Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية بدر

الاثنين، 22 مايو 2023

ج27وج28وج29.مجموع الفتاوى لابن تيمية

 

ج27. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَتَصَوَّرُ هَذَا تَصَوُّرًا تَامًّا . بَلْ مَتَى تَصَوَّرَ الْحَادِثَ قَدَّرَ فِي ذِهْنِهِ مَبْدَأً ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فِي ذِهْنِهِ شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ لَكِنْ إلَى غَايَاتٍ مَحْدُودَةٍ بِحَسَبِ تَقْدِيرِ ذِهْنِهِ ؛ كَمَا يُقَدِّرُ الذِّهْنُ عَدَدًا بَعْدَ عَدَدٍ . وَلَكِنْ كُلُّ مَا يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ فَهُوَ مُنْتَهٍ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا قِيلَ لَهُ " الْأَزَلُ " أَوْ " كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ " تَصَوَّرَ ذَلِكَ . وَهَذَا غَلَطٌ بَلْ " الْأَزَلُ " مَا لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ كَمَا أَنَّ " الْأَبَدَ " لَيْسَ لَهُ آخِرٌ وَكُلُّ مَا يُومِئُ إلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ غَايَةٍ ف " الْأَزَلُ " وَرَاءَهَا وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا : مَعْرِفَةُ الرَّبِّ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ ثُمَّ قَالُوا : لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهَذَا النَّظَرِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْجَهْمِيَّة الْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ . وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى خَطَأِ هَؤُلَاءِ فِي إيجَابِهِمْ هَذَا النَّظَرَ الْمُعَيَّنَ وَفِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ . إذْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ هَذَا عَلَى الْأُمَّةِ وَلَا أَمَرَهُمْ بِهِ بَلْ وَلَا سَلَكَهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ . ثُمَّ هَذَا النَّظَرُ هَذَا الدَّلِيلُ لِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

قِيلَ : إنَّهُ وَاجِبٌ وَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ . وَقِيلَ : بَلْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ بِدُونِهِ لَكِنَّهُ طَرِيقٌ آخَرُ إلَى الْمَعْرِفَةِ . وَهَذَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَكِنْ لَا يُوجِبُهَا كالخطابي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي جَعْفَرٍ السمناني قَاضِي الْمَوْصِلِ شَيْخِ أَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَكَانَ يَقُولُ : إيجَابُ النَّظَرِ بَقِيَّةٌ بَقِيَتْ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ الِاعْتِزَالِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ هَذَا النَّظَرَ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ النَّظَرَ مُطْلَقًا كالسمناني وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ فِي الْجُمْلَةِ كالخطابي وَأَبِي الْفَرَجِ المقدسي . وَالْقَاضِي أَبُو يُعْلَى يَقُولُ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً بَلْ وَيَقُولُ تَارَةً بِإِيجَابِ النَّظَرِ الْمُعَيَّنِ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ . ثُمَّ مِنْ الْمُوجِبِينَ لِلنَّظَرِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الْمَعْرِفَةُ الْوَاجِبَةُ بِهِ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ . كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ : أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ كَعِبَارَةِ أَبِي الْمَعَالِي . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : بَلْ الشَّكُّ الْمُتَقَدِّمُ كَمَا قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .

وَبَيَّنَ أَنَّهَا كُلَّهَا غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بَلْ وَبَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ أَيْضًا . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ . فَإِنَّ أَوَّلَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : الْمَعْرِفَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ قَالُوا : لَوْ حَصَلَتْ بِغَيْرِهِ لَسَقَطَ التَّكْلِيفُ بِهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ . فَيُقَالُ لَهُمْ : وَلَيْسَ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ أَنَّ مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْجَبَهَا بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ عِنْدَ الْأُمَمِ جَمِيعِهِمْ .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الرُّسُلِ افْتَتَحُوا دَعْوَتَهُمْ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ . وَقَوْمُهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْخَالِقِ لَكِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْ الْكُفَّار مَنْ أَظْهَرَ جَحُودَ الْخَالِقِ كَفِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ

الْكَاذِبِينَ } وَقَالَ { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَقَالَ لِمُوسَى { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } وَقَالَ { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } . وَمَعَ هَذَا فَمُوسَى أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ } { قَالَ رَبِّ إنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلَى هَارُونَ } { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } { قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ } { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } { قَالَ فَعَلْتُهَا إذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } { فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } . قال فِرْعَوْنُ إنْكَارًا وَجَحْدًا { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } قَالَ مُوسَى { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ } { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } { قَالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا } الْآيَاتِ .

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سُؤَالَ فِرْعَوْنَ { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } هُوَ سُؤَالٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الرَّبِّ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ عَنْ حُدُودِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُ " مَا الْإِنْسَانُ ؟ مَا الْمَلَكُ ؟ مَا الْجِنِّيُّ ؟ " وَنَحْوُ ذَلِكَ . قَالُوا : وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْئُولِ عَنْهُ مَاهِيَّةٌ عَدَلَ مُوسَى عَنْ الْجَوَابِ إلَى بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَهَذَا قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ بَاطِلٌ . فَإِنَّ فِرْعَوْنَ إنَّمَا اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ وَجَحْدٍ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ مَاهِيَّةِ رَبٍّ أَقَرَّ بِثُبُوتِهِ بَلْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ جَاحِدًا . وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْكَلَامِ { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } وَقَالَ { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } . فَاسْتِفْهَامُهُ كَانَ إنْكَارًا وَجَحْدًا يَقُولُ : لَيْسَ لِلْعَالِمِينَ رَبٌّ يُرْسِلُك فَمَنْ هُوَ هَذَا ؟ إنْكَارًا لَهُ . فَبَيَّنَ مُوسَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ الْحَاضِرِينَ وَأَنَّ آيَاتِهِ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لَا يُمْكِنُ مَعَهَا جَحْدُهُ . وَأَنَّكُمْ إنَّمَا تَجْحَدُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ مَا تَعْرِفُونَهُ بِقُلُوبِكُمْ كَمَا قَالَ مُوسَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِفِرْعَوْنَ { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }

وَلَمْ يَقُلْ فِرْعَوْنُ " وَمَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ " فَإِنَّ " مَنْ " سُؤَالٌ عَنْ عَيْنِهِ يَسْأَلُ بِهَا مَنْ عَرَفَ جِنْسَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ شَكَّ فِي عَيْنِهِ كَمَا يُقَالُ لِرَسُولِ عَرَفَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ إنْسَانٍ " مَنْ أَرْسَلَك ؟ " . وَأَمَّا " مَا ؟ " فَهِيَ سُؤَالٌ عَنْ الْوَصْفِ . يَقُولُ : أَيُّ شَيْءٍ هُوَ هَذَا ؟ وَمَا هُوَ هَذَا الَّذِي سَمَّيْته " رَبَّ الْعَالَمِينَ " ؟ قَالَ ذَلِكَ مُنْكِرًا لَهُ جَاحِدًا . فَلَمَّا سَأَلَ جَحْدًا أَجَابَهُ مُوسَى بِأَنَّهُ أَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُشَكَّ فِيهِ وَيُرْتَابَ . فَقَالَ { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } . وَلِمَ يَقُلْ " مُوقِنِينَ بِكَذَا وَكَذَا " بَلْ أَطْلَقَ فَأَيُّ يَقِينٍ كَانَ لَكُمْ بِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَأَوَّلُ الْيَقِينِ الْيَقِينُ بِهَذَا الرَّبِّ كَمَا قَالَتْ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } . وَإِنْ قُلْتُمْ : لَا يَقِينَ لَنَا بِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ بَلْ سُلِبْنَا كُلَّ عِلْمٍ فَهَذِهِ دَعْوَى السَّفْسَطَةِ الْعَامَّةِ وَمُدَّعِيهَا كَاذِبٌ ظَاهِرُ الْكَذِبِ . فَإِنَّ الْعُلُومَ مِنْ لَوَازِمَ كُلِّ إنْسَانٍ فَكُلُّ إنْسَانٍ عَاقِلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلْمٍ . وَلِهَذَا

قِيلَ فِي حَدِّ " الْعَقْلِ " : إنَّهُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا عَاقِلٌ . فَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ { إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } وَهَذَا مِنْ افْتِرَاءِ الْمُكَذِّبِينَ عَلَى الرَّسُولِ لَمَّا خَرَجُوا عَنْ عَادَاتِهِمْ الَّتِي هِيَ مَحْمُودَةٌ عِنْدَهُمْ نَسَبُوهُمْ إلَى الْجُنُونِ . وَلَمَّا كَانُوا مُظْهِرِينَ لِلْجَحْدِ بِالْخَالِقِ أَوْ لِلِاسْتِرَابَةِ وَالشَّكِّ فِيهِ هَذِهِ حَالُ عَامَّتِهِمْ وَدِينِهِمْ وَهَذَا عِنْدَهُمْ دِينٌ حَسَنٌ وَإِنَّمَا إلَهُهُمْ الَّذِي يُطِيعُونَهُ فِرْعَوْنُ قَالَ { إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } . فَبَيَّنَ لَهُ مُوسَى أَنَّكُمْ الَّذِينَ سُلِبْتُمْ الْعَقْلَ النَّافِعَ وَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَذَا الْوَصْفِ فَقَالَ { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } . فَإِنَّ الْعَقْلَ مُسْتَلْزِمٌ لِعُلُومِ ضَرُورِيَّةٍ يَقِينِيَّةٍ وَأَعْظَمُهَا فِي الْفِطْرَةِ الْإِقْرَارُ بِالْخَالِقِ . فَلَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِشَيْءِ فَهُوَ مُوقِنٌ بِهِ وَالْيَقِينُ بِشَيْءِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَقْلِ بَيَّنَ ثَانِيًا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْعَقْلِ . وَلَكِنَّ الْمَحْمُودَ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ صَاحِبُهُ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ صَاحِبُهُ قِيلَ : إنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ . وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ مَا أَيْقَنَ بِهِ :

إنَّهُ لَيْسَ لَهُ يَقِينٌ . فَإِنَّ الْيَقِينَ أَيْضًا يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْقَلْبِ وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِهَذَا الْعِلْمِ . فَلَا يُطْلَقُ " الْمُوقِنُ " إلَّا عَلَى مَنْ اسْتَقَرَّ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ . وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ اتِّبَاعٌ لِمَا عَرَفُوهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا يَقِينٌ . وَكَلَامُ مُوسَى يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ : إنْ كَانَ لَك يَقِينٌ فَقَدْ عَرَفْته وَإِنْ كَانَ لَك عَقْلٌ فَقَدْ عَرَفْته . وَإِنْ ادَّعَيْت أَنَّهُ لَا يَقِينَ لَك وَلَا عَقْلَ لَك فَكَذَلِكَ قَوْمُك فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْكُمْ بِسَلْبِكُمْ خَاصِّيَّةِ الْإِنْسَانِ . وَمَنْ يَكُونُ هَكَذَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ . مَعَ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْكُمْ فَإِنَّكُمْ مُوقِنُونَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } . وَلَكُمْ عَقْلٌ تَعْرِفُونَهُ بِهِ وَلَكِنَّ هَوَاكُمْ يَصُدُّكُمْ عَنْ اتِّبَاعِ مُوجَبِ الْعَقْلِ وَهُوَ إرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ . فَأَنْتُمْ لَا عَقْلَ لَكُمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُ النَّارِ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْكُفَّارِ { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } . قَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا

فَاسِقِينَ } وَالْخَفِيفُ هُوَ السَّفِيهُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ بَلْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّسُلِ مَنْ قَالَ أَوَّلَ مَا دَعَا قَوْمَهُ : إنَّكُمْ مَأْمُورُونَ بِطَلَبِ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ فَانْظُرُوا وَاسْتَدِلُّوا حَتَّى تَعْرِفُوهُ . فَلَمْ يُكَلَّفُوا أَوَّلًا بِنَفْسِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْمَعْرِفَةِ إذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ تَعْرِفُهُ وَتُقِرُّ بِهِ وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ لَكِنْ عَرَضَ لِلْفِطْرَةِ مَا غَيَّرَهَا وَالْإِنْسَانُ إذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ مَا فِي فِطْرَتِهِ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ فِي خِطَابِهِ لِمُوسَى { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } مَا فِي فِطْرَتِهِ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ رَبَّهُ وَيَعْرِفُ إنْعَامَهُ عَلَيْهِ وَإِحْسَانَهُ إلَيْهِ وَافْتِقَارَهُ إلَيْهِ فَذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ { أَوْ يَخْشَى } مَا يُنْذِرُهُ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ فَذَلِكَ أَيْضًا يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } . فَالْحِكْمَةُ تَعْرِيفُ الْحَقِّ فَيَقْبَلُهَا مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ بِلَا مُنَازَعَةً . وَمَنْ نَازَعَهُ هَوَاهُ وُعِظَ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ . فَالْعِلْمُ بِالْحَقِّ يَدْعُو صَاحِبَهُ إلَى اتِّبَاعِهِ . فَإِنَّ الْحَقَّ مَحْبُوبٌ فِي الْفِطْرَةِ . وَهُوَ أَحَبُّ إلَيْهَا . وَأَجَلُّ فِيهَا وَأَلَذُّ عِنْدِهَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ لَا تُحِبُّ ذَاكَ .

فَإِنْ لَمْ يَدْعُهُ الْحَقُّ وَالْعِلْمُ بِهِ خُوِّفَ عَاقِبَةَ الْجُحُودِ وَالْعِصْيَانِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَذَابِ فَالنَّفْسُ تَخَافُ الْعَذَابَ بِالضَّرُورَةِ . فَكُلُّ حَيٍّ يَهْرُبُ مِمَّا يُؤْذِيهِ بِخِلَافِ النَّافِعِ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فَيَتَّبِعُ الْأَدْنَى دُونَ الْأَعْلَى . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِمَا خُوِّفَ بِهِ أَوْ يَتَغَافَلُ عَنْهُ حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَهْوَاهُ . فَإِنَّهُ إذَا صَدَّقَ بِهِ وَاسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَبْعَثْ نَفْسُهُ إلَى هَوَاهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ نَوْعٍ مِنْ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ حَتَّى يَتَّبِعَهُ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ عَاصٍ لِلَّهِ جَاهِلًا كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ وَأَنَّ الْفِطْرَةَ مُقِرَّةٌ بِهِ . وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرُّسُلِ { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } هُوَ نَفْيٌ أَيْ لَيْسَ فِي اللَّهِ شَكٌّ . وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ يَتَضَمَّنُ تَقْرِيرَ الْأُمَمِ عَلَى مَا هُمْ مُقِرُّونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ .

فَإِنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ إذَا دَخَلَ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ كَانَ تَقْرِيرًا كَقَوْلِهِ : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ . بِخِلَافِ اسْتِفْهَامِ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ لَا تَقْرِيرَ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ إلَّا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ فَقَطْ وَدَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ إنْكَارٌ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ وَالْإِقْرَارُ بِهِ ثَابِتًا فِي كُلِّ فِطْرَةٍ فَكَيْفَ يُنْكِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ ؟ فَيُقَالُ أَوَّلًا : أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ فِي الْإِسْلَامِ بِإِنْكَارِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ هُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ الَّذِي اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّهِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ . وَهُمْ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ أَضَلِّ الطَّوَائِفِ وَأَجْهَلِهِمْ . وَلَكِنْ انْتَشَرَ كَثِيرٌ مِنْ أُصُولِهِمْ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ السَّلَفَ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا خَالَفَهُمْ فِيهِ سَلَفُهُمْ الْجَهْمِيَّة . فَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ صَدَرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إنَّمَا صَدَرَ أَوَّلًا عَمَّنْ ذَمَّهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّانِي : أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقُومُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ قِيَامَ الصِّفَةِ بِالنَّفْسِ غَيْرُ

شُعُورِ صَاحِبِهَا بِأَنَّهَا قَامَتْ بِهِ . فَوُجُودُ الشَّيْءِ فِي الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ غَيْرُ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِهِ . وَهَذَا كَصِفَاتِ بَدَنِهِ فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَرَاهُ كَوَجْهِهِ وَقَفَاهُ . وَمِنْهَا مَا يَرَاهُ إذَا تَعَمَّدَ النَّظَرَ إلَيْهِ كَبَطْنِهِ وَفَخِذِهِ وَعَضُدَيْهِ . وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا آثَارٌ مِنْ خِيلَانٍ وَغَيْرِ خِيلَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ وَهُوَ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ لَكِنَّ لَوْ تَعَمَّدَ رُؤْيَتَهُ لَرَآهُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رُؤْيَةَ ذَلِكَ لِعَارِضِ عَرَضَ لِبَصَرِهِ مِنْ العشى أَوْ الْعَمَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . كَذَلِكَ صِفَاتُ نَفْسِهِ قَدْ يَعْرِفُ بَعْضَهَا وَبَعْضُهَا لَا يَعْرِفُهُ . لَكِنَّ لَوْ تَعَمَّدَ تَأَمُّلَ حَالِ نَفْسِهِ لَعَرَفَهُ . وَمِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ وَلَوْ تَأَمَّلَ لِفَسَادِ بَصِيرَتِهِ وَمَا عَرَضَ لَهَا . وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا بِإِرَادَةِ تَقُومُ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ . وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا وَهُوَ يَعْرِفُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهُ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَلْبَسُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهُ . فَالْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إرَادَةٍ . وَإِذَا تَصَوَّرَ الْفِعْلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ وَقَدْ فَعَلَهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لَهُ وَقَدْ تَصَوَّرَهُ . وَإِذَا كَانَ مُرِيدًا لَهُ وَقَدْ تَصَوَّرَهُ امْتَنَعَ أَنْ لَا يُرِيدَ مَا تَصَوَّرَهُ وَفَعَلَهُ .

فَالْإِنْسَانُ إذَا قَامَ إلَى صَلَاةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا الظُّهْرُ فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا لَمْ يَنْسَهُ وَلَا يُرِيدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ . وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ إذَا تَصَوَّرَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ مُرِيدٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَنْوِيَ صَوْمَهُ . وَكَذَلِكَ إذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُهِلٌّ بِهِ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَكُونَ مُرِيدًا لِلْحَجِّ . وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَكُونَ مُرِيدًا لِلْوُضُوءِ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ نَجِدُ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ دَعْ الْعَامِّيَّةَ يَسْتَدْعُونَ النِّيَّةَ بِأَلْفَاظِ يَقُولُونَهَا وَيَتَكَلَّفُونَ أَلْفَاظًا وَيَشُكُّونَ فِي وُجُودِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَيَخْرُجُونَ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي يُشْبِهُ أَصْحَابُهَا الْمَجَانِينَ . وَالنِّيَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ . وَهِيَ الْقَصْدُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي نُفُوسِهِمْ لِوُجُودِهَا فِي نَفْسِ كُلِّ مَنْ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَالْجَامِعِ وَمَنْ تَوَضَّأَ فِي تِلْكَ الْمَطْهَرَةِ . أُولَئِكَ يَعْلَمُونَ هَذَا مِنْ نُفُوسِهِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ وَسْوَاسٌ وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَ حُصُولَهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ .

وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَإِنَّمَا الْفَرْضُ وُجُودُ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ . وَهِيَ مَوْجُودَةٌ وَمَعَ هَذَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْجُودَةً . وَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ " النِّيَّةُ حَاصِلَةٌ فِي قَلْبِك " لَمْ يَقْبَلْ لِمَا قَامَ بِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ الْمُنَاقِضِ لِفِطْرَتِهِ . وَكَذَلِكَ حَبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَوْجُودٌ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ إذَا كَانَ مُؤْمِنًا . وَتَظْهَرُ عَلَامَاتُ حُبِّهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إذَا أَخَذَ أَحَدٌ يَسُبُّ الرَّسُولَ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ أَوْ يَسُبُّ اللَّهَ وَيَذْكُرُهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ . فَالْمُؤْمِنُ يَغْضَبُ لِذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يَغْضَبُ لَوْ سُبَّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ . وَمَعَ هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ أَنْكَرُوا مَحَبَّةَ اللَّهِ وَقَالُوا : يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا أَوْ مَحْبُوبًا وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَقَالُوا : خِلَافًا لِلْحُلُولِيَّةِ كَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إلَّا الْحُلُولِيَّةَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ أَجْمَعِينَ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ . فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَوْجُودَةٌ فِي قُلُوبِ أَكْثَرِ الْمُنْكِرِينَ لَهَا بَلْ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَإِنْ أَنْكَرَهَا لِشُبْهَةِ عَرَضَتْ لَهُ .

