذَا حَقٌّ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ النَّاكِحِ وَالْمَنْكُوحِ وَالْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحِبًّا عَابِدًا وَالْآخَرُ مَعْبُودًا مَحْبُوبًا فَهَذَا هُوَ رَأْسُ الْمَسْأَلَةِ فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ الْمَنْعُ . ثُمَّ يُقَالُ بَلْ لَا مُنَاسَبَةَ تَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ الْكَامِلَةَ إلَّا الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ . الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ جَحْدُ كَوْنِ اللَّهِ مَعْبُودًا فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا وَافَقَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَوَائِفُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُحِبًّا فِي الْحَقِيقَةِ فَأَقَرُّوا بِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا وَمَنَعُوا كَوْنَهُ مُحِبًّا ؛ لِأَنَّهُمْ تَصَوَّفُوا مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمَةِ فَأَخَذُوا عَنْ الصُّوفِيَّةِ مَذْهَبَهُمْ فِي الْمَحَبَّةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَخْلِطُونَ فِيهِ وَأَصْلُ إنْكَارِهَا إنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة فَأَمَّا مَحَبَّةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ فَهُمْ لَهَا أَشَدُّ إنْكَارًا . وَمُنْكِرُوهَا قِسْمَانِ :
قِسْمٌ
يَتَأَوَّلُونَهَا بِنَفْسِ الْمَفْعُولَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا الْعَبْدُ
فَيَجْعَلُونَ مَحَبَّتَهُ نَفْسَ خَلْقِهِ .
وَقِسْمٌ يَجْعَلُونَهَا نَفْسَ إرَادَتِهِ لِتِلْكَ الْمَفْعُولَاتِ . وَقَدْ
بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي " قَوَاعِدِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ
" وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ وَيَرْضَى مَا أَمَرَ بِفِعْلِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ مَوْجُودًا وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ وُجُودَ أُمُورٍ
يُبْغِضُهَا وَيَسْخَطُهَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ كَالْفِسْقِ
وَالْكُفْرِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ
} وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } . وَالْمَقْصُودُ
هُنَا إنَّمَا هُوَ ذِكْرُ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ لِإِلَهِهِمْ . وَقَدْ تَبَيَّنَ
أَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَصْلُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ
نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ وَكَانُوا يُحَرِّكُونَ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ بِمَا شَرَعَ
اللَّهُ أَنْ تُحَرَّكَ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
كَالْعِرْفَانِ الْإِيمَانِيِّ وَالسَّمَاعِ الْفُرْقَانِيِّ قَالَ تَعَالَى : {
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلَا الْإِيمَانُ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ .
ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا طَالَ الْأَمَدُ صَارَ فِي طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمَةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ . وَصَارَ فِي بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ مَنْ يَطْلُبُ تَحْرِيكَهَا بِأَنْوَاعِ مِنْ سَمَاعِ الْحَدِيثِ كَالتَّغْيِيرِ وَسَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ فَيَسْمَعُونَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَشْعَارِ مَا فِيهِ تَحْرِيكُ جِنْسِ الْحُبِّ الَّذِي يُحَرِّكُ مِنْ كُلِّ قَلْبٍ مَا فِيهِ مِنْ الْحُبِّ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِمُحِبِّ الْأَوْثَانِ وَالصُّلْبَانِ وَالْإِخْوَانِ وَالْأَوْطَانِ والمردان وَالنِّسْوَانِ كَمَا يَصْلُحُ لِمُحِبِّ الرَّحْمَنِ وَلَكِنْ كَانَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَهُ مِنْ الشُّيُوخِ يَشْتَرِطُونَ لَهُ الْمَكَانَ وَالْإِمْكَانَ وَالْخُلَّانَ . وَرُبَّمَا اشْتَرَطُوا لَهُ الشَّيْخَ الَّذِي يَحْرُسُ مِنْ الشَّيْطَانِ ثُمَّ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ حَتَّى خَرَجُوا فِيهِ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَعَاصِي بَلْ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْفُسُوقِ ؛ بَلْ خَرَجَ فِيهِ طَوَائِفُ إلَى الْكُفْرِ الصَّرِيحِ بِحَيْثُ يَتَوَاجَدُونَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْعَارِ الَّتِي فِيهَا الْكُفْرُ وَالْإِلْحَادُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ وَيُنْتِجُ ذَلِكَ لَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ بِحَسْبِهِ كَمَا تُنْتِجُ لِعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عِبَادَاتِهِمْ بِحَسَبِهَا . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ محققوا الْمَشَايِخِ أَنَّهُ كَمَا قَالَ الْجُنَيْد رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ تَكَلَّفَ السَّمَاعَ فُتِنَ بِهِ وَمَنْ صَادَفَهُ السَّمَاعُ اسْتَرَاحَ بِهِ . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الِاجْتِمَاعُ لِهَذَا السَّمَاعِ الْمُحْدَثِ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُتَّخَذُ ذَلِكَ دِينًا وَقُرْبَةً فَإِنَّ الْقُرَبَ وَالْعِبَادَاتِ إنَّمَا تُؤْخَذُ عَنْ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فَكَمَا أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فَجَعَلَ مَحَبَّتَهُمْ لِلَّهِ مُوجِبَةً لِمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ وَجَعَلَ مُتَابَعَةَ رَسُولِهِ مُوجِبَةً لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ قَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ إلَّا تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يتحات الْوَرَقُ الْيَابِسُ عَنْ الشَّجَرَةِ وَمَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إلَّا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ أَبَدًا وَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ ؛ فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ اقْتِصَادًا وَاجْتِهَادًا عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُسْتَحَبُّ وَتَصْلُحُ بِهِ الْقُلُوبُ لِلْمَعْبُودِ الْمَحْبُوبِ لَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَيْهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } لَا فِي الْحِجَازِ وَلَا فِي الشَّامِ وَلَا فِي الْيَمَنِ وَلَا فِي الْعِرَاقِ وَلَا فِي مِصْرَ وَلَا فِي خُرَاسَانَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ يَجْتَمِعُ عَلَى السَّمَاعِ الْمُبْتَدَعِ لِصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَلِهَذَا كَرِهَهُ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ حَتَّى عَدَّهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ حِينَ قَالَ : خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ .
وَأَمَّا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَا نَهْيٌ وَلَا ذَمٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ وَلِهَذَا إنَّمَا يَتَرَتَّبُ الذَّمُّ وَالْمَدْحُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ لَا عَلَى السَّمَاعِ فَالْمُسْتَمِعُ لِلْقُرْآنِ يُثَابُ عَلَيْهِ وَالسَّامِعُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ لَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَكَذَلِكَ مَا يُنْهَى عَنْ اسْتِمَاعِهِ مِنْ الْمَلَاهِي لَوْ سَمِعَهُ السَّامِعُ بِدُونِ قَصْدِهِ لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ فَلَوْ سَمِعَ السَّامِعُ بَيْتًا يُنَاسِبُ بَعْضَ حَالِهِ فَحَرَّكَ سَاكِنَهُ الْمَحْمُودَ وَأَزْعَجَ قَاطِنَهُ الْمَحْبُوبَ أَوْ تَمَثَّلَ بِذَلِكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ وَكَانَ الْمَحْمُودُ الْحَسَنُ حَرَكَةَ قَلْبِهِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَى مَحَبَّتِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَتَرْكَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ كَاَلَّذِي اجْتَازَ بَيْتًا فَسَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ : كُلَّ يَوْمٍ تَتْلُونَ غَيْرَ هَذَا بِك أَجْمَلُ فَأَخَذَ مِنْهُ إشَارَةً تُنَاسِبُ حَالَهُ ؛ فَإِنَّ الْإِشَارَاتِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ . وَمَسْأَلَةُ " السَّمَاعِ " كَبِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ الْمَطْلُوبَةَ لِلْمُرِيدِينَ تَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ الْإِيمَانِيِّ الْقُرْآنِيِّ النَّبَوِيِّ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَسَمَاعُ الْعَالَمِينَ وَسَمَاعُ الْعَارِفِينَ وَسَمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ } إلَى قَوْلِهِ : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } إلَى قَوْلِهِ { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } الْآيَةَ . وَكَمَا مَدَحَ الْمُقْبِلِينَ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ فَقَدْ ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } إلَى قَوْلِهِ { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ
عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَهَذَا كَانَ سَمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَكَابِرِ مَشَايِخِهَا وَأَئِمَّتِهَا كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمَشَايِخِ كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَحُذَيْفَةَ المرعشي وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَيَبْكُونَ . وَكَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُونَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ وَقَالَ لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد وَقَالَ : مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ : لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْتُهُ لَك تَحْبِيرًا } أَيْ لَحَسَّنْته لَك تَحْسِينًا { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } وَقَالَ : { اللَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ } - أَذَنًا أَيْ اسْتِمَاعًا - كَقَوْلِهِ : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } أَيْ اسْتَمَعَتْ { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ مَا أَذِنَ لِنَبِيِّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ } وَقَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } .
وَلِهَذَا
السَّمَاعُ مِنْ الْمَوَاجِيدِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَذْوَاقِ الْكَرِيمَةِ وَمَزِيدِ
الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْجَسِيمَةِ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ خِطَابٌ وَلَا
يَحْوِيهِ كِتَابٌ كَمَا أَنَّ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ مِنْ
مَزِيدِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ بَيَانٌ .
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي
كِتَابِهِ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } الْآيَةَ . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَحَبَّتَهُ
تُوجِبُ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَأَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ يُوجِبُ مَحَبَّةَ
اللَّهِ لِلْعَبْدِ وَهَذِهِ مَحَبَّةٌ امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ دَعْوَى
مَحَبَّةِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ تَكْثُرُ فِيهِ الدَّعَاوَى
وَالِاشْتِبَاهُ ؛ وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ أَنَّهُمْ
تَكَلَّمُوا فِي مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ عِنْدَهُ فَقَالَ : اُسْكُتُوا عَنْ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِئَلَّا تَسْمَعَهَا النُّفُوسُ فَتَدَّعِيَهَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ . فَهُوَ زِنْدِيقٌ
وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حروري وَمَنْ عَبْدَهُ
بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ
وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُبَّ الْمُجَرَّدَ
تَنْبَسِطُ النُّفُوسُ فِيهِ حَتَّى تَتَوَسَّعَ فِي أَهْوَائِهَا إذَا لَمْ
يَزَعْهَا وَازِعُ الْخَشْيَةِ لِلَّهِ حَتَّى قَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى {
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } وَيُوجَدُ فِي مُدَّعِي الْمَحَبَّةِ
مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَلِهَذَا
قَرَنَ الْخَشْيَةَ بِهَا فِي قَوْلِهِ :
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } { ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } . وَكَانَ الْمَشَايِخُ الْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ يَذْكُرُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ مُجَانَبَةَ مَنْ يُكْثِرُ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ وَالْخَوْضِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ خَشْيَةٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَمَا وَقَعَ فِي هَؤُلَاءِ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ وَالْأَعْمَالِ أَوْجَبَ إنْكَارَ طَوَائِفَ لِأَصْلِ طَرِيقَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى صَارَ الْمُنْحَرِفُونَ صِنْفَيْنِ . صِنْفٌ يُقِرُّ بِحَقِّهَا وَبَاطِلِهَا وَصِنْفٌ يُنْكِرُ حَقَّهَا وَبَاطِلَهَا كَمَا عَلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ . وَالصَّوَابُ إنَّمَا هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِنْكَارِ لِمَا فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فَاتِّبَاعُ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا هِيَ مُوجِبُ مَحَبَّةِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ وَمُوَالَاةَ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةَ أَعْدَائِهِ هُوَ حَقِيقَتُهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ }
وَفِي الْحَدِيثِ . { مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ هُوَ أَبْعَدُ مِنْ غَيْرِهِ عَنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَعَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَدَّعِي مَعَ هَذَا أَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ لِطَرِيقِ الْمَحَبَّةِ مِنْ غَيْرِهِ لِزَعْمِهِ أَنَّ طَرِيقَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ لَيْسَ فِيهِ غَيْرَةٌ وَلَا غَضَبٌ لِلَّهِ وَهَذَا خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلِهَذَا فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ . { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي } فَقَوْلُهُ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِ اللَّهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ مَعَ التَّحَابِّ فِيهِ وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ حَافِظِينَ لِحُدُودِهِ دُونَ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَ حُدُودَهُ لِضَعْفِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ { حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ } وَالْأَحَادِيثُ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ كَثِيرَةٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ إمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ
ذَاتُ
مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } .
وَأَصْلُ الْمَحَبَّةِ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَهَا
أَصْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَحَبَّةُ الْعَامَّةِ لِأَجْلِ
إحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا
يُنْكِرُهَا أَحَدٌ فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ
إلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْعِمُ
الْمُحْسِنُ إلَى عَبْدِهِ بِالْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ الْمُتَفَضِّلُ بِجَمِيعِ
النِّعَمِ وَإِنْ جَرَتْ بِوَاسِطَةِ ؛ إذْ هُوَ مُيَسِّرُ الْوَسَائِطِ
وَمُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ إذَا
لَمْ تَجْذِبْ الْقَلْبَ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ نَفْسِهِ فَمَا أَحَبَّ الْعَبْدُ
فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا نَفْسَهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا لِأَجْلِ
إحْسَانِهِ إلَيْهِ فَمَا أَحَبَّ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا نَفْسَهُ . وَهَذَا
لَيْسَ بِمَذْمُومِ بَلْ مَحْمُودٌ . وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الْمُشَارُ
إلَيْهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا
يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا
أَهْلِي بِحُبِّي } وَالْمُقْتَصِرُ عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ هُوَ لَمْ يَعْرِفْ
مِنْ جِهَةِ اللَّهِ مَا يَسْتَوْجِبُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ إلَّا إحْسَانَهُ إلَيْهِ
وَهَذَا كَمَا قَالُوا : إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ عَلَى " نَوْعَيْنِ " :
" حَمْدٌ " هُوَ شُكْرٌ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى نِعْمَتِهِ .
وَ " حَمْدٌ " هُوَ مَدْحٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ وَمَحَبَّةٌ لَهُ وَهُوَ
بِمَا يَسْتَحِقُّهُ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ
فَكَذَلِكَ الْحُبُّ فَإِنَّ الْأَصْلَ الثَّانِيَ فِيهِ هُوَ مَحَبَّتُهُ لِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ وَهَذَا حُبُّ مَنْ عَرَفَ مِنْ اللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِأَجْلِهِ وَمَا مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي يَعْرِفُ اللَّهَ بِهَا مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ إلَّا وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ الْكَامِلَةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ حَتَّى جَمِيعُ مَفْعُولَاتِهِ إذْ كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَهَذَا أَعْلَى وَأَكْمَلُ وَهَذَا حُبُّ الْخَاصَّةِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ الْمَاءِ لِلسَّمَكِ حَتَّى لَوْ انْقَطَعُوا عَنْ ذَلِكَ لَوَجَدُوا مِنْ الْأَلَمِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَهُمْ السَّابِقُونَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَبَلِ يُقَالُ لَهُ : حَمْدَانُ فَقَالَ : سِيرُوا هَذَا حَمْدَانُ سَبَقَ الْمُفْرِدُونَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ الْمُفْرِدُونَ ؟ قَالَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ : { الْمُسْتَهْتَرُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَيَأْتُونَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا } وَالْمُسْتَهْتَرُ بِذِكْرِ اللَّهِ يَتَوَلَّعُ بِهِ يَنْعَمُ بِهِ كَلِفٌ لَا يَفْتُرُ مِنْهُ . وَفِي حَدِيثِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِك أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي قَالَ : أَيُّ عِبَادِك أَعْلَمُ ؟ قَالَ : الَّذِي يَطْلُبُ عِلْمَ النَّاسِ إلَى عِلْمِهِ لِيَجِدَ كَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلَى
هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدِيءٍ قَالَ أَيُّ عِبَادِك أَحْكَمُ ؟ قَالَ : الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا يَحْكُمُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَحْكُمُ لِغَيْرِهِ كَمَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ } فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحُبَّ وَالْعِلْمَ وَالْعَدْلَ وَذَلِكَ جِمَاعُ الْخَيْرِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ فِي بَابِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ فِي مَحَبَّةِ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّجَنِّي وَالْهَجْرِ وَالْقَطِيعَةِ لِغَيْرِ سَبَبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَغْلَطُ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَمَثَّلُونَ فِي حُبِّهِ بِجِنْسِ مَا يَتَمَثَّلُونَ بِهِ فِي حُبِّ مَنْ يَصُدُّ وَيَقْطَعُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ أَوْ يَبْعُدُ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ وَإِنْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ مَنْ غَلِطَ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي رَسَائِلِهِمْ حَتَّى يَكُونَ مَضْمُونُ كَلَامِهِمْ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَى اللَّهِ بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَارَتِي وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُؤَيِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي وَإِنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ } - لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ - { وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ حَتَّى أُطَهِّرَهُمْ مِنْ المعائب } .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } قَالُوا : الظُّلْمُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ وَالْهَضْمُ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِ نَفْسِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ . يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُذْنِبُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْمِخْيَطُ إذَا غُمِسَ فِي الْبَحْرِ يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ :
{ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَنْتَ خَلَقْتنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ . مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ فِي يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } . فَالْعَبْدُ دَائِمًا بَيْنَ نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى شُكْرٍ وَذَنْبٍ مِنْهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الِاسْتِغْفَارِ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ مِنْ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ لِلْعَبْدِ دَائِمًا فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَتَقَلَّبُ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَآلَائِهِ وَلَا يَزَالُ مُحْتَاجًا إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ . وَلِهَذَا كَانَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ : { أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } { وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ } .
وَلِهَذَا شُرِعَ الِاسْتِغْفَارُ فِي خَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ . قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ } وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَحْيُوا اللَّيْلَ بِالصَّلَاةِ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ أُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَأَتَى بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَقَالَ تَعَالَى { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } . { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { يَقُولُ الشَّيْطَانُ أَهْلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ } وَقَدْ قَالَ يُونُسُ { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا رَكِبَ دَابَّتَهُ يَحْمَدُ اللَّهَ ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَكَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ الَّتِي كَانَ يَخْتِمُ بِهَا الْمَجْلِسَ { سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا
مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا
فَصْلٌ :
فِي مَرَضِ الْقُلُوبِ وَشِفَائِهَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ }
وَقَالَ
: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ : { وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } وَقَالَ
تَعَالَى : { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ : { وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا } وَقَالَ : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
} { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } .
وَ " مَرَضُ الْبَدَنِ " خِلَافُ صِحَّتِهِ وَصَلَاحِهِ وَهُوَ فَسَادٌ
يَكُونُ فِيهِ يَفْسُدُ بِهِ إدْرَاكُهُ وَحَرَكَتُهُ الطَّبِيعِيَّةُ
فَإِدْرَاكُهُ إمَّا أَنْ يَذْهَبَ كَالْعَمَى وَالصَّمَمِ . وَإِمَّا أَنْ
يُدْرِكَ الْأَشْيَاءَ عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ كَمَا يُدْرِكُ الْحُلْوَ
مُرًّا وَكَمَا يُخَيِّلُ إلَيْهِ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ .
وَأَمَّا فَسَادُ حَرَكَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ فَمِثْلُ أَنْ تَضْعُفَ قُوَّتُهُ
عَنْ الْهَضْمِ أَوْ مِثْلُ أَنْ يُبْغِضَ الْأَغْذِيَةَ الَّتِي يَحْتَاجُ
إلَيْهَا وَيُحِبَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَضُرُّهُ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ
الْآلَامِ بِحَسَبِ ذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ الْمَرَضِ لَمْ يَمُتْ وَلَمْ
يَهْلَكْ ؛ بَلْ فِيهِ نَوْعُ قُوَّةٍ عَلَى إدْرَاكِ الْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ
فِي الْجُمْلَةِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ أَلَمٌ يَحْصُلُ فِي الْبَدَنِ إمَّا
بِسَبَبِ فَسَادِ الْكَمِّيَّةِ أَوْ الْكَيْفِيَّةِ : فَالْأَوَّلُ أَمَّا نَقْصُ
الْمَادَّةِ فَيَحْتَاجُ إلَى غِذَاءٍ وَأَمَّا بِسَبَبِ زِيَادَاتِهَا
فَيَحْتَاجُ
إلَى اسْتِفْرَاغٍ .
وَالثَّانِي كَقُوَّةِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ خَارِجٍ عَنْ
الِاعْتِدَالِ فَيُدَاوَى .
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ " مَرَضُ الْقَلْبِ " هُوَ نَوْعُ فَسَادٍ يَحْصُلُ لَهُ
يَفْسُدُ بِهِ تَصَوُّرُهُ وَإِرَادَتُهُ فَتَصَوُّرُهُ بِالشُّبُهَاتِ الَّتِي
تَعْرِضُ لَهُ حَتَّى لَا يَرَى الْحَقَّ أَوْ يَرَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ
عَلَيْهِ وَإِرَادَتُهُ بِحَيْثُ يُبْغِضُ الْحَقَّ النَّافِعَ وَيُحِبُّ
الْبَاطِلَ الضَّارَّ ؛ فَلِهَذَا يُفَسَّرُ الْمَرَضُ تَارَةً بِالشَّكِّ
وَالرَّيْبِ . كَمَا فَسَّرَ مُجَاهِدٌ وقتادة قَوْلَهُ : { فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ } أَيْ شَكٌّ . وَتَارَةً يُفَسَّرُ بِشَهْوَةِ الزِّنَا كَمَا فُسِّرَ
بِهِ قَوْلُهُ : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } . وَلِهَذَا صَنَّفَ
الخرائطي " كِتَابَ اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ " أَيْ مَرَضِهَا وَأَرَادَ
بِهِ مَرَضَهَا بِالشَّهْوَةِ وَالْمَرِيضُ يُؤْذِيهِ مَا لَا يُؤْذِي الصَّحِيحَ
فَيَضُرُّهُ يَسِيرُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْعَمَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ
الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْوَى عَلَيْهَا لِضَعْفِهِ بِالْمَرَضِ . وَالْمَرَضُ
فِي الْجُمْلَةِ يُضْعِفُ الْمَرِيضَ بِجَعْلِ قُوَّتِهِ ضَعِيفَةً لَا تُطِيقُ
مَا يُطِيقُهُ
الْقَوِيُّ وَالصِّحَّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ وَتُزَالُ بِالضِّدِّ وَالْمَرَضُ يَقْوَى بِمِثْلِ سَبَبِهِ . وَيَزُولُ بِضِدِّهِ فَإِذَا حَصَلَ لِلْمَرِيضِ مِثْلُ سَبَبِ مَرَضِهِ زَادَ مَرَضُهُ وَزَادَ ضَعْفُ قُوَّتِهِ حَتَّى رُبَّمَا يَهْلَكُ . وَإِنْ حَصَلَ لَهُ مَا يُقَوِّي الْقُوَّةَ وَيُزِيلُ الْمَرَضَ كَانَ بِالْعَكْسِ . وَ " مَرَضُ الْقَلْبِ " أَلَمٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ كَالْغَيْظِ مِنْ عَدُوٍّ اسْتَوْلَى عَلَيْك فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْلِمُ الْقَلْبَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } فَشِفَاؤُهُمْ بِزَوَالِ مَا حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْأَلَمِ وَيُقَالُ : فُلَانٌ شُفِيَ غَيْظُهُ وَفِي الْقَوَدِ اسْتِشْفَاءُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا شِفَاءٌ مِنْ الْغَمِّ وَالْغَيْظِ وَالْحُزْنِ وَكُلُّ هَذِهِ آلَامٌ تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ . وَكَذَلِكَ " الشَّكُّ وَالْجَهْلُ " يُؤْلِمُ الْقَلْبَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ } . وَالشَّاكُّ فِي الشَّيْءِ الْمُرْتَابِ فِيهِ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ وَيُقَالَ لِلْعَالِمِ الَّذِي أَجَابَ بِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ : قَدْ شَفَانِي بِالْجَوَابِ . وَالْمَرَضُ دُونَ الْمَوْتِ فَالْقَلْبُ يَمُوتُ بِالْجَهْلِ الْمُطْلَقِ وَيَمْرَضُ بِنَوْعِ مِنْ الْجَهْلِ فَلَهُ مَوْتٌ وَمَرَضٌ وَحَيَاةٌ وَشِفَاءٌ وَحَيَاتُهُ وَمَوْتُهُ وَمَرَضُهُ وَشِفَاؤُهُ أَعْظَمُ مِنْ حَيَاةِ الْبَدَنِ وَمَوْتِهِ وَمَرَضِهِ وَشِفَائِهِ فَلِهَذَا مَرَضُ الْقَلْبِ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ أَوْ شَهْوَةٌ قَوَّتْ مَرَضَهُ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ حِكْمَةٌ وَمَوْعِظَةٌ كَانَتْ مِنْ
أَسْبَابِ صَلَاحِهِ وَشِفَائِهِ . قَالَ تَعَالَى : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْرَثَ شُبْهَةً عِنْدَهُمْ وَالْقَاسِيَةُ قُلُوبُهُمْ لِيُبْسِهَا فَأُولَئِكَ قُلُوبُهُمْ ضَعِيفَةٌ بِالْمَرَضِ فَصَارَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لَهُمْ وَهَؤُلَاءِ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ قَاسِيَةً عَنْ الْإِيمَانِ فَصَارَ فِتْنَةً لَهُمْ . وَقَالَ : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } كَمَا قَالَ : { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } لَمْ تَمُتْ قُلُوبُهُمْ كَمَوْتِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَلَيْسَتْ صَحِيحَةً صَالِحَةً كَصَالِحِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ فِيهَا مَرَضُ شُبْهَةٍ وَشَهَوَاتٍ وَكَذَلِكَ { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } وَهُوَ مَرَضُ الشَّهْوَةِ فَإِنَّ الْقَلْبَ الصَّحِيحَ لَوْ تَعَرَّضَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا بِخِلَافِ الْقَلْبِ الْمَرِيضِ بِالشَّهْوَةِ فَإِنَّهُ لِضَعْفِهِ يَمِيلُ إلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمَرَضِ وَضَعْفِهِ فَإِذَا خَضَعْنَ بِالْقَوْلِ طَمِعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ . وَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ أَمْرَاضُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ فَفِيهِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ مَا يُزِيلُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ فَيُزِيلُ أَمْرَاضَ الشُّبْهَةِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعِلْمِ وَالتَّصَوُّرِ وَالْإِدْرَاكِ بِحَيْثُ يَرَى الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْقَصَصِ الَّتِي فِيهَا عِبْرَةٌ مَا يُوجِبُ صَلَاحَ الْقَلْبِ فَيَرْغَبُ الْقَلْبُ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَيَرْغَبُ عَمَّا يَضُرُّهُ فَيَبْقَى الْقَلْبُ مُحِبًّا لِلرَّشَادِ مُبْغِضًا لِلْغَيِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرِيدًا لِلْغَيِّ مُبْغِضًا لِلرَّشَادِ .
فَالْقُرْآنُ مُزِيلٌ لِلْأَمْرَاضِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ حَتَّى يَصْلُحَ الْقَلْبُ فَتَصْلُحُ إرَادَتُهُ وَيَعُودُ إلَى فِطْرَتِهِ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا كَمَا يَعُودُ الْبَدَنُ إلَى الْحَالِ الطَّبِيعِيِّ وَيَغْتَذِي الْقَلْبُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ بِمَا يُزَكِّيهِ وَيُؤَيِّدُهُ كَمَا يَغْتَذِي الْبَدَنُ بِمَا يُنَمِّيهِ وَيُقَوِّمُهُ فَإِنَّ زَكَاةَ الْقَلْبِ مِثْلُ نَمَاءِ الْبَدَنِ . وَ " الزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ " النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ فِي الصَّلَاحِ . يُقَالُ : زَكَا الشَّيْءُ إذَا نَمَا فِي الصَّلَاحِ فَالْقَلْبُ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَرَبَّى فَيَنْمُو وَيَزِيدُ حَتَّى يَكْمُلَ وَيَصْلُحَ كَمَا يَحْتَاجُ الْبَدَنُ أَنْ يُرَبَّى بِالْأَغْذِيَةِ الْمُصْلِحَةِ لَهُ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مَنْعِ مَا يَضُرُّهُ فَلَا يَنْمُو الْبَدَنُ إلَّا بِإِعْطَاءِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَنْعِ مَا يَضُرُّهُ كَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَزْكُو فَيَنْمُو وَيَتِمُّ صَلَاحُهُ إلَّا بِحُصُولِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ لَا يَزْكُو إلَّا بِهَذَا . وَ " الصَّدَقَةُ " لَمَّا كَانَتْ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ صَارَ الْقَلْبُ يَزْكُو بِهَا وَزَكَاتُهُ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى طَهَارَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ يَزْكُو بِهَا الْقَلْبُ . وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمَعَاصِي فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ فِي الْبَدَنِ وَمِثْلُ الدَّغَلِ فِي الزَّرْعِ فَإِذَا اسْتَفْرَغَ الْبَدَنُ مِنْ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ كَاسْتِخْرَاجِ الدَّمِ الزَّائِدِ تَخَلَّصَتْ الْقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَاسْتَرَاحَتْ فَيَنْمُو الْبَدَنُ وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إذَا
تَابَ مِنْ الذُّنُوبِ كَانَ اسْتِفْرَاغًا مِنْ تَخْلِيطَاتِهِ حَيْثُ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَإِذَا تَابَ مِنْ الذُّنُوبِ تَخَلَّصَتْ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَإِرَادَاتُهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاسْتَرَاحَ الْقَلْبُ مِنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ . فَزَكَاةُ الْقَلْبِ بِحَيْثُ يَنْمُو وَيَكْمُلُ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } وَقَالَ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } وَقَالَ تَعَالَى : { فَقُلْ هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى } { وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } فَالتَّزْكِيَةُ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا النَّمَاءُ وَالْبَرَكَةُ وَزِيَادَةُ الْخَيْرِ فَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِإِزَالَةِ الشَّرِّ ؛ فَلِهَذَا صَارَ التَّزَكِّي يَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا . وَقَالَ : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ الَّذِي بِهِ يَزْكُو الْقَلْبُ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ إلَهِيَّةِ مَا سِوَى الْحَقِّ مِنْ الْقَلْبِ وَإِثْبَاتَ إلَهِيَّةِ الْحَقِّ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَهَذَا أَصْلُ مَا تَزْكُو بِهِ الْقُلُوبُ . وَالتَّزْكِيَةُ جَعْلُ الشَّيْءِ زَكِيًّا : إمَّا فِي ذَاتِهِ وَإِمَّا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْخَبَرِ ؛
كَمَا يُقَالُ عَدَّلْته إذَا جَعَلْته عَدْلًا فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي اعْتِقَادِ النَّاسِ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أَيْ تُخْبِرُوا بِزَكَاتِهَا وَهَذَا غَيْرُ قَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وَلِهَذَا قَالَ : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } وَكَانَ اسْمُ زَيْنَبَ بَرَّةَ فَقِيلَ تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أَيْ يَجْعَلُهُ زَاكِيًا وَيُخْبِرُ بِزَكَاتِهِ كَمَا يُزَكِّي الْمُزَكِّي الشُّهُودَ فَيُخْبِرُ بِعَدْلِهِمْ . وَ " الْعَدْلُ " هُوَ الِاعْتِدَالُ وَالِاعْتِدَالُ هُوَ صَلَاحُ الْقَلْبِ كَمَا أَنَّ الظُّلْمَ فَسَادُهُ وَلِهَذَا جَمِيعُ الذُّنُوبِ يَكُونُ الرَّجُلُ فِيهَا ظَالِمًا لِنَفْسِهِ وَالظُّلْمُ خِلَافُ الْعَدْلِ فَلَمْ يَعْدِلْ عَلَى نَفْسِهِ ؛ بَلْ ظَلَمَهَا ؛ فَصَلَاحُ الْقَلْبِ فِي الْعَدْلِ وَفَسَادُهُ فِي الظُّلْمِ وَإِذَا ظَلَمَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فَهُوَ الظَّالِمُ وَهُوَ الْمَظْلُومُ كَذَلِكَ إذَا عَدَلَ فَهُوَ الْعَادِلُ وَالْمَعْدُولُ عَلَيْهِ فَمِنْهُ الْعَمَلُ وَعَلَيْهِ تَعُودُ ثَمَرَةُ الْعَمَلِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ . قَالَ تَعَالَى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } . وَالْعَمَلُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْقَلْبِ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ وَصَلَاحٍ قَبْلَ أَثَرِهِ فِي الْخَارِجِ فَصَلَاحُهَا عَدْلٌ لَهَا وَفَسَادُهَا ظُلْمٌ لَهَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إنَّ لِلْحَسَنَةِ لَنُورًا فِي الْقَلْبِ وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ لَظُلْمَةً فِي
الْقَلْبِ وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ وَبُغْضًا فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ . وَقَالَ تَعَالَى : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } وَقَالَ : { وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا } وَتُبْسَلَ أَيْ تُرْتَهَنَ وَتُحْبَسَ وَتُؤْسَرَ ؛ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ إذَا صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ قِيلَ قَدْ اعْتَدَلَ مِزَاجُهُ وَالْمَرَضُ إنَّمَا هُوَ بِإِخْرَاجِ الْمِزَاجِ مَعَ أَنَّ الِاعْتِدَالَ الْمَحْضَ السَّالِمَ مِنْ الْأَخْلَاطِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ لَكِنْ الْأَمْثَلُ ؛ فَالْأَمْثَلُ ؛ فَهَكَذَا صِحَّةُ الْقَلْبِ وَصَلَاحُهُ فِي الْعَدْلِ وَمَرَضُهُ مِنْ الزَّيْغِ وَالظُّلْمِ وَالِانْحِرَافِ . وَالْعَدْلُ الْمَحْضُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُتَعَذِّرٌ عِلْمًا وَعَمَلًا وَلَكِنْ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : هَذَا أَمْثَلُ وَيُقَالُ لِلطَّرِيقَةِ السَّلَفِيَّةِ : الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَعْظَمُ الْقِسْطِ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثُمَّ الْعَدْلُ عَلَى النَّاسِ فِي حُقُوقِهِمْ ثُمَّ الْعَدْلُ عَلَى النَّفْسِ .
وَالظُّلْمُ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : وَالظُّلْمُ كُلُّهُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْعَدْلُ صِحَّتُهَا وَصَلَاحُهَا . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ لِبَعْضِ النَّاسِ : لَوْ صَحَحْت لَمْ تَخَفْ أَحَدًا أَيْ خَوْفُك مِنْ الْمَخْلُوقِ هُوَ مِنْ مَرَضٍ فِيك كَمَرَضِ الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ . وَأَصْلُ صَلَاحِ الْقَلْبِ هُوَ حَيَاتُهُ وَاسْتِنَارَتُهُ قَالَ تَعَالَى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } . لِذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ حَيَاةَ الْقُلُوبِ وَنُورَهَا وَمَوْتَهَا وَظُلْمَتَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . كَقَوْلِهِ : { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ثُمَّ قَالَ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } . وَمِنْ أَنْوَاعِهِ أَنَّهُ يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنْ الْمُؤْمِنِ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ } وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا : { اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ وَآيَةَ الظُّلْمَةِ فَقَالَ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
مَثَلُ
نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا
شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ
نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ } فَهَذَا مَثَلُ نُورِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ قَالَ : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا
وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ
يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ
}.
فَالْأَوَّلُ مَثَلُ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَعْمَالِ التَّابِعَةِ
لَهَا يَحْسَبُهَا صَاحِبُهَا شَيْئًا يَنْفَعُهُ فَإِذَا جَاءَهَا لَمْ يَجِدْهَا
شَيْئًا يَنْفَعُهُ فَوَفَّاهُ اللَّهُ حِسَابَهُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ . وَ
( الثَّانِي : مَثَلٌ لِلْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ
فَإِنَّ صَاحِبَهَا فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ لَا يُبْصِرُ شَيْئًا ؛
فَإِنَّ الْبَصَرَ إنَّمَا هُوَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ . قَالَ تَعَالَى
: { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى . { وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } وَهُوَ بُرْهَانُ
الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ فِي قَلْبِهِ فَصَرَفَ اللَّهُ بِهِ مَا كَانَ هَمَّ
بِهِ وَكَتَبَ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَلَمْ يَكْتُبْ
عَلَيْهِ خَطِيئَةً إذْ فَعَلَ خَيْرًا وَلَمْ يَفْعَلْ سَيِّئَةً . وَقَالَ تَعَالَى : { لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } . وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ " مَثَلَيْنِ " . مَثَلًا بِالْمَاءِ الَّذِي بِهِ الْحَيَاةُ وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الزَّبَدِ وَمَثَلًا بِالنَّارِ الَّتِي بِهَا النُّورُ وَمَا يَقْتَرِنُ بِمَا يُوقَدُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّبَدِ . وَكَذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ لِلنِّفَاقِ " مَثَلَيْنِ " قَالَ تَعَالَى : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ } { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
فَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا كَاَلَّذِي أَوْقَدَ النَّارَ كُلَّمَا أَضَاءَتْ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَالْمَثَلُ الْمَائِيُّ كَالْمَثَلِ النَّازِلِ مِنْ السَّمَاءِ وَفِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يُرَى . وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْأَمْثَالِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَإِنَارَتِهَا وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ { اجْعَلْ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا وَنُورَ صُدُورِنَا } . وَ " الرَّبِيعُ " هُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ فَيَنْبُت بِهِ النَّبَاتُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ } . وَالْفَصْلُ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ أَوَّلُ الْمَطَرِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الرَّبِيعَ لِنُزُولِ الْمَطَرِ الَّذِي يُنْبِتُ الرَّبِيعُ فِيهِ وَغَيْرُهُمْ يُسَمِّي الرَّبِيعَ الْفَصْلَ الَّذِي يَلِي الشِّتَاءَ ؛ فَإِنَّ فِيهِ تَخْرُجُ الْأَزْهَارُ الَّتِي تُخْلَقُ مِنْهَا الثِّمَارُ وَتَنْبُتُ الْأَوْرَاقُ عَلَى الْأَشْجَارِ . وَالْقَلْبُ الْحَيُّ الْمُنَوَّرُ ؛ فَإِنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ النُّورِ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَعْقِلُ وَالْقَلْبُ الْمَيِّتُ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } الْآيَاتِ . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ بِقُلُوبِهِمْ وَلَا يَسْمَعُونَ بِآذَانِهِمْ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِمَا رَأَوْهُ مِنْ النَّارِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ حَيْثُ قَالُوا : { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } . فَذَكَرُوا الْمَوَانِعَ عَلَى الْقُلُوبِ ، وَالسَّمْعُ وَالْأَبْصَارُ وَأَبْدَانُهُمْ حَيَّةٌ تَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَتَرَى الْأَشْخَاصَ ؛ لَكِنَّ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِدُونِ حَيَاةِ الْقَلْبِ مِنْ جِنْسِ حَيَاةِ الْبَهَائِمِ لَهَا سَمْعٌ وَبَصَرٌ وَهِيَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَتَنْكِحُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } . فَشَبَّهَهُمْ بِالْغَنَمِ الَّذِي ينعق بِهَا الرَّاعِي وَهِيَ لَا تَسْمَعُ إلَّا نِدَاءً . كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ }
فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا كَقَوْلِهِ : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي عُيُوبِ الْإِنْسَانِ وَذَمِّهَا فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ : هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْكَافِرُ فَيَبْقَى مَنْ يَسْمَعُ ذَلِكَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ فِي هَذَا الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ نَصِيبٌ ؛ بَلْ يَذْهَبُ وَهْمُهُ إلَى مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلشِّرْكِ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ إلَى مَنْ يَعْرِفُهُمْ مِنْ مُظْهِرِي الْكُفْرِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي التُّرْكِ وَالْهِنْدِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ لِيَهْتَدِيَ بِهَا عِبَادُهُ . فَيُقَالُ : - أَوَّلًا - : الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ وَالْمُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . وَيُقَالُ : " ثَانِيًا " الْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ شُعْبَةٌ مِنْ نِفَاقٍ وَكُفْرٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ . وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ } وَأَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ إيمَانًا وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ : الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ } وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ . قَالُوا : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ : فَمَنْ } وَقَالَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَتَأْخُذَن أُمَّتِي مَا أَخَذَتْ الْأُمَمُ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ . قَالُوا : فَارِسُ وَالرُّومُ قَالَ : وَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ } . وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَنْ عَلِيٍّ - أَوْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا - قَالَ : الْقُلُوبُ " أَرْبَعَةٌ " . قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَقَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَاكَ قَلْبُ الْكَافِرِ وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ . فَذَاكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ وَقَلْبٌ فِيهِ مَادَّتَانِ : مَادَّةٌ تَمُدُّهُ الْإِيمَانَ وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ النِّفَاقَ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا عُلِمَ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ يَنْتَفِعُ بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْإِيمَانِ مِنْ مَدْحِ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَذَمِّ شُعَبِ الْكُفْرِ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } . فَيَقُولُونَ الْمُؤْمِنُ قَدْ هُدِيَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَأَيُّ
فَائِدَةٍ فِي طَلَبِ الْهُدَى ثُمَّ يُجِيبُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ ثَبِّتْنَا عَلَى الْهُدَى كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ لِلنَّائِمِ : نَمْ حَتَّى آتِيَك أَوْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ أَلْزِمْ قُلُوبَنَا الْهُدَى فَحَذَفَ الْمَلْزُومَ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ زِدْنِي هُدًى وَإِنَّمَا يُورِدُونَ هَذَا السُّؤَالَ لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِمْ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي يَطْلُبُ الْعَبْدُ الْهِدَايَةَ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَمَلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ . وَالْإِنْسَانُ وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَأَكْثَرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ فِي تَفَاصِيلِ الْأُمُورِ وَجُزْئِيَّاتِهَا لَمْ يَعْرِفْهُ وَمَا عَرَفَهُ فَكَثِيرٌ مِنْهُ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ بَلَغَهُ كُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ إنَّمَا تُذْكَرُ فِيهِمَا الْأُمُورُ الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ لَا تَذْكُرُ مَا يَخُصُّ بِهِ كُلَّ عَبْدٍ وَلِهَذَا أُمِرَ الْإِنْسَانُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِسُؤَالِ الْهُدَى إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . وَالْهُدَى إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ يَتَنَاوَلُ التَّعْرِيفَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُفَصَّلًا وَيَتَنَاوَلُ التَّعْرِيفَ بِمَا يَدْخُلُ فِي أَوَامِرِهِ الْكُلِّيَّاتُ وَيَتَنَاوَلُ إلْهَامَ الْعَمَلِ بِعِلْمِهِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِاهْتِدَاءُ إنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ وَلِهَذَا قَالَ لِنَبِيِّهِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ : { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ
صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } وَقَالَ فِي حَقِّ مُوسَى وَهَارُونَ : { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ } { وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ تَنَازَعُوا فِيمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ وَالْقُرْآنَ حَقٌّ فَلَوْ حَصَلَ لِكُلِّ مِنْهُمْ الْهُدَى إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ يَخْتَلِفُوا ثُمَّ الَّذِينَ عَلِمُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَكْثَرُهُمْ يَعْصُونَهُ وَ لَا يَحْتَذُونَ حَذْوَهُ فَلَوْ هُدُوا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ لَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَتَرَكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ وَاَلَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَتَّى صَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ذَلِكَ دُعَاؤُهُمْ اللَّهَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ إلَى اللَّهِ دَائِمًا فِي أَنْ يَهْدِيَهُمْ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . فَبِدَوَامِ هَذَا الدُّعَاءِ وَالِافْتِقَارِ صَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ طَرِيقٌ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ الِافْتِقَارِ وَمَا حَصَلَ فِيهِ الْهُدَى فِي الْمَاضِي فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى حُصُولِ الْهُدَى فِيهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : ثَبِّتْنَا وَاهْدِنَا لُزُومَ الصِّرَاطِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : زِدْنَا هُدًى يَتَنَاوَلُ مَا تَقَدَّمَ ؛ لَكِنْ هَذَا كُلُّهُ هُدًى مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْعِلْمِ لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ وَلَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا حَتَّى يَعْمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْعِلْمِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ
بَلْ يَزُولُ عَنْ الْقَلْبِ وَإِنْ حَصَلَ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْعَمَلُ
فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى هَذَا الدُّعَاءِ ؛ وَلِهَذَا فَرَضَهُ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَلَيْسُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ الدُّعَاءِ
أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَإِذَا حَصَلَ الْهُدَى إلَى الصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ حَصَلَ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ وَسَائِرُ مَا تَطْلُبُ النُّفُوسُ
مِنْ السَّعَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَحَيَاةَ غَيْرِهِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ
الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ أَوْ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ
كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ
كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ . قَالُوا : إنَّ حَيَاتَهُ أَنَّهُ بِحَيْثُ
يَعْلَمُ وَيَقْدِرُ بَلْ الْحَيَاةُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمَوْصُوفِ وَهِيَ
شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَفْعَالِ
الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهِيَ أَيْضًا مُسْتَلْزِمَةٌ لِذَلِكَ فَكُلُّ حَيٍّ لَهُ
شُعُورٌ وَإِرَادَةٌ وَعَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ بِقُدْرَةِ وَكُلُّ مَا لَهُ عِلْمٌ
وَإِرَادَةٌ وَعَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ فَهُوَ حَيٌّ . وَالْحَيَاءُ مُشْتَقٌّ مِنْ
الْحَيَاةِ ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْحَيَّ يَكُونُ صَاحِبُهُ حَيًّا فِيهِ حَيَاءً
يَمْنَعُهُ عَنْ الْقَبَائِحِ فَإِنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ
الْقَبَائِحِ الَّتِي تُفْسِدُ الْقَلْبَ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ } وَقَالَ : {
الْحَيَاءُ وَالْعَيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ . وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ
شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ } فَإِنَّ الْحَيَّ يَدْفَعُ مَا يُؤْذِيهِ ؛
بِخِلَافِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى وَقِحًا
وَالْوَقَاحَةُ الصَّلَابَةُ وَهُوَ الْيُبْسُ الْمُخَالِفُ لِرُطُوبَةِ
الْحَيَاةِ فَإِذَا كَانَ وَقِحًا يَابِسًا صَلِيبَ الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ فِي
قَلْبِهِ حَيَاةٌ تُوجِبُ حَيَاءَهُ ، وَامْتِنَاعُهُ مِنْ الْقُبْحِ كَالْأَرْضِ
الْيَابِسَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا وَطْءُ الْأَقْدَامِ بِخِلَافِ الْأَرْضِ الْخَضِرَةِ . وَلِهَذَا كَانَ الْحَيُّ يَظْهَرُ عَلَيْهِ التَّأَثُّرُ بِالْقُبْحِ وَلَهُ إرَادَةٌ تَمْنَعُهُ عَنْ فِعْلِ الْقُبْحِ بِخِلَافِ الْوَقِحِ الَّذِي لَيْسَ بِحَيِّ فَلَا حَيَاءَ مَعَهُ وَلَا إيمَانَ يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ . فَالْقَلْبُ إذَا كَانَ حَيًّا فَمَاتَ الْإِنْسَانُ بِفِرَاقِ رُوحِهِ بَدَنَهُ كَانَ مَوْتُ النَّفْسِ فِرَاقَهَا لِلْبَدَنِ لَيْسَتْ هِيَ فِي نَفْسِهَا مَيِّتَةً بِمَعْنَى زَوَالِ حَيَاتِهَا عَنْهَا . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } مَعَ أَنَّهُمْ مَوْتَى دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } وَفِي قَوْلِهِ : { إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } فَالْمَوْتُ الْمُثْبَتُ غَيْرُ الْمَوْتِ الْمَنْفِيِّ . الْمُثْبَتُ هُوَ فِرَاقُ الرُّوحِ الْبَدَنَ وَالْمَنْفِيُّ زَوَالُ الْحَيَاةِ بِالْجُمْلَةِ عَنْ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ فَيُسَمَّى وَفَاةً وَيُسَمَّى مَوْتًا وَإِنْ كَانَتْ الْحَيَاةُ مَوْجُودَةً فِيهِمَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } . وَكَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ :
{
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَعَافَانِي فِي جَسَدِي وَأَذِنَ
لِي بِذِكْرِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا } وَإِذَا
أَوَى إلَى فِرَاشِهِ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْت نَفْسِي وَأَنْتَ
تَوَفَّاهَا لَك مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا إنْ أَمْسَكْتهَا فَارْحَمْهَا وَإِنْ
أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ } وَيَقُولُ
: { بِاسْمِك اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا }
فَصْلٌ :
وَمِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ " الْحَسَدُ " كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي
حَدِّهِ : إنَّهُ أَذًى يَلْحَقُ بِسَبَبِ الْعِلْمِ بِحُسْنِ حَالِ
الْأَغْنِيَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ حَسُودًا ؛ لِأَنَّ
الْفَاضِلَ يَجْرِي عَلَى مَا هُوَ الْجَمِيلُ وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ
النَّاسِ : إنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْمَحْسُودِ وَإِنْ لَمْ
يَصِرْ لِلْحَاسِدِ مِثْلُهَا بِخِلَافِ الْغِبْطَةِ فَإِنَّهُ تَمَنِّي مِثْلِهَا
مِنْ غَيْرِ حُبِّ زَوَالِهَا عَنْ الْمَغْبُوطِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَسَدَ
هُوَ الْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ لِمَا يَرَاهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْمَحْسُودِ
وَهُوَ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : كَرَاهَةٌ لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا فَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ
الْمَذْمُومُ وَإِذَا أَبْغَضَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَأَلَّمُ وَيَتَأَذَّى
بِوُجُودِ مَا يُبْغِضُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَرَضًا فِي قَلْبِهِ وَيَلْتَذُّ
بِزَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ نَفْعٌ بِزَوَالِهَا ؛
لَكِنَّ نَفْعَهُ
زَوَالُ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْأَلَمَ لَمْ يَزُلْ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ مِنْهُ وَهُوَ رَاحَةٌ وَأَشَدُّهُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي عُولِجَ بِمَا يُسَكِّنُ وَجَعَهُ وَالْمَرَضُ بَاقٍ ؛ فَإِنَّ بُغْضَهُ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ مَرَضٌ فَإِنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ قَدْ تَعُودُ عَلَى الْمَحْسُودِ وَأَعْظَمُ مِنْهَا وَقَدْ يَحْصُلُ نَظِيرُ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِنَظِيرِ ذَلِكَ الْمَحْسُودِ . وَالْحَاسِدُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ ؛ لَكِنَّ نَفْسَهُ تَكْرَهُ مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَى النَّوْعِ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ فَإِنَّ مَنْ كَرِهَ النِّعْمَةَ عَلَى غَيْرِهِ تَمَنَّى زَوَالَهَا بِقَلْبِهِ . وَ ( النَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ يَكْرَهَ فَضْلَ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَيْهِ فَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ فَهَذَا حَسَدٌ وَهُوَ الَّذِي سَمَّوْهُ الْغِبْطَةَ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدًا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : { لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ } هَذَا لَفْظُ ابْنِ مَسْعُودِ . وَلَفْظُ ابْنِ عُمَرَ { رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي الْحَقِّ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ : { لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَسَمِعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا لَيْتَنِي أُوتِيت مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا
فَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ هَذَا وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا لَيْتَنِي أُوتِيت مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ هَذَا } فَهَذَا الْحَسَدُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ أُولَئِكَ الْغِبْطَةَ وَهُوَ أَنْ يُحِبَّ مِثْلَ حَالِ الْغَيْرِ وَيَكْرَهَ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : إذًا لِمَ سُمِّيَ حَسَدًا وَإِنَّمَا أَحَبَّ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؟ . قِيلَ مَبْدَأُ هَذَا الْحُبِّ هُوَ نَظَرُهُ إلَى إنْعَامِهِ عَلَى الْغَيْرِ وَكَرَاهَتُهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ وَلَوْلَا وُجُودُ ذَلِكَ الْغَيْرِ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ مَبْدَأُ ذَلِكَ كَرَاهَتَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْغَيْرُ كَانَ حَسَدًا ؛ لِأَنَّهُ كَرَاهَةٌ تَتْبَعُهَا مَحَبَّةٌ وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الْتِفَاتِهِ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فَهَذَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ الْحَسَدِ شَيْءٌ . وَلِهَذَا يُبْتَلَى غَالِبُ النَّاسِ بِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي وَقَدْ تُسَمَّى الْمُنَافَسَةَ فَيَتَنَافَسُ الِاثْنَانِ فِي الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ كِلَاهُمَا يَطْلُبُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَذَلِكَ لِكَرَاهِيَةِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْآخَرُ كَمَا يَكْرَهُ الْمُسْتَبِقَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَسْبِقَهُ الْآخَرُ وَالتَّنَافُسُ لَيْسَ مَذْمُومًا مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ فِي الْخَيْرِ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } { يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ } { خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } فَأَمَرَ الْمُنَافِسَ أَنْ يُنَافِسَ فِي هَذَا النَّعِيمِ لَا يُنَافِسُ فِي نَعِيمِ الدُّنْيَا
الزَّائِلِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْحَسَدِ إلَّا فِيمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ وَيُعَلِّمُهُ وَمَنْ أُوتِيَ الْمَالَ فَهُوَ يُنْفِقُهُ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ عِلْمًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ أَوْ أُوتِيَ مَالًا وَلَمْ يُنْفِقْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهَذَا لَا يَحْسُدُ وَلَا يَتَمَنَّى مِثْلَ حَالِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي خَيْرٍ يَرْغَبُ فِيهِ بَلْ هُوَ مُعَرَّضٌ لِلْعَذَابِ وَمَنْ وُلِّيَ وِلَايَةً فَيَأْتِيهَا بِعِلْمِ وَعَدْلٍ أَدَّى الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهَذَا دَرَجَتُهُ عَظِيمَةٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا فِي جِهَادٍ عَظِيمٍ كَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَالنُّفُوسُ لَا تَحْسُدُ مَنْ هُوَ فِي تَعَبٍ عَظِيمٍ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَإِنْ كَانَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ الَّذِي يُنْفِقُ الْمَالَ ؛ بِخِلَافِ الْمُنْفِقِ وَالْمُعَلِّمِ فَإِنَّ هَذَيْنِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْعَادَةِ عَدُوٌّ مِنْ خَارِجٍ فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا لَهُمَا عَدُوٌّ يُجَاهِدَانِهِ . فَذَلِكَ أَفْضَلُ لِدَرَجَتِهِمَا وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَلِّيَ وَالصَّائِمَ وَالْحَاجَّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يَحْصُلُ مِنْهَا فِي الْعَادَةِ مِنْ نَفْعِ النَّاسِ الَّذِي يُعَظِّمُونَ بِهِ الشَّخْصَ وَيُسَوِّدُونَهُ مَا يَحْصُلُ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِنْفَاقِ . وَالْحَسَدُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا يَقَعُ لِمَا يَحْصُلُ لِلْغَيْرِ مِنْ السُّؤْدُدِ وَالرِّيَاسَةِ وَإِلَّا فَالْعَامِلُ لَا يُحْسَدُ فِي الْعَادَةِ وَلَوْ كَانَ تَنَعُّمُهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُحْسَدَانِ كَثِيرًا وَلِهَذَا يُوجَدُ بَيْنَ أَهْلِ
الْعِلْمِ الَّذِينَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ مِنْ الْحَسَدِ مَا لَا يُوجَدُ فِيمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ فِيمَنْ لَهُ أَتْبَاعٌ بِسَبَبِ إنْفَاقِ مَالِهِ فَهَذَا يَنْفَعُ النَّاسَ بِقُوتِ الْقُلُوبِ وَهَذَا يَنْفَعُهُمْ بِقُوتِ الْأَبْدَانِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ هَذَا وَهَذَا . وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ " مَثَلَيْنِ " : مَثَلًا بِهَذَا وَمَثَلًا بِهَذَا فَقَالَ : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَ ( الْمَثَلَانِ ضَرَبَهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَلِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ ؛ فَإِنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ لَا عَلَى عَمَلٍ يَنْفَعُ وَلَا عَلَى كَلَامٍ يَنْفَعُ فَإِذَا قُدِّرَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَآخَرُ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الْمَمْلُوكُ الْعَاجِزُ عَنْ الْإِحْسَانِ وَهَذَا الْقَادِرُ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُحْسِنُ إلَى النَّاسِ سِرًّا وَجَهْرًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَيْهِمْ دَائِمًا فَكَيْفَ يُشَبَّهُ بِهِ الْعَاجِزُ الْمَمْلُوكُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يُشْرَكَ بِهِ مَعَهُ وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .
وَالْمَثَلُ الثَّانِي إذَا قُدِّرَ شَخْصَانِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ مَعَ هَذَا كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ نَفْعٍ قَطُّ بَلْ هُوَ كَلٌّ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَآخَرُ عَالِمٌ عَادِلٌ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَعْمَلُ بِالْعَدْلِ فَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَهَذَا نَظِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ . وَقَدْ ضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا لِنَفْسِهِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ عَادِلٌ قَادِرٌ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ هُودٌ : { إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ يُعَظِّمُونَ دَارَ الْعَبَّاسِ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُعَلِّمُ النَّاسَ وَأَخُوهُ يُطْعِمُ النَّاسَ فَكَانُوا يُعَظِّمُونَ عَلَى ذَلِكَ . وَرَأَى مُعَاوِيَةُ النَّاسَ يَسْأَلُونَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ الْمَنَاسِكِ وَهُوَ يُفْتِيهِمْ فَقَالَ : هَذَا وَاَللَّهِ الشَّرَفُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ . هَذَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَافَسَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِنْفَاقَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْت الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْته يَوْمًا . قَالَ : فَجِئْت بِنِصْفِ مَالِي قَالَ : فَقَالَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْت لِأَهْلِك قُلْت مِثْلَهُ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْت لِأَهْلِك قَالَ أَبْقَيْت لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقُلْت لَا أُسَابِقُك إلَى شَيْءٍ أَبَدًا } . فَكَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ مِنْ الْمُنَافَسَةِ وَالْغِبْطَةِ الْمُبَاحَةِ ؛ لَكِنَّ حَالَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ خَالٍ مِنْ الْمُنَافَسَةِ مُطْلَقًا لَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ { مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ حَصَلَ لَهُ مُنَافَسَةٌ وَغِبْطَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَكَى لَمَّا تَجَاوَزَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ : مَا يُبْكِيك ؟ فَقَالَ : أَبْكِي ؛ لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمَرْوِيَّةِ غَيْرُ الصَّحِيحِ { مَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَقُولُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ : أَكْرَمْته وَفَضَّلْته قَالَ : فَرَفَعْنَاهُ إلَيْهِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ فَقَالَ : مَنْ هَذَا مَعَك يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَذَا أَحْمَد قَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ قَالَ : ثُمَّ انْدَفَعْنَا فَقُلْت مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَذَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ قُلْت : وَمَنْ يُعَاتِبُ ؟ قَالَ : يُعَاتِبُ رَبَّهُ فِيك قُلْت : وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى رَبِّهِ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَرَفَ صِدْقَهُ } .
وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُشَبَّهًا بِمُوسَى وَنَبِيُّنَا حَالُهُ أَفْضَلُ مِنْ حَالِ مُوسَى فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَنَحْوُهُ كَانُوا سَالِمِينَ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَانُوا أَرْفَعَ دَرَجَةً مِمَّنْ عِنْدَهُ مُنَافَسَةٌ وَغِبْطَةٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْمُؤْتَمَنَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ مُزَاحَمَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ بِالْأَمَانَةِ مِمَّنْ يَخَافُ مُزَاحَمَتَهُ ؛ وَلِهَذَا يُؤْتَمَنُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْخِصْيَانُ وَيُؤْتَمَنُ عَلَى الْوِلَايَةِ الصُّغْرَى مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا يُزَاحِمُ عَلَى الْكُبْرَى وَيُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ مَنْ فِي نَفْسِهِ خِيَانَةٌ شُبِّهَ بِالذِّئْبِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَى الْغَنَمِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الطَّلَبِ لِمَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ { أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا يَوْمًا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ : فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوءٍ قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّبَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاص رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إنِّي لاحيت أَبِي فَأَقْسَمْت أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُؤْوِيَنِي إلَيْك حَتَّى تَمْضِيَ الثَّلَاثُ فَعَلْت قَالَ : نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا ؛ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إلَّا خَيْرًا فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ الثَّلَاثِ وَكِدْت أَنْ أُحَقِّرَ عَمَلَهُ قُلْت : يَا عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلَا هِجْرَةٌ وَلَكِنْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْت أَنْتَ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرَدْت أَنْ آوِيَ إلَيْك لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُك فَأَقْتَدِيَ بِذَلِكَ فَلَمْ أَرَك تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِك مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْت غَيْرَ أَنَّنِي لَا أَجِدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي غِشًّا وَلَا حَسَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِك وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ } . فَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَهُ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِك وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ يُشِيرُ إلَى خُلُوِّهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَسَدِ . وَبِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْصَارِ فَقَالَ : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أَيْ مِمَّا أُوتِيَ إخْوَانُهُمْ الْمُهَاجِرُونَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً أَيْ حَسَدًا وَغَيْظًا مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَقِيلَ مِنْ الْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ
فَهُمْ
لَا يَجِدُونَ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا مِنْ الْمَالِ وَلَا مِنْ الْجَاهِ
وَالْحَسَدُ يَقَعُ عَلَى هَذَا . وَكَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مُنَافَسَةٌ
عَلَى الدِّينِ فَكَانَ هَؤُلَاءِ إذَا فَعَلُوا مَا يُفَضَّلُونَ بِهِ عِنْدَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَبَّ الْآخَرُونَ أَنْ يَفْعَلُوا نَظِيرَ ذَلِكَ فَهُوَ
مُنَافَسَةٌ فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ : { وَفِي ذَلِكَ
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } .
وَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ كُلُّهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ
الْيَهُودِ : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ
بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } يَوَدُّونَ أَيْ يَتَمَنَّوْنَ ارْتِدَادَكُمْ
حَسَدًا فَجَعَلَ الْحَسَدَ هُوَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ الْوُدِّ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّكُمْ قَدْ حَصَلَ
لَكُمْ مِنْ النِّعْمَةِ مَا حَصَلَ ؛ بَلْ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِثْلُهُ
حَسَدُوكُمْ وَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ
عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبْرَاهِيمَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } { فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا } وَقَالَ
تَعَالَى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } {
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ } { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ
} { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ } . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ
الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا ( نَزَلَتْ بِسَبَبِ حَسَدِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَحَرُوهُ : سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ
الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ فَالْحَاسِدُ
الْمُبْغِضُ لِلنِّعْمَةِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا ظَالِمٌ مُعْتَدٍ وَالْكَارِهُ لِتَفْضِيلِهِ الْمُحِبُّ لِمُمَاثَلَتِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ فَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يُعْطَى مِثْلَ مَا أُعْطِيَ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَإِعْرَاضُ قَلْبِهِ عَنْ هَذَا بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْغَيْرِ أَفْضَلُ . ثُمَّ هَذَا الْحَسَدُ إنْ عَمِلَ بِمُوجِبِهِ صَاحِبُهُ كَانَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ وَكَانَ الْمَحْسُودُ مَظْلُومًا مَأْمُورًا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَى الْحَاسِدِ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وَقَدْ اُبْتُلِيَ يُوسُفُ بِحَسَدِ إخْوَتِهِ لَهُ حَيْثُ قَالُوا : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } فَحَسَدُوهُمَا عَلَى تَفْضِيلِ الْأَبِ لَهُمَا وَلِهَذَا قَالَ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ : { لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } . ثُمَّ إنَّهُمْ ظَلَمُوهُ بِتَكَلُّمِهِمْ فِي قَتْلِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ وَبَيْعِهِ رَقِيقًا لِمَنْ ذَهَبَ بِهِ إلَى بِلَادِ الْكُفْرِ فَصَارَ مَمْلُوكًا لِقَوْمِ كُفَّارٍ ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ اُبْتُلِيَ بَعْدَ أَنْ ظُلِمَ بِمَنْ يَدْعُوهُ إلَى الْفَاحِشَةِ وَيُرَاوِدُ عَلَيْهَا وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فَاسْتَعْصَمَ وَاخْتَارَ السَّجْنَ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَآثَرَ عَذَابَ
الدُّنْيَا عَلَى سَخَطِ اللَّهِ فَكَانَ مَظْلُومًا مِنْ جِهَةِ مَنْ أَحَبَّهُ لِهَوَاهُ وَغَرَضِهِ الْفَاسِدِ . فَهَذِهِ الْمُحِبَّةُ أَحَبَّتْهُ لِهَوَى مَحْبُوبِهَا شِفَاؤُهَا وَشِفَاؤُهُ إنْ وَافَقَهَا وَأُولَئِكَ الْمُبْغِضُونَ أَبْغَضُوهُ بِغْضَةً أَوْجَبَتْ أَنْ يَصِيرَ مُلْقًى فِي الْجُبِّ ثُمَّ أَسِيرًا مَمْلُوكًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَأُولَئِكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ إطْلَاقِ الْحُرِّيَّةِ إلَى رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ الْبَاطِلَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَهَذِهِ أَلْجَأَتْهُ إلَى أَنْ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا مَسْجُونًا بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ أَعْظَمَ فِي مِحْنَتِهِ وَكَانَ صَبْرُهُ هُنَا صَبْرًا اخْتِيَارِيًّا اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِخِلَافِ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ الَّتِي مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهَا صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سُلُوَّ الْبَهَائِمِ . وَالصَّبْرُ الثَّانِي أَفْضَلُ الصَّبْرَيْنِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَهَكَذَا إذَا أُوذِيَ الْمُؤْمِنُ عَلَى إيمَانِهِ وَطُلِبَ مِنْهُ الْكُفْرُ أَوْ الْفُسُوقُ أَوْ الْعِصْيَانُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُوذِيَ وَعُوقِبَ فَاخْتَارَ الْأَذَى وَالْعُقُوبَةَ عَلَى فِرَاقِ دِينِهِ : إمَّا الْحَبْسُ وَإِمَّا الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِهِ كَمَا جَرَى لِلْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ اخْتَارُوا فِرَاقَ الْأَوْطَانِ عَلَى فِرَاقِ الدِّينِ وَكَانُوا يُعَذَّبُونَ وَيُؤْذَوْنَ . وَقَدْ أُوذِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْأَذَى فَكَانَ يَصْبِرُ عَلَيْهَا صَبْرًا اخْتِيَارِيًّا فَإِنَّهُ إنَّمَا يُؤْذَى لِئَلَّا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ
بِاخْتِيَارِهِ وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِ يُوسُفَ : لِأَنَّ يُوسُفَ إنَّمَا طُلِبَ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ وَإِنَّمَا عُوقِبَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ بِالْحَبْسِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ طُلِبَ مِنْهُمْ الْكُفْرُ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا طُلِبَتْ عُقُوبَتُهُمْ بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ وَأَهْوَنُ مَا عُوقِبَ بِهِ الْحَبْسُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ حَبَسُوهُ وَبَنِيَّ هَاشِمٍ بِالشِّعْبِ مُدَّةً ثُمَّ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ اشْتَدُّوا عَلَيْهِ فَلَمَّا بَايَعَتْ الْأَنْصَارُ وَعَرَفُوا بِذَلِكَ صَارُوا يَقْصِدُونَ مَنْعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَيَحْبِسُونَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ إلَّا سِرًّا إلَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَنَحْوُهُ فَكَانُوا قَدْ أَلْجَئُوهُمْ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَمَعَ هَذَا مَنَعُوا مَنْ مَنَعُوهُ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَحَبَسُوهُ . فَكَانَ مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْمَصَائِبِ هُوَ بِاخْتِيَارِهِمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي تَجْرِي بِدُونِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِنْ جِنْسِ حَبْسِ يُوسُفَ لَا مِنْ جِنْسِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَهَذَا أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ وَأَهْلُهَا أَعْظَمُ دَرَجَةً - وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يُثَابُ عَلَى صَبْرِهِ وَرِضَاهُ وَتُكَفَّرُ عَنْهُ الذُّنُوبُ بِمَصَائِبِهِ - فَإِنَّ هَذَا أُصِيبَ وَأُوذِيَ بِاخْتِيَارِهِ طَاعَةً لِلَّهِ يُثَابُ عَلَى نَفْسِ الْمَصَائِبِ وَيُكْتَبُ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ . قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
بِخِلَافِ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَجْرِي بِلَا اخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالْمَرَضِ وَمَوْتِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ اللُّصُوصِ مَالَهُ فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا يُثَابُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا لَا عَلَى نَفْسِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمُصِيبَةِ ؛ لَكِنَّ الْمُصِيبَةَ يُكَفَّرُ بِهَا خَطَايَاهُ فَإِنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا . وَاَلَّذِينَ يُؤْذَوْنَ عَلَى الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَحْدُثُ لَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَرَجٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ حَبْسٌ أَوْ فِرَاقُ وَطَنٍ وَذَهَابُ مَالٍ وَأَهْلٍ أَوْ ضَرْبٌ أَوْ شَتْمٌ أَوْ نَقْصُ رِيَاسَةٍ وَمَالٍ هُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى مَا يُؤْذَوْنَ بِهِ وَيُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ كَمَا يُثَابُ الْمُجَاهِدُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالتَّعَبِ وَعَلَى غَيْظِهِ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ لَيْسَتْ عَمَلًا فَعَلَهُ يَقُومُ بِهِ لَكِنَّهَا مُتَسَبِّبَةٌ عَنْ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا مُتَوَلِّدَةٌ . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يُقَالُ إنَّهَا فِعْلٌ لِفَاعِلِ السَّبَبِ أَوْ لِلَّهِ أَوْ لَا فَاعِلَ لَهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ فَاعِلِ السَّبَبِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ وَلِهَذَا كُتِبَ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ " الْحَسَدَ " مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ وَهُوَ مَرَضٌ غَالِبٌ فَلَا يَخْلُصُ مِنْهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ وَلِهَذَا يُقَالُ : مَا خَلَا
جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ لَكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ وَالْكَرِيمَ يُخْفِيهِ . وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَيَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ ؟ فَقَالَ مَا أَنْسَاك إخْوَةَ يُوسُفَ لَا أَبَا لَك وَلَكِنْ عَمَهٌ فِي صَدْرِك فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تَعْدُ بِهِ يَدًا وَلِسَانًا . فَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَسَدًا لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ . فَيَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ لَا يَعْتَدُونَ عَلَى الْمَحْسُودِ فَلَا يُعِينُونَ مَنْ ظَلَمَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَيْضًا لَا يَقُومُونَ بِمَا يَجِبُ مِنْ حَقِّهِ بَلْ إذَا ذَمَّهُ أَحَدٌ لَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَى ذَمِّهِ وَلَا يَذْكُرُونَ مَحَامِدَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَدَحَهُ أَحَدٌ لَسَكَتُوا وَهَؤُلَاءِ مَدِينُونَ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ فِي حَقِّهِ مُفَرِّطُونَ فِي ذَلِكَ ؛ لَا مُعْتَدُونَ عَلَيْهِ وَجَزَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ يَبْخَسُونَ حُقُوقَهُمْ فَلَا يُنْصَفُونَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ وَلَا يُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ كَمَا لَمْ يَنْصُرُوا هَذَا الْمَحْسُودَ وَأَمَّا مَنْ اعْتَدَى بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ فَذَلِكَ يُعَاقَبُ . وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الظَّالِمِينَ نَفَعَهُ اللَّهُ بِتَقْوَاهُ : كَمَا جَرَى لِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُسَامِي عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَسَدُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ لِبَعْضِ كَثِيرٌ غَالِبٌ لَا سِيَّمَا الْمُتَزَوِّجَاتُ بِزَوْجِ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَغَارُ عَلَى زَوْجِهَا لِحَظِّهَا مِنْهُ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ الْمُشَارَكَةِ يَفُوتُ بَعْضُ حَظِّهَا.
وَهَكَذَا الْحَسَدُ يَقَعُ كَثِيرًا بَيْنَ الْمُتَشَارِكِينَ فِي رِئَاسَةٍ أَوْ مَالٍ إذَا أَخَذَ بَعْضُهُمْ قِسْطًا مِنْ ذَلِكَ وَفَاتَ الْآخَرُ ؛ وَيَكُونُ بَيْنَ النُّظَرَاءِ لِكَرَاهَةِ أَحَدِهِمَا أَنْ يُفَضَّلَ الْآخَرُ عَلَيْهِ كَحَسَدِ إخْوَةِ يُوسُفَ كَحَسَدِ ابْنَيْ آدَمَ أَحَدُهُمَا لِأَخِيهِ فَإِنَّهُ حَسَدَهُ لِكَوْنِ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ قُرْبَانَهُ وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ هَذَا ؛ فَحَسَدَهُ عَلَى مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى - كَحَسَدِ الْيَهُودِ لِلْمُسْلِمِينَ - وَقَتْلِهِ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ ثَلَاثَةٌ : الْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ . فَالْحِرْصُ مِنْ آدَمَ وَالْكِبْرُ مِنْ إبْلِيسَ وَالْحَسَدُ مِنْ قَابِيلَ حَيْثُ قَتَلَ هَابِيلَ . وَفِي الْحَدِيثِ { ثَلَاثٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ : الْحَسَدُ وَالظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ . وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إذَا حَسَدْت فَلَا تُبْغِضْ وَإِذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقْ وَإِذَا تَطَيَّرْت فَامْضِ } رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَبَّ إلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ : الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ وَهِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ } فَسَمَّاهُ دَاءً كَمَا سَمَّى الْبُخْلَ دَاءً فِي قَوْلِهِ : { وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ } فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا مَرَضٌ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { أَعُوذُ بِك مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ } فَعَطَفَ الْأَدْوَاءَ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ .
فَإِنَّ " الْخُلُقَ " مَا صَارَ عَادَةً لِلنَّفْسِ وَسَجِيَّةً . قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْهُمْ : عَلَى دِينٍ عَظِيمٍ وَفِي لَفْظٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ . وَكَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ . وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : أَدَبُ الْقُرْآنِ هُوَ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ . وَأَمَّا " الْهَوَى " فَقَدْ يَكُونُ عَارِضًا وَالدَّاءُ هُوَ الْمَرَضُ وَهُوَ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ وَالْفَسَادُ فِيهِ وَقَرَنَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْحَسَدَ بِالْبَغْضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْحَاسِدَ يَكْرَهُ أَوَّلًا فَضْلَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ ؛ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى بُغْضِهِ ؛ فَإِنَّ بُغْضَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي بُغْضَ الْمَلْزُومِ فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ إذَا كَانَتْ لَازِمَةً وَهُوَ يُحِبُّ زَوَالَهَا وَهِيَ لَا تَزُولُ إلَّا بِزَوَالِهِ أَبْغَضَهُ وَأَحَبَّ عَدَمَهُ وَالْحَسَدُ يُوجِبُ الْبَغْيَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ قَبْلَنَا : أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ اخْتِلَافُهُمْ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بَلْ عَلِمُوا الْحَقَّ وَلَكِنْ بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا يَبْغِي الْحَاسِدُ عَلَى الْمَحْسُودِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا ؛ وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ : يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ } وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ أَيْضًا { وَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } . فَهَؤُلَاءِ الْمُبَطِّئُونَ لَمْ يُحِبُّوا لِإِخْوَانِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ بَلْ إنْ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فَرِحُوا بِاخْتِصَاصِهِمْ وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ لَمْ يَفْرَحُوا لَهُمْ بِهَا بَلْ أَحَبُّوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنْهَا حَظٌّ فَهُمْ لَا يَفْرَحُونَ إلَّا بِدُنْيَا تَحْصُلُ لَهُمْ أَوْ شَرٍّ دُنْيَوِيٍّ يَنْصَرِفُ عَنْهُمْ إذَا كَانُوا لَا يُحِبُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَأَحَبُّوا إخْوَانَهُمْ وَأَحَبُّوا مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِ وَتَأَلَّمُوا بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْمُصِيبَةِ وَمَنْ لَمْ يَسُرَّهُ مَا يَسُرُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَسُوءُهُ مَا يَسُوءُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْت النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ وَيَقُولُ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ . إذَا اشْتَكَى مِنْهُ شَيْءٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } . وَالشُّحُّ مَرَضٌ وَالْبُخْلُ مَرَضٌ وَالْحَسَدُ شَرٌّ مِنْ الْبُخْلِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ
الَّذِي
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ
وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ } وَذَلِكَ
أَنَّ الْبَخِيلَ يَمْنَعُ نَفْسَهُ وَالْحَسُودَ يَكْرَهُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى
عِبَادِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ إعْطَاءٌ لِمَنْ يُعِينُهُ عَلَى
أَغْرَاضِهِ وَحَسَدٌ لِنُظَرَائِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ بُخْلٌ بِلَا حَسَدٍ
لِغَيْرِهِ وَالشُّحُّ أَصْلُ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ
فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا
وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا }
وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُكْثِرُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي طَوَافِهِ
يَقُولُ : اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا أَكْثَرَ مَا
تَدْعُو بِهَذَا فَقَالَ : إذَا وُقِيت شُحَّ نَفْسِي وُقِيت الشُّحَّ وَالظُّلْمَ
وَالْقَطِيعَةَ . وَالْحَسَدُ يُوجِبُ الظُّلْمَ
فَصْل :
فَالْبُخْلُ وَالْحَسَدُ مَرَضٌ يُوجِبُ بُغْضَ النَّفْسِ لِمَا يَنْفَعُهَا بَلْ
وَحُبَّهَا لِمَا يَضُرُّهَا وَلِهَذَا يَقْرِنُ الْحَسَدَ بِالْحِقْدِ
وَالْغَضَبِ وَأَمَّا مَرَضُ الشَّهْوَةِ وَالْعِشْقِ فَهُوَ حُبّ النَّفْسِ لِمَا
يَضُرُّهَا وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ بُغْضُهَا لِمَا يَنْفَعُهَا وَالْعِشْقُ
مَرَضٌ نَفْسَانِيٌّ وَإِذَا قَوِيَ أَثَّرَ فِي الْبَدَنِ فَصَارَ مَرَضًا فِي
الْجِسْمِ إمَّا مِنْ أَمْرَاضِ الدِّمَاغِ
كالماليخوليا ؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِيهِ هُوَ مَرَضٌ وَسْوَاسِيٌّ شَبِيهٌ بالماليخوليا وَإِمَّا مِنْ أَمْرَاضِ الْبَدَنِ كَالضَّعْفِ وَالنُّحُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا " مَرَضُ الْقَلْبِ " فَإِنَّهُ أَصْلُ مَحَبَّةِ النَّفْسِ لِمَا يَضُرُّهَا كَالْمَرِيضِ الْبَدَنِ الَّذِي يَشْتَهِي مَا يَضُرُّهُ وَإِذَا لَمْ يُطْعَمْ ذَلِكَ تَأَلَّمَ وَإِنْ أُطْعِمَ ذَلِكَ قَوِيَ بِهِ الْمَرَضُ وَزَادَ . كَذَلِكَ الْعَاشِقُ يَضُرُّهُ اتِّصَالُهُ بِالْمَعْشُوقِ مُشَاهَدَةً وَمُلَامَسَةً وَسَمَاعًا بَلْ وَيَضُرُّهُ التَّفَكُّرُ فِيهِ وَالتَّخَيُّلُ لَهُ وَهُوَ يَشْتَهِي ذَلِكَ فَإِنْ مُنِعَ مِنْ مُشْتَهَاهُ تَأَلَّمَ وَتَعَذَّبَ وَإِنْ أُعْطِيَ مُشْتَهَاهُ قَوِيَ مَرَضُهُ وَكَانَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْأَلَمِ . وَفِي الْحَدِيثِ : { أَنَّ اللَّهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الدُّنْيَا كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ } وَفِي مُنَاجَاةِ مُوسَى الْمَأْثُورَةِ عَنْ وَهْبٍ الَّتِي رَوَاهَا الْإِمَامُ أَحْمَد فِي ( كِتَابِ الزُّهْدِ " { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : إنِّي لَأَذُودُ أَوْلِيَائِي عَنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَرَخَائِهَا كَمَا يَذُودُ الرَّاعِي الشَّفِيقُ إبِلَهُ عَنْ مَرَاتِعِ الْهَلَكَةِ . وَإِنِّي لَأُجَنِّبُهُمْ سُكُونَهَا وَعَيْشَهَا كَمَا يُجَنِّبُ الرَّاعِي الشَّفِيقُ إبِلَهُ عَنْ مَبَارِكِ الْغِرَّةِ وَمَا ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي سَالِمًا مُوَفَّرًا لَمْ تُكَلِّمْهُ الدُّنْيَا وَلَمْ يُطْفِئْهُ الْهَوَى } . وَإِنَّمَا شِفَاءُ الْمَرِيضِ بِزَوَالِ مَرَضِهِ بَلْ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْحُبِّ الْمَذْمُومِ مِنْ قَلْبِهِ . وَالنَّاسُ فِي الْعِشْقِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
قِيلَ
إنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ .
وَقِيلَ : مِنْ بَابِ التَّصَوُّرَاتِ وَأَنَّهُ فَسَادٌ فِي التَّخْيِيلِ حَيْثُ
يَتَصَوَّرُ الْمَعْشُوقُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ قَالَ هَؤُلَاءِ : وَلِهَذَا لَا
يُوصَفُ اللَّهُ بِالْعِشْقِ وَلَا أَنَّهُ يَعْشَقُ ؛ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ
ذَلِكَ وَلَا يُحْمَدُ مَنْ يَتَخَيَّلُ فِيهِ خَيَالًا فَاسِدًا . وَأَمَّا
الْأَوَّلُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُوصَفُ بِالْعِشْقِ فَإِنَّهُ
الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ ؛ وَاَللَّهُ يُحَبُّ وَيُحِبُّ وَرُوِيَ فِي أَثَرٍ
عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي
يَتَقَرَّبُ إلَيَّ يَعْشَقُنِي وَأَعْشَقُهُ } وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ
الصُّوفِيَّةِ . وَالْجُمْهُورُ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ فِي حَقِّ
اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْعِشْقَ هُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى
الْحَدِّ الَّذِي يَنْبَغِي وَاَللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا
فَلَيْسَتْ تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ لَا تَنْبَغِي مُجَاوَزَتُهُ . قَالَ هَؤُلَاءِ :
وَالْعِشْقُ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا لَا يُمْدَحُ لَا فِي مَحَبَّةِ الْخَالِقِ وَلَا
الْمَخْلُوقِ لِأَنَّهُ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَدِّ
الْمَحْمُودِ وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ " الْعِشْقِ " إنَّمَا
يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ لِامْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ
لَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَحَبَّةٍ كَمَحَبَّةِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَطَنِ
وَالْجَاهِ وَمَحَبَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ مَقْرُونٌ كَثِيرًا
بِالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ : إمَّا بِمَحَبَّةِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ
صَبِيٍّ يَقْتَرِنُ بِهِ النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ وَاللَّمْسُ الْمُحَرَّمُ وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ . وَأَمَّا
مَحَبَّةُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَوْ سُرِّيَّتِهِ مَحَبَّةً تُخْرِجُهُ عَنْ الْعَدْلِ بِحَيْثُ يَفْعَلُ لِأَجْلِهَا مَا لَا يَحِلُّ وَيَتْرُكُ مَا يَجِبُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا حَتَّى يَظْلِمَ ابْنَهُ مِنْ امْرَأَتِهِ الْعَتِيقَةِ ؛ لِمَحَبَّتِهِ الْجَدِيدَةِ وَحَتَّى يَفْعَلَ مِنْ مَطَالِبِهَا الْمَذْمُومَةِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِثْلَ أَنْ يَخُصَّهَا بِمِيرَاثِ لَا تَسْتَحِقُّهُ أَوْ يُعْطِيَ أَهْلَهَا مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ مَا يَتَعَدَّى بِهِ حُدُودَ اللَّهِ أَوْ يُسْرِفَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَوْ يُمَلِّكَهَا مِنْ أُمُورٍ مُحَرَّمَةٍ تَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَهَذَا فِي عِشْقِ مَنْ يُبَاحُ لَهُ وَطْؤُهَا . فَكَيْفَ عِشْقُ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالذُّكْرَانِ مِنْ الْعَالَمِينَ ؟ فَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ وَهُوَ مِنْ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُفْسِدُ دِينَ صَاحِبِهَا وَعِرْضَهُ ثُمَّ قَدْ تُفْسِدُ عَقْلَهُ ثُمَّ جِسْمَهُ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } . وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضُ الشَّهْوَةِ وَإِرَادَةُ الصُّورَةِ مَتَى خَضَعَ الْمَطْلُوبُ طَمِعَ الْمَرِيضُ وَالطَّمَعُ الَّذِي يُقَوِّي الْإِرَادَةَ وَالطَّلَبَ وَيُقَوِّي الْمَرَضَ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ آيِسًا مِنْ الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ الْيَأْسَ يُزِيلُ الطَّمَعَ فَتَضْعُفُ الْإِرَادَةُ فَيَضْعُفُ الْحُبُّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ مَا هُوَ آيِسٌ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ مَعَ الْإِرَادَةِ عَمَلٌ أَصْلًا بَلْ يَكُونُ حَدِيثُ نَفْسٍ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ كَلَامٌ أَوْ نَظَرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَأْثَمُ بِذَلِكَ .
فَأَمَّا إذَا اُبْتُلِيَ بِالْعِشْقِ وَعَفَّ وَصَبَرَ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى تَقْوَاهُ اللَّهَ وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { أَنَّ مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ كَانَ شَهِيدًا } وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَفِيهِ نَظَرٌ وَلَا يُحْتَجُّ بِهَذَا . لَكِنْ مِنْ الْمَعْلُومِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إذَا عَفَّ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ نَظَرًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا وَكَتَمَ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ مُحَرَّمٌ إمَّا شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ وَإِمَّا إظْهَارُ فَاحِشَةٍ وَإِمَّا نَوْعُ طَلَبٍ لِلْمَعْشُوقِ وَصَبْرٍ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعَنْ مَعْصِيَتِهِ وَعَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ أَلَمِ الْعِشْقِ كَمَا يَصْبِرُ الْمُصَابُ عَنْ أَلَمِ الْمُصِيبَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَهَكَذَا مَرَضُ الْحَسَدِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَمْرَاضِ النُّفُوسِ وَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ تَطْلُبُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ فَيَنْهَاهَا خَشْيَةً مِنْ اللَّهِ كَانَ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } فَالنَّفْسُ إذَا أَحَبَّتْ شَيْئًا سَعَتْ فِي حُصُولِهِ بِمَا يُمْكِنُ حَتَّى تَسْعَى فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ تَكُونُ كُلُّهَا مَقَامَاتٍ لِتِلْكَ الْغَايَةِ فَمَنْ أَحَبَّ مَحَبَّةً مَذْمُومَةً أَوْ أَبْغَضَ بُغْضًا مَذْمُومًا وَفَعَلَ ذَلِكَ كَانَ آثِمًا مِثْلَ أَنْ يُبْغِضَ شَخْصًا لِحَسَدِهِ لَهُ فَيُؤْذِي مَنْ لَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ إمَّا بِمَنْعِ حُقُوقِهِمْ ؛ أَوْ بِعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ . أَوْ لِمَحَبَّةِ
لَهُ
لِهَوَاهُ مَعَهُ فَيَفْعَلُ لِأَجْلِهِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَا هُوَ
مَأْمُورٌ بِهِ لِلَّهِ فَيَفْعَلُهُ لِأَجْلِ هَوَاهُ لَا لِلَّهِ وَهَذِهِ
أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ فِي النُّفُوسِ وَالْإِنْسَانُ قَدْ يُبْغِضُ شَيْئًا
فَيُبْغِضُ لِأَجْلِهِ أُمُورًا كَثِيرَةً بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ .
وَكَذَلِكَ يُحِبُّ شَيْئًا فَيُحِبُّ لِأَجْلِهِ أُمُورًا كَثِيرَةً ؛ لِأَجْلِ
الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ :
أُحِبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى * * * أُحِبُّ لِحُبِّهَا سُودَ الْكِلَابِ
فَقَدْ أَحَبَّ سَوْدَاءَ ؛ فَأَحَبَّ جِنْسَ السَّوَادِ حَتَّى فِي الْكِلَابِ
وَهَذَا كُلُّهُ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ فِي تَصَوُّرِهِ وَإِرَادَتِهِ . فَنَسْأَلُ
اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَافِيَ قُلُوبَنَا مِنْ كُلِّ دَاءٍ ؛ وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ .
وَالْقَلْبُ إنَّمَا خُلِقَ لِأَجْلِ " حُبّ اللَّهِ تَعَالَى "
وَهَذِهِ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ
؛ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ
جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اقْرَءُوا إنْ
شِئْتُمْ : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ } } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ؛ فَإِذَا تُرِكَتْ الْفِطْرَةُ بِلَا فَسَادٍ كَانَ الْقَلْبُ عَارِفًا بِاَللَّهِ مُحِبًّا لَهُ عَابِدًا لَهُ وَحْدَهُ لَكِنْ تَفْسُدُ فِطْرَتُهُ مِنْ مَرَضِهِ كَأَبَوَيْهِ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُغَيِّرُ فِطْرَتَهُ الَّتِي فَطَرَهُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ - كَمَا يُغَيَّرُ الْبَدَنُ بِالْجَدْعِ - ثُمَّ قَدْ يَعُودُ إلَى الْفِطْرَةِ إذَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا مَنْ يَسْعَى فِي إعَادَتِهَا إلَى الْفِطْرَةِ . وَالرُّسُلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ بُعِثُوا لِتَقْرِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَكْمِيلِهَا لَا لِتَغْيِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَحْوِيلِهَا وَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لَمْ يُبْتَلَ بِحُبِّ غَيْرِهِ أَصْلًا ، فَضْلًا أَنْ يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ . وَحَيْثُ اُبْتُلِيَ بِالْعِشْقِ فَلِنَقْصِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ يُوسُفُ مُحِبًّا لِلَّهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لَمْ يُبْتَلَ بِذَلِكَ بَلْ قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } . وَأَمَّا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَكَانَتْ مُشْرِكَةً هِيَ وَقَوْمُهَا فَلِهَذَا اُبْتُلِيَتْ بِالْعِشْقِ وَمَا يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ أَحَدٌ إلَّا لِنَقْصِ تَوْحِيدِهِ وَإِيمَانِهِ وَإِلَّا فَالْقَلْبُ الْمُنِيبُ إلَى اللَّهِ الْخَائِفُ مِنْهُ فِيهِ صَارِفَانِ يَصْرِفَانِ عَنْ الْعِشْقِ : ( أَحَدُهُمَا إنَابَتُهُ إلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَلَذُّ وَأَطْيَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا تَبْقَى مَعَ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَحَبَّةُ مَخْلُوقٍ تُزَاحِمُهُ .
وَالثَّانِي
خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمُضَادَّ لِلْعِشْقِ يَصْرِفُهُ
وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا بِعِشْقِ أَوْ غَيْرِ عِشْقٍ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ
عَنْ مَحَبَّتِهِ بِمَحَبَّةِ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ إذَا كَانَ
يُزَاحِمُهُ وَيَنْصَرِفُ عَنْ مَحَبَّتِهِ بِخَوْفِ حُصُولِ ضَرَرٍ يَكُونُ
أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ ذَاكَ الْحُبِّ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى
الْعَبْدِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَخْوَفَ عِنْدَهُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَحْصُلْ
مَعَهُ عِشْقٌ وَلَا مُزَاحَمَةٌ إلَّا عِنْدَ غَفْلَةٍ أَوْ عِنْدَ ضَعْفِ هَذَا
الْحُبِّ وَالْخَوْفِ بِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ بَعْضِ
الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ
بِالْمَعْصِيَةِ فَكُلَّمَا فَعَلَ الْعَبْدُ الطَّاعَةَ مَحَبَّةً لِلَّهِ
وَخَوْفًا مِنْهُ وَتَرَكَ الْمَعْصِيَةَ حُبًّا لَهُ وَخَوْفًا مِنْهُ قَوِيَ
حُبُّهُ لَهُ وَخَوْفُهُ مِنْهُ فَيُزِيلُ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ مَحَبَّةِ
غَيْرِهِ وَمَخَافَةِ غَيْرِهِ . وَهَكَذَا أَمْرَاضُ الْأَبْدَانِ : فَإِنَّ
الصِّحَّةَ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ وَالْمَرَضُ يُدْفَعُ بِالضِّدِّ فَصِحَّةُ
الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ وَهُوَ مَا يُورِثُ الْقَلْبَ
إيمَانًا مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَتِلْكَ أَغْذِيَةٌ
لَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا { إنَّ كُلَّ
آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَأَنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ هِيَ
الْقُرْآنُ } وَالْآدِبُ الْمُضِيفُ فَهُوَ ضِيَافَةُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ . . .
(1) .
مِثْلُ آخِرِ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَفِي سُجُودِهِ
وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَيُضَمُّ إلَى ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ ؛ فَإِنَّهُ
مَنْ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ ثُمَّ تَابَ إلَيْهِ مَتَّعَهُ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى .
وَلْيَتَّخِذْ وِرْدًا مِنْ " الْأَذْكَارِ " فِي النَّهَارِ وَوَقْتِ النَّوْمِ وَلْيَصْبِرْ عَلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْمَوَانِعِ والصوارف فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُؤَيِّدَهُ اللَّهُ بِرُوحِ مِنْهُ وَيَكْتُبَ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ . وَلْيَحْرِصْ عَلَى إكْمَالِ الْفَرَائِضِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَاطِنَةً وَظَاهِرَةً فَإِنَّهَا عَمُودُ الدِّينِ وَلْيَكُنْ هَجِيرَاهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَإِنَّهَا بِهَا تُحْمَلُ الْأَثْقَالُ وَتُكَابَدُ الْأَهْوَالُ وَيُنَالُ رَفِيعُ الْأَحْوَالِ . وَلَا يَسْأَمُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُسْتَجَابُ لَهُ مَا لَمْ يُعَجِّلْ فَيَقُولُ : قَدْ دَعَوْت وَدَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي وَلْيَعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا وَلَمْ يَنَلْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ خَتْمِ الْخَيْرِ نَبِيٌّ فَمَنْ دُونَهُ إلَّا بِالصَّبْرِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ حَمْدًا يُكَافِئُ نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ . وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضاً :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا
مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
فَصْل :
فِي مَرَضِ الْقُلُوبِ وَشِفَائِهَا
قَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : أَنَّ صَلَاحَ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي
الْعَدْلِ كَمَا أَنَّ فَسَادَهُ فِي الظُّلْمِ . وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
عَدَلَهُ وَسَوَّاهُ لَمَّا خَلَقَهُ وَصِحَّةُ جِسْمِهِ وَعَافِيَتِهِ مِنْ
اعْتِدَالِ أَخْلَاطِهِ وَأَعْضَائِهِ وَمَرَضُ ذَلِكَ الِانْحِرَافُ وَالْمَيْلُ
. وَكَذَلِكَ اسْتِقَامَةُ الْقَلْبِ وَاعْتِدَالُهُ وَاقْتِصَادُهُ وَصِحَّتُهُ
وَعَافِيَتُهُ وَصَلَاحُهُ مُتَلَازِمَةٌ .
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ " مَرَضَ الْقُلُوبِ وَشِفَاءَهَا " فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَجَاءَ ذَلِكَ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } وَقَالَ : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } وَقَالَ : { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } . وَقَالَ : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } . وَقَالَ : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَلَّا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ } وَقَالَ الرَّشِيدُ : الْآنَ شَفَيْتَنِي يَا مَالِكُ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ " إنَّ أَحَدًا لَا يَزَالُ بِخَيْرِ مَا اتَّقَى اللَّهَ وَإِذَا شَكَّ فِي تَفْسِيرِ شَيْءٍ سَأَلَ رَجُلًا فَشَفَاهُ . وَأَوْشَكَ أَنْ لَا يَجِدَهُ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ " . وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ مَرَضِ الْقُلُوبِ وَشِفَائِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا ذَكَرَ مِنْ مَوْتِهَا
وَحَيَاتِهَا وَسَمْعِهَا وَبَصَرِهَا وَعَقْلِهَا وَصَمَمِهَا وَبُكْمِهَا وَعَمَاهَا . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ مَرَضِ الْقَلْبِ فَنَقُولُ : الْمَرَضُ نَوْعَانِ : فَسَادُ الْحِسِّ . وَفَسَادُ الْحَرَكَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ الْإِرَادِيَّةِ . وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَحْصُلُ بِفَقْدِهِ أَلَمٌ وَعَذَابٌ فَكَمَا أَنَّهُ مَعَ صِحَّةِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ تَحْصُلُ اللَّذَّةُ وَالنِّعْمَةُ فَكَذَلِكَ بِفَسَادِهَا يَحْصُلُ الْأَلَمُ وَالْعَذَابُ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ النِّعْمَةُ مِنْ النَّعِيمِ وَهُوَ مَا يُنْعِمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ لَذَّةٌ وَنَعِيمٌ وَقَالَ : { لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أَيْ عَنْ شُكْرِهِ . فَسَبَبُ اللَّذَّةِ إحْسَاسُ الْمُلَائِمِ وَسَبَبُ الْأَلَمِ إحْسَاسُ الْمُنَافِي لَيْسَ اللَّذَّةُ وَالْأَلَمُ نَفْسَ الْإِحْسَاسِ وَالْإِدْرَاكِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ نَتِيجَتُهُ وَثَمَرَتُهُ وَمَقْصُودُهُ وَغَايَتُهُ فَالْمَرَضُ فِيهِ أَلَمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَسْكُنُ أَحْيَانًا لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ فَالْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ يُهَيِّجُ بِأَدْنَى سَبَبٍ فَلَا بُدَّ فِي الْمَرَضِ مِنْ وُجُودِ سَبَبِ الْأَلَمِ وَإِنَّمَا يَزُولُ الْأَلَمُ بِوُجُودِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ . وَلَذَّةُ الْقَلْبِ وَأَلَمُهُ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الْجِسْمِ وَأَلَمِهِ أَعْنِي أَلَمَهُ وَلَذَّتَهُ النَّفْسانِيّتان
وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الْأَلَمِ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ بِسَبَبِ مَرَضِ الْجِسْمِ فَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ . فَلِذَلِكَ كَانَ مَرَضُ الْقَلْبِ وَشِفَاؤُهُ أَعْظَمَ مِنْ مَرَضِ الْجِسْمِ وَشِفَائِهِ فَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الشُّبُهَاتِ . كَمَا قَالَ : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } وَكَمَا صَنَّفَ الخرائطي " كِتَابَ اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ بِالْأَهْوَاءِ " فَفِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ : الْمَرَضُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ : مِنْ جِهَةِ فَسَادِ الِاعْتِقَادَاتِ وَفَسَادِ الْإِرَادَاتِ . وَالْمَظْلُومُ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَهُوَ الْأَلَمُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ ظُلْمِ الْغَيْرِ لَهُ فَإِذَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ اشْتَفَى قَلْبُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } فَإِنَّ غَيْظَ الْقَلْبِ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْأَذَى وَالْأَلَمِ عَنْهُ فَإِذَا انْدَفَعَ عَنْهُ الْأَذَى وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ زَالَ غَيْظُهُ . فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَارَ لَا يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ وَلَا يُبْصِرُ بِعَيْنِهِ وَلَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ كَانَ ذَلِكَ مَرَضًا مُؤْلِمًا لَهُ يَفُوتُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَضَارِّ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يُبْصِرْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَلْبِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَمْرَاضِ قَلْبِهِ وَأَلَمِهِ ؛ وَكَمَا أَنَّهُ إذَا اشْتَهَى مَا يَضُرُّهُ مِثْلَ الطَّعَامِ الْكَثِيرِ فِي الشَّهْوَةِ الْكُلِّيَّةِ وَمِثْلَ أَكْلِ الطِّينِ وَنَحْوِهِ كَانَ ذَلِكَ مَرَضًا ؛ فَإِنَّهُ يَتَأَلَّمُ حَتَّى يَزُولَ أَلَمُهُ
بِهَذَا الْأَكْلِ الَّذِي يُوجِدُ أَلَمًا أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ فَهُوَ يَتَأَلَّمُ إنْ أَكَلَ ؛ وَيَتَأَلَّمُ إنْ لَمْ يَأْكُلْ . فَكَذَلِكَ إذَا بُلِيَ بِحُبِّ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ الْعِشْقُ وَنَحْوُهُ سَوَاءٌ كَانَ لِصُورَةِ أَوْ لِرِئَاسَةِ أَوْ لِمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَحْبُوبُهُ وَمَطْلُوبُهُ فَهُوَ مُتَأَلِّمٌ وَمَرِيضٌ سَقِيمٌ ؛ وَإِنْ حَصَلَ مَحْبُوبُهُ فَهُوَ أَشَدُّ مَرَضًا وَأَلَمًا وَسَقَمًا ؛ وَلِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا كَانَ يُبْغِضُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَانَ ذَلِكَ الْأَلَمُ حَاصِلًا ؛ وَكَانَ دَوَامُهُ عَلَى ذَلِكَ يُوجِبُ مِنْ الْأَلَمِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَقْتُلَهُ ؛ حَتَّى يَزُولَ مَا يُوجِبُ بُغْضَهُ لِمَا يَنْفَعُهُ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ فَهُوَ مُتَأَلِّمٌ فِي الْحَالِ ؛ وَتَأَلُّمُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ لَمْ يُعَافِهِ اللَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ . فَبُغْضُ الْحَاسِدِ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْمَحْسُودِ كَبُغْضِ الْمَرِيضِ لِأَكْلِ الْأَصِحَّاءِ لِأَطْعِمَتِهِمْ وَأَشْرِبَتِهِمْ حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يَرَاهُمْ يَأْكُلُونَ ؛ وَنَفْرَتُهُ عَنْ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّهِ كَنَفْرَةِ الْمَرِيضِ عَمَّا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ ؛ فَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ الْخَارِجُ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَالصِّحَّةِ فِي النَّفْسِ كَالشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ الْخَارِجِ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَالصِّحَّةِ فِي الْجِسْمِ . وَعَمَى الْقَلْبِ وَبُكْمِهِ أَنْ يُبْصِرَ الْحَقَائِقَ وَيُمَيِّزَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ كَعَمَى الْجِسْمِ وَخَرَسِهِ عَنْ أَنْ يُبْصِرَ الْأُمُورَ الْمُرَتَّبَةَ وَيَتَكَلَّمَ بِهَا وَيُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ . وَكَمَا أَنَّ الضَّرِيرَ إذَا أَبْصَرَ وَجَدَ أَنَّ الرَّاحَةَ وَالْعَافِيَةَ وَالسُّرُورَ أَمْرًا
عَظِيمًا فَبَصَرُ الْقَلْبِ وَرُؤْيَتُهُ الْحَقَائِقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَصَرِ الرَّأْسِ مِنْ التَّفَاوُتِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا تَشْبِيهُ أَحَدِ الْمَرَضَيْنِ بِالْآخَرِ . فَطِبُّ الْأَدْيَانِ يَحْتَذِي حَذْوَ طِبِّ الْأَبْدَانِ . وَقَدْ كَتَبَ سُلَيْمَانُ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ . أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّك قَعَدْت طَبِيبًا فَإِيَّاكَ أَنْ تَقْتُلَ وَاَللَّهُ أَنْزَلَ كِتَابَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا } ذَلِكَ أَنَّ الشِّفَاءَ إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ يَتَعَمَّدُ الدَّوَاءَ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَضَعُوا دَوَاءَ الْقُرْآنِ عَلَى دَاءِ قُلُوبِهِمْ . فَمَرَضُ الْجِسْمِ يَكُونُ بِخُرُوجِ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ الطَّبِيعِيَّةِ عَنْ الِاعْتِدَالِ : أَمَّا شَهْوَةُ مَا لَا يَحْصُلُ أَوْ يَفْقِدُ الشَّهْوَةَ النَّافِعَةَ وَيَنْفِرُ بِهِ عَمَّا يَصْلُحُ وَيَفْقِدُ النَّفْرَةَ عَمَّا يَضُرُّ وَيَكُونُ بِضَعْفِ قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ وَالْحَرَكَةِ كَذَلِكَ مَرَضُ الْقَلْبِ يَكُونُ بِالْحُبِّ وَالْبُغْضِ الْخَارِجَيْنِ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَهِيَ الْأَهْوَاءُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } . وَقَالَ : { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } . كَمَا يَكُونُ الْجَسَدُ خَارِجًا عَنْ الِاعْتِدَالِ إذَا فَعَلَ مَا يَشْتَهِيهِ الْجِسْمُ بِلَا قَوْلِ الطَّبِيبِ وَيَكُونُ لِضَعْفِ إدْرَاكِ الْقَلْبِ وَقُوَّتِهِ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ أَنْ يَعْلَمَ وَيُرِيدَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَصْلُحُ لَهُ وَكَمَا أَنَّ الْمَرْضَى الْجُهَّالَ قَدْ يَتَنَاوَلُونَ مَا يَشْتَهُونَ فَلَا
يَحْتَمُونَ وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَى الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلِ نَوْعٍ مِنْ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ يَعْقُبُهُمْ مِنْ الْآلَامِ مَا يَعْظُمُ قَدْرُهُ أَوْ يُعَجِّلُ الْهَلَاكَ . فَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ هُمْ جُهَّالٌ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ : يَسْتَعْجِلُ أَحَدُهُمْ مَا تُرَغِّبُهُ لَذَّتُهُ وَيَتْرُكُ مَا تَكْرَهُهُ نَفْسُهُ مِمَّا هُوَ لَا يَصْلُحُ لَهُ فَيَعْقُبُهُمْ ذَلِكَ مِنْ الْأَلَمِ وَالْعُقُوبَاتِ . إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ مَا فِيهِ عِظَمُ الْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ الْأَعْظَمِ . وَ " التَّقْوَى " هِيَ الِاحْتِمَاءُ عَمَّا يَضُرُّهُ بِفِعْلِ مَا يَنْفَعُهُ ؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَاءَ عَنْ الضَّارِّ يَسْتَلْزِمُ اسْتِعْمَالَ النَّافِعِ وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ النَّافِعِ فَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ أَيْضًا اسْتِعْمَالٌ لِضَارِّ فَلَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ . وَأَمَّا تَرْكُ اسْتِعْمَالِ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ فَهَذَا لَا يَكُونُ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا عَجَزَ عَنْ تَنَاوُلِ الْغِذَاءِ كَانَ مُغْتَذِيًا بِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَوَادِّ الَّتِي تَضُرُّهُ حَتَّى يَهْلَكَ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى وَلِلْمُتَّقِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُحْتَمُونَ عَمَّا يَضُرُّهُمْ فَعَاقِبَتُهُمْ الْإِسْلَامُ وَالْكَرَامَةُ وَإِنْ وَجَدُوا أَلَمًا فِي الِابْتِدَاءِ لِتَنَاوُلِ الدَّوَاءِ وَالِاحْتِمَاءِ كَفِعْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمَكْرُوهَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } . وَلِكَثْرَةِ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ الْمُشْتَهَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } . وَكَمَا قَالَ : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَحْتَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِضَرَرِهِ فِي الْعَاقِبَةِ وَمَنْ تَنَاوَلَ مَا يَنْفَعُهُ مَعَ يَسِيرٍ مِنْ التَّخْلِيطِ فَهُوَ أَصْلَحُ مِمَّنْ احْتَمَى حَمِيَّةً كَامِلَةً وَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْأَشْيَاءَ سِرًّا ؛ فَإِنَّ الْحَمِيَّةَ التَّامَّةَ بِلَا اغْتِذَاءٍ تُمْرِضُ فَهَكَذَا مَنْ تَرَكَ السَّيِّئَاتِ وَلَمْ يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي " قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ " أَنَّ جِنْسَ الْحَسَنَاتِ أَنْفَعُ مَنْ جِنْسِ تَرْكِ السَّيِّئَاتِ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الِاغْتِذَاءِ مِنْ جِنْسِ الِاحْتِمَاءِ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ بِالِانْضِمَامِ إلَى غَيْرِهِ وَكَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ الِاحْتِمَاءُ عَنْ سَبَبِ الْمَرَضِ قَبْلَ حُصُولِهِ وَإِزَالَتِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ فَهَكَذَا أَمْرَاضُ الْقَلْبِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى حِفْظِ الصِّحَّةِ ابْتِدَاءً وَإِلَى إعَادَتِهَا - بِأَنْ عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ - دَوَامًا وَالصِّحَّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ وَالْمَرَضُ يَزُولُ بِالضِّدِّ فَصِحَّةُ الْقَلْبِ تُحْفَظُ بِاسْتِعْمَالِ أَمْثَالِ مَا فِيهَا أَوْ هُوَ مَا يُقَوِّي الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مِنْ الذِّكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ وَتَزُولُ بِالضِّدِّ فَتُزَالُ الشُّبُهَاتُ بِالْبَيِّنَاتِ وَتُزَالُ مَحَبَّةُ الْبَاطِلِ بِبُغْضِهِ وَمَحَبَّةِ الْحَقِّ . وَلِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ : الْعُلُومُ خَمْسَةٌ : فَعِلْمٌ هُوَ حَيَاةُ الدُّنْيَا . وَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ . وَعِلْمٌ هُوَ غِذَاءُ الدِّينِ ؛ وَهُوَ عِلْمُ التَّذَكُّرِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ . وَعِلْمٌ هُوَ دَوَاءُ الدِّينِ ؛ وَهُوَ عِلْمُ الْفَتْوَى إذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ نَازِلَةٌ احْتَاجَ إلَى مَنْ
يَشْفِيهِ مِنْهَا كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَعِلْمٌ هُوَ دَاءُ الدِّينِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ وَعِلْمٌ هُوَ هَلَاكُ الدِّينِ ؛ وَهُوَ عِلْمُ السِّحْرِ وَنَحْوِهِ . فَحِفْظُ الصِّحَّةِ بِالْمِثْلِ وَإِزَالَةُ الْمَرَضِ بِالضِّدِّ فِي مَرَضِ الْجِسْمِ الطَّبِيعِيِّ وَمَرَضُ الْقَلْبِ النَّفْسَانِيِّ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تَحُسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } . { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلَى قَوْلِهِ { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } إلَى قَوْلِهِ { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى إقَامَةِ الْوَجْهِ حَنِيفًا وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَهَذِهِ مِنْ الْحَرَكَةِ الْفِطْرِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ الْمُعْتَدِلَةِ لِلْقَلْبِ وَتَرْكُهَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ اتَّبَعَ أَهْلُهُ أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا بُدَّ لِهَذِهِ الْفِطْرَةِ وَالْخِلْقَةِ . - وَهِيَ صِحَّةُ الْخِلْقَةِ - مِنْ قُوتٍ وَغِذَاءٍ يَمُدُّهَا بِنَظِيرِ مَا فِيهَا مِمَّا فُطِرَتْ عَلَيْهِ عِلْمًا وَعَمَلًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَمَامُ الدِّينِ بِالْفِطْرَةِ الْمُكَمَّلَةِ بِالشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ وَهِيَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ : { إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ
تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَإِنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ هِيَ الْقُرْآنُ } وَمَثَلُهُ كَمَاءِ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ كَمَا جَرَى تَمْثِيلُهُ بِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالْمُحَرِّفُونَ لِلْفِطْرَةِ الْمُغَيِّرُونَ لِلْقَلْبِ عَنْ اسْتِقَامَتِهِ هُمْ مُمْرِضُونَ الْقُلُوبَ مُسْقِمُونَ لَهَا وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ كِتَابَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ . وَمَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمَصَائِبِ هِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا تُصِيبُ الْجِسْمَ مِنْ الْأَلَمِ يَصِحُّ بِهَا الْجِسْمُ وَتَزُولُ أَخْلَاطُهُ الْفَاسِدَةُ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا خَطَايَاهُ } وَذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِقَوْلِهِ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } . وَمَنْ لَمْ يُطَهَّرْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ فَيَئُوبُ صَحِيحًا وَإِلَّا احْتَاجَ أَنْ يُطَهَّرَ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ كَاَلَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَخْلَاطُهُ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ الْأَدْوِيَةَ لِتَخْفِيفِهَا عَنْهُ فَتَجْتَمِعُ حَتَّى يَكُونَ هَلَاكُهُ بِهَا وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ " إذَا قَالُوا لِلْمَرِيضِ : اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ يَقُولُ اللَّهُ : كَيْفَ أَرْحَمُهُ مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُهُ " وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَرَضُ حِطَّةٌ يَحُطُّ الْخَطَايَا عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ الْيَابِسَةُ وَرَقَهَا } . وَكَمَا أَنَّ أَمْرَاضَ الْجِسْمِ مَا إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ كَانَ شَهِيدًا . كَالْمَطْعُونِ وَالْمَبْطُونِ وَصَاحِبِ ذَاتِ الْجَنْبِ وَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ بِغَرَقِ أَوْ حَرْقٍ أَوْ هَدْمٍ ؛ فَمِنْ
أَمْرَاضِ النَّفْسِ مَا إذَا اتَّقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ فِيهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ كَانَ شَهِيدًا كَالْجَبَانِ الَّذِي يَتَّقِي اللَّهَ وَيَصْبِرُ لِلْقِتَالِ حَتَّى يُقْتَلَ ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ مِنْ أَمْرَاضِ النُّفُوسِ إنْ أَطَاعَهُ أَوْجَبَ لَهُ الْأَلَمَ وَإِنْ عَصَاهُ تَأَلَّمَ كَأَمْرَاضِ الْجِسْمِ . وَكَذَلِكَ الْعِشْقُ فَقَدْ رُوِيَ { مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ مَاتَ شَهِيدًا } فَإِنَّهُ مَرَضٌ فِي النَّفْسِ يَدْعُو إلَى مَا يَضُرُّ النَّفْسَ كَمَا يَدْعُو الْمَرِيضَ إلَى تَنَاوُلِ مَا يَضُرُّ فَإِنْ أَطَاعَ هَوَاهُ عَظُمَ عَذَابُهُ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا أَيْضًا وَإِنْ عَصَى الْهَوَى بِالْعِفَّةِ وَالْكِتْمَانِ صَارَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَلَمِ وَالسَّقَمِ مَا فِيهَا فَإِذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ كَانَ شَهِيدًا هَذَا يَدْعُوهُ إلَى النَّارِ فَيَمْنَعُهُ كَالْجَبَانِ تَمْنَعُهُ نَفْسُهُ عَنْ الْجَنَّةِ فَيُقَدِّمُهَا . فَهَذِهِ الْأَمْرَاضُ إذَا كَانَ مَعَهَا إيمَانٌ وَتَقْوَى كَانَتْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ } . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ . وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
سُئِلَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ }
فَمَا الْعِبَادَةُ وَفُرُوعُهَا ؟ وَهَلْ مَجْمُوعُ الدِّينِ دَاخِلٌ فِيهَا أَمْ
لَا ؟ وَمَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ ؟ وَهَلْ هِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمْ فَوْقَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَقَامَاتِ ؟
وَلِيَبْسُطُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، " الْعِبَادَةُ " هِيَ اسْمٌ
جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ : مِنْ الْأَقْوَالِ
وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ
وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ ؛ وَبِرُّ
الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ وَالْأَمْرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَالْجِهَادُ لِلْكُفَّارِ
وَالْمُنَافِقِينَ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ
وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ .
وَكَذَلِكَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ
. وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالصَّبْرُ لِحُكْمِهِ وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ
وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ ؛ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ ؛
وَالرَّجَاءُ لِرَحْمَتِهِ وَالْخَوْفُ لِعَذَابِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ وَالْمَرْضِيَّةُ لَهُ الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَبِهَا أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إلَى الْمَوْتِ كَمَا قَالَ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ } { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ : { وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } وَقَالَ : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } الْآيَاتِ . وَلَمَّا قَالَ الشَّيْطَانُ : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا } { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } { أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا } { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَسِيحِ - الَّذِي اُدُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ - { إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } وَقَدْ نَعَتَهُ اللَّهُ " بِالْعُبُودِيَّةِ " فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فَقَالَ فِي الْإِسْرَاءِ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } وَقَالَ فِي الْإِيحَاءِ : { فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } وَقَالَ فِي الدَّعْوَةِ : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } وَقَالَ فِي التَّحَدِّي : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ قَالَ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا . قَالَ : فَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ . قَالَ فَمَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الدِّينِ . وَ " الدِّينُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ . يُقَالُ : دِنْته فَدَانَ أَيْ : ذَلَّلْته فَذَلَّ وَيُقَالُ يَدِينُ اللَّهَ وَيَدِينُ لِلَّهِ أَيْ : يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُطِيعُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ فَدِينُ اللَّهِ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ .
وَ " الْعِبَادَةُ " أَصْلُ مَعْنَاهَا الذُّلُّ أَيْضًا يُقَالُ : طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إذَا كَانَ مُذَلَّلًا قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ . لَكِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الذُّلِّ وَمَعْنَى الْحُبِّ فَهِيَ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ بِغَايَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ فَإِنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ الْحُبِّ هُوَ التَّتْمِيمُ وَأَوَّلُهُ " الْعَلَاقَةُ " لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ ثُمَّ " الْعِشْقُ " وَآخِرُهَا " التَّتْمِيمُ " يُقَالُ : تَيْمُ اللَّهِ أَيْ : عَبْدُ اللَّهِ فَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ لِمَحْبُوبِهِ . وَمَنْ خَضَعَ لِإِنْسَانِ مَعَ بُغْضِهِ لَهُ لَا يَكُونُ عَابِدًا لَهُ وَلَوْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَخْضَعْ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لَهُ كَمَا قَدْ يُحِبُّ وَلَدَهُ وَصَدِيقَهُ وَلِهَذَا لَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ وَالذُّلَّ التَّامَّ إلَّا اللَّهُ . وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ وَمَا عُظِّمَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ كَانَ تَعْظِيمُهُ بَاطِلًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } فَجِنْسُ الْمَحَبَّةِ تَكُونُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَالطَّاعَةِ ؛ فَإِنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْإِرْضَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } وَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } . وَأَمَّا " الْعِبَادَةُ " وَمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ التَّوَكُّلِ ؛ وَالْخَوْفِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَقَوْلِهِ : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . وَأَمَّا الحسب وَهُوَ الْكَافِي فَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك اللَّهُ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى حَسْبُك اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } . وَ " تَحْرِيرُ ذَلِكَ " أَنَّ الْعَبْدَ يُرَادُ بِهِ " الْمُعَبَّدُ " الَّذِي عَبَّدَهُ اللَّهُ فَذَلَّلَهُ وَدَبَّرَهُ
وَصَرَّفَهُ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمَخْلُوقُونَ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ مِنْ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ؛ إذْ هُوَ رَبُّهُمْ كُلُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ ؛ فَمَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَاءُوا . وَمَا شَاءُوا إنْ لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَمُحْيِيهِمْ وَمُمِيتُهُمْ وَمُقَلِّبُ قُلُوبِهِمْ وَمُصَرِّفُ أُمُورِهِمْ لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرُهُ وَلَا مَالِكَ لَهُمْ سِوَاهُ وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ سَوَاءٌ اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرُوهُ وَسَوَاءٌ عَلِمُوا ذَلِكَ أَوْ جَهِلُوهُ ؛ لَكِنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ عَرَفُوا ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِهِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ ؛ أَوْ جَاحِدًا لَهُ مُسْتَكْبِرًا عَلَى رَبِّهِ لَا يُقِرُّ وَلَا يَخْضَعُ لَهُ ؛ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ . فَالْمَعْرِفَةُ بِالْحَقِّ إذَا كَانَتْ مَعَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِهِ وَالْجَحْدِ لَهُ كَانَ عَذَابًا عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .
فَإِنْ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ ؛ وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ عَرَفَ الْعُبُودِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ وَهَذَا الْعَبْدُ يَسْأَلُ رَبَّهُ فَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ لَكِنْ قَدْ يُطِيعُ أَمْرَهُ ؛ وَقَدْ يَعْصِيهِ وَقَدْ يَعْبُدُهُ مَعَ ذَلِكَ ؛ وَقَدْ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَالْأَصْنَامَ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلَا يَصِيرُ بِهَا الرَّجُلُ مُؤْمِنًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَشْهَدُهَا يَشْهَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا وَفِي شُهُودِهَا وَمَعْرِفَتِهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَإِبْلِيسُ مُعْتَرِفٌ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ ؛ وَأَهْلُ النَّارِ . قَالَ إبْلِيسُ : { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وَقَالَ : { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } وَأَمْثَالَ هَذَا مِنْ الْخِطَابِ الَّذِي يُقِرُّ فِيهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَخَالِقُ غَيْرِهِ ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ قَالُوا : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا
قَوْمًا
ضَالِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ
قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } فَمَنْ وَقَفَ عِنْدَ
هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَعِنْدَ شُهُودِهَا وَلَمْ يَقُمْ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْحَقِيقَةِ
الدِّينِيَّةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَتُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِلَهِيَّتِهِ
وَطَاعَةِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ إبْلِيسَ وَأَهْلِ
النَّارِ ؛ وَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ
وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ الَّذِينَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ الْأَمْرُ
وَالنَّهْيُ الشَّرْعِيَّانِ كَانَ مِنْ أَشَرِّ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ
.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَضِرَ وَغَيْرَهُ سَقَطَ عَنْهُمْ الْأَمْرُ لِمُشَاهَدَةِ
الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ هَذَا مِنْ شَرِّ أَقْوَالِ
الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . حَتَّى يَدْخُلَ فِي " النَّوْعِ
الثَّانِي " مِنْ مَعْنَى الْعَبْدِ وَهُوَ الْعَبْدُ بِمَعْنَى الْعَابِدِ
فَيَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ ؛ فَيُطِيعُ أَمْرَهُ
وَأَمْرَ رُسُلِهِ وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ ؛
وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ
وَلِهَذَا كَانَ عُنْوَانُ التَّوْحِيدِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "
بِخِلَافِ مَنْ يُقِرُّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَلَا يَعْبُدُهُ : أَوْ يَعْبُدُ مَعَهُ
إلَهًا آخَرَ فَالْإِلَهُ الَّذِي يألهه الْقَلْبُ بِكَمَالِ الْحُبِّ
وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا وَبِهَا
وَصَفَ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْ عِبَادِهِ وَبِهَا بَعَثَ رُسُلَهُ . وَأَمَّا "
الْعَبْدُ " بِمَعْنَى الْمُعَبَّدِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَوْ
أَنْكَرَهُ : فَتِلْكَ يَشْتَرِكُ
فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ . وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ " الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ " الدَّاخِلَةِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَيُوَالِي أَهْلَهَا وَيُكْرِمُهُمْ بِجَنَّتِهِ وَبَيْنَ " الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ الَّتِي مَنْ اكْتَفَى بِهَا وَلَمْ يَتَّبِعْ الْحَقَائِقَ الدِّينِيَّةَ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ وَالْكَافِرِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَمَنْ اكْتَفَى بِهَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ فِي مَقَامٍ أَوْ حَالٍ نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ وَوِلَايَتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ . وَهَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ فِيهِ غَلِطَ الغالطون وَكَثُرَ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ عَلَى السَّالِكِينَ حَتَّى زَلَقَ فِيهِ مِنْ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ الْمُدَّعِينَ التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْإِعْلَانَ ؛ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّيْخُ " عَبْدُ الْقَادِرِ " رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ فَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّجَالِ إذَا وَصَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا إلَّا أَنَا فَإِنِّي انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْتُ أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ ؛ وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ لَا مَنْ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقَدَرِ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّجَالِ غَلِطُوا فَإِنَّهُمْ قَدْ يَشْهَدُونَ مَا يُقَدَّرُ عَلَى أَحَدِهِمْ مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ ؛ أَوْ مَا يُقَدَّرُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ بَلْ مِنْ الْكُفْرِ ؛ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ هَذَا جَارٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ
فَيَظُنُّونَ الِاسْتِسْلَامَ لِذَلِكَ وَمُوَافَقَتَهُ وَالرِّضَا بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ دِينًا وَطَرِيقًا وَعِبَادَةً ؛ فَيُضَاهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } . وَقَالُوا : { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } . وَقَالُوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } وَلَوْ هُدُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الْقَدَرَ أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ وَنَصْبِرَ عَلَى مُوجَبِهِ فِي الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُنَا كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْخَوْفِ قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى أَنْتَ آدَمَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ آدَمَ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ فَهَلْ وَجَدْتَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى }.
وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِالْقَدَرِ ظَنًّا أَنَّ الْمُذْنِبَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا عُذْرًا لَكَانَ عُذْرًا لإبليس وَقَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَكُلِّ كَافِرٍ وَلَا مُوسَى لَامَ آدَمَ أَيْضًا لِأَجْلِ الذَّنْبِ فَإِنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ إلَى رَبِّهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَى وَلَكِنْ لَامَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ بِالْخَطِيئَةِ وَلِهَذَا قَالَ : فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَأَجَابَهُ آدَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ فَكَانَ الْعَمَلُ وَالْمُصِيبَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ مُقَدَّرًا وَمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاَللَّهِ رَبًّا . وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ فَيَتُوبُ مِنْ المعائب وَيَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ . قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَالَ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَالَ يُوسُفُ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَكَذَلِكَ ذُنُوبُ الْعِبَادِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهَا أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ - وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُوَالِيَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِيَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضَ فِي اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلَى قَوْلِهِ : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } وَقَالَ : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } { وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ
الْمَعْصِيَةِ وَأَهْلِ الْبِرِّ وَأَهْلِ الْفُجُورِ وَأَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَأَهْلِ الْغَيِّ وَالرَّشَادِ وَأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ . فَمَنْ شَهِدَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " دُونَ " الدِّينِيَّةِ " سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهَا غَايَةَ التَّفْرِيقِ حَتَّى يَئُولَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهَ بِالْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } بَلْ قَدْ آلَ الْأَمْرُ بِهَؤُلَاءِ إلَى أَنْ سَوَّوْا اللَّهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَجَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ حَقًّا لِكُلِّ مَوْجُودٍ إذْ جَعَلُوهُ هُوَ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ بِرَبِّ الْعِبَادِ . وَهَؤُلَاءِ يَصِلُ بِهِمْ الْكُفْرُ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ عِبَادٌ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَابِدُونَ ؛ إذْ يَشْهَدُونَ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقَّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ الْمُفْتَرِينَ كَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ وَهَذَا لَيْسَ بِشُهُودِ لِحَقِيقَةِ ؛ لَا كَوْنِيَّةٍ وَلَا دِينِيَّةٍ ؛ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ وَعَمًى عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وَجَعَلُوا كُلَّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ وَمَمْدُوحٍ نَعْتًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ إذْ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا عِنْدَهُمْ .
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ عَوَامُّهُمْ وَخَوَّاصُهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ } فَهَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ لَيْسَ هُوَ حَالًّا فِيهِ وَلَا مُتَّحِدًا بِهِ وَلَا وُجُودُهُ وَجُودُهُ . وَ " النَّصَارَى " كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ قَالُوا : بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ خَاصَّةً فَكَيْفَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ . وَيَعْلَمُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَأَنَّ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ فَيُطِيعُوا أَمْرَهُ وَيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ . فَيَجْتَهِدُونَ فِي إقَامَةِ دِينِهِ مُسْتَعِينِينَ بِهِ دَافِعِينَ مُزِيلِينَ بِذَلِكَ مَا قُدِّرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ دَافِعِينَ بِذَلِكَ مَا قَدْ يُخَافُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُزِيلُ الْإِنْسَانُ الْجُوعَ الْحَاضِرَ بِالْأَكْلِ وَيَدْفَعُ بِهِ الْجُوعَ الْمُسْتَقْبَلَ وَكَذَلِكَ إذَا آنَ أَوَانُ الْبَرْدِ
دَفَعَهُ بِاللِّبَاسِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَطْلُوبٍ يُدْفَعُ بِهِ مَكْرُوهٌ . كَمَا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقَاةً نَتَّقِي بِهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } . وَفِي الْحَدِيثِ { إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَهِيَ رُبُوبِيَّتُهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الضَّلَالِ . فَغُلَاتُهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَامًّا فَيَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ فِي كُلِّ مَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الشَّرِيعَةَ . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } . وَقَالُوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ تَنَاقُضًا ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ كُلُّ آدَمِيٍّ عَلَى مَا فَعَلَ ؛ فَلَا بُدَّ إذَا ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ ظَالِمٌ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَأَخَذَ يَسْفِكُ دِمَاءَ النَّاسِ وَيَسْتَحِلُّ الْفُرُوجَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ
أَنْوَاعِ الضَّرَرِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِهَا أَنْ يَدْفَعَ هَذَا الْقَدَرَ ؛ وَأَنْ يُعَاقِبَ الظَّالِمَ بِمَا يَكُفُّ عُدْوَانَ أَمْثَالِهِ . فَيُقَالُ لَهُ إنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً فَدَعْ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِكَ وَبِغَيْرِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بَطَلَ أَصْلُ قَوْلِكَ : حُجَّةٌ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ لَا يَطْرُدُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا يَلْتَزِمُونَهُ وَإِنَّمَا هُمْ بِحَسَبِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ ؛ كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ ؛ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ . وَمِنْهُمْ " صِنْفٌ " يَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِمَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِعْلًا وَأَثْبَتَ لَهُ صُنْعًا ؛ أَمَّا مَنْ شَهِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مَخْلُوقَةٌ ؛ أَوْ أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ كَمَا تُحَرَّكُ سَائِرُ الْمُتَحَرِّكَاتِ ؛ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ . وَقَدْ يَقُولُونَ : مَنْ شَهِدَ " الْإِرَادَةَ " سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَيَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الْخَضِرَ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لِشُهُودِهِ الْإِرَادَةَ فَهَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُ يُدَبِّرُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا وَبَيْنَ مَنْ يَرَاهُ شُهُودًا فَلَا يُسْقِطُونَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ فَقَطْ وَلَكِنْ عَمَّنْ
يَشْهَدُهُ فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ فِعْلًا أَصْلًا وَهَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَ الْجَبْرَ وَإِثْبَاتَ الْقَدَرِ مَانِعًا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَاقَ نِطَاقُهُمْ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ خِلَافُهُ كَمَا ضَاقَ نِطَاقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ . ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتَتْ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الَّذِي هُوَ إرَادَةُ اللَّهِ الْعَامَّةُ وَخَلْقُهُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَنَفَوْا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي حَقِّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ إذْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ مُطْلَقًا . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِلْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ مَنْ وَصَلَ إلَى شُهُودِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَصَارَ مِنْ الْخَاصَّةِ . وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } وَجَعَلُوا الْيَقِينَ هُوَ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كُفْرٌ صَرِيحٌ . وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كُفْرٌ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا
إلَى أَنْ يَمُوتَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا بِشُهُودِهِ الْقَدَرَ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عَرَّفَهُ ؛ وَبَيَّنَ لَهُ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ . وَقَدْ كَثُرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ . وَأَمَّا الْمُسْتَقْدِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ مَعْرُوفَةً فِيهِمْ . وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ هِيَ مُحَادَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُعَادَاةٌ لَهُ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِهِ وَمُشَاقَّةٌ لَهُ ؛ وَتَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ ؛ وَمُضَادَّةٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ قَدْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ طَرِيقُ الرَّسُولِ ؛ وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ ؛ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ ؛ أَوْ أَنَّ الْفَاحِشَةَ حَلَالٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَحْرِ لَا تُكَدِّرُهُ الذُّنُوبُ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ ؛ وَبَيْنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ ؛ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ
فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إمَّا أَنْ يَبْتَدِعُوا وَإِمَّا أَنْ يَحْتَجُّوا بِالْقَدَرِ وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ وَالْعِبَادَةِ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ بِمِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ : { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } إلَى قَوْلِهِ { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } .
وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُسَمُّونَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ " حَقِيقَةً " كَمَا يُسَمُّونَ مَا يَشْهَدُونَ مِنْ الْقَدَرِ " حَقِيقَةً " . وَطَرِيقُ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ السُّلُوكُ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ صَاحِبُهُ بِأَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ . وَلَكِنْ بِمَا يَرَاهُ وَيَذُوقُهُ وَيَجِدُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ عُمْدَتُهُمْ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَجَعْلِهِمْ لِمَا يَرَوْنَهُ وَيَهْوَوْنَهُ حَقِيقَةً وَأَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِهَا دُونَ اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ نَظِيرُ بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَقَائِقَ عَقْلِيَّةً يَجِبُ اعْتِقَادُهَا دُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السَّمْعِيَّاتُ . ثُمَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إمَّا أَنْ يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ بَلْ يَقُولُونَ : نُفَوِّضُ مَعْنَاهُ إلَى اللَّهِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ نَقِيضَ مَدْلُولِهِ . وَإِذَا حُقِّقَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجِدَتْ جهليات وَاعْتِقَادَاتٌ فَاسِدَةٌ . وَكَذَلِكَ أُولَئِكَ إذَا حُقِّقَ عَلَيْهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَقَائِقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجِدَتْ مِنْ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَتَّبِعُهَا أَعْدَاءُ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاؤُهُ . وَأَصْلُ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ هُوَ بِتَقْدِيمِ قِيَاسِهِ عَلَى النَّصِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاخْتِيَارِهِ الْهَوَى عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ مَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ فَكُلُّ مُحِبٍّ لَهُ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ . فَأَهْلُ الْإِيمَانِ لَهُمْ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مِثْلُ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا
سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا } . وَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ وَالشَّهَوَاتِ فَكُلٌّ بِحَسَبِهِ قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة : مَا بَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَهُمْ مَحَبَّةٌ شَدِيدَةٌ لِأَهْوَائِهِمْ فَقَالَ أَنَسِيتَ قَوْله تَعَالَى { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } وَلِهَذَا يَمِيلُ هَؤُلَاءِ إلَى سَمَاعِ الشِّعْرِ وَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُهَيِّجُ الْمَحَبَّةَ الْمُطْلَقَةَ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهَا مُحِبُّ الرَّحْمَنِ وَمُحِبُّ الْأَوْثَانِ وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ وَمُحِبُّ المردان وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَذْوَاقَهُمْ وَمَوَاجِيدَهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ . فَالْمُخَالِفُ لِمَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِدِينِ شَرَعَهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } { إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } إلَى قَوْلِهِ . { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } بَلْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَهُمْ فِي ذَلِكَ تَارَةً يَكُونُونَ عَلَى بِدْعَةٍ يُسَمُّونَهَا حَقِيقَةً يُقَدِّمُونَهَا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَتَارَةً يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ هُمْ أَعْلَاهُمْ قَدْرًا وَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِالدِّينِ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْمَشْهُورَةِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ لَكِنْ يَغْلَطُونَ فِي تَرْكِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ ظَانِّينَ أَنَّ الْعَارِفَ إذَا شَهِدَ " الْقَدَرَ " أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ مِثْلَ مَنْ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ مِنْهُمْ أَوْ الدُّعَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ عَلِمَ أَنَّ مَا قُدِّرَ سَيَكُونُ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْبَابِهَا كَمَا قَدَّرَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ بِأَسْبَابِهَا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ } وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْمَقَادِيرَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ ؟ فَقَالَ : لَا . اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ . أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ } .
فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ عِبَادَةٌ وَالتَّوَكُّلُ مَقْرُونٌ بِالْعِبَادَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } وَقَوْلِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَدْ تَتْرُكُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ فَتَنْقُصُ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَغْتَرُّونَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ مِثْلَ مُكَاشَفَةٍ ؛ أَوْ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَشْتَغِلُ أَحَدُهُمْ عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا كَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِأَهْلِ السُّلُوكِ وَالتَّوَجُّهِ ؛ وَإِنَّمَا يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْهَا بِمُلَازَمَةِ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ . كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا يَقُولُونَ : الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ . وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ - كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ . وَالْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَلُزُومُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَقْصُودُهَا وَاحِدٌ وَلَهَا أَصْلَانِ :
" أَحَدُهُمَا " أَلَّا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ . وَ " الثَّانِي " أَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ وَشَرَعَ لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ . قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْإِحْسَانُ وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ . و " الْحَسَنَاتُ " هِيَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ فَمَا كَانَ مِنْ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا رَسُولُهُ فَلَا تَكُونُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مَا لَا يَجُوزُ كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ . { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَوْلُهُ : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } فَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا . وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ :
إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْعِبَادَةِ فَلِمَاذَا عَطَفَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا ؛ كَقَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِ نُوحٍ : { اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } وَكَذَلِكَ قَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ قِيلَ هَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وَالْفَحْشَاءُ مِنْ الْمُنْكَرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى هُوَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا أَنَّ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ مِنْ الْمُنْكَرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ مِنْ أَعْظَمِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } وَدُعَاؤُهُمْ رَغَبًا وَرَهَبًا مِنْ الْخَيْرَاتِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَهَذَا الْبَابُ يَكُونُ تَارَةً مَعَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا بَعْضَ الْآخَرِ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَالْمَعْنَى الْخَاصِّ وَتَارَةً تَكُونُ دِلَالَةُ الِاسْمِ تَتَنَوَّعُ بِحَالِ الِانْفِرَادِ وَالِاقْتِرَانِ فَإِذَا أُفْرِدَ عَمَّ وَإِذَا قُرِنَ بِغَيْرِهِ خَصَّ كَاسْمِ " الْفَقِيرِ " و " الْمِسْكِينِ " لَمَّا
أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ . وَلَمَّا قُرِنَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } صَارَا نَوْعَيْنِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْخَاصَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْعَامِّ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ حَالَ الِاقْتِرَانِ ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَازِمًا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَذِكْرُ الْخَاصِّ مَعَ الْعَامِّ يَكُونُ لِأَسْبَابِ مُتَنَوِّعَةٍ : تَارَةً لِكَوْنِهِ لَهُ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ ؛ كَمَا فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَتَارَةً لِكَوْنِ الْعَامِّ فِيهِ إطْلَاقٌ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } فَقَوْلُهُ : يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ؛ يَتَنَاوَلُ الْغَيْبَ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ ؛ لَكِنْ فِيهِ إجْمَالٌ فَلَيْسَ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ الْغَيْبِ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ . وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْغَيْبُ وَبِالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ وَهُوَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى { اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ } وَقَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } و " تِلَاوَةُ الْكِتَابِ " هِيَ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } قَالَ يُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ فَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيَّتِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِذِكْرِهِ مِنْ أَجْلِ عِبَادَتِهِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } وَقَوْلُهُ { اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } وَقَوْلُهُ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ تَقْوَى اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فَإِنَّ التَّوَكُّلَ وَالِاسْتِعَانَةَ هِيَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ؛ لَكِنْ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِيَقْصِدَهَا الْمُتَعَبِّدُ بِخُصُوصِهَا ؛ فَإِنَّهَا هِيَ الْعَوْنُ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَعُونَتِهِ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكَمَالُ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ ازْدَادَ كَمَالِهِ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَخْرُجُ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . أَوْ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَكْمَلُ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَضَلِّهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }
إلَى قَوْلِهِ : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا } إلَى قَوْلِهِ : { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا } { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَسِيحِ : { إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ } { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا } إلَى قَوْلِهِ { وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } . وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا فِيهِ وَصْفُ أَكَابِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْعِبَادَةِ وَذَمُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ بِذَلِكَ .
فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَالَ تَعَالَى لِبَنِي إسْرَائِيلَ : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } وَقَالَ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وَقَالَ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } { قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } . وَكُلُّ رَسُولٍ مِنْ الرُّسُلِ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِالدُّعَاءِ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ كَقَوْلِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي } . وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ عِبَادَهُ هُمْ الَّذِينَ يَنْجُونَ مِنْ السَّيِّئَاتِ قَالَ الشَّيْطَانُ : { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا
مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَقَالَ : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } وَبِهَا نَعَتَ كُلَّ مَنْ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ كَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } { إنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } { وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } وَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ } وَقَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ : { نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ } وَعَنْ أَيُّوبَ : { نِعْمَ الْعَبْدُ } وَقَالَ : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ } وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } وَقَالَ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وَقَالَ : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } وَقَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } وَقَالَ { فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } وَقَالَ : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ .
فَصْلٌ
:
إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ : فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ
تفاضلا عَظِيمًا وَهُوَ تَفَاضُلُهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهُمْ
يَنْقَسِمُونَ فِيهِ : إلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ وَلِهَذَا كَانَتْ رُبُوبِيَّةُ
الرَّبِّ لَهُمْ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ . وَلِهَذَا كَانَ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ
الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ
تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ
تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ
مُنِعَ سَخِطَ } . فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَبْدَ الدِّرْهَمِ وَعَبْدَ الدِّينَارِ وَعَبْدَ الْقَطِيفَةِ وَعَبْدَ
الْخَمِيصَةِ . وَذِكْرُ مَا فِيهِ دُعَاءٌ وَخَبَرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ : { تَعِسَ
وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ } وَالنَّقْشُ إخْرَاجُ الشَّوْكَةِ
مِنْ الرِّجْلِ وَالْمِنْقَاشُ مَا يُخْرَجُ بِهِ الشَّوْكَةُ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ
إذَا أَصَابَهُ شَرٌّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ وَلَمْ يُفْلِحْ لِكَوْنِهِ تَعِسَ
وَانْتَكَسَ فَلَا نَالَ الْمَطْلُوبَ وَلَا خَلَصَ مِنْ الْمَكْرُوهِ وَهَذِهِ
حَالُ مَنْ عَبَدَ الْمَالَ وَقَدْ وُصِفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ { إذَا أُعْطِيَ
رَضِيَ وَإِذَا مُنِعَ سَخِطَ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ
أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } فَرِضَاهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَسَخَطُهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهَكَذَا حَالُ مَنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرِئَاسَةِ أَوْ بِصُورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَاءِ نَفْسِهِ إنْ حَصَلَ لَهُ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَخِطَ فَهَذَا عَبْدُ مَا يَهْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ رَقِيقٌ لَهُ إذْ الرِّقُّ وَالْعُبُودِيَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ رِقُّ الْقَلْبِ وَعُبُودِيَّتُهُ فَمَا اسْتَرَقَّ الْقَلْبَ وَاسْتَعْبَدَهُ فَهُوَ عَبْدُهُ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنِعَ وَالْحُرُّ عَبْدٌ مَا طَمِعَ وَقَالَ الْقَائِلُ أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي وَلَوْ أَنِّي قَنَعْتُ لَكُنْت حُرًّا وَيُقَالُ : الطَّمَعُ غُلٌّ فِي الْعُنُقِ قَيْدٌ فِي الرِّجْلِ فَإِذَا زَالَ الْغُلُّ مِنْ الْعُنُقِ زَالَ الْقَيْدُ مِنْ الرِّجْلِ . وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الطَّمَعُ فَقْرٌ وَالْيَأْسُ غِنًى وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا يَئِسَ مِنْ شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ . وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَيْأَسُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَطْمَعُ بِهِ وَلَا يُبْقِ قَلْبَهُ فَقِيرًا إلَيْهِ وَلَا إلَى مَنْ يَفْعَلُهُ وَأَمَّا إذَا طَمِعَ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَرَجَاهُ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ فَصَارَ فَقِيرًا إلَى حُصُولِهِ ؛ وَإِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِهِ وَهَذَا فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ فَقِيرًا إلَيْهِ وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ . وَلِهَذَا كَانَتْ " مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ " مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ لَحْمٍ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ دَمْعٍ مُوجِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ } هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحِ . وَفِيهِ أَيْضًا { لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ } وَقَالَ : { مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ . وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ } فَكَرِهَ أَخْذَهُ مِنْ سُؤَالِ اللِّسَانِ وَاسْتِشْرَافِ الْقَلْبِ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ؛ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ؛ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ؛ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ } وَأَوْصَى خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا وَفِي الْمُسْنَدِ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ ؛ وَيَقُولُ : إنَّ خَلِيلِي أَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَهُ فِي طَائِفَةٍ وَأَسَرَّ إلَيْهِمْ كَلِمَةً خَفِيَّةً : أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا فَكَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ ؛ وَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ } . وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَسْأَلَةِ الْخَالِقِ وَالنَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِ ؛ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } { وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ ؛ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ } وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } وَلَمْ يَقُلْ فَابْتَغُوا الرِّزْقَ عِنْدَ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ ؛ كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَبْتَغُوا الرِّزْقَ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } وَالْإِنْسَانُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُصُولِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَنَحْوِهِ ؛ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ ؛ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ لِلَّهِ ؛ فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَإِلَيْهِ يَشْتَكِي ؛ كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " و " الصَّفْحَ الْجَمِيلَ " و " الصَّبْرَ الْجَمِيلَ " . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " هُوَ هَجْرٌ بِلَا أَذًى . وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ صَفْحٌ بِلَا مُعَاتَبَةٍ . وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ صَبْرٌ بِغَيْرِ شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ ؛ وَلِهَذَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَرَضِهِ أَنَّ طاوسا كَانَ يَكْرَهُ أَنِينَ
الْمَرِيضِ وَيَقُولُ : إنَّهُ شَكْوَى فَمَا أَنَّ أَحْمَد حَتَّى مَاتَ . وَأَمَّا الشَّكْوَى إلَى الْخَالِقِ فَلَا تُنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ ؛ فَإِنَّ يَعْقُوبَ قَالَ : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } وَقَالَ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ ( يُونُسَ ) وَ ( يُوسُفَ ) وَ ( النَّحْلِ ) فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قِرَاءَتِهِ فَبَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ { وَمِنْ دُعَاءِ مُوسَى : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْكَ التكلان وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ } . وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ الطَّائِفِ مَا فَعَلُوا : { اللَّهُمَّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي ؛ وَقِلَّةَ حِيلَتِي ؛ وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ؛ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي . اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ؛ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي ؛ غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي ؛ أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ ؛ وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ ؛ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ ؛ لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ؛ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ } - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - { وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ } . وَكُلَّمَا قَوِيَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَجَائِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَدَفْعِ ضَرُورَتِهِ قَوِيَتْ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَحُرِّيَّتُهُ مِمَّا سِوَاهُ ؛ فَكَمَا أَنَّ طَمَعَهُ فِي الْمَخْلُوقِ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ فَيَأْسُهُ مِنْهُ يُوجِبُ غِنَى قَلْبِهِ عَنْهُ . كَمَا قِيلَ : اسْتَغْنِ
عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ وَأَفْضِلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ ؛ وَاحْتَجْ إلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ . فَكَذَلِكَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لَهُ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ ؛ وَإِعْرَاضَ قَلْبِهِ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ ، وَالرَّجَاءِ لَهُ يُوجِبُ انْصِرَافَ قَلْبِهِ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ ؛ لَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ يَرْجُو الْمَخْلُوقَ وَلَا يَرْجُو الْخَالِقَ ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُعْتَمِدًا إمَّا عَلَى رِئَاسَتِهِ وَجُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَمَمَالِيكِهِ ؛ وَإِمَّا عَلَى أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ ؛ وَإِمَّا عَلَى أَمْوَالِهِ وَذَخَائِرِهِ ؛ وَإِمَّا عَلَى سَادَاتِهِ وَكُبَرَائِهِ ؛ كَمَالِكِهِ وَمَلِكِهِ ؛ وَشَيْخِهِ وَمَخْدُومِهِ وَغَيْرِهِمْ ؛ مِمَّنْ هُوَ قَدْ مَاتَ أَوْ يَمُوتُ . قَالَ تَعَالَى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } . وَكُلُّ مَنْ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَنْ يَنْصُرُوهُ أَوْ يَرْزُقُوهُ أَوْ أَنْ يَهْدُوهُ خَضَعَ قَلْبُهُ لَهُمْ ؛ وَصَارَ فِيهِ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ لَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ أَمِيرًا لَهُمْ مُدَبِّرًا لَهُمْ مُتَصَرِّفًا بِهِمْ ؛ فَالْعَاقِلُ يَنْظُرُ إلَى الْحَقَائِقِ لَا إلَى الظَّوَاهِرِ ؛ فَالرَّجُلُ إذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِامْرَأَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً لَهُ يَبْقَى قَلْبُهُ أَسِيرًا لَهَا تَحْكُمُ فِيهِ وَتَتَصَرَّفُ بِمَا تُرِيدُ ؛ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ سَيِّدُهَا لِأَنَّهُ زَوْجُهَا . وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ أَسِيرُهَا وَمَمْلُوكُهَا لَا سِيَّمَا إذَا دَرَتْ بِفَقْرِهِ إلَيْهَا ؛ وَعِشْقِهِ لَهَا ؛ وَأَنَّهُ لَا يَعْتَاضُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا ؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَحْكُمُ فِيهِ بِحُكْمِ السَّيِّدِ الْقَاهِرِ الظَّالِمِ فِي عَبْدِهِ الْمَقْهُورِ ؛ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ
مِنْهُ بَلْ أَعْظَمُ فَإِنَّ أَسْرَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ أَسْرِ الْبَدَنِ وَاسْتِعْبَادَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِعْبَادِ الْبَدَنِ فَإِنَّ مَنْ اُسْتُعْبِدَ بَدَنُهُ وَاسْتُرِقَّ لَا يُبَالِي إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَرِيحًا مِنْ ذَلِكَ مُطْمَئِنًّا بَلْ يُمْكِنُهُ الِاحْتِيَالُ فِي الْخَلَاصِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ الْمَلِكُ رَقِيقًا مُسْتَعْبَدًا مُتَيَّمًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الذُّلُّ وَالْأَسْرُ الْمَحْضُ وَالْعُبُودِيَّةُ لِمَا اسْتَعْبَدَ الْقَلْبَ . وَعُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَأَسْرُهُ هِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ أَسَرَهُ كَافِرٌ ؛ أَوْ اسْتَرَقَّهُ فَاجِرٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَائِمًا بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَمَنْ اُسْتُعْبِدَ بِحَقِّ إذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ لَهُ أَجْرَانِ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ فَتَكَلَّمَ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ فَصَارَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَلِكَ النَّاسِ . فَالْحُرِّيَّةُ حُرِّيَّةُ الْقَلْبِ وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ كَمَا أَنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ } وَهَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ قَدْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةً مُبَاحَةً فَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةً مُحَرَّمَةً : امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي لَا يُدَانُ فِيهِ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَذَابًا وَأَقَلِّهِمْ ثَوَابًا فَإِنَّ الْعَاشِقَ لِصُورَةِ إذَا بَقِيَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا مُسْتَعْبَدًا لَهَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ
أَنْوَاعِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ وَلَوْ سَلِمَ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى فَدَوَامُ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا بِلَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ وَيَزُولُ أَثَرُهُ مِنْ قَلْبِهِ وَهَؤُلَاءِ يُشَبَّهُونَ بِالسُّكَارَى وَالْمَجَانِينِ . كَمَا قِيلَ : سكران : سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سكران وَقِيلَ : قَالُوا : جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَلَاءِ إعْرَاضُ الْقَلْبِ عَنْ اللَّهِ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ طَعْمَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ قَطُّ أَحْلَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَلَذَّ وَلَا أَطْيَبَ وَالْإِنْسَانُ لَا يَتْرُكُ مَحْبُوبًا إلَّا بِمَحْبُوبِ آخَرَ يَكُونُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُ أَوْ خَوْفًا مِنْ مَكْرُوهٍ فَالْحُبُّ الْفَاسِدُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ عَنْهُ بِالْحُبِّ الصَّالِحِ ؛ أَوْ بِالْخَوْفِ مِنْ الضَّرَرِ .
قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ . { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } . فَاَللَّهُ يَصْرِفُ عَنْ عَبْدِهِ مَا يَسُوءُهُ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الصُّوَرِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ . وَلِهَذَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَذُوقَ حَلَاوَةَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهَا فَإِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِخْلَاصِ وَقَوِيَ فِي قَلْبِهِ انْقَهَرَ لَهُ هَوَاهُ بِلَا عِلَاجٍ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا دَفْعٌ لِلْمَكْرُوهِ وَهُوَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ وَفِيهَا تَحْصِيلُ الْمَحْبُوبِ وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ وَحُصُولُ هَذَا الْمَحْبُوبِ أَكْبَرُ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَعِبَادَةُ الْقَلْبِ لِلَّهِ مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا . وَأَمَّا انْدِفَاعُ الشَّرِّ عَنْهُ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ . وَالْقَلْبُ خُلِقَ يُحِبُّ الْحَقَّ وَيُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ . فَلَمَّا عَرَضَتْ لَهُ إرَادَةُ الشَّرِّ طَلَبَ دَفْعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْقَلْبَ كَمَا يَفْسُدُ الزَّرْعُ بِمَا يَنْبُتُ فِيهِ مِنْ الدَّغَلِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وَقَالَ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ غَضَّ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ هُوَ أَزْكَى
لِلنَّفْسِ وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ الْفَوَاحِشِ مِنْ زَكَاةِ النُّفُوسِ وَزَكَاةُ النُّفُوسِ تَتَضَمَّنُ زَوَالَ جَمِيعِ الشُّرُورِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ طَالِبُ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ قَلْبُهُ رَقِيقٌ لِمَنْ يُعِينُهُ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُقَدَّمَهُمْ وَالْمُطَاعَ فِيهِمْ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجُوهُمْ وَيَخَافُهُمْ فَيَبْذُلُ لَهُمْ الْأَمْوَالَ وَالْوِلَايَاتِ وَيَعْفُو عَنْهُمْ لِيُطِيعُوهُ وَيُعِينُوهُ فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ رَئِيسٌ مُطَاعٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ مُطِيعٌ لَهُمْ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كِلَاهُمَا فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِلْآخَرِ وَكِلَاهُمَا تَارِكٌ لِحَقِيقَةِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَإِذَا كَانَ تَعَاوُنُهُمَا عَلَى الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَانَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّخْصَيْنِ لِهَوَاهُ الَّذِي اسْتَعْبَدَهُ وَاسْتَرَقَّهُ يَسْتَعْبِدُهُ الْآخَرُ . وَهَكَذَا أَيْضًا طَالِبُ الْمَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَعْبِدُهُ وَيَسْتَرِقُّهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ : ( مِنْهَا ) مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَمَسْكَنِهِ ومنكحه وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا يَطْلُبُهُ مِنْ اللَّهِ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارِهِ الَّذِي يَرْكَبُهُ وَبِسَاطِهِ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْكَنِيفِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ فَيَكُونُ هَلُوعًا
إذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ؛ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا .
وَمِنْهَا مَا لَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِهَا ؛ فَإِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا صَارَ مُسْتَعْبَدًا
لَهَا ؛ وَرُبَّمَا صَارَ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ
حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَلَا حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ؛ بَلْ
فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَشُعْبَةٌ مِنْ التَّوَكُّلِ
عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ ؛
تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ ؛ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ } وَهَذَا هُوَ عَبْدُ
هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَوْ طَلَبَهَا مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَعْطَاهُ
إيَّاهَا رَضِيَ ؛ وَإِذَا مَنَعَهُ إيَّاهَا سَخِطَ وَإِنَّمَا عَبْدُ اللَّهِ مَنْ
يُرْضِيهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ ؛ وَيُسْخِطُهُ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ ؛ وَيُحِبُّ
مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
؛ وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا
هُوَ الَّذِي اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ { مَنْ أَحَبَّ
لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ
اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } وَقَالَ : { أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي
اللَّهِ ؛ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ :
مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ
يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ
يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ
يُلْقَى فِي النَّارِ } فَهَذَا وَافَقَ رَبَّهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَمَا
يَكْرَهُهُ
فَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَحَبَّ
الْمَخْلُوقَ لِلَّهِ لَا لِغَرَضِ آخَرَ فَكَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ
لِلَّهِ فَإِنَّ مَحَبَّةَ مَحْبُوبِ الْمَحْبُوبِ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ
الْمَحْبُوبِ ؛ فَإِذَا أَحَبَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَ اللَّهِ
لِأَجْلِ قِيَامِهِمْ بِمَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ لَا لِشَيْءِ آخَرَ فَقَدْ
أَحَبَّهُمْ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ } . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } فَإِنَّ
الرَّسُولَ يَأْمُرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَنْهَى عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ
وَيَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُخْبِرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ التَّصْدِيقَ
بِهِ
فَمَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ لَزِمَ أَنْ يَتَّبِعَ الرَّسُولَ فَيُصَدِّقُهُ
فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَ وَيَتَأَسَّى بِهِ فِيمَا فَعَلَ
وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدَ فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ؛ فَيُحِبُّهُ اللَّهُ ؛
فَجَعَلَ اللَّهُ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ عَلَامَتَيْنِ : اتِّبَاعِ الرَّسُولِ ؛
وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ حَقِيقَتُهُ
الِاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ
الصَّالِحِ ؛ وَمِنْ دَفْعِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ
وَالْعِصْيَانِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ
: - { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } فَتَوَعَّدَ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ
وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ
بِهَذَا الْوَعِيدِ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : {
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ
أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي ؛ فَقَالَ : لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ ؛ فَقَالَ : فَوَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ الْآنَ يَا عُمَرُ } . فَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمُوَالَاةِ الْمَحْبُوبِ وَهُوَ مُوَافَقَتُهُ فِي حُبّ مَا يُحِبُّ وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى وَيُبْغِضُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُبَّ يُحَرِّكُ إرَادَةَ الْقَلْبِ فَكُلَّمَا قَوِيَتْ الْمَحَبَّةُ فِي الْقَلْبِ طَلَبَ الْقَلْبُ فِعْلَ الْمَحْبُوبَاتِ فَإِذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ تَامَّةً اسْتَلْزَمَتْ إرَادَةً جَازِمَةً فِي حُصُولِ الْمَحْبُوبَاتِ . فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَيْهَا حَصَّلَهَا . وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْفَاعِلِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ؛ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } . وَقَالَ { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ . قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ . قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } . و " الْجِهَادُ " هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ
وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ الْحَقُّ فَإِذَا تَرَكَ الْعَبْدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَلْبِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحْبُوبَاتِ لَا تُنَالُ غَالِبًا إلَّا بِاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّةً صَالِحَةً أَوْ فَاسِدَةً فَالْمُحِبُّونَ لِلْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ لَا يَنَالُونَ مَطَالِبَهُمْ إلَّا بِضَرَرِ يَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ مَا يَرَى ذُو الرَّأْيِ مِنْ الْمُحِبِّينَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يَحْتَمِلُونَ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِهِمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ إذَا كَانَ مَا يَسْلُكُهُ أُولَئِكَ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُشِيرُ بِهِ الْعَقْلُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } . نَعَمْ قَدْ يَسْلُكُ الْمُحِبُّ لِضَعْفِ عَقْلِهِ وَفَسَادِ تَصَوُّرِهِ طَرِيقًا لَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ فَمِثْلُ هَذِهِ الطَّرِيقِ لَا تُحْمَدُ إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ صَالِحَةً مَحْمُودَةً فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ فَاسِدَةً وَالطَّرِيقُ غَيْرَ مُوصِلٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَهَوِّرُونَ فِي طَلَبِ الْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ فِي حُبِّ أُمُورٍ تُوجِبُ لَهُمْ ضَرَرًا وَلَا تُحَصِّلُ لَهُمْ مَطْلُوبًا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الطُّرُقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْعَقْلُ لِحُصُولِ مَطْلُوبِهِ . وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا . فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْقَلْبُ حُبًّا لِلَّهِ ازْدَادَ لَهُ عُبُودِيَّةً وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ عُبُودِيَّةً ازْدَادَ لَهُ حُبًّا وَحُرِّيَّةً عَمَّا سِوَاهُ وَالْقَلْبُ فَقِيرٌ بِالذَّاتِ
إلَى اللَّهِ مِنْ " وَجْهَيْنِ " : مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الغائية . وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ فَالْقَلْبُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يُفْلِحُ وَلَا يَلْتَذُّ وَلَا يُسَرُّ وَلَا يَطِيبُ وَلَا يَسْكُنُ وَلَا يَطْمَئِنُّ إلَّا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَحُبِّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ . وَلَوْ حَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا يَلْتَذُّ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَطْمَئِنَّ وَلَمْ يَسْكُنْ إذْ فِيهِ فَقْرٌ ذَاتِيٌّ إلَى رَبِّهِ وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُ وَمَحْبُوبُهُ وَمَطْلُوبُهُ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَاللَّذَّةُ وَالنِّعْمَةُ وَالسُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ . وَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ لَهُ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ دَائِمًا مُفْتَقِرٌ إلَى حَقِيقَةِ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَإِنَّهُ لَوْ أُعِينَ عَلَى حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ وَيَطْلُبُهُ وَيَشْتَهِيهِ وَيُرِيدُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ غَايَةَ مُرَادِهِ وَنِهَايَةَ مَقْصُودِهِ وَهُوَ الْمَحْبُوبُ لَهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ إنَّمَا يُحِبُّهُ لِأَجْلِهِ لَا يُحِبُّ شَيْئًا لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهَ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ حَقَّقَ حَقِيقَةَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَلَا حَقَّقَ التَّوْحِيدَ وَالْعُبُودِيَّةَ وَالْمَحَبَّةَ وَكَانَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ بَلْ مِنْ الْأَلَمِ وَالْحَسْرَةِ وَالْعَذَابِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَلَوْ سَعَى فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي حُصُولِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَحْبُوبُ الْمُرَادُ الْمَعْبُودُ وَمِنْ
حَيْثُ هُوَ الْمَسْئُولُ الْمُسْتَعَانُ بِهِ الْمُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فَهُوَ إلَهُهُ لَا إلَهَ لَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ رَبُّهُ لَا رَبَّ لَهُ سِوَاهُ . وَلَا تَتِمُّ عُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ إلَّا بِهَذَيْنِ فَمَتَى كَانَ يُحِبُّ غَيْرَ اللَّهِ لِذَاتِهِ أَوْ يَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ أَنَّهُ يُعِينُهُ كَانَ عَبْدًا لِمَا أَحَبَّهُ وَعَبْدًا لِمَا رَجَاهُ بِحَسَبِ حُبِّهِ لَهُ وَرَجَائِهِ إيَّاهُ . وَإِذَا لَمْ يُحِبَّ لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهَ وَكُلَّمَا أَحَبَّ سِوَاهُ فَإِنَّمَا أَحَبَّهُ لَهُ وَلَمْ يَرْجُ قَطُّ شَيْئًا إلَّا اللَّهَ وَإِذَا فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ الْأَسْبَابِ أَوْ حَصَّلَ مَا حَصَّلَ مِنْهَا كَانَ مُشَاهِدًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهَا وَقَدَّرَهَا . وَأَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاَللَّهُ رَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمَامِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ لَا يُحْصِي طَرَفَيْهَا إلَّا اللَّهُ . فَأَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَفْضَلُهُمْ وَأَعْلَاهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ إلَى اللَّهِ وَأَقْوَاهُمْ وَأَهْدَاهُمْ أَتَمُّهُمْ عُبُودِيَّةً لِلَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَهُوَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ فَالْمُسْتَسْلِمُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مُشْرِكٌ وَالْمُمْتَنِعُ عَنْ الِاسْتِسْلَامِ لَهُ مُسْتَكْبِرٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ كَمَا
أَنَّ
النَّارَ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ }
فَجَعَلَ الْكِبْرَ مُقَابِلًا لِلْإِيمَانِ فَإِنَّ الْكِبْرَ يُنَافِي حَقِيقَةَ
الْعُبُودِيَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ الْعَظَمَةُ إزَارِي
وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ }
فَالْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْكِبْرِيَاءُ
أَعْلَى مِنْ الْعَظَمَةِ ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ كَمَا
جَعَلَ الْعَظَمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ . وَلِهَذَا كَانَ شِعَارُ
الصَّلَوَاتِ وَالْأَذَانِ وَالْأَعْيَادِ هُوَ التَّكْبِيرَ وَكَانَ مُسْتَحَبًّا
فِي الْأَمْكِنَةِ الْعَالِيَةِ كَالصَّفَا والمروة وَإِذَا عَلَا الْإِنْسَانُ
شَرَفًا أَوْ رَكِبَ دَابَّةً وَنَحْوَ ذَلِكَ وَبِهِ يُطْفَأُ الْحَرِيقُ وَإِنْ
عَظُمَ وَعِنْدَ الْأَذَانِ يَهْرُبُ الشَّيْطَانُ . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } .
وَكُلُّ مَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْبُدَ
غَيْرَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَسَّاسٌ يَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ . وَقَدْ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } فَالْحَارِثُ الْكَاسِبُ
الْفَاعِلُ وَالْهَمَّامُ فَعَّالٌ مِنْ الْهَمِّ وَالْهَمُّ أَوَّلُ الْإِرَادَةِ
فَالْإِنْسَانُ لَهُ إرَادَةٌ دَائِمًا وَكُلُّ إرَادَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ
مُرَادٍ تَنْتَهِي إلَيْهِ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ مُرَادٍ مَحْبُوبٍ
هُوَ مُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ مَعْبُودَهُ
وَمُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ مَحْبُوبٌ
يَسْتَعْبِدُهُ غَيْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ : إمَّا الْمَالُ وَإِمَّا الْجَاهُ وَإِمَّا الصُّوَرُ وَإِمَّا مَا يَتَّخِذُهُ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمْ أَرْبَابًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ . وَإِذَا كَانَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ يَكُونُ مُشْرِكًا وَكُلُّ مُسْتَكْبِرٍ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَلِهَذَا كَانَ فِرْعَوْنُ مِنْ أَعْظَمِ الْخَلْقِ اسْتِكْبَارًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَكَانَ مُشْرِكًا . قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ } { إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } إلَى قَوْلِهِ : { وَقَالَ مُوسَى إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } - إلَى قَوْلِهِ : - { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَقَدْ وُصِفَ فِرْعَوْنُ بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } .
بَلْ الِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ اسْتِكْبَارًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَانَ أَعْظَمَ إشْرَاكًا بِاَللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ازْدَادَ فَقْرُهُ وَحَاجَتُهُ إلَى الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ : مَقْصُودُ الْقَلْبِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ مُشْتَرِكًا بِمَا اسْتَعْبَدَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَلَنْ يَسْتَغْنِيَ الْقَلْبُ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِهِ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَفْرَحُ إلَّا بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَلَا يَكْرَهُ إلَّا مَا يُبْغِضُهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُهُ وَلَا يُوَالِي إلَّا مَنْ وَالَاهُ اللَّهُ وَلَا يُعَادِي إلَّا مَنْ عَادَاهُ اللَّهُ وَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضُ شَيْئًا إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُعْطِي إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَمْنَعُ إلَّا لِلَّهِ . فَكُلَّمَا قَوِيَ إخْلَاصُ دِينِهِ لِلَّهِ كَمُلَتْ عُبُودِيَّتُهُ وَاسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ يُبَرِّئُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ . وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النَّصَارَى وَالْكِبْرُ غَالِبٌ عَلَى الْيَهُودِ . قَالَ تَعَالَى فِي النَّصَارَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَ فِي الْيَهُودِ : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا
كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } . وَلَمَّا كَانَ الْكِبْرُ مُسْتَلْزِمًا لِلشِّرْكِ وَالشِّرْكُ ضِدُّ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ - قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } - كَانَ الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعُهُمْ مَبْعُوثِينَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين . قَالَ نُوحٌ : { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ فِي حَقِّ إبْرَاهِيمَ : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ يُوسُفُ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وَقَالَ مُوسَى : { يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } { فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } وَقَالَتْ بلقيس { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ :
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } فَذَكَرَ إسْلَامَ الْكَائِنَاتِ طَوْعًا وَكَرْهًا لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعَهَا مُتَعَبِّدَةٌ لَهُ التَّعَبُّدَ الْعَامَّ سَوَاءٌ أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ وَهُمْ مَدِينُونَ مدبرون ؛ فَهُمْ مُسْلِمُونَ لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خُرُوجٌ عَمَّا شَاءَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَمَلِيكُهُمْ يصرفهم كَيْفَ يَشَاءُ وَهُوَ خَالِقُهُمْ كُلُّهُمْ وَبَارِئُهُمْ وَمُصَوِّرُهُمْ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مَرْبُوبٌ مَصْنُوعٌ مَفْطُورٌ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ مُعَبَّدٌ مَقْهُورٌ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ . وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَقَ مَا خَلَقَهُ بِأَسْبَابِ فَهُوَ خَالِقُ السَّبَبِ وَالْمُقَدِّرُ لَهُ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ كَافْتِقَارِ هَذَا وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِفِعْلِ وَلَا دَفْعِ ضَرَرٍ بَلْ كُلُّ مَا هُوَ سَبَبٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى سَبَبٍ آخَرَ يُعَاوِنُهُ وَإِلَى مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الضِّدَّ الَّذِي يُعَارِضُهُ وَيُمَانِعُهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ يُعَاوِنُهُ وَلَا ضِدٌّ يُنَاوِئُهُ وَيُعَارِضُهُ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ : { يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا } إلَى قَوْله تَعَالَى { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إيمَانَهُ بِظُلْمٍ فَقَالَ : إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } وَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ إمَامُ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلِصِينَ حَيْثُ بُعِثَ وَقَدْ طَبَقَ الْأَرْضَ دِينُ الْمُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّ عَهْدَهُ بِالْإِمَامَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ إمَامًا وَأَعْظَمُ الظُّلْمِ الشِّرْكُ .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } و " الْأُمَّةُ " هُوَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ كَمَا أَنَّ " الْقُدْوَةَ " الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَإِنَّمَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَهُ بِمِلَّتِهِ قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ إبْرَاهِيمَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَقَالَ : { لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ } - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَقَالَ : { لَا يَبْقَيَن
فِي
الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ } وَقَالَ : {
إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا
فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ }
وَكُلُّ هَذَا فِي الصَّحِيحِ . وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ : ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ
بِأَيَّامِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ رِسَالَتِهِ . فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ
تَمَامِ مُخَالَّتِهِ لِلَّهِ الَّتِي أَصْلُهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى
لِلْعَبْدِ وَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ خِلَافًا للجهمية . وَفِي ذَلِكَ
تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَرَدٌّ عَلَى
أَشْبَاهِ الْمُشْرِكِينَ . وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ
يَبْخَسُونَ الصِّدِّيقَ حَقَّهُ وَهُمْ أَعْظَمُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى
الْقِبْلَةِ إشْرَاكًا بِالْبَشَرِ .
وَ " الْخُلَّةُ " هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ مِنْ
الْعَبْدِ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَمِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَمَالَ
الرُّبُوبِيَّةِ لِعِبَادِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَلَفْظُ
الْعُبُودِيَّةِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ وَكَمَالَ الْحُبِّ فَإِنَّهُمْ
يَقُولُونَ : قَلْبٌ مُتَيَّمٌ إذَا كَانَ مُتَعَبِّدًا لِلْمَحْبُوبِ
وَالْمُتَيَّمُ الْمُتَعَبِّدُ وَتَيْمُ اللَّهِ عَبْدُهُ وَهَذَا عَلَى
الْكَمَالِ حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا
وَسَلَّمَ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلٌ ؛ إذْ
الْخُلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ فِي الْمَعْنَى .
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّي الْخَلِيلُ خَلِيلًا بِخِلَافِ أَصْلِ الْحُبِّ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْحَسَنِ وَأُسَامَةَ : { اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا } { وَسَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ العاص أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْكَ ؟ قَالَ : عَائِشَةُ قَالَ فَمِنْ الرِّجَالِ ؟ قَالَ أَبُوهَا } { وَقَالَ لِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ وَقَالَ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فَقَدْ أَخْبَرَ بِمَحَبَّتِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ حَتَّى قَالَ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَأَمَّا الْخُلَّةُ فَخَاصَّةٌ . وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : إنَّ مُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ ؛ وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَظَنُّهُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فَوْقَ الْخُلَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَيْضًا خَلِيلُ اللَّهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ . وَمَا يُرْوَى { أَنَّ الْعَبَّاسَ يُحْشَرُ بَيْنَ حَبِيبٍ وَخَلِيلٍ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَأَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ لَا تَصْلُحُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحَبَّةُ مَا أَحَبّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّ وَجْدَ الْحَلَاوَةِ بِالشَّيْءِ يَتْبَعُ الْمَحَبَّةَ لَهُ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ اشْتَهَاهُ إذَا حَصَلَ لَهُ مُرَادُهُ فَإِنَّهُ يَجِدُ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ وَالسُّرُورَ بِذَلِكَ وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يَحْصُلُ عَقِيبَ إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ الَّذِي هُوَ الْمَحْبُوبُ أَوْ الْمُشْتَهَى . وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّذَّةَ إدْرَاكُ الملائم كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ غَلَطًا بَيِّنًا ؛ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَاللَّذَّةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَثَلًا يَشْتَهِي الطَّعَامَ فَإِذَا أَكَلَهُ حَصَلَ لَهُ عَقِيبَ ذَلِكَ اللَّذَّةُ فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ إلَى الشَّيْءِ فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ الْتَذَّ فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ لَيْسَتْ نَفْسَ النَّظَرِ وَلَيْسَتْ هِيَ رُؤْيَةَ الشَّيْءِ ؛ بَلْ تَحْصُلُ عَقِيبَ رُؤْيَتِهِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ اللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ مِنْ فَرَحٍ وَحُزْنٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالشُّعُورِ بِالْمَحْبُوبِ أَوْ الشُّعُورِ بِالْمَكْرُوهِ وَلَيْسَ نَفْسُ الشُّعُورِ هُوَ
الْفَرَحَ وَلَا الْحُزْنَ . فَحَلَاوَةُ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمَّنَةُ مِنْ اللَّذَّةِ بِهِ وَالْفَرَحِ مَا يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ الْوَاجِدُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ تَتْبَعُ كَمَالَ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ . تَكْمِيلُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَتَفْرِيعُهَا وَدَفْعُ ضِدِّهَا . " فَتَكْمِيلُهَا " أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِأَصْلِ الْحُبِّ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ . و " تَفْرِيعُهَا " أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ . و " دَفْعُ ضِدِّهَا " أَنْ يَكْرَهَ ضِدَّ الْإِيمَانِ أَعْظَمَ مِنْ كَرَاهَتِهِ الْإِلْقَاءَ فِي النَّارِ فَإِذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَأَحَقُّهُمْ بِأَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ و " الْخُلَّةُ " لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهَا نَصِيبٌ بَلْ قَالَ : { لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا } عُلِمَ مَزِيدُ مَرْتَبَةِ الْخُلَّةِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ . و ( الْمَقْصُودُ ) هُوَ أَنَّ " الْخُلَّةَ " وَ " الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ " تَحْقِيقُ عُبُودِيَّتِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَنْ يَغْلَطُ فِي هَذِهِ مِنْ حَيْثُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ مُجَرَّدُ ذُلٍّ
وَخُضُوعٍ فَقَطْ لَا مَحَبَّةَ مَعَهُ أَوْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فِيهَا انْبِسَاطٌ فِي الْأَهْوَاءِ أَوْ إذْلَالٌ لَا تَحْتَمِلُهُ الرُّبُوبِيَّةُ وَلِهَذَا يُذْكَرُ عَنْ " ذِي النُّونِ " أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عِنْدَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ . فَقَالَ : أَمْسِكُوا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَسْمَعْهَا النُّفُوسُ فَتَدَّعِيَهَا . وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ مُجَالَسَةَ أَقْوَامٍ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ فِي الْمَحَبَّةِ بِلَا خَشْيَةٍ ؛ وَقَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حروري وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ . وَلِهَذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ مَنْ انْبَسَطَ فِي دَعْوَى الْمَحَبَّةِ حَتَّى أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الرُّعُونَةِ وَالدَّعْوَى الَّتِي تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ وَتُدْخِلُ الْعَبْدَ فِي نَوْعٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ . وَيَدَّعِي أَحَدُهُمْ دَعَاوَى تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَوْ يَطْلُبُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَصْلُحُ - بِكُلِّ وَجْهٍ - إلَّا لِلَّهِ لَا يَصْلُحُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ . وَهَذَا بَابٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ . وَسَبَبُهُ ضَعْفُ تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الرُّسُلُ وَحَرَّرَهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي جَاءُوا بِهِ بَلْ ضَعْفُ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ الْعَبْدُ حَقِيقَتَهُ وَإِذَا ضَعُفَ الْعَقْلُ وَقَلَّ الْعِلْمُ بِالدِّينِ وَفِي النَّفْسِ مَحَبَّةٌ انْبَسَطَتْ النَّفْسُ بِحُمْقِهَا فِي ذَلِكَ كَمَا يَنْبَسِطُ الْإِنْسَانُ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ مَعَ حُمْقِهِ وَجَهْلِهِ وَيَقُولُ : أَنَا مُحِبٌّ فَلَا أُؤَاخَذُ بِمَا أَفْعَلُهُ مِنْ أَنْوَاعٍ يَكُونُ فِيهَا عُدْوَانٌ وَجَهْلٌ فَهَذَا
عَيْنُ الضَّلَالِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } فَإِنَّ تَعْذِيبَهُ لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْبُوبِينَ وَلَا مَنْسُوبِينَ إلَيْهِ بِنِسْبَةِ الْبُنُوَّةِ بَلْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مربوبون مَخْلُوقُونَ . فَمَنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ مَحْبُوبُهُ لَا يَفْعَلُ مَا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ وَيَسْخَطُهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَمَنْ فَعَلَ الْكَبَائِرَ وَأَصَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ مِنْهُ ذَلِكَ ؛ كَمَا يُحِبُّ مِنْهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْخَيْرِ ؛ إذْ حُبُّهُ لِلْعَبْدِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّهُ لِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّهُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَنَاوُلَ السُّمِّ لَا يَضُرُّهُ مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ تَدَاوِيهِ مِنْهُ بِصِحَّةِ مِزَاجِهِ . وَلَوْ تَدَبَّرَ الْأَحْمَقُ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ قِصَصِ أَنْبِيَائِهِ ؛ وَمَا جَرَى لَهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ؛ وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ الَّذِي فِيهِ تَمْحِيصٌ لَهُمْ وَتَطْهِيرٌ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ ؛ عَلِمَ بَعْضَ ضَرَرِ الذُّنُوبِ بِأَصْحَابِهَا وَلَوْ كَانَ أَرْفَعَ النَّاسِ مَقَامًا ؛ فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِلْمَخْلُوقِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِمَصْلَحَتِهِ وَلَا مُرِيدًا لَهَا ؛ بَلْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْحُبِّ - وَإِنْ كَانَ جَهْلًا وَظُلْمًا - كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِبُغْضِ الْمَحْبُوبِ لَهُ وَنُفُورِهِ عَنْهُ ؛ بَلْ لِعُقُوبَتِهِ .
وَكَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ سَلَكُوا فِي دَعْوَى حُبِّ اللَّهِ أَنْوَاعًا مِنْ أُمُورِ الْجَهْلِ بِالدِّينِ ؛ إمَّا مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ ؛ وَإِمَّا مِنْ تَضْيِيعِ حُقُوقِ اللَّهِ وَإِمَّا مِنْ ادِّعَاءِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ فِي النَّارِ أَحَدًا فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ ؛ فَقَالَ الْآخَرُ : أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ . فَالْأَوَّلُ جَعَلَ مُرِيدَهُ يُخْرِجُ كُلَّ مَنْ فِي النَّارِ ؛ وَالثَّانِي جَعَلَ مُرِيدَهُ يَمْنَعُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ . وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَصَبْتُ خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَشْهُورِينَ ؛ وَهِيَ إمَّا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ وَإِمَّا غَلَطٌ مِنْهُمْ ؛ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَصْدُرُ فِي حَالِ سُكْرٍ وَغَلَبَةٍ وَفَنَاءٍ يَسْقُطُ فِيهَا تَمْيِيزُ الْإِنْسَانِ ؛ أَوْ يَضْعُفُ حَتَّى لَا يَدْرِيَ مَا قَالَ و " السُّكْرُ " هُوَ لَذَّةٌ مَعَ عَدَمِ تَمْيِيزٍ . وَلِهَذَا كَانَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا صَحَا اسْتَغْفَرَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ . وَاَلَّذِينَ تَوَسَّعُوا مِنْ الشُّيُوخِ فِي سَمَاعِ الْقَصَائِدِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْحُبِّ وَالشَّوْقِ وَاللَّوْمِ وَالْعَذْلِ وَالْغَرَامِ كَانَ هَذَا أَصْلَ مَقْصِدِهِمْ ؛ وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِلْمَحَبَّةِ مِحْنَةً يَمْتَحِنُ بِهَا الْمُحِبَّ فَقَالَ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } فَلَا يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ يَتَّبِعُ رَسُولَهُ وَطَاعَةُ الرَّسُولِ وَمُتَابَعَتُهُ تُحَقِّقُ الْعُبُودِيَّةَ . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ يَخْرُجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَسُنَّتِهِ وَيَدَّعِي مِنْ
الْخَيَالَاتِ
مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ . حَتَّى قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ
سُقُوطَ الْأَمْرِ وَتَحْلِيلَ الْحَرَامِ لَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ
مُخَالَفَةُ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ وَسُنَّتِهِ وَطَاعَتِهِ بَلْ قَدْ جَعَلَ
مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ رَسُولِهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ . و "
الْجِهَادُ " يَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
وَكَمَالَ بُغْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ فِي صِفَةِ مَنْ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ
هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ مَحَبَّةِ مَنْ قَبْلَهَا
وَعُبُودِيَّتُهُمْ لِلَّهِ أَكْمَلُ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَنْ قَبْلَهُمْ .
وَأَكْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ بِهِمْ أَشْبَهَ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ أَكْمَلَ
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ .
وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الشُّيُوخِ : الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحْرِقُ فِي الْقَلْبِ مَا
سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ . وَأَرَادُوا أَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ قَدْ أَرَادَ
اللَّهُ وُجُودَهُ فَظَنُّوا أَنَّ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ
كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَا يُمْكِنُ
أَحَدًا أَنْ يُحِبَّ كُلَّ مَوْجُودٍ بَلْ يُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ وَيَنْفَعُهُ
وَيُبْغِضُ مَا يُنَافِيهِ وَيَضُرُّهُ وَلَكِنْ اسْتَفَادُوا بِهَذَا الضَّلَالِ
اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ فَهُمْ يُحِبُّونَ مَا يَهْوَوْنَهُ كَالصُّوَرِ
وَالرِّئَاسَةِ وَفُضُولِ الْمَالِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ زَاعِمِينَ أَنَّ
هَذَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَمِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ بُغْضُ مَا يُبْغِضُهُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجِهَادُ أَهْلِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ .
وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ الَّذِي قَالَ : " إنَّ الْمَحَبَّةَ نَارٌ تُحْرِقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ " قَصَدَ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ تُحْرِقُ مِنْ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ . فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْحُبِّ أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتَ مَا لَا يُحِبُّ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ نَاقِصَةً وَأَمَّا قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ فَهُوَ يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ فَإِنْ لَمْ أُوَافِقْهُ فِي بُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَسَخَطِهِ لَمْ أَكُنْ مُحِبًّا لَهُ بَلْ مُحِبًّا لِمَا يُبْغِضُهُ . فَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ وَالْقِيَامُ بِالْجِهَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوقِ بَيْنَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَدَّعِي مَحَبَّةَ اللَّهِ نَاظِرًا إلَى عُمُومِ رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَتِهِ فَإِنَّ دَعْوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ بَلْ قَدْ تَكُونُ دَعْوَى هَؤُلَاءِ شَرًّا مِنْ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ الَّذِينَ هُمْ بِهِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ كَمَا قَدْ تَكُونُ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى شَرًّا مِنْ دَعْوَاهُمْ إذَا لَمْ يَصِلُوا إلَى مِثْلِ كُفْرِهِمْ وَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمُ وَصَايَا النَّامُوسِ . فَفِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ : " أَعْظَمُ وَصَايَا الْمَسِيحِ أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ بِكُلِّ قَلْبِكَ وَعَقْلِكَ وَنَفْسِكَ " وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ قِيَامَهُمْ بِهَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ هُوَ مِنْ ذَلِكَ وَهُمْ بُرَآءُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ إذْ لَمْ
يَتَّبِعُوا مَا أَحَبَّهُ بَلْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ وَاَللَّهُ يُبْغِضُ الْكَافِرِينَ وَيَمْقُتُهُمْ وَيَلْعَنُهُمْ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُ ؛ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُحِبٍّ لَهُ ؛ بَلْ بِقَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَكُونُ حُبُّ اللَّهِ لَهُ ؛ وَإِنْ كَانَ جَزَاءُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَعْظَمَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً } . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالصَّابِرِينَ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ بَلْ هُوَ يُحِبُّ مَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ } الْحَدِيثَ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُخْطِئِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَشْيَاخًا فِي " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ " وَقَعُوا فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّصَارَى : مِنْ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مَعَ مُخَالَفَةِ شَرِيعَتِهِ وَتَرْكِ الْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَتَمَسَّكُونَ فِي الدِّينِ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ بِنَحْوِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ النَّصَارَى مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ صِدْقُ قَائِلِهَا وَلَوْ صَدَقَ لَمْ يَكُنْ قَائِلُهَا مَعْصُومًا فَيَجْعَلُونَ مَتْبُوعِيهِمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا كَمَا جَعَلَ النَّصَارَى قِسِّيسِيهِمْ وَرُهْبَانَهُمْ شَارِعِينَ
لَهُمْ دِينًا ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَ الْعُبُودِيَّةَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْخَاصَّةَ يَتَعَدَّوْنَهَا كَمَا يَدَّعِي النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَيُثْبِتُونَ لِلْخَاصَّةِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا تُثْبِتُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ . إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ يَطُولُ شَرْحُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا دِينُ الْحَقِّ هُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِكُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ تَحْقِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِكُلِّ دَرَجَةٍ وَبِقَدْرِ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ تَكْمُلُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَتَكْمُلُ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ وَبِقَدْرِ نَقْصِ هَذَا يَكُونُ نَقْصُ هَذَا ؛ وَكُلَّمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَتْ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَكُلَّمَا كَانَ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ فِيهِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لَا تَكُونُ لِلَّهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ . فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ . فَكُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ بَلْ لَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ . كَمَا قَالَ : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } . وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِهِ يَكُونُ تَحْقِيقُ الدِّينِ وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَإِلَيْهِ دَعَا الرَّسُولُ وَعَلَيْهِ جَاهَدَ ؛ وَبِهِ أَمَرَ وَفِيهِ رَغَّبَ ؛ وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ . وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النُّفُوسِ . وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . { وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ . كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ : أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً إذَا قُلْتَهَا نَجَوْتَ مِنْ دِقِّهِ وَجِلِّهِ ؟ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ } . وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا . وَكَثِيرًا مَا يُخَالِطُ النُّفُوسَ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَ
مَحَبَّتِهَا لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتِهَا لَهُ . وَإِخْلَاصِ دِينِهَا لَهُ كَمَا قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ : يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ . قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السجستاني : وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ؟ قَالَ : حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي فَسَادِ الدِّينِ لَا يَنْقُصُ عَنْ فَسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ وَذَلِكَ بَيِّنٌ ؛ فَإِنَّ الدِّينَ السَّلِيمَ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذَا الْحِرْصُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّمَهُ عَلَيْهِ وَبِذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَإِنَّ الْمُخْلِصَ لِلَّهِ ذَاقَ مِنْ حَلَاوَةِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ لِغَيْرِهِ وَمِنْ حَلَاوَةِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ إذْ لَيْسَ عِنْدَ الْقَلْبِ لَا أَحْلَى وَلَا أَلَذَّ وَلَا أَطْيَبَ وَلَا أَلْيَنَ وَلَا أَنْعَمَ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمِّنِ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ وَإِخْلَاصَهُ الدِّينَ لَهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ فَيَصِيرُ الْقَلْبُ مُنِيبًا إلَى اللَّهِ خَائِفًا مِنْهُ رَاغِبًا رَاهِبًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } إذْ الْمُحِبُّ يَخَافُ مِنْ زَوَالِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ
مَرْغُوبِهِ فَلَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَمُحِبَّهُ إلَّا بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ ؛ قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُخْلِصًا لَهُ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَيُحْيِي قَلْبَهُ وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَيَخَافُ مِنْ حُصُولِ ضِدِّ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ فَإِنَّهُ فِي طَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ مُطْلَقٍ فَيَهْوَى مَا يَسْنَحُ لَهُ وَيَتَشَبَّثُ بِمَا يَهْوَاهُ كَالْغُصْنِ أَيُّ نَسِيمٍ مَرَّ بِعِطْفِهِ أَمَالَهُ . فَتَارَةً تَجْتَذِبُهُ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ ؛ فَيَبْقَى أَسِيرًا عَبْدًا لِمَنْ لَوْ اتَّخَذَهُ هُوَ عَبْدًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ عَيْبًا وَنَقْصًا وَذَمًّا . وَتَارَةً يَجْتَذِبُهُ الشَّرَفُ وَالرِّئَاسَةُ فَتُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ وَيَسْتَعْبِدُهُ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ وَيُعَادِي مَنْ يَذُمُّهُ وَلَوْ بِالْحَقِّ . وَتَارَةً يَسْتَعْبِدُهُ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَعْبِدُ الْقُلُوبَ وَالْقُلُوبُ تَهْوَاهَا فَيَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَتَّبِعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ قَدْ صَارَ قَلْبُهُ مُعَبَّدًا لِرَبِّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَيَكُونُ ذَلِيلًا لَهُ خَاضِعًا وَإِلَّا اسْتَعْبَدَتْهُ الْكَائِنَاتُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قَلْبِهِ الشَّيَاطِينُ وَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ وَصَارَ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا حِيلَةَ فِيهِ ؛ فَالْقَلْبُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَنِيفًا مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ مُعْرِضًا عَمَّا
سِوَاهُ وَإِلَّا كَانَ مُشْرِكًا . قَالَ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إبْرَاهِيمَ وَآلَ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةً لِهَؤُلَاءِ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلِصِينَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ ؛ كَمَا جَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةَ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ أَهْوَاءَهُمْ . قَالَ تَعَالَى فِي إبْرَاهِيمَ : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ } { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ } { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } وَلِهَذَا يَصِيرُ أَتْبَاعُ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا إلَى أَنْ لَا يُمَيِّزُوا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ . وَبَيْنَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ وَقَضَاهُ ؛ بَلْ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الشَّامِلَةِ . ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بَلْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ هَذَا وُجُودَ هَذَا [ وَيَقُولُ مُحَقِّقُوهُمْ الشَّرِيعَةُ فِيهَا طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ . وَالْحَقِيقَةُ فِيهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا طَاعَةٍ ] ؛ وَالتَّحْقِيقُ لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ وَهَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا تَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ مُوسَى وَمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ .
وَأَمَّا
إبْرَاهِيمُ وَآلُ إبْرَاهِيمَ الْحُنَفَاءُ وَالْأَنْبِيَاءُ فَهُمْ يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَلَا بُدَّ
مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ . وَأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا
ازْدَادَ تَحْقِيقًا ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ
وَطَاعَتُهُ لَهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَمَحَبَّةِ غَيْرِهِ
وَطَاعَةِ غَيْرِهِ .
وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الضَّالُّونَ يُسَوُّونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ
خَلْقِهِ . وَالْخَلِيلُ يَقُولُ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } {
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ
الْعَالَمِينَ } وَيَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ
كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى . مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْفَنَاءِ "
فَإِنَّ " الْفَنَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : نَوْعٌ لِلْكَامِلِينَ
مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ؛ وَنَوْعٌ لِلْقَاصِدِينَ مِنْ
الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَنَوْعٌ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ
الْمُشَبِّهِينَ . ( فَأَمَّا الْأَوَّلُ ) فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ
إرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ " بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ إلَّا اللَّهَ . وَلَا
يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَطْلُبُ غَيْرَهُ
؛ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي
يَزِيدَ حَيْثُ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ إلَّا مَا يُرِيدُ . أَيْ
الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ
الدِّينِيَّةِ وَكَمَالُ الْعَبْدِ أَنْ لَا يُرِيدَ وَلَا يُحِبَّ وَلَا يَرْضَى
إلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ
أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ ؛ وَلَا يُحِبُّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ
كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ
فِي قَوْلِهِ : { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قَالُوا : هُوَ
السَّلِيمُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ أَوْ مِمَّا سِوَى عِبَادَةِ اللَّهِ . أَوْ
مِمَّا سِوَى
إرَادَةِ
اللَّهِ . أَوْ مِمَّا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا
الْمَعْنَى إنْ سُمِّيَ فَنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ هُوَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ
وَآخِرُهُ. وَبَاطِنُ الدِّينِ وَظَاهِرُهُ .
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي : فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى
" . وَهَذَا يَحْصُلُ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ
انْجِذَابِ قُلُوبِهِمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَضَعْفِ
قُلُوبِهِمْ عَنْ أَنْ تَشْهَدَ غَيْرَ مَا تَعْبُدُ وَتَرَى غَيْرَ مَا تَقْصِدُ
؛ لَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ ؛ بَلْ وَلَا يَشْعُرُونَ ؛ كَمَا
قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ
لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } قَالُوا : فَارِغًا مَنْ
كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى . وَهَذَا كَثِيرٌ يَعْرِضُ لِمَنْ
فَقَمَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ إمَّا حُبٌّ وَإِمَّا خَوْفٌ . وَإِمَّا رَجَاءٌ
يُبْقِي قَلْبَهُ مُنْصَرِفًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَمَّا قَدْ أَحَبَّهُ أَوْ
خَافَهُ أَوْ طَلَبَهُ ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي ذَلِكَ لَا
يَشْعُرُ بِغَيْرِهِ . فَإِذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ هَذَا فَإِنَّهُ
يَغِيبُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَذْكُورِهِ
عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ
وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُعَبَّدَةُ مِمَّنْ سِوَاهُ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ
يَزُلْ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى . وَالْمُرَادُ فَنَاؤُهَا فِي شُهُودِ الْعَبْدِ
وَذِكْرِهِ وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَنْ يُدْرِكَهَا أَوْ يَشْهَدَهَا . وَإِذَا قَوِيَ
هَذَا ضَعُفَ الْمُحِبُّ حَتَّى اضْطَرَبَ فِي تَمْيِيزِهِ فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ
هُوَ مَحْبُوبُهُ كَمَا يُذْكَرُ : أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ
فَأَلْقَى مُحِبُّهُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ : أَنَا وَقَعْتُ فَمَا أَوْقَعَكَ
خَلْفِي قَالَ : غِبْتُ بِكَ عَنِّي فَظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنِي
وَ " هَذَا الْمَوْضِعُ " زَلَّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ اتِّحَادٌ وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّحِدُ بِالْمَحْبُوبِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ وُجُودِهِمَا وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ الْخَالِقَ لَا يَتَّحِدُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا بَلْ لَا يَتَّحِدُ شَيْءٌ بِشَيْءِ إلَّا إذَا اسْتَحَالَا وَفَسَدَا وَحَصَلَ مِنْ اتِّحَادِهِمَا أَمْرٌ ثَالِثٌ لَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا كَمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلَكِنْ يَتَّحِدُ الْمُرَادُ وَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَيَتَّفِقَانِ فِي نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ فَيُحِبُّ هَذَا مَا يُحِبُّ هَذَا . وَيُبْغِضُ هَذَا مَا يُبْغِضُ هَذَا وَيَرْضَى مَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي وَهَذَا الْفَنَاءُ كُلُّهُ فِيهِ نَقْصٌ . وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ : لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْفَنَاءِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مِمَّا فِيهِ غَيْبَةُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ لِمَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَان ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنْ أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ . أَوْ يَحْصُلَ لَهُمْ غَشْيٌ أَوْ صَعْقٌ أَوْ سُكْرٌ أَوْ فَنَاءٌ أَوْ وَلَهٌ أَوْ جُنُونٌ . وَإِنَّمَا كَانَ مَبَادِئُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ : كَأَبِي جهير الضَّرِيرِ . وزرارة بْنِ أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ . وَكَذَلِكَ صَارَ فِي شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ مَا
يَضْعُفُ مَعَهُ تَمْيِيزُهُ حَتَّى يَقُولَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا إذَا صَحَا عَرَفَ أَنَّهُ غَالَطَ فِيهِ كَمَا يُحْكَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مِثْلِ أَبِي يَزِيدَ وَأَبِي الْحُسَينِ النُّورِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الشِّبْلِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ . بِخِلَافِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ بَلْ وَبِخِلَافِ الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ وَتَمْيِيزُهُمْ يَصْحَبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فَلَا يَقَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ بَلْ الكمل تَكُونُ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِيهَا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَعِنْدَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا يَشْهَدُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَلْ يَشْهَدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ بَلْ مُسْتَجِيبَةً لَهُ قَانِتَةً لَهُ فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى وَيَكُونُ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مُؤَيَّدًا وَمُمَدًّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ لَهُ وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ " الَّتِي دَعَا إلَيْهَا الْقُرْآنُ وَقَامَ بِهَا أَهْلُ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ والكمل مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ . وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَامُ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُهُمْ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ وَعَايَنَ مَا هُنَالِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَأُوحِيَ إلَيْهِ مَا أُوحِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ أَصْبَحَ فِيهِمْ وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا كَانَ يَظْهَرُ عَلَى مُوسَى مِنْ التَّغَشِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ .
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ : مِمَّا قَدْ يُسَمَّى فَنَاءً : فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا مَوْجُودَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ فَهَذَا فَنَاءُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ الْوَاقِعِينَ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ . وَالْمَشَايِخُ الْمُسْتَقِيمُونَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمْ : مَا أَرَى غَيْرَ اللَّهِ أَوْ لَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا أَرَى رَبًّا غَيْرَهُ وَلَا خَالِقًا غَيْرَهُ وَلَا مُدَبِّرًا غَيْرَهُ وَلَا إلَهًا غَيْرَهُ وَلَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ مَحَبَّةً لَهُ أَوْ خَوْفًا مِنْهُ أَوْ رَجَاءً لَهُ ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ تَنْظُرُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ رَجَاهُ أَوْ خَافَهُ الْتَفَتَ إلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةٌ لَهُ وَلَا رَجَاءٌ لَهُ وَلَا خَوْفٌ مِنْهُ وَلَا بُغْضٌ لَهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَقْصِدْ الْقَلْبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَرَاهُ وَإِنْ رَآهُ اتِّفَاقًا رُؤْيَةً مُجَرَّدَةً كَانَ كَمَا لَوْ رَأَى حَائِطًا وَنَحْوَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ تَعَلُّقٌ بِهِ . وَالْمَشَايِخُ الصَّالِحُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَذْكُرُونَ شَيْئًا مِنْ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقِ إخْلَاصِ الدِّينِ كُلِّهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُلْتَفِتًا إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَا نَاظِرًا إلَى مَا سِوَاهُ : لَا حُبًّا لَهُ وَلَا خَوْفًا مِنْهُ وَلَا رَجَاءً لَهُ بَلْ يَكُونُ الْقَلْبُ فَارِغًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِيًا مِنْهَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهَا إلَّا بِنُورِ اللَّهِ فَبِالْحَقِّ يَسْمَعُ وَبِالْحَقِّ يُبْصِرُ وَبِالْحَقِّ يَبْطِشُ وَبِالْحَقِّ يَمْشِي فَيُحِبُّ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُ مِنْهَا مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيُوَالِي مِنْهَا مَا وَالَاهُ اللَّهُ وَيُعَادِي مِنْهَا مَا عَادَاهُ
اللَّهُ
وَيَخَافُ اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَخَافُهَا فِي اللَّهِ وَيَرْجُو اللَّهَ فِيهَا
وَلَا يَرْجُوهَا فِي اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الْحَنِيفُ
الْمُوَحِّدُ الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ الْمُوَحِّدُ
بِمَعْرِفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَبِحَقِيقَتِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ
. ( وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ ) وَهُوَ الْفَنَاءُ فِي الْمَوْجُودِ : فَهُوَ
تَحْقِيقُ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَعْرِفَتُهُمْ وَتَوْحِيدُهُمْ كَالْقَرَامِطَةِ
وَأَمْثَالِهِمْ . وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي عَلَيْهِ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ
هُوَ " الْفَنَاءُ الْمَحْمُودُ " الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ بِهِ
مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ
الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ . وَلَيْسَ مُرَادُ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ
بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي أَرَاهُ بِعَيْنِي مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ
رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ فِي
غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ ؟ إمَّا فَسَادِ الْعَقْلِ ؛ وَإِمَّا فَسَادِ
الِاعْتِقَادِ . فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِلْحَادِ .
وَكُلُّ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ مُتَّفِقُونَ عَلَى
مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَنَّ الْخَالِقَ
سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ
ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ إفْرَادُ
الْقَدِيمِ عَنْ الْحَادِثِ ؛ وَتَمْيِيزُ الْخَالِقِ عَنْ الْمَخْلُوقِ . وَهَذَا
فِي كَلَامِهِمْ
أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ ذِكْرُهُ هُنَا . وَهُمْ قَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى مَا يَعْرِضُ لِلْقُلُوبِ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالشُّبُهَاتِ ؛ وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَشْهَدُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَظُنُّهُ خَالِقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ وَالْفُرْقَانُ فِي قَلْبِهِ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى شُعَاعَ الشَّمْسِ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الشَّمْسُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ . وَهُمْ قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي " الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ " وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الْمُلْفِتَةِ نَظِيرُ مَا دَخَلَ فِي الْفَنَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا شَهِدَ التَّفْرِقَةَ وَالْكَثْرَةَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يَبْقَى قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا مُتَشَتِّتًا نَاظِرًا إلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِهَا : إمَّا مَحَبَّةً وَإِمَّا خَوْفًا وَإِمَّا رَجَاءً ؛ فَإِذَا انْتَقَلَ إلَى الْجَمْعِ اجْتَمَعَ قَلْبُهُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَالْتَفَتَ قَلْبُهُ إلَى اللَّهِ بَعْدَ الْتِفَاتِهِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ فَصَارَتْ مَحَبَّتُهُ لِرَبِّهِ وَخَوْفُهُ مِنْ رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لِرَبِّهِ وَاسْتِعَانَتُهُ بِرَبِّهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ لَا يَسَعُ قَلْبَهُ النَّظَرُ إلَى الْمَخْلُوقِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ . فَقَدْ يَكُونُ مُجْتَمِعًا عَلَى الْحَقِّ مُعْرِضًا عَنْ الْخَلْقِ نَظَرًا وَقَصْدًا وَهُوَ نَظِيرُ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْفَنَاءِ . وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ " الْفَرْقِ الثَّانِي " وَهُوَ : أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةٌ بِاَللَّهِ مُدَبَّرَةٌ بِأَمْرِهِ وَيَشْهَدُ كَثْرَتَهَا مَعْدُومَةً بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْمَصْنُوعَاتِ وَإِلَهُهَا وَخَالِقُهَا وَمَالِكُهَا فَيَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ - إخْلَاصًا لَهُ وَمَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَاسْتِعَانَةً وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَمُوَالَاةً فِيهِ
وَمُعَادَاةً فِيهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ - نَاظِرًا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مُمَيِّزًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا يَشْهَدُ تَفَرُّقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَكَثْرَتَهَا مَعَ شَهَادَتِهِ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهَذَا هُوَ الشُّهُودُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَشَهَادَتِهِ وَذِكْرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ : فِي حَالِ الْقَلْبِ وَعِبَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَطَاعَتِهِ . وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَإِنَّهُ يَنْفِي عَنْ قَلْبِهِ أُلُوهِيَّةَ مَا سِوَى الْحَقِّ وَيُثْبِتُ فِي قَلْبِهِ أُلُوهِيَّةَ الْحَقِّ فَيَكُونُ نَافِيًا لِأُلُوهِيَّةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُثْبِتًا لِأُلُوهِيَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ اجْتِمَاعَ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى مُفَارَقَةِ مَا سِوَاهُ فَيَكُونُ مُفَرِّقًا : فِي عِلْمِهِ وَقَصْدِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِحَيْثُ يَكُونُ عَالِمًا بِاَللَّهِ تَعَالَى ذَاكِرًا لَهُ عَارِفًا بِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَالِمٌ بِمُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ وَانْفِرَادِهِ عَنْهُمْ وَتَوَحُّدِهِ دُونَهُمْ وَيَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ مُعَظِّمًا لَهُ عَابِدًا لَهُ رَاجِيًا لَهُ خَائِفًا مِنْهُ مُوَالِيًا فِيهِ مُعَادِيًا فِيهِ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُمْتَنِعًا عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَالْخَوْفُ مِنْهُ وَالرَّجَاءُ لَهُ وَالْمُوَالَاةُ فِيهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ وَالطَّاعَةُ لِأَمْرِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصَ إلَهِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَإِقْرَارُهُ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَا سِوَاهُ يَتَضَمَّنُ إقْرَارَهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُوَحِّدًا لِلَّهِ . وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ أَفْضَلَ الذِّكْرِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي
الدُّنْيَا وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا ذِكْرُ الْعَامَّةِ وَأَنَّ ذِكْرَ الْخَاصَّةِ هُوَ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ وَذِكْرُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ هُوَ الِاسْمُ الْمُضْمَرُ فَهُمْ ضَالُّونَ غالطون . وَاحْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } مِنْ أَبْيَنِ غَلَطِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ الِاسْمَ هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأَمْرِ بِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ . وَهُوَ قَوْلُهُ : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ } إلَى قَوْلِهِ { قُلِ اللَّهُ } أَيْ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى فَالِاسْمُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ تَقُولُ : مَنْ جَارُهُ فَيَقُولُ زَيْدٌ . وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُفْرَدُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا فَلَيْسَ بِكَلَامِ تَامٍّ وَلَا جُمْلَةٍ مُفِيدَةٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا شَرَعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْطِي الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ مَعْرِفَةً مُفِيدَةً وَلَا حَالًا نَافِعًا وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ تَصَوُّرًا مُطْلَقًا لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَحَالِهِ مَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ
وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ . وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا تُشَرِّعُ مِنْ الْأَذْكَارِ مَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ لَا مَا تَكُونُ الْفَائِدَةُ حَاصِلَةً بِغَيْرِهِ . وَقَدْ وَقَعَ بَعْضُ مَنْ وَاظَبَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ فِي فُنُونٍ مِنْ الْإِلْحَادِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ الِاتِّحَادِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ : أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . حَالٌ لَا يُقْتَدَى فِيهَا بِصَاحِبِهَا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَلَطِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ ؛ إذْ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَمُتْ إلَّا عَلَى مَا قَصَدَهُ وَنَوَاهُ إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَلْقِينِ الْمَيِّتِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَالَ : { مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مَحْذُورًا لَمْ يُلَقِّنْ الْمَيِّتَ كَلِمَةً يُخَافُ أَنْ يَمُوتَ فِي أَثْنَائِهَا مَوْتًا غَيْرَ مَحْمُودٍ بَلْ كَانَ يُلَقِّنُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ . وَالذِّكْرُ بِالِاسْمِ الْمُضْمَرِ الْمُفْرَدِ أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ وَأَدْخَلُ فِي الْبِدْعَةِ وَأَقْرَبُ إلَى إضْلَالِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ : يَا هُوَ يَا هُوَ أَوْ : هُوَ هُوَ . وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَّا إلَى مَا يُصَوِّرُهُ قَلْبُهُ وَالْقَلْبُ قَدْ يَهْتَدِي وَقَدْ يَضِلُّ وَقَدْ صَنَّفَ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " كِتَابًا سَمَّاهُ " كِتَابَ الهو " وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هَذَا الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " الهو " . وَقِيلَ هَذَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ بَلْ
الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَبْيَنِ الْبَاطِلِ فَقَدْ يَظُنُّ ذَلِكَ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ . حَتَّى قُلْتُ مَرَّةً لِبَعْضِ مَنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قُلْتَهُ لَكَتَبْتُ ( وَمَا يَعْلَمُ ) تَأْوِيلَ هُوَ مُنْفَصِلَةً . ثُمَّ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّهُ يَحْتَجُّ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ : " اللَّهُ " بِقَوْلِهِ : { قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ وَهَذَا غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ قَوْلَهُ : { قُلِ اللَّهُ } مَعْنَاهُ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى . وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ } أَيْ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى . رَدَّ بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ قَالَ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ : { مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } ثُمَّ قَالَ : { قُلِ اللَّهُ } أَنْزَلَهُ ثُمَّ ذَرْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ { فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } . وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا تَقَدَّمَ : مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ أَنَّ الْعَرَبَ يَحْكُونَ بِالْقَوْلِ مَا كَانَ كَلَامًا لَا يَحْكُونَ بِهِ مَا كَانَ قَوْلًا فَالْقَوْلُ لَا يُحْكَى بِهِ إلَّا كَلَامٌ تَامٌّ أَوْ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ فِعْلِيَّةٌ وَلِهَذَا يَكْسِرُونَ إنَّ إذَا جَاءَتْ بَعْدَ الْقَوْلِ فَالْقَوْلُ لَا يُحْكَى بِهِ اسْمٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ أَحَدًا بِذِكْرِ اسْمٍ مُفْرَدٍ وَلَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ اسْمًا مُفْرَدًا مُجَرَّدًا وَالِاسْمُ الْمُجَرَّدُ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانَ
بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُخَاطَبَاتِ . وَنَظِيرُ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ مَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ مَرَّ بِمُؤَذِّنِ يَقُولُ : " أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ " بِالنَّصْبِ فَقَالَ : مَاذَا يَقُولُ هَذَا ؟ هَذَا الِاسْمُ فَأَيْنَ الْخَبَرُ عَنْهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ ؟ . وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } وَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وَقَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وَقَوْلِهِ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُ مُفْرَدًا بَلْ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ { لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قَالَ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قَالَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } فَشَرَعَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى } وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ } و { سُجُودِكُمْ } بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَتَسْبِيحُ اسْمِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَذِكْرُ اسْمِ رَبِّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ هُوَ بِالْكَلَامِ التَّامِّ الْمُفِيدِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ
اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ . وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ . وَمَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ } . وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه وَغَيْرِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } . وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ فِي أَنْوَاعِ مَا يُقَالُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ . وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ : بِسْمِ اللَّهِ . وَهَذَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ إمَّا اسْمِيَّةٌ عَلَى أَظْهَرِ
قَوْلَيْ النُّحَاةِ ؛ أَوْ فِعْلِيَّةٌ ؛ وَالتَّقْدِيرُ ذَبْحِي بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ أَذْبَحُ بِاسْمِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَارِئِ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) فَتَقْدِيرُهُ : قِرَاءَتِي بِسْمِ اللَّهِ ؛ أَوْ أَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُضْمِرُ فِي مِثْلِ هَذَا ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ ؛ أَوْ ابْتَدَأْتُ بِسْمِ اللَّهِ . وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ مَفْعُولٌ بِسْمِ اللَّهِ لَيْسَ مُجَرَّدُ ابْتِدَائِهِ كَمَا أَظْهَرَ الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وَفِي قَوْلِهِ : { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِرَبِيبِهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ : { سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ ؛ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ } فَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ . لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يُذْكَرَ الِاسْمُ مُجَرَّدًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ { إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ مَنْزِلَهُ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ ؛ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ . وَعِنْدَ طَعَامِهِ . قَالَ الشَّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَكَذَلِكَ مَا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ وَأَذَانِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِالْجُمْلَةِ التَّامَّةِ . كَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ : اللَّهُ أَكْبَرُ . اللَّهُ
أَكْبَرُ . أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . وَقَوْلُ الْمُصَلِّي : اللَّهُ أَكْبَرُ . سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ . سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى . سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ . رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ . التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ . وَقَوْلُ الْمُلَبِّي : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَجَمِيعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الذِّكْرِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ تَامٌّ . لَا اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا مُظْهَرٌ وَلَا مُضْمَرٌ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ كَلِمَةً كَقَوْلِهِ : { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ . ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ . حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } وَقَوْلِهِ { أَفْضَلُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } الْآيَةُ وَقَوْلُهُ : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ وَسَائِرُ كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ كَمَا كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْحَرْفَ فِي الِاسْمِ فَيَقُولُونَ : هَذَا حَرْفٌ غَرِيبٌ . أَيْ لَفْظُ الِاسْمِ غَرِيبٌ . وَقَسَّمَ سِيبَوَيْهِ الْكَلَامَ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمِ وَفِعْلٍ . وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يُسَمَّى حَرْفًا لَكِنْ خَاصَّةً الثَّالِثُ أَنَّهُ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ ؛ وَسَمَّى حُرُوفَ الْهِجَاءِ بِاسْمِ الْحَرْفِ وَهِيَ أَسْمَاءٌ وَلَفْظُ الْحَرْفِ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَغَيْرَهَا ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ
عَشْرُ حَسَنَاتٍ : أَمَا أَنِّي لَا أَقُولُ : الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ } [ وَقَدْ سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ عَنْ النُّطْقِ بِحَرْفِ الزَّايِ مِنْ زَيْدٍ فَقَالُوا : زَايٌ فَقَالَ : جِئْتُمْ بِالِاسْمِ وَإِنَّمَا الْحَرْفُ " ز " ] . (*) ثُمَّ إنَّ النُّحَاةَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بِالْحَرْفِ يُسَمَّى كَلِمَةً وَأَنَّ لَفْظَ الْحَرْفِ يُخَصُّ لِمَا جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ كَحُرُوفِ الْجَرِّ وَنَحْوِهَا وَأَمَّا أَلْفَاظُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَيُعَبَّرُ تَارَةً بِالْحَرْفِ عَنْ نَفْسِ الْحَرْفِ مِنْ اللَّفْظِ وَتَارَةً بِاسْمِ ذَلِكَ الْحَرْفِ وَلَمَّا غَلَبَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ صَارَ يَتَوَهَّمُ مَنْ اعْتَادَهُ أَنَّهُ هَكَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لَفْظَ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ لَفْظًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الِاسْمِ مَثَلًا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ وَلَا يُعْرَفُ فِي صَرِيحِ اللُّغَةِ مِنْ لَفْظِ الْكَلِمَةِ إلَّا الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ ذِكْرُهُ " بِجُمْلَةِ تَامَّةٍ " وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَلَامِ وَالْوَاحِدُ مِنْهُ بِالْكَلِمَةِ وَهُوَ الَّذِي يَنْفَعُ الْقُلُوبَ وَيَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْأَجْرُ وَالْقُرْبُ إلَى اللَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ . وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى " الِاسْمِ الْمُفْرَدِ " مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا فَلَا أَصْلَ لَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصَّةِ وَالْعَارِفِينَ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَذَرِيعَةٌ إلَى تَصَوُّرَاتِ أَحْوَالٍ فَاسِدَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَأَهْلِ الِاتِّحَادِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَجِمَاعُ الدِّينِ " أَصْلَانِ " أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " الشَّهَادَتَيْنِ " : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَفِي الْأُولَى أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ وَفِي الثَّانِيَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ رَسُولُهُ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ . فَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ خَبَرَهُ وَنُطِيعَ أَمْرَهُ وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا مَا نَعْبُدُ اللَّهَ بِهِ وَنَهَانَا عَنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ . قَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . كَمَا أَنَّا مَأْمُورُونَ أَلَّا نَخَافَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَلَا نَرْغَبَ إلَّا إلَى اللَّهِ وَلَا نَسْتَعِينَ إلَّا بِاَللَّهِ وَأَلَّا تَكُونَ عِبَادَتُنَا إلَّا لِلَّهِ فَكَذَلِكَ نَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَتَّبِعَ الرَّسُولَ وَنُطِيعَهُ وَنَتَأَسَّى بِهِ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وَجَعَلَ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ فِي ( الْآيَةِ الْأُخْرَى ) { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ
حَسْبُكَ وَحَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } . ثُمَّ قَالَ : { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْفَضْلِ ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمُ وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ : { إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَجَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ } . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَجَعَلَ الطَّاعَةَ وَالْمَحَبَّةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا فِي قَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَالرُّسُلُ أُمِرُوا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالطَّاعَةِ لَهُمْ . فَأَضَلَّ الشَّيْطَانُ النَّصَارَى وَأَشْبَاهَهُمْ فَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ وَعَصَوْا الرَّسُولَ فَ { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } فَجَعَلُوا يَرْغَبُونَ إلَيْهِمْ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِمْ وَيَسْأَلُونَهُمْ مَعَ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَمْرِهِمْ وَمُخَالَفَاتِهِمْ لِسُنَّتِهِمْ وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ أَهْلَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوهُ
فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ وَأَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ وَأَنَابُوا إلَى رَبِّهِمْ وَأَحَبُّوهُ وَرَجَوْهُ وَخَافُوهُ وَسَأَلُوهُ وَرَغِبُوا إلَيْهِ وَفَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَأَطَاعُوا رُسُلَهُ وَعَزَّرُوهُمْ وَوَقَّرُوهُمْ وَأَحَبُّوهُمْ وَوَالَوْهُمْ وَاتَّبَعُوهُمْ وَاقْتَفَوْا آثَارَهُمْ وَاهْتَدَوْا بِمَنَارِهِمْ . وَذَلِكَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الرُّسُلِ وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا إلَّا إيَّاهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ وَيُكْمِلَهُ لَنَا وَيُمِيتَنَا عَلَيْهِ وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
سُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -
عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعْوَةُ أَخِي ذِي
النُّونِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
} . مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كُرْبَتَهُ } مَا مَعْنَى
هَذِهِ الدَّعْوَةِ ؟ وَلِمَ كَانَتْ كَاشِفَةً لِلْكَرْبِ ؟ وَهَلْ لَهَا شُرُوطٌ
بَاطِنَةٌ عِنْدَ النُّطْقِ بِلَفْظِهَا ؟ وَكَيْفَ مُطَابَقَةُ اعْتِقَادِ
الْقَلْبِ لِمَعْنَاهَا . حَتَّى يُوجِبَ كَشْفَ ضُرِّهِ ؟ وَمَا مُنَاسَبَةُ
ذِكْرِهِ : { إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } مَعَ أَنَّ التَّوْحِيدَ .
يُوجِبُ كَشْفَ الضُّرِّ ؟ وَهَلْ يَكْفِيهِ اعْتِرَافُهُ . أَمْ لَا بُدَّ مِنْ
التَّوْبَةِ وَالْعَزْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؟ وَمَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ
كَشْفَ الضُّرِّ وَزَوَالَهُ يَكُونُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ عَنْ الْخَلْقِ
وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي انْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ
الرَّجَاءِ لِلْمَخْلُوقِينَ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَعَلُّقِهِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَانْصِرَافِهِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَا
السَّبَبُ الْمُعِينُ عَلَى ذَلِكَ ؟ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَفْظُ " الدُّعَاءِ وَالدَّعْوَةِ
" فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ . دُعَاءُ الْعِبَادَةِ .
وَدُعَاءُ الْمَسْأَلَةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } وَقَالَ : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } وَقَالَ { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا إنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } . قِيلَ : لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ إيَّاهُ وَقِيلَ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إيَّاكُمْ . فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ تَارَةً وَإِلَى الْمَفْعُولِ تَارَةً وَلَكِنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْفَاعِلِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ فَلِهَذَا كَانَ هَذَا أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ ؟ أَيْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَدْعُونَهُ فَتَعْبُدُونَهُ وَتَسْأَلُونَهُ : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } أَيْ عَذَابٌ لَازِمٌ لِلْمُكَذِّبِينَ . وَلَفْظُ " الصَّلَاةِ فِي اللُّغَةِ " أَصْلُهُ الدُّعَاءُ وَسُمِّيَتْ الصَّلَاةُ دُعَاءً لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ وَالْمَسْأَلَةُ .
وَقَدْ فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } بِالْوَجْهَيْنِ قِيلَ : اُعْبُدُونِي وَامْتَثِلُوا أَمْرِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أَيْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ : اسْتَجَابَهُ وَاسْتَجَابَ لَهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ وَقِيلَ : سَلُونِي أُعْطِكُمْ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ } فَذَكَرَ أَوَّلًا لَفْظَ الدُّعَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ السُّؤَالَ وَالِاسْتِغْفَارَ . وَالْمُسْتَغْفِرُ سَائِلٌ كَمَا أَنَّ السَّائِلَ دَاعٍ ؛ لَكِنَّ ذِكْرَ السَّائِلِ لِدَفْعِ الشَّرِّ بَعْدَ السَّائِلِ الطَّالِبِ لِلْخَيْرِ وَذِكْرُهُمَا جَمِيعًا بَعْدَ ذِكْرِ الدَّاعِي الَّذِي يَتَنَاوَلُهُمَا وَغَيْرَهُمَا فَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } . وَكُلُّ سَائِلٍ رَاغِبٌ رَاهِبٌ فَهُوَ عَابِدٌ لِلْمَسْؤُولِ وَكُلُّ عَابِدٍ لَهُ
فَهُوَ أَيْضًا رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ يَرْجُو رَحْمَتَهُ وَيَخَافُ عَذَابَهُ فَكُلُّ عَابِدٍ سَائِلٌ وَكُلُّ سَائِلٍ عَابِدٌ . فَأَحَدُ الِاسْمَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْآخَرَ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْهُ وَلَكِنْ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا : فَإِنَّهُ يُرَادُ بِالسَّائِلِ الَّذِي يَطْلُبُ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ بِصِيَغِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ . وَيُرَادُ بِالْعَابِدِ مَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ صِيَغُ سُؤَالٍ . وَالْعَابِدُ الَّذِي يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَالنَّظَرَ إلَيْهِ هُوَ أَيْضًا رَاجٍ خَائِفٌ رَاغِبٌ رَاهِبٌ : يَرْغَبُ فِي حُصُولِ مُرَادِهِ وَيَرْهَبُ مِنْ فَوَاتِهِ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } وَقَالَ تَعَالَى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَخْلُوَ دَاعٍ لِلَّهِ - دُعَاءَ عِبَادَةٍ أَوْ دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ - مِنْ الرَّغَبِ وَالرَّهَبِ مِنْ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ . وَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ فَهَذَا قَدْ يُفَسَّرُ مُرَادُهُ بِأَنَّ الْمُقَرَّبِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَيَقْصِدُونَ التَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَخْلُوقٌ يَتَلَذَّذُونَ بِهِ وَهَؤُلَاءِ يَرْجُونَ حُصُولَ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَيَخَافُونَ حِرْمَانَهُ فَلَمْ يَخْلُوا عَنْ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَكِنَّ مَرْجُوَّهُمْ وَمَخُوفَهُمْ بِحَسَبِ مَطْلُوبِهِمْ . وَمَنْ قَالَ مِنْ هَؤُلَاءِ : لَمْ أَعْبُدْكَ شَوْقًا إلَى جَنَّتِكَ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِكَ
فَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِمَا يُتَمَتَّعُ فِيهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَالنَّارَ اسْمٌ لِمَا لَا عَذَابَ فِيهِ إلَّا أَلَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا قُصُورٌ وَتَقْصِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ فَهْمِ مُسَمَّى الْجَنَّةِ بَلْ كُلُّ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فَهُوَ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ هُوَ مِنْ الْجَنَّةِ وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ يَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ النَّارِ وَلَمَّا سَأَلَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ عَمَّا يَقُولُ فِي صَلَاته { قَالَ : إنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ أَمَا إنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ : حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ } وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ يَعْنِي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ فَرِيقٌ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا نَعِيمَ إلَّا بِمَخْلُوقِ . فَغَلَّطَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى الْجَنَّةِ كَمَا غَلَّطَ أُولَئِكَ لَكِنَّ أُولَئِكَ طَلَبُوا مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُطْلَبَ وَهَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ . وَأَمَّا التَّأَلُّمُ بِالنَّارِ فَهُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَمَنْ قَالَ : لَوْ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْتُ رَاضِيًا فَهُوَ عَزْمٌ مِنْهُ عَلَى الرِّضَا . وَالْعَزَائِمُ قَدْ تَنْفَسِخُ عِنْدَ وُجُودِ الْحَقَائِقِ وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِثْلِ سمنون الَّذِي قَالَ : وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاك حَظٌّ فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي فَابْتُلِيَ بِعُسْرِ الْبَوْلِ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى صِبْيَانِ الْمَكَاتِبِ وَيَقُولُ : اُدْعُوا لِعَمِّكُمْ الْكَذَّابِ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }.
وَبَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي عِلَلِ الْمَقَامَاتِ جَعَلَ الْحُبَّ وَالرِّضَا وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ بِنَاءً عَلَى مُشَاهَدَةِ الْقَدَرِ وَأَنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ فَشَهِدَ تَوْحِيدَ الْأَفْعَالِ حَتَّى فَنِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزُلْ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَهَذَا كَلَامٌ مُسْتَدْرَكٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا . أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يَكُونَ حَسَّاسًا مُحِبًّا لِمَا يُلَائِمُهُ مُبْغِضًا لِمَا يُنَافِرُهُ وَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَيَّ يَسْتَوِي عِنْدَهُ جَمِيعُ الْمَقْدُورَاتِ فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا أَنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ بَلْ هُوَ جَاهِلٌ وَإِمَّا أَنَّهُ مُكَابِرٌ مُعَانِدٌ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَصَلَ لَهُ حَالٌ أَزَالَ عَقْلَهُ - سَوَاءٌ سُمِّيَ اصْطِلَامًا أَوْ مَحْوًا أَوْ فَنَاءً أَوْ غَشْيًا أَوْ ضَعْفًا - فَهَذَا لَمْ يُسْقِطْ إحْسَاسَ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ لَهُ إحْسَاسٌ بِمَا يُلَائِمُهُ وَمَا يُنَافِرُهُ وَإِنْ سَقَطَ إحْسَاسُهُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِجَمِيعِهَا . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُشَاهِدَ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ يَدْخُلُ إلَى مَقَامِ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ فَلَا يَشْهَدُ فَرْقًا فَإِنَّهُ غالط بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ . لَكِنْ إذَا خَرَجَ عَنْ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ بَقِيَ فِي الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ فَيَبْقَى مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ لَا مُطِيعًا لِمَوْلَاهُ .
وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَتْ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ " بَيْنَ الْجُنَيْد وَأَصْحَابِهِ ذَكَرَ لَهُمْ " الْفَرْقَ الثَّانِيَ " وَهُوَ : أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَبَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يَكْرَهُهُ مَعَ شُهُودِهِ لِلْمُقَدَّرِ الْجَامِعِ فَيَشْهَدُ الْفَرْقَ فِي الْقَدْرِ الْجَامِعِ . وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْجَمْعِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ خَرَجُوا عَنْهُ كَانُوا كُفَّارًا مِنْ شَرِّ الْكُفَّارِ وَهُمْ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ يَخْرُجُونَ إلَى الْقَوْلِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَنْتَهُونَ إلَى هَذَا الْإِلْحَادِ بَلْ يُفَرِّقُونَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَارَةً وَيَعْصُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَارَةً كَالْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ لَفْظَ " الدَّعْوَةِ وَالدُّعَاءِ " يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَفِي الْحَدِيثِ : { أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : { دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كُرْبَتَهُ } سَمَّاهَا " دَعْوَةً " لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ . فَقَوْلُهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ اعْتِرَافٌ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ .
وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ يَتَضَمَّنُ أَحَدَ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُدْعَى دُعَاءَ عِبَادَةٍ وَدُعَاءَ مَسْأَلَةٍ وَهُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . وَقَوْلُهُ : { إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ فَإِنَّ الطَّالِبَ السَّائِلَ تَارَةً يَسْأَلُ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ وَتَارَةً يَسْأَلُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ إمَّا بِوَصْفِ حَالِهِ وَإِمَّا بِوَصْفِ حَالِ الْمَسْئُولِ وَإِمَّا بِوَصْفِ الْحَالَيْنِ . كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فَهَذَا لَيْسَ صِيغَةَ طَلَبٍ وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ وَيَرْحَمْهُ خَسِرَ . وَلَكِنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ الْمَغْفِرَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبِّ إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } فَإِنَّ هَذَا وَصْفٌ لِحَالِهِ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِسُؤَالِ اللَّهِ إنْزَالَ الْخَيْرِ إلَيْهِ . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ مَالِكُ بْنُ الحويرث وَقَالَ : { مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ }
وَأَظُنُّ البيهقي رَوَاهُ مَرْفُوعًا بِهَذَا اللَّفْظِ . وَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ قَوْلِهِ : { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَنْشَدَ قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ يَمْدَحُ ابْنَ جدعان . أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي حَيَاؤُكَ إنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ إذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ قَالَ : فَهَذَا مَخْلُوقٌ يُخَاطِبُ مَخْلُوقًا فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ تَعَالَى . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ " اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْكَ التكلان " فَهَذَا خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ السُّؤَالَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } فَوَصَفَ نَفْسَهُ وَوَصَفَ رَبَّهُ بِوَصْفِ يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ رَحْمَتِهِ بِكَشْفِ ضُرِّهِ وَهِيَ صِيغَةُ خَبَرٍ تَضَمَّنَتْ السُّؤَالَ . وَهَذَا مِنْ بَابِ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ فَقَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ يُعَظِّمُهُ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ : أَنَا جَائِعٌ أَنَا
مَرِيضٌ حُسْنُ أَدَبٍ فِي السُّؤَالِ . وَإِنْ كَانَ فِي قَوْلِهِ أَطْعِمْنِي وَدَاوِنِي وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ طَلَبٌ جَازِمٌ مِنْ الْمَسْئُولِ فَذَاكَ فِيهِ إظْهَارُ حَالِهِ وَإِخْبَارُهُ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِسُؤَالِ الْحَالِ وَهَذَا فِيهِ الرَّغْبَةُ التَّامَّةُ وَالسُّؤَالُ الْمَحْضُ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ . وَهَذِهِ الصِّيغَةُ " صِيغَةُ الطَّلَبِ وَالِاسْتِدْعَاءِ " إذَا كَانَتْ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الطَّالِبُ أَوْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى قَهْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُقَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ : إمَّا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَاجَةِ الطَّالِبِ وَإِمَّا لِمَا فِيهِ مَنْ نَفْعِ الْمَطْلُوبِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِنْ الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْغَنِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهَا سُؤَالٌ مَحْضٌ بِتَذَلُّلِ وَافْتِقَارٍ وَإِظْهَارِ الْحَالِ . وَوَصْفُ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ هُوَ سُؤَالٌ بِالْحَالِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ . وَذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ فَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ الدُّعَاءِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ السَّائِلَ يَتَصَوَّرُ مَقْصُودَهُ وَمُرَادَهُ فَيَطْلُبُهُ وَيَسْأَلُهُ فَهُوَ سُؤَالٌ بِالْمُطَابَقَةِ وَالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَتَصْرِيحٌ بِهِ بِاللَّفْظِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَصْفٌ لِحَالِ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ فَإِنْ تَضَمَّنَ وَصْفَ حَالِهِمَا كَانَ أَكْمَلَ مِنْ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْخَبَرَ وَالْعِلْمَ الْمُقْتَضِيَ لِلسُّؤَالِ وَالْإِجَابَةِ ؛ وَيَتَضَمَّنُ الْقَصْدَ وَالطَّلَبَ الَّذِي هُوَ نَفْسُ السُّؤَالِ فَيَتَضَمَّنُ السُّؤَالَ وَالْمُقْتَضِيَ لَهُ وَالْإِجَابَةَ
كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا قَالَ : لَهُ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَهَذَا فِيهِ وَصْفُ الْعَبْدِ لِحَالِ نَفْسِهِ الْمُقْتَضِي حَاجَتَهُ إلَى الْمَغْفِرَةِ وَفِيهِ وَصْفُ رَبِّهِ الَّذِي يُوجِبُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ غَيْرُهُ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِسُؤَالِ الْعَبْدِ لِمَطْلُوبِهِ وَفِيهِ بَيَانُ الْمُقْتَضِي لِلْإِجَابَةِ وَهُوَ وَصْفُ الرَّبِّ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الطَّلَبِ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَدْعِيَةِ يَتَضَمَّنُ بَعْضَ ذَلِكَ . كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } فَهَذَا طَلَبٌ وَوَصْفٌ لِلْمَوْلَى بِمَا يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ . وَقَوْلُهُ : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } فِيهِ وَصْفُ حَالِ النَّفْسِ وَالطَّلَبِ . وَقَوْلُهُ : { إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } فِيهِ الْوَصْفُ الْمُتَضَمِّنُ لِلسُّؤَالِ بِالْحَالِ فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا خَاصَّةٌ . يَبْقَى أَنْ يُقَالَ فَصَاحِبُ الْحُوتِ وَمَنْ أَشْبَهَهُ لِمَاذَا نَاسَبَ حَالَهُمْ صِيغَةُ الْوَصْفِ وَالْخَبَرِ دُونَ صِيغَةِ الطَّلَبِ ؟
فَيُقَالُ : لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ اعْتِرَافٍ بِأَنَّ مَا أَصَابَنِي مِنْ الشَّرِّ كَانَ بِذَنْبِي فَأَصْلُ الشَّرِّ هُوَ الذَّنَبُ وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ الضُّرِّ وَالِاسْتِغْفَارُ جَاءَ بِالْقَصْدِ الثَّانِي فَلَمْ يَذْكُرْ صِيغَةَ طَلَبِ كَشْفِ الضُّرِّ لِاسْتِشْعَارِهِ أَنَّهُ مُسِيءٌ ظَالِمٌ وَهُوَ الَّذِي أَدْخَلَ الضُّرَّ عَلَى نَفْسِهِ فَنَاسَبَ حَالَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَرْفَعُ سَبَبَهُ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِظُلْمِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ صِيغَةَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلْعَبْدِ الْمَكْرُوبِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي ؛ بِخِلَافِ كَشْفِ الْكَرْبِ فَإِنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ إذْ النَّفْسُ بِطَبْعِهَا تَطْلُبُ مَا هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ مِنْ زَوَالِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ الْحَالِ قَبْلَ طَلَبِهَا زَوَالَ مَا تَخَافُ وُجُودَهُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْمَغْفِرَةُ وَطَلَبُ كَشْفِ الضُّرِّ فَهَذَا مُقَدَّمٌ فِي قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَبْلَغُ مَا يُنَالُ بِهِ رَفْعُ سَبَبِهِ فَجَاءَ بِمَا يُحَصِّلُ مَقْصُودَهُ . وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : ( سُبْحَانَكَ ) فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَتَنْزِيهَهُ وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ الظُّلْمِ وَالْعُقُوبَةِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ يَقُولُ : أَنْتَ مُقَدَّسٌ وَمُنَزَّهٌ عَنْ ظُلْمِي وَعُقُوبَتِي بِغَيْرِ ذَنْبٍ ؛ بَلْ أَنَا الظَّالِمُ الَّذِي ظَلَمْتُ نَفْسِي . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } وَقَالَ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } .
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ { اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتِنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } . فَالْعَبْدُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِعَدْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا فَلَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إلَّا بِذَنْبِهِ وَهُوَ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ فَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ . فَقَوْلُهُ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } فِيهِ إثْبَاتُ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَفِيهَا إثْبَاتُ إحْسَانِهِ إلَى الْعِبَادِ فَإِنَّ " الْإِلَهَ " هُوَ الْمَأْلُوهُ وَالْمَأْلُوهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَكَوْنُهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ هُوَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْبُوبَ غَايَةَ الْحُبِّ الْمَخْضُوعَ لَهُ غَايَةَ الْخُضُوعِ ؛ وَالْعِبَادَةُ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْحُبِّ بِغَايَةِ الذُّلِّ .
وَقَوْلُهُ : ( سُبْحَانَكَ ) يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَهُ وَتَنْزِيهَهُ عَنْ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّقَائِضِ ؛ فَإِنَّ التَّسْبِيحَ وَإِنْ كَانَ يُقَالُ : يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّقَائِصِ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ مِنْ مَرَاسِيلِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ الْعَبْدِ : سُبْحَانَ اللَّهِ : { إنَّهَا بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنْ السُّوءِ } فَالنَّفْيُ لَا يَكُونُ مَدْحًا إلَّا إذَا تَضَمَّنَ ثُبُوتًا وَإِلَّا فَالنَّفْيُ الْمَحْضُ لَا مَدْحَ فِيهِ وَنَفْيُ السُّوءِ وَالنَّقْصِ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَحَاسِنِهِ وَكَمَالِهِ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى . وَهَكَذَا عَامَّةُ مَا يَأْتِي بِهِ الْقُرْآنُ فِي نَفْيِ السُّوءِ وَالنَّقْصِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَحَاسِنِهِ وَكَمَالِهِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } فَنَفْيُ أَخْذِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لَهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ حَيَاتِهِ وقيوميته وَقَوْلُهُ : { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } يَتَضَمَّنُ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَالتَّسْبِيحُ الْمُتَضَمِّنُ تَنْزِيهَهُ عَنْ السُّوءِ وَنَفْيُ النَّقْصِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَهُ . فَفِي قَوْلِهِ : ( سُبْحَانَكَ ) تَبْرِئَتُهُ مِنْ الظُّلْمِ وَإِثْبَاتُ الْعَظَمَةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ بَرَاءَتَهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ الظَّالِمَ إنَّمَا يَظْلِمُ لِحَاجَتِهِ إلَى الظُّلْمِ أَوْ لِجَهْلِهِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ وَهَذَا كَمَالُ الْعَظَمَةِ . وَأَيْضًا فَفِي هَذَا الدُّعَاءِ التَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ فَقَوْلُهُ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } تَهْلِيلٌ . وَقَوْلُهُ : { سُبْحَانَكَ } تَسْبِيحٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ . وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ . سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . وَالتَّحْمِيدُ مَقْرُونٌ بِالتَّسْبِيحِ وَتَابِعٌ لَهُ وَالتَّكْبِيرُ مَقْرُونٌ بِالتَّهْلِيلِ وَتَابِعٌ لَهُ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } وَفِي الْقُرْآنِ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } . وَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ إحْدَاهُمَا مَقْرُونَةٌ بِالتَّحْمِيدِ وَالْأُخْرَى بِالتَّعْظِيمِ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِيهِ نَفْيُ السُّوءِ وَالنَّقَائِصِ الْمُتَضَمِّنُ إثْبَاتَ الْمَحَاسِنِ وَالْكَمَالِ وَالْحَمْدُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْمَحَاسِنِ . وَقُرِنَ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالتَّعْظِيمِ كَمَا قُرِنَ بَيْنَ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مُعَظَّمٍ مَحْبُوبًا مَحْمُودًا وَلَا كُلُّ مَحْبُوبٍ مَحْمُودًا مُعَظَّمًا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ الْمُتَضَمِّنَ مَعْنَى الْحَمْدِ وَتَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ الْمُتَضَمِّنَ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَفِي الْعِبَادَةِ حُبُّهُ وَحَمْدُهُ عَلَى الْمَحَاسِنِ وَفِيهَا الذُّلُّ لَهُ النَّاشِئُ عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ . فَفِيهَا إجْلَالُهُ وَإِكْرَامُهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ غَايَةَ الْإِجْلَالِ وَغَايَةَ الْإِكْرَامِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْسَبُ أَنَّ " الْجَلَالَ " هُوَ الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ وَ " الْإِكْرَامَ " الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّازِي وَنَحْوُهُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كِلَيْهِمَا صِفَاتٌ ثُبُوتِيَّةٌ وَإِثْبَاتُ الْكَمَالِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ النَّقَائِضِ لَكِنَّ ذِكْرَ نَوْعَيْ الثُّبُوتِ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ وَمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَظَّمَ : كَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } وَقَوْلِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ } فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَالْغِنَى لَا يَكُونُ مَحْمُودًا بَلْ مَذْمُومًا إذْ الْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَحْمُودِ بِمَحَاسِنِهِ الْمَحْبُوبَةِ فَيَتَضَمَّنُ إخْبَارًا بِمَحَاسِنِ الْمَحْبُوبِ مَحَبَّةً لَهُ . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْحَمْدِ وَالْمَحَبَّةِ يَكُونُ فِيهِ عَجْزٌ وَضَعْفٌ وَذُلٌّ يُنَافِي الْعَظَمَةَ وَالْغِنَى وَالْمُلْكَ . فَالْأَوَّلُ يُهَابُ وَيُخَافُ وَلَا يُحَبُّ . وَهَذَا يُحَبُّ وَيُحْمَدُ وَلَا يُهَابُ وَلَا يُخَافُ . وَالْكَمَالُ اجْتِمَاعُ الْوَصْفَيْنِ . كَمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ { إنَّ الْمُؤْمِنَ رُزِقَ حَلَاوَةً وَمَهَابَةً } وَفِي نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ } . فَقُرِنَ التَّسْبِيحُ بِالتَّحْمِيدِ وَقُرِنَ التَّهْلِيلُ بِالتَّكْبِيرِ ؛ كَمَا فِي كَلِمَاتِ الْأَذَانِ . ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَتَضَمَّنُ الْآخَرَ إذَا أُفْرِدَ : فَإِنَّ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ يَتَضَمَّنُ التَّعْظِيمَ ؛ وَيَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ مَحْبُوبًا ؛ بَلْ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ كَمَالَ الْحُبِّ إلَّا هُوَ . وَالْحَمْدُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَحْمُودِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ فَالْإِلَهِيَّةُ
تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَمْدِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " مِفْتَاحَ الْخِطَابِ ؛ وَكُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بالحمد لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ " وَسُبْحَانَ اللَّهِ " فِيهَا إثْبَاتُ عَظَمَتِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَقَالَ { أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ بِالدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَجَعَلَ التَّعْظِيمَ فِي الرُّكُوعِ أَخَصَّ مِنْهُ بِالسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحُ يَتَضَمَّنُ التَّعْظِيمَ . فَفِي قَوْلِهِ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " إثْبَاتُ تَنْزِيهِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَحَمْدِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " فَفِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إثْبَاتُ مَحَامِدِهِ فَإِنَّهَا كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي إثْبَاتِ إلَهِيَّتِهِ وَفِي قَوْلِهِ : " اللَّهُ أَكْبَرُ " إثْبَاتُ عَظَمَتِهِ فَإِنَّ الْكِبْرِيَاءَ تَتَضَمَّنُ الْعَظَمَةَ وَلَكِنَّ الْكِبْرِيَاءَ أَكْمَلُ . وَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَلْفَاظُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ بِقَوْلِ : " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِ اللَّهُ أَعْظَمُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظْمَةُ إزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ } فَجَعَلَ الْعَظَمَةَ كَالْإِزَارِ وَالْكِبْرِيَاءَ كَالرِّدَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّدَاءَ أَشْرَفُ فَلَمَّا كَانَ التَّكْبِيرُ أَبْلَغَ مِنْ التَّعْظِيمِ صَرَّحَ بِلَفْظِهِ وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ وَفِي قَوْلِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ صَرَّحَ فِيهَا بِالتَّنْزِيهِ مِنْ السُّوءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّعْظِيمِ فَصَارَ كُلٌّ مِنْ الْكَلِمَتَيْنِ
مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ إذَا أُفْرِدَتَا وَعِنْدَ الِاقْتِرَانِ تُعْطَى كُلُّ كَلِمَةٍ خَاصِّيَّتَهَا . وَهَذَا كَمَا أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْنَى الْآخَرِ ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالذَّاتُ تَسْتَلْزِمُ مَعْنَى الِاسْمِ الْآخَرِ لَكِنَّ هَذَا بِاللُّزُومِ . وَأَمَّا دِلَالَةُ كُلِّ اسْمٍ عَلَى خَاصِّيَّتِهِ وَعَلَى الذَّاتِ بِمَجْمُوعِهِمَا فَبِالْمُطَابَقَةِ وَدِلَالَتُهَا عَلَى أَحَدِهِمَا بِالتَّضَمُّنِ . فَقَوْلُ الدَّاعِي : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ } يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ اللَّاتِي هُنَّ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ . وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ تَتَضَمَّنُ مَعَانِيَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا فَفِيهَا كَمَالُ الْمَدْحِ . وَقَوْلُهُ : { إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } فِيهِ اعْتِرَافٌ بِحَقِيقَةِ حَالِهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْعِبَادِ أَنْ يُبَرِّئَ نَفْسَهُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ لَا سِيَّمَا فِي مَقَامِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَنْبَغِي لِعَبْدِ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى } وَقَالَ : { مَنْ قَالَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى فَقَدْ كَذَبَ } فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِظُلْمِ نَفْسِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ وَلِهَذَا كَانَ سَادَاتُ الْخَلَائِقِ لَا يُفَضِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى يُونُسَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَلْ يَقُولُونَ : كَمَا قَالَ أَبُوهُمْ آدَمَ وَخَاتَمُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَصْل
:
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : لِمَ كَانَتْ مُوجِبَةً لِكَشْفِ الضُّرِّ ؟
فَذَلِكَ لِأَنَّ الضُّرَّ لَا يَكْشِفُهُ إلَّا اللَّهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى :
{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ
يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } وَالذُّنُوبُ سَبَبٌ لِلضُّرِّ
وَالِاسْتِغْفَارُ يُزِيلُ أَسْبَابَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ
مُسْتَغْفِرًا . وَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ
اللَّهَ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } فَقَوْلُهُ : {
إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ وَهُوَ اسْتِغْفَارٌ
فَإِنَّ هَذَا الِاعْتِرَافَ مُتَضَمِّنٌ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ . وَقَوْلُهُ : {
لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } تَحْقِيقٌ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّ الْخَيْرَ
لَا مُوجِبَ لَهُ إلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ
لَمْ يَكُنْ وَالْمُعَوِّقُ لَهُ
مِنْ الْعَبْدِ هُوَ ذُنُوبُهُ وَمَا كَانَ خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ سَبَبًا لِلنَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ فَشَهَادَةُ التَّوْحِيدِ تَفْتَحُ بَابَ الْخَيْرِ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ الذُّنُوبِ يُغْلِقُ بَابَ الشَّرِّ . وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ لَا يُعَلِّقَ رَجَاءَهُ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا يَخَافَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَظْلِمَهُ : فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ؛ بَلْ يَخَافُ أَنْ يَجْزِيَهُ بِذُنُوبِهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ وَلَا يَخَافَنَّ إلَّا ذَنْبَهُ . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ فَقَالَ : كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَقَالَ أَرْجُو اللَّهَ وَأَخَافُ ذُنُوبِي فَقَالَ مَا اجْتَمَعَا فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ } . فَالرَّجَاءُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِاَللَّهِ وَلَا يَتَعَلَّقَ بِمَخْلُوقِ وَلَا بِقُوَّةِ الْعَبْدِ وَلَا عَمَلِهِ فَإِنَّ تَعْلِيقَ الرَّجَاءِ بِغَيْرِ اللَّهِ إشْرَاكٌ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهَا أَسْبَابًا فَالسَّبَبُ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعَاوِنٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يُمْنَعَ الْمُعَارِضُ الْمُعَوِّقُ لَهُ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ وَيَبْقَى إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلِهَذَا قِيلَ : الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } فَأَمَرَ بِأَنْ تَكُونَ الرَّغْبَةُ إلَيْهِ وَحْدَهُ وَقَالَ : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَالْقَلْبُ لَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى مَنْ يَرْجُوهُ فَمَنْ رَجَا قُوَّتَهُ أَوْ عَمَلَهُ أَوْ عِلْمَهُ أَوْ حَالَهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَوْ قَرَابَتَهُ أَوْ شَيْخَهُ أَوْ مُلْكَهُ أَوْ مَالَهُ غَيْرَ نَاظِرٍ إلَى اللَّهِ كَانَ فِيهِ نَوْعُ تَوَكُّلٍ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ وَمَا رَجَا أَحَدٌ مَخْلُوقًا أَوْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ إلَّا خَابَ ظَنُّهُ فِيهِ فَإِنَّهُ مُشْرِكٌ : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } . وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُ يَخَافُ الْمَخْلُوقِينَ وَيَرْجُوهُمْ فَيَحْصُلُ لَهُ رُعْبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } وَالْخَالِصُ مِنْ الشِّرْكِ يَحْصُلُ لَهُ الْأَمْنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّلْمَ هُنَا بِالشِّرْكِ . فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هَذَا الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } { إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } وَلِهَذَا يَذْكُرُ اللَّهُ الْأَسْبَابَ وَيَأْمُرُ بِأَلَّا يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا وَلَا يُرْجَى إلَّا اللَّهُ قَالَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَالَ : { إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الدُّعَاءَ نَوْعَانِ . دُعَاءُ عِبَادَةٍ وَدُعَاءُ مَسْأَلَةٍ . وَكِلَاهُمَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ فَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ قَعَدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا وَالرَّاجِي سَائِلٌ طَالِبٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَرْجُوَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَسْأَلَ
غَيْرَهُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ } . فَالْمُشْرِفُ الَّذِي يَسْتَشْرِفُ بِقَلْبِهِ وَالسَّائِلُ الَّذِي يَسْأَلُ بِلِسَانِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري { قَالَ : أَصَابَتْنَا فَاقَةٌ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْأَلَهُ فَوَجَدْتُهُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ وَاَللَّهِ مَهْمَا يَكُنْ عِنْدَنَا مَنْ خَيْرٍ فَلَنْ نَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ } . وَ " الِاسْتِغْنَاءُ " أَنْ لَا يَرْجُوَ بِقَلْبِهِ أَحَدًا فَيَتَشَرَّفَ إلَيْهِ وَ " الِاسْتِعْفَافُ أَلَّا يَسْأَلَ بِلِسَانِهِ أَحَدًا ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَالَ : قَطْعُ الِاسْتِشْرَافِ إلَى الْخَلْقِ ؛ أَيْ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِكَ أَنَّ أَحَدًا يَأْتِيكَ بِشَيْءِ فَقِيلَ لَهُ : فَمَا الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : قَوْلُ الْخَلِيلِ لَمَّا قَالَ لَهُ جبرائيل هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ ؟ فَقَالَ : " أَمَّا إلَيْكَ فَلَا " . فَهَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَبْدَ فِي طَلَبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ لَا يُوَجِّهُ قَلْبَهُ إلَّا إلَى اللَّهِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ الْمَكْرُوبُ : ( لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ) . وَمِثْلُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَقُولُ : عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ } فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِيهَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَتَأَلُّهُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَتَعَلُّقُ رَجَائِهِ بِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهِيَ لَفْظُ خَبَرٍ يَتَضَمَّنُ الطَّلَبَ . وَالنَّاسُ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَوْلُ الْعَبْدِ لَهَا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ لَهُ حَقِيقَةٌ أُخْرَى وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ تَكْمُلُ طَاعَةُ اللَّهِ . قَالَ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } فَمَنْ جَعَلَ مَا يَأْلَهُهُ هُوَ مَا يَهْوَاهُ فَقَدْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَيْ جَعَلَ مَعْبُودَهُ هُوَ مَا يَهْوَاهُ وَهَذَا حَالُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُ أَحَدُهُمْ مَا يَسْتَحْسِنُهُ فَهُمْ يَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ : { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } . فَإِنَّ قَوْمَهُ لَمْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ لِلصَّانِعِ وَلَكِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ يَعْبُدُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ وَيَظُنُّهُ نَافِعًا لَهُ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْخَلِيلُ بَيَّنَ أَنَّ الْآفِلَ يَغِيبُ عَنْ عَابِدِهِ وَتَحْجُبُهُ عَنْهُ الْحَوَاجِبُ فَلَا يَرَى عَابِدَهُ وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَلَا يَعْلَمُ حَالَهُ وَلَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ بِسَبَبِ وَلَا غَيْرِهِ فَأَيُّ وَجْهٍ لِعِبَادَةِ مَنْ يَأْفُلُ . وَكُلَّمَا حَقَّقَ الْعَبْدُ الْإِخْلَاصَ فِي قَوْلِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَرَجَ مِنْ قَلْبِهِ
تَأَلُّهُ مَا يَهْوَاهُ وَتُصْرَفُ عَنْهُ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } . فَعَلَّلَ صَرْفَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَقَالَ الشَّيْطَانُ : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ } . فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ يَنْفِي أَسْبَابَ دُخُولِ النَّارِ ؛ فَمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ الْقَائِلِينَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ إخْلَاصَهَا الْمُحَرِّمَ لَهُ عَلَى النَّارِ ؛ بَلْ كَانَ فِي قَلْبِهِ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيمَا أَدْخَلَهُ النَّارَ وَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَقُولَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَالشَّيْطَانُ يَأْمُرُ بالشرك وَالنَّفْسُ تُطِيعُهُ فِي ذَلِكَ فَلَا تَزَالُ النَّفْسُ تَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ . إمَّا خَوْفًا مِنْهُ . وَإِمَّا رَجَاءً لَهُ فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا إلَى تَخْلِيصِ تَوْحِيدِهِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ الشَّيْطَانُ : أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ بَثَثْتُ فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } .
فَصَاحِبُ الْهَوَى الَّذِي اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ لَهُ نَصِيبٌ مِمَّنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ فَصَارَ فِيهِ شِرْكٌ مَنَعَهُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَأَمَّا مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرْفَعَ عَنْهُ الشَّرُّ ؛ فَلِهَذَا قَالَ ذُو النُّونِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } . وَلِهَذَا يَقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَوْلِهِ : { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } . وَخَاتِمَةُ الْمَجْلِسِ : { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ } إنْ كَانَ مَجْلِسَ رَحْمَةٍ كَانَتْ كَالطَّابَعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغْوٍ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهَا تُقَالُ فِي آخِرِ الْوُضُوءِ بَعْدَ أَنْ يُقَالَ : { أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ } . وَهَذَا الذِّكْرُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِغْفَارَ ؛ فَإِنَّ صَدْرَهُ الشَّهَادَتَانِ
اللَّتَانِ هُمَا أَصْلَا الدِّينِ وَجِمَاعُهُ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الدِّينِ دَاخِلٌ فِي " الشَّهَادَتَيْنِ " إذْ مَضْمُونُهُمَا أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَأَنْ نُطِيعَ رَسُولَهُ و " الدِّينُ " كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَكُلُّ مَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ دَاخِلٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ : { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ } وَهَذَا كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ فَقَدْ شُرِعَ فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ وَفِي آخِرِ الْوُضُوءِ وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ؛ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } وَهُنَا قَدَّمَ الدُّعَاءَ وَخَتَمَهُ بِالتَّوْحِيدِ ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَخَتَمَ بِالتَّوْحِيدِ لِيَخْتِمَ الصَّلَاةَ بِأَفْضَلِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ بِخِلَافِ مَا لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ هَذَا فَإِنَّ تَقْدِيمَ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ . فَإِنَّ جِنْسَ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ وَعِبَادَةٌ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ سُؤَالٌ وَطَلَبٌ وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ قَدْ يُفَضَّلُ عَلَى الْفَاضِلِ فِي مَوْضِعِهِ الْخَاصِّ بِسَبَبِ وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ سُؤَالٌ وَمَعَ هَذَا فَالْمَفْضُولُ لَهُ أَمْكِنَةٌ وَأَزْمِنَةٌ
وَأَحْوَالٌ يَكُونُ فِيهَا أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ لَكِنَّ أَوَّلَ الدِّينِ وَآخِرَهُ وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ هُوَ التَّوْحِيدُ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ هُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِقْرَارِ بِهَا فَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي تَحْقِيقِهَا تَفَاضُلًا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَضْبِطَهُ حَتَّى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَبَيْنَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي دَعَاهُمْ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ الْقَوْلِيِّ وَالْعَمَلِيِّ . فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ الْعَالَمَ خَلَقَهُ اثْنَانِ وَلَا إنَّ مَعَ اللَّهِ رَبًّا يَنْفَرِدُ دُونَهُ بِخَلْقِ شَيْءٍ ؛ بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } وَكَانُوا مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً
أُخْرَى
يَجْعَلُونَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ إلَيْهِ . وَيَقُولُونَ : مَا نَعْبُدُهُمْ
إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى . وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ .
وَالْإِشْرَاكُ فِي الْحُبِّ وَالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ غَيْرُ
الْإِشْرَاكِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ
اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَمَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا
كَمَا يُحِبُّ الْخَالِقَ فَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ قَدْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ . وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ
خَالِقُهُ . وَلِهَذَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَ مَنْ أَحَبَّ
مَخْلُوقًا لِلَّهِ وَبَيْنَ مَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا مَعَ اللَّهِ فَالْأَوَّلُ
يَكُونُ اللَّهُ هُوَ مَحْبُوبَهُ وَمَعْبُودَهُ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى حُبِّهِ
وَعِبَادَتِهِ لَا يُحِبُّ مَعَهُ غَيْرَهُ ؛ لَكِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ أَحَبَّهُمْ لِأَجْلِهِ
وَكَذَلِكَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ
الْمَحْظُورِ أَحَبَّ ذَلِكَ فَكَانَ حُبُّهُ لِمَا يُحِبُّهُ تَابِعًا
لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَفَرْعًا عَلَيْهِ وَدَاخِلًا فِيهِ . بِخِلَافِ مَنْ
أَحَبَّ مَعَ اللَّهِ فَجَعَلَهُ نِدًّا لِلَّهِ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ أَوْ
يُطِيعُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ
وَيَتَّخِذُهُ شَفِيعًا لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ
لَهُ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا
عِنْدَ اللَّهِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَدْ قَالَ { عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَبَدُوهُمْ قَالَ : أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ } قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا } { يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا } { لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } . فَالرَّسُولُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ وَمَنْ سِوَى الرَّسُولِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ إذَا كَانَتْ طَاعَتُهُمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَهُمْ إذَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِطَاعَتِهِمْ فَطَاعَتُهُمْ دَاخِلَةٌ فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } . فَلَمْ يَقُلْ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ؛ بَلْ جَعَلَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ دَاخِلَةً فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ ؛ وَطَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةً لِلَّهِ وَأَعَادَ الْفِعْلَ فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ دُونَ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ
فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إذَا أَمَرَهُ الرَّسُولُ بِأَمْرِ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْ لَا بِخِلَافِ أُولِي الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَأْمُرُونَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَطَاعَهُمْ مُطِيعًا لِلَّهِ بَلْ لَا بُدَّ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ وَيُنْظَرَ هَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْ لَا سَوَاءٌ كَانَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ وَطَاعَةُ أُمَرَاءِ السَّرَايَا وَغَيْرُ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً . فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُحِبُّ خَلِيفَةً أَوْ عَالِمًا أَوْ شَيْخًا أَوْ أَمِيرًا فَيَجْعَلَهُ نِدًّا لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقُولُ : إنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ . فَمَنْ جَعَلَ غَيْرَ الرَّسُولِ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ جَعَلَهُ نِدًّا وَرُبَّمَا صَنَعَ بِهِ كَمَا تَصْنَعُ النَّصَارَى بِالْمَسِيحِ وَيَدْعُوهُ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ مَعَ إيجَابِهِ طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَيُحَلِّلُهُ وَيُحَرِّمُهُ وَيُقِيمُهُ مَقَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي يَدْخُلُ أَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } .
فَالتَّوْحِيدُ وَالْإِشْرَاكُ يَكُونُ فِي أَقْوَالِ الْقَلْبِ وَيَكُونُ فِي أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَلِهَذَا قَالَ الْجُنَيْد : التَّوْحِيدُ قَوْلُ الْقَلْبِ وَالتَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ فَإِنَّهُ لَمَّا قَرَنَهُ بِالتَّوَكُّلِ جَعَلَهُ أَصْلَهُ وَإِذَا أُفْرِدَ لَفْظُ التَّوْحِيدِ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ قَوْلَ الْقَلْبِ وَعَمَلُهُ وَالتَّوَكُّلُ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ . وَهَذَا كَلَفْظِ " الْإِيمَانِ " فَإِنَّهُ إذَا أُفْرِدَ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ وَالظَّاهِرَةُ وَقِيلَ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَيْ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } . وَ " الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ " يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ : آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمْسَ مَا غَنِمْتُمْ } وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا . وَأَمَّا إذَا قُرِنَ لَفْظُ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَكَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ فَقَالَ : { الْإِسْلَامُ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ . قَالَ : فَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ . قَالَ : فَمَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ } . فَفَرَّقَ فِي هَذَا النَّصِّ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ لَمَّا قَرَنَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ وَفِي ذَلِكَ النَّصِّ أَدْخَلَ الْإِسْلَامَ فِي الْإِيمَانِ لَمَّا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْعَمَلِ " فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ هُوَ مِنْ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ الظَّاهِرُ هُوَ مُوجَبُ إيمَانِ الْقَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ فَإِذَا حَصَلَ إيمَانُ الْقَلْبِ حَصَلَ إيمَانُ الْجَوَارِحِ ضَرُورَةً وَإِيمَانُ الْقَلْبِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ وَإِلَّا فَلَوْ صَدَّقَ قَلْبُهُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ يُبْغِضُهُ وَيَحْسُدُهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ آمَنَ قَلْبُهُ . و " الْإِيمَانُ " وَإِنْ تَضَمَّنَ التَّصْدِيقَ فَلَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ فَلَا يُقَالُ
لِكُلِّ مُصَدِّقٍ بِشَيْءِ : إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ . فَلَوْ قَالَ : أَنَا أُصَدِّقُ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَأَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا وَالْأَرْضَ تَحْتَنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ وَيَعْلَمُونَهُ لَمْ يُقَلْ لِهَذَا : إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِذَلِكَ ؛ بَلْ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَنْ أَخْبَرَ بِشَيْءِ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ كَقَوْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ آمَنَ لَهُ وَآمَنَ بِهِ فَالْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُخْبِرِ وَالثَّانِي يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } فَفَرَّقَ بَيْنَ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَإِيمَانِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ إذَا أَخْبَرُوهُ وَأَمَّا إيمَانُهُ بِاَللَّهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ بِهِ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } أَيْ نُقِرُّ لَهُمَا وَنُصَدِّقُهُمَا . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي } . وَمِنْ الْمَعْنَى الْآخَرِ قَوْله تَعَالَى { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } وَقَوْلُهُ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } وَقَوْلُهُ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } أَيْ
أَقَرَّ بِذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ لَفْظَ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا
يُسْتَعْمَلُ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ كَمَا
أَنَّ الْإِقْرَارَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَّ فَالْمُؤْمِنُ صَاحِبُ أَمْنٍ كَمَا
أَنَّ الْمُقِرَّ صَاحِبُ إقْرَارٍ فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ
بِمُوجَبِ تَصْدِيقِهِ فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِذَلِكَ حُبُّهُ وَتَعْظِيمُهُ بَلْ كَانَ يُبْغِضُهُ
وَيَحْسُدُهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ اتِّبَاعِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ
بِهِ بَلْ كَافِرٌ بِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كُفْرُ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ
وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ
وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يُكَذِّبْ خَبَرًا وَلَا مُخْبِرًا بَلْ
اسْتَكْبَرَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ
: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا }
وَقَالَ لَهُ مُوسَى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }
فَمُجَرَّدُ عِلْمِ الْقَلْبِ بِالْحَقِّ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلُ
الْقَلْبِ بِمُوجَبِ عِلْمِهِ مِثْلُ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَهُ وَاتِّبَاعِ
الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَنْفَعْ صَاحِبَهُ بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ } وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّة ظَنُّوا أَنَّ مُجَرَّدَ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ هُوَ الْإِيمَانُ وَأَنَّ مَنْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ عِلْمِ قَلْبِهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ شَرْعًا وَعَقْلًا . وَحَقِيقَتُهُ تُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ؛ وَلِهَذَا أَطْلَقَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ كُفْرَهُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنْ الْإِنْسَانَ يَكُونُ عَالِمًا بِالْحَقِّ وَيُبْغِضُهُ لِغَرَضِ آخَرَ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ الْحَقِّ يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ وَحِينَئِذٍ فَالْإِيمَانُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . ثُمَّ إنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ الْقَلْبُ بِالتَّصْدِيقِ وَالْمَحَبَّةِ التَّامَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِرَادَةِ لَزِمَ وُجُودُ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ إذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ لَزِمَ وُجُودُ الْمُرَادِ قَطْعًا وَإِنَّمَا يَنْتَفِي وُجُودُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ أَوْ لِعَدَمِ كَمَالِ الْإِرَادَةِ وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِهَا يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ فَإِذَا أَقَرَّ الْقَلْبُ إقْرَارًا تَامًّا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَحَبَّهُ مَحَبَّةً تَامَّةً امْتَنَعَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ إنْ كَانَ عَاجِزًا لِخَرَسِ وَنَحْوِهِ أَوْ لِخَوْفِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ بِهِمَا .
وَ " أَبُو طَالِبٍ " وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ مُحِبٌّ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهُ لَهُ لِمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ بَلْ كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ فَيُحِبُّهُ لِلْقَرَابَةِ وَإِذَا أَحَبَّ ظُهُورَهُ فَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ الشَّرَفِ وَالرِّئَاسَةِ فَأَصْلُ مَحْبُوبِهِ هُوَ الرِّئَاسَةُ ؛ فَلِهَذَا لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ رَأَى أَنَّ بِالْإِقْرَارِ بِهِمَا زَوَالَ دِينِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ فَكَانَ دِينُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِمَا - فَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا كَانَ يُحِبُّهُ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } وَكَمَا كَانَ يُحِبُّهُ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ لَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَطْعًا - فَكَانَ حُبُّهُ حُبًّا مَعَ اللَّهِ لَا حُبًّا لِلَّهِ وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مَا فَعَلَهُ مِنْ نَصْرِ الرَّسُولِ وَمُؤَازَرَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ بِخِلَافِ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . وَهَذَا مِمَّا يُحَقِّقُ أَنَّ " الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ " لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ كَحُبِّ الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَالدِّينُ لَا يَكُونُ دِينًا إلَّا بِعَمَلِ ؛ فَإِنَّ الدِّينَ يَتَضَمَّنُ الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ ؛ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إحْدَاهُمَا فِي تَوْحِيدِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ . وَالثَّانِيَةُ فِي تَوْحِيدِ الْعَمَلِ
وَالْإِرَادَةِ
؛ فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } {
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَأَمَرَهُ
أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّوْحِيدَ وَقَالَ فِي الثَّانِي : { قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ } { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ
مَا أَعْبُدُ } { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } { وَلَا أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } فَأَمَرَهُ أَنْ
يَقُولَ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَإِخْلَاصَ
الْعِبَادَةِ لِلَّهِ .
و " الْعِبَادَةُ " أَصْلُهَا الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ .
وَالْعِبَادَةُ إذَا أُفْرِدَتْ دَخَلَ فِيهَا التَّوَكُّلُ وَنَحْوُهُ وَإِذَا
قُرِنَتْ بِالتَّوَكُّلِ صَارَ التَّوَكُّلُ قَسِيمًا لَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي
لَفْظِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا
لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
} فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ
الْمَحْظُورَاتِ ؛ وَالتَّوَكُّلُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ :
{ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَالَ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ
عَلَيْهِ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ : تَتَنَوَّعُ
دِلَالَةُ اللَّفْظِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ بِحَسَبِ الْإِفْرَادِ
وَالِاقْتِرَانِ ؛ كَلَفْظِ " الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ " فَإِنَّهُ
قَدْ قَالَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ { وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ }
فَالْمُنْكَرُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ ؛ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ . وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } فَعَطَفَ الْمُنْكَرَ عَلَى الْفَحْشَاءِ وَدَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ هُنَا الْبَغْيُ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } فَقَرَنَ بِالْمُنْكَرِ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ " إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ وَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ صَارَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ؛ لَكِنْ هُنَاكَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ وَهُنَا بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَنَحْوُ هَذَا كُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى فِي الْمَحَبَّةِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } فَجَعَلَ التَّحَسُّبَ وَالرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَ ( الْمَقْصُودُ ) هُنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } فِيهِ إفْرَادُ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ لِلَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ؛ لَكِنْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فَلَا يَخُصُّونَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ . وَتَخْصِيصُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ يُوجِبُ أَلَّا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَأَنْ لَا يُسْأَلَ غَيْرُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْصِدُ سُؤَالَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ لَكِنْ فِي أُمُورٍ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ ؛ بَلْ يَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُخْلِصًا لَهُ فِي سُؤَالِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مُخْلِصًا فِي عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوَجُّهَاتِ الْفَاسِدَةِ أَصْحَابِ الْكُشُوفَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُمْ يُعَانُونَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهَا لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَصَلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْعَاجِلَةِ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ عَاقِبَةً سَيِّئَةً قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ
الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَدْ يَقْصِدُونَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَكِنْ لَا يُحَقِّقُونَ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ . فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِمْ وَعَلَى طَاعَتِهِمْ لَكِنَّهُمْ مَخْذُولُونَ فِيمَا يَقْصِدُونَهُ إذْ لَمْ يُحَقِّقُوا الِاسْتِعَانَةَ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُبْتَلَى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالضَّعْفِ وَالْجَزَعِ تَارَةً " وَبِالْإِعْجَابِ أُخْرَى فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ مِنْ الْخَيْرِ كَانَ لِضَعْفِهِ وَرُبَّمَا حَصَلَ لَهُ جَزَعٌ فَإِنْ حَصَلَ مُرَادُهُ نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ وَقُوَّتِهِ فَحَصَلَ لَهُ إعْجَابٌ وَقَدْ يُعْجَبُ بِحَالِهِ فَيَظُنُّ حُصُولَ مُرَادِهِ فَيُخْذَلُ . قَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ النَّاسُ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ فَالرِّيَاءُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالْخَلْقِ وَالْعُجْبُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالنَّفْسِ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ فَالْمُرَائِي لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } وَالْمُعْجَبُ لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } خَرَجَ عَنْ الرِّيَاءِ وَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } خَرَجَ عَنْ الْإِعْجَابِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : { ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ : شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ } .
وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ لَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ وَلَا اسْتِعَانَتُهُ بِاَللَّهِ بَلْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَسْتَعِينُ غَيْرَهُ وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ شِرْكُهُ بِالشَّيَاطِينِ كَأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَفْعَلُونَ مَا تُحِبُّهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَيَدْعُونَهُ بِأَدْعِيَةِ تُحِبُّهَا الشَّيَاطِينُ وَيُعَزِّمُونَ بِالْعَزَائِمِ الَّتِي تُطِيعُهَا الشَّيَاطِينُ مِمَّا فِيهَا إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْخَوَارِقِ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ . وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَلَمْ يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَيْهِ . وَقَوْلُ الْمَكْرُوبِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } قَدْ يَسْتَحْضِرُ فِي ذَلِكَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَمَنْ أَتَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ اسْتَحْضَرَ التَّوْحِيدَ فِي النَّوْعَيْنِ فَإِنَّ الْمَكْرُوبَ هِمَّتُهُ مُنْصَرِفَةٌ إلَى دَفْعِ ضُرِّهِ وَجَلْبِ نَفْعِهِ فَقَدْ يَقُولُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مُسْتَشْعِرًا أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الضُّرَّ غَيْرُكَ وَلَا يَأْتِي بِالنِّعْمَةِ إلَّا أَنْتَ فَهَذَا مُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ مُعْرِضٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ
بِهِ وَهُوَ أَلَّا يَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَعْبُدُهُ إلَّا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَمَنْ اسْتَشْعَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَكَانَ مُمْتَثِلًا قَوْلَهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلَهُ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلَهُ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } . ثُمَّ إنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مُحَرَّمًا أَثِمَ وَإِنْ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ . وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مُبَاحًا لِغَيْرِ قَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَا مُثَابًا . وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مَا يُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُثَابًا مَأْجُورًا وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَخُلَفَائِهِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ الْمَلِكِ فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ عَبْدًا رَسُولًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فَفِعْلُهُ كُلُّهُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ فَهُوَ عَبْدٌ مَحْضٌ مُنَفِّذٌ أَمْرَ مُرْسِلِهِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ } وَهُوَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ { لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ } إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ قَدَرًا وَكَوْنًا فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ يُشَارِكُونَهُ فِي هَذَا فَلَا يُعْطِي أَحَدًا وَلَا يَمْنَعُ إلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ شَرْعًا وَدِينًا . أَيْ لَا أُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرْتُ
بِإِعْطَائِهِ وَلَا أَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرْتُ بِمَنْعِهِ فَأَنَا مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي إعْطَائِي وَمَنْعِي فَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ وَالْفَيْءَ وَالْغَنَائِمَ كَمَا يُقَسِّمُ الْمَوَارِيثَ بَيْنَ أَهْلِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ حَيْثُ أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّسُولِ كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَلَا الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا لِلَّهِ خَلْقًا وَقَدَرًا ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } وَقَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } إلَى قَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } الْآيَةَ . فَذَكَرَ فِي الْفَيْءِ مَا ذَكَرَ فِي الْخُمُسِ . فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْلَاكَهُمْ . ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ مِلْكًا لِلرَّسُولِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْفَيْءَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَانَ مِلْكًا لِلرَّسُولِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْخُمُسِ خُمُسَهُ . وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ خُمُسَهُ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُوجَدُ فِي كَلَامِ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ :
مِنْهَا : أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأَمْوَالَ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ وَلَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمُلُوكُ فِي مُلْكِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا أَمْوَالَهُمْ فِي الْمُبَاحَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي أَغْرَاضِهِ الْخَاصَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ وَهَذِهِ حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ كدَاوُد وَسُلَيْمَانَ . قَالَ تَعَالَى : { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَاحْرِمْ مَنْ شِئْتَ لَا حِسَابَ عَلَيْكَ وَنَبِيُّنَا كَانَ عَبْدًا رَسُولًا لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ وَلَا يَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرَ بِمَنْعِهِ فَلَمْ يَكُنْ يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ إلَّا فِي عِبَادَةٍ لِلَّهِ وَطَاعَةٍ لَهُ . ( وَمِنْهَا ) أَنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ وَلَوْ كَانَ مَلِكًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ فَإِذَا كَانَ مُلُوكُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُلَّاكًا كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ صَفْوَةُ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ عَبْدٌ رَسُولٌ مَالِكًا . ( وَمِنْهَا ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَيَصْرِفُ سَائِرَ الْمَالِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَا يَسْتَفْضِلُهُ وَلَيْسَتْ هَذِهِ حَالُ الْمُلَّاكِ بَلْ الْمَالُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ كُلُّهُ هُوَ مَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِي طَاعَتِهِ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِي قِسْمِهِ كَمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي سَائِرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ .
وَالْأَمْوَالُ
الَّتِي كَانَ يُقَسِّمُهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
وَجْهَيْنِ :
مِنْهَا : مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ وَمَصْرِفُهُ كَالْمَوَارِيثِ .
وَمِنْهَا : مَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ وَرَأْيِهِ فَإِنَّ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ مَا هُوَ مَحْدُودٌ بِالشَّرْعِ : كَالصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ وَطَوَافِ الْأُسْبُوعِ بِالْبَيْتِ وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ فِي قَدْرِهِ
إلَى اجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ فَيَزِيدُهُ وَيَنْقُصُهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ
الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ . فَمِنْ هَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ
وَمِنْهُ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ : كَتَنَازُعِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ
لِلزَّوْجَاتِ مِنْ النَّفَقَاتِ : هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ ؟ أَمْ
يُرْجَعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ فَتَخْتَلِفُ فِي قَدْرِهَا وَصِفَتِهَا
بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ ؟ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ
الثَّانِي وَهُوَ الصَّوَابُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِهِنْدِ : { خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ
أَيْضًا : فِي خُطْبَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ { لِلنِّسَاءِ كِسْوَتُهُنَّ
وَنَفَقَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا أَيْضًا فِيمَا يَجِبُ
مِنْ الْكَفَّارَاتِ : هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعُرْفِ ؟ .
فَمَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْأَمْوَالِ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي
قِسْمَتِهِ إلَى أَمْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ مَا سُمِّيَ مُسْتَحِقُّوهُ كَالْمَوَارِيثِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حنين { لَيْسَ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ } أَيْ لَيْسَ لَهُ بِحُكْمِ الْقَسْمِ الَّذِي يُرْجَعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ الْخَاصِّ إلَّا الْخُمُسُ وَلِهَذَا قَالَ : { وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ } بِخِلَافِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْغَنَائِمُ يُقَسِّمُهَا الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَالْخُمُسُ يُرْفَعُ إلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ الَّذِينَ خَلَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ فَيُقَسِّمُونَهَا بِأَمْرِهِمْ فَأَمَّا أَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُونَ فِيهَا لِيُعْلَمَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَسْتَفْتِي الْمُسْتَفْتِي وَكَمَا كَانُوا فِي الْحُدُودِ لِمَعْرِفَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حنين مَا أَعْطَاهُمْ ؛ فَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْخُمُسِ ؛ وَقِيلَ : إنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ ؛ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ فَعَلَ ذَلِكَ لِطِيبِ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَجَابَ مَنْ عَتَبَ مِنْ الْأَنْصَارِ بِمَا أَزَالَ عَتْبَهُ وَأَرَادَ تَعْوِيضَهُمْ عَنْ ذَلِكَ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْغَنِيمَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا الْغَانِمُونَ ؛ وَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ حَالِ الْعَبْدِ الْمَحْضِ لِلَّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ فَيَعْمَلُ لَهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَيُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ
الْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الرُّبُوبِيَّةَ ؛ وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا تَضَمَّنَ الْآخَرَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } { مَلِكِ النَّاسِ } { إلَهِ النَّاسِ } وَفِي قَوْلِهِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَجَمَعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ : اسْمِ الْإِلَهِ وَاسْمِ الرَّبِّ . فَإِنَّ " الْإِلَهَ " هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ . وَ " الرَّبُّ " هُوَ الَّذِي يُرَبِّي عَبْدَهُ فَيُدَبِّرُهُ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِهِ اللَّهِ وَالسُّؤَالُ مُتَعَلِّقًا بِاسْمِهِ الرَّبِّ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَهَا خُلِقَ الْخَلْقُ . وَالْإِلَهِيَّةُ هِيَ الْغَايَةُ ؛ وَالرُّبُوبِيَّةُ تَتَضَمَّنُ خَلْقَ الْخَلْقِ وَإِنْشَاءَهُمْ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ ابْتِدَاءَ حَالِهِمْ ؛ وَالْمُصَلِّي إذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَبَدَأَ بِالْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ عَلَى الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ الْبِدَايَةُ ؛ فَالْعِبَادَةُ غَايَةٌ مَقْصُودَةٌ ؛ وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إلَيْهَا : تِلْكَ حِكْمَةٌ وَهَذَا سَبَبٌ ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ الغائية وَالْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ مَعْرُوفٌ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلُ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرَكِ . فَالْعِلَّةُ الغائية مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّصَوُّرِ وَالْإِرَادَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ . فَالْمُؤْمِنُ يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ ابْتِدَاءً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِعَانَتِهِ فَيَقُولُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَلَمَّا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَاءَتْ الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ بِهَذَا الِاسْمِ مِثْلَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ . وَمِثْلُ الشَّهَادَتَيْنِ :
أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمِثْلُ التَّشَهُّدِ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَمِثْلُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ . وَأَمَّا السُّؤَالُ فَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ بِاسْمِ الرَّبِّ كَقَوْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَوْلِ نُوحٍ : { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } وَقَوْلِ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَقَوْلِ الْخَلِيلِ : { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } الْآيَةُ وَقَوْلِهِ مَعَ إسْمَاعِيلَ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُ الَّذِينَ قَالُوا : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ : أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ : يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي يَا حَنَّانُ يَا حَنَّانُ وَلَكِنْ يَدْعُو بِمَا دَعَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ؛ رَبَّنَا رَبَّنَا نَقَلَهُ عَنْهُ العتبي فِي العتبية . وَقَالَ تَعَالَى : عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } الْآيَاتِ .
فَإِذَا سَبَقَ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ قَصْدُ السُّؤَالِ نَاسَبَ أَنْ يَسْأَلَهُ بِاسْمِهِ الرَّبِّ . وَإِنْ سَأَلَهُ بِاسْمِهِ اللَّهِ لِتَضَمُّنِهِ اسْمَ الرَّبِّ كَانَ حَسَنًا وَأَمَّا إذَا سَبَقَ إلَى قَلْبِهِ قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَاسْمُ اللَّهِ أَوْلَى بِذَلِكَ . إذَا بَدَأَ بِالثَّنَاءِ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَإِذَا قَصَدَ الدُّعَاءَ دَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ وَلِهَذَا قَالَ يُونُسُ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ آدَمَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فَإِنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَهَبَ مُغَاضِبًا وَقَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } فَفَعَلَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِحَالِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يُطَاعُ الْهَوَى فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُضْعِفُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَدِمَ عَلَى ارْتِفَاعِ الْعَذَابِ عَنْ قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ أَظَلَّهُمْ وَخَافَ أَنْ يَنْسُبُوهُ إلَى الْكَذِبِ فَغَاضَبَ . وَفَعَلَ مَا اقْتَضَى الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْ يُقَالَ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ سَوَاءٌ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ هَوَى النَّفْسِ أَوْ طَاعَةِ الْخَلْقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ : { سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } . وَالْعَبْدُ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِيمَا يَظُنُّهُ وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ وَفِيمَا يُرِيدُهُ وَهُوَ غَيْرُ حَسَنٍ .
وَأَمَّا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ اعْتَرَفَ أَوَّلًا بِذَنْبِهِ فَقَالَ : { ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ آدَمَ مَنْ يُنَازِعُهُ الْإِرَادَةَ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا يُزَاحِمُ الْإِلَهِيَّةَ بَلْ ظَنَّ صِدْقَ الشَّيْطَانِ الَّذِي { وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } فَالشَّيْطَانُ غَرَّهُمَا وَأَظْهَرَ نُصْحَهُمَا فَكَانَا فِي قَبُولِ غُرُورِهِ وَمَا أَظْهَرَ مِنْ نُصْحِهِ حَالَهُمَا مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِمَا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } لِمَا حَصَلَ مِنْ التَّفْرِيطِ لَا لِأَجْلِ هَوًى وَحَظٍّ يُزَاحِمُ الْإِلَهِيَّةَ وَكَانَا مُحْتَاجَيْنِ إلَى أَنْ يَرُبَّهُمَا رُبُوبِيَّةً تُكْمِلُ عِلْمَهُمَا وَقَصْدَهُمَا . حَتَّى لَا يَغْتَرَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهُمَا يَشْهَدَانِ حَاجَتَهُمَا إلَى اللَّهِ رَبِّهِمَا الَّذِي لَا يَقْضِي حَاجَتَهُمَا غَيْرُهُ . وَذُو النُّونِ شَهِدَ مَا حَصَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْإِلَهِيَّةِ بِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُغَاضَبَةِ وَكَرَاهَةِ إنْجَاءِ أُولَئِكَ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفِعْلِ لِحُبِّ شَيْءٍ آخَرَ مَا يُوجِبُ تَجْرِيدَ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَتَأَلُّهِهِ لَهُ وَأَنْ يَقُولَ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } فَإِنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ يَمْحُو أَنْ يَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ . وَقَدْ رُوِيَ { مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ إلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ } فَكَمَّلَ يُونُسُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَحْقِيقَ إلَهِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحْوَ الْهَوَى الَّذِي يُتَّخَذُ إلَهًا مِنْ دُونِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عِنْدَ تَحْقِيقِ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ إرَادَةٌ تُزَاحِمُ إلَهِيَّةَ الْحَقِّ بَلْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ الدِّينَ إذْ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ . و ( أَيْضًا ) فَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ تَعْرِضُ لِمَنْ تَعْرِضُ لَهُ فَيَبْقَى فِيهِ
نَوْعُ مُغَاضَبَةٍ لِلْقَدَرِ وَمُعَارَضَةٍ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَوَسَاوِسَ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فَيَحْتَاجُ الْعَبْدُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ شَيْئَيْنِ : الْآرَاءَ الْفَاسِدَةَ وَالْأَهْوَاءَ الْفَاسِدَةَ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ وَالْعَدْلَ فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ لَا فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُ الْعَبْدِ وَحِكْمَتُهُ وَيَكُونُ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ هَوًى يُخَالِفُ ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي . قَالَ : الْآنَ يَا عُمَرُ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَحْصُلُ حَتَّى يُحَكِّمَ الْعَبْدُ رَسُولَهُ وَيُسَلِّمَ لَهُ وَيَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى حُبّ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَأَهْلَهُ فَكَيْفَ فِي تَحْكِيمِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَالتَّسْلِيمِ لَهُ
فَمَنْ
رَأَى قَوْمًا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ فِي ظَنِّهِ . وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ
لَهُمْ وَرَحِمَهُمْ وَكَرِهَ هُوَ ذَلِكَ فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ
إرَادَةٍ تُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَإِمَّا عَنْ ظَنٍّ يُخَالِفُ عِلْمَ اللَّهِ
وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ
لَمْ يَبْقَ لِكَرَاهِيَةِ مَا فَعَلَهُ وَجْهٌ وَهَذَا يَكُونُ فِيمَا أَمَرَ
بِهِ وَفِيمَا خَلَّفَ وَلَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْرَهَهُ وَنَغْضَبَ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا مَا أَمَرَنَا بِكَرَاهَتِهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ : كَالْكُفْرِ
وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ فِي أَمْرِهِ بِخِلَافِ
تَوْبَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَإِنْجَائِهِ إيَّاهُمْ مِنْ الْعَذَابِ فَإِنَّ
هَذَا مِنْ مَفْعُولَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْرَهَهَا بَلْ هِيَ
مِمَّا يُحِبُّهَا فَإِنَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
. فَكَرَاهَةُ هَذَا مِنْ نَوْعِ اتِّبَاعِ الْإِرَادَةِ الْمُزَاحِمَةِ
لِلْإِلَهِيَّةِ . فَعَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يُحَقِّقَ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ
فَيَقُولَ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ . فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ مَا يُحِبُّ
وَنَرْضَى مَا يَرْضَى وَنَأْمُرَ بِمَا يَأْمُرُ وَنَنْهَى عَمَّا يَنْهَى .
فَإِذَا كَانَ ( يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )
فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُمْ ؛ وَلَا نَأْلَهُ مُرَادَاتِنَا الْمُخَالِفَةَ
لمحابه .
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى " أَصْلٍ " : وَهُوَ
أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا
يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَفِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ
بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أُوتُوهُ كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَقَالَ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وَقَالَ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } . بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ كَمَا عُصِمَ الْأَنْبِيَاءُ وَلَوْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ وَلِهَذَا مَنْ سَبَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قُتِلَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَمَنْ سَبَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُقْتَلْ . وَهَذِهِ الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ ؛ فَإِنَّ " النَّبِيَّ " هُوَ المنبأ عَنْ اللَّهِ و " الرَّسُولُ " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا وَالْعِصْمَةُ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْ اللَّهِ ثَابِتَةٌ فَلَا يَسْتَقِرُّ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَلَكِنْ هَلْ يَصْدُرُ مَا يَسْتَدْرِكُهُ اللَّهُ فَيَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ . وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ بِذَلِكَ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ طَعَنُوا فِيمَا يُنْقَلُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِقَوْلِهِ : تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى وَقَالُوا : إنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ ثَبَتَ : قَالَ هَذَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي مَسَامِعِهِمْ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ السُّؤَالَ وَارِدٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا . وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ : { إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ . وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَّرُوا مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ فَقَالُوا هَذَا مَنْقُولٌ نَقْلًا ثَابِتًا لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَقَالُوا الْآثَارُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ فَإِنَّ نَسْخَ اللَّهِ لِمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَإِحْكَامَهُ آيَاتِهِ إنَّمَا يَكُونُ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ فِي آيَاتِهِ وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ حَتَّى لَا تَخْتَلِطَ آيَاتُهُ
بِغَيْرِهَا . وَجَعْلُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ لَا بَاطِنًا فِي النَّفْسِ وَالْفِتْنَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ النَّسْخِ مِنْ جِنْسِ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ النَّسْخِ . وَهَذَا النَّوْعُ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُعْدِهِ عَنْ الْهَوَى مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَأْمُرُ بِأَمْرِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِخِلَافِهِ وَكِلَاهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ فَإِذَا قَالَ عَنْ نَفْسِهِ إنَّ الثَّانِيَ هُوَ الَّذِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَإِنَّ ذَلِكَ الْمَرْفُوعَ الَّذِي نَسَخَهُ اللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ أَدَلَّ عَلَى اعْتِمَادِهِ لِلصِّدْقِ وَقَوْلِهِ الْحَقَّ وَهَذَا كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَاتِمًا شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يُعَظِّمُ نَفْسَهُ بِالْبَاطِلِ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ كُلَّ مَا قَالَهُ وَلَوْ كَانَ خَطَأً فَبَيَانُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَحْكَمَ آيَاتِهِ وَنَسَخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ هُوَ أَدَلُّ عَلَى تَحَرِّيهِ لِلصِّدْقِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ الْكَذِبِ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالرِّسَالَةِ فَإِنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا وَلِهَذَا كَانَ تَكْذِيبُهُ كُفْرًا مَحْضًا بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا الْعِصْمَةُ فِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَلِلنَّاسِ فِيهِ نِزَاعٌ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ ؟ وَمُتَنَازِعُونَ فِي الْعِصْمَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَوْ مِنْ
بَعْضِهَا أَمْ هَلْ الْعِصْمَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهَا لَا فِي فِعْلِهَا ؟ أَمْ لَا يَجِبُ الْقَوْلُ بِالْعِصْمَةِ إلَّا فِي التَّبْلِيغِ فَقَطْ ؟ وَهَلْ تَجِبُ الْعِصْمَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ أَمْ لَا ؟ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ السَّلَفِ إثْبَاتُ الْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ مُطْلَقًا وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا وَحُجَجُ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ إذَا حُرِّرَتْ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَحُجَجُ الْنُّفَاةِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ ذَنْبٍ أَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ احْتَجُّوا بِأَنَّ التَّأَسِّي بِهِمْ مَشْرُوعٌ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ تَجْوِيزِ كَوْنِ الْأَفْعَالِ ذُنُوبًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّأَسِّي بِهِمْ إنَّمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِيمَا أُقِرُّوا عَلَيْهِ دُونَ مَا نُهُوا عَنْهُ وَرَجَعُوا عَنْهُ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ فَأَمَّا مَا نُسِخَ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ وَالطَّاعَةِ فِيهِ . وَكَذَلِكَ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ أَنَّ الذُّنُوبَ تُنَافِي الْكَمَالَ أَوْ أَنَّهَا مِمَّنْ عَظُمَتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ أَقْبَحُ . أَوْ أَنَّهَا تُوجِبُ التَّنْفِيرَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ وَإِلَّا فَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللَّهُ يَرْفَعُ بِهَا صَاحِبَهَا إلَى أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ : كَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ وَقَالَ آخَرُ : لَوْ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ لَمَا ابْتَلَى بِالذَّنْبِ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ حَدِيثُ التَّوْبَةِ { لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا } إلَخْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ { الَّذِي يَعْرِضُ اللَّهُ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَيُخَبِّئُ عَنْهُ كِبَارَهَا وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا أَنْ تَظْهَرَ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : إنِّي قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ وَأَبْدَلْتُكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ إنَّ لِي سَيِّئَاتٍ لَمْ أَرَهَا } إذَا رَأَى تَبْدِيلَ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ طَلَبَ رُؤْيَةَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ الَّتِي كَانَ مُشْفِقًا مِنْهَا أَنْ تَظْهَرَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَهُ هَذِهِ مَعَ هَذَا التَّبْدِيلِ أَعْظَمُ مِنْ حَالِهِ لَوْ لَمْ تَقَعْ السَّيِّئَاتُ وَلَا التَّبْدِيلُ . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيُعْجَبُ بِهَا وَيَفْتَخِرُ بِهَا حَتَّى تُدْخِلَهُ النَّارَ وَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَلَا يَزَالُ خَوْفُهُ مِنْهَا وَتَوْبَتُهُ مِنْهَا حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فَغَايَةُ كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْكُتُبِ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ مَا يَتَعَذَّرُ إحْصَاؤُهُ . وَالرَّادُّونَ لِذَلِكَ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِمِثْلِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَالدَّهْرِيَّةِ لِنُصُوصِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " وَنُصُوصِ " الْقَدَرِ " وَنُصُوصِ " الْمَعَادِ " وَهِيَ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَأَنَّهَا مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقْصِدُ أَحَدُهُمْ تَعْظِيمَ الْأَنْبِيَاءِ فَيَقَعُ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَيُرِيدُ الْإِيمَانَ بِهِمْ فَيَقَعُ فِي الْكُفْرِ بِهِمْ . ثُمَّ إنَّ الْعِصْمَةَ الْمَعْلُومَةَ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْإِجْمَاعِ وَهِيَ " الْعِصْمَةُ فِي التَّبْلِيغِ " لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا إذْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِمُوجِبِ مَا بَلَّغَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَإِنَّمَا يُقِرُّونَ بِلَفْظِ حَرَّفُوا مَعْنَاهُ أَوْ كَانُوا فِيهِ كَالْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَالْعِصْمَةُ الَّتِي كَانُوا ادَّعَوْهَا لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَيْهَا عِنْدَهُمْ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِغَيْرِهِمْ لَا بِمَا أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ فَيَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ فِيهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ مِنْ اللَّهِ وَيَدَعُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَاعَتِهِمْ وَهُوَ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَةُ وَبِضِدِّهِ تَحْصُلُ الشَّقَاوَةُ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } الْآيَةُ .
وَاَللَّهُ
تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ إلَّا مَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَقَوْلِ آدَمَ
وَزَوْجَتِهِ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَوْلِ نُوحٍ : { رَبِّ إنِّي
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي
وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَوْلِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ
يَقُومُ الْحِسَابُ } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي
خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } وَقَوْلِ مُوسَى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ
لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ } وَقَوْلِهِ : {
رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا أَفَاقَ
قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } وقَوْله
تَعَالَى عَنْ دَاوُد : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } {
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ }
وقَوْله تَعَالَى عَنْ سُلَيْمَانَ : { اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }.
وَأَمَّا يُوسُفُ الصِّدِّيقُ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ عَنْهُ ذَنْبًا فَلِهَذَا
لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ عَنْهُ مَا يُنَاسِبُ الذَّنْبَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ بَلْ
قَالَ { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاءَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ سُوءٌ وَلَا
فَحْشَاءُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا
أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }
فَالْهَمُّ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ " نَوْعَانِ " كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد الْهَمُّ هَمَّانِ : هَمُّ خَطَرَاتٍ وَهَمُّ إصْرَارٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الْعَبْدَ إذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَإِذَا تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً } وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْرُكَهَا لِلَّهِ لَمْ تُكْتَبْ لَهُ حَسَنَةً وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ وَلِذَلِكَ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ لِإِخْلَاصِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَامَ الْمُقْتَضِي لِلذَّنْبِ وَهُوَ الْهَمُّ وَعَارَضَهُ الْإِخْلَاصُ الْمُوجِبُ لِانْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الذَّنْبِ لِلَّهِ . فَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إلَّا حَسَنَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا ؟ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } وَأَمَّا مَا يُنْقَلُ : مِنْ أَنَّهُ حَلَّ سَرَاوِيلَهُ وَجَلَسَ مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَأَنَّهُ رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى يَدِهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ فَكُلُّهُ مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَذِبًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْحًا فِيهِمْ وَكُلُّ مَنْ نَقَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعَنْهُمْ نَقَلَهُ ؛ لَمْ يَنْقُلْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا وَاحِدًا .
وَقَوْلُهُ : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } فَمِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ كَمَا يَدُلُّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ دِلَالَةً بَيِّنَةً لَا يَرْتَابُ فِيهَا مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَيُوسُفُ إذْ ذَاكَ فِي السِّجْنِ لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ إلَى الْمَلِكِ وَلَا سَمِعَ كَلَامَهُ وَلَا رَآهُ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ فِي غَيْبَتِهِ - كَمَا قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } أَيْ لَمْ أَخُنْهُ فِي حَالِ مَغِيبِهِ عَنِّي وَإِنْ كُنْتُ فِي حَالِ شُهُودِهِ رَاوَدْتُهُ - فَحِينَئِذٍ : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى نَقْيضِهِ وَقَدْ
بُسِطَ
الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
و ( الْمَقْصُودُ ) هُنَا أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ " قِصَّةُ ذِي النُّونِ
" مِمَّا يُلَامُ عَلَيْهِ كُلُّهُ مَغْفُورٌ بَدَّلَهُ اللَّهُ بِهِ
حَسَنَاتٍ ؛ وَرَفَعَ دَرَجَاتِهِ وَكَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ
وَتَوْبَتِهِ أَعْظَمَ دَرَجَةً مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مَا وَقَعَ قَالَ
تَعَالَى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إذْ
نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } { لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ
لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } { فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ } وَهَذَا بِخِلَافِ حَالِ الْتِقَامِ الْحُوتِ فَإِنَّهُ قَالَ : {
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ
مُلِيمٌ و " الْمُلِيمُ " الَّذِي فَعَلَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ
فَالْمَلَامُ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَا فِي حَالِ نَبْذِهِ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ
سَقِيمٌ فَكَانَتْ حَالُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ
سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } أَرْفَعَ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ
يَكُونَ مَا كَانَ وَالِاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِمَا جَرَى فِي
الْبِدَايَةِ وَالْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ
الْإِنْسَانَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا ثُمَّ
عَلَّمَهُ فَنَقَلَهُ مِنْ حَالِ النَّقْصِ إلَى حَالِ الْكَمَالِ فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُ الْإِنْسَانِ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ حَالِ الْكَمَالِ
بَلْ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ كَمَالِهِ وَيُونُسُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي حَالِ النِّهَايَةِ حَالُهُمْ
أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ .
وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُمْ اعْتَبَرُوا كَمَالَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ بِدَايَةِ الصَّالِحِينَ وَنَقْصِهِمْ فَغَلِطُوا وَلَوْ اعْتَبَرُوا حَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ دُخُولِ الْجِنَانِ وَرِضَا الرَّحْمَنِ وَزَوَالِ كُلِّ مَا فِيهِ نَقْصٌ وَمَلَامٌ وَحُصُولِ كُلِّ مَا فِيهِ رَحْمَةٌ وَسَلَامٌ حَتَّى اسْتَقَرَّ بِهِمْ الْقَرَارُ { وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ } { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْحَالُ ظَهَرَ فَضْلُهَا عَلَى حَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَّا فَهَلْ يَجُوزُ لِعَاقِلِ أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ أَحَدِهِمْ قَبْلَ الْكَمَالِ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَالتَّفْضِيلِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ . وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ لَاعْتُبِرَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ نُطْفَةٌ ثُمَّ عَلَقَةٌ ثُمَّ مُضْغَةٌ ثُمَّ حِينَ نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ ثُمَّ هُوَ وَلِيدٌ ثُمَّ رَضِيعٌ ثُمَّ فَطِيمٌ إلَى أَحْوَالٍ أُخَرَ فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاحِدَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ تَقُمْ بِهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا كَمَالَ الْمَدْحِ وَالتَّفْضِيلِ وَتَفْضِيلَهُ بِهَا عَلَى كُلِّ صِنْفٍ وَجِيلٍ ؛ وَإِنَّمَا فَضْلُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ عِنْدَ حُصُولِ الْكَمَالِ . وَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكْفُرْ قَطُّ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ لَيْسَ بِصَوَابِ ؛ بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْعَاقِبَةِ وَأَيُّهُمَا كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ فِي عَاقِبَتِهِ كَانَ أَفْضَلَ . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ كُفْرِهِمْ هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِ أَوْلَادِهِمْ ؛ بَلْ مَنْ عَرَفَ الشَّرَّ وَذَاقَهُ ثُمَّ عَرَفَ الْخَيْرَ وَذَاقَهُ
فَقَدْ تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَيْرِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِالشَّرِّ وَبُغْضُهُ لَهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيَذُقْهُمَا كَمَا ذَاقَهُمَا ؛ بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا الْخَيْرَ فَقَدْ يَأْتِيهِ الشَّرُّ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ شَرٌّ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يُنْكِرَهُ كَمَا أَنْكَرَهُ الَّذِي عَرَفَهُ . وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ . وَهُوَ كَمَا قَالَ عُمَرُ ؛ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِسْلَامِ هُوَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ نَشَأَ فِي الْمَعْرُوفِ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ فَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِالْمُنْكَرِ وَضَرَرِهِ مَا عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْجِهَادِ لِأَهْلِهِ مَا عِنْدَ الْخَبِيرِ بِهِمْ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الْخَبِيرُ بِالشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ إذَا كَانَ حَسَنَ الْقَصْدِ عِنْدَهُ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَمَنْعِ أَهْلِهِ وَالْجِهَادِ لَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَعْظَمَ إيمَانًا وَجِهَادًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَكَمَالِ مَحَبَّتِهِمْ لِلْخَيْرِ وَبُغْضِهِمْ لِلشَّرِّ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَقُبْحِ حَالِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ ذَاقَ الْفَقْرَ وَالْمَرَضَ وَالْخَوْفَ أَحْرَصَ عَلَى الْغِنَى وَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ مِمَّنْ لَمْ يَذُقْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا يُقَالُ : وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ .
وَيُقَالُ : وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَسْتُ بِخِبِّ وَلَا يَخْدَعُنِي الْخِبُّ . فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ الْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ الْخَيْرَ لَا الشَّرَّ وَكَمَالُ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ فَذَاكَ نَقْصٌ فِيهِ لَا يُمْدَحُ بِهِ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَكُونُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَأَكْرَهُ لَهُ مِمَّنْ لَمْ يَذُقْهُ مُطْلَقًا ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الطَّبِيبُ أَعْلَمَ بِالْأَمْرَاضِ مِنْ الْمَرْضَى وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطِبَّاءُ الْأَدْيَانِ فَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُصْلِحُ الْقُلُوبَ وَيُفْسِدُهَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَذُقْ مِنْ الشَّرِّ مَا ذَاقَهُ النَّاسُ . وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ بِذَوْقِهِ الشَّرَّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَالنُّفُورِ عَنْهُ وَالْمَحَبَّةِ لِلْخَيْرِ إذَا ذَاقَهُ مَا لَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِثْلُ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَقَدْ عَرَفَ مَا فِي الْكُفْرِ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ ثُمَّ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَعَرَّفَهُ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَرْغَبَ فِيهِ وَأَكْرَهَ لِلْكُفْرِ مِنْ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ ؛ بَلْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْ بَعْضِ حَقِيقَةِ هَذَا وَحَقِيقَةِ هَذَا أَوْ مُقَلِّدٌ فِي مَدْحِ هَذَا وَذَمِّ هَذَا .
وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْجُوعِ ثُمَّ ذَاقَ طَعْمَ الشِّبَعِ بَعْدَهُ أَوْ ذَاقَ الْمَرَضَ ثُمَّ ذَاقَ طَعْمَ الْعَافِيَةِ بَعْدَهُ أَوْ ذَاقَ الْخَوْفَ ثُمَّ ذَاقَ الْأَمْنَ بَعْدَهُ فَإِنَّ مَحَبَّةَ هَذَا وَرَغْبَتَهُ فِي الْعَافِيَةِ وَالْأَمْنِ وَالشِّبَعِ وَنُفُورَهُ عَنْ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وَالْمَرَضِ أَعْظَمُ مِمَّنْ لَمْ يُبْتَلَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحَقَّ وَتَابَ عَلَيْهِ تَوْبَةً نَصُوحًا وَرَزَقَهُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ لِحَالِهِمْ وَهَجْرِهِ لمساويهم ؛ وَجِهَادُهُ لَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخزاعي - وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى الْجَهْمِيَّة - أَنَا شَدِيدٌ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنِّي كُنْتُ مِنْهُمْ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَهَاجَرُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَجَاهَدُوا وَصَبَرُوا . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمَّا أَسْلَمَا تَقَدَّمَا عَلَى مَنْ سَبَقَهُمَا إلَى الْإِسْلَامِ ؛ وَكَانَ بَعْضُ مَنْ سَبَقَهُمَا دُونَهُمَا فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمَا مِنْ كَمَالِ الْجِهَادِ لِلْكُفَّارِ وَالنَّصْرِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَكَانَ عُمَرُ لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ إيمَانًا وَإِخْلَاصًا وَصِدْقًا وَمَعْرِفَةً وَفِرَاسَةً وَنُورًا أَبْعَدَ عَنْ هَوَى النَّفْسِ وَأَعْلَى هِمَّةً
فِي إقَامَةِ دِينِ اللَّهِ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِنَقْصِ الْبِدَايَةِ . وَمَا يُذْكَرُ فِي الإسرائيليات : { أَنَّ اللَّهَ قَالَ لدَاوُد : أَمَّا الذَّنْبُ فَقَدْ غَفَرْنَاهُ ؛ وَأَمَّا الْوُدُّ فَلَا يَعُودُ } فَهَذَا لَوْ عَرَفْتَ صِحَّتَهُ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا لَنَا وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْنِيَ دِينَنَا عَلَى هَذَا ؛ فَإِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْبَةِ جَاءَ بِمَا لَمْ يَجِئْ بِهِ شَرْعٌ مِنْ قَبْلِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ؛ { أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ؛ وَأَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ } وَقَدْ رُفِعَ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ مَا كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ التَّائِبِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ الْفَاقِدِ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَرْكَبِ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْيَأْسِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فَرَحُ الرَّبِّ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ وَتِلْكَ مَحَبَّتُهُ ؛ كَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يَعُودُ لِمَوَدَّتِهِ { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } وَلَكِنَّ وُدَّهُ وَحُبَّهُ بِحَسَبِ مَا يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ الْعَبْدُ بَعْدَ التَّوْبَةِ ؛ فَإِنْ كَانَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ مَوَدَّتُهُ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ . وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ
كَانَ الْأَمْرُ أَنْقَصَ ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ؛ وَمَا رَبُّك بِظَلَّامِ لِلْعَبِيدِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ ؛ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا : فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ؛ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؛ وَكَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ وَمَوَدَّتُهُ لَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ أَعْظَمَ مَحَبَّةٍ وَمَوَدَّةٍ ، وَكُلَّمَا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِثْلَ " أَهْلِ الْأَحْزَابِ " كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّهُمْ بَعْدَ مُعَادَاتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُتَفَاضِلِينَ وَكَانَ عِكْرِمَةُ وَسُهَيْلٌ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أَعْظَمَ مَوَدَّةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ مُعَاوِيَةَ قَالَتْ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يذلوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك وَقَدْ أَصْبَحْت وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعَزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا نَحْوَ ذَلِكَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْمَوَدَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا تَكُونُ تَابِعَةً لِحُبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ . فَالْحُبُّ لِلَّهِ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ ؛ وَالْحُبُّ مَعَ اللَّهِ شِرْكٌ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَتِلْكَ الْمَوَدَّةُ الَّتِي صَارَتْ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَوْهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا كَانَتْ مَوَدَّةً لِلَّهِ وَمَحَبَّةً لِلَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ وَدَّ اللَّهَ وَدَّهُ اللَّهُ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَمَا أَحَبُّوهُ وَوَدُّوهُ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ التَّائِبَ إنَّمَا تَحْصُلُ لَهُ الْمَغْفِرَةُ دُونَ الْمَوَدَّةِ . وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أُولَئِكَ كَانُوا كُفَّارًا لَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مُحَرَّمٌ ؛ بَلْ كَانُوا جُهَّالًا بِخِلَافِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ مُحَرَّمٌ وَأَتَاهُ .
قِيلَ
: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ
الْكُفَّارِ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُعَادُونَهُ حَسَدًا
وَكِبْرًا وَأَبُو سُفْيَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَخْبَارِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُ كَمَا سَمِعَ مِنْ
أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَمَا سَمِعَهُ مِنْ هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ
وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُوقِنًا أَنَّ أَمْرَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ
عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ وَقَدْ سُمِعَ مِنْهُ عَامَ
الْيَرْمُوكِ وَغَيْرَهُ مَا دَلَّ عَلَى حُسْنِ إسْلَامِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ بَعْدَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ الْعَظِيمَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
يَلْقَ أَثَامًا } { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ
فِيهِ مُهَانًا } { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا
فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } فَإِذَا كَانَ اللَّهُ
يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ فَالْحَسَنَاتُ تُوجِبُ مَوَدَّةَ اللَّهِ
لَهُمْ ، وَتَبْدِيلُ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ
كَافِرًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ
يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } قَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا لِي : كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ
جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ تَائِبٍ وَتَائِبٍ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّائِبِينَ فَرْقٌ لَا أَصْلَ لَهُ ؛ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ سَوَاءٌ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ مَا أَتَوْهُ ذَنْبًا أَوْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَتَاهُ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَدِّلَ وَصْفَهُ الْمَذْمُومَ بِالْمَحْمُودِ ؛ فَإِذَا كَانَ يُبْغِضُ الْحَقَّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّهُ وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الْبَاطِلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَهُ . فَمَا يَأْتِي بِهِ التَّائِبُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَحَبَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَمِنْ بُغْضِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهَا ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ كَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ محابه فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ فِعْلًا لِمَحْبُوبِ الْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ أَعْظَمَ مَحَبَّةً لَهُ وَانْتِقَالُهُ مِنْ مَكْرُوهِ الْحَقِّ إلَى مَحْبُوبِهِ مَعَ قُوَّةِ بُغْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَاطِلِ وَقُوَّةِ حُبّ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حُبّ الْحَقِّ ؛ فَوَجَبَ زِيَادَةُ مَحَبَّةِ الْحَقِّ لَهُ وَمَوَدَّتِهِ إيَّاهُ ؛ بَلْ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ لِأَنَّهُ بَدَّلَ صِفَاتِهِ الْمَذْمُومَةَ بِالْمَحْمُودَةِ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ . فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ إتْيَانُ التَّائِبِ بِمَا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَعْظَمَ مِنْ إتْيَانِ غَيْرِهِ كَانَتْ مَحَبَّةُ الْحَقِّ لَهُ أَعْظَمَ وَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَوَدُّهُ اللَّهُ مِنْهُ أَعْظَمَ مِنْ فِعْلِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ كَانَتْ
مَوَدَّةُ اللَّهِ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ : الْوُدُّ لَا يَعُودُ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ جَوَابُ شُبْهَةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مَعْصُومًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَوَهَّمُوا أَنَّ الذُّنُوبَ تَكُونُ نَقْصًا وَإِنْ تَابَ التَّائِبُ مِنْهَا وَهَذَا مَنْشَأُ غَلَطِهِمْ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ صَاحِبَ الذُّنُوبِ مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ يَكُونُ نَاقِصًا فَهُوَ غالط غَلَطًا عَظِيمًا فَإِنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الَّذِي يَلْحَقُ أَهْلَ الذُّنُوبِ لَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا ؛ لَكِنْ إنْ قَدَّمَ التَّوْبَةَ لَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ وَإِنْ أَخَّرَ التَّوْبَةَ فَقَدْ يَلْحَقُهُ مَا بَيْنَ الذُّنُوبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُ . وَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ كَانُوا لَا يُؤَخِّرُونَ التَّوْبَةَ ؛ بَلْ يُسَارِعُونَ إلَيْهَا وَيُسَابِقُونَ إلَيْهَا ؛ لَا يُؤَخِّرُونَ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى الذَّنْبِ بَلْ هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ أَخَّرَ ذَلِكَ زَمَنًا قَلِيلًا كَفَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ بِمَا يَبْتَلِيهِ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِذِي النُّونِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ إلْقَاءَهُ كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ؛ وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ إلْقَاءَهُ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا .
وَالتَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ فِي الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ ؛ وَإِذَا كَانَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ فَالْأَفْضَلُ أَحَقُّ بِالنُّبُوَّةِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْفَضِيلَةِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ بِمَا أَخْبَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَهُمْ الْأَسْبَاطُ الَّذِينَ نَبَّأَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي } . فَآمَنَ لُوطٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْمِ لُوطٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } { وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } . وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ وَهَذَا الْكَمَالُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ التَّوْبَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَوْبَةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمَا إلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآخِرُ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ - أَوْ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ - قَوْلُهُ تَعَالَى : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ . وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْأَغَرِّ المزني عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ يَقُولُ : " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ " مِائَةَ مَرَّةٍ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي . أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ نَحْوَ هَذَا إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ : { اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَعَمِلْت سُوءًا فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ } .
وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَلِيٍّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا وَأَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } { وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } ثُمَّ كَبَّرَهُ وَحَمِدَهُ ثُمَّ قَالَ : سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ثُمَّ ضَحِكَ وَقَالَ : إنَّ الرَّبَّ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ اغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، يَقُولُ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنَا } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَالَ : { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ { أَنَّ الْمَسِيحَ يَقُولُ : اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ } . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ فَيُقَالُ لَهُ : أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا } . وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرَةٌ . لَكِنْ الْمُنَازِعُونَ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ النُّصُوصَ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَالْبَاطِنِيَّةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ . وَتَأْوِيلَاتُهُمْ تُبَيِّنُ لِمَنْ
تَدَبَّرَهَا
أَنَّهَا فَاسِدَةٌ مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ .
كَتَأْوِيلِهِمْ قَوْلَهُ { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
وَمَا تَأَخَّرَ } الْمُتَقَدِّمُ ذَنْبُ آدَمَ وَالْمُتَأَخِّرُ ذَنْبُ أُمَّتِهِ
وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ : ( أَحَدُهَا )
أَنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ
فَضْلًا عَنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ
السُّورَةَ قَالَ تَعَالَى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } { ثُمَّ
اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } وَقَالَ : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَقَدْ
ذُكِرَ أَنَّهُ قَالَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .
وَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : فَآدَمُ عِنْدَكُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَوَارِدِ
النِّزَاعِ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ذَنْبُهُ عِنْدَ الْمُنَازِعِ
فَإِنَّهُ نَبِيٌّ أَيْضًا ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبٌ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ آدَمَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ الذَّنْبَ ذَنْبًا لِمَنْ لَمْ
يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
} . فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُضَافَ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَنْبُ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أُمَّتِهِ أَوْ
غَيْرِهِمَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ
وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ } وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ
أَنْ
يُضَافَ إلَى مُحَمَّدٍ ذُنُوبُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ وَيُقَالُ : إنَّ
قَوْلَهُ { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
} الْمُرَادُ ذُنُوبُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ قَبْلَك فَإِنَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَشْفَعُ لِلْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ
وَقَالَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ
تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ . أَنَا خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا
وَفَدُوا وَإِمَامُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا } وَحِينَئِذٍ فَلَا يَخْتَصُّ آدَمَ
بِإِضَافَةِ ذَنْبِهِ إلَى مُحَمَّدٍ بَلْ تُجْعَلُ ذُنُوبُ الْأَوَّلِينَ
والآخرين عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ ذُنُوبًا لَهُ . فَإِنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ
لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ الْأُمَمِ قِيلَ : وَهُوَ أَيْضًا لَمْ يَغْفِرْ
ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ بَيْنَ ذَنْبِهِ وَذُنُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَكَيْفَ يَكُونُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِينَ ذَنْبًا لَهُ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الصَّحَابَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَك فَمَا لَنَا
فَأَنْزَلَ اللَّهُ { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ { لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَ
أُمَّتِهِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ
بَلْ قَدْ ثَبَتَ
أَنَّ
مِنْ أُمَّتِهِ مَنْ يُعَاقَبُ بِذُنُوبِهِ إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي
الْآخِرَةِ وَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ وَأَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ
الْمَصْدُوقُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَشُوهِدَ فِي
الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ قَدْ يَكُونَانِ
مِنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ . فَمَنْ نُقِلَ إلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ
عَلَيْهِ قَدْ يَتُوبُ مِنْ الْحَالِ الْأَوَّلِ ؛ لَكِنَّ الذَّمَّ وَالْوَعِيدَ
لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ .
فَصْل :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِهِ
مَعَ التَّوْحِيدِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِهَا وَكَشْفِ الْكُرْبَةِ الصَّادِرَةِ
عَنْهَا ؛ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ؟ فَجَوَابُهُ : أَنَّ الْمُوجِبَ
لِلْغُفْرَانِ مَعَ التَّوْحِيدِ هُوَ التَّوْبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا ؛ فَإِنَّ
الشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا بِتَوْبَةِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ } فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَعَ
التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ ؛ وَبِدُونِ التَّوْبَةِ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَةِ . كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ وَلِهَذَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ وَحَتَّمَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَخَصَّ مَا دُونَ الشِّرْكِ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ ، فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِتَوْبَةِ ؛ وَأَمَّا مَا دُونَهُ فَيَغْفِرُهُ اللَّهُ لِلتَّائِبِ ؛ وَقَدْ يَغْفِرُهُ بِدُونِ التَّوْبَةِ لِمَنْ يَشَاءُ ، فَالِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ إنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلتَّوْبَةِ أَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ ؛ وَإِذَا غُفِرَ الذَّنْبُ زَالَتْ عُقُوبَتُهُ ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الْغَفْرُ السَّتْرُ وَيَقُولُ : إنَّمَا سُمِّيَ الْمَغْفِرَةَ وَالْغَفَّارَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّتْرِ ، وَتَفْسِيرُ اسْمِ اللَّهِ الْغَفَّارِ بِأَنَّهُ السَّتَّارُ وَهَذَا تَقْصِيرٌ فِي مَعْنَى الْغَفْرِ ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ مَعْنَاهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ بِحَيْثُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الذَّنْبِ فَمَنْ غُفِرَ ذَنْبُهُ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ . وَأَمَّا مُجَرَّدُ سَتْرِهِ فَقَدْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ عُوقِبَ عَلَى الذَّنْبِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ غُفْرَانُ الذَّنْبِ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالذَّنْبِ . وَأَمَّا إذَا اُبْتُلِيَ مَعَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ لِزِيَادَةِ أَجْرِهِ فَهَذَا لَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِحَسَنَاتِ يَفْعَلُهَا فَإِنَّ مَا يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ ؛ وَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ تَائِبٌ وَلَا يَكُونُ تَائِبًا بَلْ يَكُونُ تَارِكًا وَالتَّارِكُ غَيْرُ التَّائِبِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ الذَّنْبِ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ أَوْ الْمُقْتَضِي لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ تَنْتَفِي إرَادَتُهُ لَهُ بِسَبَبِ غَيْرِ دِينِيٍّ ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سَيِّئَةٌ وَيَكْرَهَ فِعْلَهُ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهُ وَيَدَعَهُ لِلَّهِ تَعَالَى ؛ لَا لِرَغْبَةِ مَخْلُوقٍ وَلَا لِرَهْبَةِ مَخْلُوقٍ ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ ؛ وَالْحَسَنَاتُ كُلُّهَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَمُوَافَقَةُ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ ؛ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا . وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي التَّوْبَةِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ عَنْهُ فَهَذَا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفَارِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ مَعَهُ وَهُوَ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ
اللَّهَ
تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ وَهَذَا
يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُقْطَعُ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ فَإِنَّهُ
دَاعٍ دَعْوَةً مُجَرَّدَةً . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو
بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا كَانَ بَيْنَ إحْدَى
ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ
مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلَهَا ؛ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ
مِثْلَهَا . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إذًا نُكْثِرُ قَالَ : اللَّهُ
أَكْثَرُ } فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ وَإِذَا
لَمْ تَحْصُلْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أَوْ حُصُولُ
خَيْرٍ آخَرَ فَهُوَ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ كُلُّ دُعَاءٍ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ
مِنْ الْعُلَمَاءِ : الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ ،
فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ أَوْ
يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَةٌ وَأَنَّهُ تَائِبٌ بِهَذَا
الِاسْتِغْفَارِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ لَا يَكُونُ تَائِبًا
فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ : الْإِصْرَارُ يُضَادُّ التَّوْبَةَ
لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارَ بِدُونِ التَّوْبَةِ .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ
دَفْعَ مَا حَصَلَ بِذُنُوبِ مُتَعَدِّدَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِ
جَمِيعِ الذُّنُوبِ ؟ فَجَوَابُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَأَبِي هَاشِمٍ إلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ قَبِيحٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْآخَرِ قَالُوا : لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى التَّوْبَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ تَوْبَةً صَحِيحَةً ، وَالْخَشْيَةُ مَانِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لَا مِنْ بَعْضِهَا وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد لِأَنَّ المروذي نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَابَ مِنْ الْفَاحِشَةِ وَقَالَ : لَوْ مَرِضْت لَمْ أَعُدْ لَكِنْ لَا يَدَعُ النَّظَرَ فَقَالَ أَحْمَد : أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ : اصْرِفْ بَصَرَك } وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَد وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ التَّوْبَةِ ، وَأَحْمَد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ تَوْبَةً عَامَّةً يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا مِنْ التَّائِبِينَ تَوْبَةٌ مُطْلَقًا لَمْ يُرِدْ أَنَّ ذَنْبَ هَذَا كَذَنْبِ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ فَإِنَّ نُصُوصَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ وَأَقْوَالَهُ الثَّابِتَةَ تُنَافِي ذَلِكَ وَحَمْلُ كَلَامِ الْإِمَامِ عَلَى مَا يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّنَاقُضِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مُبْتَدَعًا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ، وَأَحْمَد يَقُولُ :
إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ وَكَانَ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ : كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ ؟ وَاتِّبَاعُ أَحْمَد لِلسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَقُوَّةُ رَغْبَتِهِ فِي ذَلِكَ وَكَرَاهَتُهُ لِخِلَافِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُ حَالَهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْخَشْيَةَ تُوجِبُ الْعُمُومَ . فَجَوَابُهُ أَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ قُبْحَ أَحَدِ الذَّنْبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا يَتُوبُ مِمَّا يَعْلَمُ قُبْحَهُ . و ( أَيْضًا ) فَقَدْ يَعْلَمُ قُبْحَهَا وَلَكِنَّ هَوَاهُ يَغْلِبُهُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَتُوبُ مِنْ هَذَا دُونَ ذَاكَ كَمَنْ أَدَّى بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ دُونَ بَعْضٍ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ . وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُمْ أَصْلٌ فَاسِدٌ وَافَقُوا فِيهِ الْخَوَارِجَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الِاسْمِ فَقَالُوا : إنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَعِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِمَّنْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُثِيبُهُ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : بِحُبُوطِ جَمِيعِ الْحَسَنَاتِ بِالْكَبِيرَةِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَعَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ
مِنْ النَّارِ وَيُشْفَعُ فِيهِمْ وَأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُحْبَطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرُ كَمَا لَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ إذَا أَتَى بِحَسَنَاتِ يَبْتَغِي بِهَا رِضَا اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ عَلَى كَبِيرَتِهِ . وَكِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمِ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَبَيْنَ حُكْمِ الْكُفَّارِ فِي " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " . وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَعَلَى هَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } فَعَلَى قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَا تُقْبَلُ حَسَنَةٌ إلَّا مِمَّنْ اتَّقَاهُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً ، وَعِنْدَ الْمُرْجِئَةِ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِمَّنْ اتَّقَى الشِّرْكَ فَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ دَاخِلِينَ فِي اسْمِ " الْمُتَّقِينَ " ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فِيهِ فَعَمِلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ فَمَنْ اتَّقَاهُ فِي عَمَلٍ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا فِي غَيْرِهِ . وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِيهِ لَمْ يَتَقَبَّلْهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِهِ . وَالتَّوْبَةُ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ كَفِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ
بِهَا دُونَ بَعْضٍ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَتْرُوكُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْمَفْعُولِ كَالْإِيمَانِ الْمَشْرُوطِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . ( الْأَصْلُ الثَّانِي ) أَنَّ مَنْ لَهُ ذُنُوبٌ فَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ أَمَّا مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَهُوَ بَاقٍ فِيهِ عَلَى حُكْمِ مَنْ لَمْ يَتُبْ لَا عَلَى حُكْمِ مَنْ تَابَ وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا إلَّا فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فَإِنَّ إسْلَامَهُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِنْ الْكُفْرِ فَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ ، وَهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . مَعَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . ( وَالْقَوْلُ الثَّانِي ) أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَابَ مِنْهُ ؛
فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبَائِرَ دُونَ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالَ : مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ } فَقَدْ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تُرْفَعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي فُعِلَتْ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ عَمَّنْ أَحْسَنَ لَا عَمَّنْ لَا يُحْسِنُ ؛ وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَلَمْ يُحْسِنْ . وقَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ : إنْ انْتَهَيْتَ غَفَرْت لَك مَا تَقَدَّمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَنَّك إنْ انْتَهَيْت عَنْ هَذَا الْأَمْرِ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ وَإِذَا انْتَهَيْت عَنْ شَيْءٍ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ كَمَا يُفْهَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { إنْ تُبْت } لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّك بِالِانْتِهَاءِ عَنْ ذَنْبٍ يُغْفَرُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ } وَفِي رِوَايَةٍ { يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ } فَهَذَا قَالَهُ لَمَّا أَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ العاص وَطَلَبَ
أَنْ
يُغْفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ فَقَالَ لَهُ : { يَا عَمْرُو أَمَا
عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ التَّوْبَةَ
تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا }
وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ ، لَا
تُوجِبُ التَّوْبَةُ غُفْرَانَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ .
الْأَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَحْضِرُ ذُنُوبًا فَيَتُوبُ
مِنْهَا وَقَدْ يَتُوبُ تَوْبَةً مُطْلَقَةً لَا يَسْتَحْضِرُ مَعَهَا ذُنُوبَهُ
لَكِنْ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ
مَا يَرَاهُ ذَنْبًا ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ تَتَضَمَّنُ عَزْمًا
عَامًّا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَكَذَلِكَ تَتَضَمَّنُ
نَدَمًا عَامًّا عَلَى كُلِّ مَحْظُورٍ . وَ " النَّدَمُ " سَوَاءٌ
قِيلَ : إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ أَوْ
قِيلَ : إنَّهُ مِنْ بَابِ الْآلَامِ الَّتِي تَلْحَقُ النَّفْسَ بِسَبَبِ فِعْلِ
مَا يَضُرُّهَا ؛ فَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْقَلْبُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا يَضُرُّهُ
حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ ،
وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ ، وَكَرَاهِيَةٌ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ ،
وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ ؛ وَحَصَلَ لَهُ أَذًى وَغَمٌّ لِمَا كَانَ
فَعَلَهُ ؛ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْآلَامِ كَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ كَمَا أَنَّ
الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ هُوَ مِنْ بَابِ اللَّذَّاتِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ
الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ
اتَّبَعَهُمْ : إنَّ اللَّذَّةَ هِيَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ
مِنْ
حَيْثُ هُوَ مُلَائِمٌ ، وَأَنَّ الْأَلَمَ هُوَ إدْرَاكُ الْمُنَافِرِ مِنْ
حَيْثُ هُوَ مُنَافِرٌ ، فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ اللَّذَّةَ
وَالْأَلَمَ حَالَانِ يَتَعَقَّبَانِ إدْرَاكَ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ ،
فَإِنَّ الْحُبَّ لِمَا يُلَائِمُهُ كَالطَّعَامِ الْمُشْتَهَى مَثَلًا لَهُ
ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) الْحُبُّ كَالشَّهْوَةِ لِلطَّعَامِ .
وَالثَّانِي : إدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ .
وَالثَّالِثُ : اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ مُغَايِرٌ
لِلشَّهْوَةِ وَلِذَوْقِ الْمُشْتَهِي ؛ بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِذَوْقِ
الْمُشْتَهِي ؛ لَيْسَتْ نَفْسَ ذَوْقِ الْمُشْتَهِي . وَكَذَلِكَ "
الْمَكْرُوهُ " كَالضَّرْبِ مَثَلًا . فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ شَيْءٌ
وَحُصُولَهُ شَيْءٌ آخَرُ وَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ بِهِ ثَالِثٌ . وَكَذَلِكَ مَا
لِلْعَارِفِينَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ بِذَلِكَ ؛
فَإِنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ شَيْءٌ ثُمَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ
شَيْءٌ ثُمَّ اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ
الْحُبَّ مَشْرُوطٌ بِشُعُورِ الْمَحْبُوبِ كَمَا أَنَّ الشَّهْوَةَ مَشْرُوطَةٌ
بِشُعُورِ الْمُشْتَهِي ؛ لَكِنَّ الشُّعُورَ الْمَشْرُوطَ فِي اللَّذَّةِ غَيْرُ
الشُّعُورِ الْمَشْرُوطِ فِي الْمَحَبَّةِ فَهَذَا الثَّانِي يُسَمَّى إدْرَاكًا
وَذَوْقًا وَنَيْلًا وَوَجْدًا وَوِصَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ
عَنْ إدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ ،
سَوَاءٌ كَانَ بِالْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ ثُمَّ هَذَا الذَّوْقُ يَسْتَلْزِمُ اللَّذَّةَ وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يُحِسُّهُ الْحَيُّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ لِمَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا ، وَأَنَّ وَجْدَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ حَاصِلٌ لِمَنْ كَانَ حُبُّهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِ لِغَيْرِهِمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ شَخْصًا لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ ضِدَّ الْإِيمَانِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ ؛ فَهَذَا الْحُبُّ لِلْإِيمَانِ وَالْكَرَاهِيَةُ لِلْكُفْرِ اسْتَلْزَمَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ كَمَا اسْتَلْزَمَ الرِّضَى الْمُتَقَدِّمَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا هُوَ اللَّذَّةُ ؛ وَلَيْسَ هُوَ نَفْسَ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ وَلَا نَفْسَ الْحُبِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ ؛ بَلْ هَذَا نَتِيجَةُ ذَاكَ وَثَمَرَتُهُ وَلَازِمٌ لَهُ وَهِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ فَلَا تُوجَدُ اللَّذَّةُ إلَّا بِحُبِّ وَذَوْقٍ وَإِلَّا فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَذُقْ مِنْهُ
شَيْئًا لَمْ يَجِدْ لَذَّةً كَاَلَّذِي يَشْتَهِي الطَّعَامَ وَلَمْ يَذُقْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَوْ ذَاقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لَمْ يَجِدْ لَذَّةً كَمَنْ ذَاقَ مَا لَا يُرِيدُهُ فَإِذَا اجْتَمَعَ حُبُّ الشَّيْءِ وَذَوْقُهُ حَصَلَتْ اللَّذَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَإِنْ حَصَلَ بُغْضُهُ وَذَوْقُ الْبَغِيضِ حَصَلَ الْأَلَمُ فَاَلَّذِي يُبْغِضُ الذَّنْبَ وَلَا يَفْعَلُهُ لَا يَنْدَمُ وَاَلَّذِي لَا يُبْغِضُهُ لَا يَنْدَمُ عَلَى فِعْلِهِ فَإِذَا فَعَلَهُ وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا مِمَّا يُبْغِضُهُ وَيَضُرُّهُ نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ إيَّاهُ . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا . فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أَعْيَانَ الذُّنُوبِ إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ؛ لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ لَيْسَ بِقَبِيحِ فَمَا كَانَ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّوْبَةِ وَأَمَّا مَا كَانَ لَوْ حَضَرَ بِعَيْنِهِ لَكَانَ مِمَّا يَتُوبُ مِنْهُ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ شَامِلَتُهُ . وَأَمَّا " التَّوْبَةُ الْمُطْلَقَةُ " : وَهِيَ أَنْ يَتُوبَ تَوْبَةً مُجْمَلَةً وَلَا تُسْتَلْزَمُ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَهَذِهِ لَا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَلَا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كَاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ ؛ لَكِنَّ هَذِهِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْمُعَيَّنِ . كَمَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْجَمِيعِ ؛ بِخِلَافِ
الْعَامَّةِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِلْغُفْرَانِ الْعَامِّ كَمَا تَنَاوَلَتْ الذُّنُوبَ تَنَاوُلًا عَامًّا . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَسْتَحْضِرُ عِنْدَ التَّوْبَةِ إلَّا بَعْضَ الْمُتَّصِفَاتِ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ مُقَدِّمَاتِهَا أَوْ بَعْضَ الظُّلْمِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْيَدِ وَقَدْ يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِهِ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ بَعْضِ الْفَوَاحِشِ فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا أَعْظَمَ نَفْعًا مِنْ نَفْعِ تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ كَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْفِعْلِيَّةِ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَهُ الْحَدَّ فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ أُتِيَ بِهِ مَرَّةً فَأَمَرَ بِجَلْدِهِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الشُّرْبِ لِكَوْنِهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً : { لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا } . وَلَكِنَّ لَعْنَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ الَّذِي قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُ لُحُوقَ اللَّعْنَةِ لَهُ .=ج17.=
ج17. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
وَكَذَلِكَ " التَّكْفِيرُ الْمُطْلَقُ " و " الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ " . وَلِهَذَا كَانَ الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطًا بِثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ فَلَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَلْحَقُ مَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ وَلَا يَلْحَقُ الْمَشْفُوعَ لَهُ وَالْمَغْفُورَ لَهُ ؛ فَإِنَّ الذُّنُوبَ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا الَّتِي هِيَ جَهَنَّمُ بِأَسْبَابِ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ - لَكِنَّهَا مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا - وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ الشِّدَّةِ ، وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ ، وَتَزُولُ أَيْضًا بِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ : كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَشَفَاعَةِ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ كَمَنْ يَشْفَعُ فِيهِ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ { مُحَمَّدٌ } صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ ارْتَفَعَ مُوجِبُهُ وَمَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَهُ حُكْمُ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَالشِّدَّةُ إذَا حَصَلَتْ بِذُنُوبِ وَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا خُفِّفَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا تَابَ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ؛ بِخِلَافِ صَاحِبِ التَّوْبَةِ الْعَامَّةِ . وَالنَّاسُ فِي غَالِب أَحْوَالِهِمْ لَا يَتُوبُونَ تَوْبَةً عَامَّةً مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ فِي كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ دَائِمًا يَظْهَرُ لَهُ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ مَا اعْتَدَى فِيهِ مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ دَائِمًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ الْفَرَجَ يَأْتِي عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ عَنْ الْخَلْقِ ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي صَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِمْ وَتَعَلُّقِهِ بِاَللَّهِ ؟ فَيُقَالُ : سَبَبُ هَذَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ : " تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ " و " تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ " . " فَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ " أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَسْتَقِلُّ شَيْءٌ سِوَاهُ بِإِحْدَاثِ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ؛ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ إذَا قُدِّرَ سَبَبًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ مُعَاوِنٍ وَضِدٍّ مُعَوِّقٍ فَإِذَا طُلِبَ مِمَّا سِوَاهُ إحْدَاثُ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ طُلِبَ مِنْهُ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ وَلَا يَقْدِرُ وَحْدَهُ عَلَيْهِ حَتَّى مَا يُطْلَبُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ كَأَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِيهِ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَيَخْلُقُهُ لَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَعِنْدَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَقْدُورِ . فَمَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ مُسْتَلْزَمَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَمَا سِوَاهُ لَا تَسْتَلْزِمُ إرَادَتُهُ شَيْئًا ؛ بَلْ مَا أَرَادَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِأُمُورِ خَارِجَةٍ عَنْ مَقْدُورِهِ إنْ لَمْ يُعِنْهُ الرَّبُّ بِهَا لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ وَنَفْسُ إرَادَتِهِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ
تَعَالَى : { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } { يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وَقَالَ : { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } . وَالرَّاجِي لِمَخْلُوقِ طَالِبٌ بِقَلْبِهِ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ ، وَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ عَاجِزٌ عَنْهُ ثُمَّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَمِنْ كَمَالِ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْنَعَ حُصُولَ مَطَالِبِهِمْ بِالشِّرْكِ حَتَّى يَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ ثُمَّ إنْ وَحَّدَهُ الْعَبْدُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } كَانَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ وَحْدَانِيِّتِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ . كَمَا احْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ يُشْرِكُونَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }
{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } وَهَذَا قَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَمِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ الشِّدَّةَ وَالضُّرَّ وَمَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ وَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ أَوْ الْجَدْبِ أَوْ حُصُولِ الْيُسْرِ وَزَوَالِ الْعُسْرِ فِي الْمَعِيشَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَذَّاتٌ بَدَنِيَّةٌ وَنِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ قَدْ يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ . وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ الدِّينَ فَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كُنْهِهِ مَقَالٌ أَوْ يَسْتَحْضِرَ تَفْصِيلَهُ بَالٌ وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْت فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِك . وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَأَدْعُوهُ فَيَفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي خَشْيَةَ أَنْ تَنْصَرِفَ نَفْسِي
عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا فَإِذَا قُضِيَ انْصَرَفَتْ . وَفِي بَعْضِ الإسرائيلِيَّاتِ يَا ابْنَ آدَمَ الْبَلَاءُ يَجْمَعُ بَيْنِي وَبَيْنَك وَالْعَافِيَةُ تَجْمَعُ بَيْنَك وَبَيْنَ نَفْسِك . وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ وَهُوَ مَوْجُودٌ مَذُوقٌ مَحْسُوسٌ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ لِلْمُؤْمِنِ وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَقَدْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذَّوْقِ وَالْحِسِّ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ وَحِسٌّ بِذَلِكَ . وَلَفْظُ " الذَّوْقِ " وَإِنْ كَانَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مُخْتَصٌّ بِذَوْقِ اللِّسَانِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِحْسَاسِ بِالْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الْإِحْسَاسِ " فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَامٌّ فِيمَا يُحَسُّ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ بَلْ وَبِالْبَاطِنِ . وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَأَصْلُهُ " الرُّؤْيَةُ " كَمَا قَالَ : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ } . وَ ( الْمَقْصُودُ ) لَفْظُ " الذَّوْقِ " قَالَ تَعَالَى : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } فَجَعَلَ الْخَوْفَ وَالْجُوعَ مَذُوقًا ؛ وَأَضَافَ إلَيْهِمَا اللِّبَاسَ لِيَشْعُرَ أَنَّهُ لَبِسَ الْجَائِعَ وَالْخَائِفَ فَشَمِلَهُ وَأَحَاطَ بِهِ إحَاطَةَ اللِّبَاسِ بِاللَّابِسِ ؛
بِخِلَافِ مَنْ كَانَ الْأَلَمُ لَا يَسْتَوْعِبُ مَشَاعِرَهُ بَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَقَالَ تَعَالَى : فَذُوقُوا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ وَقَالَ تَعَالَى : { ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } وَقَالَ : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا } { إلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } وَقَالَ : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا } . فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الذَّوْقِ " فِي إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ كَثِيرٌ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ } كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ . فَوُجُودُ الْمُؤْمِنِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ ، وَذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ أَمْرٌ يَعْرِفُهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْوَجْدُ . وَهَذَا الذَّوْقُ أَصْحَابُهُ فِيهِ يَتَفَاوَتُونَ فَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ عِنْدَ تَجْرِيدِ تَوْحِيدِ قُلُوبِهِمْ إلَى اللَّهِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ بِحَيْثُ يَكُونُونَ حُنَفَاءَ لَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَا يُحِبُّونَ شَيْئًا إلَّا لَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُونَ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُوَالُونَ إلَّا فِيهِ وَلَا يُعَادُونَ إلَّا لَهُ وَلَا يَسْأَلُونَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَرْجُونَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَخَافُونَ إلَّا إيَّاهُ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَ لَهُ وَبِهِ بِحَيْثُ يَكُونُونَ عِنْدَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ وَعِنْدَ الْخَلْقِ بِلَا هَوًى ؛ قَدْ فَنِيَتْ عَنْهُمْ إرَادَةُ مَا سِوَاهُ بِإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّةُ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَخَوْفُ
مَا سِوَاهُ بِخَوْفِهِ وَرَجَاءُ مَا سِوَاهُ بِرَجَائِهِ وَدُعَاءُ مَا سِوَاهُ بِدُعَائِهِ هُوَ أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ إلَّا مَنْ لَهُ نَصِيبٌ وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ . وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
" الْفَنَاءُ " الَّذِي يُوجَدُ فِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ يُفَسَّرُ
بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ . ( أَحَدُهَا ) : فَنَاءُ الْقَلْبِ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى
الرَّبِّ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَعِبَادَتُهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ ، فَهَذَا
حَقٌّ صَحِيحٌ وَهُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَهُوَ فِي "
الْحَقِيقَةِ " عِبَادَةُ الْقَلْبِ وَتَوَكُّلُهُ وَاسْتِعَانَتُهُ وَتَأَلُّهُهُ
وَإِنَابَتُهُ وَتَوَجُّهُهُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَمَا
يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ خُرُوجٌ
عَنْ هَذَا . وَهَذَا هُوَ " الْقَلْبُ السَّلِيمُ " الَّذِي قَالَ
اللَّهُ فِيهِ : { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وَهُوَ سَلَامَةُ
الْقَلْبِ عَنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ . وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ
وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ .
وَهَذَا " الْفَنَاءُ " لَا يُنَافِيهِ الْبَقَاءُ ؛ بَلْ يَجْتَمِعُ هُوَ وَالْبَقَاءُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ فَانِيًا عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ شَاعِرًا بِاَللَّهِ وَبِالسِّوَى وَتَرْجَمَتُهُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ } وَهَذَا فِي " الْجُمْلَةِ " هُوَ أَوَّلُ الدِّينِ وَآخِرُهُ . ( الْأَمْرُ الثَّانِي ) : فَنَاءُ الْقَلْبِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى الرَّبِّ فَذَاكَ فَنَاءٌ عَنْ الْإِرَادَةِ وَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ الشَّهَادَةِ . ذَاكَ فَنَاءٌ عَنْ عِبَادَةِ الْغَيْرِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ الْعِلْمِ بِالْغَيْرِ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ ، فَهَذَا الْفَنَاءُ فِيهِ نَقْصٌ ؛ فَإِنَّ شُهُودَ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ شُهُودُ الرَّبِّ مُدَبِّرًا لِعِبَادِهِ آمِرًا بِشَرَائِعِهِ أَكْمَلُ مِنْ شُهُودِ وُجُودِهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَالْفَنَاءُ بِذَلِكَ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ أَكْمَلَ شُهُودًا مِنْ أَنْ يَنْقُصَهُمْ شُهُودٌ لِلْحَقِّ مُجْمَلًا عَنْ شُهُودِهِ مُفَصَّلًا وَلَكِنْ عَرَضَ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ . كَمَا عَرَضَ لَهُمْ عِنْدَ تَجَلِّي بَعْضِ الْحَقَائِقِ : الْمَوْتُ وَالْغَشْيُ وَالصِّيَاحُ وَالِاضْطِرَابُ وَذَلِكَ لِضَعْفِ الْقَلْبِ عَنْ شُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَعَنْ شُهُودِ التَّفْرِقَةِ فِي الْجَمْعِ ، وَالْكَثْرَةِ فِي الْوَحْدَةِ حَتَّى اخْتَلَفُوا فِي إمْكَانِ ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ سِوَى ذَلِكَ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْخَلْقَ أَوْ الْأَمْرَ اشْتَغَلَ عَنْ الْخَالِقِ الْآمِرِ . وَإِذَا عُورِضَ بِالنَّبِيِّ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ ادَّعَى الِاخْتِصَاصَ أَوْ أَعْرَضَ
عَنْ الْجَوَابِ أَوْ تَحَيَّرَ فِي الْأَمْرِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَاسَ
جَمِيعَ الْخَلْقِ عَلَى مَا وَجَدَهُ مِنْ نَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ
هَؤُلَاءِ : إنَّهُ لَا يُمْكِنُ حِينَ تَجَلِّي الْحَقِّ سَمَاعُ كَلَامِهِ
وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ لَهُ عَنْ الشَّيْخِ
شِهَابِ الدِّينِ السهروردي أَنَّهُ جَوَّزَ اجْتِمَاعَ الْأَمْرَيْنِ . قَالَ :
نَحْنُ نَقُولُ لَهُ عَنْ شُهُودِ الذَّاتِ وَهُوَ يُخْبِرُنَا عَنْ شُهُودِ
الصِّفَاتِ وَالصَّوَابُ مَعَ شِهَابِ الدِّينِ فَإِنَّهُ كَانَ صَحِيحَ
الِاعْتِقَادِ فِي امْتِيَازِ الرَّبِّ عَنْ الْعَبْدِ . وَإِنَّمَا بَنَى ابْنُ
عَرَبِيٍّ عَلَى أَصْلِهِ الْكُفْرِي فِي أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ
الْفَائِضُ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُهُودَ هَذَا لَا يَقَعُ
فِيهِ خِطَابٌ وَإِنَّمَا الْخِطَابُ فِي مَقَامِ الْعَقْلِ (1) .
وَفِي هَذَا الْفَنَاءِ قَدْ يَقُولُ : أَنَا الْحَقُّ أَوْ سُبْحَانِي أَوْ مَا
فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ إذَا فَنِيَ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ
وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ . وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ
عَنْ عِرْفَانِهِ . كَمَا يَحْكُونَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي
مَحَبَّةِ آخَرَ فَوَقَعَ الْمَحْبُوبُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى الْآخَرُ نَفْسَهُ
خَلْفَهُ فَقَالَ مَا الَّذِي أَوْقَعَك خَلْفِي ؟ فَقَالَ : غِبْت بِك عَنِّي
فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي . وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ يَقَعُ السُّكْرُ الَّذِي
يُسْقِطُ التَّمْيِيزَ مَعَ وُجُودِ
حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ كَمَا يَحْصُلُ بِسُكْرِ الْخَمْرِ وَسُكْرِ عَشِيقِ الصُّوَرِ . وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ الْفَنَاءُ بِحَالِ خَوْفٍ أَوْ رَجَاءٍ كَمَا يَحْصُلُ بِحَالِ حُبٍّ فَيَغِيبُ الْقَلْبُ عَنْ شُهُودِ بَعْضِ الْحَقَائِقِ وَيَصْدُرُ مِنْهُ قَوْلٌ أَوْ عَمَلٌ مِنْ جِنْسِ أُمُورِ السُّكَارَى وَهِيَ شَطَحَاتُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ : كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَنْصِبُ خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا غَيْرَ مَأْثُومٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيُشْبِهُ هَذَا الْبَابُ أَمْرَ خُفَرَاءِ الْعَدُوِّ وَمَنْ يُعِينُ كَافِرًا أَوْ ظَالِمًا بِحَالِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ . وَيَحْكُمُ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَبَبُ زَوَالِ الْعَقْلِ وَالْغَلَبَةِ أَمْرًا مُحَرَّمًا . وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ والمولهين الَّذِينَ صَارَ ذَلِكَ لَهُمْ مَقَامًا دَائِمًا كَمَا أَنَّهُ يَعْرِضُ لِهَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ فِي مَنْ زَالَ عَقْلُهُ حَتَّى تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ . إنْ كَانَ زَوَالُهُ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ مِثْلِ الْإِغْمَاءِ بِالْمَرَضِ أَوْ أُسْقِيَ مُكْرَهًا شَيْئًا يُزِيلُ عَقْلَهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ زَالَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ أَثِمَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمِ . وَكَمَا أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَلَا حَمْلُ كَلَامِهِمْ وَفِعَالِهِمْ عَلَى الصِّحَّةِ بَلْ هُمْ فِي الْخَاصَّةِ مِثْلُ الْغَافِلِ وَالْمَجْنُونِ فِي التَّكَالِيفِ
الظَّاهِرَةِ ؛ وَقَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَتَرَكَ أَحْوَالَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ حَالَ الْبَقَاءِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ شُهُودُ الْحَقَائِقِ بِإِشْهَادِ الْحَقِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُهُ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ . فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي } وَفِي رِوَايَةٍ { وَبِي يَنْطِقُ وَبِي يَعْقِلُ } فَإِذَا سَمِعَ بِالْحَقِّ وَرَأَى بِهِ سَمِعَ الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَشَهِدَ الْحَقَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ . وَعَامَّةُ مَا تَجِدُهُ فِي كُتُبِ أَصِحَّاءِ الصُّوفِيَّةِ مِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْفَنَاءِ هُوَ هَذَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَغْلَطُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَمَا تَكَلَّمْت عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْفَنَاءُ صَحِيحٌ وَهُوَ فِي عيسوية الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالصَّعْقِ وَالصِّيَاحِ الَّذِي حَدَثَ فِي التَّابِعِينَ . وَلِهَذَا يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي نَوْعِ ضَلَالٍ ؛ لِأَنَّ الْفَنَاءَ عَنْ شُهُودِ الْحَقَائِقِ مَرْجِعُهُ إلَى عَدَمِ الْعِلْمِ وَالشُّهُودِ . وَهُوَ وَصْفُ نَقْصٍ لَا وَصْفُ كَمَالٍ وَإِنَّمَا يُمْدَحُ مِنْ جِهَةِ
عَدَمِ
إرَادَةِ مَا سِوَاهُ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَخْلُوقِ قَدْ يَدْعُو إلَى إرَادَتِهِ
وَالْفِتْنَةِ بِهِ . وَلِهَذَا غَالِبُ عُبَّادِ " العيسوية " فِي
عَدَمِ الْعِلْمِ بِالسِّوَى وَإِرَادَتِهِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ وَيُوصَفُونَ
بِسَلَامَةِ الْقُلُوبِ . وَغَالِبُ عُلَمَاءِ " الموسوية " فِي
الْعِلْمِ بِالسِّوَى وَإِرَادَتِهِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ وَيُوصَفُونَ بِالْعِلْمِ
؛ لَكِنْ الْأَوَّلُونَ مَوْصُوفُونَ بِالْجَهْلِ وَالْعَدْلِ . وَالْآخَرُونَ
مَوْصُوفُونَ بِالظُّلْمِ (1) وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ . فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْحَقِّ
وَالْخَلْقِ وَإِرَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَهَذَا نَعْتُ
الْمُحَمَّدِيَّةِ الْكَامِلُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَسَلَامَةُ
الْقَلْبِ الْمَحْمُودَةُ هِيَ سَلَامَةُ . . . (2) إذْ الْجَهْلُ لَا يَكُونُ
بِنَفْسِهِ صِفَةَ مَدْحٍ . إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُمْدَحُ لِسَلَامَتِهِ بِهِ عَنْ
الشُّرُورِ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ النُّفُوسِ إذَا عَرَفَتْ الشَّرَّ الَّذِي
تَهْوَاهُ اتَّبَعَتْهُ أَوْ فَزِعَتْ مِنْهُ أَوْ فَتَنَهَا .
الثَّالِثُ : فَنَاءٌ عَنْ وُجُودِ السِّوَى : بِمَعْنَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّ
اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِسِوَاهُ لَا بِهِ وَلَا
بِغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْحَالُ لِلِاتِّحَادِيَّةِ الزَّنَادِقَةِ مِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ كالبلياني وَالتِّلْمِسَانِيّ والقونوني وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ
يَجْعَلُونَ الْحَقِيقَةَ أَنَّهُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ وَحَقِيقَةُ
الْكَائِنَاتِ وَأَنَّهُ
لَا
وُجُودَ لِغَيْرِهِ ؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّ قِيَامَ الْأَشْيَاءِ بِهِ وَوُجُودَهَا
بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ
قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ
بَاطِلُ .
وَكَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ }
فَإِنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الشُّهُودَ الصَّحِيحَ ؛
لَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ فَهَذَا كُفْرٌ
وَضَلَالٌ رُبَّمَا تَمَسَّكَ أَصْحَابُهُ بِأَلْفَاظِ مُتَشَابِهَةٍ تُوجَدُ فِي
كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ . كَمَا تَمَسَّكَ النَّصَارَى بِأَلْفَاظِ
مُتَشَابِهَةٍ تُرْوَى عَنْ الْمَسِيحِ . وَيَرْجِعُونَ إلَى وَجْدٍ فَاسِدٍ أَوْ قِيَاسٍ
فَاسِدٍ . فَتَدَبَّرْ هَذَا التَّقْسِيمَ فَإِنَّهُ بَيَانُ الصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
" الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ " الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
" التَّكْلِيفُ الشَّرْعِيُّ " هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْمُمْكِنِ مِنْ
الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَلَا تَجِبُ الشَّرِيعَةُ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُهُ
الْعِلْمُ كَالْمَجْنُونِ وَالطِّفْلِ ، وَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ يَعْجِزُ
كَالْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ فِي الْجِهَادِ ؛ وَكَمَا لَا تَجِبُ
الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ وَالصَّلَاةُ قَائِمًا وَالصَّوْمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ عَلَى
مَنْ يَعْجِزُ عَنْهُ . سَوَاءٌ قِيلَ : يَجُوزُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ أَوْ
لَمْ يَجُزْ ؛ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا
قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ بِحَالِ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي
الشَّرِيعَةِ بَلْ قَدْ تُسْقِطُ الشَّرِيعَةُ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ أَدَاةُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَضَبْطًا لِمَنَاطِ التَّكْلِيفِ وَإِنْ كَانَ تَكْلِيفُهُ مُمْكِنًا كَمَا رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَإِنْ كَانَ لَهُ فَهْمٌ وَتَمْيِيزٌ ؛ لَكِنَّ ذَاكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ فَهْمُهُ ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْلَ يَظْهَرُ فِي النَّاسِ شَيْئًا فَشَيْئًا ؛ وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، فَلَمَّا كَانَتْ الْحِكْمَةُ خَفِيَّةً وَمُنْتَشِرَةً قُيِّدَتْ بِالْبُلُوغِ . وَكَمَا لَا يَجِبُ الْحَجُّ إلَّا عَلَى مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ مَعَ إمْكَانِ الْمَشْيِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَكَمَا لَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى الْمُسَافِرِ مَعَ إمْكَانِهِ مِنْهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَكَمَا تَسْقُطُ الْوَاجِبَاتُ بِالْمَرَضِ الَّذِي يُخَافُ مَعَهُ زِيَادَةُ الْمَرَضِ وَتَأَخُّرُ الْبُرْءِ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهَا مُمْكِنًا . لَكِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ هِيَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ ؛ فَقَدْ يُوجِبُ اللَّهُ فِي شَرِيعَةٍ مَا يَشُقُّ ، وَيُحَرِّمُ مَا يَشُقُّ تَحْرِيمُهُ : كَالْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَقَدْ يُخَفِّفُ فِي شَرِيعَةٍ أُخْرَى كَمَا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَالَ تَعَالَى { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } وَقَالَ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَقَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ }
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ : { إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ } وَقَالَ لِمُعَاذِ وَأَبِي مُوسَى : { يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ } وَقَالَ : { لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ أَقْوَامًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } وَقَالَ : { لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ } وَقَالَ { لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ } . وَأَمَّا كَوْنُ الْإِنْسَانِ مُرِيدًا لِمَا أُمِرَ بِهِ أَوْ كَارِهًا لَهُ فَهَذَا لَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ الشَّرَائِعُ بَلْ وَلَا أَمْرُ عَاقِلٍ بَلْ الْإِنْسَانُ مَأْمُورٌ بِمُخَالَفَةِ هَوَاهُ . و " الْإِرَادَةُ " هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا } { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } وَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . فَإِنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ مُمَهَّدَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَالْعَارِفِينَ وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَقْرِيرَهَا . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ التَّكْلِيفُ مَشْرُوطًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي أَصْلُهُ الْعَقْلُ وَبِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ فَنَقُولُ : كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ قَدْ يَزُولُ بِأَسْبَابِ مَحْظُورَةٍ وَبِأَسْبَابِ غَيْرِ مَحْظُورَةٍ فَإِذَا أَزَالَ عَقْلَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِمَا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ بِذَلِكَ إثْمٌ بِمَا يَتْرُكُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَيَفْعَلُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ إذَا كَانَ السُّكْرُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا زَالَ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ كَالْإِغْمَاءِ لِمَرَضِ أَوْ خَوْفٍ أَوْ سُكْرٍ بِشُرْبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ مِثْلُ أَنْ يَجْرَعَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا فَإِنَّ هَذَا لَا إثْمَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا قَضَاءُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحْمَد وَعِنْدَ مَنْ يَقُولُ : يَقْضِي صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَذَاكَ نَظِيرُ وُجُوبِ قَضَائِهَا عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَلَا إثْمَ عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ وَإِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ } وَقَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ }
وَكَذَلِكَ " قُدْرَةُ الْعَبْدِ " فَإِنَّهُ لَوْ فَرَّطَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ حَتَّى ضَيَّعَ مَالَهُ بَقِيَ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ وَكَذَلِكَ فِي اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } . فَالضَّرُورَةُ بِسَبَبِ مَحْظُورٍ لَا تُسْتَبَاحُ بِهَا الْمُحَرَّمَاتُ ؛ بِخِلَافِ الضَّرُورَةِ الَّتِي هِيَ بِسَبَبِ غَيْرِ مَحْظُورٍ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَاصِي بِسَفَرِهِ هَلْ يَتَرَخَّصُ تَرَخُّصَ الْمُسَافِرِ ؟ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ لَا يَتَرَخَّصُ . فَالْأَحْوَالُ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْعِبَادِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالزُّهَّادِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا تُوجِبُ زَوَالَ عَقْلِ أَحَدِهِمْ وَعِلْمِهِ حَتَّى تَجْعَلَهُ كَالْمَجْنُونِ وَالْمُولَهِ وَالسَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ ، أَوْ زَوَالَ قُدْرَتِهِ حَتَّى تَجْعَلَهُ كَالْعَاجِزِ أَوْ تَجْعَلَهُ كَالْمُضْطَرِّ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ قَدْ يُوجِبُ عَجْزَهُ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبَاتٍ وَقَدْ يُوجِبُ وُقُوعَهُ فِي مُحَرَّمَاتٍ . فَهَؤُلَاءِ يُقَالُ فِيهِمْ : إنْ كَانَ زَوَالُ ذَلِكَ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَلَا نَذُمُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ قَدْ يُمْدَحُونَ عَلَى مَا وَافَقُوا فِيهِ الشَّرِيعَةَ مِنْ
الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَيُرْفَعُ عَنْهُمْ اللَّوْمُ فِيمَا عَذَرَهُمْ فِيهِ الشَّارِعُ كَمَا يُقَالُ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ سَوَاءٌ بَلْ الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ حَيْثُ سَقَطَ عَنْهُ اللَّوْمُ لِعَجْزِهِ عَنْ الْعِلْمِ . وَإِنْ كَانَ زَوَالُ ذَلِكَ بِسَبَبِ مُحَرَّمٍ اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ مُحَرَّمٍ . مِثَالُ " الْأَوَّلِ " مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَهَاجَ لَهُ وَجْدٌ يُحِبُّهُ أَوْ مَخَافَةٌ أَوْ رَجَاءٌ فَضَعُفَ عَنْ حَمْلِهِ حَتَّى مَاتَ أَوْ صُعِقَ أَوْ صَاحَ صِيَاحًا عَظِيمًا أَوْ اضْطَرَبَ اضْطِرَابًا كَثِيرًا فَتَوَلَّدَ عَنْ ذَلِكَ تَرْكُ صَلَاةٍ وَاجِبَةٍ أَوْ تَعَدَّى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّ هَذَا مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ المولهين الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمْ الْجُنُونُ ؛ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ إمَّا لِقُوَّةِ الْوَارِدِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِمْ ؛ وَإِمَّا لِضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ حَمْلِهِ ؛ وَإِمَّا لِانْحِرَافِ أَمْزِجَتِهِمْ وَقُوَّةِ الْخَلْطِ ؛ وَإِمَّا لِعَارِضِ مِنْ الْجِنِّ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَمَا بَلَغَنَا عَنْ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي حَيْثُ سُئِلَ عَنْهُمْ فَقَالَ : [ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا ؛ فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَأَبْقَى أَحْوَالَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ ] (*) . وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الصِّنْفُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مَوْجُودًا فِي التَّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ ؛ لَا سِيَّمَا فِي عُبَّادِ الْبَصْرِيِّينَ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ مَاتَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ كزرارة بْنِ أَوْفَى وَأَبِي جهير الضَّرِيرِ وَغَيْرِهِمَا وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَإِنَّ حَالَهُمْ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَجْنُونٌ أَوْ مَصْعُوقٌ ؛ وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَيْضًا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ لِلَّهِ وَالتَّوْحِيدُ لَهُ وَالْمَحَبَّةُ حَتَّى غَابَ بِالْمَذْكُورِ الْمَشْهُودِ الْمَحْبُوبِ الْمَعْبُودِ عَمَّا سِوَاهُ ؛ كَمَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ الْعَاشِقِينَ فِي غَيْبَتِهِ بِمَعْشُوقِهِ عَمَّا سِوَاهُ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ : أَنَا الْحَقُّ أَوْ سُبْحَانِي أَوْ مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الرَّجَاءِ وَالرَّحْمَةِ حَتَّى قَالَ : أَبْسُطُ سَجَّادَتِي عَلَى جَهَنَّمَ . فَمَنْ قَالَ هَذَا فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَالسَّكْرَانِ أَوْ الْمُولَهِ وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ شَرْعًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ . وَمِثَالُ " الثَّانِي " : مَا قَدْ يَحْصُلُ عِنْدَ سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ لِكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاعِ فَإِنَّهُ قَدْ يُنْشِدُ أَشْعَارًا فِيهَا مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ بِأَصْوَاتِ مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْعِ وَيَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ فَيُوجِبُ ذَلِكَ اخْتِلَاطًا وَزَوَالَ عَقْلٍ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا بِالْهِمَّةِ وَالْقُلُوبِ وَيُوجِبُ أَيْضًا مِنْ تَرْكِ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ .
وَكَذَلِكَ قَدْ يَسْلُكُ أَحَدُهُمْ عِبَادَاتٍ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ فَتُورِثُهُ تِلْكَ الْعِبَادَاتُ وَالْأَعْمَالُ أَحْوَالًا قَوِيَّةً قَاهِرَةً يَتْرُكُ بِهَا الْوَاجِبَاتِ وَيَفْعَلُ بِهَا الْمُحَرَّمَاتِ أَعْظَمَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ إذَا سَكِرَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ . وَإِذْ خُوطِبَ أَحَدُهُمْ فِي حَالِ صَحْوِهِ وَعَقْلِهِ قَالَ : كُنْت مَغْلُوبًا وَوَرَدَ عَلَيَّ وَارِدٌ فَعَلَ بِي هَذَا وَالْحُكْمُ لِلْوَارِدِ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ خُفَرَاءِ الْعَدُوِّ وَكَثِيرٍ مِمَّنْ يُعِينُ الْكَفَرَةَ وَالظَّلَمَةَ وَيَعْتَدِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ وَيَقُولُ : إنَّهُ مَغْلُوبٌ فِي ذَلِكَ وَإِنَّهُ وَرَدَ عَلَيْهِ وَارِدٌ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَإِنَّهُ خُوطِبَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ . فَيُقَالُ : أَمَّا زَوَالُ عَقْلِك حَتَّى صِرْت لَا تَفْهَمُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ ، وَزَوَالُ قُدْرَتِك حَتَّى صِرْت مُضْطَرًّا إلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كُنْت صَادِقًا فِي ذَلِكَ فَسَبَبُهُ تَفْرِيطُك وَعُدْوَانُك أَوَّلًا حَتَّى صِرْت فِي حَالِ الْمَجَانِينِ وَالسُّكَارَى فَأَنْتَ بِمَنْزِلَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ الَّذِي سَكِرَ مِنْهَا وَالْمُتَعَرِّضِ لِلْعِشْقِ حَتَّى يَعْشَقَ فَيَفْعَلُ فِيهِ الْعِشْقُ الْأَفَاعِيلَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ سُكْرِ الْأَصْوَاتِ وَالصُّوَرِ وَالشَّرَابِ ؛ فَإِنَّ هَذَا سُكْرُ الْأَجْسَامِ وَهَذَا سُكْرُ النُّفُوسِ وَهَذَا سُكْرُ الْأَرْوَاحِ فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ .
وَلِهَذَا إنَّمَا تَقَعُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِمَّنْ فِيهِ نَصْرَانِيَّةٌ يَمِيلُ بِسَبَبِهَا إلَى السُّكْرِ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي الشَّرَابِ وَالْأَصْوَاتِ وَالصُّوَرِ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي عَالَمِ الضَّلَالِ . وَأَمَّا قَوْلُك : إنَّك خُوطِبْت بِذَلِكَ وَأُمِرْت فَمِنْ أَيِّ الْجِهَتَيْنِ ؟ أَمِنْ جِهَةِ الْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ ؟ أَمْ مِنْ جِهَةِ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ ؟ . فَالْأُولَى مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } وَقَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ } وَقَوْلِهِ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } . وَالثَّانِيَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } وَقَوْلِهِ : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا } وَقَوْلِهِ : { أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ } فَإِنْ ذَكَرْت أَنَّهُ مِنْ الْجِهَةِ " الْأُولَى " فَبَاطِلٌ بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَإِنْ أَقْرَرْت أَنَّهُ مِنْ " الثَّانِيَةِ " فَصَحِيحٌ لَكِنَّ هَذَا حَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِثْلِ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ ونمرود وَسَائِرِ مَنْ أَطَاعَ الْأَوَامِرَ الْكَوْنِيَّةَ وَتَبِعَ الْإِرَادَةَ الْقَدَرِيَّةَ وَأَعْرَضَ عَنْ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ . فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ عَظِيمٌ نَافِعٌ جِدًّا فَتَنْكَشِفُ بِهِ الْأَحْوَالُ الْمُخَالِفَةُ لِلشَّرْعِ . وَانْقِسَامُ أَهْلِهَا إلَى مَعْذُورٍ وَمَوْزُورٍ كَانْقِسَامِهَا إلَى
مَسْطُورٍ عَلَى صَاحِبِهِ وَمَغْفُورٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَحْوَالِ الصَّادِرَةِ عَنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ والزهادات مِنْ الْعَقْلِ وَالصَّحْوِ وَمِنْ الْإِغْمَاءِ وَالسُّكْرِ وَالْجُنُونِ وَمِنْ الِاضْطِرَارِ وَالِاخْتِيَارِ فَإِنَّ أَحْوَالَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَحْوَالَ الْهُدَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَحْوَالَ الْمَشَايِخِ وَالْفُقَرَاءِ تَشْتَرِكُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الشَّرِيفَةِ وَتَحْكُمُ الشَّرِيعَةُ فِيهَا بِالْفُرْقَانِ . وَإِذَا ضُمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْ ذَوِي الْأَحْوَالِ مِنْ كَشْفٍ عِلْمِيٍّ أَوْ تَأْثِيرٍ قَدَرِيٍّ لَيْسَ بِمُسْتَلْزِمِ لِوِلَايَةِ اللَّهِ بَلْ وَلَا لِلصَّلَاحِ بَلْ وَلَا لِلْإِيمَانِ إذْ قَدْ يَكُونُ هَذَا الْجِنْسُ فِي كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ وَفَاسِقٍ وَعَاصٍ وَإِنَّمَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . فَفَرَّقَ بَيْنَ وِلَايَةِ اللَّهِ وَبَيْنَ الْأَحْوَالِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ وَبَيْنَ جِنْسِ الْمُلْكِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْعِلْمِ الَّذِي وَرِثَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَبَيْنَ جِنْسِ الْكَلَامِ فَبَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ خُصُوصٌ وَعُمُومٌ فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ وَلِيًّا لِلَّهِ لَهُ حَالُ تَأْثِيرٍ وَكَشْفٍ وَقَدْ يَكُونُ وَلِيًّا لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الْحَالُ بِكَمَالِهَا وَقَدْ يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ وَلِيًّا لِلَّهِ كَمَا قَدْ يَكُونُ خَلِيفَةَ نَبِيٍّ مُطَاعًا وَقَدْ يَكُونُ خَلِيفَةَ نَبِيٍّ مُسْتَضْعَفًا وَقَدْ يَكُونُ جَبَّارًا مُطَاعًا لَيْسَ مِنْ النُّبُوَّةِ فِي شَيْءٍ وَقَدْ يَكُونُ عَالِمًا لَيْسَ مُتَكَلِّمًا بِمَا يُخَالِفُ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ يَكُونُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ .
فَصْلٌ
:
وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ الْبِدَعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعُلُومِ
وَالْعِبَادَاتِ فِي هَذَا الْقَدَرِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْأُمَّةِ
فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { مَنْ يَعِشْ
مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي } .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا اسْتَقَامَ " وُلَاةُ الْأُمُورِ " الَّذِينَ
يَحْكُمُونَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ اسْتَقَامَ عَامَّةُ النَّاسِ كَمَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ
لِلْمَرْأَةِ الأحمسية لَمَّا سَأَلَتْهُ فَقَالَتْ : " مَا بَقَاؤُنَا عَلَى
هَذَا الْأَمْرِ الصَّالِحِ " ؟ قَالَ : " مَا اسْتَقَامَتْ لَكُمْ
أَئِمَّتُكُمْ " وَفِي الْأَثَرِ { صِنْفَانِ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ
: الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ } أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ الْحَدِيدِ كَمَا
دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا } الْآيَةَ . وَهُمْ "
أُولُو الْأَمْرِ " فِي قَوْلِهِ : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } .
وَكَذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِمْ يَقَعُ الْفَسَادُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ زَلَّةُ عَالِمٍ وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ } فَالْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ هُمْ الْأُمَرَاءُ ، وَالْعَالِمُ وَالْمُجَادِلُ هُمْ الْعُلَمَاءُ لَكِنَّ ( أَحَدَهُمَا ) صَحِيحُ الِاعْتِقَادِ يَزِلُّ وَهُوَ الْعَالِمُ كَمَا يَقَعُ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . و ( الثَّانِي ) كَالْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ منسلخون مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَإِنَّمَا احْتِجَاجُهُمْ بِهِ دَفْعًا لِلْخَصْمِ لَا اهْتِدَاءً بِهِ وَاعْتِمَادًا عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { جِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ } فَإِنَّ السُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ تَدْفَعُ شُبْهَتَهُ . وَالدِّينُ الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ عِلْمًا وَحَالًا هُوَ " الْأَصْلُ " وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ هِيَ " الْفُرُوعُ " وَهِيَ كَمَالُ الْإِيمَانِ . فَالدِّينُ أَوَّلُ مَا يُبْنَى مِنْ أُصُولِهِ وَيَكْمُلُ بِفُرُوعِهِ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِمَكَّةَ أُصُولَهُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْأَمْثَالِ الَّتِي هِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْقِصَصُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ ثُمَّ أَنْزَلَ بِالْمَدِينَةِ - لَمَّا صَارَ لَهُ قُوَّةٌ - فُرُوعَهُ الظَّاهِرَةَ مِنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجِهَادِ وَالصِّيَامِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالْمَيْسِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِهِ وَمُحَرَّمَاتِهِ .
فَأُصُولُهُ تَمُدُّ فُرُوعَهُ وَتُثَبِّتُهَا وَفُرُوعُهُ تُكْمِلُ أُصُولَهُ وَتَحْفَظُهَا فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ نَقْصٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّمَا يَقَعُ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ فُرُوعِهِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمْ الْأَمَانَةُ وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمْ الصَّلَاةُ } وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ الْحُكْمُ بِالْأَمَانَةِ } و " الْحُكْمُ " هُوَ عَمَلُ الْأُمَرَاءِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } . وَأَمَّا " الصَّلَاةُ " فَهِيَ أَوَّلُ فَرْضٍ وَهِيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ مَقْرُونَةً بِالشَّهَادَتَيْنِ فَلَا تَذْهَبُ إلَّا فِي الْآخِرِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ عَوْدَهُ كَبَدْئِهِ . فَلَمَّا ذَهَبَتْ دَوْلَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَصَارَ مُلْكًا ظَهَرَ النَّقْصُ فِي الْأُمَرَاءِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ أَيْضًا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَحَدَثَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ بِدْعَتَا الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ إذْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِمَامَةِ وَالْخِلَافَةِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ . وَكَانَ مُلْكُ " مُعَاوِيَةَ " مُلْكًا وَرَحْمَةً فَلَمَّا ذَهَبَ مُعَاوِيَةُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَجَاءَتْ إمَارَةُ " يَزِيدَ " وَجَرَتْ فِيهَا فِتْنَةُ قَتْلِ الْحُسَيْنِ " بِالْعِرَاقِ وَفِتْنَةُ أَهْلِ " الْحَرَّةِ " بِالْمَدِينَةِ وَحَصَرُوا مَكَّةَ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ .
ثُمَّ مَاتَ يَزِيدُ وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ : ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْحِجَازِ وَبَنُو الْحَكَمِ بِالشَّامِ وَوَثَبَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ بِالْعِرَاقِ . وَذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَقَدْ بَقِيَ فِيهِمْ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَغَيْرِهِمْ حَدَثَتْ " بِدْعَةُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ " فَرَدَّهَا بَقَايَا الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ مَا كَانُوا يَرُدُّونَهُ هُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ . وَعَامَّةُ مَا كَانَتْ الْقَدَرِيَّةُ إذْ ذَاكَ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ : أَعْمَالُ الْعِبَادِ كَمَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا الْمُرْجِئَةُ فَصَارَ كَلَامُهُمْ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْفَاسِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " و " الْوَعْدِ و " الْوَعِيدِ " وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بَعْدُ فِي رَبِّهِمْ وَلَا فِي صِفَاتِهِ إلَّا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ صِغَارِ التَّابِعِينَ مِنْ حِينِ أَوَاخِرِ " الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ " حِينَ شَرَعَ . " الْقَرْنُ الثَّالِثُ " - تَابِعُو التَّابِعِينَ - يَنْقَرِضُ أَكْثَرُهُمْ - فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْقَرْنِ وَهُمْ وَسَطُهُ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ انْقَرَضُوا بِانْقِرَاضِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ إلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ . انْقَرَضُوا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ ، وَجُمْهُورُ تَابِعِي التَّابِعِينَ انْقَرَضُوا فِي أَوَاخِرِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ ؛ وَأَوَائِلِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ - وَصَارَ
فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَخَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَمْرِ عَنْ وِلَايَةِ الْعَرَبِ وَعُرِّبَتْ بَعْضُ الْكُتُبِ الْعَجَمِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفُرْسِ وَالْهِنْدِ وَالرُّومِ وَظَهَرَ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ وَيَحْلِفَ وَلَا يُسْتَحْلَفُ } - حَدَثَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ . " الرَّأْيُ " و " الْكَلَامُ " و " التَّصَوُّفُ " . وَحَدَثَ " التَّجَهُّمُ " وَهُوَ نَفْيُ الصِّفَاتِ . وَبِإِزَائِهِ " التَّمْثِيلُ " . فَكَانَ جُمْهُورُ الرَّأْيِ مِنْ الْكُوفَةِ ؛ إذْ هُوَ غَالِبٌ عَلَى أَهْلِهَا مَعَ مَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ التَّشَيُّعِ الْفَاحِشِ وَكَثْرَةِ الْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ مَعَ أَنَّ فِي خِيَارِ أَهْلِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالصِّدْقِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ ؛ لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ فِيهَا نَشَأَ كَثْرَةُ الْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ ، وَكَثْرَةُ الْآرَاءِ فِي الْفِقْهِ ، وَالتَّشَيُّعُ فِي الْأُصُولِ ، وَكَانَ جُمْهُورُ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ فِي الْبَصْرَةِ . فَإِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِين بِقَلِيلِ ظَهَرَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ ؛ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالِاعْتِزَالِ . وَظَهَرَ أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءٍ (1) الهجيمي الَّذِي صَحِبَ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ زَيْدٍ ،
وَعَبْدُ الْوَاحِدِ صَحِبَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَبَنَى دويرة لِلصُّوفِيَّةِ ؛ هِيَ أَوَّلُ مَا بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ يُسَمُّونَهُمْ " الفقرية " وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي دويرة لَهُمْ . وَصَارَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ طَرِيقٌ يَتَدَيَّنُونَ بِهِ مَعَ تَمَسُّكِهِمْ بِغَالِبِ الدِّينِ . وَلِهَؤُلَاءِ مِنْ التَّعَبُّدِ الْمُحْدَثِ طَرِيقٌ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ مَعَ تَمَسُّكِهِمْ بِغَالِبِ التَّعَبُّدِ الْمَشْرُوعِ وَصَارَ لِهَؤُلَاءِ حَالٌ مِنْ السَّمَاعِ وَالصَّوْتِ حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ يَمُوتُ أَوْ يُغْشَى عَلَيْهِ . وَلِهَؤُلَاءِ حَالٌ فِي الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ حَتَّى خَرَجُوا بِهِ إلَى تَفْكِيرٍ أَوْقَعَهُمْ فِي تَحَيُّرٍ . وَهَؤُلَاءِ أَصْلُ أَمْرِهِمْ " الْكَلَامُ " . وَهَؤُلَاءِ أَصْلُ أَمْرِهِمْ " الْإِرَادَةُ " . وَهَؤُلَاءِ يَقْصِدُونَ " بِالْكَلَامِ " التَّوْحِيدَ ؛ وَيُسَمُّونَ نُفُوسَهُمْ الْمُوَحِّدِينَ . وَهَؤُلَاءِ يَقْصِدُونَ " بِالْإِرَادَةِ " التَّوْحِيدَ وَيُسَمُّونَ نُفُوسَهُمْ أَهْلَ
التَّوْحِيدِ وَالتَّجْرِيدِ . وَقَدْ كَتَبْت قَبْلَ هَذَا فِي " الْقَوَاعِدِ " مَا فِي طَرِيقَيْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَأَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ مِنْ الِانْحِرَافِ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ . كَمَا بَيَّنْت فِي " قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ " أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالدِّينِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاسْتِصْحَابُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ . وَكَانَ " أَهْلُ الْمَدِينَةِ " أَقْرَبَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إذْ لَمْ يَنْحَرِفُوا انْحِرَافَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ : هَوًى وَرِوَايَةً وَرَأْيًا وَكَلَامًا وَسَمَاعًا وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِمْ نَوْعُ انْحِرَافٍ لَكِنْ هُمْ أَقْرَبُ . وَأَمَّا " الشَّامِيُّونَ " فَكَانَ غَالِبُهُمْ مُجَاهِدِينَ وَأَهْلَ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ أَقْرَبَ إلَى الْحَالِ الْمَشْرُوعِ مِنْ صُوفِيَّةِ الْبَصْرِيِّينَ إذْ ذَاكَ . وَلِهَذَا تَجِدُ كُتُبَ " الْكَلَامِ ؛ وَالتَّصَوُّفِ " إنَّمَا خَرَجَتْ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْبَصْرَةِ . فَمُتَكَلِّمَةُ الْمُعْتَزِلَةِ أَئِمَّتُهُمْ بَصْرِيُّونَ : مِثْلُ أَبِي الهذيل الْعَلَّافِ وَأَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ . . . (1) وَأَبِي الْحُسَيْنِ ،
الْبَصْرِيِّ وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ : كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ ؛ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَصَاحِبِهِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَاهِلِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ كُتُبُ " الْمُتَصَوِّفَةِ وَمَنْ خَلَطَ التَّصَوُّفَ بِالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ " كَكُتُبِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ المحاسبي وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَعْرَابِيِّ وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ . وَقَدْ شَرَكَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ والْخُراسانِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ خَلْقٌ . لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ الْأُصُولَ مِنْ ثَمَّ . كَمَا أَنَّ " عِلْمَ النُّبُوَّةِ " مِنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ ؛ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ إنَّمَا خَرَجَتْ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا جُمْهُورُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الْحَرَمَانِ وَالْعِرَاقَانِ وَالشَّامُ : الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ وَالْكُوفَةُ وَالْبَصْرَةُ وَالشَّامُ وَسَائِرُ الْأَمْصَارِ تَبَعٌ . فَالْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ ؛ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَثْبَتُهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ كَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وكقتادة وَشُعْبَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ .
وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فِيهِمْ الصَّادِقُ وَالْكَاذِبُ . وَأَهْلُ الشَّامِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَثِيرٌ كَاذِبٌ وَلَا أَئِمَّةٌ كِبَارٌ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ فَمَالِكٌ عَالِمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ . وَابْنُ جريج وَغَيْرُهُ . مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ؛ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْأَوْزَاعِي وَطَبَقَتُهُ بِالشَّامِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَالِكًا إنَّمَا احْتَذَى مُوَطَّأَهُ . عَلَى كِتَابِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَقِيلَ : إنَّ كِتَابَ ابْنِ جريج قَبْلَ ذَلِكَ . ثُمَّ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَكِّيًّا فَإِنَّهُ تَفَقَّهَ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ غَيْرَ مُتَقَيِّدٍ بِمِصْرِهِ . وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : وَإِنْ كَانَ أَجْدَادُهُ بَصْرِيِّينَ فَإِنَّهُ تَفَقَّهَ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ غَيْرَ مُتَقَيِّدٍ بِالْبَصْرِيِّينَ وَلَا غَيْرِهِمْ . كَمَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الخُراسانِيِّينَ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " صَفْوَةِ الصَّفْوَةِ " . فَالْعِلْمُ الْمَشْرُوعُ وَالنُّسُكُ الْمَشْرُوعُ مَأْخُوذٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَا جَاءَ عَمَّنْ بَعْدَهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ
أَصْلًا وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَعْذُورًا بَلْ مَأْجُورًا لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ . فَمَنْ بَنَى الْكَلَامَ فِي الْعِلْمِ : الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ السَّابِقِينَ فَقَدْ أَصَابَ طَرِيقَ النُّبُوَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ بَنَى الْإِرَادَةَ وَالْعِبَادَةَ وَالْعَمَلَ وَالسَّمَاعَ الْمُتَعَلِّقَ بِأُصُولِ الْأَعْمَالِ وَفُرُوعِهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَالْهَدْيِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَقَدْ أَصَابَ طَرِيقَ النُّبُوَّةِ وَهَذِهِ طَرِيقُ أَئِمَّةِ الْهُدَى . تَجِدُ " الْإِمَامَ أَحْمَدَ " إذَا ذَكَرَ أُصُولَ السُّنَّةِ قَالَ : هِيَ التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَتَبَ كُتُبَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَكَتَبَ الْحَدِيثَ وَالْآثَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَعَلَى ذَلِكَ يَعْتَمِدُ فِي أُصُولِهِ الْعِلْمِيَّةِ وَفُرُوعِهِ حَتَّى قَالَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى خَلِيفَةِ وَقْتِهِ " الْمُتَوَكِّلِ " : لَا أُحِبُّ الْكَلَامَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَوْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِيهِ غَيْرُ مَحْمُودٍ .
وَكَذَلِكَ فِي " الزُّهْدِ " و " الرِّقَاقِ " و " الْأَحْوَالِ " فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ فِي " كِتَابِ الزُّهْدِ " عَلَى الْمَأْثُورِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ آدَمَ إلَى مُحَمَّدٍ ثُمَّ عَلَى طَرِيقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ بَعْدَهُمْ وَكَذَلِكَ وَصْفُهُ لِآخِذِ الْعِلْمِ أَنْ يَكْتُبَ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَنْ الصَّحَابَةِ ثُمَّ عَنْ التَّابِعِينَ . - وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى - ثُمَّ أَنْتَ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ . وَلَهُ كَلَامٌ فِي " الْكَلَامِ الْكَلَامِيِّ " . و " الرَّأْيِ الْفِقْهِيِّ " وَفِي " الْكُتُبِ الصُّوفِيَّةِ " و " السَّمَاعِ الصُّوفِيِّ " لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . يَحْتَاجُ تَحْرِيرُهُ إلَى تَفْصِيلٍ وَتَبْيِينِ كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ . فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَقْتَرِنُ بِالْحَسَنَاتِ سَيِّئَاتٌ إمَّا مَغْفُورَةٌ أَوْ غَيْرُ مَغْفُورَةٍ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى السَّالِكِ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَحْضَةِ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْمُحْدَثِ لِعَدَمِ الْقَائِمِ بِالطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا . فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ النُّورُ الصَّافِي بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا النُّورُ الَّذِي لَيْسَ بِصَافٍ . وَإِلَّا بَقِيَ الْإِنْسَانُ فِي الظُّلْمَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعِيبَ الرَّجُلُ وَيَنْهَى عَنْ نُورٍ فِيهِ ظُلْمَةٌ . إلَّا إذَا حَصَلَ نُورٌ لَا ظُلْمَةَ فِيهِ وَإِلَّا فَكَمْ مِمَّنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ النُّورِ بِالْكُلِّيَّةِ إذَا خَرَجَ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ ؛ لِمَا رَآهُ فِي طُرُقِ النَّاسِ مِنْ الظُّلْمَةِ .
وَإِنَّمَا قَرَّرْت هَذِهِ " الْقَاعِدَةَ " لِيُحْمَلَ ذَمُّ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ لِلشَّيْءِ عَلَى مَوْضِعِهِ وَيُعْرَفَ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ كَمَالِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا : تَارَةً يَكُونُ لِتَقْصِيرِ بِتَرْكِ الْحَسَنَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَارَةً بِعُدْوَانِ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَلَبَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ قُدْرَةٍ . " فَالْأَوَّلُ " قَدْ يَكُونُ لِعَجْزِ وَقُصُورٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ قُدْرَةٍ وَإِمْكَانٍ . و " الثَّانِي " : قَدْ يَكُونُ مَعَ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غِنًى وَسَعَةٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاجِزِ عَنْ كَمَالِ الْحَسَنَاتِ وَالْمُضْطَرِّ إلَى بَعْضِ السَّيِّئَاتِ مَعْذُورٌ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } - فِي الْبَقَرَةِ وَالطَّلَاقِ (1) - وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَقَالَ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } وَقَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَالَ : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَقَالَ : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ .
وَهَذَا
أَصْلٌ عَظِيمٌ : وَهُوَ : أَنْ تَعْرِفَ الْحَسَنَةَ فِي نَفْسِهَا عِلْمًا
وَعَمَلًا سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً . وَتَعْرِفَ
السَّيِّئَةَ فِي نَفْسِهَا عِلْمًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا مَحْظُورَةً كَانَتْ أَوْ
غَيْرَ مَحْظُورَةٍ - إنْ سُمِّيَتْ غَيْرُ الْمَحْظُورَةِ سَيِّئَةً - وَإِنَّ
الدِّينَ تَحْصِيلُ الْحَسَنَاتِ وَالْمَصَالِحِ وَتَعْطِيلُ السَّيِّئَاتِ
وَالْمَفَاسِدِ . وَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ
أَوْ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ الْأَمْرَانِ فَالذَّمُّ وَالنَّهْيُ وَالْعِقَابُ
قَدْ يَتَوَجَّهُ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ أَحَدُهُمَا فَلَا يَغْفُلُ عَمَّا فِيهِ
مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ كَمَا يَتَوَجَّهُ الْمَدْحُ وَالْأَمْرُ وَالثَّوَابُ
إلَى مَا تَضَمَّنَهُ أَحَدُهُمَا فَلَا يَغْفُلُ عَمَّا فِيهِ مِنْ النَّوْعِ
الْآخَرِ وَقَدْ يُمْدَحُ الرَّجُلُ بِتَرْكِ بَعْضِ السَّيِّئَاتِ الْبِدْعِيَّةِ
والفجورية لَكِنْ قَدْ يُسْلَبُ مَعَ ذَلِكَ مَا حُمِدَ بِهِ غَيْرُهُ عَلَى
فِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ السُّنِّيَّةِ الْبَرِّيَّةِ . فَهَذَا طَرِيقُ الْمُوَازَنَةِ
وَالْمُعَادَلَةِ وَمَنْ سَلَكَهُ كَانَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ الَّذِي أَنْزَلَ
اللَّهُ لَهُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ .
فَصْل :
ثُمَّ الْمُتَقَدِّمُونَ الَّذِينَ وَضَعُوا طُرُقَ " الرَّأْيِ " وَ
" الْكَلَامِ " و " التَّصَوُّفِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ : كَانُوا
يَخْلِطُونَ ذَلِكَ بِأُصُولِ مِنْ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ إذْ الْعَهْدُ قَرِيبٌ . وَأَنْوَارُ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ بَعْدُ فِيهَا ظُهُورٌ وَلَهَا بُرْهَانٌ عَظِيمٌ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ اخْتَلَطَ نُورُهَا بِظُلْمَةِ غَيْرِهَا . فَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ جَرَّدَ مَا وَضَعَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ . مِثْلُ مَنْ صَنَّفَ فِي " الْكَلَامِ " مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا الْأُصُولَ الْمُبْتَدَعَةَ وَأَعْرَضَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَعَلَهُمَا إمَّا فَرْعَيْنِ أَوْ آمَنَ بِهِمَا مُجْمَلًا أَوْ خَرَجَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى نَوْعٍ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَمُتَقَدِّمُو الْمُتَكَلِّمِينَ خَيْرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ . وَكَذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي " الرَّأْيِ " فَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا رَأْيَ مَتْبُوعِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَزَنَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى رَأْيِ مَتْبُوعِهِ كَكَثِيرِ مِنْ أَتْبَاعِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي " التَّصَوُّفِ " و " الزُّهْدِ " جَعَلَ الْأَصْلَ مَا رُوِيَ عَنْ مُتَأَخِّرِي الزُّهَّادِ - وَأَعْرَضَ عَنْ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ " الرِّسَالَةِ " أَبُو الْقَاسِمِ القشيري وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي وَابْنُ خَمِيسٍ الموصلي فِي " مَنَاقِبِ الْأَبْرَارِ " ؛ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي تَارِيخِ الصُّوفِيَّةِ لَكِنْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَنَّفَ أَيْضًا " سِيَرَ السَّلَفِ " مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَسِيَرَ الصَّالِحِينَ مِنْ السَّلَفِ كَمَا صَنَّفَ فِي سِيَرِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْخَلَفِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِمْ لِأَخْبَارِ أَهْلِ
" الزُّهْدِ وَالْأَحْوَالِ " مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مِنْ عِنْدِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ ا لداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ حَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ نَطَقَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِمَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالرِّضْوَانِ عَنْهُمْ . وَكَانَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني فِي " الْحِلْيَةِ " مِنْ ذِكْرِهِ لِلْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين . وَكَذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " صَفْوَةِ الصَّفْوَةِ " وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ التيمي فِي " سِيَرِ السَّلَفِ " . . . (1) ، وَكَذَلِكَ ابْنُ أَسَدِ بْنِ مُوسَى إنْ لَمْ يَصْعَدُوا إلَى طَرِيقَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ . وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . وَهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ وَغَيْرِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ فِي الزُّهْدِ فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ . فَإِنَّ مَعْرِفَةَ أُصُولِ الْأَشْيَاءِ وَمَبَادِئِهَا وَمَعْرِفَةَ الدِّينِ وَأَصْلِهِ وَأَصْلِ مَا تَوَلَّدَ فِيهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُلُومِ نَفْعًا . إذْ الْمَرْءُ مَا لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ حَسَكَةٌ . وَكَانَ " لِلزُّهَّادِ " عِدَّةُ أَسْمَاءٍ : يُسَمَّوْنَ بِالشَّامِ " الجوعية " وَيُسَمَّوْنَ بِالْبَصْرَةِ " الفقرية " و " الْفِكْرِيَّةَ " وَيُسَمَّوْنَ بِخُرَاسَانَ " الْمَغَارِبَةَ " وَيُسَمَّوْنَ أَيْضًا " الصُّوفِيَّةَ وَالْفُقَرَاءَ " .
وَالنِّسْبَةُ فِي " الصُّوفِيَّةِ " إلَى الصُّوفِ ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ لِبَاسِ الزُّهَّادِ . وَقَدْ قِيلَ هُوَ نِسْبَةٌ إلَى " صُوفَةَ " بْنِ مُرَ بْنِ أد بْنِ طَابِخَةَ قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يُجَاوِرُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : هُمْ نِسْبَةٌ إلَى " الصُّفَّةِ " فَقَدْ قِيلَ : كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ : صفية وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : نِسْبَةً إلَى الصَّفَا ؛ قِيلَ لَهُ : كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ : صَفَائِيَّةٌ . وَلَوْ كَانَ مَقْصُورًا لَقِيلَ صفوية ؛ وَإِنْ نُسِبَ إلَى الصَّفْوَةِ قِيلَ : صَفْوِيَّةٌ . وَمَنْ قَالَ : نِسْبَةً إلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ . قِيلَ لَهُ : كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ : صفية وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ وَالْإِضَافَةَ ؛ إذَا أُعْطِيَ الِاسْمُ حَقَّهُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ . لَكِنَّ " التَّحْقِيقَ " أَنَّ هَذِهِ النِّسَبَ إنَّمَا أُطْلِقَتْ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ وَالْأَوْسَطِ دُونَ الِاشْتِقَاقِ الْأَصْغَرِ ؛ كَمَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ " الْعَامَّةُ " اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَمَى ؛ فَرَاعَوْا الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُرُوفِ دُونَ التَّرْتِيبِ وَهُوَ الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ أَوْ الِاشْتِرَاكَ فِي جِنْسِ الْحُرُوفِ دُونَ أَعْيَانِهَا وَهُوَ الْأَكْبَرُ . وَعَلَى الْأَوْسَطِ قَوْلُ نُحَاةِ الْكُوفِيِّينَ " الِاسْمُ " مُشْتَقٌّ مِنْ السِّمَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ الصُّوفِيُّ مِنْ " الصَّفَا " وَأَمَّا إذَا قِيلَ هُوَ مِنْ " الصُّفَّةِ " أَوْ " الصَّفِّ " فَهُوَ عَلَى الْأَكْبَرِ . وَقَدْ تَكَلَّمَ بِهَذَا الِاسْمِ قَوْمٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ : كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ .
وَقَدْ تَكَلَّمَ بِهِ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني وَغَيْرُهُ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَالْمَنْقُولُ عَنْهُ ذَمُّ الصُّوفِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَالِكٌ - فِيمَا أَظُنُّ - وَقَدْ خَاطَبَ بِهِ أَحْمَد لِأَبِي حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيِّ وَلِيُوسُفَ بْنِ الْحُسَيْنِ الرَّازِي وَلِبَدْرِ بْنِ أَبِي بَدْرٍ المغازلي وَقَدْ ذَمَّ طَرِيقَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِنْ الْعُبَّادِ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْعُبَّادِ وَمَدَحَهُ آخَرُونَ . و " التَّحْقِيقُ " فِيهِ : أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ وَالْمَذْمُومِ كَغَيْرِهِ . مِنْ الطَّرِيقِ وَأَنَّ الْمَذْمُومَ مِنْهُ قَدْ يَكُونُ اجْتِهَادِيًّا وَقَدْ لَا يَكُونُ وَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْفُقَهَاءِ فِي " الرَّأْيِ " فَإِنَّهُ قَدْ ذَمَّ الرَّأْيَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ و " الْقَاعِدَةُ " الَّتِي قَدَّمْتهَا تَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَفِي الْمُتَسَمِّينَ بِذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَصَفْوَتِهِ وَخِيَارِ عِبَادِهِ مَا لَا يُحْصَى عَدُّهُ . كَمَا فِي أَهْلِ " الرَّأْيِ " مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ مَذْمُومَةً كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْبِدَعُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ . وَقَدْ كَتَبْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } مُتَعَيِّنٌ وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ وَأَنَّ مَنْ أَخَذَ يُصَنِّفُ " الْبِدَعَ " إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ
ذَرِيعَةً إلَى أَلَا يُحْتَجَّ بِالْبِدْعَةِ عَلَى النَّهْيِ فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا يَفْعَلُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ ؛ إذَا نُهُوا عَنْ " الْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ . " و " الْكَلَامِ فِي التَّدَيُّنِ الْمُبْتَدَعِ " ادَّعَوْا أَنْ لَا بِدْعَةَ مَكْرُوهَةٌ إلَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ فَيَعُودُ الْحَدِيثُ إلَى أَنْ يُقَالَ : " كُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ " أَوْ " كُلُّ مَا حُرِّمَ " أَوْ " كُلُّ مَا خَالَفَ نَصَّ النُّبُوَّةِ فَهُوَ ضَلَالَةٌ " وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ بَلْ كُلُّ مَا لَمْ يُشْرَعْ مِنْ الدِّينِ فَهُوَ ضَلَالَةٌ . وَمَا سُمِّيَ " بِدْعَةً " وَثَبَتَ حُسْنُهُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَأَحَدُ " الْأَمْرَيْنِ " فِيهِ لَازِمٌ : إمَّا أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ بِبِدْعَةِ فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى بِدْعَةً مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ . كَمَا قَالَ عُمَرُ : " نِعْمَت الْبِدْعَةُ هَذِهِ " وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هَذَا عَامٌّ خُصَّتْ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةُ لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ كَمَا يَبْقَى فِيمَا عَدَاهَا عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ كَسَائِرِ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَهَذَا قَدْ قَرَّرْته فِي " اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " وَفِي " قَاعِدَةِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ " وَغَيْرِهِ . وَإِنَّمَا " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ مَا ثَبَتَ قُبْحُهُ مِنْ الْبِدَعِ وَغَيْرِ الْبِدَعِ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذَا صَدَرَ عَنْ شَخْصٍ مِنْ الْأَشْخَاصِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُعْذَرُ فِيهِ ؛ إمَّا
لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ يُعْذَرُ فِيهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَرَّرْته أَيْضًا فِي أَصْلِ " التَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ " الْمَبْنِيِّ عَلَى أَصْلِ الْوَعِيدِ . فَإِنَّ نُصُوصَ " الْوَعِيدِ " الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَنُصُوصَ الْأَئِمَّةِ بِالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُسْتَلْزَمُ ثُبُوتُ مُوجَبِهَا فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ . هَذَا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْوَعِيدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ وَغَضَبِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَالِدٌ فِي النَّارِ أَوْ غَيْرُ خَالِدٍ وَأَسْمَاءُ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ " الْقَاعِدَةِ " سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ بِدْعَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ أَوْ عِبَادِيَّةٍ أَوْ بِسَبَبِ فُجُورٍ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْفِسْقُ بِالْأَعْمَالِ . فَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ جِهَادَ الْكُفَّارِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِدَعْوَتِهِمْ ؛ إذْ لَا عَذَابَ إلَّا عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الرِّسَالَةُ وَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ الْفُسَّاقِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ .
وَهُنَا
قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا :
وَهُوَ أَنَّ مَا عَادَ مِنْ الذُّنُوبِ بِإِضْرَارِ الْغَيْرِ فِي دِينِهِ
وَدُنْيَاهُ فَعُقُوبَتُنَا لَهُ فِي الدُّنْيَا أَكْبَرُ وَأَمَّا مَا عَادَ مِنْ
الذُّنُوبِ بِمَضَرَّةِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ فِي
الْآخِرَةِ أَشَدَّ وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ لَا نُعَاقِبُهُ فِي الدُّنْيَا .
وَإِضْرَارُ الْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ هُوَ ظُلْمُ النَّاسِ ؛
فَالظُّلْمُ لِلْغَيْرِ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لَا
مَحَالَةَ لِكَفِّ ظُلْمِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ ثُمَّ هُوَ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : مَنْعُ مَا يَجِبُ لَهُمْ مِنْ الْحُقُوقِ وَهُوَ التَّفْرِيطُ .
والثَّانِي : فِعْلُ مَا يَضُرُّ بِهِ وَهُوَ الْعُدْوَانُ . فَالتَّفْرِيطُ فِي
حُقُوقِ الْعِبَادِ . . . (1)
وَلِهَذَا يُعَاقَبُ الدَّاعِيَةُ إلَى الْبِدَعِ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ السَّاكِتُ وَيُعَاقَبُ مَنْ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ مَنْ اسْتَخْفَى بِهِ وَنُمْسِكُ عَنْ عُقُوبَةِ الْمُنَافِقِ فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ الَّذِي يَجْزِي النَّاسَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ يَجْزِيهِمْ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا . وَأَمَّا نَحْنُ فَعُقُوبَتُنَا لِلْعِبَادِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ بِحَسَبِ إمْكَانِنَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَقَالَ : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } . وَلِهَذَا مَنْ تَابَ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُحَارِبِينَ وَسَائِرِ الْفُسَّاقِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ الَّتِي لِحَقِّ اللَّهِ ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ عَصَمَ دَمَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ ، وَكَذَلِكَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقُ وَالشَّارِبُ إذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّوْبَةِ وَأَمَّا إذَا تَابُوا بَعْدَ الْقُدْرَةِ لَمْ تَسْقُطْ الْعُقُوبَةُ كُلُّهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْحُدُودِ وَحُصُولِ الْفَسَادِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهَا ؛ وَلِهَذَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ عِنْدَ الْقِتَالِ صَحَّ إسْلَامُهُ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْأَسْرِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ اسْتِرْقَاقُهُ وَإِنْ عُصِمَ دَمُهُ . وَيُبْنَى عَلَى هَذِهِ " الْقَاعِدَةِ " : أَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِلَا عُقُوبَةٍ مَنْ يَكُونُ عَذَابُهُ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ : كَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَاَلَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَالْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ ظَاهِرًا مَعَ نِفَاقِهِمْ ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كَفُّوا ضَرَرَهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُعَاقَبُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَأَمَّا مَنْ أَظْهَرَ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ فَإِنَّهُ تُدْفَعُ مَضَرَّتُهُ وَلَوْ بِعِقَابِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَاسِقًا أَوْ عَاصِيًا أَوْ عَدْلًا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا بَلْ صَالِحًا أَوْ عَالِمًا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ وَالْمُمْتَنِعُ . مِثَالُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ إنَّمَا يُعَاقَبُ مَنْ أَظْهَرَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَقَطْعَ الطَّرِيقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُدْوَانِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَإِنْ كَانَ مَعَ هَذَا حَالُ الْفَاسِقِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرًا مِنْ حَالِ أَهْلِ الْعَهْدِ الْكُفَّارِ وَمِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ ؛ إذْ الْفَاسِقُ خَيْرٌ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَكَذَلِكَ يُعَاقَبُ مَنْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ تَضُرُّ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا فِيهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ .
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ قِتَالُ " الْبُغَاةِ " : وَهُمْ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِ الْإِمَامِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ مَعَ كَوْنِهِمْ عُدُولًا وَمَعَ كَوْنِنَا نُنَفِّذُ أَحْكَامَ قَضَائِهِمْ وَنُسَوِّغُ مَا قَبَضُوهُ . مِنْ جِزْيَةٍ أَوْ خَرَاجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . إذْ الصَّحَابَةُ لَا خِلَافَ فِي بَقَائِهِمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَذَلِكَ أَنَّ التَّفْسِيقَ انْتَفَى لِلتَّأْوِيلِ السَّائِغِ . وَأَمَّا الْقِتَالُ : فَلِيُؤَدُّوا مَا تَرَكُوهُ مِنْ الْوَاجِبِ وَيَنْتَهُوا عَمَّا ارْتَكَبُوهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَإِنْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ . وَكَذَلِكَ نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ وَإِنْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فَتَدَبَّرْ كَيْفَ عُوقِبَ أَقْوَامٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ بَيِّنٍ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِيهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ فِعْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ تَابَ بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَكَمَا يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِنْ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ إذْ خُسِفَ بِهِمْ وَفِيهِمْ الْمُكْرَهُ فَيُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ ، وَكَمَا يُقَاتِلُ جُيُوشُ الْكُفَّارِ وَفِيهِمْ الْمُكْرَهُ كَأَهْلِ بَدْرٍ لَمَّا كَانَ فِيهِمْ الْعَبَّاسُ وَغَيْرُهُ ، وَكَمَا لَوْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَنْدَفِعْ ضَرَرُ الْكُفَّارِ إلَّا بِقِتَالِهِمْ فَالْعُقُوبَاتُ الْمَشْرُوعَةُ وَالْمَقْدُورَةُ قَدْ تَتَنَاوَلُ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي الْآخِرَةِ وَتَكُونُ فِي حَقِّهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَائِبِ كَمَا قِيلَ فِي بَعْضِهِمْ : الْقَاتِلُ مُجَاهِدٌ وَالْمَقْتُولُ شَهِيدٌ . وَعَلَى هَذَا فَمَا أَمَرَ بِهِ آخِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ دَاعِيَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ
يُهْجَرُ فَلَا يُسْتَشْهَدُ وَلَا يُرْوَى عَنْهُ وَلَا يُسْتَفْتَى وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ هَجْرَهُ تَعْزِيرٌ لَهُ وَعُقُوبَةٌ لَهُ جَزَاءً لِمَنْعِ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ بِدْعَةٌ أَوْ غَيْرُهَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ تَائِبًا أَوْ مَعْذُورًا ؛ إذْ الْهِجْرَةُ مَقْصُودُهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا تَرْكُ الذُّنُوبِ الْمَهْجُورَةِ وَأَصْحَابِهَا وَإِمَّا عُقُوبَةُ فَاعِلِهَا وَنَكَالُهُ . فَأَمَّا هَجْرُهُ بِتَرْكِ . . . (1) فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ هَجْرُ الْإِمَامِ أَحْمَد لِلَّذِينَ أَجَابُوا فِي الْمِحْنَةِ قَبْلَ الْقَيْدِ وَلِمَنْ تَابَ بَعْدَ الْإِجَابَةِ وَلِمَنْ فَعَلَ بِدْعَةً مَا ؛ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ أَئِمَّةً فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْعِبَادَةِ ؛ فَإِنَّ هَجْرَهُ لَهُمْ وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ لَا يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ قَدْرِ فَضْلِهِمْ كَمَا أَنَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ السَّوَابِقِ . حَتَّى قَدْ قِيلَ إنَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا شَهِدَا بَدْرًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ وَأَحَدُهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ شَاعِرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَدُ أَهْلِ الْعَقَبَةِ فَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " أَنَّ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا الْمَشْرُوعَةَ مِنْ الْهِجْرَانِ إلَى الْقَتْلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُعَاقَبُ عَدْلًا أَوْ رَجُلًا صَالِحًا كَمَا بَيَّنْت مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا الْمَشْرُوعَةِ وَالْمَقْدُورَةِ ؛ وَبَيْنَ عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
:
وَمِمَّا يُنَاسِبُ " هَذَا الْبَابَ " قَوْلُهُمْ : فُلَانٌ يَسْلَمُ
إلَيْهِ حَالُهُ أَوْ لَا يَسْلَمُ إلَيْهِ حَالُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا كَثِيرًا مَا
يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ فِيمَا قَدْ يَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ
وَالْفُقَرَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِنْ أُمُورٍ يُقَالُ : إنَّهَا تُخَالِفُ
الشَّرِيعَةَ فَمَنْ يَرَى أَنَّهَا مُنْكَرَةٌ وَأَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ مِنْ
الدِّينِ يُنْكِرُ تِلْكَ الْأُمُورَ وَيُنْكِرُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَعَلَى
مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ وَيُبْغِضُهُ وَيَذُمُّهُ وَيُعَاقِبُهُ وَمَنْ رَأَى
مَا فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ مِنْ صَلَاحٍ وَعِبَادَةٍ : كَزُهْدِ وَأَحْوَالٍ
وَوَرَعٍ وَعِلْمٍ لَا يُنْكِرُهَا بَلْ يَرَاهَا سَائِغَةً أَوْ حَسَنَةً أَوْ
يُعْرِضُ عَنْ ذَلِكَ . وَقَدْ يَغْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ : حَتَّى
يَخْرُجَ " بِالْأَوَّلِ " إنْكَارُهُ إلَى التَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ
فِي مَوَاطِنِ الِاجْتِهَادِ مُتَّبِعًا لِظَاهِرِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ
وَيَخْرُجُ " بِالثَّانِي إقْرَارُهُ إلَى الْإِقْرَارِ بِمَا يُخَالِفُ
دِينَ الْإِسْلَامِ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ
بِخِلَافِهِ اتِّبَاعًا فِي زَعْمِهِ لِمَا يُشْبِهُ قِصَّةَ مُوسَى وَالْخَضِرِ و
" الْأَوَّلُ " يَكْثُرُ فِي الموسوية وَمَنْ انْحَرَفَ مِنْهُمْ إلَى
يَهُودِيَّةٍ و " الثَّانِي " يَكْثُرُ فِي العيسوية وَمَنْ انْحَرَفَ
مِنْهُمْ إلَى نَصْرَانِيَّةٍ.
وَ (
الْأَوَّلُ ) كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي ذَوِي الْعِلْمِ لَكِنْ مَقْرُونًا
بِقَسْوَةِ وَهَوًى . و ( الثَّانِي ) : كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي ذَوِي
الرَّحْمَةِ لَكِنْ مَقْرُونًا بِضَلَالِ وَجَهْلٍ . فَأَمَّا " الْأُمَّةُ
الْوَسَطُ " : فَلَهُمْ الْعِلْمُ وَالرَّحْمَةُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ
نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } وَقَالَ : { إنَّمَا
إلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }
وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْعَبْدَ الَّذِي لَقِيَهُ مُوسَى حَيْثُ قَالَ : { آتَيْنَاهُ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } . وَالْعَدْلُ
فِي " هَذَا الْبَابِ " قَوْلًا وَفِعْلًا أَنَّ تَسْلِيمَ الْحَالِ لَهُ
مَعْنَيَانِ :
أَحَدُهُمَا : رَفْعُ اللَّوْمِ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا وَلَا
مَأْثُومًا . . . (1) .
وَالثَّانِي : تَصْوِيبُهُ عَلَى مَا فَعَلَ بِحَيْثُ يَكُونُ مَحْمُودًا
مَأْجُورًا . " فَالْأَوَّلُ " عَدَمُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ . و "
الثَّانِي " : وُجُودُ الْحَمْدِ وَالثَّوَابِ . " الْأَوَّلُ " :
عَدَمُ سَخَطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ و " الثَّانِي " : وُجُودُ رِضَاهُ
وَثَوَابِهِ . وَلِهَذَا
تَجِدُ الْمُنْكِرِينَ غَالِبًا فِي إثْبَاتِ السَّخَطِ وَالذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَالْمُقِرِّينَ فِي إثْبَاتِ الرِّضَا وَالْحَمْدِ وَالثَّوَابِ وَكِلَاهُمَا قَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا وَيَكُونُ الصَّوَابُ فِي " أَمْرٍ ثَالِثٍ وَسَطٍ " وَهُوَ أَنَّهُ لَا حَمْدَ وَلَا ذَمَّ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ . وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الصَّادِرَ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِحَيْثُ يَكُونُ قَوْلًا بَاطِلًا أَوْ عَمَلًا مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ يُعْذَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : عَدَمُ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ . و ( الثَّانِي ) عَدَمُ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَقِّ الْمَشْرُوعِ . مِثَالُ ( الْأَوَّلِ ) : أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَالِ مُولَهًا مَجْنُونًا قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَهَذَا إذَا قِيلَ فِيهِ : يَسْلَمُ لَهُ حَالُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُذَمُّ وَلَا يُعَاقَبُ ؛ لَا بِمَعْنَى تَصْوِيبِهِ فِيهِ ؛ كَمَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْمَجَانِينِ فَهُوَ صَحِيحٌ . وَإِنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَوَابٌ فَهَذَا خَطَأٌ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَالُ صَادِرًا عَنْهُ بِاجْتِهَادِ كَمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ . فَإِنَّ هَذَا إذَا قِيلَ : يَسْلَمُ إلَيْهِ حَالُهُ كَمَا يُقَالُ : يُقَرُّ عَلَى اجْتِهَادِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُذَمُّ وَلَا يُعَاقَبُ فَهُوَ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا إذَا قِيلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ صَوَابٌ أَوْ صَحِيحٌ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى تَصْوِيبِهِ . وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى تَصْوِيبِ الْقَائِلِ أَوْ الْفَاعِلِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ خَطَأٌ كَانَ تَسْلِيمُ حَالِهِ بِمَعْنَى رَفْعِ الذَّمِّ عَنْهُ لَا بِمَعْنَى إصَابَتِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا أُرِيدَ بِتَسْلِيمِ حَالِهِ وَإِقْرَارِهِ أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى حُكْمِهِ فَلَا يُنْقَضُ أَوْ عَلَى فُتْيَاهُ فَلَا تُنْكَرُ أَوْ عَلَى جَوَازِ اتِّبَاعِهِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ تَقْلِيدِهِ وَاتِّبَاعِهِ بِأَنَّ لِلْقَاصِرِينَ أَنْ يُقَلِّدُوا وَيَتَّبِعُوا مَنْ يَسُوغُ تَقْلِيدُهُ وَاتِّبَاعُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ أَنَّهُ خَطَأٌ لَكِنَّ بَعْضَ هَذَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ مُخَالَفَتُهُ لِلشَّرِيعَةِ . وَتَسْلِيمُ الْحَالِ فِي مِثْلِ هَذَا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ أَوْ عُرِفَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي طَرِيقِهِ وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ اجْتِهَادًا مِنْهُ فَهَذِهِ " ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ " يَسْلَمُ إلَيْهِ فِيهَا حَالُهُ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَخَفَاءِ الْحَقِّ عَلَيْهِ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ يُعْذَرُ بِهِ . وَمِثَالُ ( الثَّانِي ) : عَدَمُ قُدْرَتِهِ - أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْوَالِ مَا يَضْطَرُّهُ إلَى أَنْ يَخْرِقَ ثِيَابَهُ أَوْ يَلْطِمَ وَجْهَهُ أَوْ يَصِيحَ صِيَاحًا مُنْكَرًا أَوْ يَضْطَرِبَ اضْطِرَابًا شَدِيدًا . فَهَذَا إذَا عُرِفَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا وَأَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ سَلِمَ إلَيْهِ حَالُهُ وَإِنْ شُكَّ هَلْ هُوَ مَغْلُوبٌ أَوْ مُتَصَنِّعٌ فَإِنْ عُرِفَ مِنْهُ الصِّدْقُ قِيلَ هَذَا يَسْلَمُ إلَيْهِ حَالُهُ ،
وَإِنْ عُرِفَ كَذِبُهُ أُنْكِرَ عَلَيْهِ وَإِنْ شُكَّ فِيهِ تُوُقِّفَ فِي التَّسْلِيمِ وَالْإِنْكَارِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ كَمَا يُفْعَلُ بِمَنْ شَهِدَ شَهَادَةً أَوْ اُتُّهِمَ بِسَرِقَةِ . فَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُهُ وَعَدْلُهُ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَدُفِعَتْ إلَيْهِمْ وَإِنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ وَخِيَانَتُهُ رُدَّتْ الشَّهَادَةُ وَعُوقِبَ عَلَى السَّرِقَةِ . وَإِنْ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ تُوُقِّفَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ وَقَّافٌ مُتَبَيِّنٌ هَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ . وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ الْوَاجِبَاتِ مُظْهِرًا أَنَّهُ مَغْلُوبٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهَا : مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مُظْهِرًا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِهَا . كَمَا قَدْ يَعْتَرِي بَعْضَ الْمَصْعُوقِينَ مِنْ وَارِدِ خَوْفِ اللَّهِ أَوْ مَحَبَّتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْقُطُ تَمْيِيزُهُ فَلَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ فَهُوَ فِيمَا يَتْرُكُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ نَظِيرُ مَا يَرْتَكِبُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَتَسْلِيمُ الْحَالِ بِمَعْنَى عَدَمِ اللَّوْمِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ تَرْكُ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ مَلُومٌ . هَذَا فِيمَا يُعْلَمُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ بِلَا رَيْبٍ كَالشَّطَحَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ كَقَوْلِ ابْنِ هُودٍ : إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَصَبْت خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ ، وَكَوْنُ الشِّبْلِيِّ كَانَ يَحْلِقُ لِحْيَتَهُ وَيُمَزِّقُ ثِيَابَهُ حَتَّى أَدْخَلُوهُ الْمَارَسْتَانَ مَرَّتَيْنِ وَمَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ فَتَعَالَ إلَى قَبْرِي وَاسْتَغِثْ بِهِ وَكَتَرْكِ آخِرِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَلْفَ إمَامٍ صَالِحٍ لِكَوْنِهِ دَعَا لِسُلْطَانِ وَقْتِهِ وَسَمَّاهُ الْعَادِلَ ، وَتَرْكِ آخِرِ الصَّلَاةِ خَلْفَ إمَامٍ لِمَا كُوشِفَ بِهِ مِنْ حَدِيثِ نَفْسِهِ ، وَمَا يُحْكَى عَنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : إنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَتَرَكَ
أَحْوَالَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ . فَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُعْطَى حَقَّهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَلَمْ يَجُزْ اتِّبَاعُ أَحَدٍ فِي خِلَافِ ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَطَاعَتِهِ وَأَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ يُعْطَى عُذْرَهُ حَيْثُ عَذَرَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِأَنْ يَكُونَ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ أَوْ سَاقِطَ التَّمْيِيزِ أَوْ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا اجْتِهَادًا قَوْلِيًّا أَوْ عَمَلِيًّا أَوْ مَغْلُوبًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ بِلَا ذَنْبٍ فَعَلَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ بِلَا ذَنْبٍ فَعَلَهُ وَيَكُونُ هَذَا الْبَابُ نَوْعُهُ مَحْفُوظًا بِحَيْثُ لَا يُتَّبَعُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ شِرْعَةً وَلَا مِنْهَاجًا ؛ بَلْ لَا سَبِيلَ إلَى اللَّهِ وَلَا شِرْعَةَ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ خَالَفُوا بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَيُعْذَرُونَ وَلَا يُذَمُّونَ وَلَا يُعَاقَبُونَ . فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَفْعَالِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا مَنْ لَهُ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ لَا يُتَّبَعُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُذَمُّ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ قَطْعًا مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ
هِيَ
مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ
وَالْإِيمَانِ ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ قَدْ تَكُونُ قَطْعِيَّةً عِنْدَ بَعْضِ مَنْ
بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحَقَّ فِيهَا ؛ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُلْزِمَ
النَّاسَ بِمَا بَانَ لَهُ وَلَمْ يَبِنْ لَهُمْ فَيَلْتَحِقُ مِنْ وَجْهٍ
بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ . وَمِنْ وَجْهٍ بِالْقِسْمِ الثَّانِي . وَقَدْ تَكُونُ
اجْتِهَادِيَّةً عِنْدَهُ أَيْضًا فَهَذِهِ تَسْلَمُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ وَمَنْ
قَلَّدَهُ طَرِيقَهُمْ تَسْلِيمًا نَوْعِيًّا بِحَيْثُ لَا يُنْكَرُ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ كَمَا سَلِمَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ تَسْلِيمًا شَخْصِيًّا .
وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْلَمُ إلَيْهِ حَالُهُ : فَمِثْلُ أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ
أَنَّهُ عَاقِلٌ يَتَوَلَّهُ لِيَسْقُطَ عَنْهُ اللَّوْمُ كَكَثِيرِ مِنْ
الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الشَّيْخِ أَحْمَد بْنِ الرِّفَاعِيِّ و " اليونسية
" فِيمَا يَأْتُونَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتْرُكُونَهُ مِنْ
الْوَاجِبَاتِ أَوْ يُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّهُ يَتَوَاجَدُ وَيَتَسَاكَرُ فِي
وَجْدِهِ لِيُظَنَّ بِهِ خَيْرًا وَيُرْفَعَ عَنْهُ الْمَلَامُ فِيمَا يَقَعُ مِنْ
الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ أَوْ يُعْرَفَ مِنْهُ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ
وَأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ أَوْ يُعْرَفَ مِنْهُ تَجْوِيزُ الِانْحِرَافِ عَنْ
مُوجَبِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَأَنَّهُ قَدْ يَتَفَوَّهُ بِمَا
يُخَالِفُهَا وَأَنَّ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ الرَّسُولِ أَوْ
لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ أَوْ أَنْ يَجْرِيَ مَعَ الْقَدَرِ الْمَحْضِ الْمُخَالِفِ
لِلدِّينِ كَمَا يَحْكِي بَعْضُ الْكَذَّابِينَ الضَّالِّينَ : أَنَّ أَهْلَ
الصُّفَّةِ قَاتَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ
الْكُفَّارِ لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا : نَحْنُ مَعَ اللَّهِ ، مَنْ
غَلَبَ كُنَّا مَعَهُ ، وَأَنَّهُ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ سُمِعَ مِنْهُ مَا جَرَى
بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ الْمُنَاجَاةِ ،
وَأَنَّهُ تَوَاجَدَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى وَقَعَ الرِّدَاءُ عَنْهُ ، وَأَنَّ السِّرَّ الَّذِي أَوْصَى إلَيْهِ أَوْدَعَهُ فِي أَرْضٍ نَبَتَ فِيهَا الْيَرَاعُ فَصَارَ فِي الشَّبَّابَةِ بِمَعْنَى ذَلِكَ السِّرِّ ، أَوْ يَسُوغُ لِأَحَدِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ أَمْرِ مُوسَى فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَيْهِ كَمَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً . فَهَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ وَيَبِينُ لَهُ الْحَقُّ فَيُعْرِضُ عَنْهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا يُنْكَرُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْأَوَّلِينَ الْمَعْذُورِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ فَإِنَّ الْعُذْرَ الَّذِي قَامَ بِهِمْ مُنْتَفٍ فِي حَقِّهِ فَلَا وَجْهَ لِمُتَابَعَتِهِ فِيهِ . وَمَنْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ هُوَ . تُوُقِّفَ فِيهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ إنْ يُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ لَكِنْ لَا يُتَوَقَّفُ فِي رَدِّ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } . فَلَا يَسُوغُ الْخُرُوجُ عَنْ مُوجَبِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَسُوغُ الذَّمُّ وَالْعُقُوبَةُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَسُوغُ جَعْلُ الشَّيْءِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ صَوَابًا أَوْ خَطَأً بِالشُّبُهَاتِ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .
وَبَقِيَتْ هُنَا " الْمَسْأَلَةُ " الَّتِي تَشْتَبِهُ غَالِبًا وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ الْمَجْهُولِ الْحَالِ أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فِي الظَّاهِرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا فِيهِ عُذْرًا شَرْعِيًّا . مِثْلُ وَجْدٍ خَرَجَ فِيهِ عَنْ الشَّرْعِ لَا يُدْرَى أَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ أَمْ مُتَصَنِّعٌ وَأَخْذُ مَالٍ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فِي الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ طِيبَ قَلْبِ صَاحِبِهِ بِهِ فَهَذَا إنْ قِيلَ : يُنْكَرُ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا وَإِنْ قِيلَ : لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ ، لَزِمَ إقْرَارُ الْمَجْهُولِينَ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فِي الظَّاهِرِ فَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُخَاطَبَ صَاحِبُهُ أَوَّلًا بِرِفْقِ وَيُقَالَ لَهُ : هَذَا فِي الظَّاهِرِ مُنْكَرٌ وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَأَنْتَ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى نَفْسِك فَأَخْبِرْنَا بِحَالِك فِيهِ ، أَوْ لَا تُظْهِرْهُ حَيْثُ يَكُونُ إظْهَارُهُ فِتْنَةً وَتَسْلُكُ فِي ذَلِكَ طَرِيقَةً لَا تُفْضِي إلَى إقْرَارِ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا لَوْمِ الْبُرَآءِ . وَالضَّابِطُ أَنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ أُقِرَّ عَلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ وَحَرَامٌ وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْكَذِبُ أَوْ الْخِيَانَةُ لَمْ يُقَرَّ عَلَى الْمَجْهُولِ وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَيُتَوَقَّفُ فِيهِ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَقِيَّةُ
السَّلَفِ الْكِرَامِ الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ الْمَقْذُوفُ فِي قَلْبِهِ
النُّورُ الْقُرْآنِيُّ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي
قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ الْجِنَانِ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .
مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ .
وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا ، فَبَلَّغَ
الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ وَكَشَفَ الْغُمَّةَ
وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَعَبَدَ اللَّهَ مُخْلِصًا حَتَّى أَتَاهُ
الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
فَصْلٌ
:
فِي " الْعِبَادَاتِ " و " الْفَرْقُ بَيْنَ شَرْعِيِّهَا
وَبِدْعِيِّهَا " .
فَإِنَّ هَذَا بَابٌ كَثُرَ فِيهِ الِاضْطِرَابُ كَمَا كَثُرَ فِي بَابِ
الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، فَإِنَّ أَقْوَامًا اسْتَحَلُّوا بَعْضَ مَا حَرَّمَهُ
اللَّهُ وَأَقْوَامًا حَرَّمُوا بَعْضَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ
أَقْوَامًا أَحْدَثُوا عِبَادَاتٍ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ بَلْ نَهَى عَنْهَا .