وَهَكَذَا الْمَعْرِفَةُ مَوْجُودَةٌ فِي قُلُوبٍ هَؤُلَاءِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا مَحَبَّتَهُ هُمْ الَّذِينَ قَالُوا : مَعْرِفَتُهُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ فَأَنْكَرُوا مَا فِي فِطَرِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ سَبَبًا إلَى امْتِنَاعِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ وَقَدْ يَزُولُ عَنْ قَلْبِ أَحَدِهِمْ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ قَدْ تَفْسُدُ فَقَدْ تَزُولُ وَقَدْ تَكُونُ مَوْجُودَةً وَلَا تُرَى { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ } . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } . وَالْفِطْرَةُ تَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَتَخْصِيصَهُ بِأَنَّهُ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ

إلَى الْعَبْدِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ } وَرُوِيَ { عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } . فأخبر أَنَّهُ خَلَقَهُمْ حُنَفَاءَ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ الرَّبِّ وَمَحَبَّتَهُ وَتَوْحِيدَهُ . فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَضَمَّنَتْهَا الْحَنِيفِيَّةُ وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " . فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي هِيَ { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } فِيهَا إثْبَاتُ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ . وَفِيهَا إثْبَاتُ مَحَبَّتِهِ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَأْلُوهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَأْلُوهًا ؛ وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَحَبَّةِ . وَفِيهَا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . فَفِيهَا الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالتَّوْحِيدُ . وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الَّتِي خَلَقَهُمْ عَلَيْهَا . وَلَكِنَّ أَبَوَاهُ يُفْسِدَانِ ذَلِكَ فَيُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ وَيُشْرِكَانِهِ .

كَذَلِكَ يُجَهِّمَانِهِ فَيَجْعَلَانِهِ مُنْكِرًا لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَمَحَبَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ . ثُمَّ الْمَعْرِفَةُ يَطْلُبُهَا بِالدَّلِيلِ وَالْمَحَبَّةُ يُنْكِرُهَا بِالْكُلِّيَّةِ . وَالتَّوْحِيدُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْمَحَبَّةِ يُنْكِرُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَإِنَّمَا ثَبَتَ تَوْحِيدُ الْخَلْقِ وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا التَّوْحِيدِ وَهَذَا الشِّرْكُ . فَهُمَا يُشْرِكَانِهِ وَيُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَأَقْوَالُ النَّاسِ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَيْضًا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَحْوَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَشْعُرُ بِهَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ كَامِنٌ لَا يَشْعُرُ بِهِ بَلْ إنَّهُ مُخْلِصٌ فِي عِبَادَتِهِ وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ عُيُوبُهُ . وَكَلَامُ النَّاسِ فِي هَذَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ . وَلِهَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ " الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ " . قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ : يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ . قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السجستاني : مَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ؟ قَالَ : حُبُّ الرِّيَاسَةِ . فَهِيَ خَفِيَّةٌ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ وَكَثِيرًا مَا تَخْفَى عَلَى صَاحِبِهَا . بَلْ كَذَلِكَ حُبُّ الْمَالِ وَالصُّورَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُحِبُّ ذَلِكَ وَلَا يَدْرِي . بَلْ نَفْسُهُ سَاكِنَةٌ مَا دَامَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فَإِذَا فَقَدَهُ ظَهَرَ مِنْ

جَزَعِ نَفْسِهِ وَتَلَفِهَا مَا دَلَّ عَلَى الْمَحَبَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ . وَالْحُبُّ مُسْتَلْزِمٌ لِلشُّعُورِ فَهَذَا شُعُورٌ مِنْ النَّفْسِ بِأُمُورِ وَجَبَ لَهَا . وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا وَالشَّيْطَانُ يُغَطِّي عَلَى الْإِنْسَانِ أُمُورًا . وَذُنُوبُهُ أَيْضًا تَبْقَى رَيْنًا عَلَى قَلْبِهِ قَالَ تَعَالَى { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ . فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ . فَذَلِكَ الران الَّذِي قَالَ اللَّهُ { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ } . وَقَالَ { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } . فَالْمُتَّقُونَ إذَا أَصَابَهُمْ هَذَا الطَّيْفُ الَّذِي يَطِيفُ بِقُلُوبِهِمْ يَتَذَكَّرُونَ مَا عَلِمُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَزُولُ الطَّيْفُ وَيُبْصِرُونَ الْحَقَّ الَّذِي كَانَ مَعْلُومًا وَلَكِنَّ الطَّيْفَ يَمْنَعُهُمْ عَنْ رُؤْيَتِهِ . قَالَ تَعَالَى { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } . فَإِخْوَانُ

الشَّيَاطِينِ تَمُدُّهُمْ الشَّيَاطِينُ فِي غَيِّهِمْ " { ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } لَا تَقْصُرُ الشَّيَاطِينُ عَنْ الْمَدَدِ وَالْإِمْدَادِ وَلَا الْإِنْسُ عَنْ الْغَيِّ . فَلَا يُبْصِرُونَ مَعَ ذَلِكَ الْغَيِّ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِهِمْ لَكِنَّهُمْ يَنْسَوْنَهُ . وَلِهَذَا كَانَتْ الرُّسُلُ إنَّمَا تَأْتِي بِتَذْكِيرِ الْفِطْرَةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهَا وَتَقْوِيَتِهِ وَإِمْدَادِهِ وَنَفْيِ الْمُغَيِّرِ لِلْفِطْرَةِ . فَالرُّسُلُ بُعِثُوا بِتَقْرِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَكْمِيلِهَا لَا بِتَغْيِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَحْوِيلِهَا . وَالْكَمَالُ يَحْصُلُ بِالْفِطْرَةِ الْمُكَمَّلَةِ بِالشِّرْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ .
فَصْلٌ :
وَهَذَا النِّسْيَانُ نِسْيَانُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَلِمَا فِي نَفْسِهِ حَصَلَ بِنِسْيَانِهِ لِرَبِّهِ وَلِمَا أَنْزَلَهُ . قَالَ تَعَالَى { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } . وَقَالَ { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } . وَقَوْلُهُ { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } يَقْتَضِي أَنَّ نِسْيَانَ اللَّهِ كَانَ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَمَّا نَسُوا اللَّهَ عَاقَبَهُمْ بِأَنْ أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ .

وَنِسْيَانُهُمْ أَنْفُسَهُمْ يَتَضَمَّنُ إعْرَاضَهُمْ وَغَفْلَتَهُمْ وَعَدَمَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا كَانُوا عَارِفِينَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ حَالِ أَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنَّهُ يَقْتَضِي تَرْكَهُمْ لِمَصَالِحَ أَنْفُسِهِمْ . فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ أَنْفُسَهُمْ ذِكْرًا يَنْفَعُهَا وَيُصْلِحُهَا وَأَنَّهُمْ لَوْ ذَكَرُوا اللَّهَ لَذَكَرُوا أَنْفُسَهُمْ . وَهَذَا عَكْسُ مَا يُقَالُ " مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ " . وَبَعْضُ النَّاسِ يَرْوِي هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ . وَلَكِنْ يُرْوَى فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ إنْ صَحَّ " يَا إنْسَانُ اعْرَفْ نَفْسَك تَعْرِفْ رَبَّك " . وَهَذَا الْكَلَامُ سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِلَفْظِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ قَائِلٍ مَعْصُومٍ . لَكِنْ إنْ فُسِّرَ بِمَعْنَى صَحِيحٍ عُرِفَ صِحَّةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى سَوَاءٌ دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ أَوْ لَمْ يَدُلَّ . وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الثَّابِتُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } . فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِسْيَانَ الرَّبِّ مُوجِبٌ لِنِسْيَانِ النَّفْسِ . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَنْسَهُ يَكُونُ ذَاكِرًا لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَوْ

كَانَ نَاسِيًا لَهَا سَوَاءٌ ذَكَرَ اللَّهَ أَوْ نَسِيَهُ لَمْ يَكُنْ نِسْيَانُهَا مُسَبَّبًا عَنْ نِسْيَانِ الرَّبِّ . فَلَمَّا دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ نِسْيَانَ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ مُسَبَّبٌ عَنْ نِسْيَانِهِ لِرَبِّهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الذَّاكِرَ لِرَبِّهِ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا النِّسْيَانُ لِنَفْسِهِ . وَالذِّكْرُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ مَا قَدْ عَلِمَهُ . فَمَنْ ذَكَرَ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ رَبِّهِ ذَكَرَ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِهِ . وَهُوَ قَدْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْرِفُ رَبَّهُ وَيُحِبُّهُ وَيُوَحِّدُهُ . فَإِذَا لَمْ يُنْسَ رَبَّهُ الَّذِي عَرَفَهُ بَلْ ذَكَرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ وَمَعْرِفَتَهُ وَتَوْحِيدَهُ ذَكَرَ نَفْسَهُ فَأَبْصَرَ مَا كَانَ فِيهَا قَبْلُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ . وَأَهْلُ الْبِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوُهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الذِّكْرَ الْمَشْرُوعَ الَّذِي كَانَ فِي الْفِطْرَةِ وَجَاءَتْ بِهِ الشِّرْعَةُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَتَوْحِيدَهُ نَسُوا اللَّهَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَنَسُوا مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْعِلْم الْفِطْرِيِّ وَالْمَحَبَّةِ الْفِطْرِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ الْفِطْرِيِّ . وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : { نَسُوا اللَّهَ } أَيْ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ { فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } أَيْ حُظُوظَ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ لَمْ يُقَدِّمُوا لَهَا خَيْرًا هَذَا لَفْظُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ البغوي . وَلَفْظُ آخَرِينَ مِنْهُمْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : حِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ . وَكِلَاهُمَا قَالَ : { نَسُوا اللَّهَ } أَيْ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ .

وَمِثْلُ هَذَا التَّفْسِيرِ يَقَعُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ مَنْ يَأْتِي بِمُجْمَلِ مِنْ الْقَوْلِ يُبَيِّنُ مَعْنًى دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَلَا يُفَسِّرُهَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ التَّفْسِيرِ . فَإِنَّ قَوْلَهُمْ " تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ " . هُوَ تَرْكُهُمْ لِلْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ فَصَارَ الْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } . فَهُنَا شَيْئَانِ : نِسْيَانُهُمْ لِلَّهِ ثُمَّ نِسْيَانُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ الَّذِي عُوقِبُوا بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ لَكِنَّهُ تَفْصِيلٌ مُجْمَلٌ كَقَوْلِهِ { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } وَهَذَا هُوَ هَذَا ؛ قِيلَ : هُوَ لَمْ يَقُلْ " نَسُوا اللَّهَ فَنَسُوا حَظَّ أَنْفُسِهِمْ " حَتَّى يُقَالَ : هَذَا هُوَ هَذَا بَلْ قَالَ { نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } فَثَمَّ إنْسَاءٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْأَوَّلُ لَكَانَ قَدْ ذَكَرَ مَا يَعْذُرُهُمْ بِهِ لَا مَا يُعَاقِبُهُمْ بِهِ . فَلَوْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ لَكَانَ : { نَسُوا اللَّهَ } أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِطَاعَتِهِ فَهُوَ الَّذِي أَنْسَاهُمْ ذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ فَسَادُ هَذَا الْكَلَامِ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَلَوْ قِيلَ : { نَسُوا اللَّهَ } أَيْ نَسُوا أَمْرَهُ { فَأَنْسَاهُمْ } الْعَمَلَ بِطَاعَتِهِ أَيْ تَذَكُّرَهَا لَكَانَ أَقْرَبَ وَيَكُونُ النِّسْيَانُ الْأَوَّلُ عَلَى بَابِهِ . فَإِنَّ مَنْ نَسِيَ نَفْسَ أَمْرِ اللَّهِ لَمْ يُطِعْهُ .

وَلَكِنَّ هُمْ فَسَّرُوا نِسْيَانَ اللَّهِ بِتَرْكِ أَمْرِهِ . وَأَمْرُهُ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ لَيْسَ مَقْدُورًا لَهُمْ حَتَّى يَتْرُكُوهُ إنَّمَا يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِهِ فَالْأَمْرُ بِمَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ . إلَّا أَنْ يُقَالَ : مُرَادُهُمْ بِتَرْكِ أَمْرِهِ هُوَ تَرْكُ الْإِيمَانِ بِهِ . فَلَمَّا تَرَكُوا الْإِيمَانَ أَعْقَبَهُمْ بِتَرْكِ الْعَمَلِ . وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي تَرَكُوهُ إنْ كَانَ هُوَ تَرْكُ التَّصْدِيقِ فَقَطْ فَكَفَى بِهَذَا كُفْرًا وَذَنْبًا . فَلَا تُجْعَلُ الْعُقُوبَةُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ بَلْ هَذَا أَشَدُّ . وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ تَرْكَ الْإِيمَانِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا فَهَذَا هُوَ تَرْكُ الطَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَهَؤُلَاءِ أَتَوْا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا أَنْ يُفَسِّرُوا نِسْيَانَ الْعَبْدِ بِمَا قِيلَ فِي نِسْيَانِ الرَّبِّ وَذَاكَ قَدْ فُسِّرَ بِالتَّرْكِ . فَفَسَّرُوا هَذَا بِالتَّرْكِ . وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدِ فَإِنَّ النِّسْيَانَ الْمُنَاقِضَ لِلذِّكْرِ جَائِزٌ عَلَى الْعَبْدِ بِلَا رَيْبٍ . وَالْإِنْسَانُ يُعْرِضُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ حَتَّى يَنْسَاهُ فَلَا يَذْكُرُهُ . فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَجْعَلَ نِسْيَانَهُ تَرْكًا مَعَ اسْتِحْضَارٍ وَعِلْمٍ . وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يُنَاقِضُ صِفَاتِ كَمَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَفِي تَفْسِيرِ نِسْيَانِهِ الْكُفَّارَ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ نَظَرٌ . ثُمَّ هَذَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا }

أَيْ تَرَكْت الْعَمَلَ بِهَا . وَهُنَا قَالَ { نَسُوا اللَّهَ } وَلَا يُقَالُ فِي حَقِّ اللَّهِ " تَرَكُوهُ " .
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ { الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } بَيَانٌ لِتَعْرِيفِهِ بِمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ الْخَلْقِ عُمُومًا وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ خُصُوصًا وَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَعْرِفُ بِهِ الْفِطْرَةُ كَمَا تَقَدَّمَ . ثُمَّ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ الْخَالِقُ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْخَالِقَ لَا يَكُونُ إلَّا قَادِرًا . بَلْ كُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فَاعِلٌ لَا يَكُونُ إلَّا بِقُوَّةِ وَقُدْرَةٍ حَتَّى أَفْعَالُ الْجَمَادَاتِ . كَهُبُوطِ الْحَجَرِ وَالْمَاءِ وَحَرَكَةِ النَّارِ هُوَ بِقُوَّةِ فِيهَا . وَكَذَلِكَ حَرَكَةُ النَّبَاتِ هِيَ بِقُوَّةِ فِيهِ . وَكَذَلِكَ فِعْلُ كُلِّ حَيٍّ مِنْ الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا هُوَ بِقُوَّةِ فِيهَا . وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ وَغَيْرُهُ . وَالْخَلْقُ أَعْظَمُ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ . فَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ قُدْرَةٍ وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ مِنْ قَدْرِ الْمَخْلُوقِينَ . وَأَيْضًا فَالتَّعْلِيمُ بِالْقَلَمِ يَسْتَلْزِمُ الْقُدْرَةَ . فَكُلٌّ مِنْ الْخَلْقِ وَالتَّعْلِيمِ يَسْتَلْزِمُ الْقُدْرَةَ .

وَكَذَلِكَ كَلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ . فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ لِغَيْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَالِمًا بِمَا عَلَّمَهُ إيَّاهُ وَإِلَّا فَمِنْ الْمُمْتَنِعُ أَنْ يُعَلِّمَ غَيْرَهُ مَا لَا يَعْلَمُهُ هُوَ . فَمَنْ عَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا عَلَّمَهُ . وَالْخُلُق أَيْضًا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } . وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَلْقَ يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ . فَإِنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ دُونَ مَا هُوَ خِلَافُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِرَادَةِ تُخَصِّصُ هَذَا عَنْ ذَاكَ . وَالْإِرَادَةُ تَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ . فَلَا يُرِيدُ الْمُرِيدُ إلَّا مَا شَعَرَ بِهِ وَتَصَوَّرَ فِي نَفْسِهِ وَالْإِرَادَةُ بِدُونِ الشُّعُورِ مُمْتَنِعَةٌ . وَأَيْضًا فَنَفْسُ الْخَلْقِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ هُوَ فِعْلٌ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَجَائِبِ الْمَخْلُوقَاتِ . وَفِيهِ مِنْ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ مَا قَدْ بَهَرَ الْعُقُولَ . وَالْفِعْلُ الْمُحْكَمُ الْمُتْقَنُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ عَالِمٍ بِمَا فَعَلَ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ . فَالْخَلْقُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } . وَهُوَ بَيَانُ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ لُطْفِ الْحِكْمَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ إيصَالَ الْأُمُورِ إلَى غَايَاتِهَا بِأَلْطَفِ الْوُجُوهِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا

يَشَاءُ } . وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ وَالْعِلْمَ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ . وَكَذَلِكَ الْخِبْرَةُ . وَبَسْطُ هَذَا يَطُولُ إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ . ثُمَّ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَالِمٌ فَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ حَيًّا . وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ تَسْتَلْزِمُ الْحَيَاةَ . وَالْحَيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا كَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّ ذَلِكَ مِنْ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى . فَيَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِكَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا . وَالْإِرَادَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِغَايَةِ حَكِيمَةٍ أَوْ لَا . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِغَايَةِ حَكِيمَةٍ كَانَتْ سَفَهًا وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا . وَهُوَ إمَّا أَنْ يَقْصِدَ نَفْعَ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِمْ أَوْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ ضَرَرِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ أَوْ لَا يَقْصِدَ وَاحِدًا مِنْهُمَا بَلْ يُرِيدُ مَا يُرِيدُ سَوَاءٌ كَانَ كَذَا وَكَذَا . وَالثَّانِي شِرِّيرٌ ظَالِمٌ يَتَنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهُ وَالثَّالِثُ سَفِيهٌ عَابِثٌ . فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى رَحِيمٌ كَمَا أَنَّهُ حَكِيمٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ .

فَصْلٌ :
إثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ طُرُقٌ . أَحَدُهَا مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقُدْرَةِ وَلِغَيْرِهَا . فَمِنْ النُّظَّارِ مَنْ يُثْبِتُ أَوَّلًا الْقُدْرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ أَوَّلًا الْعِلْمَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ أَوَّلًا الْإِرَادَةَ . وَهَذِهِ طُرُقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ . وَهَذِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِجِنْسِ الْفِعْلِ وَهِيَ طَرِيقَةُ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَفْعُولٍ وَمَفْعُولٍ كَجَهْمِ بْنِ صَفْوَان وَمَنْ اتَّبَعَهُ . وَهَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ حِكْمَةً وَلَا رَحْمَةً إذْ كَانَ جِنْسُ الْفِعْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ . لَكِنْ هُمْ أَثْبَتُوا بِالْفِعْلِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ الْعِلْمَ . وَكَذَلِكَ تَثْبُتُ بِالْفِعْلِ النَّافِعِ الرَّحْمَةُ وَبِالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ الْحِكْمَةُ . وَلَكِنَّ هُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى الْعِلْمِ إذْ كَانَ ذَلِكَ إنَّمَا يَدُلُّ إذَا كَانَ فَاعِلًا لِغَايَةِ يَقْصِدُهَا . وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ ثُمَّ يَسْتَدِلُّونَ بِالْإِحْكَامِ عَلَى الْعِلْمِ وَهُوَ تَنَاقُضٌ . كَمَا تَنَاقَضُوا فِي الْمُعْجِزَاتِ حَيْثُ جَعَلُوهَا دَالَّةً عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ إمَّا

لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِذَلِكَ ؛ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَوْ لَمْ تَدُلَّ لَزِمَ الْعَجْزُ . وَهِيَ إنَّمَا تَدُلُّ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ يَقْصِدُ إظْهَارَهَا لِيَدُلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ . فَإِذَا قَالُوا إنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِشَيْءِ تَنَاقَضُوا .
وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْأُخْرَى فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَهِيَ : الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ الْكَامِلَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ . وَالثَّالِثَةُ طَرِيقَةُ قِيَاسِ الْأَوْلَى وَهِيَ التَّرْجِيحُ وَالتَّفْضِيلُ وَهُوَ أَنَّ الْكَمَالَ إذَا ثَبَتَ لِلْمُحْدِثِ الْمُمْكِنِ الْمَخْلُوقِ فَهُوَ لِلْوَاجِبِ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ أَوْلَى . وَالْقُرْآنُ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ وَهَذِهِ وَهَذِهِ . فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ أَكْمَلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً . } وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَقْوَى وَأَشَدُّ وَمَا فِيهَا مِنْ عِلْمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ وَمَا فِيهَا مِنْ عِلْمٍ وَحَيَاةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ .

وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ يُقِرُّ بِهَا عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ حَتَّى الْفَلَاسِفَةُ يَقُولُونَ : كُلُّ كَمَالٍ فِي الْمَعْلُولِ فَهُوَ مِنْ الْعِلَّةِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَكَقَوْلِهِ { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } وَمِثْلِ قَوْلِهِ : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ يَثْبُتُ لِلْمُحْدِثِ الْمَخْلُوقِ الْمُمْكِنِ فَهُوَ لِلْقَدِيمِ الْوَاجِبِ الْخَالِقِ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ . وَذَاكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ هُوَ جَعَلَهُ كَامِلًا وَأَعْطَاهُ تِلْكَ الصِّفَاتِ .
وَاسْمُهُ " الْعَلِيُّ " يُفَسَّرُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يُفَسَّرُ بِأَنَّهُ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ قَدْرًا فَهُوَ أَحَقُّ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ؛ وَيُفَسَّرُ بِأَنَّهُ الْعَالِي عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَيَعُودُ إلَى أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الْمَقْدُورُونَ . وَهَذَا يَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ خَالِقًا لَهُمْ وَرَبًّا لَهُمْ . وَكِلَاهُمَا يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ نَفْسَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا شَيْءَ فَوْقَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ . وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ }

فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا دُونَهُ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثْنَى بِهِ عَلَى رَبِّهِ . وَإِلَّا فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّهُ تَحْتَ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا وَكَانَ ذَلِكَ أَعْلَى مِنْهُ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ كَانَ ذَلِكَ تَعْطِيلًا لَهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا . وَهَذَا هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى مَعَ أَنَّ لَفْظَ " الْعَلِيِّ " و " الْعُلُوِّ " لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا فِي هَذَا وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِذَيْنِك لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي مُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ وَلَا فِي مُجَرَّدِ الْفَضِيلَةِ . وَلَفْظُ " الْعُلُوِّ " يَتَضَمَّنُ الِاسْتِعْلَاءَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ إذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ دَلَّ عَلَى الْعُلُوِّ كَقَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّهِ عَلَى الْعَرْشِ . وَالسَّلَفُ فَسَّرُوا " الِاسْتِوَاءَ " بِمَا يَتَضَمَّنُ الِارْتِفَاعَ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى } قَالَ : ارْتَفَعَ . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدِهِمْ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ آدَمَ بْنِ أَبِي إيَاسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ : { ثُمَّ اسْتَوَى } قَالَ : ارْتَفَعَ .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } عَلَا عَلَى الْعَرْشِ . وَلَكِنْ يُقَالُ : " عَلَا عَلَى كَذَا " و " عَلَا عَنْ كَذَا " وَهَذَا الثَّانِي جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ لَكِنْ بِلَفْظِ " تَعَالَى " كَقَوْلِهِ { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ وَأَنَّهُ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ يَدُلُّ عَلَى هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ كَمَا دَلَّنَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى طَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْفِعْلِ . فَإِنَّ قَوْلَهُ { الْأَكْرَمُ } يَقْتَضِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْكَرَمِ وَالْكَرَمُ اسْمٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْمَحَاسِنِ . فَيَقْتَضِي أَنَّهُ أَحَقُّ بِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ وَالْمَحَامِدِ هِيَ صِفَاتُ الْكَمَالِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَالرَّحْمَةِ وَأَحَقُّ بِالْحِكْمَةِ وَأَحَقُّ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { خَلَقَ } . فَإِنَّ الْخَالِقَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ قَيُّومٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَحَقُّ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدِثُ الْمُمْكِنُ . فَهَذَا مِنْ جِهَةِ قِيَاسِ الْأَوْلَى . وَمِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ فَإِنَّ الْخَالِقَ لِغَيْرِهِ

الَّذِي جَعَلَهُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا سَمِيعًا بَصِيرًا هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ حَيًّا عَالِمًا قَدِيرًا سَمِيعًا بَصِيرًا . و { الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . فَجَعَلَهُ عَلِيمًا وَالْعَلِيمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَيًّا . وَكَرَّمَهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَدِيرًا سَمِيعًا بَصِيرًا . وَالْأَكْرَمُ الَّذِي جَعَلَ غَيْرَهُ عَلِيمًا هُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَلِيمًا . وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْمَحَامِدِ . فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْمَخْلُوقِ الْخَاصِّ وَالْأَوَّلُ اسْتِدْلَالٌ بِجِنْسِ الْخَلْقِ . وَلِهَذَا دَلَّ هَذَا عَلَى ثُبُوتِ الصِّفَاتِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَكَذَلِكَ طَرِيقَةُ التَّفْضِيلِ وَالْأَوْلَى وَأَنْ يَكُونَ الرَّبُّ أَوْلَى بِالْكَمَالِ مِنْ الْمَخْلُوقِ . وَهَذِهِ الطُّرُقُ لِظُهُورِهَا يَسْلُكُهَا غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ كَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ لَكِنْ سَمَّوْهُ " جَوْهَرًا " وَضَلُّوا فِي جَعَلَ الصِّفَاتِ ثَلَاثَةً وَهِيَ الْأَقَانِيمُ . فَقَالُوا : وَجَدْنَا الْأَشْيَاءَ تَنْقَسِمُ إلَى جَوْهَرٍ وَغَيْرِ جَوْهَرٍ وَالْجَوْهَرُ أَعْلَى النَّوْعَيْنِ فَقُلْنَا : هُوَ جَوْهَرٌ . ثُمَّ وَجَدْنَا الْجَوْهَرَ يَنْقَسِمُ إلَى حَيٍّ وَغَيْرِ حَيٍّ وَوَجَدْنَا الْحَيَّ أَكْمَلَ فَقُلْنَا : هُوَ حَيٌّ . وَوَجَدْنَا الْحَيَّ يَنْقَسِمُ إلَى نَاطِقٍ وَغَيْرِ نَاطِقٍ فَقُلْنَا : هُوَ نَاطِقٌ .

وَكَذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ فِي سَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ : إنَّ الْأَشْيَاءَ تَنْقَسِمُ إلَى قَادِرٍ وَغَيْرِ قَادِرٍ وَالْقَادِرُ أَكْمَلُ . وَقَدْ بُسِطَ مَا فِي كَلَامِهِمْ مِنْ صَوَابٍ وَخَطَأٍ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ " الْجَوَابُ الصَّحِيحُ لِمَنْ بَدَّلَ دِينَ الْمَسِيحِ " . وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ .
وَقَوْلُهُ { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى تَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ مَا قَدْ عَلَّمَهُ مَعَ كَوْنِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنْ النَّقْصِ . فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيمِ فَقُدْرَتُهُ عَلَى تَعْلِيمِ الْأَنْبِيَاءِ مَا عَلَّمَهُمْ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ النَّاسِ . فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى جَمِيعِ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ إمْكَانَ النُّبُوَّاتِ هُوَ آخِرُ مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ . وَأَمَّا وُجُودُ الْأَنْبِيَاءِ وَآيَاتِهِمْ فَيُعْلَمُ بِالسَّمْعِ الْمُتَوَاتِرِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } يَدْخُلُ فِيهِ إثْبَاتُ تَعْلِيمِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ مَا عَلَّمَهُمْ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْإِمْكَانِ وَالْوُقُوعِ .

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ تَنْزِيهَهُ يَرْجِعُ إلَى أَصْلَيْنِ . تَنْزِيهُهُ عَنْ النَّقْصِ الْمُنَاقِضِ لِكَمَالِهِ . فَمَا دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْكَمَالِ لَهُ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَنَزُّهِهِ عَنْ النَّقْصِ الْمُنَاقِضِ لِكَمَالِهِ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ تَنَزُّهَهُ عَنْ النَّقْصِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ بِخِلَافِ مَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِ . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الطُّرُقَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي سَلَكُوهَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ لَا تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِهِ وَلَا عَلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا عَلَى تَنَزُّهِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ النَّقَائِصِ . فَلَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ مَا يُحِيلُونَ بِهِ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ النَّقَائِصِ . وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْأَفْعَالَ يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ بِخِلَافِ الصِّفَاتِ . لَكِنَّ طَرِيقَهُمْ فِي الصِّفَاتِ فَاسِدٌ مُتَنَاقِضٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ . وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِإِثْبَاتِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ بِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ التَّمْثِيلِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .

فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ { بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وَقَوْلُهُ { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ . فَالْخَلْقُ فِعْلُهُ وَالتَّعْلِيمُ يَتَنَاوَلُ تَعْلِيمَ مَا أَنْزَلَهُ كَمَا قَالَ { الرَّحْمَنِ } { عَلَّمَ الْقُرْآنَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } وَقَوْلُهُ { بِالْقَلَمِ } يَتَنَاوَلُ تَعْلِيمَ كَلَامِهِ الَّذِي يُكْتَبُ بِالْقَلَمِ . وَنُزُولُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي أَنْزَلَ فِيهَا كَلَامَهُ وَعَلَّمَ نَبِيَّهُ كَلَامَهُ الَّذِي يُكْتَبُ بِالْقَلَمِ دَلِيلٌ عَلَى شُمُولِ الْآيَةِ لِذَلِكَ فَإِنَّ سَبَبَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْدَرِجًا فِيهِ . وَإِذَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ وَتَكَلَّمَ . وَقَدْ قَالَ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } . وَمَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَبِالْخِطَابِ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمَخْلُوقَ غَيْرُ خَلْقِ الرَّبِّ لَهُ وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ لِغَيْرِهِ . وَاَلَّذِينَ نَازَعُوا فِي ذَلِكَ إنَّمَا نَازَعُوا لِشُبْهَةِ عَرَضَتْ لَهُمْ كَمَا قَدْ ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا وَفِي مَوَاضِعَ . وَإِلَّا فَهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ " خَلَقَ " فِعْلٌ لَهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ : خَلَقَ يَخْلُقُ خَلْقًا . وَالْإِنْسَانُ مَفْعُولُ الْمَصْدَرِ " الْمَخْلُوقُ " لَيْسَ هُوَ الْمَصْدَرُ .

وَلَكِنْ قَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا يُقَالُ " دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ " . وَمِنْهُ قَوْلُهُ { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } وَالْمُرَادُ هُنَاكَ : هَذَا مَخْلُوقُ اللَّهِ . وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي لَفْظِ " خَلْقُ " الْمُرَادُ بِهِ " الْمَخْلُوقُ " بَلْ فِي لَفْظِ " الْخَلْقِ " الْمُرَادِ بِهِ " الْفِعْلَ " الَّذِي يُسَمَّى الْمَصْدَرُ كَمَا يُقَالُ : خَلَقَ يَخْلُقُ خَلْقًا وَكَقَوْلِهِ { مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وَقَوْلِهِ { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } وَقَوْلِهِ { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } وَإِذَا كَانَ الْخَلْقُ فِعْلَهُ فَهُوَ بِمَشِيئَتِهِ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بِغَيْرِ مَشِيئَةٍ . وَمَا كَانَ بِالْمَشِيئَةِ امْتَنَعَ قِدَمُ عَيْنِهِ بَلْ يَجُوزُ قِدَمُ نَوْعِهِ . وَإِذَا كَانَ الْخَلْقُ لِلْحَادِثِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ تَامٍّ أَوْجَبَ حُدُوثَهُ لَزِمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَكِنْ إنْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ هَذَا الْمَخْلُوقِ مَخْلُوقٌ آخَرُ ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِخَلْقِ بَعْدَ خَلْقٍ . وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ . وَيَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَكَلِّمًا ثُمَّ يَصِيرُ مُتَكَلِّمًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَلْبٌ لِكَمَالِهِ وَالْكَلَامُ صِفَةُ كَمَالٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ ذَلِكَ . فَإِنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا يَمْتَنِعُ

أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مُتَكَلِّمًا وَمَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ عَالِمًا وَمَنْ لَا يَكُونُ حَيًّا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حَيَّا . فَهَذِهِ الصِّفَاتُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَكُونُ خَالِقًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ خَالِقًا . فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ فَجَعْلُهُ نَفْسَهُ خَالِقَةً أَعْظَمُ ؛ فَيَكُونُ هَذَا مُمْتَنِعًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ جَعْلَ نَفْسِهِ خَالِقَةً يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى جَعْلِ الْإِنْسَانِ فَاعِلًا كَانَ هُوَ الْخَالِقُ لِمَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ . فَلَوْ جَعَلَ نَفْسَهُ خَالِقَةً كَانَ هُوَ الْخَالِقُ لِمَا جَعَلَهَا تَخْلُقُهُ . فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا فِي الْأَزَلِ امْتَنَعَ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ خَالِقَةً بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . وَيُلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي الْأَزَلِ امْتِنَاعُهُ دَائِمًا . وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ . فَعُلِمَ أَنَّهُ مَا زَالَ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ مَا زَالَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخْلَقَ وَمَا زَالَ الْخَلْقُ مُمْكِنًا مَقْدُورًا . وَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ الْجَهْمِيَّة . بَلْ وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فَالْمُوجِبُ لَهُ لَيْسَ شَيْئًا بَائِنًا مِنْ خَارِجٍ بَلْ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مُرِيدَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ مَا زَالَ مُرِيدًا قَادِرًا . وَإِذَا حَصَلَتْ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَجَبَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ .

وَأَهْلُ الْكَلَامِ الَّذِينَ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا يَقُولُونَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى مَا سَيَكُونُ . فَيُقَالُ لَهُمْ : الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ إمْكَانِ الْمَقْدُورِ إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ دَائِمَةً ؛ فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ الْمَقْدُورَ دَائِمًا ؟ وَهُمْ يَقُولُونَ : لَا بَلْ الْإِمْكَانُ إمْكَانُ الْفِعْلِ حَادِثٌ . وَهَذَا يُنَاقِضُ إثْبَاتَ الْقُدْرَةِ وَإِنْ قَالُوا : بَلْ الْإِمْكَانُ حَاصِلٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْفِعْلُ مُمْكِنًا فَثَبَتَ إمْكَانُ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ مَقْدُورِ الرَّبِّ . وَحِينَئِذٍ ؛ فَإِذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا وَهَذَا الْمُمْكِنُ قَدْ وُجِدَ فَمَا لَا يَزَالُ فَالْمُوجِبُ لِوُجُودِ جِنْسِ الْمَقْدُورِ كَالْإِرَادَةِ مَثَلًا إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعًا فَيَلْزَمُ امْتِنَاعُ الْفِعْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُمْكِنٌ . وَأَيْضًا إذَا كَانَ وُجُودُهَا مُمْتَنِعًا لَمْ يَزَلْ مُمْتَنِعًا لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ هُنَاكَ يَجْعَلُهَا مُمْكِنَةً فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً . وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِبٍ . وَإِذَا كَانَ وُجُودُهَا فِي الْأَزَلِ مُمْكِنًا فَوُجُودُ هَذَا الْمُمْكِنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِ ذَاتِهِ وَذَاتُهُ كَافِيَةٌ فِي حُصُولِهِ . فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا . وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَتَى ثَبَتَ إمْكَانُهَا فِي الْأَزَلِ لَزِمَ

وُجُودُهَا فِي الْأَزَلِ . فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُوجَدْ لَكَانَتْ مُمْتَنِعَةً إذْ لَيْسَ فِي الْأَزَلِ شَيْءٌ سِوَى نَفْسِهِ يُوجِبُ وُجُودَهَا . فَإِذَا كَانَتْ مُمْكِنَةً وَالْمُقْتَضِي التَّامُّ لَهَا نَفْسُهُ لَزِمَ وُجُوبُهَا فِي الْأَزَلِ . وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا فَاعِلًا إذْ لَا مُقْتَضِي لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا ذَاتُهُ وَذَاتُهُ وَحْدُهَا كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ . فَيَلْزَمُ قِدَمُ النَّوْعِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ لَكِنَّ أَفْرَادَ النَّوْعِ تَحْصُلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالْحِكْمَةِ . وَلِهَذَا قَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُمْكِنٌ يَسْتَوِي طَرَفَا وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ الْمُقْتَضَيْ لِوُجُودِهِ فَيَجِبُ أَوْ لَا يَحْصُلُ فَيَمْتَنِعُ . فَمَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ فَاتِّصَافُهُ بِهِ وَاجِبٌ وَمَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ فَاتِّصَافُهُ بِهِ مُمْتَنِعٌ . وَمَا شَاءَ كَانَ وَوَجَبَ وُجُودُهُ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَامْتَنَعَ وُجُودُهُ . فَالْمُمْكِنُ مَعَ مُرَجِّحِهِ التَّامِّ وَاجِبٌ وَبِدُونِهِ مُمْتَنِعٌ . فَفِي قَوْله تَعَالَى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } وَفِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } دَلَالَةٌ عَلَى ثُبُوتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهَا . وَأَقْوَالُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَبِهَذَا فَسَّرُوا قَوْلَهُ { وَكَانَ اللَّهُ

عَزِيزًا حَكِيمًا } وَنَحْوَهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ : قَوْلُهُ { وَكَانَ اللَّهُ } كَأَنَّهُ كَانَ شَيْءٌ ثُمَّ مَضَى ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ . هَذَا لَفْظُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَذَلِكَ كَانَ وَلَمْ يَزَلْ . وَمِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ : أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ { وَكَانَ اللَّهُ } كَأَنَّهُ شَيْءٌ كَانَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَّا قَوْلُهُ { كَانَ } فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ و { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . وَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مغرا عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَمِّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ قَالَ يَهُودِيٌّ : إنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا فَكَيْفَ هُوَ الْيَوْمَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ . عَزِيزًا حَكِيمًا . وَهَذِهِ أَقْوَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِخَبَرِ " كَانَ " وَلَا

يَزَالُ كَذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ . فَلَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ وَلِهَذَا لَا يَزَالُ لِأَنَّهُ مِنْ نَفْسِهِ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا غَفُورًا . وَقَالَ أَيْضًا : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ.
فَصْلٌ :
وَكَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنْ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَأَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ مَبْسُوطًا دَلَالَةً أَتَمَّ مِنْ هَذَا . وَهِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي بْنِ كَعْبٍ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَك أَعْظَمُ ؟ فَقَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فَقَالَ : ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } . وَهُنَا افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ { اللَّهِ } وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِ { وَرَبِّكَ } وَلِهَذَا افْتَتَحَ بِهِ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .

وَقَالَ { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } إذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ اتَّخَذُوا إلَهَا غَيْرَهُ وَإِنْ قَالُوا بِأَنَّهُ الْخَالِقُ . فَفِي قَوْلِهِ { خَلَقَ } لَمْ يَذْكُرْ نَفْيَ خَالِقٍ آخَرَ إذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا . فَلَمْ يُثْبِتْ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَالِقًا آخَرَ مُطْلَقًا خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ بِخِلَافِ الْإِلَهِيَّةِ . قَالَ تَعَالَى { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } وَقَالَ تَعَالَى { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ } وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } . فَابْتَغَوْا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى وَلَمْ يُثْبِتُوا مَعَهُ خَالِقًا آخَرَ . فَقَالَ فِي أَعْظَمِ الْآيَاتِ { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } . ذَكَرَهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ كُلُّ مَوْضِعٍ فِيهِ أَحَدُ أُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالرُّسُلُ وَالْآخِرَةُ . هَذِهِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ وَأَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } .

فَقَالَ هُنَا { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قَرَنَهَا بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . وَزَادَ فِي آلِ عِمْرَانَ { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } وَهَذَا إيمَانٌ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ . وَقَالَ فِي طَه : { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } .
فَصْلٌ :
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ مَعْرِفَةُ الْإِنْسَانِ بِمَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْهُ الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ { الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } و " الْخَلْقُ " مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ . وَهُوَ نَوْعَانِ . فِعْلٌ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولٍ بِهِ مِثْلُ " خَلَقَ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي مَخْلُوقًا وَكَذَلِكَ " رَزَقَ " كَقَوْلِهِ { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ

هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ } . وَكَذَلِكَ الْهُدَى وَالْإِضْلَالُ وَالتَّعْلِيمُ وَالْبَعْثُ وَالْإِرْسَالُ وَالتَّكْلِيمُ . وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وَقَوْلِهِ { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } وَقَوْلِهِ { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا . وَالْأَفْعَالُ اللَّازِمَةُ كَقَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وَقَوْلِهِ { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } . فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى إضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ لَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لِشَيْءِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . لَكِنْ هَلْ قَامَ بِهِ فِعْلٌ هُوَ الْخَلْقُ أَوْ الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ ؟ وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِمَنْ يَثْبُتُ اتِّصَافُهُ بِالصِّفَاتِ . فَأَمَّا

مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ يَنْفُونَ قِيَامَ الْفِعْلِ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْخَلْقَ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَيَجْعَلُ الْخَلْقَ إمَّا مَعْنًى قَامَ بِالْمَخْلُوقِ أَوْ الْمَعَانِي الْمُتَسَلْسِلَةِ كَمَا يَقُولُهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ ؛ أَوْ يَجْعَلُ الْخَلْقَ قَائِمًا لَا فِي مَحَلٍّ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّهُ قَوْلُ " كُنْ " لَا فِي مَحَلٍّ وَقَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ : إنَّهُ إرَادَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ . وَهَذَا فِرَارٌ مِنْهُمْ عَنْ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ كَمَا الْتَزَمَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُ . وَالْجُمْهُورُ الْمُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ هُمْ فِي الْأَفْعَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَهَؤُلَاءِ يُقَسِّمُونَ الصِّفَاتِ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ . وَهَذَا تَقْسِيمٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . فَإِنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ لَا تَقُومُ بِهِ فَلَا يَتَّصِفُ بِهَا . لَكِنْ يُخْبِرُ عَنْهُ بِهَا . وَهَذَا التَّقْسِيمُ يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الصِّفَاتُ هِيَ الْأَخْبَارُ الَّتِي

يُخْبِرُ بِهَا عَنْهُ لَا مَعَانِيَ تَقُومُ بِهِ كَمَا تَقُولُ ذَلِكَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ . فَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا : الصِّفَاتُ تَنْقَسِمُ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ أَرَادُوا بِذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ مِنْ الْكَلَامِ تَارَةً يَكُونُ خَبَرًا عَنْ ذَاتِهِ وَتَارَةً عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ صِفَاتٌ تَقُومُ بِهِ . فَمَنْ فَسَّرَ الصِّفَاتِ بِهَذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ذَاتِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً وَفِعْلِيَّةً . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُرَادُهُ بِالصِّفَاتِ مَا يَقُومُ بِهِ فَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا يَصْلُحُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَلَكِنْ أَخَذُوا التَّقْسِيمَ عَنْ أُولَئِكَ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِالصِّفَاتِ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي والباجي وَغَيْرِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ . وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ . ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " أَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ خَالِقٌ وَخَلْقٌ وَمَخْلُوقٌ . وَذَكَرَهُ البغوي قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفُ بِمَذَاهِبِ التَّصَوُّفِ " أَنَّهُ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ يُسَمُّونَهُ

" التَّكْوِينُ " وَهُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة والهشامية وَنَحْوِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . ثُمَّ إذَا قِيلَ : الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَإِنَّهُ قَائِمٌ بِالرَّبِّ فَهَلْ هُوَ خَلْقٌ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ مَعَ حُدُوثِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ ؟ أَوْ هُوَ خَلْقٌ حَادِثٌ بِذَاتِهِ حَدَثَ لَمَّا حَدَثَ جِنْسُ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ أَمْ خَلْقٌ بَعْدَ خَلْقٍ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَهَذَا أَوْ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَجُمْهُورُهُمْ . وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الكَرَّامِيَة والهشامية وَغَيْرِهِمْ . فَمَنْ قَالَ " إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ فِعْلًا يَقُومُ بِذَاتِهِ " . وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ مِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ دَلِيلَ الْأَعْرَاضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ كالكَرَّامِيَة وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصَحِّحُهُ كَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُعَبَّرُ عَنْهَا بـ " مَسْأَلَةِ التَّأْثِيرِ " هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ التَّأْثِيرُ زَائِدٌ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَالْأَثَرِ أَمْ لَا ؟ وَكَلَامُ الرَّازِي فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ . وَعُمْدَةُ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالتَّأْثِيرَ هُوَ وُجُودُ الْأَثَرِ لَمْ يُثْبِتُوا زَائِدًا أَنْ قَالُوا : لَوْ كَانَ الْخَلْقُ وَالتَّأْثِيرُ زَائِدًا عَلَى ذَاتِ الْمَخْلُوقِ وَالْأَثَرِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَقُومَ بِمَحَلِّ أَوْ لَا وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا : يَقُومُ بِنَفْسِهِ . قَالُوا : وَإِذَا قَامَ بِمَحَلِّ فَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِالْخَالِقِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِغَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْخَالِقَ لَا هُوَ . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ ثَانِيَةٍ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَقُومُ بِالْمَخْلُوقِ . وَإِذَا قَامَ بِالْخَالِقِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَلَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالْمَخْلُوقَ مُتَلَازِمَانِ . فَوُجُودُ خَلْقٍ بِلَا مَخْلُوقٍ مُمْتَنِعٌ وَكَذَلِكَ وُجُودُ تَأْثِيرٍ بِلَا أَثَرٍ . وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ . وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ الْخَلْقَ الْحَادِثَ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَمَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ الْتَزَمَ التَّسَلْسُلَ وَجَعَلَ لِلْخَلْقِ خَلْقًا وَلِلْخَلْقِ خَلْقًا

لَكِنْ لَا فِي ذَاتِ اللَّهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . فَهَذِهِ عُمْدَةُ هَؤُلَاءِ . وَكُلُّ طَائِفَةٍ تُخَالِفُهُمْ مَنَعَتْ مُقَدِّمَةً مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِمْ . فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَخْلُوقِ مَنَعَ تينك الْمُقْدِمَتَيْنِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَكُلٌّ أَجَابَ بِحَسَبِ قَوْلِهِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ كَمَا أَنَّ الْإِرَادَةَ عِنْدَكُمْ قَدِيمَةً . وَمَعَ الْقَوْلِ بِقِدَمِهَا لَمْ يَلْزَمْ تَقَدُّمَ الْمُرَادِ كَذَلِكَ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ وَلَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْمَخْلُوقِ . وَهَذَا لَازِمٌ للكلابية مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ . لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ قِدَمِ إرَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ نَفْيُ قِدَمِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ . أَوْ يَقُولُ بِقِدَمِ نَوْعِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَغَيْرِهِمْ . لَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يُقَالُ لَهُ : التَّكْوِينُ الْقَدِيمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بِمَشِيئَتِهِ . فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ الْخَلْقَ بِلَا مَشِيئَتِهِ . وَإِنْ كَانَ بِمَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ مُرَادًا وَهَذَا بَاطِلٌ . وَلَوْ صَحَّ لَأَمْكَنَ كَوْنُ الْعَالَمِ قَدِيمًا مَعَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا

بِخَلْقِ قَدِيمٍ بِإِرَادَةِ قَدِيمَةٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ قَالَ " الْقُرْآنُ قَدِيمٌ " يَقُولُونَ : تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . فَالْمَفْعُولُ الْمُرَادُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ الْمُرَادُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا . وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ يَقُولُونَ : الْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمُرَادِ وَالْخَلْقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَخْلُوقِ . وَمَا ذُكِرَ حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْخَلْقَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ وَثُبُوتُ إرَادَةٍ بِلَا مُرَادٍ وَخَلْقٌ بِلَا مَخْلُوقٍ مُمْتَنِعٌ . لَكِنَّ الْمُنَازِعَ يَقُولُ : تُوجَدُ الْإِرَادَةُ وَالْخَلْقُ وَيَتَأَخَّرُ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ تَقُولُونَ : تُوجَدُ الْإِرَادَةُ أَوْ الْخَلْقُ مَعَ الْإِرَادَةِ وَلَا يُوجَدُ لَا الْمُرَادُ وَلَا الْمَخْلُوقُ . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ تَقْدِيرِ الْأَوْقَاتِ يُوجَدُ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ . وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ أَوْ الْخَلْقَ كَانَ مَوْجُودًا مَعَ الْقُدْرَةِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا مُؤَثِّرًا تَامًّا اسْتَلْزَمَ وُجُودَ الْأَثَرِ وَلَزِمَ وُجُودُ الْأَثَرِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ . فَإِنَّ الْأَثَرَ " مُمْكِنٌ " وَالْمُمْكِنُ يَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ

التَّامِّ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا بَعْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَحِينَئِذٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى مُرَجِّحٍ . وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ . وَلَا يَنْقَطِعُ التَّسَلْسُلُ إلَّا إذَا وُجِدَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ الْمُوجِبُ .
وَهُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْصَمِ الكرامي وَمَحْمُودٍ الْخَوَارِزْمِيّ يَكُونُ الْمُمْكِنُ أَوْلَى بِالْوُقُوعِ لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ : بَلْ لَا يَصِيرُ أَوْلَى وَلَكِنَّ الْقَادِرَ أَوْ الْقَادِرَ الْمُرِيدَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ . وَآخَرُونَ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا لَازِمٌ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ يَجِبُ وُجُودُ الْأَثَرِ وَعِنْدَ الدَّاعِي التَّامِّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَالرَّازِي والطوسي وَغَيْرُهُمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ بِالْإِرَادَةِ الْمُوجِبَةِ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ . والمتفلسفة أَوْرَدُوا هَذَا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ بِأَنَّ الْأَثَرَ يُقَارِنُ وُجُودَ التَّأْثِيرِ فَيَكُونُ مَعَهُ بِالزَّمَنِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ وَذَاكَ الْقَوْلُ

كالرَّازِي وَغَيْرِهِ فَيَبْقَوْنَ حَيَارَى فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْكَلَامِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلًا ثَالِثًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ . وَهُوَ أَنَّ التَّأْثِيرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَثَرِ عَقِبَهُ لَا مَعَهُ فِي الزَّمَانِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ . فَمَنْ قَالَ بِالتَّرَاخِي مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَقَدْ غَلِطَ وَمَنْ قَالَ بِالِاقْتِرَانِ كالمتفلسفة فَهُمْ أَعْظَمُ غَلَطًا . وَيَلْزَمُ قَوْلُهُمْ مِنْ الْمُحَالَاتِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ فَعَلَيْهِ يَدُلُّ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَالْعُقَلَاءُ يَقُولُونَ " قَطَّعْته فَانْقَطَعَ وَكَسَّرْته فَانْكَسَرَ " و " طَلَّقَ الْمَرْأَةَ فَطَلَقَتْ وَأَعْتَقَ الْعَبْدَ فَعَتَقَ " . فَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ يَقَعَانِ عَقِبَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّطْلِيقِ لَا يَتَرَاخَى الْأَثَرُ وَلَا يُقَارَنُ . وَكَذَلِكَ الِانْكِسَارُ وَالِانْقِطَاعُ مَعَ الْقَطْعِ وَالْكَسْرِ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْخَلْقُ لَزِمَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ عَقِبَهُ كَمَا يُقَالُ : كَوْنُ اللَّهِ الشَّيْءَ فَتَكُونُ . فَتَكُونُهُ عَقِبَ تَكْوِينِ اللَّهِ لَا مَعَ التَّكْوِينِ وَلَا مُتَرَاخِيًا .

وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ التَّامَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ الْمَقْدُورِ . فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ فَيُوجَدُ الْخَلْقُ بِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . ثُمَّ الْخَلْقُ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ حَادِثًا بِسَبَبِ آخَرَ يَكُونُ هَذَا عَقِبَهُ . فَإِنَّمَا فِي ذَلِكَ وُجُودُ الْأَثَرِ عَقِبَ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ وَالتَّسَلْسُلِ فِي الْآثَارِ . وَكِلَاهُمَا حَقٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَا يَكُونُ إلَّا بَائِنًا عَنْهُ لَا يَقُومُ بِهِ مَخْلُوقٌ . بَلْ نَفْسُ الْإِرَادَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ تَقْتَضِي وُجُودَ الْخَلْقِ كَمَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْكَلَامِ . وَلَا يَفْتَقِرُ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مَا بِهِ يَحْصُلُ وَهُوَ الْإِرَادَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ . وَإِذَا خَلَقَ شَيْئًا أَرَادَ خَلْقَ شَيْءٍ آخَرَ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ كالهشامية والكَرَّامِيَة قَالَ : نَحْنُ نَقُولُ بِقِيَامِ الْحَوَادِثِ . وَلَا دَلِيلَ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ . بَلْ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ .

وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ يُدَبِّرُ هَذَا الْعَالَمَ إلَّا بِذَلِكَ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَقْرَبُ الْفَلَاسِفَةِ إلَى الْحَقِّ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ " الْمُعْتَبَرِ " وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : يَلْزَمُ أَنَّ لِلْخَلْقِ خَلْقًا آخَرَ فَقَدْ أَجَابَهُمْ مَنْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ كالكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ بِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ : إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةَ تَحْدُثُ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ أَصْلًا . وَحِينَئِذٍ فَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْخَلْقِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ أَقْرَبُ إلَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ . وَهَذَا جَوَابٌ لَازِم عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَقْدِيرِ قِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ . والكَرَّامِيَة يُسَمُّونَ مَا قَامَ بِهِ " حَادِثًا " وَلَا يُسَمُّونَهُ " مُحْدَثًا " كَالْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْقُرْآنُ أَوْ غَيْرُهُ يَقُولُونَ : هُوَ حَادِثٌ وَيَمْنَعُونَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُحْدَثٌ لِأَنَّ " الْحَادِثَ " يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ك " الْفِعْلِ " . وَأَمَّا " الْمُحْدَثُ " فَيَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِهِ إحْدَاثُ غَيْرِ الْمُحْدَثِ وَذَلِكَ الْإِحْدَاثُ يَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ . وَأَمَّا غَيْرُ الكَرَّامِيَة مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْكَلَامِ فَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " مُحْدَثًا " كَمَا قَالَ { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ }

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ . { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } . وَاَلَّذِي أَحْدَثَهُ هُوَ النَّهْيُ عَنْ تَكَلُّمِهِمْ فِي الصَّلَاةِ . وَقَوْلُهُمْ " إنَّ الْمُحْدَثَ يَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ وَهَلُمَّ جَرًّا " هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ فِي الْآثَارِ مِثْلُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ . وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُ فَإِنَّ الْفِعْلَ وَالْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ . فَإِنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَمَنْ يَخْلُقُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَخْلُقُ . قَالَ تَعَالَى { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } . وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مَا زَالَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْإِكْرَامِ وَالْجَلَالِ . وَبِهَذَا تَزُولُ أَنْوَاعُ الْإِشْكَالِ وَيُعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ أَصْدَقِ الْأَقْوَالِ وَأَنَّ دَلَائِلَ الْعُقُولِ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى مَا يُوَافِقُ أَخْبَارَ الرَّسُولِ . وَلَكِنْ نَشَأَ الْغَلَطُ مِنْ جَهْلِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ

وَسُلُوكِهِمْ أَدِلَّةً بِرَأْيِهِمْ ظَنُّوهَا عَقْلِيَّةً وَهِيَ جهلية . فَغَلِطُوا فِي الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَاخْتَلَفُوا { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْأَفْعَالِ وَذُكِرَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَآخِذَ الْأَقْوَالِ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا بَيَّنَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَتَكَلَّمَ فِي " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " عَلَى قَوْلِهِ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } . وَبَيَّنَ أَنْ " الْجَعْلَ " مِنْ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ " خَلْقًا " كَقَوْلِهِ { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وَقَدْ يَكُونُ " فِعْلًا لَيْسَ بِخَلْقِ " وَقَوْلِهِ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلْقَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَيْسَتْ خَلْقًا مِثْلُ تَكَلُّمِهِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَتَكَلُّمِهِ لِمُوسَى وَغَيْرِهِ وَمِثْلُ النُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ إنَّمَا تَكُونُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَبِأَفْعَالِ أُخَرٍ تَقُومُ بِذَاتِهِ لَيْسَتْ خَلْقًا . وَبِهَذَا يُجِيبُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ للكرامية إذَا قَالُوا : " الْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إحْدَاثٍ ؟ " فَيَقُولُ : " نَعَمْ وَذَلِكَ الْإِحْدَاثُ

فِعْلٌ لَيْسَ بِخَلْقِ " و " التَّسَلْسُلُ " نَلْتَزِمُهُ . فَإِنَّ التَّسَلْسُلَ الْمُمْتَنِعَ هُوَ وُجُودُ الْمُتَسَلْسِلَاتِ فِي آنٍ وَاحِدٍ ؛ كَوُجُودِ خَالِقٍ لِلْخَالِقِ وَخَالِقٍ لِلْخَالِقِ أَوْ لِلْخَلْقِ خَلْقٌ وَلِلْخَلْقِ خَلْقٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ . وَهَذَا مُمْتَنِعٌ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا وُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي آنٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ مُطْلَقًا . وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ يَكُونُ " مُحْدَثًا " لَا " مُمْكِنًا " وَلَيْسَ فِيهَا مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ يَنْقَطِعُ بِهِ التَّسَلْسُلُ وَإِذَا كَانَ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ . بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ " كَانَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ كَلَامٌ وَقَبْلَ هَذَا الْفِعْلِ فِعْلٌ " جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ . فَإِذَا قِيلَ " هَذَا الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ أَحْدَثَهُ فِي نَفْسِهِ " كَانَ هَذَا مَعْقُولًا . وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِنَا " تَكَلَّمَ بِهِ " . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أَيْ تَكَلَّمْنَا بِهِ عَرَبِيًّا وَأَنْزَلْنَاهُ عَرَبِيًّا . وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ السَّلَفُ كَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَذَكَرَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } قُلْنَاهُ عَرَبِيًّا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه قَالَ : ذُكِرَ لَنَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } إنَّا قُلْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ . وَذَكَرَهُ

عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ الأشجعي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي قَوْلِهِ { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } بَيَّنَّاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا . وَالْإِنْسَانُ يُفَرِّقُ بَيْنَ تَكَلُّمِهِ وَتَحَرُّكِهِ فِي نَفْسِهِ وَبَيْنَ تَحْرِيكِهِ لِغَيْرِهِ . وَقَدْ احْتَجَّ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بـ " كُنْ " . فَلَوْ كَانَتْ " كُنْ " مَخْلُوقَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَ مَخْلُوقًا بِمَخْلُوقِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ الْبَاطِلُ . وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْلُقُ إلَّا بـ " كُنْ " فَلَوْ كَانَتْ " كُنْ " مَخْلُوقَةً لَزِمَ أَنْ لَا يَخْلُقَ شَيْئًا . وَهُوَ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ . فَإِنَّهُ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَ " كُنْ " وَلَا يَقُولُ " كُنْ " حَتَّى يَخْلُقَهَا فَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا . وَهَذَا تَسَلْسُلٌ فِي أَصْلِ التَّأْثِيرِ وَالْفِعْلِ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَفْعَلُ حَتَّى يَفْعَلَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَفْعَلَ ؛ وَلَا يَخْلُقُ حَتَّى يَخْلُقَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَخْلُقَ . وَأَمَّا إذَا قِيلَ : قَالَ " كُنْ " وَقَبْلَ " كُنْ " " كُنْ " وَقَبْلَ " كُنْ " " كُنْ " فَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعِ . فَإِنَّ هَذَا تَسَلْسُلٌ فِي آحَادِ التَّأْثِيرِ لَا فِي جِنْسِهِ . كَمَا أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَقُولُ " كُنْ " بَعْدَ " كُنْ " وَيَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ . فَالْمَخْلُوقَاتُ التَّامَّةُ يَخْلُقُهَا بِخَلْقِهِ وَخَلْقُهُ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ .

وَإِذَا قِيلَ : هَذَا الْفِعْلُ الْقَائِمُ بِهِ يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلٍ آخَرَ يَكُونُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي وُجُودِهِ غَيْرُ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ ذَلِكَ كَافِيًا كَفَى فِي وُجُودِ الْمَخْلُوقِ فَلَمَّا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ فَهَذَا الْخَلْقُ أَمْرٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ . فَالْمُؤَثِّرُ التَّامُّ فِيهِ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لَهُ مُسْتَعْقِبًا لَهُ كَالْمُؤَثِّرِ التَّامِّ فِي وُجُودِ الْكَلَامِ الْحَادِثِ بِذَاتِهِ . وَالْمُتَكَلِّمُ مِنْ النَّاسِ إذَا تَكَلَّمَ فَوُجُودُ الْكَلَامِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ مَسْبُوقٌ بِفِعْلِ آخَرَ . فَلَا بُدَّ مِنْ حَرَكَةٍ تَسْتَعْقِبُ وُجُودَ الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ الْكَلَامُ . فَتِلْكَ الْحَرَكَةُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْكَلَامَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا وَهُوَ فِعْلٌ يَقُومُ بِالْفَاعِلِ . وَذَلِكَ الْجَعْلُ الْحَادِثُ حَدَثَ بِمُؤَثِّرِ تَامٍّ قَبْلَهُ أَيْضًا . وَذَاتُ الرَّبِّ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِذَلِكَ كُلِّهِ . فَهِيَ تَقْتَضِي الثَّانِي بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ لَا مَعَهُ . وَاقْتِضَاؤُهَا لِلثَّانِي فِعْلٌ يَقُومُ بِهَا بَعْدَ الْأَوَّلِ . وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِهَذَا التَّأْثِيرِ وَهَذَا التَّأْثِيرِ . ثُمَّ هَذَا التَّأْثِيرِ وَكُلُّ تَأْثِيرٍ هُوَ مُسَبَّبٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَشَرْطٌ لِمَا بَعْدَهُ . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَتْ " حَادِثَةً " . وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَنَا أُسَمِّي هَذَا " خَلْقًا " كَانَ نِزَاعُهُ لَفْظِيًّا وَقِيلَ لَهُ : الَّذِينَ قَالُوا " الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ " لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ هَذَا وَلَا رَدَّ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ هَذَا . إنَّمَا رَدُّوا قَوْلَ مَنْ جَعَلَهُ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ

الْإِمَامُ أَحْمَد : كَلَامُ اللَّه مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بَائِنًا عَنْهُ . وَقَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ . قَالَ أَحْمَد : مِنْهُ بَدَأَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَبْدَأْ مِنْ مَخْلُوقٍ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ . قَالَ تَعَالَى { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } . وَلِهَذَا لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ خَلَقَ نُزُولَهُ وَاسْتِوَاءَهُ وَمَجِيئَهُ . وَكَذَلِكَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى وَنِدَاؤُهُ لَهُ نَادَاهُ وَكَلَّمَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَالتَّكْلِيمُ فِعْلٌ قَامَ بِذَاتِهِ وَلَيْسَ هُوَ الْخَلْقُ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَكَلَّمَ فَقَدْ فَعَلَ كَلَامًا وَأَحْدَثَ كَلَامًا وَلَكِنْ فِي نَفْسِهِ لَا مُبَايِنًا لَهُ . وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ صِفَةَ فِعْلٍ وَهُوَ صِفَةُ ذَاتٍ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ يَقُولُ : إنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ وَيُجْعَلُ الْفِعْلُ بَائِنًا عَنْهُ وَالْكَلَامُ بَائِنًا عَنْهُ . وَمَنْ قَالَ صِفَةَ ذَاتٍ يَقُولُ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ قَائِمٌ بِهِ . فَهُوَ صِفَةُ

ذَاتٍ وَصْفَةُ فِعْلٍ . وَلَكِنَّ الْفِعْلَ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْخَلْقُ بَلْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : الْجَعْلُ جعلان جَعْلٌ هُوَ خَلْقٌ وَجَعْلٌ لَيْسَ بِخَلْقِ . وَهَذَا كُلُّهُ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْأَفْعَالِ بِذَاتِهِ وَأَنَّهَا تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّيَةٌ كَالْخَلْقِ وَأَفْعَالٌ لَازِمَةٌ كَالتَّكَلُّمِ وَالنُّزُولِ . وَالسَّلَفُ يُثْبِتُونَ النَّوْعَيْنِ هَذَا وَغَيْرَهُ . وَأَمَّا جَعْلُ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي صِنَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ نَصَبَ مَفْعُولًا فَفِي " الْكَلَامِ " الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ " التَّكَلُّمُ " مُتَّصِلًا بِالْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ " الْكَلَامُ " كِلَاهُمَا قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ . وَلِهَذَا قَدْ يُرَادُ بِالْمَفْعُولِ الْمَصْدَرُ . إذَا قُلْت " قَالَ قَوْلًا حَسَنًا " فَقَدْ يُرَادُ بـ " الْقَوْلِ " الْمَصْدَرُ فَقَطْ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ " الْكَلَامُ " فَقَطْ فَيَكُونُ الْمَفْعُولَ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَجْمُوعُ فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ وَمَصْدَرًا . وَكَذَلِكَ " الْقُرْآنُ " هُوَ فِي الْأَصْلِ " قَرَأَ قُرْآنًا " وَهُوَ الْفِعْلُ وَالْحَرَكَةُ ثُمَّ سُمِّيَ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ " قُرْآنًا " . قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } وَقَالَ فِي الثَّانِي { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ } .
وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ فِي

الْأَصْلِ مَصْدَرُ " تَلَا تِلَاوَةً وَقَرَأَ قِرَاءَةً كَالْقُرْآنِ " لَكِنْ يُسَمَّى بِهِ الْكَلَامُ كَمَا يُسَمَّى بِالْقُرْآنِ . وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءَ وَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوَّ . وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ فَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ وَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَقْرُوءَ الْمَتْلُوَّ بَلْ تَكُونُ مُسْتَلْزِمَةً لَهُ . وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا تَكُونُ هِيَ الْمَتْلُوَّ لِأَنَّ فِيهَا الْفِعْلَ وَلَا تَكُونُ مُبَايِنَةً مُغَايِرَةً لِلْمَتْلُوِّ لِأَنَّ الْمَتْلُوَّ جُزْؤُهَا . هَذَا إذَا أُرِيدَ بِالْقِرَاءَةِ وَالْمَقْرُوءِ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ مِثْلُ قِرَاءَةِ الرَّبِّ وَمَقْرُوئِهِ أَوْ قِرَاءَةِ الْعَبْدِ وَمَقْرُوئِهِ . وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْقِرَاءَةِ قِرَاءَةُ الْعَبْدِ وَهِيَ حَرَكَتُهُ وَبِالْمَقْرُوءِ صِفَةُ الرَّبِّ فَلَا رَيْبَ أَنَّ حَرَكَةَ الْعَبْدِ لَيْسَتْ صِفَةَ الرَّبِّ . وَلَكِنْ هَذَا تَكَلُّفٌ . بَلْ قِرَاءَةُ الْعَبْدِ مَقْرُوءُهُ كَمَقْرُوئِهِ . وَقِرَاءَتُهُ لِلْقُرْآنِ إذَا عَنَى بِهَا نَفْسَ الْقُرْآنِ فَهِيَ مَقْرُوءُهُ . وَإِنْ عَنَى بِهَا حَرَكَتَهُ فَلَيْسَتْ مَقْرُوءَهُ . وَإِنْ عَنَى بِهَا الْأَمْرَانِ فَلَا يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ : الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ وَاحِدًا

مِنْهُمَا وَلِكُلِّ قَوْلٍ وَجْهٌ مِنْ الصَّوَابِ عِنْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ وَالْإِنْصَافِ . وَلَيْسَ فِيهَا قَوْلٌ يُحِيطُ بِالصَّوَابِ بَلْ كُلُّ قَوْلٍ فِيهِ صَوَابٌ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . وَالْبُخَارِيُّ إنَّمَا يُثْبِتُ خَلْقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ . وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ . وَأَمَّا الْكَلَامُ نَفْسُهُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ . وَلَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ إنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَمَا نَهَى أَحْمَد عَنْ هَذَا وَهَذَا . وَاَلَّذِي قَالَ الْبُخَارِيُّ إنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ لَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُ لِظُهُورِ أَمْرِهِ وَلِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الرَّدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّة . وَاَلَّذِي قَالَ أَحْمَد إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا صِفَةُ الْعِبَادِ لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ إنَّهُ مَخْلُوقٌ . وَلَكِنَّ أَحْمَد كَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقًا إذَا بُلِّغَ عَنْ اللَّهِ وَالْبُخَارِيَّ كَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتُهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَكِلَا الْقَصْدِينَ صَحِيحٌ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا . وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي

مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْمُنْحَرِفُونَ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يُنْكِرُونَ عَلَى الْآخَرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَفْعَالُ اللَّازِمَةُ كَالِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ فَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي نَفْسِ إثْبَاتِهَا . لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَ فِيهَا مَفْعُولٌ مَوْجُودٌ يَعْلَمُونَهُ حَتَّى يَسْتَدِلُّوا بِثُبُوتِ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَلْقِ وَإِنَّمَا عُرِفَتْ بِالْخَبَرِ . فَالْأَصْلُ فِيهَا الْخَبَرُ لَا الْعَقْلُ . وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ يَنْفُونَهَا مِمَّنْ يَقُولُ " الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ " . وَمِمَّنْ يَقُولُ " الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ " وَمَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يُثْبِتُهَا .
وَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ قَوْلَانِ :
مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا مِنْ جِنْسِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِجَعْلِهَا أُمُورًا حَادِثَةً فِي غَيْرِهَا . وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابِنّ الزَّاغُونِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَالِهِ . فَالْأَشْعَرِيُّ يَقُولُ : الِاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي الْعَرْشِ فَصَارَ بِهِ

مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ . وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي الْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ . وَيَقُولُ : هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ بَلْ تُوصَفُ بِهَا الْأَجْسَامُ وَالْأَعْرَاضُ فَيُقَالُ " جَاءَتْ الْحُمَّى وَجَاءَ الْبَرْدُ وَجَاءَ الْحُرُّ " وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمَا . وَحَمَلُوا مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ كالأوزاعي وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي النُّزُولِ : يَفْعَلُ اللَّه فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَكَمَا حَكَوْهُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ . وَلَكِنْ عِنْدَهُمْ هَذَا مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ . وَهَذَا قَوْلُ البيهقي وَطَائِفَةٍ وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَكُلُّ مَنْ قَالَ إنَّ الرَّبَّ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ الِاخْتِيَارِيَّةُ فَإِنَّهُ يَنْفِي أَنْ يَقُومَ بِهِ فِعْلٌ شَاءَهُ سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا أَوْ مُتَعَدِّيًا . لَكِنْ مَنْ أَثْبَتَ مِنْ هَؤُلَاءِ فِعْلًا قَدِيمًا كَمَنْ يَقُولُ بِالتَّكْوِينِ وَبِهَذَا فَإِنَّهُ يَقُولُ : ذَلِكَ الْقَدِيمُ قَامَ بِهِ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ كَمَا يَقُولُونَ فِي إرَادَتِهِ الْقَدِيمَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهَا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَفْعَالٌ تَقُومُ بِذَاتِهِ بِمَشِيئَتِهِ

وَاخْتِيَارِهِ كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ . وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ . وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي نِزَاعُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } وَقَوْلِهِ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } وَقَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَنْ نَفَى هَذِهِ الْأَفْعَالَ يَتَأَوَّلُ إتْيَانَهُ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ أَوْ بَأْسِهِ وَالِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ بِجَعْلِهِ الْقُدْرَةَ وَالِاسْتِيلَاءَ أَوْ بِجَعْلِهِ عُلُوَّ الْقَدْرِ . فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ هَلْ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ أَوْ الذَّاتِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ يَتَأَوَّلُونَهُ بِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْعَرْشِ . وَهُوَ مَا زَالَ قَادِرًا وَمَا زَالَ عَالِيَ الْقَدْرِ ؛ فَلِهَذَا ظَهَرَ ضَعْفُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا قَوْلُهُ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى بِحَرْفِ " ثُمَّ " .

وَمِنْهَا أَنَّهُ عَطَفَ فِعْلًا عَلَى فِعْلٍ فَقَالَ : خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى . وَمِنْهَا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْعَرْشِ وَغَيْرِهِ . وَإِذَا قِيلَ إنَّ الْعَرْشَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا لَا يَنْفِي ثُبُوتَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } . لَمَّا ذَكَرَ رُبُوبِيَّتَهُ لِلْعَرْشِ لِعَظْمَتِهِ وَالرُّبُوبِيَّةُ عَامَّةٌ جَازَ أَنْ يُقَالَ " رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ " وَيُقَالُ { رَبِّ الْعَالَمِينَ } { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } وَالِاسْتِوَاءُ مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَوْلٍ مُقْتَدِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا . فَلَوْ كَانَ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يُقَالَ : عَلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ طَوَائِفُ مِنْهُمْ الْأَشْعَرِيُّ . قَالَ : فِي إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَا زَالَ مُقْتَدِرًا عَلَيْهِ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ . وَمِنْهَا كَوْنُ لَفْظِ " الِاسْتِوَاءِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ عَلَى الْقُدْرَةِ أَوْ عُلُوِّ الْقَدْرِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ . وَالِاسْتِعْمَالُ الْمَوْجُودُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ يَمْنَعُ هَذَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَتَكَلَّمَ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي يَحْتَجُّونَ بِهِ :

ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ * * * مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا : اسْتَوَى عُمَرُ عَلَى الْعِرَاقِ لَمَّا فَتَحَهَا وَلَا اسْتَوَى عُثْمَانُ عَلَى خُرَاسَانَ وَلَا اسْتَوَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَمَنِ . وَإِنَّمَا قِيلَ هَذَا الْبَيْتُ إنْ صَحَّ فِي بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ لَمَّا دَخَلَ الْعِرَاقَ وَاسْتَوَى عَلَى كُرْسِيِّ مَلِكِهَا . فَقِيلَ هَذَا كَمَا يُقَالُ : جَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ أَوْ تَحْتَ الْمُلْكِ وَيُقَالُ : قَعَدَ عَلَى الْمُلْكِ وَالْمُرَادُ هَذَا . وَأَيْضًا فَالْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : الِاسْتِوَاءُ صِفَةُ فِعْلٍ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ قَوْلَانِ هُنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ هَلْ هُوَ فِعْلٌ بَائِنٌ عَنْهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَمْ فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ يَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ كِلَابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ . وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ .

وَالثَّانِي قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَلِهَذَا صَارَ لِلنَّاسِ فِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ . طَائِفَةٌ يَقُولُونَ : تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا وَيَجْعَلُونَ إتْيَانَهُ مِنْ جِنْسِ إتْيَانِ الْمَخْلُوقِ وَنُزُولَهُ مِنْ جِنْسِ نُزُولِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ الْمُشَبِّهَةُ الْمُمَثِّلَةُ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إذَا نَزَلَ خَلَا مِنْهُ الْعَرْشُ فَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ الْعَرْشِ . وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ : بَلْ النُّصُوصُ عَلَى ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ مَا وُصِفَ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . وَيَقُولُونَ : نَزَلَ نُزُولًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَذَلِكَ يَأْتِي إتْيَانًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ . وَهُوَ عِنْدُهُمْ يَنْزِلُ وَيَأْتِي وَلَمْ يَزَلْ عَالِيًا وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ . وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه : يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ . وَتَفْسِيرُ النُّزُولِ بِفِعْلِ يَقُومُ بِذَاتِهِ هُوَ قَوْلُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ .

وَالْأَوَّلُ نَفْيُ قِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ هُوَ قَوْلُ التَّمِيمِيِّ مُوَافَقَةً مِنْهُ لِابْنِ كِلَابٍ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ . وَطَائِفَتَانِ يَقُولَانِ : بَلْ لَا يَنْزِلُ وَلَا يَأْتِي كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَوِّضُ مَعْنَاهُ . وَطَائِفَتَانِ وَاقِفَتَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : مَا نَدْرِي مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَزِيدُ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ . وَعَامَّةُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَأَتْبَاعُ السَّلَفِ يُبْطِلُونَ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِمَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوِي الْآتِي لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرُدُّ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ وَيَقُولُ : مَا أَعِرْفُ مُرَادَ اللَّهِ بِهَذَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هَذَا مِمَّا نُهِيَ عَنْ تَفْسِيرِهِ أَوْ مِمَّا يُكْتَمُ تَفْسِيرُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَرِّرُهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْآثَارُ الْكَثِيرَةُ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ البغوي الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْفَرَّاءُ الْمُلَقَّبُ بـ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي تَفْسِيرِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ : أَيْ ارْتَفَعَ إلَى السَّمَاءِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كيسان

وَجَمَاعَةٌ مِنْ النَّحْوِيِّينَ : أَيْ أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ . وَقِيلَ : قَصَدَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ . قَالَ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } أَيْ عَمَدَ إلَى خَلْقِهَا . وَكَذَلِكَ هُوَ يُرَجِّحُ قَوْلَ مَنْ يُفَسِّرُ الْإِتْيَانَ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ وَقَوْلَ مَنْ يَتَأَوَّلُ الِاسْتِوَاءَ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كُتُبٍ أُخْرَى وَوَافَقَ بَعْضَ أَقْوَالِ ابْنِ عَقِيلٍ . قَالَ : ابْنُ عَقِيلٍ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَتَصَانِيفُ يَخْتَلِفُ فِيهَا رَأْيُهُ وَاجْتِهَادُهُ . وَقَالَ البغوي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } : قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ : اسْتَقَرَّ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : صَعِدَ . وَأَوَّلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ . وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ : الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ صِفَةٌ لِلَّهِ بِلَا كَيْفٍ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْإِيمَانُ بِهِ وَيَكِلُ الْعِلْمَ فِيهِ إلَى اللَّهِ . وَسَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ قَوْلِهِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ رَأْسَهُ مَلِيًّا وَعَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ . الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أُرَاك إلَّا ضَالًّا . ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ .

قَالَ : رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَة وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ : أَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ . وَقَالَ فِي قَوْلِهِ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } الْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِيمَا شَاكَلَهَا أَنْ يُؤْمِنَ الْإِنْسَانُ بِظَاهِرِهَا وَيَكِلَ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ وَيَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ . عَلَى ذَلِكَ مَضَتْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ وَعُلَمَاءُ السُّنَّةِ . قَالَ الْكَلْبِيُّ : هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ . ( قُلْت : وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى } اسْتَقَرَّ . فَفَسَّرَ ذَاكَ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ . لِأَنَّ ذَاكَ فِيهِ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهَذَا فِيهِ إتْيَانُهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ . قَالَ البغوي : وَكَانَ مَكْحُولٌ وَالزَّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَمَالِكٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقُ يَقُولُونَ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ : أَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ . قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة : كُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ فَتَفْسِيرُهُ قِرَاءَتُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ ؛ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُفَسِّرَهُ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ .

وَهَذِهِ الْآيَةُ أغمض مِنْ آيَةِ الِاسْتِوَاءِ . وَلِهَذَا كَانَ أَبُو الْفَرَجِ يَمِيلُ إلَى تَأْوِيلِ هَذَا وَيُنْكِرُ قَوْلَ مَنْ تَأَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ . قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَد : " الْعَرْشُ " السَّرِيرُ وَكُلُّ سَرِيرٍ لِلْمُلْكِ يُسَمَّى " عَرْشًا " وَقَلَّمَا يُجْمَعُ الْعَرْشُ إلَّا فِي الِاضْطِرَارِ . قُلْت : وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : يُسَمَّى " عَرْشًا " لِارْتِفَاعِهِ . قُلْت : وَالِاشْتِقَاقُ يَشْهَدُ لِهَذَا كَقَوْلِهِ { وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } وَقَوْلِهِ { مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } . وَقَوْلُ سَعْدٍ : وَهَذَا كَافِرٌ بِالْعَرْشِ . وَمَقْعَدُ الْمَلِكِ يَكُونُ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ . فَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ عَالٍ عَلَيْهِ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فَوْقَهُ هُوَ دُونَهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرٍ . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْعَرْشِ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ . قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ :
مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ * * * رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا

بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّا * * * س وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا
شَرْجَعًا لَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْـ * * * نِ تَرَى دُونَهُ الْمَلَائِكُ صُوَرًا
قُلْت : يُرِيدُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . فَإِنَّ أُمِّيَّةَ وَنَحْوَهُ إنَّمَا أَخَذَ هَذَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِلَّا فَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ هَذَا . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَ كَعْبٌ : إنَّ السَّمَوَاتِ فِي الْعَرْشِ كَقِنْدِيلِ مُعَلَّقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . قَالَ : وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنْ لَا يَزِيدُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْآيَةِ . وَقَدْ شَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا : الْعَرْشُ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَهُوَ عُدُولٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى التَّجَوُّزِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَثَرِ . أَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُ { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } أَفَتُرَاهُ كَانَ الْمُلْكُ عَلَى الْمَاءِ ؟ . قَالَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ :
حَتَّى اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ * * * مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
وَقَالَ الشَّاعِرُ أَيْضًا :

قَدْ قَلَّمَا اسْتَوَيَا بِفَضْلِهِمَا جَمِيعًا * * * عَلَى عَرْشِ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ زُورِ
قَالَ : وَهُوَ مُنْكَرٌ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ . قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : إنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْلَمُ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعْظَمَ . قَالَ : وَإِنَّمَا يُقَالُ " اسْتَوْلَى فُلَانٌ عَلَى كَذَا " إذَا كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ ثُمَّ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْأَشْيَاءِ . وَالْبَيْتَانِ لَا يُعْرَفُ قَائِلَهُمَا كَذَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ . وَلَوْ صَحَّا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِيهِمَا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ اسْتِيلَاءِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْلِيًا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ تَعْطِيلِ الْمُلْحِدَةِ وَتَشْبِيهِ الْمُجَسِّمَةِ . قُلْت : فَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } . وَأَنْكَرَ تَأْوِيلَ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } . وَهُوَ فِي لَفْظِ " الْإِتْيَانِ " قَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ : قَوْلُهُ { أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ } كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ يُمْسِكُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : الْمُرَادُ بِهِ قُدْرَتُهُ وَأَمْرُهُ . قَالَ : وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } . قُلْت : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّ حَنْبَلًا نَقَلَهُ عَنْ

أَحْمَد فِي كِتَابِ " الْمِحْنَةِ " أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمُنَاظَرَةِ لَهُمْ يَوْمَ الْمِحْنَةِ لَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ " تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ " قَالُوا : وَالْمَجِيءُ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَخْلُوقِ . فَعَارَضَهُمْ أَحْمَد بِقَوْلِهِ { وَجَاءَ رَبُّكَ } { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } وَقَالَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ " : ثَوَابُهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ { وَجَاءَ رَبُّكَ } أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِيمَا نَقَلَهُ حَنْبَلٌ . فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ خِلَافُ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ أَحْمَد فِي مَنْعِهِ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا وَتَأْوِيلِ النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ . وَلَهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ : إنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ حَنْبَلٍ انْفَرَدَ بِهِ دُونَ الَّذِينَ ذَكَرُوا عَنْهُ الْمُنَاظَرَةَ مِثْلَ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ والمروذي وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا هَذَا وَحَنْبَلٌ يَنْفَرِدُ بِرِوَايَاتِ يُغَلِّطُهُ فِيهَا طَائِفَةٌ كَالْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ . قَالَ أَبُو إسْحَاقَ ابْنُ شاقلا : هَذَا غَلَطٌ مِنْ حَنْبَلٍ لَا شَكَّ فِيهِ . وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ تَأَوَّلَ " يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا " أَنَّهُ يَنْزِلُ أَمْرُهُ . لَكِنَّ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبٍ كَاتِبِهِ وَهُوَ كَذَّابٌ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَقَدْ رُوِيَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَكِنَّ الْإِسْنَادَ مَجْهُولٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : هَذَا قَالَهُ إلْزَامًا لِلْخَصْمِ

عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُمْ فِي يَوْمِ الْمِحْنَةِ لَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ " تَأْتِي الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ " أَجَابَهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ : يَأْتِي ثَوَابُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ كَقَوْلِهِ { أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ } أَيْ أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ لَا أَنَّهُ يَقُولُ بِذَلِكَ . فَإِنَّ مَذْهَبَهُ تَرْكُ التَّأْوِيلِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَقَدْ يَخْتَلِفُ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي مَسَائِلَ مِثْلِ هَذِهِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ رِدُّ التَّأْوِيلِ . وَقَدْ ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ ابْنُ الزَّاغُونِي وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ أَنَّ تَرْكَ التَّأْوِيلِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَعْمُولُ عَلَيْهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ مِنْ أَصْحَابِنَا . وَرِوَايَةُ التَّأْوِيلِ فَسَّرَ ذَلِكَ بِالْعَمْدِ وَالْقَصْدِ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِالْأَمْرِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فَسَّرُوا { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } . فَعَلَى هَذَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ إذَا قِيلَ بِهِ وَجْهَانِ . وَابْنُ الزَّاغُونِي وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَنَحْوُهُمَا وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِإِمْرَارِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ ابْنِ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ . فَإِنَّهُ أَيْضًا يَمْنَعُ تَأْوِيلَ النُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَيَجْعَلُهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَيَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَجْسَامَ بَلْ يُوصَفُ بِهَا غَيْرُ الْأَجْسَامِ . وَكَلَامُ ابْنِ الزَّاغُونِي فِي هَذَا

النَّوْعِ وَفِي اسْتِوَاءِ الرَّبِّ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ نَفْسِهِ . هَذَا قَوْلُهُمْ فِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ .
وَأَمَّا عُلُوُّ الرَّبِّ نَفْسِهِ فَوْقَ الْعَالَمِ فَعِنْدَ ابْنِ كِلَابٍ أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ كَقَوْلِ أَكْثَرِ الْمُثْبِتَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الخطابي وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الزَّاغُونِي وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَكَانَ الْقَاضِي أَوَّلًا يَقُولُ بِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ : إنَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ . وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْبَيْهَقِي وَنَحْوِهِمَا .
وَأَمَّا أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَتْبَاعُهُ فَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا الْأَشْعَرِيَّ وَقُدَمَاءَ أَصْحَابِهِ فِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ فَلَمْ يُثْبِتُوهَا . لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ نَفَاهَا فَتَأَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَهَذَا أَوَّلُ قَوْلَيْ أَبِي الْمَعَالِي ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي إثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا كالرَّازِي والآمدي . وَآخِرُ قَوْلَيْ أَبِي الْمَعَالِي الْمَنْعُ مِنْ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا إجْمَاعُ السَّلَفِ وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَوْ كَانَ مُسَوَّغًا أَوْ مَحْتُومًا لَكَانَ اهْتِمَامُهُمْ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ اهْتِمَامِهِمْ بِغَيْرِهِ . فَاسْتَدَلَّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّأْوِيلُ وَجَعَلَ الْوَقْفَ التَّامَّ عَلَى

قَوْلِهِ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } . ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " النِّظَامِيَّةِ فِي الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ " . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ عَامَّةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ يَرَوْنَ التَّأْوِيلَ مُخَالِفًا لِطَرِيقَةِ السَّلَفِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرَ لَفْظَ " التَّأْوِيلِ " وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَأَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ . فَمَنْ قَالَ : لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ فَأَرَادَ بِهِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَالْمُرَادُ بِهِ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ الَّذِي بَيَّنَهُ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ . وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي لَفْظِ " التَّأْوِيلِ " عَلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ وَأَنَّهُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ دُونَ الرَّاجِحِ دَلِيلٌ يَقْتَرِنُ بِهِ . فَهَذَا اصْطِلَاحُ مُتَأَخِّرٌ وَهُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ تَأْوِيلَاتُ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَحْمَد فِي " رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة " : الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ . وَقَدْ تَكَلَّمَ أَحْمَد عَلَى مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَفَسَّرَهُ كُلَّهُ .

وَمِنْهُ تَفْسِيرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ السَّلَفِ وَمِنْهُ تَفْسِيرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْجَدُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَهُ البغوي لَا مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ : أَمَّا الْإِتْيَانُ الْمَنْسُوبُ إلَى اللَّهِ فَلَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَمَكْحُولِ وَالزُّهْرِيِّ . وَالْأَوْزَاعِي وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَمَالِك بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَتْبَاعِهِمْ أَنَّهُ يَمُرُّ كَمَا جَاءَ . وَكَذَلِكَ مَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ كَأَحَادِيثِ النُّزُولِ وَنَحْوِهَا . وَهِيَ طَرِيقَةُ السَّلَامَةِ وَمَنْهَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِظَاهِرِهَا وَيَكِلُونَ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ . عَلَى ذَلِكَ مَضَتْ الْأَئِمَّةُ خَلَفًا بَعْدَ سَلَفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } . وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ فِي قَوْلِهِ { أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } : هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ وَذَكَرَ مَا يُشْبِهُ كَلَامَ الخطابي فِي هَذَا . فَإِنْ قِيلَ " كَيْفَ يَقَعُ الْإِيمَانُ بِمَا لَا يُحِيطُ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِ عِلْمًا بِحَقِيقَتِهِ ؟ " فَالْجَوَابُ : كَمَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ

وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالنَّارِ وَالْجَنَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نُحِيطُ عِلْمًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ وَإِنَّمَا كُلِّفْنَا الْإِيمَانَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَعْرِفُ عِدَّةً مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَكَثِيرًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا نُحِيطُ بِصِفَاتِهِمْ ثُمَّ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي إيمَانِنَا بِهِمْ ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْت لَعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } . ( قُلْت : لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ الشَّخْصُ لَمْ يَفْقَهْ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا قَالَ وَلَا فَهِمَ مِنْ الْكَلَامِ شَيْئًا فَضْلًا عَنْ الْعَرَبِ . فَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ الْعِلْمُ بِمَعْنَى كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ هَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ . فَكُلُّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَا وَأَنْ يَكِلَ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ فَيَقُولُ " اللَّهُ أَعْلَمُ " . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . فَمَا زَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَمُرُّ بِآيَةِ وَلَفْظٍ لَا يَفْهَمُهُ فَيُؤْمِنُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ . لَكِنْ هَلْ يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ . بَلْ وَلَا الرَّسُولُ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ التَّأْوِيلَ هُوَ " مَعْنَى الْآيَةِ " وَيَقُولُ : إنَّهُ لَا

يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ ؟ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ كَلَامٌ لَا يَفْهَمُهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ بَلْ وَلَا جِبْرِيلُ . هَذَا هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ . وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ . وَالْجَنَّةِ . فَإِنَّا قَدْ فَهِمْنَا الْكَلَامَ الَّذِي خُوطِبْنَا بِهِ وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نَعِيمًا لَا نَعْلَمُهُ . وَهَذَا خِطَابٌ مَفْهُومٌ وَفِيهِ إخْبَارُنَا أَنَّ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَا لَا نَعْلَمُهُ . وَهَذَا حَقٌّ كَقَوْلِهِ { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } وَقَوْلِهِ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا } . فَهَذَا فِيهِ إخْبَارُنَا بِأَنَّ لِلَّهِ مَخْلُوقَاتٍ لَا نَعْلَمُهَا أَوْ نَعْلَمُ جِنْسَهُمْ وَلَا نَعْلَمُ قَدْرَهُمْ أَوْ نَعْلَمُ بَعْضَ صِفَاتِهِمْ دُونَ بَعْضٍ . وَكُلُّ هَذَا حَقٌّ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْخِطَابَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي أُمِرْنَا بِتَدَبُّرِهِ لَا يَفْقَهُ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا الْمُؤْمِنُونَ . فَهَذَا هُوَ الْمُنْكَرُ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْعُلَمَاءُ . فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَقَالَ { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وَقَالَ { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } وَقَالَ { حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } . وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ أَوْ أَخْبَرَنَا بِبَعْضِ صِفَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ فَمَا

لَمْ يُخْبِرْ بِهِ لَا يَضُرُّنَا أَنْ لَا نَعْلَمَهُ وَبَيَّنَ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي جَعَلَ هُدًى وَشِفَاءً لِلنَّاسِ . وَقَالَ الْحَسَنُ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ فِيمَا أُنْزِلَتْ وَمَا عَنَى بِهَا . فَكَيْفَ يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ قَطُّ ؟ . وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ " الرَّبُّ هُوَ الَّذِي يَأْتِي إتْيَانًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ " أَوْ يُقَالُ " مَا نَدْرِي هَلْ هُوَ الَّذِي يَأْتِي أَوْ أَمْرُهُ " . فَكَثِيرٌ مَنْ لَا يَجْزِمُ بِأَحَدِهِمَا بَلْ يَقُولُ : اُسْكُتْ فَالسُّكُوتُ أَسْلَمُ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالسُّكُوتُ لَهُ أَسْلَمُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } . لَكِنَّ هُوَ يَقُولُ : إنَّ الرَّسُولَ وَجَمِيعَ الْأُمَّةِ كَانُوا كَذَلِكَ لَا يَدْرُونَ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا أَوْ هَذَا وَلَا الرَّسُولُ كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ . فَقَائِلُ هَذَا مُبْطِلٌ مُتَكَلِّمٌ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ . وَكَانَ يَسَعُهُ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ هَذَا لَا يَجْزِمُ بِأَنَّ الرَّسُولَ وَالْأَئِمَّةَ كُلَّهُمْ جُهَّالٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ السُّكُوتُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ . ثُمَّ إنَّ هَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ . فَأَحَادِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرُهَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ . لَكِنْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ . أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ " . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " مَا مِنْ

رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ " . وَإِذَا قَالَ : بَلْ كَانَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ إتْيَانُهُ نَفْسُهُ فَهَذَا جَزْمٌ بِأَنَّهُمْ عَرَفُوا مَعْنَاهَا وَبُطْلَانَ الْقَوْلِ الْآخَرِ لَمْ يَكُونُوا سَاكِتِينَ حَيَارَى . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَقْدُورَهُ وَمَأْمُورَهُ مِمَّا يَأْتِي أَيْضًا وَلَكِنْ هُوَ يَأْتِي كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ إتْيَانًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ . فَإِذَا قِيلَ : لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ كَانَ هَذَا صَحِيحًا . وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ وَالْكَلَامُ مِمَّا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا جِبْرِيلُ وَلَا الْمُؤْمِنُونَ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُتَدَبَّرُ وَيُعْقَلُ . بَلْ مِثْلُ هَذَا عَبَثٌ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْعَبَثِ . ثُمَّ هَذَا يَلْزَمُهُمْ فِي الْأَحَادِيثِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ } . أَفَكَانَ الرَّسُولُ يَقُولُ هَذَا الْحَدِيثَ وَنَحْوَهُ وَهُوَ لَا يَفْقَهُ مَا يَقُولُ وَلَا يَفْهَمُ لَهُ مَعْنًى ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ وَقَدْحٌ فِي الرَّسُولِ وَتَسْلِيطٌ لِلْمُلْحِدِينَ . إذَا قِيلَ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ قَدْ كَانَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ قَالُوا : فَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَفْهَمَ مَعْنَاهُ . وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ فَإِذَا قِيلَ إنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ

صِفَاتِ الرَّبِّ لَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ يَفْهَمُهُ وَهُوَ كَلَامُ أُمِّيٍّ عَرَبِيٍّ يَنْزِلُ عَلَيْهِ قِيلَ : فَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةُ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ يَفْهَمُهَا . وَحِينَئِذٍ فَهَذَا الْبَابُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي رِسَالَتِهِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ . قَالَتْ الْمَلَاحِدَةُ : فَيُؤْخَذُ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ . فَإِذَا قَالَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ : هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَحَدِ مَنَعُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : إنَّمَا فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ . لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الْأُمُورَ الْإِلَهِيَّةَ لَا تُعْلَمُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَقْصُرُ عَنْهَا الْبَيَانُ بِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ وَالْخَبَرِ ؟ وَالْمَلَاحِدَةُ يَقُولُونَ : إنَّ الرُّسُلَ خَاطَبَتْ بِالتَّخْيِيلِ وَأَهْلُ الْكَلَامِ يَقُولُونَ : بِالتَّأْوِيلِ وَهَؤُلَاءِ الظَّاهِرِيَّةُ يَقُولُونَ : بِالتَّجْهِيلِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى خَطَأِ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ وَبُيِّنَ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ أَتَى بِغَايَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَكْمَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . فَأَكْمَلُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا . وَقَوْلُ ابْنِ السَّائِبِ : إنَّ هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ تَفْسِيرًا يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَيَكْتُمُونَهُ .

وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ . إمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ يُكْتَمُ شَيْءٌ مِمَّا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَهَذَا مِنْ الْكِتْمَانِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَعَابَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ . وَقَالَ { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كِتْمَانِ مَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ الْأَلْفَاظِ يَتَأَوَّلُهَا بَعْضُهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُهُمْ مُتَشَابِهًا . وَهِيَ دَلَائِلُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنَّ أَلْفَاظَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَهِيَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ كِتَابًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُمْكِنُهُمْ جَحْدُ أَلْفَاظِهَا لَكِنْ يُحَرِّفُونَهَا بِالتَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَيَكْتُمُونَ مَعَانِيَهَا الصَّحِيحَةَ عَنْ عَامَّتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } . فمن جَعَلَ أَهْلَ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ أُمِّيِّينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا تِلَاوَةً فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِنَظِيرِ مَا ذَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْكِتَابِ . وَصَبِيغُ بْنُ عسيل التَّمِيمِيُّ إنَّمَا ضَرَبَهُ عُمَرُ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَابَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لِأَنَّهُمْ

جَمَعُوا شَيْئَيْنِ سُوءَ الْقَصْدِ وَالْجَهْلِ . فَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ لِيُوقِعُوا بِذَلِكَ الشُّبْهَةَ وَالشَّكَّ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ } . فَهَذَا فِعْلُ مَنْ يُعَارِضُ النُّصُوصَ بَعْضَهَا بِبَعْضِ لِيُوقِعَ الْفِتْنَةَ وَهِيَ الشَّكُّ وَالرَّيْبُ فِي الْقُلُوبِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ { خَرَجَ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ يَتَجَادَلُونَ فِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا ؟ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا ؟ فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ ثُمَّ قَالَ : أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ ؟ اُنْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ } . فَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ مَذْمُومٌ . وَهُوَ حَالُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُشَكِّكَ النَّاسَ فِيمَا عَلِمُوهُ لِكَوْنِهِ وَإِيَّاهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مَا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يُعَارِضُهُ . هَذَا أَصْلُ الْفِتْنَةِ أَنْ يُتْرَكَ الْمَعْلُومُ لِغَيْرِ مَعْلُومٍ كَالسَّفْسَطَةِ الَّتِي تُورِثُ شُبَهًا يَقْدَحُ بِهَا فِيمَا عُلِمَ وَتُيُقِّنَ . فَهَذِهِ حَالُ مَنْ يُفْسِدُ قُلُوبَ النَّاسِ وَعُقُولَهُمْ بِإِفْسَادِ مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ أَصْلَ الْهُدَى فَإِذَا شَكَّكَهُمْ فِيمَا عَلِمُوهُ بَقُوا حَيَارَى.
وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَى بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى

صِدْقِهِ وَالْقُرْآنُ فِيهِ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ اللَّاتِي هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ قَدْ عَلِمَ مَعْنَاهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا حَقٌّ وَبِذَلِكَ يَهْتَدِي الْخَلْقُ وَيَنْتَفِعُونَ . فَمَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ ابْتَغَى الْفِتْنَةَ وَابْتَغَى تَأْوِيلَهُ وَالْأَوَّلُ قَصْدُهُمْ فِيهِ فَاسِدٌ وَالثَّانِي لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ بَلْ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْوِيلِهِ بِمَا يُفْسِدُ مَعْنَاهُ إذْ كَانُوا لَيْسُوا مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ . وَإِنَّمَا الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي رَسَخَ فِي الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ وَصَارَ ثَابِتًا فِيهِ لَا يَشُكُّ وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ بِمَا يُعَارِضُهُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ بَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ بِهِ قَدْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرْسَخْ فِي ذَلِكَ بَلْ إذَا عَارَضَهُ الْمُتَشَابِهُ شَكَّ فِيهِ فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُتَشَابِهِ مَا يُنَاقِضُ الْمُحْكَمَ فَلَا يَعْلَمُ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ إذْ لَمْ يَرْسَخْ فِي الْعِلْمِ بِالْمُحْكَمِ . وَهُوَ يَبْتَغِي الْفِتْنَةَ فِي هَذَا وَهَذَا . فَهَذَا يُعَاقَبُ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِصَبِيغِ . وَأَمَّا مَنْ قَصْدُهُ الْهُدَى وَالْحَقُّ فَلَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَسْأَلُ وَيُسْأَلُ عَنْ مَعَانِي الْآيَاتِ الدَّقِيقَةِ وَقَدْ سَأَلَ أَصْحَابَهُ عَنْ قَوْلِهِ { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فَذَكَرُوا ظَاهِرَ لَفْظِهَا . وَلَمَّا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهَا إعْلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِ وَفَاتِهِ قَالَ : مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَعْلَمُ .

وَهَذَا بَاطِنُ الْآيَةِ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِهَا . فَإِنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالِاسْتِغْفَارِ عِنْدَ ظُهُورِ الدِّينِ وَالِاسْتِغْفَارُ يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ خِتَامِ الْأَعْمَالِ وَبِظُهُورِ الدِّينِ حَصَلَ مَقْصُودُ الرِّسَالَةِ عَلِمُوا أَنَّهُ إعْلَامٌ بِقُرْبِ الْأَجَلِ مَعَ أُمُورٍ أُخَرٍ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ . وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَلْزُومَاتِهِ . وَالشَّيْءُ قَدْ يَكُونُ لَهُ لَازِمٌ وَلِلَازِمِهِ لَازِمٌ وَهَلُمَّ جَرَّا . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَفْطَنَ بِمَعْرِفَةِ اللَّوَازِمِ مِنْ غَيْرِهِ يَسْتَدِلُّ بِالْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَتَصَوَّرُ اللَّازِمَ وَلَوْ تَصَوَّرَهُ لَمْ يَعْرِفْ الْمَلْزُومَ بَلْ يَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَلْزَمَ ؛ وَيُحْتَمَلُ وَيُحْتَمَلُ . وَتَرَدُّدُ الِاحْتِمَالِ هُوَ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ وَإِلَّا فَالْوَاقِعُ هُوَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ . فَحَيْثُ كَانَ احْتِمَالٌ بِلَا تَرْجِيحٍ كَانَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْوَاقِعِ وَخَفَاءِ دَلِيلِهِ وَغَيْرِهِ قَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَعْلَمُ دَلِيلَهُ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ هُوَ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ كَانَ مِنْ جَهْلِهِ . فَلَا يَنْفِي عَنْ النَّاسِ إلَّا مَا عَلِمَ انْتِفَاؤُهُ عَنْهُمْ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَهَذَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . ثُمَّ إنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ هُوَ السُّكُوتُ عَنْ الْخَوْضِ فِي

تَأْوِيلِ ذَلِكَ وَالْمَصِيرُ إلَى الْإِيمَانِ بِظَاهِرِهِ وَالْوُقُوفُ عَنْ تَفْسِيرِهِ لِأَنَّا قَدْ نُهِينَا أَنْ نَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِنَا وَلَمْ يُنَبِّهْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى ذَلِكَ . فَيُقَالُ : أَمَّا كَوْنُ الرَّجُلِ يَسْكُتُ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَهَذَا مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ . لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا مَعْنَى الْآيَةِ وَتَفْسِيرَهَا وَتَأْوِيلَهَا . وَإِذَا كَانَ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ فَمَضْمُونُهُ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَهُوَ كَلَامُ شَاكٍّ لَا يَعْلَمُ مَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ . ثُمَّ إذَا ذَكَرَ لَهُمْ بَعْضَ التَّأْوِيلَاتِ كَتَأْوِيلِ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ وَقُدْرَتِهِ أَبْطَلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا يُسْقِطُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ . وَهَذَا نَفْيٌ لِلتَّأْوِيلِ وَإِبْطَالٌ لَهُ . فَإِذَا قَالُوا مَعَ ذَلِكَ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } أَثْبَتُوا تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُونَ جِنْسَ التَّأْوِيلِ . وَنَقُولُ مَا الْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ ؟ وَقَدْ أَمْكَنَ بِدُونِهِ أَنْ نُثْبِتَ إتْيَانًا وَمَجِيئًا لَا يُعْقَلُ كَمَا يَلِيقُ بِهِ كَمَا أَثْبَتْنَا ذَاتًا لَهَا حَقِيقَةً لَا تُعْقَلُ وَصِفَاتٍ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تُعْقَلُ . وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَأْوِيلُ هَذَا وَأَنْ نُقَدِّرَ مُضْمَرًا مَحْذُوفًا مِنْ قُدْرَةٍ أَوْ عَذَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَا مَنَعَكُمْ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ " تَرَوْنَ رَبَّكُمْ " كَذَلِكَ ؟ .

وَهَذَا كَلَامٌ فِي إبْطَالِ التَّأْوِيلِ وَحَمْلٌ لِلَّفْظِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ . فَإِذَا قِيلَ مَعَ هَذَا : إنَّ لَهُ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا الْجِنْسُ كَانَ تَنَاقُضًا . كَيْفَ يَنْفِي جِنْسَ التَّأْوِيلِ وَيُثْبِتُ لَهُ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . فَعُلِمَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ لَا يُنَاقِضُ حَمْلَهُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ آخَرُ يُحَقِّقُ هَذَا وَيُوَافِقُهُ لَا يُنَاقِضُهُ وَيُخَالِفُهُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَا يُوَافِقُ الْقُرْآنَ لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِهَا . وَهُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَجِيءُ اللَّهِ قَطْعًا لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا دَلَّ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَيَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى يَأْتِي إتْيَانًا تَكُونُ الْمَخْلُوقَاتُ مُحِيطَةً بِهِ وَهُوَ تَحْتُهَا . فَإِنَّ هَذَا مُنَاقِضٌ لِكَوْنِهِ الْعَلِيَّ الْأَعْلَى . وَالْجَدُّ الْأَعْلَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ جَرَى فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الطَّرِيقَةِ . وَهَذِهِ عَادَتُهُ وَعَادَاتُ غَيْرِهِ .

وَذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ الزَّاغُونِي فَقَالَ قَالَ الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الزَّاغُونِي : وَقَدْ اخْتَلَفَ كَلَامُ إمَامِنَا أَحْمَد فِي هَذَا الْمَجِيءِ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهَلْ يَدْخُلُ التَّأْوِيلُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ مَجِيءِ ذَاتِهِ . فَعَلَى هَذَا يَقُولُ : لَا يَدْخُلُ التَّأْوِيلُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَجِيئُهُ بِذَاتِهِ إلَّا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إثْبَاتُ مَجِيءٍ هُوَ زَوَالٌ وَانْتِقَالٌ يُوجِبُ فَرَاغَ مَكَانٍ وَشَغْلَ آخَرَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا يُعْرَفُ بِالْجِنْسِ فِي حَقِّ الْمُحْدِثِ الَّذِي يَقْصُرُ عَنْ اسْتِيعَابِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَوَاطِنِ لِأَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ يَفْتَقِرُ مَجِيئُهُ إلَيْهَا إلَى الِانْتِقَالِ عَمَّا قَرُبَ إلَى مَا بَعُدَ . وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ الْبَارِي تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَعْظَمَ مِنْهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي مَجِيئِهِ إلَى انْتِقَالٍ وَزَوَالٍ لِأَنَّ دَاعِيَ ذَلِكَ وَمُوجِبَهُ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّهِ . فَأَثْبَتْنَا الْمَجِيءَ صِفَةً لَهُ وَمَنَعْنَا مَا يُتَوَهَّمُ فِي حَقِّهِ مَا يَلْزَمُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } . وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ

اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ } . فَنَحْنُ نُثْبِتُ وَصْفَهُ بِالنُّزُولِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا بِالْحَدِيثِ وَلَا نَتَأَوَّلُ مَا ذَكَرُوهُ وَلَا نُلْحِقُهُ بِنُزُولِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِي هُوَ زَوَالٌ وَانْتِقَالٌ مِنْ عُلُوٍّ إلَى أَسْفَلَ بَلْ نُسَلِّمُ لِلنَّقْلِ كَمَا وَرَدَ وَنَدْفَعُ التَّشْبِيهَ لِعَدَمِ مُوجِبِهِ . وَنَمْنَعُ مِنْ التَّأْوِيلِ لِارْتِفَاعِ نِسْبَتِهِ . قَالَ : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ مِنْ أَصْحَابِنَا . ( قُلْت : أَمَّا كَوْنُ إتْيَانِهِ وَمَجِيئِهِ وَنُزُولِهِ لَيْسَ مِثْلَ إتْيَانِ الْمَخْلُوقِ وَمَجِيئِهِ وَنُزُولِهِ فَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ . فَإِنَّ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالَ تَتْبَعُ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ الْفَاعِلَةَ . فَإِذَا كَانَتْ ذَاتُهُ مُبَايِنَةً لِسَائِرِ الذَّوَاتِ لَيْسَتْ مِثْلَهَا لَزِمَ ضَرُورَةُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مُبَايِنَةً لِسَائِرِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ مِثْلَهَا . وَنِسْبَةُ صِفَاتِهِ إلَى ذَاتِهِ كَنِسْبَةِ صِفَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ إلَى ذَاتِهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الْعَظِيمُ فَهُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . فَلَا يَكُونُ نُزُولُهُ وَإِتْيَانُهُ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَخْلُوقَاتُ تُحِيطُ بِهِ أَوْ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْهُ وَأَكْبَرَ هَذَا مُمْتَنِعٌ . وَأَمَّا لَفْظُ " الزَّوَالِ " و " الِانْتِقَالِ " فَهَذَا اللَّفْظُ مُجْمَلٌ وَلِهَذَا كَانَ

أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ . فَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرُهُ أَنْكَرُوا عَلَى الْجَهْمِيَّة قَوْلَهُمْ : إنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ وَذَكَرُوا أَثَرًا أَنَّهُ لَا يَزُولُ وَفَسَّرُوا الزَّوَالَ بِالْحَرَكَةِ . فَبَيَّنَّ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ إنْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَهُمْ لِأَنَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } ذَكَرُوا عَنْ ثَابِتٍ : دَائِمٌ بَاقٍ لَا يَزُولُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ . لَا يَزُولُ عَنْ مَكَانَتِهِ . قُلْت : وَالْكَلْبِيُّ بِنَفَسِهِ الَّذِي رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ هُوَ يَقُولُ : { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } اسْتَقَرَّ وَيَقُولُ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ . وَأَمَّا " الِانْتِقَالُ " فَابْنُ حَامِدٍ وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ : يَنْزِلُ بِحَرَكَةِ وَانْتِقَالٍ . وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالتَّمِيمِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد أَنْكَرُوا هَذَا وَقَالُوا : بَلْ يَنْزِلُ بِلَا حَرَكَةٍ وَانْتِقَالٍ . وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ كَابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ يَقِفُونَ فِي هَذَا . وَقَدْ ذَكَرَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ وَنَفْيِ اللَّفْظِ بِمُجْمَلِهِ " . وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا الْبَابِ مُرَاعَاةُ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ فَيُثْبِتُ مَا

أَثْبَتَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَثْبَتَهُ وَيَنْفِي مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا نَفَاهُ . وَهُوَ أَنْ يُثْبِتَ النُّزُولَ وَالْإِتْيَانَ وَالْمَجِيءَ ؛ وَيَنْفِيَ الْمِثْلَ وَالسَّمِيَّ وَالْكُفُؤَ وَالنِّدَّ . وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى نَفْيِ الْمِثْلِ . يُقَالُ : يَنْزِلُ نُزُولًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ نَزَلَ نُزُولًا لَا يُمَاثِلُ نُزُولَ الْمَخْلُوقِينَ نُزُولًا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ وَفِي سَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ . وَهُوَ مُنَزَّهٌ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُ كَنُزُولِ الْمَخْلُوقِينَ وَحَرَكَتِهِمْ وَانْتِقَالِهِمْ وَزَوَالِهِمْ مُطْلَقًا لَا نُزُولَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا غَيْرِهِمْ . فَالْمَخْلُوقُ إذَا نَزَلَ مِنْ عُلْوٍ إلَى سُفْلٍ زَالَ وَصْفُهُ بِالْعُلُوِّ وَتَبَدَّلَ إلَى وَصْفِهِ بِالسُّفُولِ وَصَارَ غَيْرُهُ أَعْلَى مِنْهُ . وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهُ قَطُّ بَلْ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى وَلَا يَزَالُ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى مَعَ أَنَّهُ يَقْرُبُ إلَى عِبَادِهِ وَيَدْنُو مِنْهُمْ وَيَنْزِلُ إلَى حَيْثُ شَاءَ وَيَأْتِي كَمَا شَاءَ . وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي عَلِيٌّ فِي دُنُوِّهِ قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ . فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ غَيْرُهُ فَلِعَجْزِ الْمَخْلُوقِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . كَمَا يَعْجِزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ .

وَلِهَذَا قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ بِمَ عَرَفْت اللَّهَ ؟ قَالَ : " بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ " . وَأَرَادَ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ لَهُ مَا يَتَنَاقَضُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ كَمَا اجْتَمَعَ لَهُ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْخُبْثِ وَأَنَّهُ عَدْلٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ . وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ مَنْ مَكَّنَهُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ الْمَعَاصِي مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْعِهِمْ وَهُوَ فِي ذَلِكَ حَكِيمٌ عَادِلٌ . فَإِنَّهُ أَعْلَمُ الْأَعْلَمِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَخَيْرُ الْفَاتِحِينَ ؛ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ . فَأَنْ لَا يُحِيطُوا عِلْمًا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَقَدْ سَأَلُوا عَنْ الرُّوحِ فَقِيلَ لَهُمْ { الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى لَمَّا نَقَرَ عُصْفُورٌ فِي الْبَحْرِ : مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ } . فَاَلَّذِي يُنْفَى عَنْهُ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَاقِضًا لَمَّا عُلِمَ مِنْ صِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ فَهَذَا يُنْفَى عَنْهُ جِنْسُهُ كَمَا قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } وَقَالَ { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } . فَجِنْسُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ وَالْمَوْتِ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا " إنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ كَمَا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ " لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ يُوجِبُ نَقْصًا فِي كَمَالِهِ .

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ يَكُونُ فِي السُّفْلِ لَا فِي الْعُلْوِ وَهُوَ سُفُولٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى لَا يَكُونُ قَطُّ إلَّا عَالِيًا وَالسُّفُولُ نَقْصٌ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ . وَقَوْلُهُ " وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ " لَا يَقْتَضِي السُّفُولَ إلَّا عِنْدَ جَاهِلٍ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ فَيَظُنُّ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَمَا فِيهَا قَدْ تَكُونُ تَحْتَ الْأَرْضِ إمَّا بِاللَّيْلِ وَإِمَّا بِالنَّهَارِ . وَهَذَا غَلَطٌ كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَا فِي السَّمَاءِ مِنْ الْمَشْرِقِ يَكُونُ تَحْتَ مَا فِيهَا مِمَّا فِي الْمَغْرِبِ . فَهَذَا أَيْضًا غَلَطٌ . بَلْ السَّمَاءُ لَا تَكُونُ قَطُّ إلَّا عَالِيَةً عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ الْفُلْكُ مُسْتَدِيرًا مُحِيطًا بِالْأَرْضِ فَهُوَ الْعَالِي عَلَى الْأَرْضِ عُلُوًّا حَقِيقِيًّا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي الْإِثْبَاتِ تُثْبِتُ وَاَلَّتِي جَاءَتْ بِالنَّفْيِ تَنْفِي . وَالْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ كَلَفْظِ " الْحَرَكَةِ " و " النُّزُولِ " و " الِانْتِقَالِ " يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا : إنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُ الْمَخْلُوقَ لَا فِي نُزُولٍ وَلَا فِي حَرَكَةٍ وَلَا انْتِقَالٍ وَلَا زَوَالٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إثْبَاتُ هَذَا الْجِنْسِ كَلَفْظِ " النُّزُولِ " أَوْ نَفْيُهُ

مُطْلَقًا كَلَفْظِ " النَّوْمِ " و " الْمَوْتِ " فَقَدْ يَسْلُكُ كِلَاهُمَا طَائِفَةٌ تَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ . وَالْمُثْبِتَة يَقُولُونَ : نُثْبِتُ حَرَكَةً أَوْ حَرَكَةً وَانْتِقَالًا أَوْ حَرَكَةً وَزَوَالًا تَلِيقُ بِهِ كَالنُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ اللَّائِقِ بِهِ . والْنُّفَاةِ يَقُولُونَ : بَلْ هَذَا الْجِنْسُ يَجِبُ نَفْيُهُ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي جِنْسَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُتَجَدِّدَةِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْفِي فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَلَا يَنْفِي هَذَا الْجِنْسَ مُطْلَقًا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ لِمَا قَدْ عُلِمَ بِالْآيَاتِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلِ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ يُحِبُّ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ إذَا اتَّبَعَ رَسُولَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . بَلْ يَنْفِي مَا نَاقَضَ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَيَنْفِي مُمَاثَلَةَ مَخْلُوقٍ لَهُ . فَهَذَانِ هُمَا اللَّذَانِ يَجِبُ نَفْيُهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْقَائِلُ : اللَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ أَوْ

عَلَامَاتِ الْحَدَثِ أَوْ كُلِّ مَا أَوْجَبَ نَقْصًا وَحُدُوثًا فَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ مَعْلُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . لَكِنَّ الشَّأْنَ فِيمَا تَقُولُ النَّافِيَةُ . إنَّهُ مِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ وَآخَرُونَ يُنَازِعُونَهُمْ . لَا سِيَّمَا وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ قَالَتْ الْجَهْمِيَّة : إنَّ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ . أَوْ قِيَامَ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ هُوَ مِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ . وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ بَلْ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ بَلْ مَا ذَكَرُوهُ يَقْتَضِي حُدُوثَ كُلِّ شَيْءٍ . فَإِنَّهُ مَا مِنْ مَوْجُودٍ إلَّا وَلَهُ صِفَاتٌ تَقُومُ بِهِ وَتَقُومُ بِهِ أَحْوَالٌ تَحْصُلُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا مُسْتَلْزِمًا لِلْحُدُوثِ لَزِمَ حُدُوثُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ قَدِيمٌ . وَهَذَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ أَيْضًا . وَسِمَاتُ الْحَدَثِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ مِثْلُ افْتِقَارٍ إلَى الْغَيْرِ . فَكُلُّ مَا افْتَقَرَ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ الْحَاجَةِ إلَى مَا سِوَاهُ بِكُلِّ وَجْهٍ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَرْشِ أَوْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ . بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَهُوَ الصَّمَدُ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ يَصْمُدُ إلَيْهِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }

وَمِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ النَّقَائِصُ كَالْجَهْلِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُحْدَثًا لِأَنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ مُتَّصِفٌ بِنَقِيضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَصِفَاتُ الْكَمَالِ لَازِمَةٌ لَهُ . وَاللَّازِمُ يَمْتَنِعُ زَوَالُهُ إلَّا بِزَوَالِ الْمَلْزُومِ . وَالذَّاتُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَاجِبَةٌ بِنَفْسِهَا غَنِيَّةٌ عَمَّا سِوَاهَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهَا الْعَدَمُ وَالْفَنَاءُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . فَيَسْتَحِيلُ عَدَمُ لَوَازِمِهَا فَيَسْتَحِيلُ اتِّصَافُهَا بِنَقِيضِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ . فَلَا يُوصَفُ بِنَقِيضِهَا إلَّا الْمُحْدِثُ فَهِيَ مِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِحُدُوثِ مَا اتَّصَفَ بِهَا . وَهَذَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ " كُلُّ مَا اسْتَلْزَمَ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا فَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْهُ " . وَالنَّقْصُ الْمُنَاقِضُ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُدُوثِ الْمُتَّصِفِ بِهِ وَالْحُدُوثُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّقْصِ اللَّازِمِ لِلْمَخْلُوقِ . فَإِنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ يَفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَعْلَمُ إلَّا مَا عَلِمَ وَلَا يَقْدِرُ إلَّا مَا أَقْدَرَ وَهُوَ مُحَاطٌ بِهِ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ . فَهَذِهِ النَّقَائِصُ اللَّازِمَةُ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ هِيَ مَلْزُومَةٌ لِلْحُدُوثِ حَيْثُ كَانَ حُدُوثٌ كَانَتْ . وَالْحُدُوثُ أَيْضًا مَلْزُومٌ لَهَا فَحَيْثُ كَانَ مُحْدِثٌ كَانَتْ هَذِهِ النَّقَائِصُ . فَقَوْلُنَا " مَا اسْتَلْزَمَ نَقْصًا أَوْ حُدُوثًا فَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْهُ " حَقٌّ .

وَالْحُدُوثُ وَالنَّقْصُ اللَّازِمُ لِلْمَخْلُوقِ مُتَلَازِمَانِ . وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ امْتِنَاعِهِ فِي نَفْسِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ . فَكُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلٌ وَمَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارَيْنِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَعَنْ مَدْلُولِهِ الَّذِي هُوَ لَازِمُهُ . وَالْحَاجَةُ إلَى الْغَيْرِ وَالْفَقْرُ إلَيْهِ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ وَالنَّقْصَ اللَّازِمَ لِلْمَخْلُوقِ . وَقَوْلِي " اللَّازِمَ " لِيَعُمَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَّا فَمِنْ النَّقَائِصِ مَا يَتَّصِفُ بِهَا بَعْضُ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ بَعْضٍ . فَتِلْكَ لَيْسَتْ لَازِمَةً لِكُلِّ مَخْلُوقٍ . وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْهَا أَيْضًا لَكِنْ إذَا نُزِّهَ عَنْ النَّقْصِ اللَّازِمِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ فَعَنْ مَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْمَخْلُوقِينَ أَوْلَى وَأَحْرَى . فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَخْلُوقٌ يُنَزَّهُ عَنْ نَقْصٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ . وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ " الْأَوْلَى " كَمَا دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي جَوَابِ " الْمَسَائِلِ التدمرية " الْمُلَقَّبِ بـ " تَحْقِيقِ الْإِثْبَاتِ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَيَانِ حَقِيقَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ " أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ فِيمَا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهُ عَلَى عَدَمِ وُرُودِ السَّمْعِ وَالْخَبَرِ بِهِ فَيُقَالُ : كُلُّ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ أَثْبَتْنَاهُ وَمَا لَمْ يُرِدْ بِهِ لَمْ نُثْبِتْهُ بَلْ نَنْفِيهِ وَتَكُونُ عُمْدَتُنَا فِي النَّفْيِ عَلَى عَدَمِ الْخَبَرِ .