و " أَصْلُ الدِّينِ " أَنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا
شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ } . وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَّ خَطًّا
وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ سَبِيلُ
اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو
إلَيْهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } } . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَغَيْرِهِمَا مَا ذَمَّ بِهِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَاسْتَحَلُّوا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ كَقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَمِنْهُ أَشْيَاءُ هِيَ مُحَرَّمَةٌ جَعَلُوهَا عِبَادَاتٍ كَالشِّرْكِ وَالْفَوَاحِشِ مِثْلِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ فِي " الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ " لَهُ مَوَاضِعُ أُخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا " الْعِبَادَاتُ " فَنَقُولُ . الْعِبَادَاتُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا مَا كَانَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَرْضِيًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا
فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْهَا فَرْضٌ وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَمِنْهَا نَافِلَةٌ كَقِيَامِ اللَّيْلِ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ فِيهِ فَرْضٌ وَهُوَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَمِنْهُ نَافِلَةٌ كَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَكَذَلِكَ السَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَرْضٌ وَإِلَى الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ : مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ - مُسْتَحَبٌّ . وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ مِنْهَا مَا هُوَ فَرْضٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الْعَفْوُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك إنْ تُنْفِقْ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَك وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لَك وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ } وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ . فَالْمَشْرُوعُ هُوَ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ سَبِيلُ اللَّهِ
وَهُوَ الْبِرُّ وَالطَّاعَةُ وَالْحَسَنَاتُ وَالْخَيْرُ وَالْمَعْرُوفُ وَهُوَ طَرِيقُ السَّالِكِينَ وَمِنْهَاجُ الْقَاصِدِينَ وَالْعَابِدِينَ وَهُوَ الَّذِي يَسْلُكُهُ كُلُّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَسَلَكَ طَرِيقَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَمَا يُسَمَّى بِالْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْمَشْرُوعَةُ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ الْمَشْرُوعُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَالْأَذْكَارُ وَالدَّعَوَاتُ الشَّرْعِيَّةُ . وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُوَقَّتًا بِوَقْتِ كَطَرَفَيْ النَّهَارِ وَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِسَبَبِ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَمَا وَرَدَ مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ الصِّيَامُ الشَّرْعِيُّ كَصِيَامِ نِصْفِ الدَّهْرِ وَثُلُثِهِ أَوْ ثُلُثَيْهِ أَوْ عُشْرِهِ وَهُوَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ كَالسَّفَرِ إلَى مَكَّةَ وَإِلَى الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِهَادُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَيَدْخُلُ فِيهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ . و " الْعِبَادَاتُ الدِّينِيَّةُ " أُصُولُهَا : الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي جَاءَ ذِكْرُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص لَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّك قُلْت لَأَصُومَنَّ
النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلَأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ ؟ قَالَ : بَلَى قَالَ : فَلَا تَفْعَلْ : فَإِنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ ثُمَّ أَمَرَهُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَقَالَ إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَانْتَهَى بِهِ إلَى صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ فَقَالَ : إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إذَا لَاقَى . وَأَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ } . وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ هِيَ الْمَعْرُوفَةَ قَالَ فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ : { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ } فَذَكَرَ اجْتِهَادَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَأَنَّهُمْ يَغْلُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَحْقِرَ الصَّحَابَةُ عِبَادَتَهُمْ فِي جَنْبِ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ . وَهَؤُلَاءِ غَلَوْا فِي الْعِبَادَاتِ بِلَا فِقْهٍ فَآلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى الْبِدْعَةِ فَقَالَ : { يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . أَيْنَمَا وَجَدْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَإِنَّهُمْ قَدْ اسْتَحَلُّوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ . وَجَاءَتْ فِيهِمْ الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَحَّ فِيهِمْ الْحَدِيثُ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَقَدْ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ قِطْعَةً مِنْهَا . ثُمَّ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ الثَّلَاثَةُ مَشْرُوعَةٌ ؛ وَلَكِنْ يَبْقَى الْكَلَامُ فِي الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ مِنْهَا ، وَلَهُ صُنِّفَ " كِتَابُ الِاقْتِصَادِ فِي الْعِبَادَةِ " . وَقَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ : اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ . وَالْكَلَامُ فِي سَرْدِ الصَّوْمِ وَصِيَامِ الدَّهْرِ سِوَى يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقِيَامِ جَمِيعِ اللَّيْلِ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ ؟ كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعُبَّادِ ، أَوْ هُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا ؟ لَكِنَّ صَوْمَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ أَفْضَلُ وَقِيَامُ ثُلُثِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ وَلِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي أَجْنَاسِ عِبَادَاتٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ كَالْخَلَوَاتِ فَإِنَّهَا تَشْتَبِهُ بِالِاعْتِكَافِ الشَّرْعِيِّ . وَالِاعْتِكَافُ الشَّرْعِيُّ فِي الْمَسَاجِدِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَمَّا الْخَلَوَاتُ فَبَعْضُهُمْ يَحْتَجُّ فِيهَا بِتَحَنُّثِهِ بِغَارِ حِرَاءٍ قَبْلَ الْوَحْيِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛
فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ إنْ كَانَ قَدْ شَرَعَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا . وَهُوَ مِنْ حِينِ نَبَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَصْعَدْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَارِ حِرَاءٍ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ . وَقَدْ أَقَامَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَدَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَامَ الْفَتْحِ أَقَامَ بِهَا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَتَاهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ؛ وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَ لَيَالٍ وَغَارُ حِرَاءٍ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَمْ يَقْصِدْهُ . وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا كَانُوا يَأْتُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُقَالُ : إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ هُوَ سَنَّ لَهُمْ إتْيَانَهُ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ فَهَذِهِ تُغْنِي عَنْ إتْيَانِ حِرَاءٍ بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ بَلْ { قَالَ لَهُ الْمَلَكُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقْرَأْ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَقُلْت لَسْت بِقَارِئِ } وَلَا كَانُوا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الصَّلَاةَ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا صَلَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ عَنْهَا مَنْ نَهَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَأَبِي جَهْلٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } { أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } { أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } { أَرَأَيْتَ إنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } { كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ } { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } { كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } و " طَائِفَةٌ " يَجْعَلُونَ الْخَلْوَةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَيُعَظِّمُونَ أَمْرَ الأربعينية
وَيَحْتَجُّونَ فِيهَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاعَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتَمَّهَا بِعَشْرِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَامَهَا وَصَامَ الْمَسِيحُ أَيْضًا أَرْبَعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَخُوطِبَ بَعْدَهَا . فَيَقُولُونَ يَحْصُلُ بَعْدَهَا الْخِطَابُ وَالتَّنَزُّلُ كَمَا يَقُولُونَ فِي غَارِ حِرَاءٍ حَصَلَ بَعْدَهُ نُزُولُ الْوَحْيِ . وَهَذَا أَيْضًا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ شُرِعَتْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا شُرِعَ لَهُ السَّبْتُ وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَسْبِتُونَ وَكَمَا حُرِّمَ فِي شَرْعِهِ أَشْيَاءُ لَمْ تُحَرَّمْ فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهَذَا تَمَسُّكٌ بِشَرْعِ مَنْسُوخٍ وَذَاكَ تَمَسُّكٌ بِمَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ . وَقَدْ جُرِّبَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةَ أَتَتْهُ الشَّيَاطِينُ وَحَصَلَ لَهُ تَنَزُّلٌ شَيْطَانِيٌّ وَخِطَابٌ شَيْطَانِيٌّ وَبَعْضُهُمْ يَطِيرُ بِهِ شَيْطَانُهُ وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَدَدًا طَلَبُوا أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ مَا حَصَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ التَّنَزُّلِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ ؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا . قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } { إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَحُدُّ لِلْخَلْوَةِ مَكَانًا وَلَا زَمَانًا بَلْ يَأْمُرُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَخْلُوَ فِي الْجُمْلَةِ .
ثُمَّ صَارَ أَصْحَابُ الْخَلَوَاتِ فِيهِمْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِجِنْسِ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ : الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ . وَأَكْثَرُهُمْ يَخْرُجُونَ إلَى أَجْنَاسٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ فَمِنْ ذَلِكَ طَرِيقَةُ أَبِي حَامِدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ وَهَؤُلَاءِ يَأْمُرُونَ صَاحِبَ الْخَلْوَةِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْفَرْضِ لَا قِرَاءَةً وَلَا نَظَرًا فِي حَدِيثٍ نَبَوِيٍّ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَأْمُرُونَهُ بِالذِّكْرِ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ مَا يَقُولُهُ أَبُو حَامِدٍ : ذِكْرُ الْعَامَّةِ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَذِكْرُ الْخَاصَّةِ : " اللَّه اللَّه " وَذِكْرُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ : " هُوَ " " هُوَ " . وَالذِّكْرُ بِالِاسْمِ الْمُفْرَدِ مُظْهَرًا وَمُضْمَرًا بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَخَطَأٌ فِي الْقَوْلِ وَاللُّغَةِ فَإِنَّ الِاسْمَ الْمُجَرَّدَ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا لَا إيمَانًا وَلَا كُفْرًا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَقَالَ : { أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ . وَأَمَّا ذِكْرُ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ فَبِدْعَةٌ لَمْ يُشْرَعْ وَلَيْسَ هُوَ بِكَلَامِ يُعْقَلُ وَلَا فِيهِ إيمَانٌ ؛ وَلِهَذَا صَارَ بَعْضُ مَنْ يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ
قَصْدُنَا ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ جَمْعَ الْقَلْبِ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى تَسْتَعِدَّ النَّفْسُ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهَا فَكَانَ يَأْمُرُ مُرِيدَهُ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الِاسْمَ مَرَّاتٍ فَإِذَا اجْتَمَعَ قَلْبُهُ أَلْقَى عَلَيْهِ حَالًا شَيْطَانِيًّا فَيَلْبِسُهُ الشَّيْطَانُ وَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَأَنَّهُ أُعْطِيَ مَا لَمْ يُعْطَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَلَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الطُّورِ وَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ وَقَعَ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ فِي زَمَانِنَا . وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ مَقْصُودُنَا إلَّا جَمْعَ النَّفْسِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ حَتَّى يَقُولَ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِك : يَا حَيُّ وَقَوْلِك يَا جَحْشُ . وَهَذَا مِمَّا قَالَهُ لِي شَخْصٌ مِنْهُمْ وَأَنْكَرْت ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ تَجْتَمِعَ النَّفْسُ حَتَّى يَتَنَزَّلَ عَلَيْهَا الشَّيْطَانُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إذَا كَانَ قَصْدٌ وَقَاصِدٌ وَمَقْصُودٌ فَاجْعَلْ الْجَمِيعَ وَاحِدًا فَيُدْخِلُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ . وَأَمَّا أَبُو حَامِدٍ وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ أَمَرُوا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَلَمْ يَكُونُوا يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْكُفْرِ - لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْبِدَعَ بَرِيدُ الْكُفْرِ - وَلَكِنْ أَمَرُوا الْمُرِيدَ أَنْ يُفَرِّغَ قَلْبَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى قَدْ يَأْمُرُوهُ أَنْ يَقْعُدَ فِي مَكَانٍ مُظْلِمٍ وَيُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَيَقُولَ : اللَّه اللَّه . وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إذَا فَرَّغَ قَلْبَهُ اسْتَعَدَّ بِذَلِكَ فَيَنْزِلُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بَلْ
قَدْ
يَقُولُونَ : إنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ لِلْأَنْبِيَاءِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ أَكْثَرُ مِمَّا حَصَلَ
لِلْأَنْبِيَاءِ ، وَأَبُو حَامِدٍ يُكْثِرُ مِنْ مَدْحِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي
" الْإِحْيَاءِ " وَغَيْرِهِ كَمَا أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي مَدْحِ الزُّهْدِ
وَهَذَا مِنْ بَقَايَا الْفَلْسَفَةِ عَلَيْهِ . فَإِنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ
كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ يَزْعُمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ فِي
الْقُلُوبِ مِنْ الْعِلْمِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ
الْعَقْلِ الْفَعَّالِ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ
فَإِذَا تَفَرَّغَ صَفَا قَلْبُهُ - عِنْدَهُمْ - وَفَاضَ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ
جِنْسِ مَا فَاضَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ . وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مُوسَى بْنَ
عِمْرَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّمَ مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ ؛ لَمْ
يَسْمَعْ الْكَلَامَ مِنْ خَارِجٍ فَلِهَذَا يَقُولُونَ إنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ
مِثْلُ مَا حَصَلَ لِمُوسَى وَأَعْظَمُ مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى . و أَبُو حَامِدٍ
يَقُولُ : إنَّهُ سَمِعَ الْخِطَابَ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ هُوَ بِالْخِطَابِ وَهَذَا كُلُّهُ لِنَقْصِ إيمَانِهِمْ
بِالرُّسُلِ وَأَنَّهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَكَفَرُوا
بِبَعْضِ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ " الْعَقْلَ الْفَعَّالَ
" بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
الثَّانِي : أَنَّ مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ يَكُونُ تَارَةً
بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ
إنْ
كَانَ حَقًّا وَتَارَةً بِوَاسِطَةِ الشَّيَاطِينِ إذَا كَانَ بَاطِلًا وَالْمَلَائِكَةُ
وَالشَّيَاطِينُ أَحْيَاءٌ نَاطِقُونَ كَمَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ
الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَمَا يَدَّعِي ذَلِكَ
مَنْ بَاشَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ . وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ صِفَاتٌ لِنَفْسِ الْإِنْسَانِ فَقَطْ . وَهَذَا
ضَلَالٌ عَظِيمٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ جَاءَتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ رَبِّهِمْ
بِالْوَحْيِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَرَّبَهُ وَنَادَاهُ
كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَا حَصَلَ لَهُمْ
مُجَرَّدُ فَيْضٍ كَمَا يَزْعُمُهُ هَؤُلَاءِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا فَرَّغَ قَلْبَهُ مِنْ كُلِّ خَاطِرٍ فَمِنْ
أَيْنَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِيهِ حَقٌّ ؟ هَذَا إمَّا أَنْ يُعْلَمَ
بِعَقْلِ أَوْ سَمْعٍ وَكِلَاهُمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الَّذِي قَدْ عُلِمَ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ أَنَّهُ إذَا
فَرَّغَ قَلْبَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَلَّتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ثُمَّ
تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ كَمَا كَانَتْ تَتَنَزَّلُ عَلَى الْكُهَّانِ
؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الدُّخُولِ إلَى قَلْبِ ابْنِ
آدَمَ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ فَإِذَا
خَلَا مِنْ ذَلِكَ تَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }
{ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ } وَقَالَ الشَّيْطَانُ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ : { قَالَ
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ
} وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا
مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَالْمُخْلَصُونَ هُمْ الَّذِينَ
يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا يُعْبَدُ اللَّهُ
بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ
تَوَلَّتْهُ الشَّيَاطِينُ . وَهَذَا بَابٌ دَخَلَ فِيهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ عَلَى
كَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ ؛ وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْأَحْوَالُ
الرَّحْمَانِيَّةُ بِالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَحَصَلَ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ
مَا يَحْصُلُ لِلْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِ
أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
السَّادِسُ : أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَوْ كَانَتْ حَقًّا فَإِنَّمَا تَكُونُ
فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَأْتِهِ رَسُولٌ فَأَمَّا مَنْ أَتَاهُ رَسُولٌ وَأُمِرَ
بِسُلُوكِ طَرِيقٍ فَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ . وَخَاتَمُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِعِبَادَاتِ شَرْعِيَّةٍ مِنْ صَلَاةٍ
وَذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَقِرَاءَةٍ لَمْ يَأْمُرْهُمْ قَطُّ بِتَفْرِيغِ الْقَلْبِ
مِنْ كُلِّ خَاطِرٍ وَانْتِظَارِ مَا يَنْزِلُ . فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَوْ
قُدِّرَ أَنَّهَا طَرِيقٌ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ لَكَانَتْ مَنْسُوخَةً بِشَرْعِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ وَهِيَ طَرِيقَةٌ
جَاهِلِيَّةٌ لَا تُوجِبُ الْوُصُولَ إلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا بِطَرِيقِ
الِاتِّفَاقِ بِأَنْ يَقْذِفَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ
الْعَبْدِ إلْهَامًا يَنْفَعُهُ ؟ وَهَذَا قَدْ يَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الطَّرِيقِ . وَلَكِنَّ التَّفْرِيغَ وَالتَّخْلِيَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ أَنْ يُفَرِّغَ قَلْبَهُ مِمَّا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَمْلَأَهُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ، فَيُفَرِّغُهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَيَمْلَؤُهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ يُفَرِّغُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ اللَّهِ وَيَمْلَؤُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ عَنْهُ خَوْفَ غَيْرِ اللَّهِ وَيُدْخِلُ فِيهِ خَوْفَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَنْفِي عَنْهُ التَّوَكُّلَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَيُثَبِّتُ فِيهِ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ . وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِيمَانِ الَّذِي يَمُدُّهُ الْقُرْآنُ وَيُقَوِّيهِ لَا يُنَاقِضُهُ وَيُنَافِيهِ كَمَا قَالَ جُنْدُبٌ وَابْنُ عُمَرَ : " تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا " . وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى الذِّكْرِ الْمُجَرَّدِ الشَّرْعِيِّ مِثْلِ قَوْلِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ - فَهَذَا قَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَحْيَانًا لَكِنْ لَيْسَ هَذَا الذِّكْرُ وَحْدَهُ هُوَ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَا عَدَاهُ بَلْ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ الذِّكْرُ ثُمَّ الدُّعَاءُ وَالْمَفْضُولُ فِي وَقْتِهِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ ثُمَّ قَدْ يُفْتَحُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْعَمَلِ الْمَفْضُولِ مَا لَا يُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ الْفَاضِلِ . وَقَدْ يُيَسَّرُ عَلَيْهِ هَذَا دُونَ هَذَا فَيَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَفْضَلِ كَالْجَائِعِ إذَا وَجَدَ الْخُبْزَ الْمَفْضُولَ مُتَيَسِّرًا عَلَيْهِ وَالْفَاضِلَ مُتَعَسِّرًا
عَلَيْهِ
فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْخُبْزِ الْمَفْضُولِ ، وَشِبَعُهُ وَاغْتِذَاؤُهُ
بِهِ حِينَئِذٍ أَوْلَى بِهِ .
السَّابِعُ : أَنَّ أَبَا حَامِدٍ يُشَبِّهُ ذَلِكَ بِنَقْشِ أَهْلِ الصِّينِ
وَالرُّومِ عَلَى تَزْوِيقِ الْحَائِطِ وَأُولَئِكَ صَقَلُوا حَائِطَهُمْ حَتَّى
تَمَثَّلَ فِيهِ مَا صَقَلَهُ هَؤُلَاءِ وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا
الَّذِي فَرَّغَ قَلْبَهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَلْبٌ آخَرُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ
التَّحْلِيَةُ كَمَا يَحْصُلُ لِهَذَا الْحَائِطِ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ . بَلْ
هُوَ يَقُولُ إنَّ الْعِلْمَ مَنْقُوشٌ فِي النَّفْسِ الْفَلَكِيَّةِ ؛ وَيُسَمِّي
ذَلِكَ " اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ " تَبَعًا لِابْنِ سِينَا . وَقَدْ
بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ " اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ
" الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَيْسَ هُوَ النَّفْسَ
الْفَلَكِيَّةَ وَابْنُ سِينَا وَمَنْ تَبِعَهُ أَخَذُوا أَسْمَاءً جَاءَ بِهَا
الشَّرْعُ فَوَضَعُوا لَهَا مُسَمَّيَاتٍ مُخَالِفَةً لِمُسَمَّيَاتِ صَاحِبِ
الشَّرْعِ ثُمَّ صَارُوا يَتَكَلَّمُونَ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ فَيَظُنُّ
الْجَاهِلُ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَا مَا قَصَدَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ فَأَخَذُوا
مُخَّ الْفَلْسَفَةِ وَكَسَوْهُ لِحَاءَ الشَّرِيعَةِ . وَهَذَا كَلَفْظِ "
الْمُلْكِ " و " الْمَلَكُوتِ " و " الْجَبَرُوتِ " و
" اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ " و " الْمَلَكِ " و "
الشَّيْطَانِ " و " الْحُدُوثِ " و " الْقِدَمِ "
وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا فِي الرَّدِّ عَلَى " الِاتِّحَادِيَّةِ " لَمَّا ذَكَرْنَا قَوْلَ ابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ عَرَبِيٍّ وَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ وَنَحْوِهِ مِنْ أُصُولِ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا فَعَلَتْ طَائِفَةُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ . و ( الْمَقْصُودُ ) هُنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعُلُومُ تَنْزِلُ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ النَّفْسِ الْفَلَكِيَّةِ كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاظِرِ وَالْمُسْتَدِلِّ وَالْمُفَرِّغِ قَلْبَهُ فَتَمْثِيلُ ذَلِكَ بِنَقْشِ أَهْلِ الصِّينِ وَالرُّومِ تَمْثِيلٌ بَاطِلٌ . وَمِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْخَلَوَاتِ مَنْ لَهُمْ أَذْكَارٌ مُعَيَّنَةٌ وَقُوتٌ مُعَيَّنٌ وَلَهُمْ تنزلات مَعْرُوفَةٌ . وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَيْهَا ابْنُ عَرَبِيٍّ الطَّائِيُّ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ كالتلمساني . وَهِيَ تنزلات شَيْطَانِيَّةٌ قَدْ عَرَفْتهَا وَخَبَرْتُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْجِنْسِ . وَمِمَّا يَأْمُرُونَ بِهِ الْجُوعُ وَالسَّهَرُ وَالصَّمْتُ مَعَ الْخَلْوَةِ بِلَا حُدُودٍ شَرْعِيَّةٍ بَلْ سَهَرٌ مُطْلَقٌ وَجُوعٌ مُطْلَقٌ وَصَمْتٌ مُطْلَقٌ مَعَ الْخَلْوَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَغَيْرُهُ وَهِيَ تُوَلِّدُ لَهُمْ أَحْوَالًا شَيْطَانِيَّةً . وَأَبُو طَالِبٍ قَدْ ذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ أَبُو طَالِبٍ أَكْثَرُ اعْتِصَامًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَلَكِنْ يَذْكُرُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً ضَعِيفَةً بَلْ مَوْضُوعَةً
مِنْ جِنْسِ أَحَادِيثِ الْمُسَبَّعَاتِ الَّتِي رَوَاهَا عَنْ الْخَضِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قِرَاءَةُ قُرْآنٍ وَيَذْكُرُ أَحْيَانًا عِبَادَاتٍ بِدْعِيَّةً مِنْ جِنْسِ مَا بَالَغَ فِي مَدْحِ الْجُوعِ هُوَ وَأَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُمَا وَذَكَرُوا أَنَّهُ يَزِنُ الْخُبْزَ بِخَشَبِ رَطْبٍ كُلَّمَا جَفَّ نَقَصَ الْأَكْلَ . وَذَكَرُوا صَلَوَاتِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَكُلُّهَا كَذِبٌ مَوْضُوعَةٌ ؛ وَلِهَذَا قَدْ يَذْكُرُونَ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ بِهَذَا عَلَى جِنْسٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ وَهِيَ " الْخَلَوَاتُ الْبِدْعِيَّةُ " سَوَاءٌ قُدِّرَتْ بِزَمَانِ أَوْ لَمْ تُقَدَّرْ لِمَا فِيهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ ؛ إمَّا الَّتِي جِنْسُهَا مَشْرُوعٌ وَلَكِنْ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ ، وَإِمَّا مَا كَانَ جِنْسُهُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ ، فَأَمَّا الْخَلْوَةُ وَالْعُزْلَةُ وَالِانْفِرَادُ الْمَشْرُوعُ فَهُوَ مَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ . ( فَالْأَوَّلُ ) كَاعْتِزَالِ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ وَمُجَانَبَتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا } وَقَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ
الْكَهْفِ : { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلَى الْكَهْفِ } فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا فِي مَكَانٍ فِيهِ جُمُعَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ وَلَا مَنْ يَأْمُرُ بِشَرْعِ نَبِيٍّ فَلِهَذَا أَوَوْا إلَى الْكَهْفِ وَقَدْ قَالَ مُوسَى : { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } . وَأَمَّا اعْتِزَالُ النَّاسِ فِي فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ وَمَا لَا يَنْفَعُ وَذَلِكَ بِالزُّهْدِ فِيهِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ وَقَدْ قَالَ طاوس : نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَكُفُّ فِيهِ بَصَرَهُ وَسَمْعَهُ . وَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ تَحْقِيقَ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ فَتَخَلَّى فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ مَعَ مُحَافَظَتِهِ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَهَذَا حَقٌّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إلَيْهَا يَتَتَبَّعُ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ ، وَرَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَدَعُ النَّاسَ إلَّا مِنْ خَيْرٍ } وَقَوْلُهُ : { يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ مَالًا يُزَكِّيهِ وَهُوَ سَاكِنٌ مَعَ نَاسٍ يُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ وَتُقَامُ الصَّلَاةُ فِيهِمْ فَقَدْ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ { مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً إلَّا وَقَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ } وَقَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ مِنْ الْغَنَمِ } .
فَصْل
:
وَهَذِهِ " الْخَلَوَاتُ " قَدْ يَقْصِدُ أَصْحَابُهَا الْأَمَاكِنَ
الَّتِي لَيْسَ فِيهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَلَا مَسْجِدٌ يُصَلَّى فِيهِ
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ؛ إمَّا مَسَاجِدُ مَهْجُورَةٌ وَإِمَّا غَيْرُ مَسَاجِدَ
: مِثْلُ الْكُهُوفِ وَالْغِيرَانِ الَّتِي فِي الْجِبَالِ وَمِثْلُ الْمَقَابِرِ
لَا سِيَّمَا قَبْرُ مَنْ يَحْسُنُ بِهِ الظَّنُّ وَمِثْلُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي
يُقَالُ إنَّ بِهَا أَثَرَ نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ
فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ يَظُنُّونَ أَنَّهَا كَرَامَاتٌ
رَحْمَانِيَّةٌ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْقَبْرِ قَدْ جَاءَ
إلَيْهِ وَقَدْ مَاتَ مِنْ سِنِينَ كَثِيرَةٍ وَيَقُولُ : أَنَا فُلَانٌ ،
وَرُبَّمَا قَالَ لَهُ : نَحْنُ إذَا وُضِعْنَا فِي الْقَبْرِ خَرَجْنَا كَمَا
جَرَى لِلتُّونِسِيِّ مَعَ نُعْمَانَ السَّلَامِيِّ . وَالشَّيَاطِينُ كَثِيرًا
مَا يَتَصَوَّرُونَ بِصُورَةِ الْإِنْسِ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ وَقَدْ
تَأْتِي لِمَنْ لَا يَعْرِفُ فَتَقُولُ : أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ الْعَالِمُ
فُلَانٌ وَرُبَّمَا قَالَتْ : أَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَرُبَّمَا أَتَى فِي
الْيَقَظَةِ دُونَ الْمَنَامِ وَقَالَ : أَنَا الْمَسِيحُ أَنَا مُوسَى أَنَا
مُحَمَّدٌ وَقَدْ جَرَى مِثْلُ ذَلِكَ أَنْوَاعٌ أَعْرِفُهَا
وَثَمَّ مَنْ يُصَدِّقُ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ . يَأْتُونَ فِي الْيَقَظَةِ فِي صُوَرِهِمْ وَثَمَّ شُيُوخٌ لَهُمْ زُهْدٌ وَعِلْمٌ وَوَرَعٌ وَدِينٌ يُصَدِّقُونَ بِمِثْلِ هَذَا . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ حِينَ يَأْتِي إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ فِي صُورَتِهِ فَيُكَلِّمُهُ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ رَأَى فِي دَائِرَةِ ذُرَى الْكَعْبَةِ صُورَةَ شَيْخٍ قَالَ : إنَّهُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْحُجْرَةِ وَكَلَّمَهُ . وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ كَرَامَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إذَا سَأَلَ الْمَقْبُورَ أَجَابَهُ . وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَحْكِي : أَنَّ ابْنَ منده كَانَ إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ جَاءَ إلَى الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَدَخَلَ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ . وَآخَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ حَصَلَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِهِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ : وَيْحَك أَتَرَى هَذَا أَفْضَلَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؟ فَهَلْ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَجَابَهُ ؟ . وَقَدْ تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ فِي أَشْيَاءَ فَهَلَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَابَهُمْ وَهَذِهِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ تُنَازِعُ فِي مِيرَاثِهِ فَهَلَّا سَأَلَتْهُ فَأَجَابَهَا ؟
فَصْلٌ
:
وَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ أَجْمَعِينَ قَدْ
أُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمَا أُوتُوهُ وَأَنْ نَقْتَدِيَ بِهِمْ وَبِهُدَاهُمْ .
قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا
أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ
وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } وَمُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ
وَقَدْ نُسِخَ بِشَرْعِهِ مَا نَسَخَهُ مِنْ شَرْعِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَبْقَ
طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ
فَهُوَ مَشْرُوعٌ وَكَذَلِكَ مَا رَغَّبَ فِيهِ وَذَكَرَ ثَوَابَهُ وَفَضْلَهُ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ أَوْ مَشْرُوعٌ إلَّا
بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ شَرِيعَةً بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ
لَكِنْ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَبٌّ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَرُوِيَ
لَهُ فَضَائِلُ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ جَازَ أَنْ تُرْوَى إذَا لَمْ يُعْلَمْ
أَنَّهَا كَذِبٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَقَادِيرَ الثَّوَابِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَإِذَا
رُوِيَ فِي مِقْدَارِ الثَّوَابِ حَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كَذِبٌ لَمْ يَجُزْ
أَنْ يُكَذَّبَ
بِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ يُرَخِّصُونَ فِيهِ وَفِي رِوَايَاتِ أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ . وَأَمَّا أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّ هَذَا عَمَلٌ مُسْتَحَبٌّ مَشْرُوعٌ بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ فَحَاشَا لِلَّهِ كَمَا أَنَّهُمْ إذَا عَرَفُوا أَنَّ الْحَدِيثَ كَذِبٌ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِلُّونَ رِوَايَتَهُ إلَّا أَنْ يُبَيِّنُوا أَنَّهُ كَذِبٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ } . وَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ فَهُوَ عِبَادَةٌ يُشْرَعُ التَّأَسِّي بِهِ فِيهِ . فَإِذَا خَصَّصَ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا بِعِبَادَةِ كَانَ تَخْصِيصُهُ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ سُنَّةً : كَتَخْصِيصِهِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ بِالِاعْتِكَافِ فِيهَا وَكَتَخْصِيصِهِ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فَالتَّأَسِّي بِهِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ . وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُقْصَدَ مِثْلَمَا قَصَدَ فَإِذَا سَافَرَ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جِهَادٍ وَسَافَرْنَا كَذَلِكَ كُنَّا مُتَّبِعِينَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا ضَرَبَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ ؛ بِخِلَافِ مَنْ شَارَكَهُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ قَصْدُهُ غَيْرَ قَصْدِهِ أَوْ شَارَكَهُ فِي الضَّرْبِ وَكَانَ قَصْدُهُ غَيْرَ قَصْدِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِمُتَابِعِ لَهُ وَلَوْ فَعَلَ فِعْلًا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ مِثْلَ نُزُولِهِ فِي السَّفَرِ بِمَكَانِ أَوْ أَنْ يَفْضُلَ فِي إدَاوَتِهِ مَاءٌ فَيَصُبَّهُ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ أَوْ أَنْ تَمْشِيَ رَاحِلَتُهُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الطَّرِيقِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ قَصْدُ مُتَابَعَتِهِ فِي ذَلِكَ ؟ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحِبُّ أَنْ
يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَسْتَحِبُّوا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُتَابَعَةِ لَهُ إذْ الْمُتَابَعَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْقَصْدِ فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ هُوَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بَلْ حَصَلَ لَهُ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ كَانَ فِي قَصْدِهِ غَيْرَ مُتَابِعٍ لَهُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ ؛ لَكِنَّ نَفْسَ فِعْلِهِ حَسَنٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ فَأُحِبُّ أَنْ أَفْعَلَ مِثْلَهُ إمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي مَحَبَّتِهِ وَإِمَّا لِبَرَكَةِ مُشَابَهَتِهِ لَهُ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إخْرَاجُ التَّمْرِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِمَنْ لَيْسَ ذَلِكَ قُوتَهُ وَأَحْمَد قَدْ وَافَقَ ابْنَ عُمَرَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَيُرَخِّصُ فِي مِثْلِ مَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَكَذَلِكَ رَخَّصَ أَحْمَد فِي التَّمَسُّحِ بِمَقْعَدِهِ مِنْ الْمِنْبَرِ اتِّبَاعًا لِابْنِ عُمَرَ . وَعَنْ أَحْمَد فِي التَّمَسُّحِ بِالْمِنْبَرِ رِوَايَتَانِ : أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَأَمَّا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَيَكْرَهُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ وَإِنْ فَعَلَهَا ابْنُ عُمَرَ ؛ فَإِنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَفْعَلْهَا . فَقَدْ ثَبَتَ الْإِسْنَادُ الصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي السَّفَرِ فَرَآهُمْ يَنْتَابُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا مَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ فِيهِ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ .
وَهَكَذَا
لِلنَّاسِ قَوْلَانِ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ
الْقَصْدِ ، هَلْ مُتَابَعَتُهُ فِيهِ مُبَاحَةٌ فَقَطْ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ
يَقْصِدُونَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُ فِيهَا وَيَبِيتُ فِيهَا مِثْلَ
بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ وَمِثْلَ مَوَاضِعِ نُزُولِهِ فِي مَغَازِيهِ وَإِنَّمَا
كَانَ الْكَلَامُ فِي مُشَابَهَتِهِ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ فَقَطْ وَإِنْ كَانَ
هُوَ لَمْ يَقْصِدْ التَّعَبُّدَ بِهِ فَأَمَّا الْأَمْكِنَةُ نَفْسُهَا
فَالصَّحَابَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَظَّمُ مِنْهَا إلَّا مَا
عَظَّمَهُ الشَّارِعُ .
فَصْلٌ :
وَأَهْلُ " الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ " يُزَيِّنُ لَهُمْ
الشَّيْطَانُ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَيُبَغِّضُ إلَيْهِمْ السُّبُلَ
الشَّرْعِيَّةَ حَتَّى يُبَغِّضَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ
فَلَا يُحِبُّونَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلَا ذِكْرَهُ وَقَدْ
يُبَغِّضُ إلَيْهِمْ حَتَّى الْكِتَابَ فَلَا يُحِبُّونَ كِتَابًا وَلَا مَنْ
مَعَهُ كِتَابٌ وَلَوْ كَانَ مُصْحَفًا أَوْ حَدِيثًا ؛ كَمَا حَكَى النصرباذي
أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : يَدَعُ عِلْمَ الْخِرَقِ وَيَأْخُذُ عِلْمَ
الْوَرَقِ قَالَ : وَكُنْت أَسْتُرُ أَلْوَاحِي مِنْهُمْ فَلَمَّا كَبِرْت
احْتَاجُوا إلَى عِلْمِي . وَكَذَلِكَ حَكَى السَّرِيُّ السقطي : أَنَّ وَاحِدًا
مِنْهُمْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى عِنْدَهُ مِحْبَرَةً وَقَلَمًا خَرَجَ
وَلَمْ يَقْعُدْ عِنْدَهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ التستري : يَا مَعْشَرَ الصُّوفِيَّةِ لَا تُفَارِقُوا السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ فَمَا فَارَقَ أَحَدٌ السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ إلَّا تَزَنْدَقَ . وَقَالَ الْجُنَيْد : عِلْمُنَا هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْفِرُ مِمَّنْ يَذْكُرُ الشَّرْعَ أَوْ الْقُرْآنَ أَوْ يَكُونُ مَعَهُ كِتَابٌ أَوْ يَكْتُبُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ اسْتَشْعَرُوا أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ فَصَارَتْ شَيَاطِينُهُمْ تُهَرِّبُهُمْ مِنْ هَذَا كَمَا يُهَرِّبُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ ابْنَهُ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ اعْتِقَادُهُ فِي دِينِهِ وَكَمَا كَانَ قَوْمُ نُوحٍ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَيَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا كَلَامَهُ وَلَا يَرَوْهُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } . وَهُمْ مِنْ أَرْغَبْ النَّاسِ فِي السَّمَاعِ الْبِدْعِيِّ سَمَاعِ الْمَعَازِفِ . وَمِنْ أَزْهَدِهِمْ فِي السَّمَاعِ الشَّرْعِيِّ سَمَاعِ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَانَ مِمَّا زَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَهُمْ أَنْ وَجَدُوا كَثِيرًا مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَالْكُتُبِ مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُلُوكِ سَبِيلِهِ إمَّا اشْتِغَالًا بِالدُّنْيَا وَإِمَّا بِالْمَعَاصِي وَإِمَّا جَهْلًا وَتَكْذِيبًا بِمَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّأَلُّهِ وَالْعِبَادَةِ فَصَارَ وُجُودُ هَؤُلَاءِ مِمَّا يُنَفِّرُهُمْ وَصَارَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نَوْعُ تَبَاغُضٍ يُشْبِهُ
مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَّتَيْنِ : هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَيْسَ هَؤُلَاءِ عَلَى شَيْءٍ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَيْسَ هَؤُلَاءِ عَلَى شَيْءٍ وَقَدْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَحْصُلُ لَهُمْ بِطَرِيقِهِمْ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ فِي الْكُتُبِ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُلَقَّنُ الْقُرْآنَ بِلَا تَلْقِينٍ . وَيَحْكُونَ أَنَّ شَخْصًا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ وَهَذَا كَذِبٌ . نَعَمْ قَدْ يَكُونُ سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ فَلَمَّا صَفَّى نَفْسَهُ تَذَكَّرَهَا فَتَلَاهَا . فَإِنَّ الرِّيَاضَةَ تَصْقُلُ النَّفْسَ فَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ كَانَ قَدْ نَسِيَهَا وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ أَوْ يُحْكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ : أَخَذُوا عِلْمَهُمْ مَيِّتًا عَنْ مَيِّتٍ وَأَخَذْنَا عِلْمَنَا عَنْ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ . وَهَذَا يَقَعُ لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّمَا يُلْقَى إلَيْهِ مِنْ خِطَابٍ أَوْ خَاطِرٍ هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فُرْقَانٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّحْمَانِيِّ وَالشَّيْطَانِيِّ فَإِنَّ الْفَرْقَ الَّذِي لَا يُخْطِئُ هُوَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ خَطَأٌ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } { حَتَّى إذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى :
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } { وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } وَقَالَ تَعَالَى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ صَارُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمَ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ . يَقُولُ أَحَدُهُمْ : فُلَانٌ عَطِيَّتُهُ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ وَأَنَا عَطِيَّتِي مِنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ . وَيَقُولُ أَيْضًا : فُلَانٌ يَأْخُذُ عَنْ الْكِتَابِ وَهَذَا الشَّيْخُ يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ وَمِثْلُ هَذَا . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : " يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ ، وَأَعْطَانِي اللَّهُ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنْ
أَرَادَ
بِهِ الْإِعْطَاءَ وَالْأَخْذَ الْعَامَّ وَهُوَ " الْكَوْنِيُّ الخلقي
" أَيْ : بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ حَصَلَ لِي هَذَا فَهُوَ حَقٌّ
وَلَكِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يُشَارِكُونَهُ فِي هَذَا وَذَلِكَ الَّذِي أَخَذَ
عَنْ الْكِتَابِ هُوَ أَيْضًا عَنْ اللَّهِ أَخَذَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ .
وَالْكُفَّارُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا هُمْ كَذَلِكَ
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَصَلَ لَهُ هُوَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ
وَيَرْضَاهُ وَيُقَرِّبُ إلَيْهِ وَهَذَا الْخِطَابُ الَّذِي يُلْقَى إلَيْهِ هُوَ
كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى . فَهُنَا طَرِيقَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَالَ لَهُ مِنْ أَيْنَ لَك أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ
اللَّهِ لَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِلْقَائِهِ وَوَسْوَسَتِهِ ؟ فَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ يُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيَنْزِلُونَ عَلَيْهِمْ كَمَا
أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرًا
فِي عُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي الْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ
وَنَحْوِهِمْ وَفِي أَهْلِ الْبِدَعِ بِحَسَبِ بِدْعَتِهِمْ . فَإِنَّ هَذِهِ
الْأَحْوَالَ قَدْ تَكُونُ شَيْطَانِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ رَحْمَانِيَّةً فَلَا
بُدَّ مِنْ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ
، وَالْفُرْقَانُ إنَّمَا هُوَ الْفُرْقَانُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ : { الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } وَهُوَ الَّذِي
فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَبَيْنَ الْهُدَى
وَالضَّلَالِ وَبَيْنَ الرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَبَيْنَ طَرِيقِ الْجَنَّةِ
وَطَرِيقِ النَّارِ وَبَيْنَ سَبِيلِ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَسَبِيلِ
أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالْمَقْصُودُ
هُنَا : أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ : إذَا كَانَ جِنْسُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ
مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ
يُبَيِّنُ أَنَّ مَا حَصَلَ لَكُمْ هُوَ الْحَقُّ .
الطَّرِيقُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : بَلْ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ
مُخَالِفٌ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيمَا حَصَلَ لَهُ وَإِلَى سَبَبِهِ
وَإِلَى غَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ عِبَادَةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ مِثْلُ
أَنْ يُقَالَ لَهُ : اُسْجُدْ لِهَذَا الصَّنَمِ حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْمُرَادُ
أَوْ اسْتَشْفِعْ بِصَاحِبِ هَذِهِ الصُّورَةِ حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْمَطْلُوبُ
أَوْ اُدْعُ هَذَا الْمَخْلُوقَ وَاسْتَغِثْ بِهِ مِثْلَ أَنْ يَدْعُوَ
الْكَوَاكِبَ كَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي كُتُبِ دَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ أَوْ أَنْ
يَدْعُوَ مَخْلُوقًا كَمَا يَدْعُو الْخَالِقَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَخْلُوقُ مَلَكًا
أَوْ نَبِيًّا أَوْ شَيْخًا فَإِذَا دَعَاهُ كَمَا يَدْعُو الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ
إمَّا دُعَاءَ عِبَادَةٍ وَإِمَّا دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ صَارَ مُشْرِكًا بِهِ
فَحِينَئِذٍ مَا حَصَلَ لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ بِالشِّرْكِ كَمَا كَانَ
يَحْصُلُ لِلْمُشْرِكِينَ . وَكَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَتَرَاءَى لَهُمْ أَحْيَانًا
وَقَدْ يُخَاطِبُونَهُمْ مِنْ الصَّنَمِ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِبَعْضِ الْأُمُورِ
الْغَائِبَةِ . أَوْ يَقْضُونَ لَهُمْ بَعْضَ الْحَوَائِجِ فَكَانُوا يَبْذُلُونَ
لَهُمْ هَذَا النَّفْعَ الْقَلِيلَ بِمَا اشْتَرَوْهُ مِنْهُمْ مِنْ تَوْحِيدِهِمْ
وَإِيمَانِهِمْ الَّذِي هَلَكُوا بِزَوَالِهِ كَالسِّحْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ
فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ
بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } . وَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ سَمَاعَ الْمَعَازِفِ وَهَذَا كَمَا يُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " اتَّقُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ ؛ وَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ امْرَأَةً فَقَالَتْ : لَا أَفْعَلُ حَتَّى تَسْجُدَ لِهَذَا الْوَثَنِ فَقَالَ لَا أُشْرِكُ بِاَللَّهِ فَقَالَتْ : أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الصَّبِيَّ ؟ فَقَالَ : لَا أَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فَقَالَتْ : أَوْ تَشْرَبَ هَذَا الْقَدَحَ ؟ فَقَالَ هَذَا أَهْوَنُ فَلَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ قَتَلَ الصَّبِيَّ وَسَجَدَ لِلْوَثَنِ وَزَنَى بِالْمَرْأَةِ " . و " الْمَعَازِفُ " هِيَ خَمْرُ النُّفُوسِ تَفْعَلُ بِالنُّفُوسِ أَعْظَمَ مِمَّا تَفْعَلُ حُمَيَّا الْكُؤُوسِ فَإِذَا سَكِرُوا بِالْأَصْوَاتِ حَلَّ فِيهِمْ الشِّرْكُ وَمَالُوا إلَى الْفَوَاحِشِ وَإِلَى الظُّلْمِ فَيُشْرِكُونَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَيَزْنُونَ . وَهَذِهِ " الثَّلَاثَةُ " مَوْجُودَةٌ كَثِيرًا فِي أَهْلِ " سَمَاعِ الْمَعَازِفِ " : سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ أَمَّا " الشِّرْكُ " فَغَالِبٌ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُحِبُّوا شَيْخَهُمْ أَوْ غَيْرَهُ مِثْلَ مَا يُحِبُّونَ اللَّهَ وَيَتَوَاجَدُونَ عَلَى حُبِّهِ .
وَأَمَّا " الْفَوَاحِشُ " فَالْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لِوُقُوعِ الْفَوَاحِشِ وَيَكُونُ الرَّجُلُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ فِي غَايَةِ الْعِفَّةِ وَالْحُرِّيَّةِ حَتَّى يَحْضُرَهُ فَتَنْحَلُّ نَفْسُهُ وَتَسْهُلُ عَلَيْهِ الْفَاحِشَةُ وَيَمِيلُ لَهَا فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا بِهِ أَوْ كِلَاهُمَا كَمَا يَحْصُلُ بَيْنَ شَارِبِي الْخَمْرِ وَأَكْثَرُ . وَأَمَّا " الْقَتْلُ " فَإِنَّ قَتْلَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي السَّمَاعِ كَثِيرٌ يَقُولُونَ : قَتَلَهُ بِحَالِهِ وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ مِنْ قُوَّتِهِ وَذَلِكَ أَنَّ مَعَهُمْ شَيَاطِينَ تَحْضُرُهُمْ فَأَيُّهُمْ كَانَتْ شَيَاطِينُهُ أَقْوَى قَتَلَ الْآخَرَ ، كَاَلَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَمَعَهُمْ أَعْوَانٌ لَهُمْ فَإِذَا شَرِبُوا عَرْبَدُوا فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَعْوَانُهُ أَقْوَى قَتَلَ الْآخَرَ وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا لِكَثِيرِ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُ إمَّا شَخْصًا وَإِمَّا فَرَسًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ بِحَالِهِ ثُمَّ يَقُومُ صَاحِبُ الثَّأْرِ وَيَسْتَغِيثُ بِشَيْخِهِ فَيَقْتُلُ ذَلِكَ الشَّخْصَ وَجَمَاعَةً مَعَهُ : إمَّا عَشَرَةً وَإِمَّا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ . كَمَا جَرَى مِثْلُ هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَكَانَ الْجُهَّالُ يَحْسَبُونَ هَذَا مِنْ ( بَابِ الْكَرَامَاتِ ) . فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ شَيَاطِينُ تُعِينُهُمْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ، عَرَفَ ذَلِكَ مَنْ بَصَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَانْكَشَفَ التَّلْبِيسُ وَالْغِشُّ الَّذِي كَانَ لِهَؤُلَاءِ . وَكُنْت فِي أَوَائِلِ عُمْرِي حَضَرْت مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ " فَكَانُوا مِنْ خِيَارِ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ . فَبِتْنَا بِمَكَانِ وَأَرَادُوا أَنْ
يُقِيمُوا سَمَاعًا وَأَنْ أَحْضُرَ مَعَهُمْ فَامْتَنَعْت مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلُوا لِي مَكَانًا مُنْفَرِدًا قَعَدْت فِيهِ فَلَمَّا سَمِعُوا وَحَصَلَ الْوَجْدُ وَالْحَالُ صَارَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ يَهْتِفُ بِي فِي حَالِ وَجْدِهِ وَيَقُولُ : يَا فُلَانُ قَدْ جَاءَك نَصِيبٌ عَظِيمٌ تَعَالَ خُذْ نَصِيبَك فَقُلْت فِي نَفْسِي ثُمَّ أَظْهَرْته لَهُمْ لَمَّا اجْتَمَعْنَا : أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ هَذَا النَّصِيبِ فَكُلُّ نَصِيبٍ لَا يَأْتِي عَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لَا آكُلُ مِنْهُ شَيْئًا . وَتَبَيَّنَ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ فِيهِمْ مِمَّنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ وَعِلْمٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ سَكْرَانُ بِالْخَمْرِ . وَاَلَّذِي قُلْته مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا النَّصِيبَ وَهَذِهِ الْعَطِيَّةَ وَالْمَوْهِبَةَ وَالْحَالَ سَبَبُهَا غَيْرُ شَرْعِيٍّ لَيْسَ هُوَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا شَرَعَهَا الرَّسُولُ فَهُوَ مِثْلُ مَنْ يَقُولُ : تَعَالَ اشْرَبْ مَعَنَا الْخَمْرَ وَنَحْنُ نُعْطِيك هَذَا الْمَالَ أَوْ عَظِّمْ هَذَا الصَّنَمَ وَنَحْنُ نُوَلِّيك هَذِهِ الْوِلَايَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ نَذْرًا لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : مِثْلَ أَنْ يَنْذِرَ لِصَنَمِ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ نَجْمٍ أَوْ شَيْخٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النُّذُورِ الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ فَإِذَا أَشْرَكَ بِالنَّذْرِ فَقَدْ يُعْطِيهِ الشَّيْطَانُ بَعْضَ حَوَائِجِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السِّحْرِ . وَهَذَا بِخِلَافِ النَّذْرِ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَأْتِي
بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُهُ وَفِي رِوَايَةٍ : { فَإِنَّ النَّذْرَ يُلْقِي ابْنَ آدَمَ إلَى الْقَدَرِ } فَهَذَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ النَّذْرُ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ عَقْدِهِ وَلَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ عَقَدَهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إلَّا الْتِزَامُ مَا الْتَزَمَهُ وَقَدْ لَا يَرْضَى بِهِ فَيَبْقَى آثِمًا . وَإِذَا فَعَلَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ بِلَا نَذْرٍ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَالنَّاسُ يَقْصِدُونَ بِالنَّذْرِ تَحْصِيلَ مُطَالِبِهِمْ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ فَلَيْسَ النَّذْرُ سَبَبًا فِي حُصُولِ مَطْلُوبِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاذِرَ إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ حَفَّظَنِي اللَّهُ الْقُرْآنَ أَنْ أَصُومَ مَثَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ إنْ عَافَانِي اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ أَوْ إنْ دَفَعَ اللَّهُ هَذَا الْعَدُوَّ أَوْ إنْ قَضَى عَنِّي هَذَا الدَّيْنَ فَعَلْت كَذَا فَقَدْ جَعَلَ الْعِبَادَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا عِوَضًا مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْضِي تِلْكَ الْحَاجَةَ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمَنْذُورَةِ بَلْ يُنْعِمُ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ لِيَبْتَلِيَهُ أَيَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ ؟ وَشُكْرُهُ يَكُونُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ . وَأَمَّا تِلْكَ الْعِبَادَةُ الْمَنْذُورَةُ فَلَا تَقُومُ بِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَلَا يُنْعِمُ اللَّهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِيَعْبُدَهُ الْعَبْدُ تِلْكَ الْعِبَادَةَ الْمَنْذُورَةَ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً فَصَارَتْ
وَاجِبَةً ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُوجِبْ تِلْكَ الْعِبَادَةَ ابْتِدَاءً بَلْ هُوَ يَرْضَى مِنْ الْعَبْدِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبَ الْمَحَارِمَ ، لَكِنَّ هَذَا النَّاذِرَ يَكُونُ قَدْ ضَيَّعَ كَثِيرًا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ ثُمَّ بَذَلَ ذَلِكَ النَّذْرَ لِأَجْلِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَتِلْكَ النِّعْمَةُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ بِهَا لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ الْمَبْذُولِ الْمُحْتَقَرِ . وَإِنْ كَانَ الْمَبْذُولُ كَثِيرًا وَالْعَبْدُ مُطِيعٌ لِلَّهِ : فَهُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يحوجه إلَى ذَلِكَ الْمَبْذُولِ الْكَثِيرِ ؛ فَلَيْسَ النَّذْرُ سَبَبًا لِحُصُولِ مَطْلُوبِهِ كَالدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَسْبَابًا لِحُصُولِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ إذَا فَعَلَهَا الْعَبْدُ ابْتِدَاءً ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجْلِبُ مَنْفَعَةً وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً لَكِنَّهُ كَانَ بَخِيلًا فَلَمَّا نَذَرَ لَزِمَهُ ذَلِكَ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَسْتَخْرِجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُعْطِي عَلَى النَّذْرِ مَا لَمْ يَكُنْ يُعْطِيهِ بِدُونِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَم .
سُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مَا عَمَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ وَمَا عَمَلُ أَهْلِ النَّارِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، " عَمَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ "
الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَعَمَلُ أَهْلِ النَّارِ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ
وَالْعِصْيَانُ فَأَعْمَالُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ
وَشَرِّهِ وَالشَّهَادَتَانِ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ
رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ . وَأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ
لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك . وَمِنْ " أَعْمَالِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ " : صِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءُ
بِالْعَهْدِ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانُ إلَى
الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ
وَالْبَهَائِمِ .
وَمِنْ
" أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ " الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلُ
عَلَيْهِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ وَلِرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَرَجَاءُ رَحْمَتِهِ
وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ وَالصَّبْرُ عَلَى حُكْمِهِ وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ .
وَمِنْ " أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ " : قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ
وَذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ وَمَسْأَلَتُهُ وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ . وَمِنْ
" أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ " : الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ
وَالْمُنَافِقِينَ . وَمِنْ " أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ " : أَنْ
تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ أَعَدَّ الْجَنَّةَ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ
وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَمِنْ " أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
" : الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى
الْكُفَّارِ . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ .
وَأَمَّا " عَمَلُ أَهْلِ النَّارِ " : فَمِثْلُ الْإِشْرَاكِ
بِاَللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِالرُّسُلِ وَالْكُفْرِ وَالْحَسَدِ وَالْكَذِبِ
وَالْخِيَانَةِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْغَدْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ
وَالْجُبْنِ عَنْ الْجِهَادِ وَالْبُخْلِ وَاخْتِلَافِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ
وَالْيَأْسِ مِنْ
رَوْحِ اللَّهِ وَالْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالْفَخْرِ وَالْبَطَرِ عِنْدَ النِّعَمِ وَتَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَاعْتِدَاءِ حُدُودِهِ وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ وَخَوْفِ الْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ وَرَجَاءِ الْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى الْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ وَالْعَمَلِ رِيَاءً وَسُمْعَةً وَمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَاعَةِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَالتَّعَصُّبِ بِالْبَاطِلِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَجَحْدِ الْحَقِّ وَالْكِتْمَانِ لِمَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ عِلْمٍ وَشَهَادَةٍ . وَمِنْ " عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ " السِّحْرُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ . وَتَفْصِيلُ " الْجُمْلَتَيْنِ " لَا يُمْكِنُ ؛ لَكِنَّ " أَعْمَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " كُلَّهَا تَدْخُلُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ و " أَعْمَالَ أَهْلِ النَّارِ " كُلَّهَا تَدْخُلُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَلْ الْأَفْضَلُ لِلسَّالِكِ الْعُزْلَةُ أَوْ الْخُلْطَةُ ؟
فَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ
فِيهَا ؟ إمَّا نِزَاعًا كُلِّيًّا وَإِمَّا حَالِيًّا . فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ :
أَنَّ " الْخُلْطَةَ " تَارَةً تَكُونُ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً
وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَطَةِ تَارَةً
وَبِالِانْفِرَادِ تَارَةً . وَجِمَاعُ ذَلِكَ : أَنَّ " الْمُخَالَطَةَ
" إنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهِيَ مَأْمُورٌ
بِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَهِيَ
مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَالِاخْتِلَاطُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي جِنْسِ الْعِبَادَاتِ :
كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ
وَالِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ .
وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاطُ بِهِمْ فِي الْحَجِّ وَفِي غَزْوِ الْكُفَّارِ
وَالْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ وَإِنْ كَانَ أَئِمَّةُ ذَلِكَ فُجَّارًا وَإِنْ
كَانَ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ فُجَّارٌ
وَكَذَلِكَ
الِاجْتِمَاعُ الَّذِي يَزْدَادُ الْعَبْدُ بِهِ إيمَانًا : إمَّا لِانْتِفَاعِهِ
بِهِ وَإِمَّا لِنَفْعِهِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ
أَوْقَاتٍ يَنْفَرِدُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِ وَذِكْرِهِ وَصَلَاتِهِ
وَتَفَكُّرِهِ وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَإِصْلَاحِ قَلْبِهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ
مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَهَذِهِ يَحْتَاجُ
فِيهَا إلَى انْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ ؛ إمَّا فِي بَيْتِهِ ، كَمَا قَالَ طاوس :
نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَكُفُّ فِيهَا بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ ، وَإِمَّا
فِي غَيْرِ بَيْتِهِ . فَاخْتِيَارُ الْمُخَالَطَةِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَاخْتِيَارُ
الِانْفِرَادِ مُطْلَقًا خَطَأٌ . وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ
إنْسَانٍ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَهَذَا
يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ " السَّبَبُ وَتَرْكُ السَّبَبِ " : فَمَنْ كَانَ قَادِرًا
عَلَى السَّبَبِ وَلَا يَشْغَلُهُ عَمَّا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ فِي دِينِهِ فَهُوَ
مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْ النَّاسِ وَلَوْ جَاءَهُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ ، وَسَبَبُ مِثْلِ هَذَا
عِبَادَةُ اللَّهِ ، وَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَيَتَوَكَّلَ
عَلَيْهِ فَإِنْ تَسَبَّبَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ أَوْ لَمْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ [ غَيْرُ ] (1) مُطِيعٍ فِي هَذَا وَهَذَا ، وَهَذِهِ [
غَيْرُ ] (2) طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ
الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ أَوْ قَادِرًا عَلَيْهِ بِتَفْوِيتِ مَا هُوَ فِيهِ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْ الْكَسْبِ فَفِعْلُ مَا هُوَ فِيهِ أَطْوَعُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ وَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِ النَّاسِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَفْضَلَ يَتَنَوَّعُ " تَارَةً " بِحَسَبِ أَجْنَاسِ الْعِبَادَاتِ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ ، وَجِنْسَ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الذِّكْرِ ، وَجِنْسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ . و " تَارَةً " يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الصَّلَاةِ . و " تَارَةً " بِاخْتِلَافِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرِ كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ مَشْرُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الطَّوَافِ فَفِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ . و " تَارَةً " بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ : كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَعِنْدَ الْجِمَارِ وَعِنْدَ الصَّفَا والمروة هُوَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ دُونَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ لِلْوَارِدِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةُ لِلْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ .
وَ " تَارَةً " بِاخْتِلَافِ مَرْتَبَةِ جِنْسِ الْعِبَادَةِ : فَالْجِهَادُ لِلرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَأَمَّا النِّسَاءُ فَجِهَادُهُنَّ الْحَجُّ ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ طَاعَتُهَا لِزَوْجِهَا أَفْضَلُ مِنْ طَاعَتِهَا لِأَبَوَيْهَا ؛ بِخِلَافِ الْأَيِّمَةِ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِطَاعَةِ أَبَوَيْهَا . و " تَارَةً " يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَعَجْزِهِ : فَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ أَفْضَلَ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَغْلُو فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِمُنَاسَبَةِ لَهُ وَلِكَوْنِهِ أَنْفَع لِقَلْبِهِ وَأَطْوَع لِرَبِّهِ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَفْضَلَ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَيَأْمُرَهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ وَهَدْيًا لَهُمْ يَأْمُرُ كُلَّ إنْسَانٍ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُ لِكُلِّ إنْسَانٍ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ . وَبِهَذَا تَبَيَّنَ لَك أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْعِلْمِ أَفْضَلَ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْجِهَادِ أَفْضَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْعِبَادَاتِ
الْبَدَنِيَّةِ - كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ - أَفْضَلَ لَهُ وَالْأَفْضَلُ الْمُطْلَقُ مَا كَانَ أَشْبَهَ بِحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ
الشَّيْخُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . أَمَّا بَعْدُ : اعْلَمْ
أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَنْ
يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا . أَرْسَلَهُ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ : إنْسِهِمْ
وَجِنِّهِمْ وَعَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ وَفُرْسِهِمْ وَهِنْدِهِمْ وَبَرْبَرِهِمْ
وَرُومِهِمْ وَسَائِر أَصْنَافِ الْعَجَمِ أَسْوَدِهِمْ وَأَبْيَضِهِمْ ،
وَالْمُرَادُ بِالْعَجَمِ مَنْ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ عَلَى اخْتِلَافِ
أَلْسِنَتِهِمْ . فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إلَى
كُلِّ أَحَدٍ : مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كِتَابِيِّهِمْ وَغَيْرِ كِتَابِيِّهِمْ
فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِدِينِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ
فِي عَقَائِدِهِ وَحَقَائِقِهِ وَطَرَائِقِهِ وَشَرَائِعِهِ فَلَا عَقِيدَةَ إلَّا
عَقِيدَتُهُ وَلَا حَقِيقَةَ إلَّا حَقِيقَتُهُ وَلَا طَرِيقَةَ إلَّا طَرِيقَتُهُ
وَلَا شَرِيعَةَ إلَّا شَرِيعَتُهُ وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ إلَى
اللَّهِ وَإِلَى رِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ
وَوِلَايَتِهِ
إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ
الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فِي أَقْوَالِ الْقَلْبِ وَعَقَائِدِهِ وَأَحْوَالِ
الْقَلْبِ وَحَقَائِقِهِ وَأَقْوَالِ اللِّسَانِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ .
وَلَيْسَ لِلَّهِ وَلِيٌّ إلَّا مَنْ اتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَصَدَّقَهُ
فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْغُيُوبِ وَالْتَزَمَ طَاعَتَهُ فِيمَا فَرَضَ عَلَى
الْخَلْقِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ . فَمَنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ مُصَدِّقًا فِيمَا أَخْبَرَ مُلْتَزِمًا طَاعَتَهُ فِيمَا أَوْجَبَ
وَأَمَرَ بِهِ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ
الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْأَبْدَانِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ وَلَوْ حَصَلَ لَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَاذَا
عَسَى أَنْ يَحْصُلَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ تَرْكِهِ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ
وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا
بِطَهَارَتِهَا وَوَاجِبَاتِهَا إلَّا مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ
الْمُبْعِدَةِ لِصَاحِبِهَا عَنْ اللَّهِ الْمُقَرِّبَةِ إلَى سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ
.
لَكِنْ مَنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفِ مِنْ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ قَدْ رُفِعَ
الْقَلَمُ عَنْهُمْ فَلَا يُعَاقَبُونَ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ
بِاَللَّهِ وَتَقْوَاهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَا يَكُونُونَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ
اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ لَكِنْ
يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ
امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
وَهُمْ مَعَ عَدَمِ الْعَقْلِ لَا يَكُونُونَ مِمَّنْ فِي قُلُوبِهِمْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ وَمَعَارِفُ أَهْلِ وِلَايَةِ اللَّهِ وَأَحْوَالُ خَوَاصِّ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا مَشْرُوطَةٌ بِالْعَقْلِ ؛ فَالْجُنُونُ مُضَادُّ الْعَقْلِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ وَالْهُدَى وَالثَّنَاءِ وَإِنَّمَا يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ . فَالْمَجْنُونُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ لَا يُعَاقِبُهُ وَيَرْحَمُهُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ الَّذِينَ يَرْفَعُ اللَّهُ دَرَجَاتِهِمْ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ الْوَاجِبَاتِ وَلَا يَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مُولَهًا أَوْ مُتَوَلِّهًا فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ الَّذِينَ يَرْفَعُ اللَّهُ دَرَجَاتِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَعَ كَوْنِهِ لَا يُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَلَا يَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ كَانَ الْمُعْتَقِدُ لِوِلَايَةِ مِثْلِ هَذَا كَافِرًا مُرْتَدًّا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ شَاهِدٍ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ مُكَذِّبٌ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا شَهِدَ بِهِ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَ عَنْ اللَّهِ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الْمُتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ قَالَ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وَ
" التَّقْوَى " أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ
مِنْ اللَّهِ يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ وَأَنْ يَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى
نُورٍ مِنْ اللَّهِ يَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ وَلَا يَتَقَرَّبُ وَلِيُّ اللَّهِ
إلَّا بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ ثُمَّ بِأَدَاءِ نَوَافِلِهِ . قَالَ تَعَالَى :
" { وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت
عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى
أُحِبَّهُ } " كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ . الَّذِي
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
فَصْلٌ :
وَمِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ وَأَعْظَمِ الْفَرَائِضِ عِنْدَهُ
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي مَوَاقِيتِهَا وَهِيَ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا
الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ
تَعَالَى بِنَفْسِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَاسِطَةً وَهِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقُومُ
إلَّا بِهِ وَهِيَ أَهَمُّ أَمْرِ الدِّينِ كَمَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ : إنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ
عِنْدِي الصَّلَاةُ فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ
ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدَّ إضَاعَةً . وَقَدْ ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ } وَقَالَ : {
الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ
الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } . فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهَا عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ بَالِغٍ غَيْرِ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهَا وَيُثِيبُ عَلَيْهَا وَصَلَّى مَعَ ذَلِكَ وَقَامَ اللَّيْلَ وَصَامَ النَّهَارَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا عَلَى كُلِّ بَالِغٍ فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ حَتَّى يَعْتَقِدَ أَنَّهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ . وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ وَالْمُكَاشِفِينَ وَالْوَاصِلِينَ ؛ أَوْ أَنَّ لِلَّهِ خَوَاصَّ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ ؛ بَلْ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ لِوُصُولِهِمْ إلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ أَوْ لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا أَوْ أَوْلَى . أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ حُضُورُ الْقَلْبِ مَعَ الرَّبِّ أَوْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا تَفْرِقَةٌ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي جَمْعِيَّتِهِ مَعَ اللَّهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الصَّلَاةِ ؛ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ الصَّلَاةِ هِيَ الْمَعْرِفَةُ فَإِذَا حَصَلَتْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَحْصُلَ لَك خَرْقُ عَادَةٍ كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ أَوْ مَلْءِ الْأَوْعِيَةِ مَاءً مِنْ الْهَوَاءِ أَوْ تَغْوِيرِ الْمِيَاهِ وَاسْتِخْرَاجِ مَا تَحْتَهَا مِنْ الْكُنُوزِ وَقَتْلِ مَنْ يُبْغِضُهُ بِالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ . فَمَتَى حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْ الصَّلَاةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . أَوْ أَنَّ لِلَّهِ رِجَالًا خَوَاصَّ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُوسَى . أَوْ أَنَّ كُلَّ
مَنْ كَاشَفَ وَطَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ فَهُوَ وَلِيٌّ سَوَاءٌ صَلَّى أَوْ لَمْ يُصَلِّ . أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ أَنَّ المولهين والمتولهين وَالْمَجَانِينَ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي الْمَقَابِرِ وَالْمَزَابِلِ وَالطِّهَارَاتِ وَالْخَانَاتِ والقمامين وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ وَهُمْ لَا يَتَوَضَّئُونَ وَلَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ . فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ عَنْ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِهِ زَاهِدًا عَابِدًا . فَالرُّهْبَانُ أَزْهَدُ وَأَعْبَدُ وَقَدْ آمَنُوا بِكَثِيرِ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَجُمْهُورُهُمْ يُعَظِّمُونَ الرَّسُولَ وَيُعَظِّمُونَ أَتْبَاعَهُ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ بَلْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ فَصَارُوا بِذَلِكَ كَافِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } . وَمَنْ كَانَ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ أَوْ مَجْنُونًا فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْقَلَمُ قَدْ رُفِعَ عَنْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ عِقَابٌ وَلَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَلَا صَلَاته وَلَا صِيَامُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِ ؛ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا مَعَ الْعَقْلِ . فَمَنْ لَا عَقْلَ
لَهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ لَا فَرَائِضِهِ وَلَا نَوَافِلِهِ ، وَمَنْ لَا فَرِيضَةَ لَهُ وَلَا نَافِلَةَ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى } أَيْ الْعُقُولِ وَقَالَ تَعَالَى : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } أَيْ لِذِي عَقْلٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } وَقَالَ : { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . فَإِنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ . فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْقِلُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْمَدْهُ وَلَمْ يُثْنِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِخَيْرِ قَطُّ . بَلْ قَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } وَقَالَ : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } . فَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَلَا فَرْضُهُ وَلَا نَفْلُهُ وَمَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ جُنَّ وَأَسْلَمَ بَعْدَ جُنُونِهِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا . وَمَنْ كَانَ قَدْ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ وَجُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ . وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُثِيبَ عَلَى إيمَانِهِ الَّذِي كَانَ فِي
حَالِ عَقْلِهِ وَمَنْ وُلِدَ مَجْنُونًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ جُنُونُهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ . وَحُكْمُ الْمَجْنُونِ حُكْمُ الطِّفْلِ إذَا كَانَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ كَانَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ أُمُّهُ مُسْلِمَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ . وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ الَّذِي وُلِدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَهْلِ الدَّارِ كَمَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ لِلْأَطْفَالِ . لَا لِأَجْلِ إيمَانٍ قَامَ بِهِ فَأَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ وَمَجَانِينُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ وَهَذَا الْإِسْلَامُ لَا يُوجِبُ لَهُ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يَصِيرَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } فَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إذَا كَانُوا سُكَارَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا يَقُولُونَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ بِالْآيَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْمَائِدَةِ " . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا : أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ فَخَلَطَ فِي الْقِرَاءَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ؛ فَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الصَّلَاةَ مَعَ السُّكْرِ وَالشُّرْبِ الَّذِي لَمْ يُحَرَّمْ حَتَّى يَعْلَمُوا مَا يَقُولُونَ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ
أَحَدٌ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ . فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لَمْ تَحِلّ لَهُ الصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَ عَقْلُهُ قَدْ زَالَ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِأَيِّ سَبَبٍ زَالَ فَكَيْفَ بِالْمَجْنُونِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَهُوَ يُرْوِي عَنْ الضَّحَّاكِ - لَا تَقْرَبُوهَا وَأَنْتُمْ سُكَارَى مِنْ النَّوْمِ . وَهَذَا إذَا قِيلَ إنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَوْ شُمُولِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْعَامِّ وَإِلَّا فَلَا رَيْبَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ السُّكْرَ مِنْ الْخَمْرِ . وَاللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ ؛ وَالْمَعْنَى الْآخَرُ صَحِيحٌ أَيْضًا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ فَلْيَرْقُدْ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ - وَفِي لَفْظٍ - إذَا قَامَ يُصَلِّي فَنَعَسَ فَلْيَرْقُدْ } . فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ النُّعَاسِ الَّذِي يَغْلَطُ مَعَهُ النَّاعِسُ . وَقَدْ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ النُّعَاسَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ؛ إذْ لَوْ نُقِضَ بِذَلِكَ لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ أَوْ لَوَجَبَ الْخُرُوجُ مِنْهَا لِتَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ } فَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ لِمَنْ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ النُّعَاسِ . وَطَرَدَ ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُصَلِّي
أَحَدُكُمْ
وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ وَلَا بِحَضْرَةِ طَعَامٍ } لِمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ . وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ
يَبْدَأَ بِحَاجَتِهِ فَيَقْضِيَهَا ثُمَّ يُقْبِلَ عَلَى صَلَاته وَقَلْبُهُ
فَارِغٌ . فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ مُحَرَّمَةً مَعَ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ
وَلَوْ كَانَ بِسَبَبِ مُبَاحٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ كَانَتْ صَلَاةُ
الْمَجْنُونِ وَمَنْ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَجْنُونِ وَإِنْ سُمِّيَ مُولَهًا
أَوْ مُتَوَلِّهًا أَوْلَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ " أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ " كَمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ ؟ قَالَ :
الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ
. قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ . قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي } .
وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ أَفْضَلَ
الْأَعْمَالِ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ ثُمَّ الْحَجُّ
الْمَبْرُورُ } . وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ دَاخِلَةٌ
فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ كَمَا دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَغَيْرُهُ
مِنْ السَّلَفِ : أَيْ صَلَاتُكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَلِهَذَا كَانَتْ
الصَّلَاةُ كَالْإِيمَانِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بِحَالِ فَلَا يُصَلِّي
أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ الْفَرْضَ لَا لِعُذْرِ وَلَا لِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا لَا
يُؤْمِنُ أَحَدٌ عَنْهُ وَلَا
تَسْقُطُ بِحَالِ كَمَا لَا يَسْقُطُ الْإِيمَانُ ؛ بَلْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ أَفْعَالِهَا فَإِذَا عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَقْوَالِ فَهَلْ يُصَلِّي بِتَحْرِيكِ طَرْفِهِ وَيَسْتَحْضِرُ الْأَفْعَالَ بِقَلْبِهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَقَدْ حُرِمَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ و " الْوِلَايَةُ " هِيَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى الْمُتَضَمِّنَةُ لِلتَّقَرُّبِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فَقَدْ حُرِمَ مَا بِهِ يَتَقَرَّبُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ إلَيْهِ ؛ لَكِنَّهُ مَعَ جُنُونِهِ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ فَلَا يُعَاقَبُ كَمَا لَا يُعَاقَبُ الْأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ ؛ إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ . ثُمَّ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ حُدُوثِ الْجُنُونِ بِهِ وَلَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ وَكَانَ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ قَبْلَ زَوَالِ عَقْلِهِ كَانَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا تَقَدَّمَ وَكَانَ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى كَمَا لَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ وَلَيْسَ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ إلَّا الرِّدَّةُ . كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ فَلَا يُكْتَبُ لِلْمَجْنُونِ حَالَ جُنُونِهِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَمَا لَا يَكُونُ مِثْلُ ذَلِكَ لِسَيِّئَاتِهِ فِي زَوَالِ عَقْلِهِ بِالْأَعْمَالِ الْمُسْكِرَةِ وَالنَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } فَهَؤُلَاءِ كَانُوا قَاصِدِينَ لِلْعَمَلِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ رَاغِبِينَ فِيهِ لَكِنْ عَجَزُوا فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَلَا عِبَادَةٌ أَصْلًا بِخِلَافِ أُولَئِكَ فَإِنَّ لَهُمْ قَصْدًا صَحِيحًا يُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ الثَّوَابُ . وَأَمَّا إنْ كَانَ قَبْلَ جُنُونِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُذْنِبًا لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْجُنُونِ بِهِ مُزِيلًا لِمَا ثَبَتَ مِنْ كُفْرِهِ وَفِسْقِهِ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جُنَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ تَهَوُّدِهِ وَتَنَصُّرِهِ مَحْشُورًا مَعَهُمْ وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ مَحْشُورًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُتَّقِينَ . وَزَوَالُ الْعَقْلِ بِجُنُونِ أَوْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ صَاحِبُهُ مُولَهًا أَوْ مُتَوَلِّهًا لَا يُوجِبُ مَزِيدَ حَالِ صَاحِبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَلَا يَكُونُ زَوَالُ عَقْلِهِ سَبَبًا لِمَزِيدِ خَيْرِهِ وَلَا صَلَاحِهِ وَلَا ذَنْبِهِ ؛ وَلَكِنَّ الْجُنُونَ يُوجِبُ زَوَالَ الْعَقْلِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لَا أَنَّهُ يَزِيدُهُ وَلَا يَنْقُصُهُ لَكِنَّ جُنُونَهُ يَحْرِمُهُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْخَيْرِ كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الشَّرِّ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِسَبَبِ مُحَرَّمٍ : كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْحَشِيشَةِ أَوْ كَانَ يَحْضُرُ السَّمَاعَ الْمُلَحَّنَ فَيَسْتَمِعُ حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ أَوْ الَّذِي يَتَعَبَّدُ بِعِبَادَاتِ بِدْعِيَّةٍ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ بَعْضُ الشَّيَاطِينِ فَيُغَيِّرُوا عَقْلَهُ أَوْ يَأْكُلُ بَنْجًا يُزِيلُ عَقْلَهُ فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عَلَى مَا أَزَالُوا بِهِ الْعُقُولَ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْتَجْلِبُ الْحَالَ الشَّيْطَانِيَّ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ فَيَرْقُصَ رَقْصًا عَظِيمًا حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ أَوْ يَغُطَّ وَيَخُورَ حَتَّى يَجِيئَهُ الْحَالُ الشَّيْطَانِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقْصِدُ التَّوَلُّهَ حَتَّى يَصِيرَ مُولَهًا . فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُمْ " مُكَلَّفُونَ " فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ ؟ وَالْأَصْلُ " مَسْأَلَةُ السَّكْرَانِ " وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ زَوَالِ عَقْلِهِ . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ مُكَلَّفًا وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَالَ عَقْلُهُمْ بِمِثْلِ هَذَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ . وَمَنْ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ ذَكَرُوهُمْ بِخَيْرِ فَهُمْ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ ثُمَّ زَالَتْ عُقُولُهُمْ .
وَمِنْ " عَلَامَةِ هَؤُلَاءِ " أَنَّهُمْ إذَا حَصَلَ لَهُمْ فِي جُنُونِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الصَّحْوِ تَكَلَّمُوا بِمَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ لَا بِالْكُفْرِ وَالْبُهْتَانِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ إذَا حَصَلَ لَهُ نَوْعُ إفَاقَةٍ بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَيَهْذِي فِي زَوَالِ عَقْلِهِ بِالْكُفْرِ فَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا لَا مُسْلِمًا ، وَمَنْ كَانَ يَهْذِي بِكَلَامِ لَا يُعْقَلُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ التُّرْكِيَّةِ أَوْ الْبَرْبَرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ لِبَعْضِ مَنْ يَحْضُرُ السَّمَاعَ وَيَحْصُلُ لَهُ وَجْدٌ يُغَيِّبُ عَقْلَهُ حَتَّى يَهْذِيَ بِكَلَامِ لَا يُعْقَلُ - أَوْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ - فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ الشَّيْطَانُ كَمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ . وَمَنْ قَالَ : إنْ هَؤُلَاءِ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَأَبْقَى أَحْوَالَهُمْ وَأَذْهَبَ عُقُولَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ بِمَا سَلَبَ . قِيلَ : قَوْلُك وَهَبَ اللَّهُ لَهُمْ أَحْوَالًا كَلَامٌ مُجْمَلٌ ؛ فَإِنَّ الْأَحْوَالَ تَنْقَسِمُ إلَى : حَالٍ رَحْمَانِيٍّ وَحَالٍ شَيْطَانِيٍّ وَمَا يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ بِمُكَاشَفَةٍ وَتَصَرُّفٍ عَجِيبٍ " فَتَارَةً " يَكُونُ مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ و " تَارَةً " يَكُونُ مِنْ الرَّحْمَنِ مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ ؛ فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ فِي حَالِ عُقُولِهِمْ كَانَتْ لَهُمْ مَوَاهِبُ إيمَانِيَّةٌ وَكَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا زَالَتْ عُقُولُهُمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ بِمَا سُلِبَ مِنْ الْعُقُولِ وَإِنْ كَانَ مَا أُعْطُوهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ - كَمَا يُعْطَاهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقُونَ - فَهَؤُلَاءِ إذَا زَالَتْ عُقُولُهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِذَلِكَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ الْأَوَّلُونَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ
وَالتَّقْوَى
كَمَا أَنَّ نَوْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَمَوْتَهُ وَإِغْمَاءَهُ
لَا يُزِيلُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ زَوَالِ عَقْلِهِ مِنْ إيمَانِهِ
وَطَاعَتِهِ أَوْ كُفْرِهِ وَفِسْقِهِ بِزَوَالِ الْعَقْلِ ، غَايَتُهُ أَنْ
يُسْقِطَ التَّكْلِيفَ . وَرَفْعُ الْقَلَمِ لَا يُوجِبُ حَمْدًا وَلَا مَدْحًا
وَلَا ثَوَابًا وَلَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ بِسَبَبِ زَوَالِ عَقْلِهِ مَوْهِبَةٌ
مِنْ مَوَاهِبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا كَرَامَةٌ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ
بَلْ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ كَمَا قَدْ يُرْفَعُ الْقَلَمُ عَنْ النَّائِمِ
وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَيِّتِ وَلَا مَدْحَ فِي ذَلِكَ وَلَا ذَمَّ بَلْ
النَّائِمُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ
عَلَيْهِمْ السَّلَامُ يَنَامُونَ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَجْنُونٌ وَلَا مُولَهٌ
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّوْمُ
وَالْإِغْمَاءُ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْجُنُونُ وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ
وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ .
وَأَمَّا " الْجُنُونُ " فَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ عَنْهُ ؛
فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ نَقَائِصِ الْإِنْسَانِ ؛ إذْ كَمَالُ الْإِنْسَانِ
بِالْعَقْلِ وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ إزَالَةَ الْعَقْلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ
وَحَرَّمَ مَا يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى إزَالَةِ الْعَقْلِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ ؛
فَحَرَّمَ الْقَطْرَةَ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ تُزِلْ الْعَقْلَ ؛ لِأَنَّهَا
ذَرِيعَةٌ إلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُزِيلُ الْعَقْلَ فَكَيْفَ يَكُونُ
مَعَ هَذَا زَوَالُ الْعَقْلِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ مُقَرِّبًا إلَى
وِلَايَةِ اللَّهِ كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ حَتَّى قَالَ
قَائِلُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ :
هُمْ
مَعْشَرٌ حَلُّوا النِّظَامَ وَخَرَقُوا * * * السِّيَاجَ فَلَا فَرْضٌ لَدَيْهِمْ
وَلَا نَفْلٌ
مَجَانِينُ إلَّا أَنَّ سِرَّ جُنُونِهِمْ * * * عَزِيزٌ عَلَى أَبْوَابِهِ
يَسْجُدُ الْعَقْلُ
فَهَذَا كَلَامُ ضَالٍّ ؛ بَلْ كَافِرٍ يَظُنُّ أَنَّ لِلْمَجْنُونِ سِرًّا
يَسْجُدُ الْعَقْلُ عَلَى بَابِهِ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَآهُ مِنْ بَعْضِ الْمَجَانِينِ
مِنْ نَوْعِ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَصَرُّفٍ عَجِيبٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ . وَيَكُونُ
ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الشَّيَاطِينِ كَمَا يَكُونُ
لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ فَيَظُنُّ هَذَا الضَّالُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَاشَفَ
أَوْ خَرَقَ عَادَةً كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ . وَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فَهُوَ
كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ فَإِنَّ
كَثِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ فَضْلًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
يَكُونُ لَهُمْ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ بِسَبَبِ
شَيَاطِينِهِمْ أَضْعَافُ مَا لِهَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ
أَضَلَّ وَأَكْفَرَ كَانَ الشَّيْطَانُ إلَيْهِ أَقْرَبَ ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ فِي
جَمِيعِ مُكَاشَفَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ . وَلَا بُدَّ فِي
أَعْمَالِهِمْ مِنْ فُجُورٍ وَطُغْيَانٍ كَمَا يَكُونُ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ
السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى
مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }
فَكُلُّ مَنْ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ
كَذِبٌ
وَفُجُورٌ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ كَانَ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ وَحِزْبُهُ الْمُفْلِحُونَ وَجُنْدُهُ الْغَالِبُونَ وَعِبَادُهُ الصَّالِحُونَ . فَمَنْ اعْتَقَدَ فِيمَنْ لَا يَفْعَلُ الْفَرَائِضَ وَلَا النَّوَافِلَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ إمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ أَوْ جَهْلِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِذَا قَالَ : أَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ } فَإِذَا كَانَ طَبَعَ عَلَى قَلْبِ مَنْ تَرَكَ الْجُمَعَ وَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يُصَلِّي ظُهْرًا وَلَا جُمُعَةً وَلَا فَرِيضَةً وَلَا نَافِلَةً وَلَا يَتَطَهَّرُ لِلصَّلَاةِ لَا الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى وَلَا الصُّغْرَى فَهَذَا لَوْ كَانَ قَبْلُ مُؤْمِنًا وَكَانَ قَدْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا بِمَا تَرَكَهُ وَلَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ مِنْ هَذِهِ الْفَرَائِضِ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ
اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } أَيْ : اسْتَوْلَى يُقَالُ : حَاذَ الْإِبِلَ حَوْذًا إذَا اسْتَاقَهَا فَاَلَّذِينَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَسَاقَهُمْ إلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } أَيْ تُزْعِجُهُمْ إزْعَاجًا فَهَؤُلَاءِ { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبَى الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ } . فَأَيُّ ثَلَاثَةٍ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ كَانُوا مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ الَّذِينَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ أَكْرَمَهُمْ ؛ فَإِنْ كَانُوا عُبَّادًا زُهَّادًا وَلَهُمْ جُوعٌ وَسَهَرٌ وَصَمْتٌ وَخَلْوَةٌ كَرُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ وَالْمُقِيمِينَ فِي الْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ كَأَهْلِ جَبَلِ لُبْنَانَ وَأَهْلِ جَبَلِ الْفَتْحِ الَّذِي باسون وَجَبَلِ ليسون وَمَغَارَةِ الدَّمِ بِجَبَلِ قاسيون وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِبَالِ وَالْبِقَاعِ الَّتِي يَقْصِدُهَا كَثِيرٌ مِنْ الْعُبَّادِ الْجُهَّالِ الضُّلَّالِ وَيَفْعَلُونَ فِيهَا خَلَوَاتٍ وَرِيَاضَاتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَذَّنَ وَتُقَامَ فِيهِمْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بَلْ يَتَعَبَّدُونَ بِعِبَادَاتِ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَلْ يَعْبُدُونَهُ بِأَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِأَحْوَالِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَلَا
قَصْدِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { قُلْ
إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } الْآيَةُ فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ مِنْ
حِزْبِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ فَمَنْ شَهِدَ لَهُمْ
بِوِلَايَةِ اللَّهِ فَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ كَاذِبٌ وَعَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ
نَاكِبٌ . ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلرَّسُولِ
وَشَهِدَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ عَنْ
دِينِ الْإِسْلَامِ وَإِمَّا مُكَذِّبٌ لِلرَّسُولِ وَإِمَّا شَاكٌّ فِيمَا جَاءَ
بِهِ مُرْتَابٌ وَإِمَّا غَيْرُ مُنْقَادٍ لَهُ بَلْ مُخَالِفٌ لَهُ إمَّا
جُحُودًا أَوْ عِنَادًا أَوْ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ
كَافِرٌ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ جَاهِلًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ مَعَ
ذَلِكَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ
وَالظَّاهِرَةِ وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ
الْبِدْعِيَّةَ وَالْحَقَائِقَ الشَّيْطَانِيَّةَ هِيَ مِمَّا جَاءَ بِهَا
الرَّسُولُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ لِجَهْلِهِ بِسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ
وَمِنْهَاجِهِ وَطَرِيقَتِهِ وَحَقِيقَتِهِ ؛ لَا لِقَصْدِ مُخَالَفَتِهِ وَلَا
يَرْجُو الْهُدَى فِي غَيْرِ مُتَابَعَتِهِ فَهَذَا يُبَيَّنُ لَهُ الصَّوَابُ
وَيُعَرَّفُ مَا بِهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ فَإِنْ تَابَ وَأَنَابَ
وَإِلَّا أُلْحِقَ بِالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ وَكَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا
وَلَا تُنْجِيهِ عِبَادَتُهُ وَلَا زَهَادَتُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ كَمَا لَمْ
يَنْجُ مِنْ ذَلِكَ الرُّهْبَانُ وَعُبَّادُ الصُّلْبَانِ وَعُبَّادُ النِّيرَانِ
وَعُبَّادُ الْأَوْثَانِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ فِيهِمْ مِمَّنْ لَهُ خَوَارِقُ
شَيْطَانِيَّةٌ وَمُكَاشَفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ قَالَ
تَعَالَى
: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا } { الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعًا } . قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ نَزَلَتْ
فِي أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَتَأَوَّلُونَهَا فِي الحرورية وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ
وَالضَّلَالَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } فَالْأَفَّاكُ هُوَ
الْكَذَّابُ وَالْأَثِيمُ الْفَاجِرُ كَمَا قَالَ : { لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ
} { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } .
وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ كَانَ كَاذِبًا وَإِنْ كَانَ لَا
يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ سبيعة الأسلمية وَقَدْ تُوُفِّيَ
عَنْهَا زَوْجُهَا سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكَانَتْ
حَامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ قَلَائِلَ فَقَالَ لَهَا
أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بعكك : مَا أَنْتَ بِنَاكِحَةٍ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْكِ
آخِرُ الْأَجَلَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبَ
أَبُو السَّنَابِلِ بَلْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي } وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ سَلَمَةُ
بْنُ الْأَكْوَعِ إنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ عَامِرًا قَتَلَ نَفْسَهُ وَحَبِطَ
عَمَلُهُ فَقَالَ : " كَذَبَ مَنْ قَالَهَا ؛ إنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ
" وَكَانَ قَائِلُ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ فَإِنَّهُ كَانَ
رَجُلًا صَالِحًا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أسيد بْنَ الحضير ؛ لَكِنَّهُ
لَمَّا تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ كَذَّبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا يُفْتُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ : إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَهُوَ مِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . فَإِذَا كَانَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِ الْمَغْفُورِ لَهُ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَكَيْفَ بِمَنْ تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ ؟ فَهَذَا خَطَؤُهُ أَيْضًا مِنْ الشَّيْطَانِ مَعَ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتُبْ وَالْمُجْتَهِدُ خَطَؤُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ ؛ كَمَا أَنَّ الِاحْتِلَامَ وَالنِّسْيَانَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَغْفُورٌ بِخِلَافِ مَنْ تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ فَهَذَا كَاذِبٌ آثِمٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِلُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ وَيُوحِي إلَيْهِ بِحَسَبِ مُوَافَقَتِهِ لَهُ وَيُطْرَدُ بِحَسَبِ إخْلَاصِهِ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ لَهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } . وَعِبَادُهُ هُمْ الَّذِينَ عَبَدُوهُ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ والْمُسْتَحَبَّاتِ وَأَمَّا مَنْ عَبَدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ عِبَادِ الشَّيْطَانِ ؛ لَا مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ . قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } { وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } . وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ بَلْ قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الصَّالِحِينَ كَاَلَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ
وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ وَإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَتَوَسَّلُونَ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . قَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } { قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } . وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُقَارِنُهَا حِينَئِذٍ حَتَّى يَكُونَ سُجُودُ عُبَّادِ الشَّمْسِ لَهُ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَسُجُودُهُمْ لِلشَّيْطَانِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ دَعَوَاتِ الْكَوَاكِبِ الَّذِينَ يَدْعُونَ كَوْكَبًا مِنْ الْكَوَاكِبِ وَيَسْجُدُونَ لَهُ وَيُنَاجُونَهُ وَيَدْعُونَهُ وَيَصْنَعُونَ لَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْبَخُورِ وَالتَّبَرُّكَاتِ مَا يُنَاسِبُهُ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " السِّرِّ الْمَكْتُومِ " الْمَشْرِقِيُّ وَصَاحِبُ " الشُّعْلَةِ النُّورَانِيَّةِ " البوني الْمَغْرِبِيُّ وَغَيْرُهُمَا ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحٌ تُخَاطِبُهُمْ وَتُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ الْأُمُورِ وَتَقْضِي لَهُمْ بَعْضَ الْحَوَائِجِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا مَلَائِكَةٌ وَإِنَّمَا هِيَ شَيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ اللَّذَانِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ
يَعِظُكُمْ بِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قُيِّضَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَصَارَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ بِحَسَبِ مَا تَابَعَهُ . وَإِنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلرَّحْمَنِ تَارَةً وَلِلشَّيْطَانِ أُخْرَى كَانَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَوِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الرَّحْمَنَ وَكَانَ فِيهِ مِنْ عَدَاوَةِ اللَّهِ وَالنِّفَاقِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الشَّيْطَانَ كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ الْقُلُوبُ " أَرْبَعَةٌ " قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ . وَقَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ - و " الْأَغْلَفُ " الَّذِي يُلَفُّ عَلَيْهِ غِلَافٌ . كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ } - وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ . وَقَلْبٌ فِيهِ مَادَّتَانِ : مَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلْإِيمَانِ وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلنِّفَاقِ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا فِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد " مَرْفُوعًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَلْبَ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَشُعْبَةُ إيمَانٍ . فَإِذَا كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ كَانَ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ وِلَايَتِهِ وَشُعْبَةٌ مِنْ عَدَاوَتِهِ ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ خَوَارِقُ مِنْ جِهَةِ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَخَوَارِقُ مِنْ جِهَةِ نِفَاقِهِ وَعَدَاوَتِهِ تَكُونُ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيَاطِينِ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى : أَنْ نَقُولَ كُلَّ صَلَاةٍ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . و " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " هُمْ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ و " الضَّالُّونَ " الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ . فَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَذَوْقَهُ وَوَجْدَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مِنْ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ " الضَّالِّينَ " . نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ يَقُولُ الطُّرُقُ إلَى اللَّهِ عَدَدُ أَنْفَاسِ الْخَلَائِقِ . هَلْ
قَوْلُهُ صَحِيحٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ الْمُوَافِقَةَ لِلْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ : كَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْجِهَادِ وَالذِّكْرِ
وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذَا صَحِيحٌ . وَإِنْ أَرَادَ إلَى اللَّهِ
طَرِيقًا مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ .وَاللَّهُ
أَعْلَم
قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ : عَلَّامَةُ الزَّمَانِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ
تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يَضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ "
فِي كِتَابِ فُتُوحِ الْغَيْبِ : لَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فِي سَائِرِ
أَحْوَالِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَمْرٌ يَمْتَثِلُهُ . وَنَهْيٌ يَجْتَنِبُهُ
. وَقَدَرٌ يَرْضَى بِهِ .
فَأَقَلُّ حَالَةٍ لَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُلْزِمَ بِهَا قَلْبَهُ وَيُحَدِّثَ بِهَا نَفْسَهُ وَيَأْخُذَ بِهَا الْجَوَارِحَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ " . ( قُلْت ) : هَذَا كَلَامٌ شَرِيفٌ جَامِعٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ ، وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } فَإِنَّ " التَّقْوَى " تَتَضَمَّنُ : فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ وَ " الصَّبْرَ " يَتَضَمَّنُ : الصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ . " فَالثَّلَاثَةُ " تَرْجِعُ إلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ، وَالثَّلَاثَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَرْجِعُ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ : أَنْ يَفْعَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ الَّتِي خَلَقَ لَهَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
وَالرُّسُلُ كُلُّهُمْ أَمَرُوا قَوْمَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } . وَإِنَّمَا كَانَتْ " الثَّلَاثَةُ " تَرْجِعُ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِضِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ الْمَأْمُورِ وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي تَحْدُثُ أَسْبَابُ الْمَعْصِيَةِ يَحْتَاجُ إلَى الِامْتِنَاعِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا فِعْلٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَخْطِرْ لَهُ الْمَعْصِيَةُ بِبَالِ فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ عَدَمُ ذَنْبِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِسَلَامَتِهِ مِنْ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ ، وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ الْمُسْتَمِرُّ لَا يُؤْمَرُ بِهِ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِأَمْرِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَذَاكَ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا : سَوَاءٌ كَانَ إحْدَاثَ إيجَادِ أَمْرٍ أَوْ إعْدَامِ أَمْرٍ . وَأَمَّا " الْقَدَرُ الَّذِي يَرْضَى بِهِ " فَإِنَّهُ إذَا اُبْتُلِيَ بِالْمَرَضِ أَوْ الْفَقْرِ أَوْ الْخَوْفِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ أَمْرَ إيجَابٍ ، وَمَأْمُورٌ بِالرِّضَا إمَّا أَمْرُ إيجَابٍ ، وَإِمَّا أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ ؛ وَلِلْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ وَنَفْسُ الصَّبْرِ وَالرِّضَا بِالْمَصَائِبِ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مِنْ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ .
لَكِنْ هَذِهِ " الثَّلَاثَةُ " وَإِنْ دَخَلَتْ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَعِنْدَ التَّفْصِيلِ وَالِاقْتِرَانِ : إمَّا أَنْ تُخَصُّ بِالذِّكْرِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ يُرَادُ بِهَذَا مَا لَا يُرَادُ بِهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } فَإِنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الْعِبَادَةِ ، وَعِنْدَ " الِاقْتِرَانِ " إمَّا أَنْ يُقَالَ : ذِكْرُهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ ذِكْرُهُ خُصُوصًا يُغْنِي عَنْ دُخُولِهِ فِي الْعَامِّ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلُهُ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } وَقَدْ يُقَالُ : لَفْظُ " التَّبْتِيلِ " لَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَعْطُوفَةَ كَمَا يَتَنَاوَلُهَا لَفْظُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ . وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَرْقٌ مَا بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ أَوْ عِنْدَ حُبّ الشَّيْءِ وَبُغْضِهِ . وَكَلَامُ الشَّيْخِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَدُورُ عَلَى هَذَا الْقُطْبِ وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَخْلُوَ فِيمَا سِوَاهُمَا عَنْ إرَادَةٍ ؛
لِئَلَّا
يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ غَيْرُ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا لَمْ يُؤْمَرْ
بِهِ الْعَبْدُ بَلْ فَعَلَهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ بِلَا وَاسِطَةِ الْعَبْدِ
أَوْ فَعَلَهُ بِالْعَبْدِ بِلَا هَوَى مِنْ الْعَبْدِ . فَهَذَا هُوَ الْقَدَرُ
الَّذِي عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِهِ . وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ مَا
يُبَيِّنُ مُرَادَهُ وَأَنَّ الْعَبْدَ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ
مَا أُمِرَ بِهِ وَيَتْرُكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ أَمَرَ الْعَبْدَ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ فَمَا فَعَلَهُ
الرَّبُّ كَانَ عَلَيْنَا التَّسْلِيمُ فِيمَا فَعَلَهُ وَهَذِهِ هِيَ "
الْحَقِيقَةُ " فِي كَلَامِ الشَّيْخِ وَأَمْثَالِهِ . وَتَفْصِيلُ
الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ هَذَا " نَوْعَانِ
" : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا فِيمَا فَعَلَهُ
الرَّبُّ . إمَّا بِحُبِّ لَهُ وَإِعَانَةٍ عَلَيْهِ . وَإِمَّا بِبُغْضِ لَهُ
وَدَفْعٍ لَهُ . وَ ( الثَّانِي ) : أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا
بِوَاحِدِ مِنْهُمَا . ( فَالْأَوَّلُ ) مِثْلُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى الَّذِي يَفْعَلُهُ
غَيْرُهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِحُبِّهِ وَإِعَانَتِهِ عَلَيْهِ : كَإِعَانَةِ
الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الْجِهَادِ وَإِعَانَةِ سَائِرِ
الْفَاعِلِينَ لِلْحَسَنَاتِ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ
وَبِمَحَبَّةِ ذَلِكَ وَالرِّضَا بِهِ وَكَذَلِكَ هُوَ مَأْمُورٌ عِنْدَ مُصِيبَةِ
الْغَيْرِ : إمَّا بِنَصْرِ مَظْلُومٍ وَإِمَّا بِتَعْزِيَةِ مُصَابٍ وَإِمَّا
بِإِغْنَاءِ فَقِيرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِبُغْضِهِ وَدَفْعِهِ فَمِثْلُ : مَا إذَا أَظْهَرَ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِبُغْضِ ذَلِكَ وَدَفْعِهِ وَإِنْكَارِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ . فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ . فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } " . وَأَمَّا مَا لَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ فِيهِ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا : فَمِثْلُ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ لِلْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ . فَهَذِهِ لَا يُؤْمَرُ بِحُبِّهَا وَلَا بِبُغْضِهَا وَكَذَلِكَ مُبَاحَاتُ نَفْسِهِ الْمَحْضَةُ الَّتِي لَمْ يَقْصِدْ الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ . مَعَ أَنَّ هَذَا نَقْصٌ مِنْهُ فَإِنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ إلَّا مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيَقْصِدُ الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ فَهَذَا سَبِيلُ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ وَلَمْ يَزَلْ أَحَدُهُمْ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِذَلِكَ حَتَّى أَحَبَّهُ فَكَانَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ الْمُبَاحَاتِ مَعَ الْغَفْلَةِ أَوْ فَعَلَ فُضُولَ الْمُبَاحِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهَذَا مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ .
و ( بِالْجُمْلَةِ الْأَفْعَالُ الَّتِي يُمْكِنُ دُخُولُهَا تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا تَكُونُ مُسْتَوِيَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ إنْ فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْبُوبِ كَانَ وُجُودُهَا خَيْرًا لِلْعَبْدِ : وَإِلَّا كَانَ تَرْكُهَا خَيْرًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهَا فَفُضُولُ الْمُبَاحِ الَّتِي لَا تُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ عَدَمُهَا خَيْرٌ مِنْ وُجُودِهَا إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِهَا يَشْتَغِلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ شَاغِلَةً لَهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا تَشْغَلُهُ عَمَّا دُونَهَا فَهِيَ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا دُونَهَا وَإِنْ شَغَلَتْهُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَتْ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ اشْتِغَالُهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا . وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي يُمْكِنُ الِاسْتِعَانَةُ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ : كَالنَّوْمِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ ؛ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ الَّذِي يُمْكِنُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ ؛ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا مِنْ الْعَبْدِ وَفَوَاتَ حَسَنَةٍ ؛ وَخَيْرٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِسَعْدِ : إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةُ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك } " وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ : { نَفَقَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً } " . فَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ أَوْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَمْ يَصْحَبْهُ إيمَانٌ يَجْعَلُهُ حَسَنَةً فَعَدَمُهُ خَيْرٌ مِنْ وُجُودِهِ إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِهِ يَشْتَغِلُ بِمَا هُوَ
خَيْرٌ مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ . قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَمَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؟ قَالُوا : بَلَى قَالَ : فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ بِهَا أَجْرٌ . فَلِمَ تَعْتَدُّونَ بِالْحَرَامِ وَلَا تَعْتَدُّونَ بِالْحَلَالِ } " . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ شَهْوَةِ النِّكَاحِ يَقْصِدُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ إلَى مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ ؛ وَيَقْصِدُ فِعْلَ الْمُبَاحِ مُعْتَقِدًا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَهُ " { وَاَللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } " كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ وَلِهَذَا أَحَبّ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فَعُدُولُ الْمُؤْمِنِ عَنْ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالتَّشْدِيدِ وَتَعْذِيبِ النَّفْسِ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ إلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الرُّخْصَةِ هُوَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَإِنْ فَعَلَ مُبَاحًا لَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْقَصْدِ الَّذِينَ كِلَاهُمَا طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . وَ ( أَيْضًا فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْأَكْلِ عِنْدَ الْجُوعِ وَالشُّرْبِ عِنْدَ الْعَطَشِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ إلَى الْمِيتَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَلَوْ لَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ كَانَ مُسْتَوْجِبًا لِلْوَعِيدِ كَمَا هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْوَطْءِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ بَلْ وَهُوَ مَأْمُورٌ
بِنَفْسِ عَقْدِ النِّكَاحِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَقُدِّرَ عَلَيْهِ . فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ } " فَإِنَّ الْمُبَاضَعَةَ مَأْمُورٌ بِهَا لِحَاجَتِهِ وَلِحَاجَةِ الْمَرْأَةِ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ قَضَاءَ حَاجَتِهَا الَّتِي لَا تَنْقَضِي إلَّا بِهِ بِالْوَجْهِ الْمُبَاحِ صَدَقَةٌ . وَ " السُّلُوكُ " سُلُوكَانِ : سُلُوكُ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ وَهُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَ ( الثَّانِي ) : سُلُوكُ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ وَهُوَ فِعْلُ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَرِك الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ . وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } " . وَكَلَامُ الشُّيُوخِ الْكِبَارِ : كَالشَّيْخِ " عَبْدِ الْقَادِرِ " وَغَيْرِهِ يُشِيرُ إلَى هَذَا السُّلُوكِ ؛ وَلِهَذَا يَأْمُرُونَ بِمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ وَيَنْهَوْنَ عَمَّا هُوَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ فَإِنَّهُمْ يَسْلُكُونَ بِالْخَاصَّةِ مَسْلَكَ الْخَاصَّةِ وَبِالْعَامَّةِ مَسْلَكَ الْعَامَّةِ وَطَرِيقُ الْخَاصَّةِ طَرِيقُ الْمُقَرَّبِينَ أَلَّا يَفْعَلَ الْعَبْدُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ وَلَا يُرِيدُ إلَّا مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِرَادَتِهِ وَهُوَ مَا يُحِبُّهُ
اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُرِيدُهُ إرَادَةً دِينِيَّةً شَرْعِيَّةً وَإِلَّا فَالْحَوَادِثُ كُلُّهَا مُرَادَةٌ لَهُ خَلْقًا وَتَكْوِينًا . وَالْوُقُوفُ مَعَ الْإِرَادَةِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ مُطْلَقًا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَقْلًا وَلَا مَأْمُورٍ شَرْعًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا يَجِبُ دَفْعُهُ وَلَا تَجُوزُ إرَادَتُهُ كَمَنْ أَرَادَ تَكْفِيرَ الرَّجُلِ أَوْ تَكْفِيرَ أَهْلِهِ أَوْ الْفُجُورَ بِهِ أَوْ بِأَهْلِهِ أَوْ أَرَادَ قَتْلَ النَّبِيِّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِهِ أَوْ أَرَادَ إضْلَالَ الْخَلْقِ ، وَإِفْسَادَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَجِبُ دَفْعُهَا وَكَرَاهَتُهَا ؛ لَا تَجُوزُ إرَادَتُهَا . وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ عَقْلًا ؛ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبّ مَا يُلَائِمُهُ وَبُغْضِ مَا يُنَافِرُهُ فَهُوَ عِنْدُ الْجُوعِ يُحِبُّ مَا يُغْنِيهِ كَالطَّعَامِ وَلَا يُحِبُّ مَا لَا يُغْنِيهِ كَالتُّرَابِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إرَادَتُهُ لِهَذَيْنِ سَوَاءً . وَكَذَلِكَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ الَّذِي يَنْفَعُهُ وَيُبْغِضُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ الَّذِي يَضُرُّهُ بَلْ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَيُبْغِضُ عِبَادَةَ مَا دُونِهِ . كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } . فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَتَأَسَّى بِإِبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ إذْ تَبَرَّءُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمِمَّا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقَالَ الْخَلِيلُ : ( { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } وَالْبَرَاءَةُ ضِدُّ الْوِلَايَةِ وَأَصِلُ الْبَرَاءَةِ الْبُغْضُ وَأَصْلُ الْوِلَايَةِ الْحُبُّ وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ أَلَّا يُحِبَّ إلَّا اللَّهَ وَيُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ لِلَّهِ فَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضُ إلَّا لِلَّهِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } . وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَالْحَبِّ مَعَ اللَّهِ فَأَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ يُحِبُّونَ غَيْرَ اللَّهِ لِلَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ غَيْرَ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ كَحُبِّ الْمُشْرِكِينَ لِآلِهَتِهِمْ وَحُبِّ النَّصَارَى لِلْمَسِيحِ وَحُبِّ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ رُءُوسَهُمْ . فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ مَفْطُورٌ عَلَى حُبِّ مَا يَنْفَعُهُ وَبُغْضِ مَا يَضُرُّهُ . لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَسْتَوِيَ إرَادَتُهُ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ فِطْرَةً وَخَلْقًا وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ بَلْ قَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِرَادَةِ أُمُورٍ وَكَرَاهَةِ أُخْرَى .
وَالرُّسُلُ
- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ
وَتَقْرِيرِهَا لَا بِتَحْوِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَغْيِيرِهَا . وَقَدْ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ
عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ
} " قَالَ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وَفِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
" { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ
فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ
وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } "
. وَ " الْحَنِيفِيَّةُ " هِيَ الِاسْتِقَامَةُ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ
لِلَّهِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُبَّهُ تَعَالَى وَالذُّلَّ لَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ
شَيْئَا لَا فِي الْحُبِّ وَلَا فِي الذُّلِّ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ تَتَضَمَّنُ
غَايَةَ الْحُبِّ بِغَايَةِ الذُّلِّ وَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ الْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ
عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ .
وَالرَّسُولُ يُطَاعُ وَيُحَبُّ فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ وَالْحَرَامُ مَا
حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ
إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } .
وَهَذَا حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَالرُّسُلُ بُعِثُوا بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } . فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْتَصِمَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا مُحِبًّا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ كَارِهًا مُبْغِضًا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِكَرَاهَتِهِ وَبُغْضِهِ . وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ " أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ " : أَكْمَلُهُمْ الَّذِينَ يُحِبُّونَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَيُبْغِضُونَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيُرِيدُونَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِرَادَتِهِ وَيَكْرَهُونَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِكَرَاهَتِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ حُبّ وَلَا بُغْضٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ . فَيَأْمُرُونَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَا يَأْمُرُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَيَنْهَوْنَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذِهِ حَالُ الْخَلِيلَيْنِ أَفْضَلِ الْبَرِّيَّةِ : مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ وَقَدْ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } " . وَذَكَرَ : أَنَّ رَبَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا ؛ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا . فَإِنَّ " النَّبِيَّ الْمَلِكَ " مِثْلُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ قَالَ تَعَالَى : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قَالُوا : مَعْنَاهُ أَعْطِ مَنْ شِئْت وَامْنَعْ مَنْ شِئْت لَا نُحَاسِبُك " فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ " يُعْطِي بِإِرَادَتِهِ لَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ كَاَلَّذِي يَفْعَلُ الْمُبَاحَاتِ بِإِرَادَتِهِ . وَأَمَّا " الْعَبْدُ الرَّسُولُ " فَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّهِ وَهُوَ مَحَبَّتُهُ وَرِضَاهُ وَإِرَادَتُهُ الدِّينِيَّةُ وَالسَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ أَتْبَاعُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَالْمُقْتَصِدُونَ أَهْلُ الْيَمِينِ أَتْبَاعُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ حَالٌ هُوَ فِيهَا خَالٍ عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ : وَهُوَ أَلَّا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ فِي عَطَاءٍ وَلَا مَنْعٍ ، لَا إرَادَةً دِينِيَّةً هُوَ مَأْمُورٌ بِهَا وَلَا إرَادَةً نَفْسَانِيَّةً سَوَاءٌ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا أَوْ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهَا بَلْ مَا وَقَعَ كَانَ مُرَادًا لَهُ وَمَهْمَا فَعَلَ بِهِ كَانَ مُرَادًا لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ شَرْعًا فِي ذَلِكَ .
فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ أَمْوَالٌ يُعْطِيهَا وَلَيْسَ لَهُ إرَادَةٌ فِي إعْطَاءٍ مُعَيَّنٍ لَا إرَادَةً شَرْعِيَّةً وَلَا إرَادَةً مَذْمُومَةً ؛ بَلْ يُعْطِي كُلَّ أَحَدٍ . فَهَذَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ وَلَكِنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ الْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي تَفْصِيلِ أَفْعَالِهِ . فَإِنَّهُ لَا يُذَمُّ عَلَى مَا فَعَلَ وَلَا يُمْدَحُ مُطْلَقًا . بَلْ يُمْدَحُ لِعَدَمِ هَوَاهُ وَلَوْ عَلِمَ تَفْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَرَادَهُ إرَادَةً شَرْعِيَّةً لَكَانَ أَكْمَلَ . بَلْ هَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ . وَحَالُ هَذَا خَيْرٌ مِنْ حَالِ مَنْ يُرِيدُ بِحُكْمِ هَوَاهُ وَنَفْسِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ وَهُوَ دُونَ مَنْ يُرِيدُ بِأَمْرِ رَبِّهِ لَا بِهَوَاهُ وَلَا بِالْقَدَرِ الْمَحْضِ . فَمَضْمُونُ هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ النَّاسَ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ " : قَوْمٌ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا إلَّا بِحُكْمِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ . وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ حَالُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فِي ذَلِكَ . وَ قَوْمٌ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِحُكْمِ إرَادَتِهِمْ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً . وَهَذَا حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ . وَهُوَ حَالُ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ . وَقَوْمٌ لَا يَتَصَرَّفُونَ بِهَذَا وَلَا بِهَذَا . أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَلِعَدَمِ
عِلْمِهِمْ بِهِ . وَأَمَّا " الثَّانِي " فَلِزُهْدِهِمْ فِيهِ ؛ بَلْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِحُكْمِ الْقَدَرِ الْمَحْضِ اتِّبَاعًا لِإِرَادَةِ اللَّهِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ حِينَ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةُ الْأَمْرِيَّةُ وَهَذَا كَالتَّرْجِيحِ بِالْقُرْعَةِ إذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ بِسَبَبِ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٍ وَقَدْ يَتَصَرَّفُ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِإِلْهَامِ يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَخِطَابٍ . وَكَلَامُ " الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ " - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ؛ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالزُّهْدِ فِي إرَادَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا حَتَّى لَا يَتَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْإِرَادَةِ وَالنَّفْسِ وَهَذَا رَفْعٌ لَهُ عَنْ حَالِ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ وَعَنْ طَرِيقِ الْمُلُوكِ مُطْلَقًا وَمَنْ حَصَلَ هَذَا وَتَصَرَّفَ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الْقُرْآنِيِّ فَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ بِقَتْلِ مُقَاتِلَتِهِمْ ، وَبِسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وَغَنِيمَةِ أَمْوَالِهِمْ . قَالَ : لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ } " . وَذَلِكَ أَنَّ تَخْيِيرَ وَلِيِّ الْأَمْرِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ، وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ لَيْسَ تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ بَلْ تَخْيِيرَ رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَصْلَحَ ، فَإِنْ اخْتَارَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ وَإِلَّا فَلَا . وَلَمَّا كَانَ هَذَا يَخْفَى كَثِيرًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ : " { إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك ، وَحُكْمِ أَصْحَابِك } " وَالْحَاكِمُ الَّذِي يُنْزِلُ أَهْلَ الْحِصْنِ عَلَى حُكْمِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَمَّا أَمَرَ سَعْدًا بِمَا هُوَ الْأَرْضَى لِلَّهِ وَالْأَحَبُّ إلَيْهِ حَكَمَ بِحُكْمِهِ وَلَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَنَفَذَ حُكْمُهُ فَإِنَّهُ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ . فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي لَا يَتَبَيَّنُ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ فِي الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ يَأْمُرُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الشُّيُوخِ : " تَارَةً " بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَمْرِ الْبَاطِنِ وَالْإِلْهَامِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ وَ " تَارَةً " بِالرُّجُوعِ إلَى الْقَدَرِ الْمَحْضِ لِتَعَذُّرِ الْأَسْبَابِ الْمُرَجِّحَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ كَمَا يُرَجِّحُ الشَّارِعُ بِالْقُرْعَةِ . فَهُمْ يَأْمُرُونَ أَلَّا يُرَجِّحَ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ وَهَوَاهُ فَإِنَّ هَذَا إمَّا مُحَرَّمٌ وَإِمَّا مَكْرُوهٌ وَإِمَّا مُنْقِصٌ ، فَهُمْ فِي هَذَا النَّهْيِ كَنَهْيِهِمْ عَنْ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ . ثُمَّ إنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِهِ وَإِلَّا رَجَّحُوا : إمَّا " بِسَبَبِ بَاطِنٍ " مِنْ الْإِلْهَامِ وَالذَّوْقِ وَإِمَّا " بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ " الَّذِي لَا يُضَافُ إلَيْهِمْ . وَمَنْ يُرَجِّحُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ " بِاسْتِخَارَةِ اللَّهِ " كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ أَصَابَ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ أَدِلَّةُ " الْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ " عِنْدَ النَّاظِرِ الْمُجْتَهِدِ وَعِنْدَ الْمُقَلِّدِ الْمُسْتَفْتِي فَإِنَّهُ لَا يُرَجِّحُ شَيْئًا . بَلْ مَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ أَقَرُّوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ . وَتَارَةً يُرَجِّحُ أَحَدُهُمْ : إمَّا بِمَنَامِ وَإِمَّا بِرَأْيٍ مُشِيرٍ نَاصِحٍ وَإِمَّا بِرُؤْيَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ . وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ بِحَيْثُ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ يُرَجِّحُ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ . فَهَذَا لَيْسَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَكِنْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي الْعَامِّيِّ الْمُسْتَفْتِي : إنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُفْتِينَ الْمُخْتَلِفِينَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ السَّالِكِينَ إذَا اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ فِي الشَّرِيعَةِ رَجَّحَ بِمُجَرَّدِ ذَوْقِهِ وَإِرَادَتِهِ فَالتَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إلَى أَمْرٍ عِلْمِيٍّ بَاطِنٍ وَلَا ظَاهِرٍ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ . فَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ لَا يَقُولُونَ هَذَا . وَلَكِنْ مَنْ جَوَّزَ لِمُجْتَهِدِ أَوْ مُقَلِّدٍ التَّرْجِيحَ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ نَظِيرُ مَنْ شَرَعَ لِلسَّالِكِ التَّرْجِيحَ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ وَذَوْقِهِ . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : الْقَلْبُ الْمَعْمُورُ بِالتَّقْوَى إذَا رَجَّحَ بِإِرَادَتِهِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ شَرْعِيٌّ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ مِنْ هَذَا فَمَنْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ إرَادَةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَبُغْضُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ إذَا لَمْ يَدْرِ فِي الْأَمْرِ الْمُعَيَّنِ
هَلْ هُوَ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ أَوْ مَكْرُوهٌ وَرَأَى قَلْبَهُ يُحِبُّهُ أَوْ يَكْرَهُهُ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا عِنْدَهُ . كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ صِدْقُهُ أَغْلَبُ مِنْ كَذِبِهِ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ بِخَبَرِ هَذَا عِنْدَ انْسِدَادِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحٌ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ . فَفِي " الْجُمْلَةِ " مَتَى حَصَلَ مَا يَظُنُّ مَعَهُ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَحَبّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلْهَامِ طَرِيقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَخْطَئُوا كَمَا أَخْطَأَ الَّذِينَ جَعَلُوهُ طَرِيقًا شَرْعِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَلَكِنْ إذَا اجْتَهَدَ السَّالِكُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا تَرْجِيحًا وَأُلْهِمَ حِينَئِذٍ رُجْحَانَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ مَعَ حُسْنِ قَصْدِهِ وَعِمَارَتِهِ بِالتَّقْوَى فَإِلْهَامُ مِثْلِ هَذَا دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ ؛ قَدْ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ ؛ وَالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالظَّوَاهِرِ الضَّعِيفَةِ وَالِاسْتِصْحَابات الضَّعِيفَةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْمَذْهَبِ وَالْخِلَافِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ ؛ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ
صَادِقَةٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي } وَ ( أَيْضًا فَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ : وَهُوَ حُبّ الْمَعْرُوفِ وَبُغْضُ الْمُنْكَرِ فَإِذَا لَمْ تَسْتَحِلْ الْفِطْرَةُ فَالْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْحَقِّ فَإِذَا كَانَتْ الْفِطْرَةُ مُقَوَّمَةٌ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ مُنَوَّرَةٌ بِنُورِ الْقُرْآنِ وَخَفِيَ عَلَيْهَا دَلَالَةُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَرَأَى قَلْبَهُ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَمَارَاتِ عِنْدَ مِثْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } الْآيَةَ . ثُمَّ قَالَ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ } " وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : " { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ . فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ ، وَالسُّتُورُ حُدُودُ اللَّهِ ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ نَادَاهُ الْمُنَادِي - أَوْ كَمَا قَالَ - يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَفْتَحْهُ فَإِنَّك إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ . وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ } " . فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَاعِظٌ وَالْوَاعِظُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِتَرْغِيبِ وَتَرْهِيبٍ ؛ فَهَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مُطَابِقٌ لِأَمْرِ الْقُرْآنِ وَنَهْيِهِ وَلِهَذَا يَقْوَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي الْآيَةِ : هُوَ الْمُؤْمِنُ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ بِالْأَثَرِ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ . نُورُ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ يُطَابِقُ نُورَ الْقُرْآنِ كَمَا أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَقْلِيَّ يُطَابِقُ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ . وَقَدْ يُؤْتَى الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا وَلَا يُؤْتَى الْآخَرَ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ . وَمَثَلُ
الْمُؤْمِنِ
الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا
رِيحَ لَهَا ؛ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ
الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي
لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا
مُرٌّ } .
وَالْإِلْهَامُ فِي الْقَلْبِ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ
وَالظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَالْحُبِّ
وَالْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ فَقَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ
أَرْجَحُ وَأَظْهَرُ وَأَصْوَبُ وَقَدْ يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى أَحَدِ
الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ
مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } " وَالْمُحَدَّثُ
الْمُلْهَمُ الْمُخَاطَبُ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ { : الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ
النَّفْسُ وَسَكَنَ إلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَإِنْ
أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك } " وَهُوَ فِي السُّنَنِ . وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : " { الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك
وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ } " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ :
الْإِثْمُ حِزَازُ الْقُلُوبِ . وَ ( أَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُورُ الْكَوْنِيَّةُ
قَدْ تَنْكَشِفُ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا فَالْأُمُورُ
الدِّينِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ إلَى كَشْفِهَا أَحْوَجُ
لَكِنَّ هَذَا فِي الْغَالِبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَشْفًا بِدَلِيلِ وَقَدْ
يَكُونُ
بِدَلِيلِ يَنْقَدِحُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ وَهَذَا أَحَدُ مَا فُسِّرَ بِهِ مَعْنَى " الِاسْتِحْسَانِ " . وَقَدْ قَالَ مَنْ طَعَنَ فِي ذَلِكَ - كَأَبِي حَامِدٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ - : مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ فَهُوَ هَوَسٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ إبَانَةَ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقَلْبِهِ ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُبَيِّنُهَا بَيَانًا نَاقِصًا وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَشْفِ يُلْقَى فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ حَرَامٌ أَوْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَافِرٌ أَوْ فَاسِقٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ وَبِالْعَكْسِ قَدْ يُلْقَى فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةُ شَخْصٍ وَأَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ أَوْ أَنَّ هَذَا الْمَالَ حَلَالٌ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانَ أَنَّ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ لَكِنْ إنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ تَرْجِيحًا لِطَالِبِ الْحَقِّ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ الظَّاهِرَةُ . فَالتَّرْجِيحُ بِهَا خَيْرٌ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ قَطْعًا فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا بَاطِلَةٌ قَطْعًا . كَمَا قُلْنَا : إنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ ظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ بِنَقِيضِهِ إذَا اُحْتِيجَ إلَى الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يَجُوزُ تَكَافُؤُ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ قَدْ تَتَكَافَأُ عِنْدَ النَّاظِرِ لِعَدَمِ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ عَالِمٍ بِالْحَقِّ الْبَاطِنِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَزِيَّةٌ فِي عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ فَهَؤُلَاءِ
قَدْ يُجَوِّزُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ تَكَافُؤَ الْأَدِلَّةِ وَيَجْعَلُونَ الْوَاجِبَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَى الظَّنِّ دَلِيلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ وَإِنَّمَا رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ هُوَ مِنْ بَابِ الرُّجْحَانِ بِالْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ كَتَرْجِيحِ النَّفْسِ الْغَضَبِيَّةِ لِلِانْتِقَامِ وَالنَّفْسِ الْحَلِيمَةِ لِلْعَفْوِ . وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ حَقٍّ مُعَيَّنٍ يُصِيبُهُ الْمُسْتَدِلُّ تَارَةً وَيُخَطِّئُهُ أُخْرَى . كَالْكَعْبَةِ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَالْمُجْتَهِدُ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ بِالصَّلَاةِ إلَيْهَا كَالْمُجْتَهِدِ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى قَوْلٍ فَعَمِلَ بِمُوجِبِهِ كِلَاهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ وَهُوَ مُصِيبٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ مُصِيبًا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلِمَ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا وَمُصِيبُهُ لَهُ أَجْرَانِ وَهَذَا فِي كَشْفِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَكِنْ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَبْدِ . فَإِنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ ( الْأَحْكَامَ الْكُلِّيَّةَ ) . وَأَمَّا ( الْأَحْكَامُ الْمُعَيَّنَاتُ الَّتِي تُسَمَّى تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ " مِثْلُ كَوْنِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ مُنَافِقًا أَوْ وَلِيًّا لِلَّهِ أَوْ عَدُوًّا لَهُ وَكَوْنِ هَذَا الْمُعَيَّنِ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ ، وَكَوْنِ هَذَا الْعَقَارِ لِيَتِيمِ أَوْ فَقِيرٍ يَسْتَحِقُّ الْإِحْسَانَ إلَيْهِ ، وَكَوْنِ هَذَا الْمَالِ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ ظُلْمِ ظَالِمٍ فَإِذَا زَهِدَ فِيهِ الظَّالِمُ انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُهُ فَهَذِهِ
الْأُمُورُ لَا يَجِبُ أَنْ تُعْلَمَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ بَلْ تُعْلَمُ بِأَدِلَّةِ خَاصَّةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا . وَمِنْ طُرُقِ ذَلِكَ " الْإِلْهَامُ " فَقَدْ يُلْهِمُ اللَّهُ بَعْضَ عِبَادِهِ حَالَ هَذَا الْمَالِ الْمُعَيَّنِ وَحَالَ هَذَا الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ . وَقِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَطُّ لِأَحَدٍ لَا نَبِيٍّ وَلَا وَلِيٍّ أَنْ يُخَالِفَ شَرْعَ اللَّهِ لَكِنْ فِيهَا عِلْمُ حَالِ ذَاكَ الْمُعَيَّنِ بِسَبَبِ بَاطِنٍ يُوجِبُ فِيهِ الشَّرْعُ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ كَمَنْ دَخَلَ إلَى دَارٍ وَأَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَالِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ صَاحِبَهَا أَذِنَ لَهُ وَغَيْرُهُ لَمْ يَعْلَمْ ، وَمِثْلُ مَنْ رَأَى ضَالَّةً أَخَذَهَا وَلَمْ يُعَرِّفْهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَتَى بِهَا هَدِيَّةً لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ . وَ ( النَّوْعُ الثَّانِي ) عَكْسُ هَذَا . وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتْبَعُونَ هَوَاهُمْ لَا أَمْرَ اللَّهِ ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَأْمُرُونَ إلَّا بِمَا يُحِبُّونَهُ بِهَوَاهُمْ وَلَا يَتْرُكُونَ وَيَنْهَوْنَ إلَّا عَنْ مَا يَكْرَهُونَهُ بِهَوَاهُمْ وَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْخَلْقِ . قَالَ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } قَالَ الْحَسَنُ : هُوَ الْمُنَافِقُ لَا يَهْوَى شَيْئًا إلَّا رَكِبَهُ . وَقَالَ تَعَالَى :
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ إذَا وَافَقَ هَوَاهُ وَيُخَالِفُهُ إذَا خَالَفَ هَوَاهُ فَإِذَا أَنْتَ لَا تُثَابُ عَلَى مَا اتَّبَعْته مِنْ الْحَقِّ وَتُعَاقَبُ عَلَى مَا خَالَفْته . وَهُوَ كَمَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا قَصَدَ اتِّبَاعَ هَوَاهُ لَمْ يَعْمَلْ لِلَّهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ " أَبَا طَالِبٍ " نَصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَبَّ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ لَا لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَتَقَبَّلْ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يُثِبْهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعَانَهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلَّهِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } . ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) : الَّذِي يُرِيدُ تَارَةً إرَادَةً يُحِبُّهَا اللَّهُ ؛ وَتَارَةً إرَادَةً يُبْغِضُهَا اللَّهُ . وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ يُطِيعُونَ اللَّهَ تَارَةً وَيُرِيدُونَ مَا أَحَبَّهُ وَيَعْصُونَهُ تَارَةً وَيُرِيدُونَ مَا يَهْوُونَهُ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُهُ . وَ ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) : أَنْ يَخْلُوَ عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ فَلَا يُرِيدُ لِلَّهِ وَلَا لِهَوَاهُ وَهَذَا يَقَعُ لِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيَقَعُ لِكَثِيرِ
مِنْ الزُّهَّادِ وَالنُّسَّاكِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ . وَأَمَّا خُلُوُّ الْإِنْسَانِ عَنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا فَمُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى إرَادَةِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَعَلَى كَرَاهَةِ مَا يَضُرُّهُ وَيُؤْذِيهِ وَالزَّاهِدُ النَّاسِكُ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ أَشْيَاءَ يُحِبُّهَا اللَّهُ : مِثْلُ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، وَتَرْكِ الْمَحَارِمِ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمْ أَشْيَاءَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُحِبّ اللَّهَ وَلَا أَحَبّ شَيْئًا لِلَّهِ فَلَمْ يُحِبّ شَيْئًا مِنْ الطَّاعَاتِ لَا الشَّهَادَتَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا ، وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ لِبَعْضِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ؛ وَأَمَّا إرَادَةُ الْعَبْدِ لِمَا يَهْوَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَهَذَا لَازِمٌ لِكُلِّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَإِنَّهُ أَرَادَ الْمَعْصِيَةَ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَاهَا . وَأَمَّا الْخُلُوُّ عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ فَيَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : مَعَ إعْرَاضِ الْعَبْدِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ وَإِنْ عَلِمَ بِهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا وَلَا يَكْرَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلَهَا وَإِذَا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِانْتِصَارِ هَؤُلَاءِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا لِانْتِصَارِ هَؤُلَاءِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ . وَ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : يَقَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الزُّهَّادِ الْعُبَّادِ الْمُمْتَثِلِينَ لِمَا
يَعْلَمُونَ
أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ الْمُجْتَنِبِينَ لِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
نَهَى عَنْهُ وَأُمُورٌ أُخْرَى لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا وَلَا
مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَلَا يُرِيدُونَهَا وَلَا يَكْرَهُونَهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ
وَقَدْ يَرْضَوْنَهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مُقَدَّرَةً وَقَدْ
يُعَاوِنُونَ عَلَيْهَا وَيَرَوْنَ هَذَا مُوَافَقَةً لِلَّهِ وَأَنَّهُمْ لَمَّا
خَلَوْا عَنْ هَوَى النَّفْسِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِكُلِّ حَادِثٍ ؛
بَلْ وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَوْضِعٌ يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ
فَإِنَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَعَلَيْنَا أَنْ
نُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَلَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا
تَكْلِيفَ فِيهَا مِثْلُ أَفْعَالِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ فَهَذَا إذَا كَانَ
اللَّهُ لَا يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَلَا يَكْرَهُهَا وَيَذُمُّهَا فَالْمُؤْمِنُ
أَيْضًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّهَا وَيَرْضَاهَا وَلَا يَكْرَهَهَا . وَأَمَّا
كَوْنُهَا مَقْدُورَةً وَمَخْلُوقَةً لِلَّهِ فَذَاكَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا بَلْ
هُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَا خَلَقَهُ
لَمَّا شَاءَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ .
وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : ( أَحَدُهَا )
الرِّضَا بِالطَّاعَاتِ ؛ فَهَذَا طَاعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا . وَ ( الثَّانِي ) :
الرِّضَا بِالْمَصَائِبِ فَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ : إمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا
وَاجِبٌ .
وَ ( الثَّالِثُ ) : الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ فَهَذَا لَا يُؤْمَرُ بِالرِّضَا بِهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِبُغْضِهِ وَسَخَطِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } وَقَالَ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وَقَالَ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ : { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . وَهُوَ وَإِنْ خَلَقَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا كَمَا خَلَقَ الشَّيَاطِينَ . فَنَحْنُ رَاضُونَ عَنْ اللَّهِ فِي أَنْ يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا نَفْسُ هَذَا الْفِعْلِ الْمَذْمُومِ وَفَاعِلُهُ فَلَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَحْمَدُهُ . وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَا يُرَادُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ مَعَ كَوْنِهِ مُبْغِضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْوَاحِدَ يُرَادُ مِنْ وَجْهٍ وَيُكْرَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ ؛ فَإِنَّهُ يُبْغِضُ الدَّوَاءَ وَيَكْرَهُهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَحْبُوبٌ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَرِهَ مُسَاءَةَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي
يَكْرَهُ الْمَوْتَ كَانَ هَذَا مُقْتَضِيًا أَنْ يَكْرَهَ إمَاتَتَهُ مَعَ أَنَّهُ يُرِيدُ إمَاتَتَهُ ؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَالْأُمُورُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَنْهَى عَنْهَا لَا تُحَبُّ وَلَا تُرْضَى ؛ لَكِنْ نَرْضَى بِمَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ حَيْثُ خَلَقَهَا لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا وَلَا يُبْغِضُهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُحَبّ وَلَا تُرْضَى كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُبْغَضَ . وَالرِّضَا الثَّابِتُ بِالنَّصِّ هُوَ أَنْ يَرْضَى بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ } " وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَدَرِ فَيَرْضَى عَنْ اللَّهِ إذْ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَرْضَى بِمَا يَرْضَاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي خَلَقَ لِأَجْلِهَا مَا خَلَقَ وَإِنْ كُنَّا نُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَحَيْثُ انْتَفَى الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ أَوْ خَفِيَ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ لَا يَكُونُ الِامْتِثَالُ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَقْدُورًا . وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ خَاصَّةِ " السَّالِكِينَ " وَشُيُوخِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَامَّتِهِمْ وَيَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَطَاعَتِهِمْ لَهُ . فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَأَطْوَعُ لَهُ فَهَذَا
تَكُونُ حَالُهُ أَحْسَنَ مِمَّنْ يَقْصُرُ عَنْهُ فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالطَّاعَةِ لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْعُدُ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَيَسْتَرْسِلُ حَتَّى يَنْسَلِخَ مِنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَبْقَى وَاقِفًا مَعَ هَوَاهُ وَالْقَدَرِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ فَاسِقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ إلَى الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ مُعْرِضِينَ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِ وَنَهْيِ غَيْرِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إمَّا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إذْ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ الْقَدَرِ مُطْلَقًا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مَفْطُورٌ عَلَى مَحَبَّةِ أَشْيَاءَ وَبُغْضِ أَشْيَاءَ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : " إنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ مَعَ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ " لَا يَصِحُّ وَلَا يَسُوغُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِخَفَاءِ أَمْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَإِذَا عَلِمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ .
فَصْلٌ
:
وَكَمَا أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْعِلْمِيَّةَ بِصِحَّةِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ
وَالْأَسْبَابِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ : كَتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ
وَالْحَدِيثِ فَالطَّرِيقَةُ الْعَمَلِيَّةُ بِصِحَّةِ الْإِرَادَةِ
وَالْأَسْبَابِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعَمَلِ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ السَّالِكَ فِي
ذَلِكَ " الْمُرِيدَ " كَمَا يُسَمِّيهِ أُولَئِكَ " الطَّالِبَ
" وَ " النَّظَرُ " جِنْسٌ تَحْتَهُ حُقٌّ وَبَاطِلٌ وَمَحْمُودٌ
وَمَذْمُومٌ وَكَذَلِكَ " الْإِرَادَةُ " فَكَمَا أَنَّ طَرِيقَ
الْعِلْمِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ الشَّرْعِيِّ بِحَيْثُ
يَكُونُ مَعْلُومُك الْمَعْلُومَاتِ الدِّينِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ وَيَكُونُ
عِلْمُك بِهَا مُطَابِقًا لِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَإِلَّا فَلَا
يَنْفَعُك أَيُّ مَعْلُومٍ عَلِمْته وَلَا أَيُّ شَيْءٍ اعْتَقَدْته فِيمَا
أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَكَذَلِكَ "
الْإِرَادَةُ " لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَعْيِينِ " الْمُرَادِ "
وَهُوَ اللَّهُ وَ " الطَّرِيقُ إلَيْهِ " وَهُوَ مَا أَمَرَتْ بِهِ
الرُّسُلُ . فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ ، وَتَكُونَ عِبَادَتُك إيَّاهُ
بِمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ
فِيمَا أَخْبَرَ عِلْمًا وَلَا بُدَّ مِنْ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ عَمَلًا .
وَلِهَذَا كَانَ " الْإِيمَانُ " قَوْلًا وَعَمَلًا مَعَ مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ فَعِلْمُ الْحَقِّ مَا وَافَقَ عِلْمَ اللَّهِ ، وَالْإِرَادَةُ الصَّالِحَةُ مَا وَافَقَتْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَهُوَ حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . فَالْأُمُورُ الْخَبَرِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُطَابِقَ عِلْمَ اللَّهِ وَخَبَرَهُ ؛ وَالْأُمُورُ الْعَمَلِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُطَابِقَ حُبّ اللَّهِ وَأَمْرَهُ فَهَذَا حُكْمُهُ وَذَاكَ عِلْمُهُ . وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ حُكْمَهُ مُجَرَّدَ الْقَدَرِ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَجَعَلَ مُشَاهَدَةَ الْعَارِفِ الْحُكْمَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَسْتَحْسِنَ حَسَنَةً أَوْ يَسْتَقْبِحَ سَيِّئَةً فَهَذَا فِيهِ مِنْ الْغَلَطِ الْعَظِيمِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَلَا يَنْفَعُ الْمُرِيدُ الْقَاصِدُ أَنْ يَعْبُدَ أَيَّ مَعْبُودٍ كَانَ وَلَا أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِأَيِّ عِبَادَةٍ كانت بَلْ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُشْرِكِينَ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَالنَّصَارَى وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ ، وَأَمَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ فَهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَعْبُدُونَهُ بِمَا شَرَعَ . لَا يَعْبُدُونَهُ بِالْبِدَعِ إلَّا مَا يَقَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ خَطَأٌ . فَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْإِرَادَةِ قَدْ يَغْلَطُونَ تَارَةً فِي الْمُرَادِ ؛ وَتَارَةً فِي الطَّرِيقِ إلَيْهِ وَتَارَةً يألهون غَيْرَ اللَّهِ بِالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالتَّعْظِيمِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَسُؤَالِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ فَهَذَا حَقِيقَةُ الشِّرْكِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ
التَّوْحِيدِ أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ . وَ " الْعِبَادَةُ " تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ وَكَمَالَ التَّعْظِيمِ ، وَكَمَالَ الرَّجَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ . وَ " الْفَنَاءُ " فِي هَذَا التَّوْحِيدِ فَنَاءُ الْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ أَنْ تَفْنَى بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِسُؤَالِهِ عَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ وَبِخَوْفِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَبِرَجَائِهِ عَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ ، وَالْحُبِّ فِيهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ وَالْحُبِّ فِيهِ . وَأَمَّا الغالطون فِي الطَّرِيقِ فَقَدْ يُرِيدُونَ اللَّهَ ؛ لَكِنْ لَا يَتَّبِعُونَ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ فِي إرَادَتِهِ . لَكِنْ " تَارَةً " يَعْبُدُهُ أَحَدُهُمْ بِمَا يَظُنُّهُ يُرْضِيهِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ . وَ " تَارَةً " يَنْظُرُونَ الْقَدَرَ لِكَوْنِهِ مُرَادِهِ فَيَفْنَوْنَ فِي الْقَدَرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ غَرَضٌ وَأَمَّا الْفَنَاءُ الْمُطْلَقُ فِيهِ فَمُمْتَنِعٌ . وَهَؤُلَاءِ يَفْنَى أَحَدُهُمْ مُتَّبِعًا لِذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ الْمُخَالِفِ لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ أَوْ نَاظِرًا إلَى الْقَدَرِ . وَهَذَا يُبْتَلَى بِهِ كَثِيرٌ مِنْ خَوَّاصِهِمْ . وَ " الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ " وَنَحْوُهُ مِنْ أَعْظَمِ مَشَايِخِ زَمَانِهِمْ أَمْرًا بِالْتِزَامِ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الذَّوْقِ وَالْقَدَرِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَشَايِخِ أَمْرًا بِتَرْكِ الْهَوَى وَالْإِرَادَةِ النَّفْسِيَّةِ . فَإِنَّ الْخَطَأَ فِي الْإِرَادَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ إرَادَةٌ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ؛ فَهُوَ يَأْمُرُ السَّالِكَ
أَلَّا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ مِنْ جِهَةِ هَوَاهُ أَصْلًا ؛ بَلْ يُرِيدُ مَا يُرِيدُهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : إمَّا إرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَنْ تُبَيِّنَ لَهُ ذَلِكَ ؛ وَإِلَّا جَرَى مَعَ الْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ فَهُوَ إمَّا مَعَ أَمْرِ الرَّبِّ ، وَإِمَّا مَعَ خَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ . وَهَذِهِ " طَرِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ صَحِيحَةٌ " إنَّمَا يَخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ تَرْكِ إرَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ أَوْ مِنْ تَقْدِيمِ إرَادَةٍ قَدَرِيَّةٍ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ فَقَدْ يَتْرُكُهَا وَقَدْ يُرِيدُ ضِدَّهَا فَيَكُونُ تَرَكَ مَأْمُورًا أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ . فَإِنَّ " طَرِيقَةَ الْإِرَادَةِ " يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ ضَعْفِ الْعِلْمِ ؛ وَمَا يَقْتَرِنُ بِالْعِلْمِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ كَمَا أَنَّ طَرِيقَةَ الْعِلْمِ يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ ضَعْفِ الْعَمَلِ وَضَعْفِ الْعِلْمِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْعَمَلِ ؛ لَكِنْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا مِنْ هَذَا وَهَذَا . قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَإِذَا تَفَقَّهَ السَّالِكُ وَتَعَلَّمَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَكَانَ عِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ بِحَسَبِ ذَاكَ فَهَذَا مُسْتَطَاعُهُ . وَإِذَا أَدَّى الطَّالِبُ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَكَانَ عِلْمُهُ مُطَابِقًا لِعَمَلِهِ فَهَذَا مُسْتَطَاعُهُ .
فَصْلٌ
:
قَالَ " الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ " قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ :
" افْنَ عَنْ الْخَلْقِ بِحُكْمِ اللَّهِ وَعَنْ هَوَاك بِأَمْرِهِ وَعَنْ
إرَادَتِك بِفِعْلِهِ لِحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ وِعَاءً لِعِلْمِ اللَّهِ
" . قُلْت : فَحُكْمُهُ يَتَنَاوَلُ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ أَيْ : افْنَ عَنْ
عِبَادَةِ الْخَلْقِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ
وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَلَا تُطِعْهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا
تَتَعَلَّقْ بِهِمْ فِي جَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ . وَأَمَّا
الْفَنَاءُ عَنْ الْهَوَى بِالْأَمْرِ وَعَنْ الْإِرَادَةِ بِالْفِعْلِ بِأَنْ
يَكُونَ فِعْلُهُ مُوَافِقًا لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ لَا لِهَوَاهُ وَأَنْ
تَكُونَ إرَادَتُهُ لِمَا يَخْلُقُ تَابِعَةً لِفِعْلِ اللَّهِ لَا لِإِرَادَةِ
نَفْسِهِ . فَالْإِرَادَةُ تَارَةً تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَتَارَةً
بِالْمَخْلُوقَاتِ . فَالْأَوَّلُ " يَكُونُ بِالْأَمْرِ وَ " الثَّانِي
" لَا تَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ . وَلَا بُدَّ فِي هَذَا أَنْ يُقَيَّدَ بِأَنْ
لَا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا وَإِلَّا فَإِذَا أُمِرَ بِأَنْ
يُرِيدَ مِنْ الْمَقْدُورَاتِ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ فَلْيُرِدْ مَا أُمِرَ
بِإِرَادَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقَدَرِ أَمْ لَا . وَهَذَا
الْمَوْضِعُ قَدْ يَغْلَطُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّالِكِينَ
وَالْغَالِبُ عَلَى الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ وَهُمْ لَيْسَ لَهُمْ إرَادَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ فَتَرَكُوا إرَادَتَهُمْ لِغَيْرِ الْمَقْدُورِ . قَالَ الشَّيْخُ : " فَعَلَامَةُ فَنَائِك عَنْ خَلْقِ اللَّهِ انْقِطَاعُك عَنْهُمْ ، وَعَنْ التَّرَدُّدِ إلَيْهِمْ ، وَالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ " . وَهُوَ كَمَا قَالَ . فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ لَا يَرْجُوهُمْ وَلَا يَخَافُهُمْ لَمْ يَتَرَدَّدْ إلَيْهِمْ لِطَلَبِ شَيْءٍ مِنْهُمْ وَهَذَا يُشْبِهُ بِمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ الْمَشْيِ إلَيْهِمْ لِأَمْرِهِمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهْيِهِمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ كَذَهَابِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِ الرُّسُلِ إلَى مَنْ يُبَلَّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ إنَّمَا يَصِحُّ مَعَ الْقِيَامِ بِمَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ . لِيَكُونَ عَابِدًا لِلَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَ بِهِ ؛ فَقَدْ يَكُونُ مَا أَضَاعَهُ مِنْ الْأَمْرِ أَوْلَى بِهِ مِمَّا قَامَ بِهِ مِنْ التَّوَكُّلِ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ فَلَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنْ التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ أَوْلَى بِهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ الْأَمْرِ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ . قَالَ الشَّيْخُ : " وَعَلَامَةُ فَنَائِك عَنْك وَعَنْ هَوَاك : تَرْكُ التَّكَسُّبِ ، وَالتَّعَلُّقُ بِالسَّبَبِ فِي جَلْبِ النَّفْعِ ، وَدَفْعِ الضُّرِّ فَلَا تَتَحَرَّكُ فِيك بِك ، وَلَا تَعْتَمِدُ عَلَيْك لَك وَلَا تَنْصُرُ نَفْسَك وَلَا تَذُبُّ عَنْك لَكِنْ تَكِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ
إلَى مَنْ تَوَلَّاهُ أَوَّلًا فَيَتَوَلَّاهُ آخِرًا . كَمَا كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِك مُغَيَّبًا فِي الرَّحِمِ وَكَوْنِك رَضِيعًا طِفْلًا فِي مَهْدِك " . قُلْت : وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْسَ تَهْوَى وُجُودَ مَا تُحِبُّهُ وَيَنْفَعُهَا ، وَدَفْعَ مَا تُبْغِضُهُ وَيَضُرُّهَا فَإِذَا فَنِيَ عَنْ ذَاكَ بِالْأَمْرِ فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ، وَتَرَكَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ فَاعْتَاضَ بِفِعْلِ مَحْبُوبِ اللَّهِ عَنْ مَحْبُوبِهِ وَبِتَرْكِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ عَمَّا يُبْغِضُهُ ، وَحِينَئِذٍ فَالنَّفْسُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ . وَ " الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ " ذَكَرَ هُنَا التَّوَكُّلَ دُونَ الطَّاعَةِ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ ، وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَوَكِّلَةً عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَاثِقَةً بِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْ ذَلِكَ فَتَمْتَثِلُ الْأَمْرَ مُطْلَقًا ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَعْصِيَ الْأَمْرَ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَلَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ ، وَطَاعَةُ أَمْرِهِ بِدُونِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } . وَ ( الْمَقْصُودُ ) أَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ
التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَمَنْ كَانَ وَاثِقًا بِاَللَّهِ أَنْ يَجْلِبَ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَضُرُّهُ أَمْكَنَ أَنْ يَدَعَ هَوَاهُ وَيُطِيعَ أَمْرَهُ وَإِلَّا فَنَفْسُهُ لَا تَدَعُهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا يَقُولُ إنَّهُ مُحْتَاجٌ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ . قَالَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَعَلَامَةُ فَنَاءِ إرَادَتِك بِفِعْلِ اللَّهِ أَنَّك لَا تُرِيدُ مُرَادًا قَطُّ فَلَا يَكُنْ لَك غَرَضٌ وَلَا تَقِفُ لَك حَاجَةٌ وَلَا مَرَامٌ ؛ لِأَنَّك لَا تُرِيدُ مَعَ إرَادَةِ اللَّهِ سِوَاهَا بَلْ يَجْرِي فِعْلُهُ فِيك فَتَكُونُ أَنْتَ إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلَهُ ، سَاكِنَ الْجَوَارِحِ ، مُطَمْئِنَ الْجَنَانِ ، مَشْرُوحَ الصَّدْرِ ، مُنَوَّرَ الْوَجْهِ ، عَامِرَ الْبَاطِنِ ، غَنِيًّا عَنْ الْأَشْيَاءِ بِخَالِقِهَا تقلبك يَدُ الْقُدْرَةِ ، وَيَدْعُوك لِسَانُ الْأَزَلِ ، وَيُعَلِّمُك رَبُّ الْمُلْكِ وَيَكْسُوَك نُورًا مِنْهُ وَالْحُلَلَ ، وَيُنْزِلُك مَنَازِلَ مَنْ سَلَفَ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ مُنْكَسِرًا أَبَدًا . فَلَا تَثْبُتُ فِيك شَهْوَةٌ وَلَا إرَادَةٌ : كَالْإِنَاءِ الْمُتَثَلِّمِ - الَّذِي لَا يَثْبُتُ فِيهِ مَائِعٌ وَلَا كَدِرٌ فَتَفْنَى عَنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِيَّةِ فَلَنْ يَقْبَلَ بَاطِنُك سَاكِنًا غَيْرَ إرَادَةِ اللَّهِ فَحِينَئِذٍ يُضَافُ إلَيْك التَّكْوِينُ ، وَخَرْقُ الْعَادَاتِ فَيُرَى ذَلِكَ مِنْك فِي ظَاهِرِ الْعَقْلِ وَالْحُكْمِ وَهُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَقًّا فِي الْعِلْمِ فَتَدْخُلُ حِينَئِذٍ فِي زُمْرَةِ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ الَّذِينَ كُسِرَتْ إرَادَتُهُمْ الْبَشَرِيَّةُ وَأُزِيلَتْ شَهَوَاتُهُمْ الطَّبِيعِيَّةُ وَاسْتَوْثَقَتْ لَهُمْ إرَادَاتٌ رَبَّانِيَّةٌ وَشَهَوَاتٌ إضَافِيَّةٌ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ
دُنْيَاكُمْ : النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } " فَأُضِيفَ ذَلِكَ إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ وَزَالَ عَنْهُ تَحْقِيقًا لِمَا أَشَرْت إلَيْهِ وَتَقَدَّمَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " { أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي } " وَسَاقَ كَلَامَهُ . وَفِيهِ : " { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ } " الْحَدِيثَ . قُلْت : هَذَا الْمَقَامُ هُوَ آخِرُ مَا يُشِيرُ إلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ كَوْنَ شَيْءٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِإِرَادَتِهِ فَقَوْلُهُ : عَلَامَةُ فَنَاءِ إرَادَتِك بِفِعْلِ اللَّهِ أَنَّك لَا تُرِيدُ مُرَادًا قَطُّ . أَيْ لَا تُرِيدُ مُرَادًا لَمْ تُؤْمَرْ بِإِرَادَتِهِ فَأَمَّا مَا أَمَرَك اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِرَادَتِك إيَّاهُ فَإِرَادَتُهُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُ إرَادَةِ هَذَا إمَّا مَعْصِيَةٌ وَإِمَّا نَقْصٌ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْكَامِلَةَ أَلَّا يَكُونَ لِلْعَبْدِ إرَادَةٌ أَصْلًا وَأَنَّ قَوْلَ أَبِي يَزِيدَ : " أُرِيدُ أَلَّا أُرِيدَ " - لَمَّا قِيلَ لَهُ : مَاذَا تُرِيدُ ؟ - نَقْصٌ وَتَنَاقُضٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ ، وَيَحْمِلُونَ كَلَامَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يُمْدَحُونَ بِتَرْكِ الْإِرَادَةِ عَلَى تَرْكِ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ عَلَى الشُّيُوخِ الْمُسْتَقِيمِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الشُّيُوخِ مَنْ يَأْمُرُ بِتَرْكِ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ مِمَّنْ قَالَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَقْدُورِ وَلَا مَأْمُورٍ
فَإِنَّ
الْحَيَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إرَادَةٍ فَلَا يُمْكِنُ حَيًّا أَلَّا تَكُونَ لَهُ
إرَادَةٌ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَأْمُرُ
بِهَا أَمْرُ إيجَابٍ أَوْ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لَا يَدَعُهَا إلَّا كَافِرٌ أَوْ
فَاسِقٌ أَوْ عَاصٍ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً كَانَ
تَارِكُهَا تَارِكًا لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ
الْأَنْبِيَاءَ وَالصِّدِّيقِينَ بِهَذِهِ " الْإِرَادَةِ " فَقَالَ
تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ
مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } وَقَالَ
تَعَالَى : { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً
وَلَا شُكُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ
مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ
وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا
} وَقَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { أَلَا
لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } .
وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَلِمَا أَمَرَ بِهِ . وَقَالَ
تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أَيْ
أَخْلَصَ قَصْدَهُ لِلَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ
هُوَ إرَادَتُهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } . وَكُلُّ مُحِبٍّ فَهُوَ مُرِيدٌ . وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } ثُمَّ قَالَ : { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ يَأْمُرُ اللَّهُ بِإِرَادَتِهِ وَإِرَادَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْ إرَادَةِ غَيْرِهِ وَإِرَادَةِ مَا نَهَى عَنْهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } " فَهُمَا " إرَادَتَانِ " : إرَادَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا وَإِرَادَةٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَا يَرْضَاهَا بَلْ إمَّا نَهَى عَنْهَا وَإِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهَا وَلَا يَنْهَى عَنْهَا وَالنَّاسُ فِي الْإِرَادَةِ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " . قَوْمٌ يُرِيدُونَ مَا يَهْوُونَهُ فَهَؤُلَاءِ عَبِيدُ أَنْفُسِهِمْ وَالشَّيْطَانِ . وَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ فَرَغُوا مِنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُرَادٌ إلَّا مَا يُقَدِّرُهُ الرَّبُّ وَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ هُوَ أَكْمَلُ الْمَقَامَاتِ . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ قَامَ بِهَذَا فَقَدْ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْقَدَرِيَّةُ الْكَوْنِيَّةُ ؛ وَأَنَّهُ
شَهِدَ القيومية الْعَامَّةَ وَيَجْعَلُونَ الْفَنَاءَ فِي شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْغَايَةُ ؛ وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا : الْجَمْعَ وَالْفَنَاءَ وَالِاصْطِلَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ زَلَقُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفِي " هَذَا الْمَقَامِ " كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ طَائِفَة مِنْ أَصْحَابِهِ الصُّوفِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَهُوَ شُهُودُ الْقَدَرِ ؛ وَسَمَّوْا هَذَا " مَقَامَ الْجَمْعِ " فَإِنَّهُ خَرَجَ بِهِ عَنْ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ بِإِرَادَةِ هَذَا وَكَرَاهَةِ هَذَا ، وَرُؤْيَةِ فِعْلِ هَذَا وَتَرْكِ هَذَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ هَذَا التَّوْحِيدَ يَرَى لِلْخَلْقِ فِعْلًا يَتَفَرَّقُ بِهِ قَلْبُهُ فِي شُهُودِ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ فِيمَا يُرِيدُهُ فَإِذَا أَرَادَ الْحَقَّ خَرَجَ بِإِرَادَتِهِ عَنْ إرَادَةِ الْهَوَى وَالطَّبْعِ ثُمَّ شَهِدَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَخَرَجَ بِشُهُودِ هَذَا الْجَمْعِ عَنْ ذَاكَ الْفَرْقِ فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا ذَكَرَ لَهُمْ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ " الْفَرْقَ الثَّانِي " وَهُوَ بَعْدَ هَذَا الْجَمْعِ وَهُوَ الْفَرْقُ الشَّرْعِيُّ . أَلَّا تَرَى أَنَّك تُرِيدُ مَا أُمِرْت بِهِ وَلَا تُرِيدُ مَا نُهِيت عَنْهُ وَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاهُ وَأَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ بِطَاعَةِ رُسُلِهِ فَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ ، وَتَشْهَدُ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ فَنَازَعُوهُ فِي هَذَا " الْفَرْقِ "
مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ ،وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِيهِ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ . ثُمَّ إنَّك تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الشُّيُوخِ إنَّمَا يَنْتَهِي إلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ وَهُوَ " تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ " وَالْفِنَاءُ فِيهِ . كَمَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ مَعَ أَنَّهُ قَطْعًا كَانَ قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَعْرُوفَيْنِ لَكِنْ قَدْ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ الْعَامَّةِ . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَتَنَاقَضُ ) . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْوُقُوفُ مَعَ الْأَمْرِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ) وَقَدْ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بِأَهْلِ الْمَارَسْتَانِ . وَ ( مِنْهُمْ مِنْ يُسَمِّي ذَلِكَ مَقَامَ التَّلْبِيسِ ) . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : التَّحْقِيقُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِي قَلْبِك مَشْهُودًا وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِك مَوْجُودًا ) فَيَشْهَدُ بِقَلْبِهِ اسْتِوَاءَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ مَعَ تَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى سُلُوكِ
الْعَارِفِينَ وَغَايَةُ مَنَازِلِ الْأَوْلِيَاءِ الصِّدِّيقِينَ ) . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْوُقُوفَ مَعَ إرَادَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَكُونُ فِي السُّلُوكِ وَالْبِدَايَةِ وَأَمَّا فِي النِّهَايَةِ فَلَا تَبْقَى إلَّا إرَادَةُ الْقَدَرِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلٌ بِسُقُوطِ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَالطَّاعَةَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ إنَّمَا تَكُونُ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ لَا فِي الْجَرْيِ مَعَ الْمَقْدُورِ وَإِنْ كَانَ كُفْرًا أَوْ فَسُوقًا أَوْ عِصْيَانًا وَمِنْ هُنَا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ مِنْ أَعْوَانِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَخُفَرَائِهِمْ حَيْثُ شَهِدُوا الْقَدَرَ مَعَهُمْ ؛ وَلَمْ يَشْهَدُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ سَقَطَ عَنْهُ الْمُلَامُ . وَيَقُولُونَ إنَّ الْخَضِرَ إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْمُلَامُ لَمَّا شَهِدَ الْقَدَرَ . وَأَصْحَابُ شُهُودِ الْقَدَرِ قَدْ يُؤْتَى أَحَدُهُمْ مُلْكًا مِنْ جِهَةِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَمَالًا فِي الْوِلَايَةِ ؛ وَتَكُونُ تِلْكَ " الْخَوَارِقُ " إنَّمَا حَصَلَتْ بِأَسْبَابِ شَيْطَانِيَّةٍ وَأَهْوَاءٍ نَفْسَانِيَّةٍ ؛ وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي الْوِلَايَةِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي إقَامَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ مَعَ حُصُولِهِمَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ فَإِذَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ فَهِيَ مَذْمُومَةٌ وَإِنْ حَصَلَتْ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنْ اُسْتُعْمِلَتْ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إلَى مُحَرَّمٍ كانت مَذْمُومَةً وَإِنْ تَوَصَّلَ بِهَا إلَى مُبَاحٍ
لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ كَانَتْ لِلْأَبْرَارِ دُونَ الْمُقَرَّبِينَ وَأَمَّا إنْ حَصَلَتْ بِالسَّبَبِ الشَّرْعِيِّ وَاسْتُعِينَ بِهَا عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ : فَهَذِهِ خَوَارِقُ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْظَرَ فِي " الْخَوَارِقِ " فِي أَسْبَابِهَا وَغَايَاتِهَا : مِنْ أَيْنَ حَصَلَتْ وَإِلَى مَاذَا أَوْصَلَتْ - كَمَا يُنْظَرُ فِي الْأَمْوَالِ فِي مُسْتَخْرَجِهَا وَمَصْرُوفِهَا - وَمَنْ اسْتَعْمَلَهَا - أَعْنِي الْخَوَارِقَ - فِي إرَادَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَانَ مَذْمُومًا وَمَنْ كَانَ خَالِيًا عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا حَسْبُهُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ . وَأَمَّا إنْ عَرَفَهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَذْمُومًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ إنْ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ وَهُوَ يُمْدَحُ بِكَوْنِ إرَادَتِهِ لَيْسَتْ بِهَوَاهُ ؛ لَكِنْ يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ لَا يَكْفِيهِ أَنْ تَكُونَ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ خُلُوُّهُ عَنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إرَادَةٍ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرَادَ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ لَكِنْ إذَا جَاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِ مَا تَهْوَاهُ بَقِيَ مُرِيدًا لِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَكُونُ ضَالًّا . فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ حَالَ الضَّالِّينَ مِنْ النَّصَارَى . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
وَلَا الضَّالِّينَ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } " . فَالْيَهُودُ لَهُمْ إرَادَاتٌ فَاسِدَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ : بِأَنَّهُمْ عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . وَهُمْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ فَلَهُمْ عِلْمٌ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ بِالْعِلْمِ وَهُمْ فِي الْإِرَادَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمُحَرَّمَةِ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ لَيْسُوا فِي الْإِرَادَةِ الْمَحْمُودَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَهِيَ إرَادَةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَالنَّصَارَى لَهُمْ قَصْدٌ وَعِبَادَةٌ وَزُهْدٌ لَكِنَّهُمْ ضُلَّالٌ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلَا يَعْرِفُونَ الْإِرَادَةَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَلْ غَايَةُ أَحَدِهِمْ تَجْرِيدُ نَفْسِهِ عَنْ الْإِرَادَاتِ فَلَا يَبْقَى مُرِيدًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَمَا لَا يُرِيدُ كَثِيرًا مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَهَؤُلَاءِ ضَالُّونَ عَنْ مَقْصُودِهِمْ فَإِنَّ مَقْصُودَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِهَذَا كَانُوا مَلْعُونِينَ : أَيْ بَعِيدِينَ عَنْ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُنَالُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَ " الْعَالِمُ الْفَاجِرُ " يُشْبِهُ الْيَهُودَ . وَ " الْعَابِدُ الْجَاهِلُ " يُشْبِهُ النَّصَارَى . وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّانِي .
وَهَذَا
الْمَوْضِعُ تَفَرَّقَ فِيهِ بَنُو آدَمَ وَتَبَايَنُوا تَبَايُنًا عَظِيمًا لَا
يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ . فَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ خَلْقًا
أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ
شَرُّ الْبَرِيَّةِ وَأَفْضَلُ الْأَحْوَالِ فِيهِ حَالُ الْخَلِيلَيْنِ :
إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَمُحَمَّدٌ
سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَفْضَلُ الْأَوَّلِينَ والآخرين ، وَخَاتَمُ
النَّبِيِّينَ وَإِمَامُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا ، وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا
وَهُوَ الْمَعْرُوجُ بِهِ إلَى مَا فَوْقَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ - إبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَغَيْرِهِمَا .
وَأَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ " إبْرَاهِيمُ " كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
{ أَنَّ إبْرَاهِيمَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } " وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةِ : خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ
اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }
" . وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَخْطُبُ بِذَلِكَ
يَوْمَ الْخَمِيسَ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : "
{ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَادِمًا لَهُ
وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ قَطُّ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا
أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ
يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ } " .
{ وَقَالَ أَنَسٌ : خَدَمْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي : أُفٍّ قَطُّ وَمَا قَالَ لِي لِشَيْءِ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ ؟ وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ لِمَ لَا فَعَلْتَهُ ؟ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إذَا عَنَّفَنِي عَلَى شَيْءٍ قَالَ : دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ } " . وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَهُ الْوَسِيلَةُ فِي الْمَقَامَاتِ كُلِّهَا وَلَمْ يَكُنْ حَالُهُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ شَيْئًا وَلَا أَنَّهُ يُرِيدُ كُلَّ وَاقِعٍ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الْهَوَى بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } { إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } وَقَالَ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } . وَالْمُرَادُ بِعَبْدِهِ عَابِدُهُ الْمُطِيعُ لِأَمْرِهِ ؛ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقِينَ عِبَادٌ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ مَخْلُوقُونَ مدبرون . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَابْنِ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ : عَلَى دِينٍ عَظِيمٍ . وَ " الدِّينُ " فِعْلُ مَا أُمِرَ بِهِ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعَاقِبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ لَكِنْ يُعَاقِبُ لِلَّهِ
وَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَسٌ أَنَّهُ كَانَ يَعْفُو عَنْ حُظُوظِهِ وَأَمَّا حُدُودُ اللَّهِ فَقَدْ قَالَ : " { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَهَذَا هُوَ كَمَالُ الْإِرَادَةِ ؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ وَكَرِهَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَأَمَّا لِحَظِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ يُعَاقِبُ وَلَا يَنْتَقِمُ بَلْ يَسْتَوْفِي حَقَّ رَبِّهِ ، وَيَعْفُو عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ وَفِي حَظِّ نَفْسِهِ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ . فَيَقُولُ : " { لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ } " وَفِي حَقِّ اللَّهِ يَقُومُ بِالْأَمْرِ فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَكْمَلَ الْجِهَادِ الْمُمْكِنِ فَجَاهَدَهُمْ أَوَّلًا بِلِسَانِهِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا } { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } . ثُمَّ لَمَّا
هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ . وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى لَمَّا لَامَ مُوسَى آدَمَ لِكَوْنِهِ أَخْرَجَ نَفْسَهُ وَذُرِّيَّتَهُ مِنْ الْجَنَّةِ بِالذَّنْبِ الَّذِي فَعَلَهُ فَأَجَابَهُ آدَمَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِمُدَّةِ طَوِيلَةٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى } " وَذَلِكَ لِأَنَّ مَلَامَ مُوسَى لِآدَمَ لَمْ يَكُنْ لِحَقِّ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ لِمَا لَحِقَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْمُصِيبَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَذَكَرَ لَهُ آدَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ أَمْرًا مُقَدَّرًا لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ وَالْمَصَائِبُ الَّتِي تُصِيبُ الْعِبَادَ يُؤْمَرُونَ فِيهَا بِالصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُمْ . وَأَمَّا لَوْمُهُمْ لِمَنْ كَانَ سَبَبًا فِيهَا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَنْفَعُهُمْ يُؤْمَرُونَ فِي ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلَى الْقَدَرِ وَأَمَّا التَّأَسُّفُ وَالْحُزْنُ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ فَمَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ مِنْ فَوْتِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَوْ حُصُولِ مَضَرَّةٍ لَهُمْ فَلْيَنْظُرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْقَدَرِ وَأَمَّا مَا كَانَ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ فَلْيَجْتَهِدُوا فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْإِصْلَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَنْفَعُهُمْ وَهُوَ مَقْدُورٌ لَهُمْ بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَهُمْ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ . وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا ؛ وَلَكِنْ قُلْ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } " أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرْصِ الْعَبْدِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ وَأَنْفَعُ مَا لِلْعَبْدِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى . وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا حَقِيقَةُ قَوْله تَعَالَى { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ وَهُوَ الْإِضَاعَةُ وَالتَّفْرِيطُ وَالتَّوَانِي . كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " { الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ } " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد : " { أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا . فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } " فَالْكَيْسُ ضِدُّ الْعَجْزِ . وَفِي الْحَدِيثِ : " { كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرِ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْعَجْزِ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُضَادُّ
الْقُدْرَةَ ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ بِحَالِ لَا يُلَامُ وَلَا يُؤْمَرُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِحَالِ . ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ أَمَرَهُ إذَا غَلَبَهُ أَمْرٌ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ ، وَيَقُولَ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ وَلَا يَتَحَسَّرُ وَيَتَلَهَّفُ وَيَحْزَنُ . وَيَقُولُ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَذَا وَكَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى : الْأَمْرُ أَمْرَانِ : أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ . فَمَا فِيهِ حِيلَةٌ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَمَا لَا حِيلَةَ فِيهِ لَا يَجْزَعُ مِنْهُ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ . كَمَا ذَكَرَ ( الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُ . فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالرِّضَا وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ : { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } " فَالتَّقْوَى " تَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ . وَ " الصَّبْرُ " يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } - إلَى قَوْلِهِ - { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَعَ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ لَا يَضُرُّ
الْمُؤْمِنِينَ
كَيْدُ أَعْدَائِهِمْ الْمُنَافِقِينَ . وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى إنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } فَبَيَّنَ
أَنَّهُ مَعَ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى يَمُدُّهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ .
وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ . وَقَالَ
تَعَالَى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ } فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، وَأَهْلِ
الْكِتَابِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذُوهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إنْ
يَصْبِرُوا وَيَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . فَالصَّبْرُ
وَالتَّقْوَى يَدْفَعُ شَرَّ الْعَدُوِّ الْمُظْهِرِ لِلْعَدَاوَةِ الْمُؤْذِينَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالْمُؤْذِينَ بِأَيْدِيهِمْ وَشَرُّ الْعَدُوِّ الْمُبْطِنُ
لِلْعَدَاوَةِ . وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ وَهَذَا الَّذِي كَانَ خُلُقُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيُهُ هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ .
فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَارَةً وَمَا لَا يُحِبُّهُ تَارَةً
أَوْ لَمْ يُرِدْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَكِلَاهُمَا دُونَ خُلُقِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ
مِنْهُمَا إثْمٌ كَاَلَّذِي يُرِيدُ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ نَيْلِ الشَّهْوَةِ
الْمُبَاحَةِ وَالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ الْمُبَاحِ كَمَا هُوَ خُلُقُ بَعْضِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَا إثْمَ فِيهِ
فَخُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُرِدْ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى أَمْرٍ مُسْتَحَبٍّ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَغْضَبَ وَيَنْتَقِمَ وَيُجَاهِدَ إذَا جَازَ الْعَفْوُ وَإِنْ كَانَ الِانْتِقَامُ لِلَّهِ أَرْضَى لِلَّهِ . كَمَا هُوَ أَيْضًا خُلُقُ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَا إثْمَ فِيهِ فَخُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ مِنْهُ . وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ إذَا كَانَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّ فَلَا عَيْبَ عَلَى نَبِيٍّ فِيمَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُ . لَكِنْ قَدْ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ، وَفَضَّلَ بَعْضَ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ ، وَالشَّرِيعَةُ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ ؛ إذْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأُمَّتُهُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي قَوْله تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي الْأَقْيَادِ وَالسَّلَاسِلِ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ الْجَنَّةَ . يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي الْجِهَادِ لِنَفْعِ النَّاسِ فَهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ لِلْخَلْقِ . وَالْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ ، وَأَمَّا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ ذَلِكَ شِرْعَةً لِاتِّبَاعِهِ لِذَلِكَ النَّبِيِّ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَاجِهِ فَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَمَا فَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَوِّلًا مُخْطِئًا فَاَللَّهُ قَدْ وَضَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ ، وَذَنْبُ أَحَدِهِمْ قَدْ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ بِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ . وَمِنْ أَسْبَابِ هَذَا الِانْحِرَافِ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ " طَرِيقَةُ الزُّهْدِ " فِي إرَادَةِ نَفْسِهِ فَيَزْهَدُ فِي مُوجِبِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ عِبَادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَالرُّهْبَانِ وَأَشْبَاهِهِمْ وَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ الْجِهَادَ نَقْصًا لِمَا فِيهِ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَيَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ عِمَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى يَدِ دَاوُد لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ سَفْكُ الدِّمَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى ذَبْحَ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ كَمَا عَلَيْهِ البراهمة وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ هُوَ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَذْبَحُ حَيَوَانًا وَلَا يَأْكُلُ لَحْمَهُ وَلَا يَنْكِحُ النِّسَاءَ وَيَقُولُ مَادِحُهُ : فُلَانٌ مَا نَكَحَ وَلَا ذَبَحَ . وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَؤُلَاءِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ : " { أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا آكُلُ اللَّحْمَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ . فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا : كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ
وَأَصُومُ وأفطر وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } " . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّبَتُّلِ وَنَوْعٍ مِنْ التَّرَهُّبِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ سَعْدٍ قَالَ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا } . وَ " الزُّهْدُ " النَّافِعُ الْمَشْرُوعُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الزُّهْدُ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ فَالزُّهْدُ فِيهِ زُهْدٌ فِي نَوْعٍ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَالزُّهْدُ إنَّمَا يُرَادُ لِأَنَّهُ زُهْدٌ فِيمَا يَضُرُّ أَوْ زُهْدٌ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فَأَمَّا الزُّهْدُ فِي النَّافِعِ فَجَهْلٌ وَضَلَالٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ } " . وَالنَّافِعُ لِلْعَبْدِ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَكُلَّمَا صَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ضَارٌّ لَا نَافِعَ ثُمَّ الْأَنْفَعُ لَهُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَعْمَالِهِ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ وَإِنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ وَفَعَلَ مُبَاحًا لَا يُعِينُهُ عَلَى الطَّاعَةِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ . وَكَذَلِكَ " الْوَرَعُ " الْمَشْرُوعُ هُوَ الْوَرَعُ عَمَّا قَدْ تُخَافُ عَاقِبَتُهُ وَهُوَ
مَا يُعْلَمُ تَحْرِيمُهُ وَمَا يَشُكُّ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْ فِعْلِهِ - مِثْلُ مُحَرَّمٍ مُعَيَّنٍ - مِثْلُ مَنْ يَتْرُكُ أَخْذَ الشُّبْهَةِ وَرَعًا مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا وَيَأْخُذُ بَدَلَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بَيِّنًا تَحْرِيمُهُ أَوْ يَتْرُكُ وَاجِبًا تَرْكُهُ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ فِعْلِهِ مَعَ الشُّبْهَةِ كَمَنْ يَكُونُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ عَلَيْهِ دُيُونٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِهَا وَلَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ إلَّا مِنْ مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَتَوَرَّعُ عَنْهَا وَيَدَعُ ذِمَّتَهُ أَوْ ذِمَّةَ أَبِيهِ مُرْتَهِنَةً . وَكَذَلِكَ مِنْ " الْوَرَعِ " الِاحْتِيَاطُ بِفِعْلِ مَا يَشُكُّ فِي وُجُوبِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَتَمَامُ " الْوَرَعِ " أَنْ يَعُمَّ الْإِنْسَانَ خَيْرُ الْخَيْرَيْنِ وَشَرُّ الشَّرَّيْنِ ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُوَازِنْ مَا فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَفْسَدَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ يَدَعُ وَاجِبَاتٍ وَيَفْعَلُ مُحَرَّمَاتٍ . وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ الْوَرَعِ كَمَنْ يَدْعُ الْجِهَادَ مَعَ الْأُمَرَاءِ الظَّلَمَةِ وَيَرَى ذَلِكَ وَرَعًا وَيَدَعُ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ فِيهِمْ بِدْعَةٌ أَوْ فُجُورٌ وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ الْوَرَعِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الصَّادِقِ وَأَخْذِ عِلْمِ الْعَالِمِ لِمَا فِي صَاحِبِهِ مِنْ بِدْعَةٍ خَفِيَّةٍ وَيَرَى تَرْكَ قَبُولِ سَمَاعِ هَذَا الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ سَمَاعُهُ مِنْ الْوَرَعِ .
وَكَذَلِكَ " الزُّهْدُ وَالرَّغْبَةُ " مَنْ لَمْ يُرَاعِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الرَّغْبَةِ وَالزُّهْدِ وَمَا يَكْرَهُهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَإِلَّا فَقَدَ يَدَعُ وَاجِبَاتٍ وَيَفْعَلُ مُحَرَّمَاتٍ مِثْلُ مَنْ يَدْعُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَكْلِ أَوْ أَكْلِ الدَّسِمِ حَتَّى يَفْسُدُ عَقْلُهُ أَوْ تَضْعُفَ قُوَّتُهُ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقِ عِبَادِهِ أَوْ يَدَعُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمَا فِي فِعْلِ ذَلِكَ مِنْ أَذَى بَعْضِ النَّاسِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْتَوْلِيَ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ عَلَى الصَّالِحِينَ الْأَبْرَارِ فَلَا يَنْظُرُ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } . يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَإِنْ كَانَ قَتْلُ النُّفُوسِ فِيهِ شَرٌّ فَالْفِتْنَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْكُفْرِ ، وَظُهُورُ أَهْلِهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَيَدْفَعُ أَعْظَمَ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا . وَكَذَلِكَ الَّذِي يَدَعُ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ أَوْ يَرَى أَنَّ فِي ذَبْحِهِ ظُلْمًا لَهُ هُوَ جَاهِلٌ فَإِنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ فَإِذَا قُتِلَ لِمَنْفَعَةِ الْآدَمِيِّينَ
وَحَاجَتِهِمْ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَمُوتَ مَوْتًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ وَالْآدَمِيُّ أَكْمَلُ مِنْهُ وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الْحَيَوَانِ فِي الْأَكْلِ وَالرُّكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ تَعْذِيبِهِ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَصَبْرِ الْبَهَائِمِ وَذَبْحِهَا فِي غَيْرِ الْحَلْقِ واللبة مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَأَوْجَبَ اللَّهُ الْإِحْسَانَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فِيمَا أَبَاحَهُ مِنْ الْقَتْلِ وَالذَّبْحِ . كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ : فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأُحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأُحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } " . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَهِدُوا فِي " الْإِرَادَاتِ " حَتَّى فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْإِرَادَاتِ بِإِزَائِهِمْ " طَائِفَتَانِ " : ( طَائِفَةٌ رَغِبَتْ فِيمَا كَرِهَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَ الرَّغْبَةُ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . وَ ( طَائِفَةٌ رَغِبَتْ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَكِنْ لِهَوَى أَنْفُسِهِمْ لَا لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِصُوَرِ الطَّاعَاتِ مَعَ فَسَادِ النِّيَّاتِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } " . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ إرَادَاتٍ فَاسِدَةٍ مَذْمُومَةٍ فَهُمْ مَعَ تَرْكِهِمْ الْوَاجِبَ فَعَلُوا الْمُحَرَّمَ . وَهُمْ يُشْبِهُونَ الْيَهُودَ كَمَا يُشْبِهُ أُولَئِكَ النَّصَارَى . قَالَ تَعَالَى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فَهَؤُلَاءِ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ غَيًّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَأُولَئِكَ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ مَعَ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ بِالْحَقِّ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ }
وَكِلَا
الطَّائِفَتَيْنِ تَارِكَةٌ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ مِنْ
الْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُرْتَكِبَةٌ لِمَا نَهَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنْ الْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ .
فَصْلٌ :
فَأَمَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَشَيْخُهُ حَمَّادٌ الدباس وَغَيْرُهُمَا
مِنْ الْمَشَايِخِ أَهْلَ الِاسْتِقَامَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - :
بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّالِكُ مُرَادًا قَطُّ وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ مَعَ
إرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سِوَاهَا بَلْ يَجْرِي فِعْلُهُ فِيهِ فَيَكُونُ
هُوَ مُرَادُ الْحَقِّ . إنَّمَا قَصَدُوا بِهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ
أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِ فَأَمَّا مَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ
فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَهُ وَيَعْمَلَ بِهِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ . وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ الغالطين يَرَى الْقِيَامَ
بِالْإِرَادَةِ الْخِلْقِيَّةِ هُوَ الْكَمَالُ وَهُوَ " الْفَنَاءُ فِي
تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ " وَأَنَّ السُّلُوكَ إذَا انْتَهَى إلَى هَذَا
الْحَدِّ فَصَاحِبُهُ إذَا قَامَ بِالْأَمْرِ فَلِأَجْلِ غَيْرِهِ أَوْ أَنَّهُ
لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُومَ بِالْأَمْرِ فَتِلْكَ أَقْوَالٌ وَطَرَائِقُ فَاسِدَةٌ
قَدْ تُكُلِّمَ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَأَمَّا
الْمُسْتَقِيمُونَ مِنْ السَّالِكِينَ كَجُمْهُورِ مَشَايِخِ السَّلَفِ : مِثْلِ
الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ
الداراني وَمَعْرُوفٍ
الْكَرْخِي وَالسَّرِيِّ السقطي والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَمِثْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ حَمَّادٍ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . فَهُمْ لَا يُسَوِّغُونَ لِلسَّالِكِ وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَدَعَ الْمَحْظُورَ إلَى أَنْ يَمُوتَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ : كَقَوْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فِي كِتَابِ ( فُتُوحِ الْغَيْبِ : " اُخْرُجْ مِنْ نَفْسِك وَتَنَحَّ عَنْهَا وَانْعَزِلْ عَنْ مُلْكِك . وَسَلِّمْ الْكُلَّ إلَى اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَكُنْ بَوَّابَهُ عَلَى بَابِ قَلْبِك ، وَامْتَثِلْ أَمْرَهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي إدْخَالِ مَنْ يَأْمُرُك بِإِدْخَالِهِ وَانْتَهِ نَهْيَهُ فِي صَدِّ مَنْ يَأْمُرُك بِصَدِّهِ . فَلَا تُدْخِلْ الْهَوَى قَلْبَك بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ وَإِخْرَاجُ الْهَوَى مِنْ الْقَلْبِ بِمُخَالَفَتِهِ ، وَتَرْكِ مُتَابَعَتِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَإِدْخَالُهُ فِي الْقَلْبِ بِمُتَابَعَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ فَلَا تُرَدْ إرَادَةٌ غَيْرُ إرَادَتِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْك غَيْرٌ وَهُوَ وَادِي الْحَمْقَى وَفِيهِ حَتْفُك وَهَلَاكُك وَسُقُوطُك مِنْ عَيْنِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَحِجَابُك عَنْهُ . احْفَظْ أَبَدًا أَمْرَهُ وَانْتَهِ أَبَدًا نَهْيَهُ وَسَلِّمْ إلَيْهِ أَبَدًا مَقْدُورَهُ وَلَا تُشْرِكْهُ بِشَيْءِ مِنْ خَلْقِهِ فَإِرَادَتُك وَهَوَاك وَشَهَوَاتُك خَلْقُهُ فَلَا تَرُدَّ وَلَا تَهْوَى وَلَا تَشْتَهِ لِئَلَّا يَكُونَ شِرْكًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ
يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } لَيْسَ الشِّرْكُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فَحَسْبُ ؛ بَلْ هُوَ أَيْضًا مُتَابَعَتُك لِهَوَاك وَأَنْ تَخْتَارَ مَعَ رَبِّك شَيْئًا سِوَاهُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَالْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا فَمَا سِوَاهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - غَيْرُهُ فَإِذَا رَكَنْت إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَشْرَكْت بِهِ غَيْرَهُ فَاحْذَرْ وَلَا تَرْكَنْ وَخَفْ وَلَا تَأْمَنْ وَفَتِّشْ وَلَا تَغْفُلْ فَتَطْمَئِنَّ وَلَا تُضِفْ إلَى نَفْسِك حَالًا وَلَا مَقَامًا وَلَا تَدَعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ " . وَقَالَ ( الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ أَيْضًا : " إنَّمَا هُوَ اللَّهُ وَنَفْسُك وَأَنْتَ الْمُخَاطَبُ وَالنَّفْسُ ضِدُّ اللَّهِ وَعَدُوَّتُهُ ؛ وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا تَابِعَةٌ لِلَّهِ فَإِذَا وَافَقْت الْحَقَّ فِي مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَعَدَاوَتِهَا كُنْت خَصْمًا لَهُ عَلَى نَفْسِك - إلَى أَنْ قَالَ - : " فَالْعِبَادَةُ " فِي مُخَالَفَتِك نَفْسَك وَهَوَاك قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } إلَى أَنْ قَالَ : وَالْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَبِي يَزِيدَ البسطامي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا رَأَى رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ : كَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْك ؟ فَقَالَ : اُتْرُكْ نَفْسَك وَتَعَالَ قَالَ أَبُو يَزِيدَ : فَانْسَلَخْت مِنْ نَفْسِي كَمَا تَنْسَلِخُ الْحَيَّةُ مِنْ جِلْدِهَا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي مُعَادَاتِهَا فِي الْجُمْلَةِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَإِنْ
كُنْت فِي حَالِ التَّقْوَى فَخَالِفْ النَّفْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ مِنْ إجْرَامِ الْخَلْقِ وَشَبَهِهِمْ وَمِنَّتِهِمْ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِمْ وَالثِّقَةِ بِهِمْ وَالْخَوْفِ مِنْهُمْ ؛ وَالرَّجَاءِ لَهُمْ وَالطَّمَعِ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا فَلَا تَرْجُ عَطَاءَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْهَدِيَّةِ أَوْ الزَّكَاةِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْكَفَّارَةِ أَوْ النَّذْرِ فَاقْطَعْ هَمَّك مِنْهُمْ مَنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ وَالْأَسْبَابِ فَاخْرُجْ مِنْ الْخَلْقِ جِدًّا وَاجْعَلْهُمْ كَالْبَابِ يُرَدُّ وَيُفْتَتَحُ وَكَالشَّجَرَةِ يُوجَدُ فِيهَا ثَمَرَةٌ تَارَةً وَتُحِيلُ أُخْرَى كُلُّ ذَلِكَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ وَتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ ، وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . فَإِذَا صَحَّ لَك هَذَا كُنْت مُوَحِّدًا لَهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَلَا تَنْسَ مَعَ ذَلِكَ كَسْبَهُمْ لِتَتَخَلَّصَ مِنْ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ وَأَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَتِمُّ لَهُمْ دُونَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لِكَيْلَا تَعْبُدَهُمْ وَتَنْسَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَا تَقْبَلْ فِعْلَهُمْ دُونَ اللَّهِ فَتَكْفُرَ وَتَكُونَ قَدَرِيًّا . وَلَكِنْ قُلْ : هِيَ لِلَّهِ خَلْقًا وَلِلْعِبَادِ كَسْبًا . كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْجَزَاءِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَامْتَثِلْ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِمْ وَخَلِّصْ قِسْمَك مِنْهُمْ بِأَمْرِهِ وَلَا تُجَاوِزْهُ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ يُحْكَمُ عَلَيْك وَعَلَيْهِمْ فَلَا تَكُنْ أَنْتَ الْحَاكِمُ وَكَوْنُك مَعَهُمْ قَدَرٌ وَالْقَدَرُ ظُلْمَةٌ فَادْخُلْ فِي الظُّلْمَةِ بِالْمِصْبَاحِ وَهُوَ " الْحُكْمُ " : كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَخْرُجْ عَنْهُمَا . فَإِنْ خَطَرَ خَاطِرٌ أَوْ وَجَدْت إلْهَامًا فَاعْرِضْهُمَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ وَجَدْت فِيهِمَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ تُلْهَمَ بِالزِّنَا أَوْ الرِّبَا أَوْ مُخَالَطَةِ
أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي فَادْفَعْهُ عَنْك وَاهْجُرْهُ وَلَا تَقْبَلْهُ وَلَا تَعْمَلْ بِهِ وَاقْطَعْ بِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ اللَّعِينِ وَإِنْ وَجَدْت فِيهِمَا إبَاحَتَهُ كَالشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبْسِ وَالنِّكَاحِ فَاهْجُرْهُ أَيْضًا وَلَا تَقْبَلْهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ إلْهَامِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَقَدْ أُمِرْت بِمُخَالَفَتِهَا وَعَدَاوَتِهَا " . قُلْت : وَمُرَادُهُ بِهَجْرِ الْمُبَاحِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ كَمَا قَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنَّ الْمُبَاحَ الْمَأْمُورَ بِهِ إذَا فَعَلَهُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَقَدْ قَدَّمْت أَنَّهُ يَدْعُو إلَى طَرِيقَةِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ ؛ لَا يَقِفُ عِنْدَ طَرِيقَةِ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ . قَالَ : " وَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَحْرِيمَهُ وَلَا إبَاحَتَهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَا تَعْقِلْهُ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَك ائْتِ مَوْضِعَ كَذَا وَكَذَا الق فُلَانًا الصَّالِحَ ؛ وَلَا حَاجَةَ لَك هُنَاكَ وَلَا فِي الصَّالِحِ ؛ لِاسْتِغْنَائِك عَنْهُ بِمَا أَوْلَاك اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نِعَمِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فَتَوَقَّفْ فِي ذَلِكَ وَلَا تُبَادِرْ إلَيْهِ . فَتَقُولُ : هَلْ هَذَا إلْهَامٌ إلَّا مِنْ الْحَقِّ فَاعْمَلْ بِهِ ؟ بَلْ انْتَظِرْ الْخَيْرَ فِي ذَلِكَ وَفِعْلُ الْحَقِّ بِأَنْ يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ الْإِلْهَامُ ، وَتُؤْمَرَ بِالسَّعْيِ أَوْ عَلَامَةٌ تَظْهَرُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَفْعَلُهَا الْعُقَلَاءُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْمُؤَيَّدُونَ مِنْ الْأَبْدَال . وَإِنَّمَا لَمْ تُبَادِرْ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّك لَا تَعْلَمُ عَاقِبَتَهُ وَمَا يُؤَوَّلُ الْأَمْرُ إلَيْهِ وَرُبَّمَا
كَانَ فِيهِ فِتْنَةٌ وَهَلَاكٌ وَمَكْرٌ مِنْ اللَّهِ وَامْتِحَانٌ فَاصْبِرْ حَتَّى يَكُونَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْفَاعِلُ فِيك فَإِذَا تَجَرَّدَ الْفِعْلُ وَحُمِلْت إلَى هُنَاكَ وَاسْتَقْبَلَتْك فِتْنَةٌ كَنْت مَحْمُولًا مَحْفُوظًا فِيهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُك عَلَى فِعْلِهِ وَإِنَّمَا تَتَطَرَّقُ الْعُقُوبَاتُ نَحْوَك لِكَوْنِك فِي الشَّيْءِ " . قُلْت : فَقَدْ أَمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّ مَا كَانَ مَحْظُورًا فِي الشَّرْعِ يَجِبُ تَرْكُهُ وَلَا بُدَّ وَمَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ مُبَاحٌ بِعَيْنِهِ لِكَوْنِهِ يُفْعَلُ بِحُكْمِ الْهَوَى لَا بِأَمْرِ الشَّارِعِ فَيُتْرَكُ أَيْضًا وَأَمَّا مَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ هُوَ بِعَيْنِهِ مُبَاحٌ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ أَوْ فِيهِ مَضَرَّةٌ مِثْلُ السَّفَرِ إلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَالذَّهَابِ إلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ جِنْسَ هَذَا الْعَمَلِ لَيْسَ مُحَرَّمًا وَلَا كُلُّ أَفْرَادِهِ مُبَاحَةٌ ؛ بَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى حَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ فِي دِينِهِ فَأَمَرَهُ بِالْكَفِّ عَنْ الذَّهَابِ حَتَّى يَظْهَرَ أَوْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ أَنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ الذَّهَابَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ فِعْلُهُ وَإِذَا خَافَ الضَّرَرَ يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُهُ فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الذَّهَابِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ فَلَا يُؤَاخَذُ بِالْفِعْلِ . بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ شَهْوَتِهِ ؛ وَإِذْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَانَ حَسَنًا . وَقَدْ جَاءَتْ شَوَاهِدُ السُّنَّةِ : بِأَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِغَيْرِ تَعَرُّضٍ مِنْهُ أُعِينَ ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ خِيفَ عَلَيْهِ . مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ " { لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا
عَنْ
غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ : " { لَا
تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا
لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا } " . وَفِي السُّنَنِ " { مَنْ سَأَلَ
الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِالشُّفَعَاءِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ
يَسْأَلْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ
مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } - وَفِي رِوَايَةٍ - وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ " وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الطَّاعُونِ
: " { إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْهِ ؛ وَإِذَا
وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ } "
وَعَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { نَهَى عَنْ
النَّذْرِ } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ : " { ذَرُونِي مَا تَرَكْتُمْ
فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ
عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ . فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ .
وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } " .
فَصْلٌ :
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ : " وَإِنْ كُنْت فِي حَالِ الْحَقِيقَةِ
وَهِيَ حَالُ الْوِلَايَةِ : فَخَالِفْ هَوَاك ، وَاتَّبِعْ الْأَمْرَ فِي
الْجُمْلَةِ وَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ عَلَى " قِسْمَيْنِ " : ( أَحَدُهُمَا
) : أَنْ تَأْخُذَ مِنْ الدُّنْيَا الْقُوتَ الَّذِي هُوَ حَقُّ النَّفْسِ
وَتَتْرُكَ الْحَظَّ ، وَتُؤَدِّيَ الْفَرْضَ وَتَشْتَغِلَ بِتَرْكِ الذُّنُوبِ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ بِأَمْرِ بَاطِنٍ وَهُوَ أَمْرُ الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُ عَبْدَهُ وَيَنْهَاهُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْأَمْرُ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي لَيْسَ حُكْمًا فِي الشَّرْعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ النَّهْيِ وَلَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ بَلْ هُوَ مُهْمَلٌ تُرِكَ الْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ فَسُمِّيَ مُبَاحًا فَلَا يُحْدِثُ الْعَبْدُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ عِنْدِهِ بَلْ يَنْتَظِرُ الْأَمْرَ فِيهِ فَإِذَا أُمِرَ امْتَثَلَ فَيَصِيرُ جَمِيعُ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا فِي الشَّرْعِ حُكْمُهُ فَبِالشَّرْعِ وَمَا لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ فِي الشَّرْعِ فَبِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُحَقِّقًا مِنْ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَهُوَ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ حَالَةَ التَّسْلِيمِ . وَإِنْ كُنْت فِي حَالَةِ حَقِّ الْحَقِّ وَهِيَ حَالَةُ الْمُحِقِّ ، وَالْفِنَاءُ حَالَةُ الْأَبْدَالِ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ ؛ لِأَجْلِ الْحَقِّ الْمُوَحِّدِينَ الْعَارِفِينَ أَرْبَابِ الْعُلُومِ ، وَالْفِعْلِ السَّادَةِ الْأُمَرَاءِ السَّخِيِّ الْخُفَرَاءِ لِلْحَقِّ خُلَفَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَجِلَّائِهِ وَأَعْيَانِهِ وَأَحْبَابِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ فِيهَا بِمُخَالَفَتِك إيَّاكَ بِالتَّبَرِّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَأَنْ لَا تَكُونَ لَك إرَادَةٌ وَهِمَّةٌ فِي شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ دُنْيَا وَأُخْرَى ، عَبْدَ الْمَلِكِ لَا عَبْدَ الْمُلْكِ ، وَعَبْدَ الْأَمْرِ لَا عَبْدَ الْهَوَى كَالطِّفْلِ مَعَ الظِّئْرِ وَالْمَيِّتِ الْغَسِيلِ مَعَ الْغَاسِلِ وَالْمَرِيضِ الْمَغْلُوبِ عَلَى حِسِّهِ مَعَ الطَّبِيبِ فِيمَا سِوَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَقَالَ أَيْضًا : " اتَّبِعْ الشَّرْعَ فِي جَمِيعِ مَا يَنْزِلُ بِك إنْ كُنْت فِي
حَالِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ الْقَدَمُ الْأُولَى ، وَاتَّبِعْ الْأَمْرَ فِي حَالَةِ الْوِلَايَةِ وَوُجُودِ الْهَوَى وَلَا تَتَجَاوَزْهُ وَهِيَ الْقَدَمُ الثَّانِيَةُ ، وَارْضَ بِالْفِعْلِ وَوَافِقْ وَافْنَ فِي حَالَةِ الْبَدَلِيَّةِ وَالْعَيْنِيَّةِ والصديقية وَهِيَ الْمُنْتَهَى . تَنَحَّ عَنْ الطَّرِيقِ الْقَذِرِ خَلِّ عَنْ سَبِيلِهِ رُدَّ نَفْسَك وَهَوَاك كُفَّ لِسَانَك عَنْ الشَّكْوَى فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ إنْ كَانَ خَيْرًا زَادَك الْمَوْلَى طِيبَةً وَلَذَّةً وَسُرُورًا ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا حَفِظَك فِي طَاعَتِهِ فِيهِ وَأَزَالَ عَنْك الْمَلَامَةَ وَأَقْعَدَك فِيهِ حَتَّى يَتَجَاوَزَ وَيُرِيحَك عِنْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهِ كَمَا يَنْقَضِي اللَّيْلُ فَيُسْفِرُ عَنْ النَّهَارِ ، وَالْبَرَدُ فِي الشِّتَاءِ فَيُسْفِرُ عَنْ الصَّيْفِ ذَلِكَ النَّمُوذَجُ عِنْدَك فَاعْتَبِرْ بِهِ . ثُمَّ ذُنُوبٌ وَآثَامٌ وَإِجْرَامٌ وَتَلْوِيثٌ بِأَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا وَلَا يَصْلُحُ لِمُجَالَسَةِ الْكَرِيمِ إلَّا طَاهِرٌ عَنْ أَنْجَاسِ الذُّنُوبِ وَالزَّلَّاتِ ، وَلَا يُقْبِلُ عَلَى شِدَّتِهِ إلَّا طَيِّبٌ مِنْ دُونِ الدَّعْوَى وَالْهَوَّاشَاتِ كَمَا لَا يَصْلُحُ لِمُجَالَسَةِ الْمُلُوكِ إلَّا الطَّاهِرُ مِنْ الْأَنْجَاسِ وَأَنْوَاعِ النَّتِنِ وَالْأَوْسَاخِ فَالْبَلَايَا مُكَفِّرَاتٌ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ } " . قُلْت : فَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ لُزُومَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ مَقَامٍ ، وَذَكَرَ الْأَحْوَالَ الثَّلَاثَ الَّتِي جَعَلَهَا : حَالَ صَاحِبِ التَّقْوَى وَحَالَ الْحَقِيقَةِ ، وَحَالَ حَقِّ الْحَقِّ وَقَدْ فَسَّرَ مَقْصُودَهُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَنْ يُرِيدَ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ
فِي الشَّرْعِ ، وَتَرْكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّهُ إذَا أُمِرَ الْعَبْدُ بِتَرْكِ إرَادَتِهِ فَهُوَ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ وَهَذَا حَقٌّ . فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَتَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ فِي وُجُودِهِ وَلَا نُهِيَ عَنْهُ فَتَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ فِي عَدَمِهِ فَيَخْلُو فِي مِثْلِ هَذَا عَنْ إرَادَةِ النَّقِيضَيْنِ . وَقَدْ بُيِّنَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَلْزَمَ الْأَمْرَ دَائِمًا الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ الظَّاهِرَ إنْ عَرَفَهُ أَوْ الْأَمْرَ الْبَاطِنَ ، وَبُيِّنَ أَنَّ الْأَمْرَ الْبَاطِنَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ فِي الشَّرْعِ وَلَا مُحَرَّمٍ وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُنْتَظَرُ فِيهِ الْأَمْرُ الْخَاصُّ حَتَّى يَفْعَلَهُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ . فَإِنْ قُلْت : فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ صَاحِبِ التَّقْوَى الَّذِي قَبْلَهُ ؟ وَصَاحِبِ الْحَقِّ الَّذِي بَعْدَهُ ؟ . قِيلَ : أَمَّا الَّذِي بَعْدَهُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ " الْأَبْدَالَ " فَهُمْ الَّذِينَ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِأَمْرِ الْحَقِّ ، وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِهِ فَلَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِعْلًا فِيمَا فَعَلُوهُ مِنْ الطَّاعَةِ ؛ بَلْ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ بِهِمْ مَا قَامَ بِهِمْ مِنْ طَاعَةِ أَمْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ : فَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ فِيهَا مُخَالَفَتُك إيَّاكَ بِالتَّبَرِّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ . فَهَؤُلَاءِ يَشْهَدُونَ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ فَيَشْهَدُونَ
أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مَا قَامَ بِهِمْ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ فَلَا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ حَمْدًا وَلَا مِنَّةً عَلَى أَحَدٍ ، وَيَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا مُسِيئًا إلَيْهِمْ وَلَا يَرَوْنَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى أَحَدٍ إذْ قَدْ شَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَا بِأَنْفُسِهِمْ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا بَلْ هُوَ الَّذِي كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَّقَى حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَحَقُّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى ، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ فَيَرَوْنَ أَنَّ مَا قَامَ بِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُوَ جُودُهُ وَفَضْلُهُ وَكَرَمُهُ لَهُ الْحَمْدُ فِي ذَلِكَ . وَيَشْهَدُونَ : أَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَأَمَّا مَا قَامَ بِالْعِبَادِ مِنْ أَذَاهُمْ فَهُوَ خَلَقَهُ وَهُوَ مِنْ عَدْلِهِ ، وَمَا تَرَكَهُ النَّاسُ مِنْ حُقُوقِهِمْ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْهُ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى مَا فَعَلَ وَمَا لَمْ يَفْعَلْ . وَلِهَذَا كَانُوا مُنْكَسِرَةً قُلُوبُهُمْ ؛ لِشُهُودِهِمْ وُجُودَهُ الْكَامِلَ ، وَعَدَمَهُمْ الْمَحْضَ ، وَلَا أَعْظَمَ انْكِسَارًا مِمَّنْ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ إلَّا الْعَدَمَ لَا يَرَى لَهُ شَيْئًا وَلَا يَرَى بِهِ شَيْئًا . وَصَاحِبُ الْحَقِيقَةِ الَّذِي هُوَ دُونَ هَذَا قَدْ شَارَكَهُ فِي إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا لِلَّهِ لَكِنْ قُصِرَ عَنْهُ فِي شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَرُؤْيَتِهِ وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ
وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ . بَلْ الرَّبُّ هُوَ الْخَالِقُ الْفَاعِلُ لِكُلِّ مَا قَامَ بِهِ وَأَنَّ كَمَالَ هَذَا الشُّهُودِ لَا يُبْقِي شَيْئًا مِنْ الْعَجَبِ وَلَا الْكِبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَكِلَاهُمَا قَائِمٌ بِالْأَمْرِ مُطِيعٌ لِلَّهِ لَكِنْ هَذَا يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُسْلِمًا مُصَلِّيًا وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا ، وَذَاكَ وَإِنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِهَذَا وَيُصَدِّقُ بِهِ إذْ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ ؛ لَكِنْ قَدْ لَا يَشْهَدُهُ شُهُودًا يَجْعَلُهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ . وَأَيْضًا بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ : وَهِيَ أَنَّ الْأَوَّلَ تَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ وَهِمَّةٌ فِي أُمُورٍ فَيَتْرُكُهَا فَهُوَ يُمَيِّزُ فِي مُرَادَاتِهِ بَيْنَمَا يُؤْمَرُ بِهِ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ وَمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُنْهَى عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ مُرَادٌ أَصْلًا إلَّا مَا أَرَادَهُ الرَّبُّ إمَّا أَمْرًا بِهِ فَيَمْتَثِلُهُ هُوَ بِاَللَّهِ وَإِمَّا فِعْلًا فِيهِ فَيَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِ وَلِهَذَا شَبَّهَهُ بِالطِّفْلِ مَعَ الظِّئْرِ فِي غَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَأَمَّا ( الْأَوَّلُ : الَّذِي هُوَ فِي مَقَامِ التَّقْوَى الْعَامَّةِ فَإِنَّ لَهُ شَهَوَاتٍ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَلَهُ الْتِفَاتٌ إلَى الْخَلْقِ وَلَهُ رُؤْيَةُ نَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُجَاهَدَةِ بِالتَّقْوَى بِأَنْ يَكُفَّ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَعَنْ تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ بِغَيْرِ الْأَمْرِ فَهَذَا يَحْتَاجُ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ وَهُوَ التَّقْوَى وَصَاحِبُ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَا يُؤْمَرُ بِهِ فَقَطْ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فِي الشَّرْعِ وَمَا كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَفْعَلْ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ .
وَأَمَّا
( الثَّالِثُ ) : فَقَدْ تَمَّ شُهُودُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا لِلَّهِ
وَبِاَللَّهِ . فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لِلَّهِ وَيَشْهَدُ
أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا تَكُونُ لَهُ
هِمَّةُ إرَادَةٍ أَنْ يَفْعَلَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا يَفْعَلُ
بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى . وَ ( الثَّلَاثَةُ ) مُشْتَرِكُونَ
فِي الطَّرِيقِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَا يَفْعَلُ إلَّا الطَّاعَةَ لَكِنْ
يَتَفَاوَتُونَ بِكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ وَبِصَفَاءِ النِّيَّةِ
وَالْإِرَادَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَلَامُ الشَّيْخِ كُلِّهِ يَدُورُ عَلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ
الْأَمْرَ مَهْمَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَا لَيْسَ فِيهِ
أَمْرٌ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا يَكُونُ فِيهِ مُسْلِمًا لِفِعْلِ الرَّبِّ بِحَيْثُ
لَا يَكُونُ لَهُ اخْتِيَارٌ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا بَلْ إنْ عَرَفَ
الْأَمْرَ كَانَ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ كَانَ مَعَ الْقَدَرِ فَهُوَ مَعَ
أَمْرِ الرَّبِّ إنْ عَرَفَ وَإِلَّا فَمَعَ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ
الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا لَيْسَ
فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ لَا بِاسْتِحْبَابِ
وَلَا كَرَاهَةٍ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ هُوَ وَالشَّيْخُ حَمَّادٌ الدباس ،
وَإِنَّ السَّالِكَ يَصِلُ إلَى أُمُورٍ لَا يَكُونُ فِيهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ
بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ بَلْ يَقِفُ الْعَبْدُ مَعَ الْقَدَرِ ، وَهَذَا
الْمَوْضِعُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ السَّالِكُ فِيهِ عِنْدَهُمْ مَعَ "
الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ " الْمَحْضَةِ إذْ لَيْسَ هُنَا حَقِيقَةٌ
شَرْعِيَّةٌ .
وَهَذَا مِمَّا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ . وَيَقُولُونَ : " الْفِعْلُ " إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرْعِ وُجُودُهُ رَاجِحًا عَلَى عَدَمِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ رَاجِحًا عَلَى وُجُودِهِ . وَهُوَ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ . وَإِمَّا أَنْ يَسْتَوِيَ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمُبَاحُ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ . ثُمَّ " الْفِعْلُ الْمُعَيَّنُ " الَّذِي يُقَالُ هُوَ مُبَاحٌ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ لِلْعَبْدِ لِاسْتِعَانَتِهِ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَلِحُسْنِ نِيَّتِهِ فَهَذَا يَصِيرُ أَيْضًا مَحْبُوبًا رَاجِحَ الْوُجُودِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفَوِّتًا لِلْعَبْدِ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ كَالْمُبَاحِ الَّذِي يَشْغَلُهُ عَنْ مُسْتَحَبٍّ فَهَذَا عَدَمُهُ خَيْرٌ لَهُ . وَالسَّالِكُ الْمُتَقَرِّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ لَا يَكُونُ الْمُبَاحُ الْمُعَيَّنُ فِي حَقِّهِ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ كَانَ تَرْكُهُ وَفِعْلُ الطَّاعَةِ مَكَانَهُ خَيْرًا لَهُ وَإِنَّمَا قَدْرُ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِهِ يَشْتَغِلُ بِمُبَاحِ مِثْلِهِ . فَيُقَالُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَهَذَا يَصْلُحُ لِلْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ كَأَدَاءِ . الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَشْتَغِلُونَ مَعَ ذَلِكَ بِمُبَاحَاتِ . فَهَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ الْمُبَاحُ الْمُعَيَّنُ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِمْ إذَا كَانُوا عِنْدَ عَدَمِهِ يَشْتَغِلُونَ بِمُبَاحِ آخَرَ وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ تَتْرُكَ النَّفْسُ فِعْلًا إنْ
لَمْ تَشْتَغِلْ بِفِعْلِ آخَرَ يُضَادُّ الْأَوَّلَ ؛ إذْ لَا تَكُونُ مُعَطَّلَةً عَنْ جَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ . وَمِنْ هَذَا أَنْكَرَ الْكَعْبِيُّ " الْمُبَاحَ " فِي الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ فَهُوَ يُشْتَغَلُ بِهِ عَنْ مُحَرَّمٍ ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ إلَّا أَنْ يُشْتَغَلَ بِضِدِّهِ وَهَذَا الْمُبَاحُ ضِدُّهُ ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ وَإِلَّا فَهُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ فَأَيُّ ضِدٍّ تَلَبَّسَ بِهِ كَانَ وَاجِبًا مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ . وَسُؤَالُ الْكَعْبِيِّ هَذَا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النُّظَّارِ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ جَوَابِهِ : كَأَبِي الْحَسَنِ الآمدي ، وَقَوَّاهُ طَائِفَة بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ أَضْدَادُهُ مَحْصُورَةً فَأَمَّا مَا لَيْسَتْ أَضْدَادُهُ مَحْصُورَةً فَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ أَمْرًا بِأَحَدِهِمَا كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ ، وَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ . فَيُقَالُ فِي الْمُخَيَّرِ : هُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَيُقَالُ فِي الْمُطْلَقِ هُوَ أَمْرٌ بِالْقَدَرِ الْمُشْتَرَكِ . وَجَدْنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ يَمِيلُ إلَى هَذَا . وَقَدْ أَلْزَمُوا " الْكَعْبِيَّ " إذَا تَرَكَ الْحَرَامَ بِحَرَامِ آخَرَ وَهُوَ قَدْ يَقُولُ : عَلَيْهِ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا إلَى مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ بَلْ إمَّا مُبَاحٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا وَاجِبٌ .
وَ " تَحْقِيقُ الْأَمْرِ " أَنَّ قَوْلَنَا : الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ . وَأَضْدَادُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ أَوْ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِنَا : الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِلَوَازِمِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إلَّا بِهِ . فَإِنَّ وُجُودَ الْمَأْمُورِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ لَوَازِمِهِ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ ، بَلْ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ كَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ وَعَدَمَ النَّهْيِ عَنْهُ ؛ بَلْ وَعَدَمُ كُلِّ شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ مَلْزُومَاتِهِ وَإِذَا كَانَ لَا يَعْدَمُ إلَّا بِضِدِّ يَخْلُقُهُ كَالْأَكْوَانِ فَلَا بُدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ مِنْ وُجُودِ بَعْضِ أَضْدَادِهِ فَهَذَا حَقٌّ فِي نَفْسِهِ ؛ لَكِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمُ جَاءَتْ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْأَمْرَ . وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ قَصْدًا وَمَا يَلْزَمُهُ فِي الْوُجُودِ . ( فَالْأَوَّلُ ) هُوَ الَّذِي يُذَمُّ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِخِلَافِ ( الثَّانِي ) فَإِنَّ مَنْ أُمِرَ بِالْحَجِّ أَوْ الْجُمْعَةِ وَكَانَ مَكَانَهُ بَعِيدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى مِنْ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ ، وَالْقَرِيبُ يَسْعَى مِنْ الْمَكَانِ الْقَرِيبِ فَقَطْعُ تِلْكَ الْمَسَافَاتِ مِنْ لَوَازِمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِذَا تُرِكَ هَذَانِ الْجُمْعَةُ وَالْحَجُّ لَمْ تَكُنْ عُقُوبَةُ الْبَعِيدِ أَعْظَمَ مِنْ عُقُوبَةِ الْقَرِيبِ بَلْ ذَلِكَ بِالْعَكْسِ أَوْلَى مَعَ أَنَّ ثَوَابَ الْبَعِيدِ أَعْظَمُ فَلَوْ كَانَتْ اللَّوَازِمُ مَقْصُودَةً لِلْأَمْرِ لَكَانَ يُعَاقَبُ بِتَرْكِهَا فَكَأَنْ يَكُونُ عُقُوبَةُ الْبَعِيدِ أَعْظَمَ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا . وَهَكَذَا إذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ أَضْدَادِهِ ، لَكِنْ
تَرْكُ الْأَضْدَادِ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِلْأَمْرِ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ عُوقِبَ عَلَى تَرْكِهِ لَا عَلَى فِعْلِ الْأَضْدَادِ الَّتِي اشْتَغَلَ بِهَا وَكَذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَقْصُودُ النَّاهِي عَدَمَهُ ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِهِ وَإِذَا تَرَكَهُ مُتَلَبِّسًا بِضِدِّ لَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّرْكِ . وَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ حَرَامًا بِحَرَامِ آخَرَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الثَّانِي وَلَا يُقَالُ فَعَلَ وَاجِبًا وَهُوَ تَرْكُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ الْأَوَّلِ ، فَالْمُبَاحُ الَّذِي اشْتَغَلَ بِهِ عَنْ مُحَرَّمٍ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَا بِامْتِثَالِهِ أَمْرًا مَقْصُودًا ؛ لَكِنْ نُهِيَ عَنْ الْحَرَامِ وَمِنْ ضَرُورَةِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الِاشْتِغَالُ بِضِدِّ مِنْ أَضْدَادِهِ فَذَاكَ يَقَعُ لَازِمًا لِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَيْسَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمَحْدُودُ بِقَوْلِنَا " الْوَاجِبُ مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ " أَوْ " يَكُونُ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ " . فَقَوْلُنَا : " مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ " أَوْ " يَجِبُ التَّوَصُّلُ إلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ " يَتَضَمَّنُ إيجَابَ اللَّوَازِمِ . وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوَاجِبِ " الْأَوَّلِ " وَ " الثَّانِي " . فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُعَاقَبُ ، وَالثَّانِي وَاجِبٌ وُقُوعًا أَيْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ أَمْرًا بِالْوَسَائِلِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنْ الْعُقُوبَةُ لَيْسَتْ عَلَى تَرْكِهِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إذَا اشْتَبَهَتْ الْمَيْتَةُ بِالْمُذَكَّى فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ الَّذِي يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ أَحَدُهُمَا بِحَيْثُ إذَا أَكَلَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يُعَاقَبْ عُقُوبَةَ مَنْ أَكَلَ مَيْتَتَيْنِ بَلْ عُقُوبَةَ مَنْ أَكَلَ مَيْتَةً وَاحِدَةً ، وَالْأُخْرَى وَجَبَ تَرْكُهَا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ . فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : كِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ صَحِيحٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ؛ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : الْمُحَرَّمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ أَيْضًا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : يَجِبُ التَّوَصُّلُ إلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ . وَإِنْكَارِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا وَمَنْ قَالَ الْمُحَرَّمُ أَحَدُهُمَا لَا يُنَاسِبُ طَرِيقَةَ الْفُقَهَاءِ ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى " نِزَاعٍ لَفْظِيٍّ " . فَإِنَّ الْوُجُوبَ وَالْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ لِأَحَدِهِمَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً لِلْآخَرِ بَلْ نَوْعٌ آخَرُ حَتَّى لَوْ اشْتَبَهَتْ مَمْلُوكَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ بِاللَّيْلِ وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُ حِلَّ وَطْءِ إحْدَاهُمَا وَتَحْرِيمَ وَطْءِ الْأُخْرَى كَانَ وَلَدُهُ مِنْ مَمْلُوكَتِهِ ثَابِتًا نَسَبُهُ بِخِلَافِ الْأُخْرَى وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهَا اشْتَبَهَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا فَحُدَّ مَثَلًا ثُمَّ تَزَوَّجَ الْأُخْرَى لَمْ يُحَدَّ حَدَّيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَنْكُوحَةُ هِيَ الْأَجْنَبِيَّةُ . وَبِهَذَا تَنْحَلُّ " شُبْهَةُ الْكَعْبِيِّ " . فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ تَرْكُهُ مَقْصُودٌ ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِضِدِّ مِنْ أَضْدَادِهِ فَهُوَ وَسِيلَةٌ ؛ فَإِذَا قِيلَ الْمُبَاحُ وَاجِبٌ بِمَعْنَى وُجُوبِ الْوَسَائِلِ أَيْ قَدْ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى فِعْلِ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فَهَذَا حَقٌّ .