بَلْ هَذَا غَلَطٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَدَمَ الْخَبَرِ هُوَ عَدَمُ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ وَالدَّلِيلُ لَا يَنْعَكِسُ فَلَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يُخْبِرْ هُوَ بِالشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَلِلَّهِ أَسْمَاءٌ سَمَّى بِهَا نَفْسَهُ وَاسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ . فَكَمَا لَا يَجُوزُ الْإِثْبَاتُ إلَّا بِدَلِيلِ لَا يَجُوزُ النَّفْيُ إلَّا بِدَلِيلِ . وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ وَلَمْ يَعْلَمْ ثُبُوتَهُ يَسْكُتُ عَنْهُ فَلَا يَتَكَلَّمُ فِي اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ . الثَّانِي : أَنَّ أَشْيَاءَ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ بِتَنْزِيهِهِ عَنْهَا وَلَا بِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهَا لَكِنْ دَلَّ الْخَبَرُ عَلَى اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَا فَعُلِمَ انْتِفَاؤُهَا . فَالْأَصْلُ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ مَا يُنَاقِضُ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَهَذَا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ . وَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الْخَبَرُ إنْ عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ نَفَيْنَاهُ وَإِلَّا سَكَتْنَا عَنْهُ . فَلَا نُثْبِتُ إلَّا بِعِلْمِ وَلَا نَنْفِي إلَّا بِعِلْمِ . وَنَفْيُ الشَّيْءِ مِنْ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا كَنَفْيِ دَلِيلِهِ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْخَبَرِ . وَهِيَ غَلَطٌ إلَّا إذَا كَانَ الدَّلِيلُ لَازِمًا لَهُ . فَإِذَا عُدِمَ اللَّازِمُ عُدِمَ الْمَلْزُومُ . وَأَمَّا جِنْسُ الدَّلِيلِ فَيَجِبُ فِيهِ الطَّرْدُ لَا الْعَكْسُ . فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الدَّلِيلِ وُجُودُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَلَا يَنْعَكِسُ .

فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ . مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ أُثْبِتَ وَمَا عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ نُفِيَ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ نَفْيُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ سَكَتَ عَنْهُ . هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ . وَالسُّكُوتُ عَنْ الشَّيْءِ غَيْرِ الْجَزْمِ بِنَفْيِهِ أَوْ ثُبُوتِهِ . وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَا أَثْبَتَهُ إلَّا بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِغَيْرِهَا اسْتَفْسَرَ وَاسْتَفْصَلَ فَإِنْ وَافَقَ الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ أَثْبَتَهُ بِاللَّفْظِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِالشَّرْعِ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَهَذِهِ سَبِيلُ مَنْ اعْتَصَمَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى .
لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُعْرَفَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ إسْنَادًا وَمَتْنًا . فَالْقُرْآنُ مَعْلُومٌ ثُبُوتَ أَلْفَاظِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ وُجُوهُ دَلَالَتِهِ . وَالسُّنَّةُ يَنْبَغِي مَعْرِفَةُ مَا ثَبَتَ مِنْهَا وَمَا عُلِمَ أَنَّهُ كَذِبٌ . فَإِنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ انْتَسَبَ إلَى السُّنَّةِ وَعَظَّمَ السُّنَّةَ وَالشَّرْعَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ اعْتَصَمُوا فِي هَذَا الْبَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَمَعُوا أَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي الصِّفَاتِ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ مَعْلُومٌ أَنَّهُ كَذِبٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ إلَى الْكَذِبِ أَقْرَبُ وَمِنْهَا مَا هُوَ إلَى الصِّحَّةِ أَقْرَبُ وَمِنْهَا مُتَرَدَّدٌ . وَجَعَلُوا تِلْكَ الْأَحَادِيثَ عَقَائِدَ وَصَنَّفُوا مُصَنَّفَاتٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ يُخَالِفُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ . وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِجِنْسِ الْحَدِيثِ وَمَنْ يَقُولُ عَنْ أَخْبَارِ

الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا : هَذِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ . وَأَبْلَغُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : دَلَالَةُ الْقُرْآنِ لَفْظِيَّةٌ سَمْعِيَّةٌ وَالدَّلَالَةُ السَّمْعِيَّةُ اللَّفْظِيَّةُ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ . وَيَجْعَلُونَ الْعُمْدَةَ عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ فَاسِدَةٌ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ وَكَذِبُهُ . وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا قَدْ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ . وَكِلَا الطَّرِيقَيْنِ بَاطِلٌ وَلَوْ لَمْ يُكَفِّرْ مُخَالِفَهُ . فَإِذَا كَفَّرَ مُخَالِفَهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ وَغَيْرُهُمْ . وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ لَا تُنَاقَضُ قَطُّ . وَلَا يُنَاقِضُ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ لِلدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ قَطُّ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " دَرْءِ تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ " . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ ذَكَرَ بَعْضَهَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " إبْطَالِ التَّأْوِيلِ " مِثْلُ مَا ذَكَرَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ { أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ } . وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ لِمَا

ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ كَمَا فَعَلَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ شُكْرٍ فَإِنَّهُ سَرِيعٌ إلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ السُّنَّةِ وَقَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا فِيهِ . إمَّا لِاحْتِجَاجِهِ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ أَوْ بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ لَكِنْ لَا تَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهِ . وَمَا أَصَابَ فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ كُلِّ مَنْ خَالَفَ فِيهِ . فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ كَافِرًا لَا سِيَّمَا فِي الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ الْأَمَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . وَكَذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ لَهُ مُصَنَّفٌ فِي الصِّفَاتِ قَدْ جَمَعَ فِيهِ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ . وَكَذَلِكَ مَا يَجْمَعُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا لَكِنْ يَرْوِي شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ . وَرُبَّمَا جَمَعَ بَابًا وَكُلُّ أَحَادِيثِهِ ضَعِيفَةٌ كَأَحَادِيثِ أَكْلِ الطِّينِ وَغَيْرِهَا . وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ . وَقَدْ وَقَعَ مَا رَوَاهُ مِنْ الْغَرَائِبِ الْمَوْضُوعَةِ إلَى حَسَنِ بْنِ عَدِيٍّ فَبَنَى عَلَى ذَلِكَ عَقَائِدَ بَاطِلَةً وَادَّعَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الدُّنْيَا عِيَانًا . ثُمَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِهَذَا مِنْ أَتْبَاعِهِ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ . وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ . وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَرْوِي عَنْ

عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ المقدسي فِي " مُخْتَارِهِ " . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرُدُّهُ لِاضْطِرَابِهِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ . لَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَبِلُوهُ . وَفِيهِ قَالَ : { إنَّ عَرْشَهُ أَوْ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهُ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ أَوْ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ إلَّا قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ } . وَلَفْظُ " الْأَطِيطِ " قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ . وَابْنُ عَسَاكِر عَمِلَ فِيهِ جُزْءًا وَجَعَلَ عُمْدَةَ الطَّعْنِ فِي ابْنِ إسْحَاقَ . وَالْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مَا لَهُ شَاهِدٌ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى . وَلَفْظُ " الْأَطِيطِ " قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِهِ . وَحَدِيثُ ابْنِ خَلِيفَةَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مُخْتَصَرًا وَذَكَرَ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ وَكِيعٌ . لَكِنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ رَوَاهُ رَوَوْهُ بِقَوْلِهِ { إنَّهُ مَا يَفْضُلُ مِنْهُ إلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ } فَجَعَلَ الْعَرْشَ يَفْضُلُ مِنْهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ . وَاعْتَقَدَ الْقَاضِي وَابْنُ

الزَّاغُونِي وَنَحْوُهُمَا صِحَّةَ هَذَا اللَّفْظَ فَأَمَرُّوهُ وَتَكَلَّمُوا عَلَى مَعْنَاهُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ الِاسْتِوَاءُ . وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ العايذ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ مَوْضِعُ جُلُوسِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ وَلَفْظُهُ : { وَإِنَّهُ لَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ } بِالنَّفْيِ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ إلَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ هَذِهِ تَنْفِي مَا أَثْبَتَتْ هَذِهِ . وَلَا يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ الْجَزْمِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْإِثْبَاتَ وَأَنَّهُ يَفْضُلُ مِنْ الْعَرْشِ أَرْبَعُ أَصَابِعَ لَا يَسْتَوِي عَلَيْهَا الرَّبُّ . وَهَذَا مَعْنًى غَرِيبٌ لَيْسَ لَهُ قَطُّ شَاهِدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ . بَلْ هُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ أَعْظَمَ مِنْ الرَّبِّ وَأَكْبَرَ . وَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلْعَقْلِ . وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ عَظَمَةَ الرَّبِّ بِتَعْظِيمِ الْعَرْشِ الْمَخْلُوقِ وَقَدْ جَعَلَ الْعَرْشَ أَعْظَمَ مِنْهُ . فَمَا عَظُمَ الرَّبُّ إلَّا بِالْمُقَايَسَةِ بِمَخْلُوقِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الرَّبِّ . وَهَذَا مَعْنًى فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلِ . فَإِنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ عَظَمَةَ الرَّبِّ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَعْلَمُ عَظَمَتَهُ . فَيَذْكُرُ عَظَمَةَ الْمَخْلُوقَاتِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الرَّبَّ أَعْظَمُ مِنْهَا .

كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا حَدِيثِ الْأَطِيطِ لَمَّا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : { إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ : وَيْحَك أَتَدْرِي مَا تَقُولُ ؟ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ ؟ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . إنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ هَكَذَا وَقَالَ بِيَدِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ } . فَبَيَّنَ عَظَمَةَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ مِثْلَ الْقُبَّةِ . ثُمَّ بَيَّنَ تَصَاغُرَهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ . فَهَذَا فِيهِ تَعْظِيمُ الْعَرْشِ وَفِيهِ أَنَّ الرَّبَّ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغَيْرُ مِنِّي } . وَقَالَ : { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ . مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَهَذَا وَغَيْرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي رِوَايَتِهِ النَّفْيُ وَأَنَّهُ ذَكَرَ عَظَمَةَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْعَظَمَةِ فَالرَّبُّ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ كُلِّهِ لَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ . وَهَذِهِ غَايَةُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي الْمِسَاحَةِ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ كَمَا يُقَدَّرُ فِي الْمِيزَانِ قَدْرُهُ فَيُقَالُ : مَا فِي السَّمَاءِ قَدْرُ كَفٍّ سَحَابًا . فَإِنَّ النَّاسَ يُقَدِّرُونَ الْمَمْسُوحَ بِالْبَاعِ وَالذِّرَاعِ وَأَصْغَرُ مَا عِنْدَهُمْ

الْكَفُّ . فَإِذَا أَرَادُوا نَفْيَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَدَّرُوا بِهِ فَقَالُوا : مَا فِي السَّمَاءِ قَدْرُ كَفٍّ سَحَابًا كَمَا يَقُولُونَ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ { إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } وَ { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَبَيَّنَ الرَّسُولُ أَنَّهُ لَا يَفْضُلُ مِنْ الْعَرْشِ شَيْءٌ وَلَا هَذَا الْقَدْرُ الْيَسِيرُ الَّذِي هُوَ أَيْسَرُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ وَهُوَ أَرْبَعُ أَصَابِعَ . وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ وَمُوَافِقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُوَافِقٌ لِطَرِيقَةِ بَيَانِ الرَّسُولِ لَهُ شَوَاهِدُ . فَهُوَ الَّذِي يُجْزَمُ بِأَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ . وَمَنْ قَالَ " مَا يَفْضُلُ إلَّا مِقْدَارَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ " فَمَا فَهِمُوا هَذَا الْمَعْنَى فَظَنُّوا أَنَّهُ اسْتَثْنَى فَاسْتَثْنَوْا فَغَلِطُوا . وَإِنَّمَا هُوَ تَوْكِيدٌ لِلنَّفْيِ وَتَحْقِيقٌ لِلنَّفْيِ الْعَامِّ . وَإِلَّا فَأَيُّ حِكْمَةٍ فِي كَوْنِ الْعَرْشِ يَبْقَى مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ خَالِيَةٍ وَتِلْكَ الْأَصَابِعُ أَصَابِعُ مِنْ النَّاسِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا أَصَابِعُ الْإِنْسَانِ . فَمَا بَالُ هَذَا الْقَدْرُ الْيَسِيرُ لَمْ يَسْتَوِ الرَّبُّ عَلَيْهِ ؟ وَالْعَرْشُ صَغِيرٌ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ جَاءَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } لِمَعْنَاهُ شَوَاهِدُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا . فَيَنْبَغِي أَنْ نَعْتَبِرَ الْحَدِيثَ فَنُطَابِقَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ أَنْبَأَ بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ عَطِيَّةَ العوفي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } قَالَ : { لَوْ أَنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالْمَلَائِكَةَ مُنْذُ خُلِقُوا إلَى أَنْ فَنُوا صُفُّوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِاَللَّهِ أَبَدًا } . وَهَذَا لَهُ شَوَاهِدُ مِثْلُ مَا فِي الصِّحَاحِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَرْشَ لَا يَبْلُغُ هَذَا فَإِنَّ لَهُ حَمَلَةً وَلَهُ حَوْلٌ . قَالَ تَعَالَى { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } . وَهَذَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِحَاطَةِ " وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْأُصُولَ الْمُوَصِّلَةَ إلَى الْحَقِّ

أَحْسَنَ بَيَانٍ وَبَيَّنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَوَحْدَانِيِّتِهِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَنَحْوِهِمْ فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا الْحَقَّ بَلْ أَصَّلُوا أُصُولًا تُنَاقِضُ الْحَقَّ . فَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا وَلَمْ يَدُلُّوا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى أَصَّلُوا أُصُولًا تُنَاقِضُ الْحَقَّ وَرَأَوْا أَنَّهَا تُنَاقِضُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدَّمُوهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . ثُمَّ تَارَةً يَقُولُونَ : الرَّسُولُ جَاءَ بِالتَّخْيِيلِ وَتَارَةً يَقُولُونَ : جَاءَ بِالتَّأْوِيلِ وَتَارَةً يَقُولُونَ : جَاءَ بِالتَّجْهِيلِ . فَالْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَحْيَانًا يَقُولُونَ : خَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِالتَّخْيِيلِ لَمْ يَقْصِدْ إخْبَارَهُمْ بِالْأَمْرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ بَلْ أَخْبَرَهُمْ بِخِلَافِ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ لِيَتَخَيَّلُوا مَا يَنْفَعُهُمْ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَعْرِفُ بِأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْحَقَّ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ وَيَقُولُونَ : الَّذِي فَعَلَهُ مِنْ التَّخْيِيلِ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ بَلْ تَخَيَّلَ وَخَيَّلَ كَمَا يَقُولُهُ الْفَارَابِيُّ وَأَمْثَالُهُ . وَيَجْعَلُونَ الْفَيْلَسُوفَ أَفْضَلَ مِنْ النَّبِيِّ وَيَجْعَلُونَ النُّبُوَّةَ مِنْ جِنْسِ الْمَنَامَاتِ .

وَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَقُولُونَ : بَلْ لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يُخْبِرَ إلَّا بِالْحَقِّ لَكِنْ بِعِبَارَاتِ لَا تَدُلُّ وَحْدَهَا عَلَيْهِ بَلْ تَحْتَاجُ إلَى التَّأْوِيلِ لِيَبْعَثَ الْهِمَمَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِالنَّظَرِ وَالْعَقْلِ وَيَبْعَثَهَا عَلَى تَأْوِيلِ كَلَامِهِ لِيُعَظِّمَ أَجْرَهَا . وَالْمَلَاحِدَةُ يَسْلُكُونَ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ وَيَفْتَحُونَ بَابَ الْقَرْمَطَةِ . وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ التَّأْوِيلَ مَعَ الْخَاصَّةِ . وَأَمَّا أَهْلُ التَّخْيِيلِ فَيَقُولُونَ : الْخَاصَّةُ قَدْ عَرَفُوا أَنَّ مُرَادَهُ التَّخْيِيلُ لِلْعَامَّةِ فَالتَّأْوِيلُ مُمْتَنِعٌ . وَالْفَرِيقَانِ يَسْلُكُونَ مَسْلَكَ إلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ التَّأْوِيلِ لَكِنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ : لَهَا تَأْوِيلٌ يَفْهَمُهُ الْخَاصَّةُ . وَهِيَ طَرِيقَةُ الْغَزَالِيِّ فِي " الْإِلْجَامِ " . اسْتَقْبَحَ أَنْ يُقَالَ : كَذَّبُوا لِلْمَصْلَحَةِ . وَهُوَ أَيْضًا لَا يَرَى تَأْوِيلَ الْأَعْمَالِ كَالْقَرَامِطَةِ بَلْ تَأْوِيلَ الْخَبَرِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ . وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ تَرَى التَّأْوِيلَ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِطَرِيقَةِ أَهْلِ التَّخْيِيلِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ هَذَا عَنْهُمْ فِي " الْإِحْيَاءِ " لَمَّا ذَكَرَ إسْرَافَهُمْ فِي التَّأْوِيلِ وَذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ كَمَا حَكَى كَلَامَهُ فِي " السَّبْعِينِيَّةِ " وَغَيْرِهَا .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : هَذَا لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ أَوْ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . فَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الرَّسُولَ وَغَيْرَهُ غَيْرَ عَالِمِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ . فَلَا يُسَوِّغُونَ التَّأْوِيلَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُرَادِ عِنْدَهُمْ مُمْتَنِعٌ . وَلَا يستجيزون الْقَوْلَ بِطَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّصْرِيحِ بِكَذِبِ الرَّسُولِ . بَلْ يَقُولُونَ : خُوطِبُوا بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ لِيُثَابُوا عَلَى تِلَاوَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِأَلْفَاظِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَاهُ . يَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَعَبُّدًا مَحْضًا عَلَى رَأْيِ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ التَّعَبُّدَ بِمَا لَا نَفْعَ فِيهِ لِلْعَامِلِ بَلْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إلَى ذَلِكَ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْمَعْقُولَ يُنَاقِضُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ظَاهِرُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى رَدِّ هَذَا فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُنَاقِضُ السَّمْعَ وَأَنَّ مَا نَاقَضَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ . وَبَيَّنَ بَعْدِ هَذَا أَنَّ الْعَقْلَ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ شَاهِدٌ لَهُ وَمُصَدِّقٌ لَهُ . لَا يُقَالُ : إنَّهُ غَيْرُ مُعَارِضٍ فَقَطْ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ مُصَدِّقٌ فَأُولَئِكَ كَانُوا يَقُولُونَ : هُوَ مُكَذِّبٌ مُنَاقِضٌ . بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا يُكَذِّبُ وَلَا يُنَاقِضُ ثُمَّ بَيَّنَ ثَانِيًا أَنَّهُ مُصَدِّقٌ مُوَافِقٌ .

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُبَيَّنُ أَنَّ كَلَامَهُمْ الَّذِي يُعَارِضُونَ بِهِ الرَّسُولَ بَاطِلٌ لَا تَعَارُضَ فِيهِ . وَلَا يَكْفِي كَوْنُهُ بَاطِلًا لَا يُعَارَضُ بَلْ هُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ . فَهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ الْعَقْلَ يُنَاقِضُ النَّقْلَ . فَيُبَيِّنُ أَرْبَعَ مَقَامَاتٍ : أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُنَاقِضُهُ . ثُمَّ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْلَ يُوَافِقُهُ . وَيُبَيِّنُ أَنَّ عَقْلِيَّاتِهِمْ الَّتِي عَارَضُوا بِهَا النَّقْلَ بَاطِلَةٌ . وَيُبَيِّنُ أَيْضًا أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يُخَالِفُهُمْ . ثُمَّ لَا يَكْفِي أَنَّ الْعَقْلَ يُبْطِلُ مَا عَارَضُوا بِهِ الرَّسُولَ بَلْ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا جَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ . فَهُمْ أَقَامُوا حُجَّةً تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الصَّانِعِ وَإِنْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ بِهَا الصَّانِعَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا بِهِ الصَّانِعَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الصَّانِعِ وَتَعْطِيلِهِ . فَلَا يَكْفِي فِيهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْحَقِّ ؛ بَلْ دَلَّ عَلَى الْبَاطِلِ الَّذِي يَعْلَمُونَ هُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ أَنَّهُ بَاطِلٌ . وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ فِي أُصُولِهِمْ " تَرْتِيبُ الْأُصُولِ فِي تَكْذِيبِ