ثُمَّ
إنَّ هَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَصْدُ ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَقْصِدُ أَنْ
يَشْتَغِلَ بِالْمُبَاحِ لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ مِثْلُ مَنْ يَشْتَغِلُ
بِالنَّظَرِ إلَى امْرَأَتِهِ وَوَطْئِهَا لِيَدَعَ بِذَلِكَ النَّظَرِ إلَى
الْأَجْنَبِيَّةِ وَوَطْئِهَا أَوْ يَأْكُلُ طَعَامًا حَلَالًا لِيَشْتَغِلَ بِهِ
عَنْ الطَّعَامِ الْحَرَامِ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ وَالْفِعْلِ
؛ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ
: " { وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛
أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ
وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَمَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَلِمَ تَحْتَسِبُونَ
بِالْحَرَامِ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْحَلَالِ } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ
بِرُخْصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } " رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَابْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ . وَقَدْ يُقَالُ الْمُبَاحُ يَصِيرُ وَاجِبًا
بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا صَارَ وَاجِبًا مُعَيَّنًا
وَإِلَّا كَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا لَكِنْ مَعَ هَذَا الْقَصْدِ إمَّا مَعَ
الذُّهُولِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا أَصْلًا إلَّا وُجُوبَ
الْوَسَائِلِ إلَى التَّرْكِ ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ
الْقَصْدُ . فَكَذَلِكَ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا قِيلَ هُوَ مُبَاحٌ
مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمُخَيَّرَاتِ مِنْ جِهَةِ
الْوَسِيلَةِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ . فَالنِّزَاعُ فِي هَذَا الْبَابِ نِزَاعٌ
لَفْظِيٌّ اعْتِبَارِيٌّ . وَإِلَّا فَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ لَا يُنَازِعُ
فِيهَا مَنْ فَهِمَهَا .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْأَبْرَارَ وَأَصْحَابَ الْيَمِينِ قَدْ
يَشْتَغِلُونَ بِمُبَاحِ
عَنْ مُبَاحٍ آخَرَ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُبَاحَيْنِ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِمْ . أَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَهُمْ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْمُبَاحَاتِ إذَا كَانَتْ طَاعَةً لِحُسْنِ الْقَصْدِ فِيهَا ؛ وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ . وَحِينَئِذٍ فَمُبَاحَاتُهُمْ طَاعَاتٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ الْأَفْعَالُ فِي حَقِّهِمْ إلَّا مَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ فَيُؤْمَرُونَ بِهِ شَرْعًا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ أَوْ مَا يَتَرَجَّحُ عَدَمُهُ فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَلَّا يَفْعَلُوهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْمٌ وَالشَّرِيعَةُ قَدْ بَيَّنَتْ أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا فَهَذَا " سُؤَالٌ " . وَ " سُؤَالٌ ثَانٍ " وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ كَمَا فِي حَقِّ الْأَبْرَارِ فَهَذَا الْفِعْلُ لَا يُحْمَدُ وَلَا يُذَمُّ وَلَا يُحَبُّ وَلَا يُبْغَضُ وَلَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَّا وُجُودُ الْقَدَرِ وَعَدَمُهُ ؛ بَلْ إنْ فَعَلَوْهُ لَمْ يُحْمَدُوا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ لَمْ يُحْمَدُوا ، فَلَا يَجْعَلُ مِمَّا يُحْمَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي هَذَا الْفِعْلِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ مَعَ كَوْنِ هَذَا الْفِعْلِ صَدَرَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ . إذْ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا غَيْرُ " الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " : وَهُوَ مَا فُعِلَ بِالْإِنْسَانِ كَمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ التَّكْلِيفِ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُحِبَّهُ إنْ كَانَ حَسَنَةً وَيُبْغِضَهُ إنْ كَانَ سَيِّئَةً وَيَخْلُوَ عَنْهُمَا إنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً ، فَمَنْ جَعَلَ الْإِنْسَانَ فِيمَا يَسْتَعْمِلُهُ فِيهِ الْقَدَرُ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ - كَالْمَيِّتِ بَيْنَ
يَدَيْ الْغَاسِلِ - فَقَدْ رَفَعَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهَذَا بَاطِلٌ . وَ " سُؤَالٌ ثَالِثٌ " : وَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ طَيُّ بِسَاطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مَعَ كَوْنِ أَفْعَالِهِ اخْتِيَارِيَّةً ، وَهَبْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَوَى فَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا هَوَى فِيهِ يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . قِيلَ : هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ أَسْئِلَةٌ صَحِيحَةٌ . وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ السَّالِكَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي هَلْ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا ؛ فَيَبْقَى هَوَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ هَوَى فِيهِ ثُمَّ يُسَلِّمُ فِيهِ لِلْقَدَرِ ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِرِضَا الرَّبِّ وَأَمْرِهِ وَحُبِّهِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ . وَهَذَا يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُبَّادِ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ لَا يَعْرِفُونَ حُكْمَ اللَّهِ الشَّرْعِيَّ فِيهَا بَلْ قَدْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُمْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ أَوْ خَفِيَتْ الْأَدِلَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَكُونُونَ مَعْذُورِينَ لِخَفَاءِ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ وَحُكْمُ الشَّرْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ
مَعْرِفَتِهِ وَأَمَّا مَا لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَا يُطَالَبُ بِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ . وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْعِلْمِ وَلَيْسَ خَطَأً فِي الْعَمَلِ وَهُوَ كَالْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ لَهُ أَجْرٌ عَلَى قَصْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، وَخَطَؤُهُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا . فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنَّ يَتَوَقَّفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا ذَمَّ فَيَقِفُ لَا يَسْتَسْلِمُ لِلْقَدَرِ وَيَصِيرُ مَحَلًّا لِمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا فَعَلَ غَيْرُهُ فِعْلًا فَهُوَ لَا يَمْدَحُهُ وَلَا يَذُمُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يَسْخَطُهُ ؛ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ حُكْمُهُ . فَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ يَصِيرُ مُسْتَسْلِمًا لِمَا يَسْتَعْمِلُهُ الْقَدَرُ فِيهِ : كَالطِّفْلِ مَعَ الظِّئْرِ وَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ فَهَذَا مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ بَلْ هَذَا مُحَرَّمٌ ، وَإِنْ عفى عَنْ صَاحِبِهِ وَحَسْبُ صَاحِبِهِ أَنْ يعفي عَنْهُ ؛ لِاجْتِهَادِهِ وَحُسْنِ قَصْدِهِ أَمَّا كَوْنُهُ يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ وَيَجْعَلُ هَذَا أَفْضَلَ الْمَقَامَاتِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، وَكَوْنُهُ مُجَرَّدًا عَنْ هَوَاهُ لَيْسَ مُسَوَّغًا لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِكُلِّ مَا يُفْعَلُ بِهِ . ثُمَّ يُقَالُ الْأُمُورُ مَعَ هَذَا نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفْعَلَ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا يُحْمَلُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ ، وَكَمَا تُضْجَعُ الْمَرْأَةُ قَهْرًا وَتُوطَأَ فَهَذَا لَا إثْمَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِمَّا أَنْ يُكْرَهَ بِالْإِكْرَاهِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَفْعَلَ ، فَهَذَا أَيْضًا مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَأَمَّا إذَا لَمْ يُكْرَهْ الْإِكْرَاهَ الشَّرْعِيَّ فَاسْتِسْلَامُهُ لِلْفِعْلِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَخِيرٌ هُوَ أَمْ شَرٌّ ؟ لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ وَإِنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ خَرْقُ عَادَةٍ أَوْ لَمْ يَجْرِ فَلَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . قِيلَ : هَذَا السُّؤَالُ صَحِيحٌ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ السَّالِكِينَ إذَا وَصَلُوا إلَى هَذَا الْمَقَامِ فَيَحْسُنُ قَصْدُهُمْ وَتَسْلِيمُهُمْ وَخُضُوعُهُمْ لِرَبِّهِمْ وَطَلَبِهِمْ مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ إذَا اسْتَعْمَلُوا فِي أُمُورِهِمْ [ مَا ] (1) لَا يَعْرِفُونَ حُكْمَهُ فِي الشَّرْعِ رَجَوْا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِحُكْمِهِ قَدْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ وَالْإِنْسَانُ غَيْرُ عَالِمٍ فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي دِينِهِ وَبِمَا هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَبْقَى حَالُهُمْ حَالَ الْمُسْتَخِيرِ لِلَّهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ عَاقِبَتَهُ إذَا قَالَ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسَتُخَيِّرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ ؛ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ ؛ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَم ؛ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ . اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي
وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ . وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَأَصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ } " فَإِذَا اسْتَخَارَ اللَّهَ كَانَ مَا شَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ وَتَيَسَّرَ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ . إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّ عَيْنَ هَذَا الْفِعْلِ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَأْمُرُ بِأَمْرِ مُطْلَقٍ عَامٍّ لَا بِعَيْنِ كُلِّ فِعْلٍ مِنْ كُلِّ فَاعِلٍ إذْ كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ يُمْكِنُ إدْرَاجُهُ تَحْتَ بَعْضِ خِطَابِ الشَّارِعِ الْعَامِّ ؛ إذَا كَانَتْ الْأَفْرَادُ الْمُعَيَّنَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْأَمْرِ الْعَامِّ الْكُلِّيِّ ؛ لَكِنْ لَا يَقْدِرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى اسْتِحْضَارِ هَذَا وَلَا عَلَى اسْتِحْضَارِ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ يَعْدِلُونَ إلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ " الْقِيَاسُ أَيْضًا قَدْ لَا يَحْصُلُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ فَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ دُخُولُ الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ تَحْتَ خِطَابٍ عَامٍّ أَوْ اعْتِبَارِهَا بِنَظِيرِ لَهَا فَلَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ وَلَا نَظِيرٌ . هَذَا مَعَ كَثْرَةِ نَظَرِهِمْ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ . فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ
ثُمَّ السَّالِكُ لَيْسَ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ؛ بَلْ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَأَيُّهُمَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ فِي حَقِّهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ وَلِكُلِّ سَالِكٍ حَالٌ تَخُصُّهُ قَدْ يُؤْمَرُ فِيهَا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ غَيْرَهُ وَيُؤْمَرُ فِي حَالٍ بِمَا يَنْهَى عَنْهُ فِي أُخْرَى . فَقَالُوا : نَحْنُ نَفْعَلُ الْخَيْرَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ فِعْلُ مَا عَلِمْنَا أَنَّا أُمِرْنَا بِهِ وَنَتْرُكُ أَصْلَ الشَّرِّ وَهُوَ هَوَى النَّفْسِ وَنَلْجَأُ إلَى اللَّهِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ وَأَرْضَى لَهُ ؛ فَمَا اسْتَعْمَلْنَا فِيهِ رَجَوْنَا أَنَّ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ ثُمَّ إنْ أَصَبْنَا فَلَنَا أَجْرَانِ وَإِلَّا فَلَنَا أَجْرٌ وَخَطَؤُنَا مَحْطُوطٌ عَنَّا فَهَذَا هَذَا . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ قَدَّرَ أَنَّهُ عَلِمَ الْمَشْرُوعَ وَفَعَلَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا ؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْمَشْرُوعَ لَا يَفْعَلُهُ وَلَا يَقْصِدُ أَحَبّ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَفْعَلُهُ بِشَوْبِ مِنْ الْهَوَى فَيَبْقَى ، هَذَا فَعَلَ الْمَشْرُوعَ بِهَوَى ، وَهَذَا تَرَكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِلَا هَوَى . فَهَذَا نَقْصٌ فِي الْعِلْمِ ، وَذَاكَ نَقْصٌ فِي الْعَمَلِ ؛ إذْ الْعَمَلُ بِهَوَى النَّفْسِ نَقْصٌ فِي الْعَمَلِ وَلَوْ كَانَ الْمَفْعُولُ وَاجِبًا . فَيُقَالُ : إنْ تَابَ صَاحِبُ الْهَوَى مِنْ هَوَاهُ كَانَ أَرْفَعَ بِعِلْمِهِ وَإِنْ
لَمْ يَتُبْ فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ عَالِمِ السُّوءِ ؛ وَلِهَذَا تَشَاجَرَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ عَامَ الْحَكَمَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا . فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنَّمَا مَثَلُك مِثْلُ الْكَلْبِ ؛ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ . وَقَالَ الْآخَرُ : أَنْتَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ؛ فَهَذَا أَحْسَنُ قَصْدًا وَأَقْوَى عِلْمًا . وَلِهَذَا تَجِدُ أَصْحَابَ حُسْنِ الْقَصْدِ إنَّمَا يَعِيبُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَحُبَّ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةَ ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعِيبُونَ عَلَى أُولَئِكَ نَقْصَ عِلْمِهِمْ بِالشَّرْعِ ، وَعُدُولَهُمْ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمَسْئُولُ أَنْ يَهْدِيَنَا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ ( أَهْلِ الْفِقْهِ وَالزُّهْدِ ) : مِنْ النَّاسِ مَنْ سَلَكَ " الشَّرِيعَةَ " وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ " الْحَقِيقَةَ " . وَلَعَلَّهُ أَرَادَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُرَجِّحُونَ بِمَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ وَاتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَعْلُومِ لَهُمْ مَعَ خَفَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْمُتَيَسَّرِ لَهُمْ وَهَؤُلَاءِ يُرَجِّحُونَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَالْأَقْيِسَةِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ مَعَ خَفَاءِ الْأَمْرِ الْمُتَيَسَّرِ لَهُمْ . وَ ( أَيْضًا فَهَؤُلَاءِ ) قَدْ يَشْهَدُونَ مَا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ مِنْ
الْمَصْلَحَةِ
وَالْخَيْرِ فَيُرَجِّحُونَهُ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا
دَلِيلًا مِنْ النَّصِّ عَلَى حُسْنِهِ وَأُولَئِكَ إنَّمَا يُرَجِّحُونَ مِنْ
النُّصُوصِ وَمَا اُسْتُنْبِطَ مِنْهَا . فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ الْقُرْآنُ
وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ الْإِيمَانُ . وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْ
الطَّائِفَتَيْنِ خَفِيَ عَلَيْهِ مَا مَعَ الْأُخْرَى مِنْ الْحَقِّ ، وَكُلٌّ
مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فِي طَرِيقِهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ .
فَأَمَّا الْمُدَّعُونَ لِلْحَقِيقَةِ بِدُونِ مُرَاعَاةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ
الشَّرْعِيَّيْنِ فَهُمْ ضَالُّونَ ؛ كَاَلَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْأَمْرَ
وَالنَّهْيَ وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا مَا يَهْوُونَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ
فَإِنَّهُمْ فُسَّاقٌ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : " احْذَرُوا
فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا
فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ " . وَ " الْحَقِيقَةُ " قَدْ تَكُونُ
قَدَرِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ ذَوْقِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً وَلَفْظُ
" الشَّرْعِ " يَتَنَاوَلُ الْمُنَزَّلَ وَالْمُؤَوَّلَ وَالْمُبَدَّلَ
.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ،
وَالْكَلَامُ عَلَى حَالِ أَهْل الْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا
عَنْ الْهَوَى وَهُوَ الْفَرْقُ الطَّبْعِيُّ وَقَامُوا بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ
الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ . وَبَقِيَ " قِسْمٌ ثَالِثٌ " لَيْسَ لَهُمْ
فِيهِ فَرْقٌ طَبْعِيٌّ وَلَا عِنْدَهُمْ فِيهِ فَرْقٌ شَرْعِيٌّ فَهُوَ الَّذِي
جَرَوْا فِيهِ مَعَ الْفِعْلِ وَالْقَدَرِ . وَأَمَّا مَنْ جَرَى مَعَ الْفَرْقِ
الطَّبْعِيِّ إمَّا عَالِمًا بِأَنَّهُ عَاصٍ وَهُوَ الْعَالِمُ
الْفَاجِرُ
أَوْ مُحْتَجًّا بِالْقَدَرِ أَوْ بِذَوْقِهِ وَوَجَدَهُ مُعْرِضًا عَنْ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الْعَابِدُ الْجَاهِلُ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ
الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . وَهَذَا مِمَّا بَيَّنَ حَالَ كَمَالِ الصَّحَابَةِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَنَّهُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؛ إذْ
كَانُوا فِي خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ يَقُومُونَ بِالْفُرُوقِ الشَّرْعِيَّةِ فِي
جَلِيلِ الْأُمُورِ وَدَقِيقِهَا مَعَ اتِّسَاعِ الْأَمْرِ وَالْوَاحِدُ مِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْفُرُوقِ الشَّرْعِيَّةِ
فِيمَا يَخُصُّهُ كَمَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي
أَمْرٍ قَلِيلٍ . فَأُولَئِكَ مَعَ عَظِيمِ مَا دَخَلُوا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ لَهُمْ الْعِلْمُ الَّذِي يُمَيَّزُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ وَلَهُمْ الْقَصْدُ الْحَسَنُ الَّذِي يَفْعَلُونَ بِهِ
الْحَسَنَاتِ . وَالْكَثِيرُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْعَالِمِينَ
وَالْعَابِدِينَ يَفُوتُ أَحَدَهُمْ الْعِلْمُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ حَتَّى يَظُنَّ السَّيِّئَةَ حَسَنَةً وَبِالْعَكْسِ ، أَوْ
يَفُوتُهُ الْقَصْدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ حَتَّى يَتَّبِعَ هَوَاهُ
فِيمَا وَضَحَ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ
يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ
مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . هَذَا
لَعَمْرِي إذَا كَانَ عِنْدَ الْعَالِمِ مَا هُوَ أَمْرُ الشَّارِعِ وَنَهْيُهُ
حَقِيقَةً وَعِنْدَ الْعَابِدِ حُسْنُ الْقَصْدِ الْخَالِي عَنْ الْهَوَى
حَقِيقَةً
فَأَمَّا مَنْ خَلَطَ الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ بِالْمُبَدَّلِ وَالْمُؤَوَّلِ ،
وَخَلَطَ الْقَصْدَ الْحَسَنَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى فَهَؤُلَاءِ
وَهَؤُلَاءِ مخلطون فِي عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَتَخْلِيطُ هَؤُلَاءِ فِي الْعِلْمِ سِوَى تَخْلِيطِهِمْ وَتَخْلِيطِ غَيْرِهِمْ فِي الْقَصْدِ ، وَتَخْلِيطُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَصْدِ سِوَى تَخْلِيطِهِمْ وَتَخْلِيطِ غَيْرِهِمْ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . وَ " حُسْنُ الْقَصْدِ " مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ وَدَرْكِهِ . وَ " الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ " مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّ الْعِلْمَ قَائِدٌ وَالْعَمَلَ سَائِقٌ ، وَالنَّفْسَ حَرُونٌ فَإِنْ وَنَى قَائِدُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِسَائِقِهَا وَإِنْ وَنَى سَائِقُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِقَائِدِهَا فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ حَارَ السَّالِكُ وَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَسْلُكُ فَغَايَتُهُ أَنْ يستطرح لِلْقَدَرِ وَإِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ حَارَ السَّالِكُ عَنْ الطَّرِيقِ فَسَلَكَ غَيْرَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ تَرَكَهُ فَهَذَا حَائِرٌ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَسْلُكُ مَعَ كَثْرَةِ سَيْرِهِ وَهَذَا حَائِرٌ عَنْ الطَّرِيقِ زَائِغٌ عَنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } . هَذَا جَاهِلٌ وَهَذَا ظَالِمٌ . قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } . مَعَ أَنَّ الْجَهْلَ وَالظُّلْمَ مُتَقَارِبَانِ لَكِنَّ الْجَاهِلَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ ظَالِمٌ وَالظَّالِمُ جَهِلَ الْحَقِيقَةَ الْمَانِعَةَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ . قَالَ تَعَالَى { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَقَالُوا : كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ
فَهُوَ جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ . وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التيمي قَالَ : " الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ " فَعَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ ، وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ . فَالْعَالِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي يَخْشَاهُ وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّه الَّذِي يَعْرِفُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ . قُلْت : وَالْخَشْيَةُ تَمْنَعُ اتِّبَاعَ الْهَوَى ، قَالَ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } . وَالْكَمَالُ فِي عَدَمِ الْهَوَى وَفِي الْعِلْمِ هُوَ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } { إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } فَنَفَى عَنْهُ الضَّلَالَ وَالْغَيَّ وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى فَنَفَى الْهَوَى وَأَثْبَتَ الْعِلْمَ الْكَامِلَ وَهُوَ الْوَحْيُ فَهَذَا كَمَالُ الْعِلْمِ وَذَاكَ كَمَالُ الْقَصْدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَوَصَفَ أَعْدَاءَهُ بِضِدِّ هَذَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } فَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ لِلْإِنْسَانِ هُوَ تَكْمِيلُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ عِلْمًا وَقَصْدًا . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ إبْلِيسَ : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } . وَ " عِبَادَتُهُ " طَاعَةُ أَمْرِهِ ، وَأَمْرُهُ لَنَا مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ عَنْهُ ؛ فَالْكَمَالُ فِي كَمَالِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَتَرَكَ هَوَاهُ وَاسْتَسْلَمَ لِلْقَدَرِ أَوْ اجْتَهَدَ فِي الطَّاعَةِ فَأَخْطَأَ ، فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى مَا اعْتَقَدَهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ فَتَوَقَّفَ عَمَّا هُوَ طَاعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهَؤُلَاءِ مُطِيعُونَ لِلَّهِ مُثَابُونَ عَلَى مَا أَحْسَنُوهُ مِنْ الْقَصْدِ لِلَّهِ وَاسْتَفْرَغُوهُ مِنْ وُسْعِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا عَجَزُوا عَنْ عِلْمِهِ فَأَخْطَئُوهُ إلَى غَيْرِهِ فَمَغْفُورٌ لَهُمْ . وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ فِتَنٍ تَقَعُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَإِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ أُمُورًا هُمْ مُجْتَهِدُونَ فِيهَا وَقَدْ أَخْطَئُوا فَتَبْلُغُ أَقْوَامًا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فِيهَا الذَّنْبَ أَوْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يُعْذَرُونَ بِالْخَطَأِ وَهُمْ أَيْضًا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ فَيَكُونُ هَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي فِعْلِهِ وَهَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا
فِي إنْكَارِهِ وَالْكُلُّ مَغْفُورٌ لَهُمْ . وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُذْنِبًا كَمَا قَدْ يَكُونَانِ جَمِيعًا مُذْنِبِينَ . وَخَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ . وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يُعْطَى طَرَفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَيُوَلِّي وَيَعْزِلُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا كَمَالٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَالًا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْأَمْرِ فَيَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ وَأَفْعَالِ الْمُلْكِ : إمَّا ذَنَبٌ وَإِمَّا عَفْوٌ وَإِمَّا طَاعَةٌ . فَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَفْعَالُهُمْ طَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ وَهُمْ أَتْبَاعُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ . وَهِيَ طَرِيقَةُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ فَإِمَّا طَاعَةٌ وَإِمَّا عَفْوٌ ؛ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلُوكِ ؛ وَطَرِيقَةُ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ : فَتَتَضَمَّنُ الْمَعَاصِيَ ؛ وَهِيَ طَرِيقَةُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } فَلَا يَخْرُجُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونَ
مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ : إمَّا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَإِمَّا مُقْتَصِدٌ وَإِمَّا سَابِقٌ بِالْخَيِّرَاتِ . وَ " خَوَارِقُ الْعَادَاتِ " إمَّا مُكَاشَفَةٌ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ الْخَارِقِ وَإِمَّا تَصَرُّفٌ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْقُدْرَةِ الْخَارِقَةِ ؛ وَأَصْحَابُهَا لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ .
قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ النَّحَّاسِ ؛ وأظني سَمِعْتهَا
مِنْهُ أَنَّهُ رَأَى الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ فِي مَنَامِهِ وَهُوَ يَقُولُ :
إخْبَارًا عَنْ الْحَقِّ تَعَالَى : " مَنْ جَاءَنَا تَلَقَّيْنَاهُ مِنْ
الْبَعِيدِ وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِنَا أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وَمَنْ
اتَّبَعَ مُرَادَنَا أَرَدْنَا مَا يُرِيدُ وَمَنْ تَرَكَ مِنْ أَجْلِنَا
أَعْطَيْنَاهُ فَوْقَ الْمَزِيدِ " . قُلْت : هَذَا مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى . فَالْأُولَيَانِ : الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ .
وَالْآخِرَتَانِ : الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ . فَالذَّهَابُ إلَى اللَّهِ هِيَ
عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " { مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ
شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت
إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } " .
وَالتَّقَرُّبُ بِحَوْلِهِ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ ؛
فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا
قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَفِي الْأَثَرِ : " { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } " . وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : " التَّوَكُّلُ جِمَاعُ الْإِيمَانِ " وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَالَ : { إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } وَهَذَا عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ - بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا - سَبَبٌ لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ فَإِنَّهُ يُفِيدُ قُوَّةَ الْعَبْدِ وَتَصْرِيفَ الْكَوْنِ وَلِهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى ذَوِي الْأَحْوَالِ متشرعهم وَغَيْرِ متشرعهم وَبِهِ يَتَصَرَّفُونَ وَيُؤْثِرُونَ " تَارَةً " بِمَا يُوَافِقُ الْأَمْرَ . و " تَارَةً " بِمَا يُخَالِفُهُ . وَقَوْلُهُ : " وَمَنْ اتَّبَعَ مُرَادَنَا " يَعْنِي الْمُرَادَ الشَّرْعِيَّ كَقَوْلِهِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَوْلِهِ : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } وَقَوْلِهِ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } هَذَا هُوَ طَاعَةُ أَمْرِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { وَأَنْتَ يَا عُمَرُ لَوْ أَطَعْت اللَّهَ لَأَطَاعَك } " . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ } " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } . وَقَوْلُهُ : " وَمَنْ تَرَكَ مِنْ أَجْلِنَا أَعْطَيْنَا فَوْقَ الْمَزِيدِ " يَعْنِي تَرَكَ مَا كَرِهَ اللَّهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِأَجْلِ اللَّهِ : رَجَاءً وَمَحَبَّةً وَخَشْيَةً أَعْطَيْنَاهُ . فَوْقَ الْمَزِيدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَقَامَ الصَّبْرِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
سُئِلَ
عَنْ :
" إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ " و " قُوتِ الْقُلُوبِ " إلَخْ
فَأَجَابَ :
أَمَّا ( كِتَابُ قُوتِ الْقُلُوبِ ) و ( كِتَابُ الْإِحْيَاءِ ) تَبَعٌ لَهُ
فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ : مِثْلَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ
وَالْحُبِّ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّوْحِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَبُو طَالِبٍ
أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ ، وَالْأَثَرِ وَكَلَامِ أَهْلِ عُلُومِ الْقُلُوبِ مِنْ
الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَكَلَامُهُ أَسَدُّ
وَأَجْوَدُ تَحْقِيقًا وَأَبْعَدُ عَنْ الْبِدْعَةِ مَعَ أَنَّ فِي " قُوتِ
الْقُلُوبِ " أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً وَمَوْضُوعَةً وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً
مَرْدُودَةً . وَأَمَّا مَا فِي ( الْإِحْيَاءِ ) مِنْ الْكَلَامِ فِي "
الْمُهْلِكَاتِ " مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ
وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَغَالِبُهُ مَنْقُولٌ مِنْ كَلَامِ
الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ فِي الرِّعَايَةِ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَقْبُولٌ
وَمِنْهُ مَا هُوَ مَرْدُودٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَنَازَعٌ فِيهِ . و "
الْإِحْيَاءُ " فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ ؛ لَكِنْ فِيهِ مَوَادُّ
مَذْمُومَةٌ فَإِنَّهُ فِيهِ مَوَادُّ فَاسِدَةٌ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ
تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ فَإِذَا
ذَكَرَ مَعَارِفَ الصُّوفِيَّةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ أَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى " أَبِي حَامِدٍ " هَذَا فِي كُتُبِهِ . وَقَالُوا : مَرَّضَهُ " الشِّفَاءُ " يَعْنِي شِفَاءَ ابْنِ سِينَا فِي الْفَلْسَفَةِ . وَفِيهِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ ضَعِيفَةٌ ؛ بَلْ مَوْضُوعَةٌ كَثِيرَةٌ . وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِنْ أَغَالِيطِ الصُّوفِيَّةِ وَتُرَّهَاتِهِمْ . وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ الْمُسْتَقِيمِينَ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأَدَبِ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا يَرِدُ مِنْهُ فَلِهَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ اجْتِهَادُ النَّاسِ وَتَنَازَعُوا فِيهِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَآثَارُ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى " جِنْسِ
الْمَشْرُوعِ الْمُسْتَحَبِّ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ " كَسَائِرِ
الْعِبَادَاتِ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَاتِبَ
الْأَذْكَارِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَغَيْرُهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ
الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَضُرُّك
بِأَيِّهِنَّ بَدَأْت } . وَفِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : { سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ ؟
قَالَ : مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } .
وَفِي " كِتَابِ الذِّكْرِ " لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِ
مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَفْضَلُ
الذِّكْرِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ : الْحَمْدُ
لِلَّهِ } . وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَفِي السُّنَنِ { حَدِيثُ الَّذِي قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي فَقَالَ : قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ انْتَقَلَ إلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ . وَفَضَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَنَحْوُهَا كَثِيرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ الْجِنْسِ أَوْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ عَنْ صِفَتِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } فَلَا يُدْعَى إلَّا بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى . وَمِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ : مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَلْبِيَتِهِمْ : لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ . وَمِثْلَ { قَوْلِ بَعْضِ الْأَعْرَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ : إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَشْفِعُ به على أحد من خلقه } وَمِثْلَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ :
السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ } أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ " السَّلَامَ " إنَّمَا يُطْلَبُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ هُوَ " السَّلَامُ " فَالسَّلَامُ يُطْلَبُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُ لَهُ . بَلْ يُثْنَى عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَهُ فَيُقَالُ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ . فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يُثْنَى عَلَيْهِ وَيُطْلَبُ مِنْهُ وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَيَطْلُبُ لَهُ . فَيُقَالُ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } وَالرِّزْقُ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُرْتَزِقُ ؛ فَالْإِنْسَانُ يُرْزَقُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَاللِّبَاسَ ، وَمَا يَنْتَفِعُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ ؛ وَيُرْزَقُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَاطِنُهُ مِنْ عِلْمٍ وَإِيمَانٍ وَفَرَحٍ وَسُرُورٍ وَقُوَّةٍ وَنُورٍ وَتَأْيِيدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا يُرِيدُ مِنْ الْخَلْقِ مِنْ رِزْقٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَبْلُغُوا ضُرَّهُ فَيَضُرُّوهُ وَلَنْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ ؛ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ . و { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الْمَكْرُوهُ مِثْلُ الدُّعَاءِ بِبَغْيٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ دُعَاءِ مَنَازِلِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ دُعَاءِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ : اللَّهُمَّ مَا كُنْت مُعَذِّبِي بِهِ فِي
الْآخِرَةِ
فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا . وَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْمُصَابِينَ بِمَيِّتِ لَمَّا صَاحُوا : { لَا تَدْعُوا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرِ ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا
تَقُولُونَ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ
الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } وَقَالَ
تَعَالَى . { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ
الْإِنْسَانُ عَجُولًا } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا
اسْتِيعَابَهُ . وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى جِنْسِ الْمَكْرُوهِ . وَإِنَّمَا
الْغَرَضُ هُنَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَسْتَحِبَّ مِنْ الذِّكْرِ إلَّا مَا كَانَ
كَلَامًا تَامًّا مُفِيدًا مِثْلَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَمِثْلَ
" اللَّهُ أَكْبَرُ " وَمِثْلَ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ " وَمِثْلَ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ "
وَمِثْلَ { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } {
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ } .
فَأَمَّا " الِاسْمُ الْمُفْرَدُ " مُظْهَرًا مِثْلَ : " اللَّهُ
" " اللَّهُ " . أَوْ " مُضْمَرًا " مِثْلَ " هُوَ
" " هُوَ " . فَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ فِي كِتَابٍ وَلَا
سُنَّةٍ . وَلَا هُوَ مَأْثُورٌ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا
عَنْ أَعْيَانِ الْأُمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ وَإِنَّمَا لَهِجَ بِهِ قَوْمٌ
مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَرُبَّمَا اتَّبَعُوا فِيهِ حَالَ شَيْخٍ
مَغْلُوبٍ فِيهِ مِثْلَمَا يُرْوَى عَنْ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ :
" اللَّهُ اللَّهُ " . فَقِيلَ لَهُ : لِمَ لَا تَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ ؟
فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . وَهَذِهِ مِنْ زَلَّاتِ الشِّبْلِيِّ الَّتِي تُغْفَرُ لَهُ لِصِدْقِ إيمَانِهِ وَقُوَّةِ وَجْدِهِ وَغَلَبَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ رُبَّمَا يُجَنُّ وَيُذْهَبُ بِهِ إلَى الْمَارَسْتَانِ وَيَحْلِقُ لِحْيَتَهُ . وَلَهُ أَشْيَاءُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا ؛ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا أَوْ مَأْجُورًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَمَاتَ قَبْلَ كَمَالِهَا لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ شَيْئًا . إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ؛ بَلْ يُكْتَبُ لَهُ مَا نَوَاهُ . وَرُبَّمَا غَلَا بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَجْعَلُوا ذِكْرَ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ لِلْخَاصَّةِ وَذِكْرَ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ لِلْعَامَّةِ . وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " لِلْمُؤْمِنِينَ و " اللَّهُ " لِلْعَارِفِينَ و " هُوَ " لِلْمُحَقِّقِينَ وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ أَحَدُهُمْ فِي خَلْوَتِهِ أَوْ فِي جَمَاعَتِهِ عَلَى " اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ " أَوْ عَلَى " هُوَ " أَوْ " يَا هُوَ " أَوْ " لَا هُوَ إلَّا هُوَ " . وَرُبَّمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الطَّرِيقِ تَعْظِيمَ ذَلِكَ . وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ تَارَةً بِوَجْدِ وَتَارَةً بِرَأْيٍ وَتَارَةً بِنَقْلِ مَكْذُوبٍ . كَمَا يَرْوِي بَعْضُهُمْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَّنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ } . فَقَالَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا . ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا فَقَالَهَا ثَلَاثًا . وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ .
وَإِنَّمَا كَانَ تَلْقِينُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلذِّكْرِ الْمَأْثُورِ عَنْهُ وَرَأْسُ الذِّكْرِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي عَرَضَهَا عَلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ الْمَوْتِ . { وَقَالَ : يَا عَمِّ قُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ } وَقَالَ : { إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَجَدَ رُوحَهُ لَهَا رُوحًا } وَقَالَ : { مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَقَالَ : { مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَقَالَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى . وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ " الْقَوَاعِدِ " بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَاتَيْنِ " الْكَلِمَتَيْنِ " الْعَظِيمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ الْفَارِقَتَيْنِ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . فَأَمَّا ذِكْرُ " الِاسْمِ الْمُفْرَدِ " فَلَمْ يُشْرَعْ بِحَالِ وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ . وَأَمَّا مَا يَتَوَهَّمُهُ طَائِفَة مِنْ غَالِطِي الْمُتَعَبِّدِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { قُلِ
اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ قَوْلُ هَذَا الِاسْمِ فَخَطَأٌ وَاضِحٌ ؛ وَلَوْ تَدَبَّرُوا مَا قَبْلَ هَذَا تَبَيَّنَ مُرَادُ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ } . أَيْ : قُلْ : اللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى . فَهَذَا كَلَامٌ تَامٌّ وَجُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ حُذِفَ الْخَبَرُ مِنْهَا لِدَلَالَةِ السُّؤَالِ عَلَى الْجَوَابِ . وَهَذَا قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي مِثْلِ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ } الْآيَةُ . وَقَوْلُهُ : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } وَكَذَلِكَ ؟ مَا بَعْدَهَا وَقَوْلُهُ : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ اللَّهُ } عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو . وَتَقُولُ فِي الْكَلَامِ مَنْ جَاءَ ؟ فَتَقُولُ : زَيْدٌ . وَمَنْ أَكَرَمْت ؟ فَتَقُولُ : زَيْدًا . وَبِمَنْ مَرَرْت ؟ فَتَقُولُ : بِزَيْدِ . فَيَذْكُرُونَ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ جَوَابُ مَنْ ؛ وَيَحْذِفُونَ الْمُتَّصِلَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مَرَّةً فَيَكْرَهُونَ تَكْرِيرَهُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةِ بَيَانٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّطْوِيلِ وَالتَّكْرِيرِ .
وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ : لِي مَرَّةً شَخْصٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الغالطين فِي قَوْلِهِ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } قَالَ الْمَعْنَى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ ( هُوَ أَيْ اسْمُ " هُوَ " الَّذِي يُقَالُ فِيهِ : " هُوَ هُوَ " وَصَنَّفَ ابْنُ عَرَبِيٍّ كِتَابًا فِي " الهو " فَقُلْت لَهُ - وَأَنَا إذْ ذَاكَ صَغِيرٌ جِدًّا - لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ : لَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ مَفْصُولَةً تَأْوِيلُ هُوَ وَلَمْ تُكْتَبْ مَوْصُولَةً وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ . وَإِنَّمَا كَثِيرٌ مِنْ غَالِطِي الْمُتَصَوِّفَةِ لَهُمْ مِثْلُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّة . وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي يَعْنُونَهُ صَحِيحًا ؛ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَلَيْسَ هُوَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا . فَيَقَعَ الْغَلَطُ " تَارَةً " فِي الْحُكْمِ و " تَارَةً " فِي الدَّلِيلِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : { أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } أَيْ : أَنْ رَأَى رَبَّهُ اسْتَغْنَى وَالْمَعْنَى إنَّهُ لَيَطْغَى أَنْ رَأَى نَفْسَهُ اسْتَغْنَى ، وَكَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : " فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ " : يَعْنِي فَإِنْ فَنِيَتْ عَنْك رَأَيْت رَبَّك . وَلَيْسَ هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَقِيلَ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَهُ . وَقَدْ قِيلَ : " تَرَاهُ " ثُمَّ كَيْفَ يَصْنَعُ بِجَوَابِ الشَّرْطِ ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ : فَإِنَّهُ يَرَاك ؛ ثُمَّ إنَّهُ عَلَى قَوْلِهِمْ الْبَاطِلِ تَكُونُ كَانَ تَامَّةً . فَالتَّقْدِيرُ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ : أَيْ لَمْ تَقَعْ وَلَمْ تَحْصُلْ . وَهَذَا تَقْدِيرٌ مُحَالٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ كَائِنٌ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَعْدُومِ . وَلَوْ أُرِيدُ فَنَاؤُهُ عَنْ هَوَاهُ أَوْ فَنَاءِ شُهُودِهِ لِلْأَغْيَارِ لَمْ يُعَبِّرْ بِنَفْيِ كَوْنِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِحَالٌ . وَمَتَى كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ مُرَادَةً فَقَدْ يُسَمَّى ذَلِكَ " إشَارَةً "
وَقَدْ أَوْدَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي " حَقَائِقَ التَّفْسِيرِ " مِنْ هَذَا قِطْعَةً . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْآنَ الْكَلَامَ فِي هَذَا فَإِنَّهُ بَابٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ حُكْمِ ذِكْرِ الِاسْمِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ تَامٍّ وَقَدْ ظَهَرَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ . وَكَذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ ؛ فَإِنَّ الِاسْمَ وَحْدَهُ لَا يُعْطِي إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَلَا هُدًى وَلَا ضَلَالًا وَلَا عِلْمًا وَلَا جَهْلًا وَقَدْ يَذْكُرُ الذَّاكِرُ اسْمَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ فِرْعَوْنَ مِنْ الْفَرَاعِنَةِ أَوْ صَنَمٍ مِنْ الْأَصْنَامِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ اسْمِهِ حُكْمٌ إلَّا أَنْ يَقْرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ أَوْ حُبٍّ أَوْ بُغْضٍ وَقَدْ يَذْكُرُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَسَائِر اللُّغَاتِ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ وَحْدَهُ لَا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ ؛ وَلَا هُوَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ ؛ وَلَا كَلَامًا مُفِيدًا وَلِهَذَا سَمِعَ بَعْضُ الْعَرَبِ مُؤَذِّنًا يَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ : فَعَلَ مَاذَا فَإِنَّهُ لَمَّا نَصَبَ الِاسْمَ صَارَ صِفَةً وَالصِّفَةُ مِنْ تَمَامِ الِاسْمِ الْمَوْصُوفِ فَطَلَبَ بِصِحَّةِ طَبْعِهِ الْخَبَرَ الْمُفِيدَ ؛ وَلَكِنَّ الْمُؤَذِّنَ قَصَدَ الْخَبَرَ وَلَحَنَ .
وَلَوْ كَرَّرَ الْإِنْسَانُ اسْمَ " اللَّهِ " أَلْفَ أَلْفَ مَرَّةٍ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مُؤْمِنًا وَلَمْ يَسْتَحِقَّ ثَوَابَ اللَّهِ وَلَا جَنَّتَهُ ؛ فَإِنَّ الْكُفَّارَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ يَذْكُرُونَ الِاسْمَ مُفْرَدًا سَوَاءٌ أَقَرُّوا بِهِ وَبِوَحْدَانِيَّتِه أَمْ لَا ؛ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا أَمَرَنَا بِذِكْرِ اسْمِهِ كَقَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وَقَوْلِهِ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ : كَانَ ذِكْرُ اسْمِهِ بِكَلَامِ تَامٍّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : بِسْمِ اللَّهِ أَوْ يَقُولَ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ، وَسُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَلَمْ يَشْرَعْ ذِكْرَ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ قَطُّ وَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ امْتِثَالُ أَمْرٍ وَلَا [ حِلُّ صَيْدٍ ] (1) وَلَا ذَبِيحَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : فَالذَّاكِرُ أَوْ السَّامِعُ لِلِاسْمِ الْمُجَرَّدِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَجْدُ مُحِبَّةٍ وَتَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . قُلْت : نَعَمْ وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْدِ الْمَشْرُوعِ وَالْحَالِ الْإِيمَانِيِّ لَا لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْمِ مُسْتَحَبٌّ وَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ حَرَّكَ سَاكِنَ الْقَلْبِ وَقَدْ يَتَحَرَّكُ السَّاكِنُ بِسَمَاعِ ذِكْرٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ حَتَّى قَدْ يَسْمَعُ الْمُسْلِمُ مَنْ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ ؛ أَوْ يَسُبّهُ فَيَثُورُ فِي قَلْبِهِ حَالُ وَجْدٍ وَمَحَبَّةٍ لِلَّهِ بِقُوَّةِ نَفْرَتِهِ
وَبُغْضِهِ لِمَا سَمِعَهُ . وَقَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يَحْتَرِقَ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً أَوْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : أو قَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ : ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ } فَالشَّيْطَانُ لَمَّا قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ وَسُوسَةً مَذْمُومَةً تَحَرَّكَ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِالْكَرَاهَةِ لِذَلِكَ وَالِاسْتِعْظَامِ لَهُ فَكَانَ ذَلِكَ صَرِيحَ الْإِيمَانِ ؛ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ الْوَسْوَسَةُ مَأْمُورًا بِهِ . وَالْعَبْدُ أَيْضًا قَدْ يَدْعُوهُ دَاعٍ إلَى الْكُفْرِ أَوْ الْمَعْصِيَةِ فَيَسْتَعْصِمُ وَيَمْتَنِعُ وَيُورِثُهُ ذَلِكَ إيمَانًا وَتَقْوَى ؛ وَلَيْسَ السَّبَبُ مَأْمُورًا بِهِ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } الْآيَةَ . فَهَذَا الْإِيمَانُ الزَّائِدُ وَالتَّوَكُّلُ كَانَ سَبَبَ تَخْوِيفِهِمْ بِالْعَدُوِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا بَلْ الْعَبْدُ يَفْعَلُ ذَنْبًا فَيُورِثُهُ ذَلِكَ تَوْبَةً يُحِبُّهُ اللَّهُ بِهَا وَلَا يَكُونُ الذَّنْبُ مَأْمُورًا بِهِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا . فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ السَّبَبِ مُوجِبًا لِلْخَيْرِ وَمُقْتَضِيًا وَبَيْنَ
أَنْ لَا يَكُونَ ؛ وَإِنَّمَا نَشَأَ الْخَيْرُ مِنْ الْمَحَلِّ . فَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ . وَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا قُوَّةُ إيمَانِ الْعَبْدِ وَمَا يَجِدُهُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَتَذَوُّقِهِ مِنْ طَعْمِهِ تَضَاعَفَ الْخَيْرُ وَالرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ وَمَا لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ : إمَّا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ : مُحَرَّمِهِ وَمَكْرُوهِهِ وَمُبَاحِهِ . وَإِمَّا مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ مَعَهُ : مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَإِمَّا مِنْ الْحَوَادِثِ السمائية الَّتِي يُصِيبُهُ بِهَا الرَّبُّ إذَا صَادَفَتْ مِنْهُ إيمَانًا وَيَقِينًا فَحَرَّكَتْ ذَلِكَ الْإِيمَانَ وَالْيَقِينَ وَازْدَادَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ إيمَانًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ تُحَبَّ تِلْكَ الْأَسْبَابُ أَوْ تُحْمَدَ أَوْ يُؤْمَرَ بِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُقْتَضِيَةً لِذَلِكَ الْخَيْرِ وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهَا تَحْرِيكُ السَّاكِنِ وَطَالَ مَا جَرَتْ إلَى شَرٍّ وَضَرَرٍ . وَيُشْبِهُ هَذَا الْبَابُ ذِكْرَ الْحُبِّ الْمُطْلَقِ وَالشَّوْقِ الْمُطْلَقِ وَالْوَجَلِ الْمُطْلَقِ وَمَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمُجْمَلِ أَيْضًا : يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلِذَلِكَ لَمَّ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْبِرِّ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ شِعْرَ الْمُحِبِّينَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ مُحِبِّ الْإِيمَانِ وَمُحِبِّ الْأَوْثَانِ وَمُحِبِّ النِّسْوَانِ وَمُحِبِّ المردان وَمُحِبِّ الْأَوْطَانِ وَمُحِبِّ الْأَخْدَانِ .
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ ذِكْرَ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ ذِكْرَ الْخَاصَّةِ . وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ " الِاسْمِ الْمُضْمَرِ " وَهُوَ : " هُوَ " . فَإِنَّ هَذَا بِنَفْسِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يُفَسِّرُهُ مِنْ مَذْكُورٍ أَوْ مَعْلُومٍ فَيَبْقَى مَعْنَاهُ بِحَسَبِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَنِيَّتِهِ ؛ وَلِهَذَا قَدْ يَذْكُرُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَقَّ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ . وَقَدْ يَقُولُ : " لَا هُوَ إلَّا هُوَ " وَيَسْرِي قَلْبُهُ فِي " وَحْدَةِ الْوُجُودِ " وَمَذْهَبُ فِرْعَوْنَ والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَزَنَادِقَةِ هَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِحَيْثُ يَكُونُ قَوْلُهُ " هُوَ " كَقَوْلِهِ : " وُجُودُهُ " . وَقَدْ يَعْنِي بِقَوْلِهِ : " لَا هُوَ إلَّا هُوَ " أَيْ : أَنَّهُ هُوَ الْوُجُودُ وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ خَلْقٌ أَصْلًا ، وَأَنَّ الرَّبَّ وَالْعَبْدَ وَالْحَقَّ وَالْخَلْقَ شَيْءٌ وَاحِدٌ . كَمَا بَيَّنْتُهُ مِنْ مَذْهَبِ " الِاتِّحَادِيَّةِ " فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْفَاسِدَةِ الْخُرُوجُ عَنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ إلَيْنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ الْبِدَعَ هِيَ : مَبَادِئُ الْكُفْرِ وَمَظَانُّ الْكُفْرِ . كَمَا أَنَّ السُّنَنَ الْمَشْرُوعَةَ هِيَ : مَظَاهِرُ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَةٌ لِلْإِيمَانِ ؛ فَإِنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ . كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ زِيَادَتِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا } وَقَوْلِهِ : { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا }
وَقَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الذِّكْرُ مَشْرُوعًا . فَهَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ ؟ قُلْت : أَمَّا فِي حَقِّ الْمَغْلُوبِ فَلَا يُوصَفُ بِكَرَاهَةِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلْقَلْبِ أَحْوَالٌ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ فِيهَا نُطْقُ اللِّسَانِ مَعَ امْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِأَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَرُبَّمَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ذِكْرُ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ دُونَ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ وَهَؤُلَاءِ يَأْتُونَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نُطْقِ اللِّسَانِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِي الذِّكْرِ أَرْبَعُ طَبَقَاتٍ : ( إحْدَاهَا ) الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ . ( الثَّانِي ) الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ فَإِنْ كَانَ مَعَ عَجْزِ اللِّسَانِ فَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ مَعَ قُدْرَتِهِ فَتَرْكٌ لِلْأَفْضَلِ . ( الثَّالِثُ ) الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ وَهُوَ كَوْنُ لِسَانِهِ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ وَفِيهِ حِكَايَةُ الَّتِي لَمْ تَجِدْ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ خَيْرًا إلَّا حَرَكَةَ لِسَانِهِ بِذِكْرِ اللَّهِ . وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ } . ( الرَّابِعُ ) عَدَمُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ حَالُ الْخَاسِرِينَ .
وَأَمَّا مَعَ تَيَسُّرِ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْمِ مُكَرَّرًا بِدْعَةٌ وَالْأَصْلُ فِي الْبِدَعِ الْكَرَاهَةُ . وَمَا نُقِلَ عَنْ " أَبِي يَزِيدَ " و " النُّورِيِّ " و " الشِّبْلِيِّ " وَغَيْرِهِمْ : مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ فَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ تَشْهَدُ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْمَشَايِخَ الَّذِينَ هُمْ أَصَحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُ لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا الْكَلِمَةَ التَّامَّةَ وَعِنْدَ التَّنَازُعِ يَجِبُ الرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَلَيْسَ فِعْلُ غَيْرِ الرَّسُولِ حُجَّةً عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ : فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ : فِي " الزُّهْدِ " و "
الْعِبَادَةِ " و " الْوَرَعِ " فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ
وَالشَّهَوَاتِ و " الِاقْتِصَادِ " فِي الْعِبَادَةِ . وَأَنَّ لُزُومَ
السُّنَّةِ هُوَ يَحْفَظُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ بِدُونِ الطُّرُقِ
الْمُبْتَدَعَةِ فَإِنَّ أَصْحَابَهَا لَا بُدَّ أَنْ يَقَعُوا فِي الْآصَارِ
وَالْأَغْلَالِ وَإِنْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ اتِّبَاعِ
الْهَوَى ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ أَصْحَابُ الْبِدَعِ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ ؛
فَإِنَّ طَرِيقَ السُّنَّةِ عِلْمٌ وَعَدْلٌ وَهُدًى ؛ وَفِي الْبِدْعَةِ جَهْلٌ
وَظُلْمٌ وَفِيهَا اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ . و "
الرَّسُولُ " مَا ضَلَّ وَمَا غَوَى و " الضَّلَالُ " مَقْرُونٌ
بِالْغَيِّ ؛ فَكُلُّ غَاوٍ ضَالٌّ ؛ وَالرَّشَدُ ضِدُّ الْغَيِّ وَالْهُدَى ضِدُّ
الضَّلَالِ وَهُوَ مُجَانَبَةُ طَرِيقِ الْفُجَّارِ ، وَأَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا
كَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ عَنْهُمَا . قَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا } .
و " الْغَيُّ " فِي الْأَصْلِ : مَصْدَرُ غَوَى يَغْوِي غَيًّا ؛ كَمَا يُقَالُ : لَوَى يَلْوِي لَيًّا . وَهُوَ ضِدُّ الرَّشَدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } . و " الرُّشْدُ " الْعَمَلُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَالْغَيُّ الْعَمَلُ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ فَعَمَلُ الْخَيْرِ رُشْدٌ وَعَمَلُ الشَّرِّ غَيٌّ ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ الْجِنُّ : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } فَقَابَلُوا بَيْنَ الشَّرِّ وَبَيْنَ الرَّشَدِ وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ : { قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } وَمِنْهُ " الرَّشِيدُ " الَّذِي يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ . وَهُوَ الَّذِي يَصْرِفُ مَالَهُ فِيمَا يَنْفَعُ لَا فِيمَا يَضُرُّ . وَقَالَ الشَّيْطَانُ : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالشَّرِّ الَّذِي يَضُرُّهُمْ فَيُطِيعُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } وَقَالَ : { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } إلَى أَنْ قَالَ : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } { وَجُنُودُ إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } وَقَالَ : { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } وَقَالَ : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } . ثُمَّ إنَّ " الْغَيَّ " إذَا كَانَ اسْمًا لِعَمَلِ الشَّرِّ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ فَإِنَّ عَاقِبَةَ الْعَمَلِ أَيْضًا تُسَمَّى غَيًّا كَمَا أَنَّ عَاقِبَةَ الْخَيْرِ تُسَمَّى رُشْدًا كَمَا
يُسَمَّى عَاقِبَةُ الشَّرِّ شَرًّا وَعَاقِبَةُ الْخَيْرِ خَيْرًا ؛ وَعَاقِبَةُ الْحَسَنَاتِ حَسَنَاتٍ ؛ وَعَاقِبَةُ السَّيِّئَاتِ سَيِّئَاتٍ . " فَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ " فِي كِتَابِ اللَّهِ يُرَادُ بِهَا أَعْمَالُ الْخَيْرِ ، وَأَعْمَالُ الشَّرِّ كَمَا يُرَادُ بِهَا النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَمَنْ عَمِلَ خَيْرًا وَحَسَنَاتٍ لَقِيَ خَيْرًا وَحَسَنَاتٍ وَمَنْ عَمِلَ شَرًّا وَسَيِّئَاتٍ لَقِيَ شَرًّا وَسَيِّئَاتٍ . كَذَلِكَ مَنْ عَمِلَ غَيًّا لَقِيَ غَيًّا وَتَرْكُ الصَّلَاةِ ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ غَيٌّ يَلْقَى صَاحِبُهُ غَيًّا . فَلِهَذَا قَالَ الزمخشري : كُلُّ شَرٍّ عِنْدَ الْعَرَبِ غَيٌّ وَكُلُّ خَيْرٍ رَشَادٌ . كَمَا قِيلَ : فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدُ النَّاسُ أَمْرَهُ وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ : جَزَاؤُهُ غَيٌّ ؛ لِقَوْلِهِ : { يَلْقَ أَثَامًا } أَيْ مُجَازَاةَ آثَامٍ . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ : { إنَّ غَيًّا وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَسْتَعِيذُ مِنْهُ أَوْدِيَتُهَا } وَهَذَا تَعْبِيرٌ عَنْ مُلَاقَاةِ الشَّرِّ . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا إرَادَةُ وَجْهِ اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أَيْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ . وَالدَّاعِي يَقْصِدُ رَبَّهُ وَيُرِيدُهُ فَتَكُونُ الْقُلُوبُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُرِيدَةً لِرَبِّهَا مُحِبَّةً لَهُ .
وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ ؛ فَإِنَّ " الشَّهَوَاتِ " جَمْعُ شَهْوَةٍ وَالشَّهْوَةُ هِيَ فِي الْأَصْلِ : مَصْدَرٌ وَيُسَمَّى الْمُشْتَهَى شَهْوَةً . تَسْمِيَةٌ لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ . قَالَ تَعَالَى { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } فَجَعَلَ التَّوْبَةَ فِي مُقَابَلَةِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا : أَيْ فَاَللَّهُ يُحِبُّ لَنَا ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } وَهُمْ الْغَاوُونَ { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } يَعْدِلُ بِكُمْ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إلَى اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ عُدُولًا عَظِيمًا فَإِنَّ أَصْلَ " الْمَيْلِ " الْعُدُولُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصَوْا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ ثوبان . فَأَخْبَرُ أَنَّا لَا نُطِيقُ الِاسْتِقَامَةَ أَوْ ثَوَابَهَا إذَا اسْتَقَمْنَا . وَقَالَ { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } فَقَوْلُهُ : { كُلَّ الْمَيْلِ } أَيْ يُرِيدُ نِهَايَةَ الْمَيْلِ يُرِيدُ الزَّيْغَ عَنْ الطَّرِيقِ وَالْعُدُولَ عَنْ سَوَاءِ الصِّرَاطِ إلَى نِهَايَةِ الشَّرِّ ؛ بَلْ إذَا بُلِيت بِذَلِكَ فَتَوَسَّطْ وَعُدْ إلَى الطَّرِيقِ بِالتَّوْبَةِ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَيْلُ الْمُؤْمِنِ كَمَيْلِ الْفَرَسِ فِي آخِيَتِهِ يَحُولُ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى آخِيَتِهِ . كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَحُولُ ثُمَّ يَرْجِعُ
إلَى رَبِّهِ } قَالَ تَعَالَى : { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } فَلَمْ يَقُلْ لَا يَظْلِمُونَ وَلَا يُذْنِبُونَ . بَلْ قَالَ : { إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } أَيْ بِذَنْبِ آخَرَ غَيْرِ الْفَاحِشَةِ ؛ فَعَطَفَ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ . كَمَا قَالَ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } وَقَالَتْ بلقيس : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } وَقَالَ تَعَالَى عُمُومًا عَنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِارْتِكَابِهِمْ مَا نُهُوا عَنْهُ ؛ وَبِعِصْيَانِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ ؛ وَبِتَرْكِهِمْ التَّوْبَةَ إلَى رَبِّهِمْ . وقَوْله تَعَالَى { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } وَلِهَذَا قَالَ : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } ثُمَّ قَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ : يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ الزِّنَا وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : هُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ . وَقَالَ السدي : هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْجَمِيعُ حَقٌّ ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ مَعَ الْكُفْرِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٍ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الْمُحَرَّمَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَاوُوسٌ وَمُقَاتِلٌ : ضَعِيفٌ فِي قِلَّةِ الصَّبْرِ عَنْ النِّسَاءِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ كيسان : ضَعِيفُ الْعَزْمِ عَنْ قَهْرِ الْهَوَى . وَقِيلَ : ضَعِيفٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ، يُرْوَى ذَلِكَ
عَنْ الْحَسَنِ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْ الصَّبْرِ لِيُنَاسِبَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } وَهُوَ تَسْهِيلُ التَّكْلِيفِ بِأَنْ يُبِيحَ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَلَا تَصْبِرُوا عَنْهُ . كَمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْفَتَيَاتِ ؛ وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ { لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ إبَاحَتِهِ نِكَاحَ الْإِمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ وَخَشْيَةِ الْعَنَتِ قَالَ : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الصَّبْرُ مَعَ خَشْيَةِ الْعَنَتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ النِّكَاحُ كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَبَاحَ " الِاسْتِمْنَاءَ " عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَالصَّبْرُ عَنْ الِاسْتِمْنَاءِ أَفْضَلُ . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ نِكَاحَ الْإِمَاءِ خَيْرٌ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الزِّنَا فَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ أَفْضَلَ فَعَنْ الِاسْتِمْنَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَفْضَلُ . لَا سِيَّمَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَجْزِمُونَ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ - يَعْنِي عَنْ أَحْمَد - أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ . وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ إلَّا إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ قَالَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ : { وَأَنْ
تَصْبِرُوا
خَيْرٌ لَكُمْ } فَفِيهِ أَوْلَى . وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَنْ
كِلَيْهِمَا مُمْكِنٌ . فَإِذَا كَانَ قَدْ أَبَاحَ مَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهُ
فَذَلِكَ لِتَسْهِيلِ التَّكْلِيفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . و " الِاسْتِمْنَاءُ
" لَا يُبَاحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا سَوَاءٌ
خُشِيَ الْعَنَتُ أَوْ لَمْ يُخْشَ ذَلِكَ . وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا
رُوِيَ عَنْ أَحْمَد فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَشِيَ " الْعَنَتَ "
وَهُوَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ خَشْيَةً شَدِيدَةً خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ
الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ فَأُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لِتَكْسِيرِ شِدَّةِ عَنَتِهِ وَشَهْوَتِهِ
. وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَلَذُّذًا أَوْ تَذَكُّرًا أَوْ عَادَةً ؛ بِأَنْ
يَتَذَكَّرَ فِي حَالِ اسْتِمْنَائِهِ صُورَةً كَأَنَّهُ يُجَامِعُهَا فَهَذَا
كُلُّهُ مُحَرَّمٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ وَقَدْ أَوْجَبَ فِيهِ
بَعْضُهُمْ الْحَدَّ ، وَالصَّبْرُ عَنْ هَذَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا مِنْ
الْمُسْتَحَبَّاتِ .
وَأَمَّا الصَّبْرُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَوَاجِبٌ وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ
تَشْتَهِيهَا وَتَهْوَاهَا . قَالَ تَعَالَى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا
يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } و "
الِاسْتِعْفَافُ " هُوَ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ } . " فَالْمُسْتَغْنِي " لَا يَسْتَشْرِفُ بِقَلْبِهِ و " الْمُسْتَعِفُّ " هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ بِلِسَانِهِ و " الْمُتَصَبِّرُ " هُوَ الَّذِي لَا يَتَكَلَّفُ الصَّبْرَ . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ . وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الصَّبْرِ عَلَى الْفَاقَةِ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَرَارَةِ الْحَاجَةِ لَا يَجْزَعُ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ الْفَقْرِ وَهُوَ الصَّبْرُ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ . قَالَ تَعَالَى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } . و " الضَّرَّاءُ " الْمَرَضُ . وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ حَاجَةٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ . وَالصَّبْرُ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ كَالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَرَضِ الَّذِي يُبْتَلَى بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ؛ وَلِذَلِكَ إذَا اُبْتُلِيَ بِالْعَنَتِ فِي الْجِهَادِ فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الصَّبْرَ مِنْ تَمَامِ الْجِهَادِ . وَكَذَلِكَ لَوْ اُبْتُلِيَ فِي الْجِهَادِ بِفَاقَةِ أَوْ مَرَضٍ حَصَلَ بِسَبَبِهِ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ . كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . وَكَذَلِكَ مَا يُؤْذَى الْإِنْسَانُ بِهِ فِي فِعْلِهِ لِلطَّاعَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ الْمَصَائِبِ فَصَبْرُهُ عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بِدُونِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى مُحَرَّمَاتٍ : مِنْ رِئَاسَةٍ وَأَخْذِ مَالٍ وَفِعْلِ فَاحِشَةٍ كَانَ صَبْرُهُ عَنْهُ أَفْضَلَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّمَا عَظُمَتْ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِمَّا دُونَهَا . فَإِنَّ فِي " الْعِلْمِ " وَ " الْإِمَارَةِ " وَ " الْجِهَادِ " وَ " الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ " وَ " الصَّلَاةِ " وَ " الْحَجِّ " وَ " الصَّوْمِ " وَ " الزَّكَاةِ " مِنْ الْفِتَنِ النَّفْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا . وَيَعْرِضُ فِي ذَلِكَ مَيْلُ النَّفْسِ إلَى الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ وَالصُّوَرِ . فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ غَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِ كَمَا تَطْمَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ ؛ فَإِنَّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ تَطْلُبُ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُحَرَّمَةَ ؛ بِخِلَافِ حَالِهَا بِدُونِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مَعَ الْقُدْرَةِ جِهَادٌ ؛ بَلْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ . وَأَكْمَلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) : أَنَّ الصَّبْرَ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ . ( الثَّانِي ) : أَنَّ تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَطَلَبَ النَّفْسِ لَهَا أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا بِدُونِ ذَلِكَ . ( الثَّالِثُ ) : أَنَّ طَلَبَ النَّفْسِ لَهَا إذَا كَانَ بِسَبَبِ أَمْرٍ دِينِيٍّ - كَمَنَ
خَرَجَ لِصَلَاةِ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ جِهَادٍ فَابْتُلِيَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ صَبْرَهُ عَنْ ذَلِكَ - يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ بِدُونِ عَمَلٍ صَالِحٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ يُوصِي بِثَلَاثِ يَقُولُ : لَا تَدْخُلْ عَلَى سُلْطَانٍ ، وَإِنْ قُلْتَ : آمُرُهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ . وَلَا تَدْخُلْ عَلَى امْرَأَةٍ ؛ وَإِنْ قُلْتَ : أُعَلِّمُهَا كِتَابَ اللَّهِ . وَلَا تُصْغِ أُذُنَكَ إلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ وَإِنْ قُلْتَ : أَرُدُّ عَلَيْهِ . فَأَمْرُهُ بِالِاحْتِرَازِ مِنْ " أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ " فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَعَرَّضَ لِذَلِكَ فَقَدْ يَفْتَتِنُ وَلَا يَسْلَمُ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أَوْ دَخَلَ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ وَابْتُلِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ ، وَيَصْبِرَ وَيُخْلِصَ وَيُجَاهِدَ . وَصَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَسَلَامَتُهُ مَعَ قِيَامِهِ بِالْوَاجِبِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَمَنْ تَوَلَّى وِلَايَةً وَعَدَلَ فِيهَا أَوْ رَدَّ عَلَى أَصْحَابِ الْبِدَعِ بِالسُّنَّةِ الْمَحْضَةِ وَلَمْ يَفْتِنُوهُ ، أَوْ عَلَّمَ النِّسَاءَ الدِّينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ . لَكِنَّ اللَّهَ إذَا ابْتَلَى الْعَبْدَ وَقَدَّرَ عَلَيْهِ أَعَانَهُ ، وَإِذَا تَعَرَّضَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ إلَى الْبَلَاءِ وَكَّلَهُ اللَّهُ إلَى نَفْسِهِ . كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا } وَكَذَلِكَ
{ قَالَ فِي الطَّاعُونِ : إذَا وَقَعَ بِبَلَدِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ } فَمَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَعَرَضَتْ لَهُ فِتْنَةٌ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعِينُهُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا . لَكِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْأَلُ الْإِمَارَةَ فَيُوكَلُ إلَيْهَا ثُمَّ يَنْدَمُ فَيَتُوبُ مِنْ سُؤَالِهِ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيُعِينُهُ ؛ إمَّا عَلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَإِمَّا عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا ؛ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفِتَنِ . كَمَا قَالَ : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ . وَ ( الْمَقْصُودُ ) أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا وَيَهْدِيَنَا سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } وَهُمْ الَّذِينَ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ الْهِدَايَةَ لِسَبِيلِهِمْ فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فَهُوَ يُحِبُّ لَنَا وَيَأْمُرُنَا أَنْ نَتَّبِعَ صِرَاطَ هَؤُلَاءِ وَهُوَ سَبِيلُ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ فَذَكَرَ هُنَا ثَلَاثَةَ أُمُورٍ : الْبَيَانَ وَالْهِدَايَةَ وَالتَّوْبَةَ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالسُّنَنِ هُنَا سُنَنُ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ . أَيْ : يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا سُنَنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَيَهْدِي عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إلَى الْحَقِّ
وَيُضِلُّ آخَرِينَ فَإِنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْبَيَانِ . كَمَا قَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } فَتَكُونُ ( سُنَنَ ) مُتَعَلِّقًا بيبين يَعْنِي : سُنَنَ أَهْلِ الْبَاطِلِ لَا بيهدي ، وَأَهْلُ الْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ : وَيَهْدِيَكُمْ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : السُّنَنُ الطُّرُقُ فَالْمَعْنَى يَدُلُّكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ كَمَا دَلَّ الْأَنْبِيَاءَ وَتَابِعِيهِمْ وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَدِّمُ فِعْلَيْنِ فَلَا يَجْعَلُ الْأَوَّلَ هُوَ الْعَامِلُ وَحْدَهُ ؛ بَلْ الْعَامِلُ إمَّا الثَّانِي وَحْدَهُ وَإِمَّا الِاثْنَانِ كَقَوْلِهِ : { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } أَوْ إذَا أُرِيدَ هَذَا التَّقْدِيرُ : يُبَيِّنُ لَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَهْدِيكُمْ سُنَنًا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَهْدِينَا سُنَنَهُمْ . وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ سُنَنُ أَهْلِ الْحَقِّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَهَا : { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } فَإِنَّهُ أَرَادَ تَعْرِيفَ عُقُوبَةِ الظَّالِمِينَ بِالْعِيَانِ وَهُنَا فَأَنْزَلَ عَلَيْنَا مِنْ الْقُرْآنِ مَا يَهْدِينَا بِهِ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ : " التَّبْيِينَ " وَ " الْهُدَى " وَ " التَّوْبَةَ " ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلًا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَا أُمِرَ بِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ ثُمَّ يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ
إلَى أَنْ يُهْدَى فَيَقْصِدُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ دُونَ الْبَاطِلِ . وَهُوَ سُنَنُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . ثُمَّ لَا بُدَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَإِلَى التَّوْبَةِ مَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّقْصِيرِ أَوْ الْغَفْلَةِ فِي سُلُوكِ تِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي هَدَاهُ اللَّهُ إلَيْهَا فَيَتُوبُ مِنْهَا بِمَا وَقَعَ مِنْ تَفْرِيطٍ فِي كُلِّ سُنَّةٍ مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ وَهَذِهِ " السُّنَنُ " تَدْخُلُ فِيهَا الْوَاجِبَاتُ وَالْمُسْتَحَبَّات فَلَا بُدَّ لِلسَّالِكِ فِيهَا مِنْ تَقْصِيرٍ وَغَفْلَةٍ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إلَيْهِ . فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ اجْتَهَدَ مَهْمَا اجْتَهَدَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ لِلَّهِ بِالْحَقِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ فَمَا يَسَعُهُ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ عَقِيبَ كُلِّ طَاعَةٍ . وَقَدْ يُقَالُ : " الْهِدَايَةُ " هُنَا الْبَيَانُ وَالتَّعْرِيفُ أَيْ : يُعَرِّفُكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَتَجْتَنِبُوا هَذِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ : سَبِيلُ الْخَيْرِ ، وَالشَّرِّ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : سَبِيلُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : سَبِيلُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ : أَيْ فَطَرْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَرَّفْنَاهُ إيَّاهُ ، وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ . وَالنَّجْدَانِ الطَّرِيقَانِ الْوَاضِحَانِ وَالنَّجْدُ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ فَالْمَعْنَى أَلَمْ نُعَرِّفْهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَنُبَيِّنْهُ لَهُ كَتَبْيِينِ الطَّرِيقَيْنِ الْعَالِيَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْهُدَى وَالتَّبْيِينَ وَالتَّعْرِيفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَشْتَرِكُ
فِيهِ
بَنُو آدَمَ وَيَعْرِفُونَهُ بِعُقُولِهِمْ . وَأَمَّا طَرِيقُ مَنْ تَقَدَّمَ
مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ إخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا كَمَا
قَالَ : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ مَا كُنْتَ
تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } لَكِنْ يُجَابُ عَنْ هَذَا
بِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَقَالَ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ
لَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَذْكُرَ الْهُدَى
إذَا كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّبْيِينَ
وَالْهُدَى عُلِمَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ هَذَا فا " لتبيين " التَّعْرِيفُ
وَالتَّعْلِيمُ وَ " الْهُدَى " هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَهُوَ
الدُّعَاءُ إلَى الْخَيْرِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }
أَيْ دَاعٍ يَدْعُوهُمْ إلَى الْخَيْرِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أَيْ تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ دُعَاءَ تَعْلِيمٍ
.
وَهُدَاهُ هُنَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ : وَيُلْزِمُكُمْ
سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَلَا تَعْدِلُوا عَنْهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ
هُنَا بِالْهُدَى الْإِلْهَامَ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ } لِكَوْنِهِ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَوَقَعَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِينَا
ضَالٌّ ؛ بَلْ هَذِهِ إرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَمْرِيَّةٌ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ
وَالرِّضَا وَلِهَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ : يُرِيدُ أَنْ يَدُلَّكُمْ عَلَى مَا
يَكُونُ سَبَبًا لِتَوْبَتِكُمْ فَعَلَّقَ الْإِرَادَةَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ .
فَإِنَّ الزَّجَّاجَ ظَنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَتْ إلَّا كَذَلِكَ
وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ؛ بَلْ الْإِرَادَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِفِعْلِهِ يَكُونُ
مُرَادُهَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ
مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ إرَادَتُهُ لِمَا أَمَرَ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُثِيبُ فَاعِلَهُ ؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الْآيَةَ . وَكَمَا قَالَ نُوحٌ : { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فَهَذِهِ إرَادَةٌ لِمَا يَخْلُقُهُ وَيَكُونُهُ . كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ : مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ حَادِثٍ ، وَالْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْأَمْرِيَّةُ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالطَّاعَاتِ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ لِمَنْ يَفْعَلُ الْقَبِيحَ : يَفْعَلُ شَيْئًا مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مَعَ قَوْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . فَإِنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ " نَوْعَانِ " . كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَقَدْ يُرَادُ بِالْهُدَى الْإِلْهَامُ وَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ الَّذِينَ
هَدَاهُمْ اللَّهُ إلَى طَاعَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ فَاهْتَدَوْا وَلَوْلَا إرَادَتُهُ لَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَهْتَدُوا كَمَا قَالُوا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } . لَكِنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ كَالْخِطَابِ بِآيَةِ الْوُضُوءِ . وَالْخِطَابُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ } وَلِهَذَا يُهَدِّدُ مَنْ لَمْ يُطِعْهُ . وَكَمَا فِي الصِّيَامِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } . فَهَذِهِ إرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَمْرِيَّةٌ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا ؛ لَا إرَادَةُ الْخَلْقِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْمُرَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ الْآيَةُ خِطَابًا إلَّا لِمَنْ أَخَذَ بِالْيُسْرِ وَلِمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَكَانَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي فِي الْآيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَمَنْ أَطَاعَ أُثِيبَ وَمَنْ عَصَى عُوقِبَ وَاَلَّذِينَ أَطَاعُوهُ إنَّمَا أَطَاعُوهُ بِهُدَاهُ لَهُمْ : هُدَى الْإِلْهَامِ وَالْإِعَانَةِ بِأَنْ جَعَلَهُمْ مُهْتَدِينَ . كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا وَالْمُسْلِمَ مُسْلِمًا . وَلَوْ كَانَتْ الْإِرَادَةُ هُنَا مِنْ الْإِنْسَانِ مُسْتَلْزِمَةً لِوُقُوعِ الْمُرَادِ لَمْ يُقَلْ : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا تَأْثِيرَ لِإِرَادَةِ هَؤُلَاءِ بَلْ وَجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ . كَمَا فِي قَوْلِ نُوحٍ { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يُغْوِيَكُمْ
} فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ وَمَا لَمْ يَشَأْ
لَمْ يَكُنْ وَإِنْ شَاءَهُ النَّاسُ . وَالْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ تَحْذِيرُهُمْ
مِنْ مُتَابَعَةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ . وَالْمَعْنَى : إنِّي
أُرِيدُ لَكُمْ الْخَيْرَ الَّذِي يَنْفَعُكُمْ وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ لَكُمْ
الشَّرَّ الَّذِي يَضُرُّكُمْ كَالشَّيْطَانِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ
وَأَتْبَاعُهُ هُمْ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ فَلَا تَتَّخِذُوهُ وَذُرِّيَّتَهُ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي بَلْ اُسْلُكُوا طُرُقَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ
وَإِيَّاكُمْ وَطُرُقَ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } الْآيَاتِ .
وَقَوْلُهُ : { يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } فِي الْمَوْضِعَيْنِ . فَاتِّبَاعُ
الشَّهْوَةِ مِنْ جِنْسِ اتِّبَاعِ الْهَوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَنَّمَا
يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى
مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } وَقَالَ تَعَالَى . { وَلَا
تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } وَقَالَ تَعَالَى : {
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَ " الْهَوَى
" مَصْدَرُ هَوَى يَهْوِي هَوَى وَنَفْسُ الْمَهْوِيِّ يُسَمَّى هَوَى مَا
يَهْوِي فَاتِّبَاعُهُ كَاتِّبَاعِ السَّبِيلِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا
تَتَّبِعُوا
أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } وَكَمَا فِي لَفْظِ الشَّهْوَةِ فَاتِّبَاعُ الْهَوَى يُرَادُ بِهِ نَفْسُ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ أَيْ اتِّبَاعُ إرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ الَّتِي هِيَ هَوَاهُ وَاتِّبَاعُ الْإِرَادَةِ هُوَ فِعْلُ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى . { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَقَوْلُهُ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَالَ : { وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } فَلَفْظُ الِاتِّبَاعِ يَكُونُ لِلْآمِرِ النَّاهِي وَلِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِلْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ . كَذَلِكَ يَكُونُ لِلْهَوَى أَمْرٌ وَنَهْيٌ ؛ وَهُوَ أَمْرُ النَّفْسِ وَنَهْيُهَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَلَكِنْ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ فَأَحَدُهَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ فَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَاتِّبَاعُ أَمْرِ النَّفْسِ هُوَ فِعْلُ مَا تَهْوَاهُ فَعَلَى هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ اتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ ، وَاتِّبَاعَ الْأَهْوَاءِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا وَذَلِكَ بِفِعْلِ مَا تَشْتَهِيهِ وَتَهْوَاهُ . بَلْ قَدْ يُقَالُ : هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي لَفْظِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَشْتَهِي وَيَهْوَى إنَّمَا يَصِيرُ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ يَشْتَهِيَ وَيَهْوَى وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْإِنْسَانُ إذَا فَعَلَ مَا يَشْتَهِي وَيَهْوَى عِنْدَ وُجُودِهِ
فَهُوَ حِينَئِذٍ قَدْ فَعَلَ ؛ وَلَا يُنْهَى عَنْهُ بَعْدَ وُجُودِهِ وَلَا يُقَالُ لِصَاحِبِهِ : لَا تَتَّبِعْ هَوَاك . وَأَيْضًا فَالْفِعْلُ الْمُرَادُ الْمُشْتَهَى الَّذِي يَهْوَاهُ الْإِنْسَانُ هُوَ تَابِعٌ لِشَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ ؛ فَلَيْسَتْ الشَّهْوَةُ وَالْهَوَى تَابِعَةً لَهُ ؛ فَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَإِذَا جَعَلْت الشَّهْوَةَ بِمَعْنَى الْمُشْتَهَى كَانَ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْعَلَ فِي الْخَارِجِ مَا يُشْتَهَى وَالْإِنْسَانُ يَتْبَعُهُ كَالْمَرْأَةِ الْمَطْلُوبَةِ أَوْ الطَّعَامِ الْمَطْلُوبِ وَإِنْ سُمِّيَتْ الْمَرْأَةُ شَهْوَةً وَالطَّعَامُ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي } أَيْ يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ ؛ وَهُوَ إنَّمَا يَتْرُكُ مَا يَشْتَهِيهِ كَمَا يَتْرُكُ الطَّعَامَ ؛ لَا أَنَّهُ يَدَعُ طَعَامَهُ بِتَرْكِ الشَّهْوَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي نَفْسِهِ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ مَخْلُوقَةٌ فِيهِ مَجْبُولٌ عَلَيْهَا ؛ وَإِنَّمَا يُثَابُ إذَا تَرَكَ مَا تَطْلُبُهُ تِلْكَ الشَّهْوَةُ . وَ " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " إنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ : فَمَنْ اتَّبَعَ نَفْسَ شَهْوَتِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ اتَّبَعَ مَا يَشْتَهِيهِ ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ الْهَوَى الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ اتَّبَعَ مَا يَهْوَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الْإِرَادَةِ وَاتِّبَاعُ الْإِرَادَةِ هُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهَا وَفِعْلُ مَا تَطْلُبُهُ كَالْمَأْمُورِ الَّذِي يَتْبَعُ أَمْرَ أَمِيرِهِ ؛ وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَ مُرَادَهُ الَّذِي يَهْوَاهُ وَيَشْتَهِيهِ فِي نَفْسِهِ وَيَتَخَيَّلُهُ قَبْلَ فِعْلِهِ . فَيَبْقَى ذَلِكَ الْمِثَالُ كَالْإِمَامِ مَعَ الْمَأْمُومِ يَتْبَعُهُ حَيْثُ كَانَ ؛ وَفِعْلُهُ فِي الظَّاهِرِ
تَبَعٌ لِاتِّبَاعِ الْبَاطِنِ فَتَبْقَى صُورَةُ الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ الْمُشْتَهَى الَّتِي فِي النَّفْسِ هِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِلْإِنْسَانِ الْآمِرَةُ لَهُ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الْعِلَّةُ الغائية عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لِلْعِلَّةِ الغائية - بِهَذَا التَّصَوُّرِ وَالْإِرَادَةِ - صَارَ فَاعِلًا لِلْفِعْلِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْمُرَادَةُ الْمُتَصَوَّرَةُ فِي النَّفْسِ هِيَ الَّتِي جَعَلَتْ الْفَاعِلَ فَاعِلًا فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مُتَّبِعًا لَهَا وَالشَّيْطَانُ يَمُدُّهُ فِي الْغَيِّ فَهُوَ يُقَوِّي تِلْكَ الصُّورَةَ وَيُقَوِّي أَثَرَهَا وَيُزَيِّنُ لِلنَّاسِ اتِّبَاعَهَا وَتِلْكَ الصُّورَةُ تَتَنَاوَلُ صُورَةَ الْعَيْنِ الْمَطْلُوبَةِ - كَالْمَحْبُوبِ مِنْ الصُّوَرِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ - وَيَتَنَاوَلُ نَفْسَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْمُبَاشَرَةُ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الْمَحْبُوبِ ، وَالشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ ذَلِكَ وَكُلَّمَا تَصَوَّرَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبَ فِي نَفْسِهِ أَرَادَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّ أَوَّلَ الْفِكْرِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلَ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرْكِ . وَلِهَذَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ عِنْدَ شَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ أَسِيرًا لِذَلِكَ مَقْهُورًا تَحْتَ سُلْطَانِ الْهَوَى أَعْظَمَ مِنْ قَهْرِ كُلِّ قَاهِرٍ فَإِنَّ هَذَا الْقَاهِرَ الْهَوَائِيَّ الْقَاهِرَ لِلْعَبْدِ هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُ أَلْبَتَّةَ وَالصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ تَطْلُبُهَا النَّفْسُ فَإِنَّ الْمَحْبُوبَ تَطْلُبُ النَّفْسُ أَنْ تُدْرِكَهُ وَتُمَثِّلَهُ لَهَا فِي نَفْسِهَا فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلْإِرَادَةِ . وَإِنْ كَانَتْ الذِّهْنِيَّةُ وَالتَّزَيُّنُ مِنْ الزَّيْنِ وَالْمُرَادُ التَّصَوُّرُ فِي نَفْسِهِ . وَالْمُشْتَهَى الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ لَهُ " مُحَرِّكَانِ " التَّصَوُّرُ وَالْمُشْتَهَى ، هَذَا يُحَرِّكُهُ تَحْرِيكَ طَلَبٍ وَأَمْرٍ ، وَهَذَا يَأْمُرُهُ أَنْ يَتَّبِعَ
طَلَبَهُ وَأَمْرَهُ ، فَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ ؛ بِخِلَافِ كُلِّ قَاهِرٍ يَنْفَصِلُ عَنْ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُ مَعَ بَقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى حَالِهَا : وَهَذَا إنَّمَا يُفَارِقُهُ بِتَغَيُّرِ صِفَةِ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ : شُحٌّ مُطَاعٌ ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ . وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ : خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا } وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ : " هَوَى مُتَّبَعٌ " . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَّبَعَ هُوَ مَا قَامَ فِي النَّفْسِ . كَقَوْلِهِ : فِي الشُّحِّ الْمُطَاعِ وَجَعَلَ الشُّحَّ مُطَاعًا لِأَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ وَجَعَلَ الْهَوَى مُتَّبَعًا ؛ لِأَنَّ الْمُتَّبَعَ قَدْ يَكُونُ إمَامًا يُقْتَدَى بِهِ وَلَا يَكُونُ آمِرًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ . فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا } . فَبَيَّنَ أَنَّ الشُّحَّ يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ وَالظُّلْمِ وَالْقَطِيعَةِ . " فَالْبُخْلُ " مَنْعُ مَنْفَعَةِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَ " الظُّلْمُ " هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمْ . فَالْأَوَّلُ هُوَ التَّفْرِيطُ فِيمَا يَجِبُ فَيَكُونُ قَدْ فَرَّطَ فِيمَا يَجِبُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ بِفِعْلِ مَا يُحَرَّمُ وَخَصَّ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ بِالذِّكْرِ إعْظَامًا لَهَا ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ
فِي الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ قَبْلَهَا . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } هُوَ أَلَّا يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَدَائِهِ " فَالشُّحُّ " يَأْمُرُ بِخِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْهَى عَنْ الظُّلْمِ وَيَأْمُرُ بِالْإِحْسَانِ ، وَالشُّحُّ يَأْمُرُ بِالظُّلْمِ وَيَنْهَى عَنْ الْإِحْسَانِ . ( وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُكْثِرُ فِي طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ وَبِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إذَا وُقِيت شُحَّ نَفْسِي وُقِيت الظُّلْمَ وَالْبُخْلَ وَالْقَطِيعَةَ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ : إنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْت قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } وَأَنَا رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْ يَدِي شَيْءٌ فَقَالَ لَيْسَ ذَاكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا الشُّحُّ أَنْ تَأْكُلَ مَالَ أَخِيك ظُلْمًا وَإِنَّمَا يَكُنْ بِالْبُخْلِ وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلَ ) (*) . وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى " الشُّحَّ " فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الْحَسَدِ وَالْإِيثَارِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } - ثُمَّ قَالَ - { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَمَنْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ حَسُودًا بَاغِيًا عَلَى الْمَحْسُودِ وَ " الْحَسَدُ " أَصْلُهُ بُغْضُ الْمَحْسُودِ .
وَ " الشُّحُّ " يَكُونُ فِي الرَّجُلِ مَعَ الْحِرْصِ وَقُوَّةِ الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ وَبُغْضٍ لِلْغَيْرِ وَظُلْمٍ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } الْآيَاتِ - إلَى قَوْلِهِ - { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } فَشُحُّهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى الْخَيْرِ يَتَضَمَّنُ كَرَاهِيَتَهُ وَبُغْضَهُ ، وَبُغْضُ الْخَيْرِ يَأْمُرُ بِالشَّرِّ ، وَبُغْضُ الْإِنْسَانِ يَأْمُرُ بِظُلْمِهِ وَقَطِيعَتِهِ كَالْحَسَدِ ؛ فَإِنَّ الْحَاسِدَ يَأْمُرُ حَاسِدَهُ بِظُلْمِ الْمَحْسُودِ وَقَطِيعَتِهِ كَابْنَيْ آدَمَ وَإِخْوَةِ يُوسُفَ . " فَالْحَسَدُ وَالشُّحُّ " يَتَضَمَّنَانِ بُغْضًا وَكَرَاهِيَةً فَيَأْمُرَانِ بِمَنْعِ الْوَاجِبِ وَبِظُلْمِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَإِنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ فِيهِ عَنْ بُغْضٍ بِخِلَافِ الْهَوَى فَإِنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ فِيهِ عَنْ حُبّ أَحَبّ شَيْئًا فَأَتْبَعُهُ فَفَعَلَهُ وَذَلِكَ مَقْصُودُهُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ وَالْعَدَمُ لَا يَنْفَعُ . وَلَكِنَّ ذَاكَ الْقَصْدَ أَمْرٌ بِأَمْرِ وُجُودِيٍّ فَأُطِيعُ أَمْرُهُ . وَابْنُ مَسْعُودٍ جَعَلَ الْبُخْلَ خَارِجًا عَنْ الشُّحِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشُّحَّ يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : " الشُّحُّ وَالْبُخْلُ " سَوَاءٌ . كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : الشُّحُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْبُخْلُ وَمَنْعُ الْفَضْلِ مِنْ الْمَالِ . وَلَيْسَ
كَمَا قَالَ بَلْ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ مَسْعُودٍ أَحَقّ أَنْ يُتَّبَعَ فَإِنَّ " الْبَخِيلَ " قَدْ يَبْخَلُ بِالْمَالِ مَحَبَّةً لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ اللَّذَّةِ وَالتَّنَعُّمِ وَقَدْ لَا يَكُونُ مُتَلَذِّذًا بِهِ وَلَا مُتَنَعِّمًا بَلْ نَفْسُهُ تَضِيقُ عَنْ إنْفَاقِهِ وَتَكْرَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْفَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ مَالِهِ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مَعَ الْتِذَاذِهِ بِجَمْعِ الْمَالِ وَمَحَبَّتِهِ لِرُؤْيَتِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ لَذَّةٌ أَصْلًا ؛ بَلْ يَكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ إحْسَانًا إلَى أَحَدٍ حَتَّى لَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يُعْطِيَ كُرْهَ ذَلِكَ مِنْهُ بُغْضًا لِلْخَيْرِ لَا لِلْمُعْطِي وَلَا لِلْمُعْطَى بَلْ بُغْضًا مِنْهُ لِلْخَيْرِ وَقَدْ يَكُونُ بُغْضًا وَحَسَدًا لِلْمُعْطَى أَوْ لِلْمُعْطِي وَهَذَا هُوَ " الشُّحُّ " وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ قَطْعًا وَلَكِنْ كُلُّ بُخْلٍ يَكُونُ عَنْ شُحٍّ . فَكُلُّ شَحِيحٍ بَخِيلٌ وَلَيْسَ كُلُّ بَخِيلٍ شَحِيحًا . قَالَ الخطابي " الشُّحُّ " أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبُخْلِ وَالْبُخْلُ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمُورِ وَخَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ وَالشُّحُّ عَامٌّ فَهُوَ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ لِلْإِنْسَانِ مِنْ قِبَلِ الطَّبْعِ وَالْجِبِلَّةِ . وَحَكَى الخطابي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : " الْبُخْلُ " أَنْ يَضِنَّ الْإِنْسَانُ بِمَالِهِ وَ " الشُّحُّ " أَنْ يَضِنَّ بِمَالِهِ وَمَعْرُوفِهِ وَقِيلَ " الشُّحُّ " أَنْ يَشِحَّ بِمَعْرُوفِ غَيْرِهِ . عَلَى غَيْرِهِ وَ " الْبُخْلُ " أَنْ يَبْخَلَ بِمَعْرُوفِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَاَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ يُحِبُّونَ ذَلِكَ وَيُرِيدُونَهُ فَاتَّبَعُوا
مَحَبَّتَهُمْ
وَإِرَادَتَهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَلَمْ يَنْظُرُوا هَلْ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُمْ
فِي الْعَاقِبَةِ أَوْ ضَارٌّ . وَلِهَذَا قَالَ : { فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ
هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } .
وَ " اتِّبَاعُ الْهَوَى " دَرَجَاتٌ : فَمِنْهُمْ الْمُشْرِكُونَ
وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا يَسْتَحْسِنُونَ بِلَا عِلْمٍ
وَلَا بُرْهَانٍ كَمَا قَالَ : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } أَيْ
يَتَّخِذُ إلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَهُوَ مَا يَهْوَاهُ مِنْ آلِهَةٍ وَلَمْ
يَقُلْ إنَّ هَوَاهُ نَفْسُ إلَهِهِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَهْوَى شَيْئًا
يَعْبُدُهُ فَإِنَّ الْهَوَى أَقْسَامٌ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ
الْمَعْبُودَ الَّذِي يَعْبُدُهُ هُوَ مَا يَهْوَاهُ فَكَانَتْ عِبَادَتُهُ
تَابِعَةً لِهَوَى نَفْسِهِ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ مَا يُحِبُّ
أَنْ يَعْبُدَ وَلَا عَبْدَ الْعِبَادَةَ الَّتِي أُمِرَ بِهَا . وَهَذِهِ حَالُ "
أَهْلِ الْبِدَعِ " فَإِنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَابْتَدَعُوا
عِبَادَاتٍ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِهَا فَهُمْ إنَّمَا
اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَتَّبِعُ مَحَبَّةَ نَفْسِهِ
وَذَوْقَهَا وَوَجْدَهَا وَهَوَاهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ
مُنِيرٍ . فَلَوْ اتَّبَعَ الْعِلْمَ وَالْكِتَابَ الْمُنِيرَ لَمْ يَعْبُدْ إلَّا
اللَّهَ بِمَا شَاءَ لَا بِالْحَوَادِثِ وَالْبِدَعِ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الْآلِهَةَ كَثِيرَةٌ وَالْعِبَادَاتُ لَهَا مُتَنَوِّعَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ وَيُحِبُّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ فِي نَفْسِهِ فَتِلْكَ الصُّورَةُ الْعِلْمِيَّةُ مُحَرِّكَةٌ لَهُ إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَوَازِمِ الْحُبِّ فَمَنْ عَبَدَهُ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَتَمَثَّلَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ فِي صُورَةِ مَنْ يَعْبُدُهُ وَهَذَا كَثِيرٌ مَا زَالَ وَلَمْ يَزَلْ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَلِهَذَا يُقَارِنُ الشَّيْطَانُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَاسْتِوَائِهَا لِيَكُونَ سُجُودُ مَنْ يَعْبُدُهَا لَهُ . وَقَدْ كَانَتْ " الشَّيَاطِينُ " تَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ مَنْ يُعْبَدُ كَمَا كَانَتْ تُكَلِّمُهُمْ مِنْ الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَكَذَلِكَ فِي وَقْتِنَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِبَعْضِ مَنْ يُعَظِّمُهُ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْ الْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ فَيَدْعُوهُ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَيَرَاهُ قَدْ أَتَاهُ وَكَلَّمَهُ وَقَضَى حَاجَتَهُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَمَثَّلَ عَلَى صُورَتِهِ لِيُغْوِيَ هَذَا الْمُشْرِكَ . وَالْمُبْتَلُونَ " بِالْعِشْقِ " لَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يُمَثِّلُ لِأَحَدِهِمْ صُورَةَ الْمَعْشُوقِ أَوْ يَتَصَوَّرُ بِصُورَتِهِ فَلَا يَزَالُ يَرَى صُورَتَهُ مَعَ مَغِيبِهِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّمَا جَلَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَلْبِهِ وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ اللَّهَ الذِّكْرَ الَّذِي يَخْنِسُ مِنْهُ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ خَنَسَ هَذَا الْمِثَالُ الشَّيْطَانِيُّ وَصُورَةُ الْمَحْبُوبِ تَسْتَوْلِي عَلَى الْمُحِبِّ أَحْيَانًا حَتَّى لَا يَرَى غَيْرَهَا وَلَا يَسْمَعَ غَيْرَ كَلَامِهَا فَتَبْقَى
نَفْسُهُ
مُشْتَغِلَةً بِهَا . وَاَلَّذِينَ يَسْلُكُونَ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ مَسْلَكًا
نَاقِصًا يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمْ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ يُسَمَّى " الِاصْطِلَامُ
" وَ " الْفَنَاءُ " يَغِيبُ بِمَحْبُوبِهِ عَنْ مَحَبَّتِهِ
وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ حَتَّى لَا
يَشْعُرَ بِشَيْءِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَأَمْرِهِ
وَنَهْيِهِ . وَ " مِنْهُمْ " مِنْ قَدْ يَنْتَقِلُ مِنْ هَذَا إلَى
" الِاتِّحَادِ " . فَيَقُولُ : أَنَا هُوَ وَهُوَ أَنَا وَأَنَا
اللَّهُ وَيَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ أَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ
السَّالِكِينَ وَأَنَّ هَذَا هُوَ " التَّوْحِيدُ " الَّذِي هُوَ
نِهَايَةُ كُلِّ سَالِكٍ . وَهُمْ غالطون فِي هَذَا ؛ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ
قَوْلِ النَّصَارَى وَلَكِنْ ضَلُّوا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْلُكُوا الطَّرِيقَ
الشَّرْعِيَّةَ فِي الْبَاطِنِ فِي خَبَرِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ . وَقَدْ بُسِطَ
الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لِشَهَوَاتِهِمْ مِنْ الصُّوَرِ
وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ يَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِ أَحَدِهِمْ مَا
يَشْتَهِيهِ حَتَّى يَقْهَرَهُ وَيَمْلِكَهُ وَيَبْقَى أَسِيرًا ، مَا يَهْوَاهُ
يَصْرِفُهُ كَيْفَ تَصَرَّفَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ
السَّلَفِ : مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ بِأَخْوَفَ مِنِّي عَلَيْهِ
مِنْ سَبُعٍ ضَارٍ يَثِبُ عَلَيْهِ مِنْ صَبِيٍّ حَدَثٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ .
وَذَلِكَ أَنَّ النَّفْسَ الصَّافِيَةَ الَّتِي فِيهَا رِقَّةُ " الرِّيَاضَةِ " وَلَمْ تَنْجَذِبْ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ انْجِذَابًا تَامًّا وَلَا قَامَ بِهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ مَا يَصْرِفُهَا عَنْ هَوَاهَا مَتَى صَارَتْ تَحْتَ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ اسْتَوْلَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ عَلَيْهَا كَمَا يَسْتَوْلِي السَّبُعُ عَلَى مَا يَفْتَرِسُهُ ؛ فَالسُّبُعُ يَأْخُذُ فَرِيسَتَهُ بِالْقَهْرِ وَلَا تَقْدِرُ الْفَرِيسَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَذَلِكَ مَا يُمَثِّلُهُ الْإِنْسَانُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الصُّوَرِ الْمَحْبُوبَةِ تَبْتَلِعُ قَلْبَهُ وَتَقْهَرَهُ فَلَا يَقْدِرُ قَلْبُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ فَيَبْقَى قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَعْظَمَ مِنْ اسْتِغْرَاقِ الْفَرِيسَةِ فِي جَوْفِ الْأَسَدِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْبُوبَ الْمُرَادَ هُوَ غَايَةُ النَّفْسِ لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٌ قَاهِرٌ . وَ " الْقَلْبُ " يَغْرَقُ فِيمَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ : إمَّا مِنْ مَحْبُوبٍ وَإِمَّا مِنْ مَخُوفٍ كَمَا يُوجَدُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ ، وَالْخَائِفُ مِنْ غَيْرِهِ يَبْقَى قَلْبُهُ وَعَقْلُهُ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ كَمَا يَغْرَقُ الْغَرِيقُ فِي الْمَاءِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا مَا يُحِيطُ بِهَا مِنْ الْأَجْسَامِ وَالْقُلُوبِ يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا مَا يَتَمَثَّلُ لَهَا مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْمَحْبُوبَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فَالْمَحْبُوبُ يَطْلُبُهُ وَالْمَكْرُوهُ يَدْفَعُهُ وَالرَّجَاءُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحْبُوبِ ، وَالْخَوْفُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَكْرُوهِ وَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلَّا اللَّهُ { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } .
وَإِذَا دَعَا الْعَبْدُ رَبَّهُ بِإِعْطَاءِ الْمَطْلُوبِ وَدَفْعِ الْمَرْهُوبِ جَعَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَرَجَائِهِ وَحَيَاةِ قَلْبِهِ وَاسْتِنَارَتِهِ بِنُورِ الْإِيمَانِ مَا قَدْ يَكُونُ أَنْفَع لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ إنْ كَانَ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا وَأَمَّا إذَا طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَهُنَا الْمَطْلُوبُ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ الطَّلَبِ وَهُوَ الدُّعَاءُ ، وَالْمَطْلُوبُ الذِّكْرُ وَالشُّكْرُ وَقِيَامُ الْعِبَادَةِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَ ( الْمَقْصُودُ ) : أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَغْمُرُهُ فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَيُحِبُّهُ وَمَا يَخَافُهُ وَيَحْذَرُهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } فَهِيَ فِيمَا يَغْمُرُهَا عَمَّا أُنْذِرَتْ بِهِ فَيَغْمُرُهَا ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ } أَيْ فِيمَا يَغْمُرُ قُلُوبَهُمْ مِنْ حُبّ الْمَالِ وَالْبَنِينَ الْمَانِعِ لَهُمْ مِنْ الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيِّرَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } الْآيَاتِ : أَيْ سَاهُونَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَهُمْ فِي غَمْرَةٍ عَنْهَا أَيْ فِيمَا يَغْمُرُ قُلُوبَهُمْ مِنْ حُبّ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا سَاهُونَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا خُلِقُوا لَهُ . وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَهُ : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } فَالْغَمْرَةُ تَكُونُ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى ، وَالسَّهْوُ مَنْ جِنْسِ الْغَفْلَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : " السَّهْوُ " الْغَفْلَةُ عَنْ الشَّيْءِ وَذَهَابُ الْقَلْبِ عَنْهُ وَهَذَا جِمَاعُ الشَّرِّ " الْغَفْلَةُ " وَ " الشَّهْوَةُ " " فَالْغَفْلَةُ " عَنْ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ تَسُدُّ بَابَ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الذِّكْرُ وَالْيَقَظَةُ . وَ " الشَّهْوَةُ " تَفْتَحُ بَابَ الشَّرِّ وَالسَّهْوِ وَالْخَوْفِ فَيَبْقَى الْقَلْبُ مَغْمُورًا فِيمَا يَهْوَاهُ وَيَخْشَاهُ غَافِلًا عَنْ اللَّهِ رَائِدًا غَيْرَ اللَّهِ سَاهِيًا عَنْ ذِكْرِهِ قَدْ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ اللَّهِ قَدْ انْفَرَطَ أَمْرُهُ قَدْ رَانَ حُبُّ الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِهِ كَمَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ } جَعَلَهُ عَبَدَ مَا يُرْضِيهِ وُجُودُهُ ، وَيُسْخِطُهُ فَقْدُهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدَ الدِّرْهَمِ ، وَعَبْدَ مَا وُصِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَ " الْقَطِيفَةُ " هِيَ الَّتِي يُجْلَسُ عَلَيْهَا فَهُوَ خَادِمُهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَخْدِمُك وَلَا تَلْبَسْ مِنْهَا مَا تَكُنْ أَنْتَ تَخْدِمُهُ وَهِيَ كَالْبِسَاطِ الَّذِي تَجْلِسُ عَلَيْهِ وَ " الْخَمِيصَةُ " هِيَ الَّتِي يَرْتَدِي بِهَا وَهَذَا مِنْ أَقَلِّ الْمَالِ . وَإِنَّمَا
نَبَّهَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَهُوَ عَبْدٌ لِذَلِكَ : فِيهِ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ وَشُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ . وَلِهَذَا قَالَ : { إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ } . فَمَا كَانَ يُرْضِي الْإِنْسَانَ حُصُولُهُ ، وَيُسْخِطُهُ فَقْدُهُ فَهُوَ عَبْدُهُ إذْ الْعَبْدُ يَرْضَى بِاتِّصَالِهِ بِهِمَا وَيَسْخَطُ لِفَقْدِهِمَا . وَ " الْمَعْبُودُ الْحَقُّ " الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إذَا عَبَدَهُ الْمُؤْمِنُ وَأَحَبَّهُ حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَتَوْحِيدٌ وَمَحَبَّةٌ وَذِكْرٌ وَعِبَادَةٌ فَيَرْضَى بِذَلِكَ وَإِذَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ غَضِبَ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَحَبّ شَيْئًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ فِي قَلْبِهِ ، وَيُرِيدَ اتِّصَالَهُ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . قَالَ الْجُنَيْد : لَا يَكُونُ الْعَبْدُ عَبْدًا حَتَّى يَكُونَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى حُرًّا . وَهَذَا مُطَابِقٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ خَالِصًا مُخْلِصًا دِينَهُ لِلَّهِ كُلَّهُ حَتَّى لَا يَكُونَ عَبْدًا لِمَا سِوَاهُ وَلَا فِيهِ شُعْبَةٌ وَلَا أَدْنَى جُزْءٍ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِذَا كَانَ يُرْضِيهِ وَيُسْخِطُهُ غَيْرُ اللَّهِ فَهُوَ عَبْدٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ فَفِيهِ مِنْ الشِّرْكِ بِقَدْرِ مَحَبَّتِهِ ، وَعِبَادَتُهُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ زِيَادَةٌ . قَالَ " الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ " وَاَللَّهِ مَا صَدَقَ اللَّهَ فِي عُبُودِيَّتِهِ مَنْ
لِأَحَدِ
مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَيْهِ رَبَّانِيَّةٌ . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
نفيل :
أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفُ رَبٍّ * * * أَدِينُ إذَا انْقَسَمَتْ الْأُمُورُ
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِي والطَّبَرَانِي مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءِ
بِنْتِ عميس قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالَّ
، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى
بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سهى ولهى وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى بِئْسَ
الْعَبْدُ عَبْدٌ بَغَى وَاعْتَدَى وَنَسِيَ الْمَبْدَأَ وَالْمُنْتَهَى بِئْسَ
الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ
يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ
وَيُزِيلُهُ عَنْ الْحَقِّ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ ، بِئْسَ
الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوَى يُضِلُّهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ . وَفِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يُقَوِّيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَم .
وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ رُوِيَتْ فِي مَعْنَى ذَلِكَ . كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ }
وَطَالِبُ الرِّئَاسَةِ - وَلَوْ بِالْبَاطِلِ - تُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي
فِيهَا تَعْظِيمُهُ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلًا ، وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ الَّتِي
فِيهَا ذَمُّهُ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا .
وَالْمُؤْمِنُ تُرْضِيهِ كَلِمَةُ الْحَقِّ لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَتُغْضِبُهُ كَلِمَةُ الْبَاطِلِ لَهُ وَعَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ وَالْعَدْلَ وَيُبْغِضُ الْكَذِبَ وَالظُّلْمَ . فَإِذَا قِيلَ : الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالْعَدْلُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ أُحِبُّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةُ هَوَاهُ . لِأَنَّ هَوَاهُ قَدْ صَارَ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَإِذَا قِيلَ : الظُّلْمُ وَالْكَذِبُ فَاَللَّهُ يُبْغِضُهُ وَالْمُؤْمِنُ يُبْغِضُهُ وَلَوْ وَافَقَ هَوَاهُ . وَكَذَلِكَ طَالِبُ " الْمَالِ " - وَلَوْ بِالْبَاطِلِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ } الْحَدِيثَ . فَكَيْفَ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ مَا هُوَ أَعْظَمُ اسْتِعْبَادًا مِنْ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي تَجْذِبُ الْقَلْبَ عَنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَعِبَادَتِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُزَاحَمَةِ وَالشِّرْكِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَيْفَ تَدْفَعُ الْقَلْبَ وَتُزِيغُهُ عَنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِرَبِّهِ وَعِبَادَتِهِ وَخَشْيَتِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَحْبُوبٍ يَجْذِبُ قَلْبَ مُحِبِّهِ إلَيْهِ وَيُزِيغُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ مَحْبُوبِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ يَدْفَعُهُ وَيُزِيلُهُ وَيَشْغَلُهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلِهَذَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده وَغَيْرُهُ . أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِأَصْحَابِهِ : { الْفَقْرَ تَخَافُونَ لَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْفَقْرَ . إنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا حَتَّى إنَّ قَلْبَ أَحَدِكُمْ إذَا زَاغَ لَا يُزِيغُهُ إلَّا هِيَ } وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْعَبْدَ كَأَصْدِقَائِهِ وَاَلَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ كَأَعْدَائِهِ فَاَلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ يَجْذِبُونَهُ إلَيْهِمْ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمَحَبَّةُ مِنْهُمْ لَهُ لِلَّهِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُهُ عَنْ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ يُؤْذُونَهُ وَيُعَادُونَهُ فَيَشْغَلُونَهُ بِأَذَاهُمْ عَنْ اللَّهِ وَلَوْ أَحْسَنَ إلَيْهِ أَصْدِقَاؤُهُ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْجَبَ إحْسَانُهُمْ إلَيْهِ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ وَانْجِذَابَ قَلْبِهِ إلَيْهِمْ وَلَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الِاسْتِقَامَةِ وَأَوْجَبَ مُكَافَأَتَهُ لَهُمْ فَيَقْطَعُونَهُ عَنْ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ . فَلَا تَزُولُ الْفِتْنَةُ عَنْ الْقَلْبِ إلَّا إذَا كَانَ دِينُ الْعَبْدِ كُلِّهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَكُونُ حُبُّهُ لِلَّهِ وَلِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَبُغْضُهُ لِلَّهِ وَلِمَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَكَذَلِكَ مُوَالَاتُهُ وَمُعَادَاتُهُ وَإِلَّا فَمَحَبَّةُ الْمَخْلُوقِ تَجْذِبُهُ وَحُبُّ الْخَلْقِ لَهُ سَبَبٌ يَجْذِبُهُمْ بِهِ إلَيْهِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ هَذَا أَقْوَى وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَقْوَى فَإِذَا كَانَ هُوَ غَالِبًا لِهَوَاهُ لَمْ يَجْذِبْهُ مَغْلُوبٌ مَعَ هَوَاهُ وَلَا مَحْبُوبَاتُهُ إلَيْهَا ؛ لِكَوْنِهِ غَالِبًا لِهَوَاهُ نَاهِيًا لِنَفْسِهِ عَنْ الْهَوَى لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ الَّتِي تَمْنَعُهُ عَنْ انْجِذَابِهِ إلَى الْمَحْبُوبَاتِ . وَأَمَّا حُبّ النَّاسِ لَهُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَجْذِبُوهُ هُمْ بِقُوَّتِهِمْ إلَيْهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ يَدْفَعُهُمْ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ
وَإِلَّا جَذَبُوهُ وَأَخَذُوهُ إلَيْهِمْ كَحُبِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ " يُوسُفَ " وَمَحَبَّتَهُ لِلَّهِ وَإِخْلَاصَهُ وَخَشْيَتَهُ كَانَتْ أَقْوَى مِنْ جَمَالِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَحُسْنِهَا وَحُبِّهِ لَهَا ، هَذَا إذَا أَحَبّ أَحَدُهُمْ صُورَتَهُ مَعَ أَنَّ هُنَا الدَّاعِيَ قَوِيٌّ مِنْهُ وَمِنْهُمْ فَهُنَا الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَإِلَّا فَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَحَبَّةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْضُ الشَّرِّ بَيْنَهُمْ . وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } . وَقَدْ يُحِبُّونَهُ لِعِلْمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ إحْسَانِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَالْفِتْنَةُ فِي هَذَا أَعْظَمُ ؛ إلَّا إذَا كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ إيمَانِيَّةٌ وَخَشْيَةٌ وَتَوْحِيدٌ تَامٌّ ؛ فَإِنَّ فِتْنَةَ الْعِلْمِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ مَقَاصِدَهُمْ إنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَإِلَّا نَقَصَ الْحُبُّ . أَوْ حَصَلَ نَوْعُ بُغْضٍ وَرُبَّمَا زَادَ أَوْ أَدَّى إلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ حُبِّهِ فَصَارَ مَبْغُوضًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْبُوبًا فَأَصْدِقَاءُ الْإِنْسَانِ يُحِبُّونَ اسْتِخْدَامَهُ وَاسْتِعْمَالَهُ فِي أَغْرَاضِهِمْ حَتَّى يَكُونَ كَالْعَبْدِ لَهُمْ وَأَعْدَاؤُهُ يَسْعَوْنَ فِي أَذَاهُ وَإِضْرَارِهِ وَأُولَئِكَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ انْتِفَاعَهُمْ وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا لَهُ مُفْسِدًا لِدِينِهِ لَا يُفَكِّرُونَ فِي ذَلِكَ . وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ الشَّكُورُ . فَالطَّائِفَتَانِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَقْصِدُونَ نَفْعَهُ وَلَا دَفْعَ ضَرَرِهِ وَإِنَّمَا
يَقْصِدُونَ أَغْرَاضَهُمْ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِنْسَانُ عَابِدًا اللَّهَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُوَالِيًا لَهُ وَمُوَالِيًا فِيهِ وَمُعَادِيًا وَإِلَّا أَكَلَتْهُ الطَّائِفَتَانِ وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى هَلَاكِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ وَمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ الْمُحَارَبَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ . قَوْمٌ يُوَالُونَ زَيْدًا وَيُعَادُونَ عَمْرًا . وَآخَرُونَ بِالْعَكْسِ ؛ لِأَجْلِ أَغْرَاضِهِمْ فَإِذَا حَصَلُوا عَلَى أَغْرَاضِهِمْ مِمَّنْ يُوَالُونَهُ وَمَا هُمْ طالبونه مِنْ زَيْدٍ انْقَلَبُوا إلَى عَمْرٍو ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ عَمْرو كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ بَيْنَ أَصْنَافِ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ " الرَّأْسُ " مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَمِيلُ إلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُوَالُونَهُ وَهُمْ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُوَالَاةُ لِلَّهِ أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ أُولَئِكَ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ إفْسَادَ دُنْيَاهُ : إمَّا بِقَتْلِهِ أَوْ بِأَخْذِ مَالِهِ ، وَإِمَّا بِإِزَالَةِ مَنْصِبِهِ وَهَذَا كُلُّهُ ضَرَرٌ دُنْيَوِيٌّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ إذَا سَلَّمَ الْعَبْدُ وَهُوَ عَكْسُ حَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَمُحِبِّيهَا الَّذِينَ لَا يَعْتَدُّونَ بِفَسَادِ دِينِهِمْ مَعَ سَلَامَةِ دُنْيَاهُمْ . فَهُمْ لَا يُبَالُونَ بِذَلِكَ . وَأَمَّا " دِينُ الْعَبْدِ " الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا أَوْلِيَاؤُهُ الَّذِينَ يُوَالُونَهُ لِلْأَغْرَاضِ فَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ مِنْهُ فَسَادَ دِينِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ انْقَلَبُوا أَعْدَاءً . فَدَخَلَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ الْأَذَى مِنْ " جِهَتَيْنِ " :
مِنْ
جِهَةِ مُفَارَقَتِهِمْ .
وَمِنْ جِهَةِ عَدَاوَتِهِمْ .
وَعَدَاوَتُهُمْ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ أَعْدَائِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ
شَاهَدُوا مِنْهُ . وَعَرَفُوا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَعْدَاؤُهُ . فَاسْتَجْلَبُوا
بِذَلِكَ عَدَاوَةَ غَيْرِهِمْ فَتَتَضَاعَفُ الْعَدَاوَةُ . وَإِنْ لَمْ يُحِبّ
مُفَارَقَتَهُمْ احْتَاجَ إلَى مُدَاهَنَتِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى مَا
يُرِيدُونَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَسَادُ دِينِهِ . فَإِنْ سَاعَدَهُمْ عَلَى
نَيْلِ مَرْتَبَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ نَالَهُ مِمَّا يَعْمَلُونَ فِيهَا نَصِيبًا
وَافِرًا وَحَظًّا تَامًّا مِنْ ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ وَطَلَبُوا مِنْهُ
أَيْضًا أَنْ يُعَاوِنَهُمْ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ وَلَوْ فَاتَتْ أَغْرَاضُهُ
الدُّنْيَوِيَّةُ . فَكَيْفَ بِالدِّينِيَّةِ إنْ وُجِدَتْ فِيهِ أَوْ عِنْدَهُ فَإِنَّ
الْإِنْسَانَ ظَالِمٌ جَاهِلٌ لَا يَطْلُبُ إلَّا هَوَاهُ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
هَذَا فِي الْبَاطِنِ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ . وَيَقْضِي
حَوَائِجَهُمْ لِلَّهِ وَتَكُونُ اسْتِعَانَتُهُ عَلَيْهِمْ بِاَللَّهِ تَامَّةً
وَتَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَامٌّ . وَإِلَّا أَفْسَدُوا دِينَهُ وَدُنْيَاهُ
كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْمُشَاهَدُ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ يَطْلُبُ الرِّئَاسَةَ
الدُّنْيَوِيَّةَ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْمَعَاصِي مَا
يَنَالُ بِهِ تِلْكَ الرِّئَاسَةَ وَيُحْسِنُ لَهُ هَذَا الرَّأْيَ ، وَيُعَادِيهِ
إنْ لَمْ يَقُمْ مَعَهُ كَمَا قَدْ
جَرَى ذَلِكَ مَعَ غَيْرِ وَاحِدٍ . وَذَلِكَ يَجْرِي فِيمَنْ يُحِبُّ شَخْصًا لِصُورَتِهِ فَإِنَّهُ يَخْدِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُعْطِيه مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَطْلُبُ مِنْهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ مَا يُفْسِدُ دِينَهُ . وَفِيمَنْ يُحِبُّ صَاحِبَ " بِدْعَةٍ " لِكَوْنِهِ لَهُ دَاعِيَةً إلَى تِلْكَ الْبِدْعَةِ يحوجه إلَى أَنْ يَنْصُرَ الْبَاطِلَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ . وَإِلَّا عَادَاهُ وَلِهَذَا صَارَ عُلَمَاءُ الْكُفَّارِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ يَنْصُرُونَ ذَلِكَ الْبَاطِلَ ؛ لِأَجْلِ الْأَتْبَاعِ وَالْمُحِبِّينَ وَيُعَادُونَ أَهْلَ الْحَقِّ وَيَهْجُنُونَ طَرِيقَهُمْ . فَمَنْ أَحَبّ غَيْرَ اللَّهِ وَوَالَى غَيْرَهُ كَرِهَ مُحِبَّ اللَّهِ وَوَلِيَّهُ وَمَنْ أَحَبَّ أَحَدًا لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ ضَرَرُ أَصْدِقَائِهِ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ ضَرَرِ أَعْدَائِهِ ؛ فَإِنَّ أَعْدَاءَهُ غَايَتُهُمْ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْمَحْبُوبِ الدُّنْيَوِيِّ ، وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِ ، وَأَصْدِقَاؤُهُ يُسَاعِدُونَهُ عَلَى نَفْيِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَذَهَابِهَا عَنْهُ ، فَأَيُّ صَدَاقَةٍ هَذِهِ وَيُحِبُّونَ بَقَاءَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ لِيَسْتَعْمِلُوهُ فِي أَغْرَاضِهِمْ وَفِيمَا يُحِبُّونَهُ وَكِلَاهُمَا ضَرَرٌ عَلَيْهِ . قَالَ تَعَالَى : { إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثٍ
عَنْ
مُجَاهِدٍ : هِيَ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ ،
وَالْوَصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا { وَقَالَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا
مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ
بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } . فَالْأَعْمَالُ الَّتِي أَرَاهُمْ اللَّهُ
حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ : هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ مَعَ
بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَمِنْهَا الْمُوَالَاةُ
وَالصُّحْبَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِغَيْرِ اللَّهِ . فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي أَنْ
يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْئًا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إلَّا بِاَللَّهِ .
فَصْلٌ :
وَمِمَّا يُحَقِّقُ هَذِهِ الْأُمُورَ أَنَّ الْمُحِبَّ يَجْذِبُ وَالْمَحْبُوبَ
يُجْذَبُ . فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا جَذَبَهُ إلَيْهِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وَمَنْ
أَحَبَّ صُورَةً جَذَبَتْهُ تِلْكَ الصُّورَةُ إلَى الْمَحْبُوبِ الْمَوْجُودِ فِي
الْخَارِجِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ عِلَّتُهُ فَاعِلِيَّةٌ
وَالْمَحْبُوبَ عِلَّتُهُ غائية وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُودِ
الْمَعْلُولِ وَالْمُحِبُّ إنَّمَا يَجْذِبُ الْمَحْبُوبَ بِمَا فِي قَلْبِ
الْمُحِبِّ مِنْ صُورَتِهِ الَّتِي يَتَمَثَّلُهَا ؛ فَتِلْكَ الصُّورَةُ
تَجْذِبُهُ بِمَعْنَى انْجِذَابِهِ إلَيْهَا ، لَا أَنَّهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا
قَصْدٌ وَفِعْلٌ ؛ فَإِنَّ فِي الْمَحْبُوبِ مِنْ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ مَا
يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْمُحِبِّ إلَيْهِ كَمَا يَنْجَذِبُ الْإِنْسَانُ إلَى
الطَّعَامِ لِيَأْكُلَهُ وَإِلَى امْرَأَةٍ لِيُبَاشِرَهَا وَإِلَى
صَدِيقِهِ لِيُعَاشِرَهُ وَكَمَا تَنْجَذِبُ قُلُوبُ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ لِمَا اتَّصَفَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ لِأَجْلِهَا أَنْ يُحَبّ وَيُعْبَدَ . بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَبّ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ لِذَاتِهِ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ فَكُلُّ مَحْبُوبٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُحَبّ لِغَيْرِهِ لَا لِذَاتِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُحَبّ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مِنْ مَعَانِي إلَهِيَّتِهِ و { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } فَإِنَّ مَحَبَّةَ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ شِرْكٌ فَلَا يُحَبُّ لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ إلَهِيَّتِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَحْبُوبٍ سِوَاهُ إنْ لَمْ يُحَبّ لِأَجْلِهِ أَوْ لِمَا يُحَبُّ لِأَجْلِهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي النُّفُوسِ حُبّ الْغِذَاءِ وَحُبَّ النِّسَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِفْظِ الْأَبْدَانِ ، وَبَقَاءِ الْإِنْسَانِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا حُبّ الْغِذَاءِ لَمَا أَكَلَ النَّاسُ فَفَسَدَتْ أَبْدَانُهُمْ وَلَوْلَا حُبُّ النِّسَاءِ لَمَا تَزَوَّجُوا فَانْقَطَعَ النَّسْلُ . وَالْمَقْصُودُ بِوُجُودِ ذَلِكَ بَقَاءُ كُلٍّ مِنْهُمْ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمَعْبُودَ لِذَاتِهِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ غَيْرُهُ . وَإِنَّمَا تُحَبُّ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ حُبّ مَا يُحِبُّهُ وَهُوَ يُحِبُّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَيُحِبُّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، فَحُبُّهَا
لِلَّهِ هُوَ مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ وَأَمَّا الْحُبُّ مَعَهُ فَهُوَ حُبُّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، فَالْمَخْلُوقُ إذَا أَحَبَّ لِلَّهِ كَانَ حُبُّهُ جَاذِبًا إلَى حُبِّ اللَّهِ وَإِذَا تَحَابَّ الرَّجُلَانِ فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ؛ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَاذِبًا لِلْآخَرِ إلَى حُبّ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ وَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءِ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ وَهُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَمْوَالٍ يتباذلونها وَلَا أَرْحَامٍ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا إنَّ لِوُجُوهِهِمْ لَنُورًا وَإِنَّهُمْ لَعَلَى كَرَاسٍ مِنْ نُورٍ لَا يَخَافُونَ إذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إذَا حَزِنَ النَّاسُ } فَإِنَّك إذَا أَحْبَبْت الشَّخْصَ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ فَكُلَّمَا تَصَوَّرْته فِي قَلْبِك تَصَوَّرْت مَحْبُوبَ الْحَقِّ فَأَحْبَبْته فَازْدَادَ حُبُّك لِلَّهِ . كَمَا إذَا ذَكَرْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَصْحَابَهُمْ الصَّالِحِينَ وَتَصَوَّرْتهمْ فِي قَلْبِك فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْذِبُ قَلْبَك إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ وَبِهِمْ إذَا كُنْت تُحِبُّهُمْ لِلَّهِ فَالْمَحْبُوبُ لِلَّهِ يُجْذَبُ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَالْمُحِبُّ لِلَّهِ إذَا أَحَبّ شَخْصًا لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَحْبُوبُهُ فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَجْذِبَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكُلٌّ مِنْ الْمُحِبِّ لِلَّهِ وَالْمَحْبُوبِ لِلَّهِ يُجْذَبُ إلَى اللَّهِ . وَهَكَذَا إذَا كَانَ الْحُبُّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا إذَا أَحَبّ كُلٌّ مِنْ الشَّخْصَيْنِ
الْآخَرَ بِصُورَةِ : كَالْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَطْلُبُ الْمَحْبُوبَ وَالْمَحْبُوبُ يَطْلُبُ الْمُحِبَّ بِانْجِذَابِ الْمَحْبُوبِ فَإِذَا كَانَا مُتَحَابَّيْنِ صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَاذِبًا مَجْذُوبًا مِنْ الْوَجْهَيْنِ فَيَجِبُ الِاتِّصَالُ وَلَوْ كَانَ الْحُبُّ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَكَانَ الْمُحِبُّ يَجْذِبُ الْمَحْبُوبَ وَالْمَحْبُوبُ يَجْذِبُهُ لَكِنَّ الْمَحْبُوبَ لَا يَقْصِدُ جَذْبَهُ وَالْمُحِبُّ يَقْصِدُ جَذْبَهُ وَيَنْجَذِبُ وَهَذَا " سَبَبُ التَّأْثِيرِ فِي الْمَحْبُوبِ " إمَّا تَمَثُّلٌ يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ فَيَنْجَذِبُ وَإِمَّا أَنْ يَنْجَذِبَ بِلَا مَحَبَّةٍ : كَمَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَيَلْبَسُ الثَّوْبَ وَيَسْكُنُ الدَّارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي لَا إرَادَةَ لَهَا . وَأَمَّا " الْحَيَوَانُ " فَيُحِبُّ بَعْضُهُ بَعْضًا بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِ وَقَدْ جُبِلَتْ النُّفُوسُ عَلَى حُبّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا لَكِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مَحَبَّةُ الْإِحْسَانِ لَا نَفْسُ الْمُحْسِنِ وَلَوْ قُطِعَ ذَلِكَ لَاضْمَحَلَّ ذَلِكَ الْحُبُّ وَرُبَّمَا أَعْقَبَ بُغْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يُعْطِيه فَمَا أَحَبّ إلَّا الْعَطَاءَ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُحِبُّ مَنْ يُعْطِيه لِلَّهِ فَهَذَا كَذِبٌ وَمُحَالٌ وَزُورٌ مِنْ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يَنْصُرُهُ إنَّمَا أَحَبّ النَّصْرَ لَا النَّاصِرَ . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ اتِّبَاعِ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فَإِنَّهُ لَمْ يُحِبّ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ فَهُوَ إنَّمَا أَحَبَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ وَإِنَّمَا
أَحَبّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَيْسَ هَذَا حُبًّا لِلَّهِ وَلَا لِذَاتِ الْمَحْبُوبِ . وَعَلَى هَذَا تَجْرِي عَامَّةُ مَحَبَّةِ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَهَذَا لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ بَلْ رُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى النِّفَاقِ وَالْمُدَاهَنَةِ فَكَانُوا فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْأَخِلَّاءِ الَّذِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ . وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ وَحْدَهُ وَأَمَّا مَنْ يَرْجُو النَّفْعَ وَالنَّصْرَ مِنْ شَخْصٍ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ فَهَذَا مِنْ دَسَائِسِ النُّفُوسِ وَنِفَاقِ الْأَقْوَالِ . وَإِنَّمَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ الْحُبُّ لِلَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِكَوْنِ حُبِّهِمْ يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَهُمْ . وَنَبِيُّنَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَيَدَعُ آخَرِينَ هُمْ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ الَّذِي يُعْطِي ؛ يَكِلُهُمْ إلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ ؛ لِيَكُونَ مَا يُعْطِيهِمْ سَبَبًا لِجَلْبِ قُلُوبِهِمْ إلَى أَنْ يُحِبُّوا الْإِسْلَامَ فَيُحِبُّوا اللَّهَ فَكَانَ مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ دَعْوَةَ الْقُلُوبِ إلَى حُبّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَرْفِهَا عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُعْطِي أَقْوَامًا خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُمْ اللَّهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ فَمَنَعَهُمْ بِذَلِكَ الْعَطَاءِ عَمَّا
يَكْرَهُهُ مِنْهُمْ فَكَانَ يُعْطِي لِلَّهِ وَيَمْنَعُ لِلَّهِ . وَقَدْ قَالَ : { مَنْ أَحَبّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي وَاَللَّهِ إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَلَكِنْ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } . وَصُورَةُ الْمَحْبُوبِ الْمُتَمَثِّلَةُ فِي النَّفْسِ يَتَحَرَّكُ لَهَا الْمُحِبُّ وَيُرِيدُ لَهَا وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَبْتَهِجُ وَيَنْشَرِحُ عِنْدَ ذِكْرِهَا مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَتْ فَتَبْقَى هِيَ كَالْآمِرِ النَّاهِي لَهُ ؛ وَلِهَذَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ كَأَنَّهَا تُخَاطِبُهُ بِأَمْرِ وَنَهْيٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَرَى كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ فِي مَنَامِهِ وَهُوَ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ وَيُخْبِرُهُ بِأُمُورِ . وَالْمُشْرِكُونَ تَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيَاطِينُ فِي صُوَرِ مَنْ يَعْبُدُونَهُ . تَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ . وَالْقَائِلُونَ بِالشَّاهِدِ وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّلُوكِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : إنَّهُ يُخَاطِبُ فِي بَاطِنِهِ عَلَى لِسَانِ الشَّاهِدِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَذَاكَ بِإِزَائِهِ لِيُشَاهِدَهُ فِي الضَّوْءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَاهِدُهُ فِي حَالِ السَّمَاعِ فِي غَيْرِهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ وَيَجِدُونَ الْمَزِيدَ فِي قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَمَثَّلُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ فَيَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ خِطَابًا مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ فَيَقُولُونَ خُوطِبْنَا مِنْ جِهَتِهِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي
الْمُخَاطَبِ
فَمَنْ الْمُخَاطِبُ لَهُ ؟ فَالْفُرْقَانُ هُنَا . فَإِنَّمَا ذَلِكَ
الْمُخَاطَبُ مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ . وَقَدْ يُخَاطَبُونَ
بِأَشْيَاءَ حَسَنَةٍ رَشْوَةً مِنْهُ لَهُمْ وَلَا يُخَاطَبُونَ بِمَا
يَعْرِفُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِئَلَّا يُنَفَّرُونَ مِنْهُ بَلْ الشَّيْطَانُ
يُخَاطِبُ أَحَدَهُمْ بِمَا يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ وَالرَّاهِبُ إذَا رَاضَ نَفْسَهُ
فَمَرَّةً يَرَى فِي نَفْسِهِ صُورَةَ التَّثْلِيثِ وَرُبَّمَا خُوطِبَ مِنْهَا
لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ يَتَمَثَّلُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا انصقلت نَفْسُهُ
بِالرِّيَاضَةِ ظَهَرَتْ لَهُ وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يَرَى الرَّسُولَ فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَكَذَلِكَ يَرَى اللَّهَ
تَعَالَى فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ . وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ يَكُونُ
مِنْ أَعْوَانِ الْكُفَّارِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ وَيُخَاطَبُ
بِهِ وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ
مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْآمِرُ لَهُ بِذَلِكَ النَّفْسُ
وَالشَّيْطَانُ وَمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الشِّرْكِ إذْ لَوْ كَانَ مُخْلِصًا
لِلَّهِ الدِّينَ لَمَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ
إلَّا لِمَنْ فِيهِ شِرْكٌ فِي عِبَادَتِهِ أَوْ عِنْدَهُ بِدْعَةٌ وَلَا يَقَعُ
هَذَا لِمُخْلِصِ مُتَمَسِّكٍ بِالسُّنَّةِ أَلْبَتَّةَ .
وَإِذَا كَانَتْ " الرُّؤْيَا " عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
" :
رُؤْيَا مِنْ اللَّهِ .
وَرُؤْيَا مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ . وَرُؤْيَا مِنْ الشَّيْطَانِ فَكَذَلِكَ مَا يُلْقَى فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ فِي حَالِ يَقَظَتِهِ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَحْوَالُ " ثَلَاثَةً " رَحْمَانِيٌّ وَنَفْسَانِيٌّ وَشَيْطَانِيٌّ . وَمَا يَحْصُلُ مِنْ نَوْعِ الْمُكَاشَفَةِ وَالتَّصَرُّفِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " مَلَكِيٌّ وَنَفْسِيٌّ وَشَيْطَانِيٌّ فَإِنَّ الْمَلَكَ لَهُ قُوَّةٌ وَالنَّفْسَ لَهَا قُوَّةٌ وَالشَّيْطَانَ لَهُ قُوَّةٌ وَقَلْبَ الْمُؤْمِنِ لَهُ قُوَّةٌ . فَمَا كَانَ مِنْ الْمَلَكِ وَمِنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَةِ النَّفْسِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَدْ اشْتَبَهَ هَذَا بِهَذَا عَلَى طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ بَلْ صَارُوا يَظُنُّونَ فِي مَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ - أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ - أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَلِهَذَا فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَرَى جَوَازَ قِتَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْأَنْوَاعِ الشَّيْطَانِيَّةِ والنفسانية مَا ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُمْ تَعَبَّدُوا بِمَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ ؛ وَأَمَّا الْعِبَادَةُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ فَلَا يُحِبُّونَهُ وَلَا يُرِيدُونَهُ وَحْدَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَرُسُلُهُ حَطَّ لَهُمْ عَنْ مَنْصِبِ الْوِلَايَةِ فَيُحْدِثُونَ مَحَبَّةً قَوِيَّةً وَتَأَلُّهًا وَعِبَادَةً وَشَوْقًا وَزُهْدًا ؛ وَلَكِنْ فِيهِ شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ . وَمَحَبَّةُ " التَّوْحِيدِ " إنَّمَا تَكُونُ لِلَّهِ وَحْدَهُ عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فَلِهَذَا يَكُونُ أَهْلُ الِاتِّبَاعِ فِيهِمْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ فِي مَحَبَّتِهِمْ ؛ يُحِبُّونَ لِلَّهِ وَيَبْغَضُونَ لَهُ . وَهُمْ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ . وَاَلَّذِينَ مَعَهُ { إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَأُولَئِكَ مَحَبَّتُهُمْ فِيهَا شِرْكٌ وَلَيْسُوا مُتَابِعِينَ لِلرَّسُولِ وَلَا مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَيْسَتْ هِيَ الْمَحَبَّةُ الإخلاصية . فَإِنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالتَّوْحِيدِ . وَلِهَذَا سَمَّى أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ كِتَابَهُ " قُوتَ الْقُلُوبِ فِي مُعَامَلَةِ الْمَحْبُوبِ وَوَصْفِ طَرِيقِ الْمُرِيدِ إلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ " وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضاً :
فَصْل قَدْ كَتَبْت فِي كُرَّاسَةِ الْحَوَادِثِ فَصْلًا فِي " جِمَاعِ
الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ " : وَأَنَّ " الزُّهْدَ " هُوَ عَمَّا لَا
يَنْفَعُ إمَّا لِانْتِفَاءِ نَفْعِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مَرْجُوحًا ؛ لِأَنَّهُ
مُفَوِّتٌ لِمَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْهُ أَوْ مُحَصِّلٌ لِمَا يَرْبُو ضَرَرُهُ
عَلَى نَفْعِهِ . وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْخَالِصَةُ أَوْ الرَّاجِحَةُ : فَالزُّهْدُ
فِيهَا حُمْقٌ . وَأَمَّا " الْوَرَعُ " فَإِنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا
قَدْ يَضُرُّ فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُحَرَّمَاتُ وَالشُّبُهَاتُ لِأَنَّهَا قَدْ
تَضُرُّ . فَإِنَّهُ مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ
وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى
يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ . وَأَمَّا " الْوَرَعُ " عَمَّا لَا
مَضَرَّةَ فِيهِ أَوْ فِيهِ مَضَرَّةٌ مَرْجُوحَةٌ - لِمَا
تَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ أُخْرَى رَاجِحَةٍ - فَجَهْلٌ وَظُلْمٌ . وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ " ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ " لَا يَتَوَرَّعُ عَنْهَا : الْمَنَافِعُ الْمُكَافِئَةُ وَالرَّاجِحَةُ وَالْخَالِصَةُ : كَالْمُبَاحِ الْمَحْضِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ أَوْ الْوَاجِبِ فَإِنَّ الْوَرَعَ عَنْهَا ضَلَالَةٌ . وَأَنَا أَذْكُرُ هُنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فَأَقُولُ : " الزُّهْدُ " خِلَافُ الرَّغْبَةِ . يُقَالُ : فُلَانٌ زَاهِدٌ فِي كَذَا . وَفُلَانٌ رَاغِبٌ فِيهِ . وَ " الرَّغْبَةُ " هِيَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ . فَالزُّهْدُ فِي الشَّيْءِ انْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ لَهُ إمَّا مَعَ وُجُودِ كَرَاهَتِهِ وَإِمَّا مَعَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَا مُرِيدًا لَهُ وَلَا كَارِهًا لَهُ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الشَّيْءِ وَيُرِيدُهُ فَهُوَ زَاهِدٌ فِيهِ . وَكَمَا أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ يُحْمَدُ فِيهِ الزُّهْدُ فِيمَا زَهِدَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الدُّنْيَا فَتُحْمَدُ فِيهِ الرَّغْبَةُ وَالْإِرَادَةُ لَمَّا حَمِدَ اللَّهُ إرَادَتَهُ وَالرَّغْبَةَ فِيهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَسَاسُ الطَّرِيقِ الْإِرَادَةَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ .
كَمَا رَغِبَ فِي " الزُّهْدِ " وَذَمَّ ضِدَّهُ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } السُّورَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا } { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } وَقَالَ : { إنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } الْآيَةَ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا تَمَيُّزُ " الزُّهْدِ الشَّرْعِيِّ " مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الزُّهْدُ الْمَحْمُودُ وَتَمَيُّزُ " الرَّغْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ " مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ الرَّغْبَةُ الْمَحْمُودَةُ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ الزُّهْدُ بِالْكَسَلِ وَالْعَجْزِ وَالْبِطَالَةِ عَنْ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَثِيرًا مَا تَشْتَبِهُ الرَّغْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِالْحِرْصِ وَالطَّمَعِ وَالْعَمَلِ الَّذِي ضَلَّ سَعْيُ صَاحِبِهِ . وَأَمَّا " الْوَرَعُ " فَهُوَ اجْتِنَابُ الْفِعْلِ وَاتِّقَاؤُهُ وَالْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَالْحَذَرُ مِنْهُ وَهُوَ يَعُودُ إلَى كَرَاهَةِ الْأَمْرِ وَالنُّفْرَةِ مِنْهُ وَالْبُغْضِ لَهُ وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَيْضًا - وَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَلَفَ فِي الْمَطْلُوبِ بِالنَّهْيِ . هَلْ هُوَ عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ فِعْلُ ضِدِّهِ ؟ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ عَلَى الثَّانِي - فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى وَرِعًا وَمُتَوَرِّعًا وَمُتَّقِيًا إلَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ وَالْإِمْسَاكُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
وَ" التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَحْصُلُ لَهُ عَدَمُ مَضَرَّةِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ ذَمُّهُ وَعِقَابُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمَعَ وُجُودِ الِامْتِنَاعِ وَالِاتِّقَاءِ وَالِاجْتِنَابِ يَكُونُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَطَاعَةٌ وَتَقْوَى فَيَحْصُلُ لَهُ مَنْفَعَةُ هَذَا الْعَمَلِ مِنْ حَمْدِهِ وَثَوَابِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَعَدَمُ الْمَضَرَّةِ لِعَدَمِ السَّيِّئَاتِ وَوُجُودُ الْمَنْفَعَةِ لِوُجُودِ الْحَسَنَاتِ . فَتَلَخَّصَ أَنَّ " الزُّهْدَ " مِنْ بَابِ عَدَمِ الرَّغْبَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي الْمَزْهُودِ فِيهِ . وَ " الْوَرَعُ " مِنْ بَابِ وُجُودِ النُّفْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ لِلْمُتَوَرَّعِ عَنْهُ وَانْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ خَالِصَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ " . وَأَمَّا وُجُودُ الْكَرَاهَةِ فَإِنَّمَا يَصْلُحُ فِيمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ خَالِصَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ فَأَمَّا إذَا فُرِضَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا مَضَرَّةَ أَوْ مَنْفَعَتُهُ وَمَضَرَّتُهُ سَوَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُكْرَهَ فَيَصْلُحُ فِيهِ الزُّهْدُ وَلَا يَصْلُحُ فِيهِ الْوَرَعُ فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ فِيهِ الْوَرَعُ يَصْلُحُ فِيهِ الزُّهْدُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَهَذَا بَيِّنٌ . فَإِنَّ مَا صَلَحَ أَنْ يُكْرَهَ وَيُنَفَّرَ عَنْهُ صَلُحَ أَلَّا يُرَادَ وَلَا يُرْغَبَ فِيهِ فَإِنَّ عَدَمَ الْإِرَادَةِ أَوْلَى مِنْ وُجُودِ الْكَرَاهَةِ ؛ وَوُجُودَ الْكَرَاهَةِ مُسْتَلْزِمٌ عَدَمَ الْإِرَادَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ . وَلَيْسَ كُلُّ مَا صَلُحَ أَلَّا يُرَادَ يَصْلُحُ أَنْ يُكْرَهَ ؛ بَلْ قَدْ يَعْرِضُ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا تَصْلُحُ إرَادَتُهُ وَلَا كَرَاهَتُهُ وَلَا حُبُّهُ وَلَا بُغْضُهُ وَلَا الْأَمْرُ بِهِ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ .
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ : أَنَّ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات لَا يَصْلُحُ فِيهَا زُهْدٌ وَلَا وَرَعٌ ؛ وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ فَيَصْلُحُ فِيهَا الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ . وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَيَصْلُحُ فِيهَا الزُّهْدُ دُونَ الْوَرَعِ وَهَذَا الْقَدْرُ ظَاهِرٌ تَعْرِفُهُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ . وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيمَا إذَا تَعَارَضَ فِي الْفِعْلِ . هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ ؟ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؟ أَوْ مُبَاحٌ ؟ وَفِيمَا إذَا اقْتَرَنَ بِمَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ مَا يَجْعَلُهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ اقْتَرَنَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مَا يَجْعَلُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَبِالْعَكْسِ . فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَتَعَارُضِهَا ؛ يُحْتَاجُ إلَى الْفُرْقَانِ .
وَقَالَ
:
فَصْل :
قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ لَيْسَ
بِمُسْتَقِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ طَوَائِفُ عَلَى
أَنْوَاعٍ مِنْ " الرَّهْبَانِيّاتِ وَالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ "
الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيمَاتِ
الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَمِثْلُ
التَّعَمُّقِ وَالتَّنَطُّعِ الَّذِي ذَمَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ } وَقَالَ : { لَوْ مُدَّ
لِي الشَّهْرُ لَوَاصَلْت وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ } -
مِثْلُ الْجُوعِ أَوْ الْعَطَشِ الْمُفْرِطِ الَّذِي يَضُرُّ الْعَقْلَ
وَالْجِسْمَ وَيَمْنَعُ أَدَاءَ وَاجِبَاتٍ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ أَنْفَع مِنْهُ
وَكَذَلِكَ الِاحْتِفَاءُ وَالتَّعَرِّي وَالْمَشْيُ الَّذِي يَضُرُّ الْإِنْسَانَ
بِلَا فَائِدَةٍ : مِثْلُ { حَدِيثِ أَبِي إسْرَائِيلَ الَّذِي نَذَرَ أَنْ
يَصُومَ وَأَنْ يَقُومَ قَائِمًا وَلَا يَجْلِسُ وَلَا يَسْتَظِلُّ وَلَا
يَتَكَلَّمُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوهُ
فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ
صَوْمَهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَأَمَّا الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الطَّاعَةِ فَقَدْ تَكُونُ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي عَمَلٍ مُيَسَّرٍ كَمَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ " الْكَلِمَتَيْنِ " وَهُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَلَوْ قِيلَ : الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَفَائِدَتِهِ لَكَانَ صَحِيحًا اتِّصَافُ " الْأَوَّلِ " بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْأَمْرِ . وَ " الثَّانِي " بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ فِي نَفْسِهِ . وَالْعَمَلُ تَكُونُ مَنْفَعَتُهُ وَفَائِدَتُهُ تَارَةً مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ فَقَطْ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ صِفَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَتَارَةً مِنْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ . فَبِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ يَنْقَسِمُ إلَى طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ وَبِالثَّانِي يَنْقَسِمُ إلَى حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ ، وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ اسْمٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ اسْمٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ . . . (1) وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يُثْبِتُ إلَّا " الْأَوَّلَ " كَمَا تَقُولُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُثْبِتُ إلَّا " الثَّانِيَ " كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَطَائِفَةٌ
مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَالصَّوَابُ إثْبَاتُ الِاعْتِبَارَيْنِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْأَئِمَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . فَأَمَّا كَوْنُهُ مشقا فَلَيْسَ هُوَ سَبَبًا لِفَضْلِ الْعَمَلِ وَرُجْحَانِهِ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْفَاضِلُ مشقا فَفَضْلُهُ لِمَعْنَى غَيْرِ مَشَقَّتِهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَشَقَّةِ يَزِيدُ ثَوَابَهُ وَأَجْرَهُ فَيَزْدَادُ الثَّوَابُ بِالْمَشَقَّةِ كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ بُعْدُهُ عَنْ الْبَيْتِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَكْثَرَ : يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ مِنْ الْقَرِيبِ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي الْعُمْرَةِ : أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك } لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ فِي بُعْدِ الْمَسَافَةِ وَبِالْبُعْدِ يَكْثُرُ النَّصَبُ فَيَكْثُرُ الْأَجْرُ وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَاَلَّذِي يَقْرَؤُهُ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ } فَكَثِيرًا مَا يَكْثُرُ الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ لَا لِأَنَّ التَّعَبَ وَالْمَشَقَّةَ مَقْصُودٌ مِنْ الْعَمَلِ ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ هَذَا فِي شَرْعِنَا الَّذِي رُفِعَتْ عَنَّا فِيهِ الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ وَلَمْ يُجْعَلْ عَلَيْنَا فِيهِ حَرَجٌ وَلَا أُرِيدَ بِنَا فِيهِ الْعُسْرُ ؛ وَأَمَّا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَقَدْ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ مَطْلُوبَةً مِنْهُمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ يَرَى جِنْسَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ وَالتَّعَبِ مَطْلُوبًا مُقَرِّبًا إلَى اللَّهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ نُفْرَةِ النَّفْسِ عَنْ اللَّذَّاتِ وَالرُّكُونِ
إلَى الدُّنْيَا وَانْقِطَاعِ الْقَلْبِ عَنْ عَلَاقَةِ الْجَسَدِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ زُهْدِ الصَّابِئَةِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ مَعَ مَنْ شَابَهَهُمْ مِنْ الرُّهْبَانِ يُعَالِجُونَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ الشَّدِيدَةَ الْمُتْعِبَةَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ والزهادات مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا وَلَا ثَمَرَةَ لَهَا وَلَا مَنْفَعَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُقَاوِمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ الَّذِي يَجِدُونَهُ . وَنَظِيرُ هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ مَدْحُ بَعْضِ الْجُهَّالِ بِأَنْ يَقُولَ : فُلَانٌ مَا نَكَحَ وَلَا ذَبَحَ . وَهَذَا مَدْحُ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ وَلَا يَذْبَحُونَ وَأَمَّا الْحُنَفَاءُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ مِنْ الدِّينِ الْفَاسِدِ وَهُوَ مَذْمُومٌ كَمَا أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ إلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَذْمُومٌ . وَالنَّاسُ أَقْسَامٌ . أَصْحَابُ " دُنْيَا مَحْضَةٍ " وَهُمْ الْمُعْرِضُونَ عَنْ الْآخِرَةِ . وَأَصْحَابُ " دِينٍ فَاسِدٍ " وَهُمْ الْكُفَّارُ وَالْمُبْتَدِعَةُ الَّذِينَ يَتَدَيَّنُونَ بِمَا لَمْ
يُشَرِّعْهُ اللَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ والزهادات . وَ " الْقِسْمُ الثَّالِثُ " وَهُمْ أَهْلُ الدِّينِ الصَّحِيحِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الْمُسْتَمْسِكُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ : فِي " تَزْكِيَةِ النَّفْسِ " وَكَيْفَ تَزْكُو بِتَرْكِ
الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ .
قَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } و { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى } . قَالَ قتادة وَابْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُمَا : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ
وَالزَّجَّاجُ : قَدْ أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ وَقَدْ خَابَتْ نَفْسٌ
دَسَّاهَا اللَّهُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ
مُنْقَطِعٌ . وَ لَيْسَ هُوَ مُرَادُ الْآيَةِ (1) ؛ بَلْ الْمُرَادُ بِهَا
الْأَوَّلُ قَطْعًا لَفْظًا وَمَعْنًى . أَمَّا " اللَّفْظُ "
فَقَوْلُهُ : مَنْ زَكَّاهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَائِدٍ
عَلَى مَنْ فَإِذَا قِيلَ : قَدْ أَفْلَحَ الشَّخْصُ الَّذِي زَكَّاهَا كَانَ ضَمِيرُ الشَّخْصِ فِي زَكَّاهَا يَعُودُ عَلَى ( مَنْ ) هَذَا وَجْهُ الْكَلَامِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهِ كَمَا يُقَالُ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَطَاعَ رَبَّهُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَعْنَى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهُ اللَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْجُمْلَةِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ( مَنْ فَإِنَّ الضَّمِيرَ عَلَى هَذَا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ ( مَنْ ) وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ يَعُودُ عَلَى النَّفْسِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَعُودُ عَلَى ( مَنْ ) لَا ضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَلَا الْمَفْعُولِ . فَتَخْلُو الصِّلَةُ مِنْ عَائِدٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ . نَعَمْ لَوْ قِيلَ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ زَكَّاهَا اللَّهُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ صَحَّ الْكَلَامُ وَخَفَاءُ هَذَا عَلَى مَنْ قَالَ بِهِ مِنْ النُّحَاةِ عَجَبٌ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ : قَدْ أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا . فَإِنَّهُ هنا كانت تَكُونُ زَكَّاهَا صِفَةً لِنَفْسِ لَا صِلَةً ؛ بَلْ قَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } فَالْجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ ( مَنْ ) لَا صِفَةَ لَهَا . وَلَا قَالَ أَيْضًا : قَدْ أَفْلَحَتْ النَّفْسُ الَّتِي زَكَّاهَا ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ وَجُعِلَ فِي زَكَّاهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ صَحَّ فَإِذَا تَكَلَّفُوا وَقَالُوا : التَّقْدِيرُ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } هِيَ النَّفْسُ الَّتِي زَكَّاهَا . وَقَالُوا : فِي زَكَّى ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ يَعُودُ عَلَى ( مَنْ وَهِيَ تَصْلُحُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ
وَالْوَاحِدُ وَالْعَدَدُ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَاهَا الْمُؤَنَّثِ وَتَأْنِيثُهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِهَذَا قِيلَ : { قَدْ أَفْلَحَ } وَلَمْ يَقُلْ قَدْ أَفْلَحَتْ قِيلَ لَهُمْ : هَذَا مَعَ أَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ وَمَنْ . . . (1) عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَنَا وَكَذَا قَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَ فِي لَفْظِ ( مَنْ ) وَمَا بَعْدَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّفْسُ الْمُؤَنَّثَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلَامِ مَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَتِهِ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يُصَانُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ فَلَوْ قُدِّرَ احْتِمَالُ عَوْدِ ضَمِيرِ ( زَكَّاهَا ) إلَى نَفْسٍ وَإِلَى ( مَنْ ) مَعَ أَنَّ لَفْظَ ( مَنْ ) لَا دَلِيلَ يُوجِبُ عَوْدَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ إعَادَتُهُ إلَى الْمُؤَنَّثِ أَوْلَى مِنْ إعَادَتِهِ إلَى مَا يَحْتَمِلُ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَهُوَ فِي التَّذْكِيرِ أَظْهَرَ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّأْنِيثِ فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَظْهَرِهِمَا وَمَنْ تَكَلَّفَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفِ وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَالْعُدُولُ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ إلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ نَصًّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُلْهِمُ التَّقْوَى وَالْفُجُورَ . وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَمْرُ النَّاسِ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَدْسِيَتِهَا كَقَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَمْرٌ لَهُمْ وَلَا نَهْيٌ ؛ وَلَا تَرْغِيبٌ وَلَا تَرْهِيبٌ . وَالْقُرْآنُ إذَا أَمَرَ أَوْ نَهَى لَا يَذْكُرُ مُجَرَّدَ " الْقَدَرِ " فَلَا يَقُولُ : مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ مُؤْمِنًا . بَلْ يَقُولُ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } إذْ ذِكْرُ مُجَرَّدِ الْقَدَرِ فِي هَذَا يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ وَلَا يَلِيقُ هَذَا بِأَضْعَفِ النَّاسِ عَقْلًا فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ يَذْكُرُ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَإِنَّمَا يَذْكُرُ الْقَدْرَ عِنْدَ بَيَانِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ : إمَّا بِمَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِمَّا بِإِنْعَامِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيَذْكُرُهُ فِي سِيَاقِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَمَّا فِي مَعْرِضِ الْأَمْرِ فَلَا يَذْكُرُهُ إلَّا عِنْدَ النِّعَمِ . كَقَوْلِهِ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا } الْآيَةَ فَهَذَا مُنَاسِبٌ . وَقَوْلُهُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جِنْسِ الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى . وَالْمَقْصُودُ " ذِكْرُ التَّزْكِيَةِ " قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الْآيَةَ . وَقَالَ : { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } وَقَالَ : { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَقَالَ : { وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } وَأَصْلُ " الزَّكَاةِ " الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ . وَمِنْهُ يُقَالُ : زَكَا الزَّرْعُ وَزَكَا
الْمَالُ إذَا نَمَا . وَلَنْ يَنْمُوَ الْخَيْرُ إلَّا بِتَرْكِ الشَّرِّ وَالزَّرْعُ لَا يَزْكُو حَتَّى يُزَالَ عَنْهُ الدَّغَلُ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ وَالْأَعْمَالُ لَا تَزْكُوَا حَتَّى يُزَالَ عَنْهَا مَا يُنَاقِضُهَا وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَزَكِّيًا إلَّا مَعَ تَرْكِ الشَّرِّ ؛ فَإِنَّهُ يُدَنِّسُ النَّفْسَ وَيُدَسِّيهَا . قَالَ الزَّجَّاجُ : ( دَسَّاهَا جَعَلَهَا ذَلِيلَةً حَقِيرَةً خَسِيسَةً وَقَالَ الْفَرَّاءُ : دَسَّاهَا ؛ لِأَنَّ الْبَخِيلَ يُخْفِي نَفْسَهُ وَمَنْزِلَهُ وَمَالَهُ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : أَيْ أَخْفَاهَا بِالْفُجُورِ وَالْمَعْصِيَةِ فَالْفَاجِرُ دَسَّ نَفْسَهُ ؛ أَيْ قَمَعَهَا وَخَبَّاهَا وَصَانِعُ الْمَعْرُوفِ شَهَرَ نَفْسَهُ وَرَفَعَهَا وَكَانَتْ أَجْوَادُ الْعَرَبِ تَنْزِلُ الرُّبَى لِتُشْهِرَ أَنْفُسَهَا وَاللِّئَامُ تَنْزِلُ الْأَطْرَافَ وَالْوُدْيَانَ فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى يَبْسُطُ النَّفْسَ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ بِحَيْثُ يَجِدُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ اتِّسَاعًا وَبَسْطًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اتَّسَعَ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ بَسَطَهُ اللَّهُ وَشَرَحَ صَدْرَهُ . وَالْفُجُورُ وَالْبُخْلُ يَقْمَعُ النَّفْسَ وَيَضَعُهَا وَيُهِينُهَا بِحَيْثُ يَجِدُ الْبَخِيلُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ ضَيِّقٌ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَقَالَ : { مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اُضْطُرَّتْ أَيْدِيهمَا إلَى تَرَاقِيهِمَا . فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةِ اتَّسَعَتْ وَانْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ . وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةِ قلصت وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا وَأَنَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتهَا يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ } أَخْرَجَاهُ .
وَإِخْفَاءُ الْمَنْزِلِ وَإِظْهَارُهُ تَبَعًا لِذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى : { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } الْآيَةَ . فَهَكَذَا النَّفْسُ الْبَخِيلَةُ الْفَاجِرَةُ قَدْ دَسَّهَا صَاحِبُهَا فِي بَدَنِهِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَلِهَذَا وَقْتَ الْمَوْتِ تُنْزَعُ مِنْ بَدَنِهِ كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ وَالنَّفْسُ الْبَرَّةُ التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ الَّتِي قَدْ زَكَّاهَا صَاحِبُهَا فَارْتَفَعَتْ وَاتَّسَعَتْ وَمَجَّدَتْ وَنَبُلَتْ فَوَقْتَ الْمَوْتِ تَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ تَسِيلُ كَالْقَطْرَةِ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَكَالشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " إنَّ لِلْحَسَنَةِ لَنُورًا فِي الْقَلْبِ وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ لَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَضِيقًا فِي الرِّزْقِ وبغضة فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ " قَالَ تَعَالَى : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } الْآيَةَ . وَهَذَا مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ . قَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةَ . وَقَالَ لَهُ فِي سِيَاقِ الرَّمْيِ بِالْفَاحِشَةِ وَذَمِّ مَنْ أَحَبّ إظْهَارَهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَكَلِّمِ بِمَا لَا يَعْلَمُ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } الْآيَةَ . فَبَيَّنَ أَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِتَرْكِ الْفَاحِشَةِ وَلِهَذَا قَالَ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الْآيَةَ . وَذَلِكَ أَنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ النَّفْسِ فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مَذْمُومَةٌ وَمَكْرُوهٌ فِعْلُهَا وَيُجَاهِدُ نَفْسَهُ إذَا دَعَتْهُ إلَيْهَا إنْ كَانَ مُصَدِّقًا لِكِتَابِ
رَبِّهِ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ وَالْكَرَاهَةِ وَجِهَادِ النَّفْسِ أَعْمَالٌ تَعْمَلُهَا النَّفْسُ الْمُزَكَّاةُ فَتَزْكُو بِذَلِكَ أَيْضًا ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا عَمِلَتْ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهَا تَتَدَنَّسُ وَتَنْدَسُّ وَتَنْقَمِعُ كَالزَّرْعِ إذَا نَبَتَ مَعَهُ الدَّغَلُ . وَالثَّوَابُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ مَوْجُودٍ وَكَذَلِكَ الْعِقَابُ . فَأَمَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَلَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ لَكِنْ فِيهِ عَدَمُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالْخَيْرِ وَنَهَى عَنْ الشَّرِّ وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْأَمْرِ فِعْلٌ مَوْجُودٌ وَاخْتَلَفُوا فِي النَّهْيِ هَلْ الْمَطْلُوبُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَمْ عَدَمِيٌّ فَقِيلَ : وُجُودِيٌّ وَهُوَ التَّرْكُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ . وَقِيلَ : الْمَطْلُوبُ عَدَمُ الشَّرِّ وَهُوَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا نَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَلَا بُدَّ أَلَّا يَقْرَبَهُ وَيَعْزِمَ عَلَى تَرْكِهِ وَيُكْرَهَ فِعْلُهُ وَهَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ بِلَا رَيْبٍ ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ . . . (1) وُجُودِيٌّ لَكِنْ قَدْ لَا يَكُونُ مُرِيدًا لَهُ كَمَا يُكْرَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ طَبْعًا وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهِ لِطَاعَةِ الشَّارِعِ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَرَاهَةِ الطَّبْعِ وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ كَثَوَابِ مَنْ كَفَّ نَفْسَهُ وَجَاهَدَهَا عَنْ طَلَبِ
الْمُحَرَّمِ وَمَنْ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ لِلْمُحَرَّمَاتِ كَرَاهَةَ إيمَانٍ وَقَدْ غَمَرَ إيمَانُهُ حُكْمَ طَبْعِهِ فَهَذَا أَعْلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهَذَا صَاحِبُ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ وَهُوَ أَرْفَعُ مِنْ صَاحِبِ اللَّوَّامَةِ الَّتِي تَفْعَلُ الذَّنْبَ وَتَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَيْهِ وَتَتَلَوَّمُ وَتَتَرَدَّدُ هَلْ تَفْعَلُهُ أَمْ لَا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ وَلَا هُوَ مُرِيدٌ لَهُ ؛ بَلْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَهَذَا لَا يُعَاقَبُ . وَلَا يُثَابُ إذْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ يُعَاقَبُ فَمَنْ قَالَ : الْمَطْلُوبُ أَلَّا يَفْعَلَ إنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ يَكْفِي فِي عَدَمِ الْعِقَابِ فَقَدْ صَدَقَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَالْكَافِرُ إذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَلَا بُدَّ لِنَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالٍ يَشْتَغِلُ بِهَا عَنْ الْإِيمَانِ وَتَرْكُ الْأَعْمَالِ كُفْرٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ عُقُوبَةَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ ذَكَرَ أُمُورًا وُجُودِيَّةً وَتِلْكَ تَدُسُّ النَّفْسَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ أَعْظَمَ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ وَكَانَ الشِّرْكُ أَعْظَمَ مَا يُدَسِّيهَا وَتَتَزَكَّى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالصَّدَقَةِ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا ذَكَرَهُ السَّلَفُ . قَالُوا : فِي { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } تَطَهَّرَ مِنْ الشِّرْكِ وَمِنْ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَطَاءٍ وقتادة : صَدَقَةُ الْفِطْرِ . وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ إلَّا هِيَ بَلْ مَقْصُودُهُمْ : أَنَّ مَنْ أَعْطَى صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَصَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ وَمَا بَعْدَهَا وَلِهَذَا
كَانَ يَزِيدُ بْنُ حَبِيبٍ كُلَّمَا خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ خَرَجَ بِصَدَقَةِ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا بَصَلًا . قَالَ الْحَسَنُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } مَنْ كَانَ عَمَلُهُ زَاكِيًا وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ : زَكَاةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ : تَزَكَّى بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْنَى الزَّاكِي النَّامِي الْكَثِيرُ . وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لَا يُزَكُّونَ أَعْمَالَهُمْ أَيْ لَيْسَتْ زَاكِيَةً وَقِيلَ لَا يُطَهِّرُونَهَا بِالْإِخْلَاصِ كَأَنَّهُ أَرَادَ - وَاَللَّهُ أَعْلَم - أَهْلَ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ شِرْكٌ . وَعَنْ الْحَسَنِ : لَا يُؤْمِنُونَ بِالزَّكَاةِ وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا . وَعَنْ الضَّحَّاكِ : لَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ وَعَنْ ابْنِ السَّائِبِ : لَا يُعْطُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ . قَالَ : كَانُوا يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَلَا يُزَكُّونَ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَتَزَكَّى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . كَقَوْلِهِ : { هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى } وَقَوْلُهُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } وَالصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ لَمْ تَكُنْ فُرِضَتْ عِنْدَ نُزُولِهَا . فَإِنْ قِيلَ : ( يُؤْتَى فِعْلٌ مُتَعَدٍّ . قِيلَ : هَذَا كَقَوْلِهِ : { ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا } وَتَقَدَّمَ قَبْلَهَا أَنَّ
الرَّسُولَ دَعَاهُمْ وَهُوَ طَلَبٌ مِنْهُ فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُتَضَمِّنًا قِيَامَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالرُّسُلُ إنَّمَا يَدْعُونَهُمْ لِمَا تَزْكُو بِهِ أَنْفُسُهُمْ . وَمِمَّا يَلِيقُ : أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْتَلْزِمُ الطَّهَارَةَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى الطَّهَارَةِ . قَوْلُهُ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } مِنْ الشَّرِّ { وَتُزَكِّيهِمْ } بِالْخَيْرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالْمَاءِ وَالْبَرَدِ وَالثَّلْجِ } كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الِاسْتِفْتَاحِ وَفِي الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالْغُسْلِ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ تُوجِبُ تَبْرِيدَ الْمَغْسُولِ بِهَا وَ " الْبَرَدُ " يُعْطِي قُوَّةً وَصَلَابَةً وَمَا يَسُرُّ يُوصَفُ بِالْبَرَدِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ دَمْعُ السُّرُورِ بَارِدًا وَدَمْعُ الْحُزْنِ حَارًّا ؛ لِأَنَّ مَا يَسُوءُ النَّفْسَ يُوجِبُ حُزْنَهَا وَغَمَّهَا وَمَا يَسُرُّهَا يُوجِبُ فَرَحَهَا وَسُرُورَهَا وَذَلِكَ مِمَّا يُبَرِّدُ الْبَاطِنَ . فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْسِلَ الذُّنُوبَ عَلَى وَجْهٍ يُبَرِّدُ الْقُلُوبَ أَعْظَمَ بَرْدٍ يَكُونُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ الَّذِي أَزَالَ عَنْهُ مَا يَسُوءُ النَّفْسَ مِنْ الذُّنُوبِ . وَقَوْلُهُ : " بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ " تَمْثِيلٌ بِمَا فِيهِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَإِلَّا فَنَفْسُ الذُّنُوبِ لَا تُغْسَلُ بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ : أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِك وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِكَ . { وَلَمَّا قَضَى أَبُو قتادة دَيْنَ الْمَدِينِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ
بَرَّدْت جِلْدَتَهُ } وَيُقَالُ : بَرْدُ الْيَقِينِ وَحَرَارَةُ الشَّكِّ . وَيُقَالُ : هَذَا الْأَمْرُ يُثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ إذَا كَانَ حَقًّا يَعْرِفُهُ الْقَلْبُ وَيَفْرَحُ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ فِي مِثْلِ بَرْدِ الثَّلْجِ . وَمَرَضُ النَّفْسِ : إمَّا شُبْهَةٌ وَإِمَّا شَهْوَةٌ أَوْ غَضَبٌ وَالثَّلَاثَةُ تُوجِبُ السُّخُونَةَ . وَيُقَالُ لِمَنْ نَالَ مَطْلُوبَهُ : بَرَدَ قَلْبُهُ . فَإِنَّ الطَّالِبَ فِيهِ حَرَارَةُ الطَّلَبِ . وَقَوْلُهُ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْحَسَنَاتِ يُطَهِّرُ النَّفْسَ وَيُزَكِّيهَا مِنْ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ فَإِنَّهُ قَالَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا } الْآيَةَ . فَالتَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَحْصُلُ بِهِمَا التَّطْهِيرُ وَالتَّزْكِيَةُ وَلِهَذَا قَالَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ . { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الْآيَاتِ . { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ } الْآيَةَ . فَأَمَرَهُمْ جَمِيعًا بِالتَّوْبَةِ فِي سِيَاقِ مَا ذَكَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا } الْحَدِيثَ . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ إنَّ قَوْلَهُ : { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } نَزَلَتْ بِسَبَبِ رَجُلٍ نَالَ مِنْ امْرَأَةٍ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ ثُمَّ نَدِمَ فَنَزَلَتْ } وَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ يَخَافَ اللَّهَ وَيَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى وَنَفْسُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ تَهْوَى وَهُوَ يَنْهَاهَا كَانَ نَهْيُهُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَعَمَلًا صَالِحًا . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ } فَيُؤْمَرُ بِجِهَادِهَا
كَمَا يُؤْمَرُ بِجِهَادِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعَاصِي وَيَدْعُو إلَيْهَا وَهُوَ إلَى جِهَادِ نَفْسِهِ أَحْوَجُ فَإِنَّ هَذَا فَرْضُ عَيْنٍ وَذَاكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالصَّبْرُ فِي هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ هَذَا الْجِهَادَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْجِهَادِ فَمَنْ صَبَرَ عَلَيْهِ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ الْجِهَادِ . كَمَا قَالَ : { وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ } . ثُمَّ هَذَا لَا يَكُونُ مَحْمُودًا فِيهِ إلَّا إذَا غَلَبَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَنْ يُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ } إلَخْ " وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى وَأَنْ يَخَافَ مَقَامَ رَبِّهِ فَحَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُعِينُهُ عَلَى الْجِهَادِ فَإِذَا غَلَبَ كَانَ لِضَعْفِ إيمَانِهِ فَيَكُونُ مُفَرِّطًا بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ ؛ بِخِلَافِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَدَنُهُ أَقْوَى فَالذُّنُوبُ إنَّمَا تَقَعُ إذَا كَانَتْ النَّفْسُ غَيْرَ مُمْتَثِلَةٍ لِمَا أُمِرَتْ بِهِ وَمَعَ امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ لَا تَفْعَلُ الْمَحْظُورَ فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ . قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ } الْآيَةَ . وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } فَعِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلِصُونَ لَا يُغْوِيهِمْ الشَّيْطَانُ وَ " الْغَيُّ " خِلَافُ الرُّشْدِ وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى . فَمَنْ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى مُحَرَّمٍ فَلْيَأْتِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ . . . (1) خَشْيَةً وَمَحَبَّةً وَالْعِبَادَةُ لَهُ
وَحْدَهُ وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ السَّيِّئَاتِ . فَإِذَا كَانَ تَائِبًا فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَوَقَعَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ مَاحِيًا لَهَا بَعْدَ الْوُقُوعِ فَهُوَ كَالتِّرْيَاقِ الَّذِي يَدْفَعُ أَثَرَ السُّمِّ وَيَرْفَعُهُ بَعْدَ حُصُولِهِ وَكَالْغِذَاءِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وكالاستمتاع بِالْحَلَالِ الَّذِي يَمْنَعُ النَّفْسَ عَنْ طَلَبِ الْحَرَامِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ طَلَبَ إزَالَتَهُ وَكَالْعِلْمِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ الشَّكِّ وَيَرْفَعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَكَالطِّبِّ الَّذِي يَحْفَظُ الصِّحَّةَ وَيَدْفَعُ الْمَرَضَ وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ يَحْفَظُ بِأَشْبَاهِهِ مِمَّا يَقُومُ بِهِ . وَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ مَرَضٌ مِنْ الشُّبُهَات وَالشَّهَوَاتِ أُزِيلَ بِهَذِهِ وَلَا يَحْصُلُ الْمَرَضُ إلَّا لِنَقْصِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ كَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَمْرَضُ إلَّا لِنَقْصِ إيمَانِهِ . وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرَانُ مُتَضَادَّانِ فَكُلُّ ضِدَّيْنِ : فَأَحَدُهُمَا يَمْنَعُ الْآخَرَ تَارَةً ؟ وَيَرْفَعُهُ أُخْرَى كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ . . . (1) حَصَلَ مَوْضِعُهُ وَيَرْفَعُهُ إذَا كَانَ حَاصِلًا كَذَلِكَ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ وَالْإِحْبَاطُ . . . (2) وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ حَتَّى الْإِيمَانَ وَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ . . . (3) الْجُبَّائِيَّ وَابْنُهُ بِالْمُوَازَنَةِ . لَكِنْ قَالُوا : مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ خُلِّدَ فِي النَّارِ وَالْمُوَازَنَةُ بِلَا تَخْلِيدٍ قَوْلُ الْإِحْبَاط مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُبُوطُ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا بِالْكُفْرِ كَمَا قَالَ : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } الْآيَةَ وَقَالَ : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَقَالَ : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الْآيَةَ . وَمَا ادَّعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ حَدَّ الزَّانِي وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كُفَّارًا حَابِطِي الْأَعْمَالِ وَلَا أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ كَمَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُنَافِقُونَ لَمْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ كُفْرَهُمْ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْغَالِّ وَعَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا وَمُنَافِقِينَ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ . فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُحْبَطْ إيمَانُهُمْ كُلُّهُ . { وَقَالَ عَمَّنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَذَلِكَ الْحُبُّ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الْإِيمَانِ . فَعُلِمَ أَنَّ إدْمَانَهُ لَا يُذْهِبُ الشُّعَبَ كُلَّهَا . وَثَبَتَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ : { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } وَلَوْ حَبِطَ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } الْآيَةَ . فَجُعِلَ مِنْ الْمُصْطَفَيْنَ . فَإِذَا كَانَتْ السَّيِّئَاتُ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ فَهَلْ تُحْبَطُ بِقَدْرِهَا وَهَلْ يُحْبَطُ بَعْضُ الْحَسَنَاتِ بِذَنْبِ دُونَ الْكُفْرِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ . مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ . مِثْلُ قَوْلِهِ : { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } الْآيَةَ . دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السَّيِّئَةَ تُبْطِلُ الصَّدَقَةَ وَضَرَبَ مَثَلَهُ بِالْمُرَائِي وَقَالَتْ عَائِشَةُ " أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّ جِهَادَهُ بَطَلَ " الْحَدِيثَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } قَالَ الْحَسَنُ : بِالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ وَعَنْ عَطَاءٍ : بِالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَعَنْ ابْنِ السَّائِبِ : بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَعَنْ مُقَاتِلٍ : بِالْمَنِّ . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مَنُّوا بِإِسْلَامِهِمْ فَمَا ذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ . فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يُرِدْ إلَّا إبْطَالَهَا بِالْكُفْرِ . قِيلَ : ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ وَمُوجِبٌ لِلْخُلُودِ الدَّائِمِ فَالنَّهْيُ عَنْهُ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِهَذَا بَلْ يَذْكُرُهُ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ . كَقَوْلِهِ : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } وَنَحْوِهَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ وَفِي آيَةِ الْمَنِّ سَمَّاهَا إبْطَالًا وَلَمْ يُسَمِّهِ إحْبَاطًا ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَهَا الْكُفْرَ بِقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } الْآيَةَ . فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ إذَا دَخَلْتُمْ فِيهَا فَأَتِمُّوهَا وَبِهَا احْتَجَّ مَنْ قَالَ : يَلْزَمُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ . قِيلَ : لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ إبْطَالِ بَعْضِ الْعَمَلِ فَإِبْطَالُهُ كُلُّهُ أَوْلَى بِدُخُولِهِ فِيهَا فَكَيْفَ وَذَلِكَ قَبْلَ فَرَاغِهِ لَا يُسَمَّى صَلَاةً وَلَا صَوْمًا
ثُمَّ يُقَالُ : الْإِبْطَالُ يُوجَدُ قَبْلَ الْفَرَاغِ أَوْ بَعْدَهُ وَمَا ذَكَرُوهُ أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ وَالْإِبْطَالِ هُوَ إبْطَالُ الثَّوَابِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُتِمّ الْعِبَادَةَ يَبْطُلُ جَمِيعُ ثَوَابِهِ بَلْ يُقَالُ : إنَّهُ يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ . وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ الْمُفْلِسِ " الَّذِي يَأْتِي بِحَسَنَاتِ أَمْثَالِ الْجِبَالِ " .
سُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَفَقَّهَ وَعَلِمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ ثُمَّ
تَزَهَّدَ وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَالْمَالَ وَالْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ خَائِفًا
مِنْ كَسْبِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ وَبَعْثِ الْآخِرَةِ وَطَلَبَ رِضَا
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَاحَ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَالْبُلْدَانِ فَهَلْ يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يُقَطِّعَ الرَّحِمَ وَيَسِيحَ كَمَا ذَكَرَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، " الزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ " هُوَ تَرْكُ
كُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَثِقَةُ الْقَلْبِ بِمَا
عِنْدَ اللَّهِ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ { لَيْسَ
الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إضَاعَةِ الْمَالِ
وَلَكِنَّ الزُّهْدَ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ بِمَا فِي
يَدِك وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إذَا أَصَبْت أَرْغَبَ مِنْك
فِيهَا لَوْ أَنَّهَا بَقِيَتْ لَك } لَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { لِكَيْ
لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } . فَهَذَا
صِفَةُ " الْقَلْبِ " .
وَأَمَّا فِي " الظَّاهِرِ " فَتَرْكُ الْفُضُولِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : إنَّمَا هُوَ طَعَامٌ دُونَ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ دُونَ لِبَاسٍ وَصَبْرِ أَيَّامٍ قَلَائِلَ . وَجِمَاعُ ذَلِكَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَكَانَ عَادَتُهُ فِي الْمَطْعَمِ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا وَيَلْبَسُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ قُطْنٍ وَصُوفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ الْقُطْنُ أَحَبّ إلَيْهِ { وَكَانَ إذَا بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ يُرِيدُ أَنْ يَعْتَدِيَ فَيَزِيدُ فِي الزُّهْدِ أَوْ الْعِبَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَيَقُولُ : أَيُّنَا مِثْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْضَبُ لِذَلِكَ وَيَقُولُ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى } { وَبَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ فَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ فَلَا أَنَامُ وَقَالَ آخَرُ أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ آخَرُ أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . فَأَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ فَلَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا هُوَ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ
قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْعِيَالِ وَالْكَسْبُ لَهُمْ يَكُونُ وَاجِبًا تَارَةً وَمُسْتَحَبًّا أُخْرَى فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ الدِّينِ وَكَذَلِكَ السِّيَاحَةُ فِي الْبِلَادِ لِغَيْرِ مَقْصُودٍ مَشْرُوعٍ كَمَا يُعَانِيه بَعْضُ النُّسَّاكِ أَمْرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : لَيْسَتْ السِّيَاحَةُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ وَلَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّينَ وَلَا الصَّالِحِينَ . [ وَأَمَّا السِّيَاحَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ : { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ } وَمِنْ قَوْلِهِ : { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا هَذِهِ السِّيَاحَةَ الْمُبْتَدَعَةَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَصَفَ النِّسَاءَ اللَّاتِي يَتَزَوَّجُهُنَّ رَسُولُهُ بِذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ لَا يُشْرَعُ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ فِي الْبَرَارِي سَائِحَةً ؛ بَلْ الْمُرَادُ بِالسِّيَاحَةِ شَيْئَانِ . أَحَدُهُمَا الصِّيَامُ . كَمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَات فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ
مَلِكٍ
حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ
مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ
الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ] (*) .
لَكِنْ إذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْحَرَامَ أَوْ الشُّبْهَةَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ
أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَكَانَ الْإِثْمُ أَوْ النَّقْصُ الَّذِي عَلَيْهِ فِي
التَّرْكِ أَعْظَمَ مِنْ الْإِثْمِ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ لَمْ يُشْرَعْ
ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ
عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَرَكَ مَالًا
شُبْهَةً فِيهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ . فَسَأَلَهُ وَلَدُهُ أَتَرَكَ هَذَا الْمَالَ
الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ فَلَا أَقْضِيهِ ؟ فَقَالَ : لَهُ أَتَدَعُ . . . (1) .
سُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { حَقُّ الْيَقِينِ } وَ { عَيْنَ الْيَقِينِ } وَ { عِلْمَ
الْيَقِينِ } فَمَا مَعْنَى كُلِّ مَقَامٍ مِنْهَا ؟ وَأَيُّ مَقَامٍ أَعْلَى ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ
مَقَالَاتٌ مَعْرُوفَةٌ . ( مِنْهَا : أَنْ يُقَالَ : { عِلْمَ الْيَقِينِ } مَا
عَلِمَهُ بِالسَّمَاعِ وَالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ وَ { عَيْنَ
الْيَقِينِ } مَا شَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ بِالْبَصَرِ وَ { حَقُّ الْيَقِينِ } مَا
بَاشَرَهُ وَوَجَدَهُ وَذَاقَهُ وَعَرَفَهُ بِالِاعْتِبَارِ . " فَالْأُولَى
" مِثْلُ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّ هُنَاكَ عَسَلًا وَصَدَّقَ الْمُخْبِرَ . أَوْ
رَأَى آثَارَ الْعَسَلِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِهِ . وَ " الثَّانِي
" مِثْلُ مَنْ رَأَى الْعَسَلَ وَشَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ وَهَذَا أَعْلَى
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الْمُخْبِرُ
كَالْمُعَايِنِ } .
وَ " الثَّالِثُ " مِثْلُ مَنْ ذَاقَ الْعَسَلَ وَوَجَدَ طَعْمَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ ؛ وَلِهَذَا يُشِيرُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ إلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ : مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا } فَالنَّاسُ فِيمَا يَجِدُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَيَذُوقُونَهُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَطَعْمُهُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ : " الْأُولَى " مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يُخْبِرُهُ بِهِ شَيْخٌ لَهُ يُصَدِّقُهُ أَوْ يُبَلِّغُهُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْعَارِفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَوْ يَجِدُ مِنْ آثَارِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَ " الثَّانِيَةُ " مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ وَعَايَنَهُ مِثْلُ أَنْ يُعَايِنَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَوَاجِيدَهُمْ وَأَذْوَاقَهُمْ وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُشَاهِدْ مَا ذَاقُوهُ وَوَجَدُوهُ وَلَكِنْ شَاهَدَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَكِنْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ الْمُخْبِرِ وَالْمُسْتَدِلِّ بِآثَارِهِمْ . وَ " الثَّالِثَةُ " أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ
سَمِعَهُ
كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : لَقَدْ كُنْت فِي حَالٍ أَقُولُ فِيهَا إنْ كَانَ
أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ إنَّهُمْ لَفِي
عَيْشٍ طَيِّبٍ . وَقَالَ آخَرُ : إنَّهُ لَيَمُرُّ عَلَى الْقَلْبِ أَوْقَاتٌ
يَرْقُصُ مِنْهَا طَرَبًا . وَقَالَ الْآخَرُ : لَأَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ
أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ . وَالنَّاسُ فِيمَا أُخْبِرُوا
بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ :
إحْدَاهَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَتْهُمْ الرُّسُلُ وَمَا قَامَ مِنْ
الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ . " الثَّانِيَةُ " : إذَا عَايَنُوا
مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ . وَ
" الثَّالِثَةُ " إذَا بَاشَرُوا ذَلِكَ ؛ فَدَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ
الْجَنَّةَ ؛ وَذَاقُوا مَا كَانُوا يُوعَدُونَ وَدَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ
وَذَاقُوا مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَالنَّاسُ فِيمَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ
وَفِيمَا يُوجَدُ خَارِجَ الْقُلُوبِ عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ .
وَكَذَلِكَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا : فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِالْعِشْقِ أَوْ
النِّكَاحِ وَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَذُقْهُ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِهِ فَإِنْ
شَاهَدَهُ وَلَمْ يَذُقْهُ كَانَ لَهُ مُعَايَنَةٌ لَهُ فَإِنْ ذَاقَهُ بِنَفْسِهِ
كَانَ لَهُ ذَوْقٌ وَخِبْرَةٌ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَذُقْ الشَّيْءَ لَمْ يَعْرِفْ
حَقِيقَتَهُ فَإِنَّ
الْعِبَارَةَ إنَّمَا تُفِيدُ التَّمْثِيلَ وَالتَّقْرِيبَ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ فَلَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ إلَّا لِمَنْ يَكُونُ قَدْ ذَاقَ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ وَعَرَفَهُ وَخَبَرَهُ ؛ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِالْخِبْرَةِ وَالذَّوْقِ مَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ بِالْخَبَرِ وَالنَّظَرِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَّ هِرَقْلَ مَلِكَ الرُّومِ سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِيمَا سَأَلَهُ عَنْهُ مِنْ أُمُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَهَلْ يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ سخطة لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا خَالَطَتْ بَشَاشَتُهُ الْقَلْبَ لَا يُسْخِطُهُ أَحَدٌ } . فَالْإِيمَانُ إذَا بَاشَرَ الْقَلْبَ وَخَالَطَتْهُ بَشَاشَتُهُ لَا يُسْخِطُهُ الْقَلْبُ بَلْ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فَإِنَّ لَهُ مِنْ الْحَلَاوَةِ فِي الْقَلْبِ وَاللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالْبَهْجَةِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لِمَنْ لَمْ يَذُقْهُ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَوْقِهِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ لَهُ مِنْ الْبَشَاشَةِ مَا هُوَ بِحَسَبِهِ وَإِذَا خَالَطَتْ الْقَلْبَ لَمْ يُسْخِطْهُ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِبْشَارُ هُوَ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَجِدُونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْحَلَاوَةِ وَاللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ .
وَ " اللَّذَّةُ " أَبَدًا تَتْبَعُ الْمَحَبَّةَ فَمَنْ أَحَبّ شَيْئًا وَنَالَ مَا أَحَبَّهُ وَجَدَ اللَّذَّةَ بِهِ ؛ فَالذَّوْقُ هُوَ إدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ اللَّذَّةَ الظَّاهِرَةَ كَالْأَكْلِ مَثَلًا : حَالُ الْإِنْسَانِ فِيهَا أَنَّهُ يَشْتَهِي الطَّعَامَ وَيُحِبُّهُ ثُمَّ يَذُوقُهُ وَيَتَنَاوَلُهُ فَيَجِدُ حِينَئِذٍ لَذَّتَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ مَحَبَّةٌ أَعْظَمُ وَلَا أَكْمَلُ وَلَا أَتَمُّ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . وَكُلُّ مَا يُحِبُّ سِوَاهُ فَمَحَبَّتُهُ تَبَعٌ لِحُبِّهِ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يُحِبُّ لِأَجْلِ اللَّهِ وَيُطَاعُ لِأَجْلِ اللَّهِ وَيُتَّبَعُ لِأَجْلِ اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وَفِي الْحَدِيثِ { أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبّ إلَيْهِ مَنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ { مَنْ أَحَبّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ كُلِّ مُحِبٍّ لِمَحْبُوبِهِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ .
وَ
" الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَجِدُونَ بِسَبَبِ
مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ مَا يُنَاسِبُ
هَذِهِ الْمَحَبَّةَ وَلِهَذَا عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا يَجِدُونَهُ بِالْمَحَبَّةِ فَقَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ
وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ
مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَأَنْ
يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ }
. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ ثَمَرَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ .
وَالتَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَإِنَّ النَّاسَ فِي هَذَا
الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ :
" مِنْهُمْ " مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ سَمَاعًا وَاسْتِدْلَالًا .
" وَمِنْهُمْ " مَنْ شَاهَدَ وَعَايَنَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ .
وَ " مِنْهُمْ " مَنْ وَجَدَ حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى
اللَّهِ الِالْتِجَاءَ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ ، وَقَطَعَ التَّعَلُّقَ
بِمَا سِوَاهُ وَجَرَّبَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمَخْلُوقِينَ
وَرَجَاهُمْ وَطَمِعَ فِيهِمْ أَنْ يَجْلِبُوا لَهُ مَنْفَعَةً أَوْ يَدْفَعُوا
عَنْهُ مَضَرَّةً فَإِنَّهُ يُخْذَلُ مِنْ جِهَتِهِمْ ؛ وَلَا يَحْصُلُ
مَقْصُودُهُ بَلْ قَدْ يَبْذُلُ لَهُمْ مِنْ الْخِدْمَةِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مَا يَرْجُو أَنْ يَنْفَعُوهُ وَقْتَ حَاجَتِهِ إلَيْهِمْ فَلَا
يَنْفَعُونَهُ : إمَّا لِعَجْزِهِمْ وَإِمَّا لِانْصِرَافِ قُلُوبِهِمْ عَنْهُ
وَإِذَا
تَوَجَّهَ إلَى اللَّهِ بِصِدْقِ الِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَاسْتَغَاثَ بِهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ؛ أَجَابَ دُعَاءَهُ ؛ وَأَزَالَ ضَرَرَهُ وَفَتَحَ لَهُ أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ . فَمِثْلُ هَذَا قَدْ ذَاقَ مِنْ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ لِلَّهِ مَا لَمْ يَذُقْ غَيْرُهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ ؛ يَجِدُ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالنَّتَائِجِ وَالْفَوَائِدِ مَا لَا يَجِدُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . بَلْ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ فِي مِثْلِ طَلَبِ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ ؛ وَتَعَلُّقِهِ بِالصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ أَوْ جَمْعِهِ لِلْمَالِ يَجِدُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ وَضِيقِ الصَّدْرِ مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ . وَرُبَّمَا لَا يُطَاوِعُهُ قَلْبُهُ عَلَى تَرْكِ الْهَوَى وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَا يَسُرُّهُ ؛ بَلْ هُوَ فِي خَوْفٍ وَحُزْنٍ دَائِمًا : إنْ كَانَ طَالِبًا لِمَا يَهْوَاهُ فَهُوَ قَبْلَ إدْرَاكِهِ حَزِينٌ مُتَأَلِّمٌ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ . فَإِذَا أَدْرَكَهُ كَانَ خَائِفًا مِنْ زَوَالِهِ وَفِرَاقِهِ . وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ؛ فَإِذَا ذَاقَ هَذَا أَوْ غَيْرُهُ حَلَاوَةَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ . وَالْعِبَادَةُ لَهُ . وَحَلَاوَةُ ذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ . وَفَهِمَ كِتَابَهُ . وَأَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ بِحَيْثُ يَكُونُ عَمَلُهُ صَالِحًا . وَيَكُونُ لِوَجْهِ اللَّهِ خَالِصًا ؛ فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ السُّرُورِ وَاللَّذَّةِ وَالْفَرَحِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يَجِدُهُ الدَّاعِي الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي نَالَ بِدُعَائِهِ وَتَوَكُّلِهِ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الدُّنْيَا . أَوْ انْدَفَعَ عَنْهُ مَا يَضُرُّهُ ؛ فَإِنَّ حَلَاوَةَ ذَلِكَ هِيَ بِحَسَبِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ أَوْ انْدَفَعَ عَنْهُ مِنْ الْمَضَرَّةِ وَلَا أَنْفَع لِلْقَلْبِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَلَا أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ الْإِشْرَاكِ . فَإِذَا وَجَدَ حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ { إيَّاكَ نَعْبُدُ } مَعَ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } كَانَ هَذَا فَوْقَ مَا يَجِدُهُ كُلُّ أَحَدٍ لَمْ يَجِدْ مِثْلَ هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُؤَالُ
أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ
يَتَفَضَّلُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ وَقُدْوَةُ الْخَلَفِ
أَعْلَمُ مَنْ لَقِيت بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ؛ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو
الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة " بِأَنْ يُوصِيَنِي بِمَا يَكُونُ
فِيهِ صَلَاحُ دِينِي وَدُنْيَايَ ؟ وَيُرْشِدُنِي إلَى كِتَابٍ يَكُونُ عَلَيْهِ
اعْتِمَادِي فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ
الشَّرْعِيَّةِ وَيُنَبِّهُنِي عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ
الْوَاجِبَاتِ وَيُبَيِّنُ لِي أَرْجَحَ الْمَكَاسِبِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ
الْإِيمَاءِ وَالِاخْتِصَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُهُ . وَالسَّلَامُ
الْكَرِيمُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا " الْوَصِيَّةُ " فَمَا
أَعْلَمُ وَصِيَّةً أَنْفَعُ مِنْ وَصِيَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِمَنْ عَقَلَهَا
وَاتَّبَعَهَا
. قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } . { وَوَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : يَا
مُعَاذُ : اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ
تَمْحُهَا وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ } . وَكَانَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ عَلِيَّةٍ
؛ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ : " { يَا مُعَاذُ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبّكَ
وَكَانَ يُرْدِفُهُ وَرَاءَهُ } . وَرُوِيَ فِيهِ : " أَنَّهُ أَعْلَم
الْأُمَّةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَأَنَّهُ يُحْشَرُ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ
بِرَتْوَةِ - أَيْ بِخُطْوَةِ - " . وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّهُ بَعَثَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغًا عَنْهُ دَاعِيًا
وَمُفَقِّهًا وَمُفْتِيًا وَحَاكِمًا إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ . وَكَانَ يُشَبِّهُهُ
بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِبْرَاهِيمُ إمَامُ النَّاسِ .
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : إنَّ مُعَاذًا كَانَ
أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ تَشْبِيهًا
لَهُ بِإِبْرَاهِيمَ . ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّاهُ
هَذِهِ الْوَصِيَّةَ فَعُلِمَ أَنَّهَا جَامِعَةٌ . وَهِيَ كَذَلِكَ لِمَنْ
عَقَلَهَا مَعَ أَنَّهَا تَفْسِيرُ الْوَصِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ .
أَمَا بَيَانُ جَمْعِهَا فَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ حَقَّانِ :
حَقٌّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ . ثُمَّ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يُخِلَّ بِبَعْضِهِ أَحْيَانًا : إمَّا بِتَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ أَوْ فِعْلِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت } وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ وَفِي قَوْلِهِ " حَيْثُمَا كُنْت " تَحْقِيقٌ لِحَاجَتِهِ إلَى التَّقْوَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ . ثُمَّ قَالَ : { وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا } فَإِنَّ الطَّبِيبَ متى تَنَاوَلَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مُضِرًّا أَمَرَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ . وَالذَّنْبُ لِلْعَبْدِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ حَتْمٌ . فَالْكَيِّسُ هُوَ الَّذِي لَا يَزَالُ يَأْتِي مِنْ الْحَسَنَاتِ بِمَا يَمْحُو السَّيِّئَاتِ . وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ " السَّيِّئَةَ " وَإِنْ كَانَتْ مَفْعُولَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا مَحْوُهَا لَا فِعْلُ الْحَسَنَةِ فَصَارَ { كَقَوْلِهِ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ : صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } . وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَاتُ مِنْ جِنْسِ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَحْوِ وَالذُّنُوبُ يَزُولُ مُوجِبُهَا بِأَشْيَاءَ : ( أَحَدُهَا ) التَّوْبَةُ . وَ ( الثَّانِي ) الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَغْفِرُ لَهُ إجَابَةً لِدُعَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ الْكَمَالُ . ( الثَّالِثُ ) الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمُكَفِّرَةُ : أَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُقَدَّرَةُ "
كَمَا يُكَفِّرُ الْمُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ وَالْمُظَاهِرُ وَالْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ أَوْ تَارِكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ أَوْ قَاتِلُ الصَّيْدِ بِالْكَفَّارَاتِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِيَ " أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ " هَدْيٍ وَعِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ . وَأَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُطْلَقَةُ " كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ لِعُمَرِ : فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ؛ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمْعَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَسَائِر الْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا : مَنْ قَالَ كَذَا وَعَمِلَ كَذَا غُفِرَ لَهُ أَوْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ لِمَنْ تَلَقَّاهَا مِنْ السُّنَنِ خُصُوصًا مَا صُنِّفَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِهَذَا مِنْ أَشَدِّ مَا بِالْإِنْسَانِ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ حِينِ يَبْلُغُ ؛ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَزْمِنَةِ الْفَتَرَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْجَاهِلِيَّةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَنْشَأُ بَيْنَ أَهْلِ عِلْمٍ وَدِينٍ قَدْ يَتَلَطَّخُ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ فَكَيْفَ بِغَيْرِ هَذَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ
حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟ } هَذَا خَبَرٌ تَصْدِيقُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } وَلِهَذَا شَوَاهِدُ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ . وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ يَسْرِي فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الدِّينِ مِنْ الْخَاصَّةِ ؛ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ ابْنُ عُيَيْنَة ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَكَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ النَّصَارَى قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الدِّينِ كَمَا يُبْصِرُ ذَلِكَ مَنْ فَهِمَ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَزَّلَهُ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَكَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ وَجَعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ لَا بُدَّ أَنْ يُلَاحِظَ أَحْوَالَ الْجَاهِلِيَّةِ وَطَرِيقَ الْأُمَّتَيْنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَرَى أَنْ قَدْ اُبْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ . فَأَنْفَعُ مَا لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ الْعِلْمُ بِمَا يُخَلِّصُ النُّفُوسَ مِنْ هَذِهِ الْوَرَطَاتِ وَهُوَ إتْبَاعُ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ . وَالْحَسَنَاتُ مَا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ .
وَمِمَّا يُزِيلُ مُوجِبَ الذُّنُوبِ " الْمَصَائِبُ الْمُكَفِّرَةُ " وَهِيَ كُلُّ مَا يُؤْلِمُ مِنْ هَمٍّ أَوْ حُزْنٍ أَوْ أَذًى فِي مَالٍ أَوْ عِرْضٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ . فَلَمَّا قَضَى بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ حَقَّ اللَّهِ : مِنْ عَمَلِ الصَّالِحِ وَإِصْلَاحِ الْفَاسِدِ قَالَ : " وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ " وَهُوَ حَقُّ النَّاسِ . وَجِمَاعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ مَعَ النَّاسِ : أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك بِالسَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالزِّيَارَةِ لَهُ وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك مِنْ التَّعْلِيمِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ . وَبَعْضُ هَذَا وَاجِبٌ وَبَعْضُهُ مُسْتَحَبٌّ . وَأَمَّا الْخُلُقُ الْعَظِيمُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الدِّينُ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُطْلَقًا هَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ كَمَا { قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ } وَحَقِيقَتُهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى امْتِثَالِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ . وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي وَصِيَّةِ اللَّهِ فَهُوَ أَنَّ اسْمَ تَقْوَى اللَّهِ يَجْمَعُ فِعْلَ كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إيجَابًا وَاسْتِحْبَابًا وَمَا نَهَى عَنْهُ تَحْرِيمًا
وَتَنْزِيهًا وَهَذَا يَجْمَعُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْعِبَادِ . لَكِنْ لَمَّا كَانَ تَارَةً يَعْنِي بِالتَّقْوَى خَشْيَةَ الْعَذَابِ الْمُقْتَضِيَةَ لِلِانْكِفَافِ عَنْ الْمَحَارِمِ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ : { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ . قِيلَ : وَمَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ قَالَ : الْأَجْوَفَانِ : الْفَمُ وَالْفَرْجُ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } فَجَعَلَ كَمَالَ الْإِيمَانِ فِي كَمَالِ حُسْنِ الْخُلُقِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ كُلَّهُ تَقْوَى اللَّهِ . وَتَفْصِيلُ أُصُولِ التَّقْوَى وَفُرُوعِهَا لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ فَإِنَّهَا الدِّينُ كُلُّهُ ؛ لَكِنَّ يَنْبُوعَ الْخَيْرِ وَأَصْلَهُ : إخْلَاصُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } بِحَيْثُ يَقْطَعُ الْعَبْدُ تَعَلُّقَ قَلْبِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ انْتِفَاعًا بِهِمْ أَوْ عَمَلًا لِأَجْلِهِمْ وَيَجْعَلُ هِمَّتَهُ رَبَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ بِمُلَازَمَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ مِنْ فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ وَمَخَافَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَالْعَمَلِ
لَهُ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ . وَمَنْ أَحَكَمَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ مَا
يُعْقِبُهُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ ؛
فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَمَا
يُنَاسِبُ أَوْقَاتَهُمْ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ جَوَابٌ جَامِعٌ مُفَصَّلٌ لِكُلِّ
أَحَدٍ لَكِنْ مِمَّا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ
وَأَمْرِهِ : أَنَّ مُلَازَمَةَ ذِكْرِ اللَّهِ دَائِمًا هُوَ أَفْضَلُ مَا شَغَلَ
الْعَبْدَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ : { سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْمُفَرِّدُونَ ؟ قَالَ : الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا
وَالذَّاكِرَاتُ } وَفِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ
وَأَرْفَعُهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الذَّهَبِ
وَالْوَرِقِ وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ
وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : ذِكْرُ
اللَّهِ } . وَالدَّلَائِلُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْإِيمَانِيَّةُ بَصَرًا وَخَبَرًا
وَنَظَرًا عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُلَازِمَ الْعَبْدُ
الْأَذْكَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْأَذْكَارِ الْمُؤَقَّتَةِ فِي أَوَّلِ
النَّهَارِ وَآخِرِهِ
وَعِنْدَ أَخْذِ الْمَضْجَعِ وَعِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ الْمَنَامِ وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ مِثْلُ مَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالْجِمَاعِ وَدُخُولِ الْمَنْزِلِ وَالْمَسْجِدِ وَالْخَلَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَعِنْدَ الْمَطَرِ وَالرَّعْدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ صُنِّفَتْ لَهُ الْكُتُبُ الْمُسَمَّاةُ بِعَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ . ثُمَّ مُلَازَمَةُ الذِّكْرِ مُطْلَقًا وَأَفْضَلُهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " . وَقَدْ تَعْرِضُ أَحْوَالٌ يَكُونُ بَقِيَّةُ الذِّكْرِ مِثْلُ : " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " أَفْضَلُ مِنْهُ . ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ اللِّسَانُ وَتَصَوَّرَهُ الْقَلْبُ مِمَّا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ . وَلِهَذَا مَنْ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَوْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَتَفَقَّهُ أَوْ يُفَقِّهُ فِيهِ الْفِقْهَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِقْهًا فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَفْضَلِ ذِكْرِ اللَّهِ . وَعَلَى ذَلِكَ إذَا تَدَبَّرْت لَمْ تَجِدْ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ فِي كَلِمَاتِهِمْ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَبِيرَ اخْتِلَافٍ . وَمَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ بِالِاسْتِخَارَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَمَا نَدِمَ مَنْ اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى . وَلْيُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَلَا يُعَجِّلُ فَيَقُولُ : قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي وَلْيَتَحَرَّ الْأَوْقَاتَ
الْفَاضِلَةَ : كَآخِرِ اللَّيْلِ وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَوَقْتَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا أَرْجَحُ الْمَكَاسِبِ : فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَالثِّقَةُ بِكِفَايَتِهِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ الرِّزْقِ أَنْ يَلْجَأَ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَيَدْعُوَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَأْثُرُ عَنْهُ نَبِيُّهُ : { كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ . يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ } وَفِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ . { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْعَةِ فَمَعْنَاهُ قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ . وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَم { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَإِذَا خَرَجَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك } وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ وَهَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ فَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ وَاللَّجَأُ إلَيْهِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ .
ثُمَّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ لِيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَأْخُذُهُ بِإِشْرَافِ وَهَلَعٍ ؛ بَلْ يَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْقَلْبِ مَكَانَةٌ وَالسَّعْيُ فِيهِ إذَا سَعَى كَإِصْلَاحِ الْخَلَاءِ . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ شَتَّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ . وَمَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ؟ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ } . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ إلَى نَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ أَحْوَجُ فَإِنْ بَدَأْت بِنَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ مَرَّ عَلَى نَصِيبِك مِنْ الدُّنْيَا فَانْتَظَمَهُ انْتِظَامًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } . فَأَمَّا تَعْيِينُ مَكْسَبٍ عَلَى مَكْسَبٍ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ بِنَايَةٍ أَوْ حِرَاثَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَلَا أَعْلَم فِي ذَلِكَ شَيْئًا عَامًّا لَكِنْ إذَا عَنَّ لِلْإِنْسَانِ جِهَةٌ فَلْيَسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا الِاسْتِخَارَةَ الْمُتَلَقَّاةَ عَنْ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْبَرَكَةِ مَا لَا يُحَاطُ بِهِ . ثُمَّ مَا تَيَسَّرَ لَهُ فَلَا يَتَكَلَّفُ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَرَاهَةٌ شَرْعِيَّةٌ .
وَأَمَّا مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ فِي الْعُلُومِ فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَهُوَ أَيْضًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَشْءِ الْإِنْسَانِ فِي الْبِلَادِ فَقَدْ يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ مِنْ طَرِيقِهِ وَمَذْهَبِهِ فِيهِ مَا لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ لَكِنَّ جِمَاعَ الْخَيْرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي تَلَقِّي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى عِلْمًا وَمَا سِوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا فَلَا يَكُونُ نَافِعًا ؟ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ عِلْمًا وَإِنْ سُمِّيَ بِهِ . وَلَئِنْ كَانَ عِلْمًا نَافِعًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي مِيرَاثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِثْلُهُ وَخَيْرٌ مِنْهُ . وَلْتَكُنْ هِمَّتُهُ فَهْمَ مَقَاصِدِ الرَّسُولِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَسَائِر كَلَامِهِ . فَإِذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الرَّسُولِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مَعَ النَّاسِ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ . وَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَعْتَصِمَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ بِأَصْلِ مَأْثُورٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِمَّا قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ : اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَدْ قَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ : { يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ } . وَأَمَّا وَصْفُ " الْكُتُبِ وَالْمُصَنِّفِينَ " فَقَدْ سُمِعَ مِنَّا فِي أَثْنَاءِ الْمُذَاكَرَةِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ . وَمَا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الْمُبَوَّبَةِ كِتَابٌ أَنْفَع مِنْ " صَحِيحِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ " لَكِنْ هُوَ وَحْدَهُ لَا يَقُومُ بِأُصُولِ الْعِلْمِ . وَلَا يَقُومُ بِتَمَامِ الْمَقْصُودِ لِلْمُتَبَحِّرِ فِي أَبْوَابِ الْعِلْمِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحَادِيثَ أُخَرَ وَكَلَامُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ أَوْعَبَتْ الْأُمَّةُ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ إيعَابًا فَمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ هَدَاهُ بِمَا يَبْلُغُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَعْمَاهُ لَمْ تَزِدْهُ كَثْرَةُ الْكُتُبِ إلَّا حَيْرَةً وَضَلَالًا ؛ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ : أَوَلَيْسَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؟ فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ ؟ } . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْهُدَى وَالسَّدَادَ وَيُلْهِمَنَا رُشْدَنَا وَيَقِيَنَا شَرَّ أَنْفُسِنَا وَأَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا ؟ وَيَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَوَاتُهُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ .
وَسُئِلَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْحَبْرُ الْكَامِلُ شَيْخُ
الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - أَيَّدَهُ
اللَّهُ وَزَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ - :
عَنْ ( الصَّبْرِ الْجَمِيلِ وَ ( الصَّفْحِ الْجَمِيلِ ) وَ ( الْهَجْرِ
الْجَمِيلِ ) وَمَا أَقْسَامُ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ
بِالْهَجْرِ الْجَمِيلِ وَالصَّفْحِ الْجَمِيلِ وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ (*)
" فَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ " هَجْرٌ بِلَا أَذًى وَ " الصَّفْحُ
الْجَمِيلُ " صَفْحٌ بِلَا عِتَابٍ وَ " الصَّبْرُ الْجَمِيلُ "
صَبْرٌ بِلَا شَكْوَى قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا
أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } مَعَ قَوْلِهِ : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } فَالشَّكْوَى إلَى اللَّهِ لَا تُنَافِي
الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَيُرْوَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى
وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَبِك
الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْك التكلان " وَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي . أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى } . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ } وَيَبْكِي حَتَّى يُسْمَعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ ؛ بِخِلَافِ الشَّكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ . قُرِئَ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنَّ طاوسا كَرِهَ أَنِينَ الْمَرِيضِ . وَقَالَ : إنَّهُ شَكْوَى . فَمَا أَنَّ حَتَّى مَاتَ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَكِيَ طَالَبَ بِلِسَانِ الْحَالِ إمَّا إزَالَةُ مَا يَضُرُّهُ أَوْ حُصُولُ مَا يَنْفَعُهُ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ دُونَ خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ } . وَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ شَيْئَيْنِ : طَاعَتِهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَصَبْرِهِ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْقَضَاءِ الْمَقْدُورِ . فَالْأَوَّلُ هُوَ التَّقْوَى وَالثَّانِي هُوَ الصَّبْرُ . قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ
دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ : { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُسْتَقِيمِينَ يُوصُونَ فِي عَامَّةِ كَلَامِهِمْ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : الْمُسَارَعَةُ إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالتَّقَاعُدِ عَنْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرُ وَالرِّضَا بِالْأَمْرِ الْمَقْدُورِ . وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ غَلِطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ ؛ بَلْ وَمِنْ السَّالِكِينَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ الْقَدَرَ فَقَطْ وَيَشْهَدُ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ دُونَ الدِّينِيَّةِ فَيَرَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَبَيْنَ مَا يُسْخِطُهُ وَيُبْغِضُهُ وَإِنْ قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَبَيْنَ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَشْهَدُ الْجَمْعَ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ - سَعِيدُهَا وَشَقِيُّهَا - مَشْهَدَ الْجَمْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالنَّبِيُّ الصَّادِقُ وَالْمُتَنَبِّئُ الْكَاذِبُ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَالْمَرَدَةُ الشَّيَاطِينُ .
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الْجَمْعِ وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ وَمَلِيكُهُمْ لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرُهُ . وَلَا يَشْهَدُ الْفَرْقَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَفِعْلُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ؟ وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَجِهَادُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ . فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ " الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ " الْفَارِقَةَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَيَكُونُ مَعَ أَهْلِ " الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ " وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ . إذْ هُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ
بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَيَقُولُونَ اللَّهُ وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ . فَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ أُولَئِكَ يُقِرُّونَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ لَكِنْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } . وَأَمَّا الَّذِي يَشْهَدُ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَتَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ الشَّامِلَ لِلْخَلِيقَةِ وَيُقِرُّ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَيَسْلُكُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ فَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ لَمَحُوا الْفَرْقَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ بِحَيْثُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ بَعْضِ الْأَبْرَارِ وَبَيْنَ بَعْضِ الْفُجَّارِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ آخَرِينَ اتِّبَاعًا لِظَنِّهِ وَمَا يَهْوَاهُ . فَيَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا سَوَّى بَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى الْفَارِقَ بِحَسَبِ مَا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ .
وَمَنْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الدِّينِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ كَانَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ وَأُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْمَجُوسِ . وَمَنْ أَقَرَّ بِهِمَا وَجَعَلَ الرَّبَّ مُتَنَاقِضًا فَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ الَّذِي اعْتَرَضَ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَخَاصَمَهُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ . فَهَذَا التَّقْسِيمُ فِي الْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ . وَكَذَلِكَ هُمْ فِي " الْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ " . فَالصَّوَابُ مِنْهَا حَالَةُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَتَّقِي اللَّهَ فَيَفْعَلُ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكُ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَقْدُورِ فَهُوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ وَتَابَ : لَا يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَلَا يَرَى لِلْمَخْلُوقِ حُجَّةً عَلَى رَبِّ الْكَائِنَاتِ بَلْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ : { سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } فَيُقِرُّ بِنِعْمَةِ
اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْحَسَنَاتِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ هَدَاهُ وَيَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى وَيُقِرُّ بِذُنُوبِهِ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَيَتُوبُ مِنْهَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : أَطَعْتُك بِفَضْلِك وَالْمِنَّةُ لَك وَعَصَيْتُك بِعِلْمِك وَالْحُجَّةُ لَك فَأَسْأَلُك بِوُجُوبِ حُجَّتِك عَلَيَّ وَانْقِطَاعِ حُجَّتِي إلَّا غَفَرْت لِي . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : { يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا ؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } . وَهَذَا لَهُ تَحْقِيقٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَآخَرُونَ قَدْ يَشْهَدُونَ الْأَمْرَ فَقَطْ : فَتَجِدُهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي الطَّاعَةِ حَسَبَ الِاسْتِطَاعَةِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْقَدَرِ مَا يُوجِبُ لَهُمْ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ . وَآخَرُونَ يَشْهَدُونَ الْقَدَرَ فَقَطْ فَيَكُونُ عِنْدَهُمْ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ مَا لَيْسَ عِنْدَ أُولَئِكَ ؛ لَكِنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتِّبَاعَ شَرِيعَتِهِ وَمُلَازَمَةَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الدِّينِ فَهَؤُلَاءِ يَسْتَعِينُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَسْتَعِينُوهُ ؛ وَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَ " الْقِسْمُ الرَّابِعُ " شَرُّ الْأَقْسَامِ وَهُوَ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَسْتَعِينُهُ فَلَا هُوَ مَعَ الشَّرِيعَةِ الْأَمْرِيَّةِ . وَلَا مَعَ الْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ . وَانْقِسَامُهُمْ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ فِيمَا يَكُونُ قَبْلَ وُقُوعِ الْمَقْدُورِ مِنْ تَوَكُّلٍ وَاسْتِعَانَةٍ وَنَحْوِ
ذَلِكَ
؛ وَمَا يَكُونُ بَعْدَهُ مِنْ صَبْرٍ وَرِضًا وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهُمْ فِي
التَّقْوَى وَهِيَ طَاعَةُ الْأَمْرِ الدِّينِيِّ وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُقَدَّرُ
عَلَيْهِ مِنْ الْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ .
أَحَدُهَا أَهْلُ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ وَهُمْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَالثَّانِي
الَّذِينَ لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ التَّقْوَى بِلَا صَبْرٍ مِثْلُ الَّذِينَ
يَمْتَثِلُونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَيَتْرُكُونَ
الْمُحَرَّمَاتِ : لَكِنْ إذَا أُصِيبَ أَحَدُهُمْ فِي بَدَنِهِ بِمَرَضِ
وَنَحْوِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي عِرْضِهِ أَوْ اُبْتُلِيَ بِعَدُوِّ
يُخِيفُهُ عَظُمَ جَزَعُهُ وَظَهَرَ هَلَعُهُ . وَالثَّالِثُ قَوْمٌ لَهُمْ نَوْعٌ
مِنْ الصَّبْرِ بِلَا تَقْوَى مِثْلُ الْفُجَّارِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى مَا
يُصِيبُهُمْ فِي مِثْلِ أَهْوَائِهِمْ كَاللُّصُوصِ وَالْقُطَّاعِ الَّذِينَ
يَصْبِرُونَ عَلَى الْآلَامِ فِي مِثْلِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ الْغَصْبِ
وَأَخْذِ الْحَرَامِ ؛ وَالْكُتَّابِ وَأَهْلِ الدِّيوَانِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ
عَلَى ذَلِكَ فِي طَلَبِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْخِيَانَةِ
وَغَيْرِهَا . وَكَذَلِكَ طُلَّابُ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى غَيْرِهِمْ
يَصْبِرُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَذَى الَّتِي لَا يَصْبِرُ
عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ لِلصُّوَرِ
الْمُحَرَّمَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِشْقِ وَغَيْرِهِمْ يَصْبِرُونَ فِي مِثْلِ مَا
يَهْوُونَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَذَى وَالْآلَامِ .
وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ
أَوْ فَسَادًا مِنْ طُلَّابِ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ وَمِنْ طُلَّابِ الْأَمْوَالِ بِالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ نَظَرًا أَوْ مُبَاشَرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ يَصْبِرُونَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ تَقْوَى فِيمَا تَرَكُوهُ مِنْ الْمَأْمُورِ وَفَعَلُوهُ مِنْ الْمَحْظُورِ وَكَذَلِكَ قَدْ يَصْبِرُ الرَّجُلُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَصَائِبِ : كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ فِيهِ تَقْوَى إذَا قُدِّرَ . ( وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَهُوَ شَرُّ الْأَقْسَامِ : لَا يَتَّقُونَ إذَا قَدَرُوا وَلَا يَصْبِرُونَ إذَا اُبْتُلُوا ؛ بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } فَهَؤُلَاءِ تَجِدُهُمْ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وأجبرهم إذَا قَدَرُوا وَمِنْ أَذَلِّ النَّاسِ وَأَجْزَعِهِمْ إذَا قُهِرُوا . إنْ قَهَرْتهمْ ذَلُّوا لَك وَنَافَقُوك وَحَابَوْك وَاسْتَرْحَمُوك وَدَخَلُوا فِيمَا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالذُّلِّ وَتَعْظِيمِ الْمَسْئُولِ وَإِنْ قَهَرُوك كَانُوا مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وَأَقْسَاهُمْ قَلْبًا وَأَقَلِّهِمْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَعَفْوًا كَمَا قَدْ جَرَّبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ أَبْعَدَ : مِثْلُ التَّتَارِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ . وَإِنْ كَانَ مُتَظَاهِرًا بِلِبَاسِ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَتُجَّارِهِمْ وَصُنَّاعِهِمْ فَالِاعْتِبَارُ بِالْحَقَائِقِ : { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }
فَمَنْ
كَانَ قَلْبُهُ وَعَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ قُلُوبِ التَّتَارِ وَأَعْمَالِهِمْ كَانَ
شَبِيهًا لَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَ مَا مَعَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ
مَا يُظْهِرُهُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَمَا
يُظْهِرُونَهُ مِنْهُ بَلْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ التَّتَارِ الْمُقَاتِلِينَ مِنْ
الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ رِدَّةً وَأَوْلَى
بِالْأَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ
مِنْ التَّتَارِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ
اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا
وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَإِذَا كَانَ خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامَ اللَّهِ
وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيَ مُحَمَّدٍ فَكُلُّ مَنْ كَانَ إلَى ذَلِكَ أَقْرَبَ
وَهُوَ بِهِ أَشْبَهَ كَانَ إلَى الْكَمَالِ أَقْرَبَ وَهُوَ بِهِ أَحَقّ . وَمَنْ
كَانَ عَنْ ذَلِكَ أَبْعَدَ وَشَبَهُهُ بِهِ أَضْعَفَ كَانَ عَنْ الْكَمَالِ
أَبْعَدَ وَبِالْبَاطِلِ أَحَقّ . وَالْكَامِلُ هُوَ مَنْ كَانَ لِلَّهِ أَطْوَع
وَعَلَى مَا يُصِيبُهُ أَصْبَر فَكُلَّمَا كَانَ أَتْبَعَ لِمَا يَأْمُرُ اللَّهُ
بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَعْظَمَ مُوَافَقَةً لِلَّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ
وَصَبْرًا عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ . وَكُلُّ
مَنْ نَقَصَ عَنْ هَذَيْنِ كَانَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ بِحَسَبِ ذَلِكَ .
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى " الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى " جَمِيعًا
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ الْعَبْدُ عَلَى
عَدُوِّهِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَعَلَى مَنْ ظَلَمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِصَاحِبِهِ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ ،===
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق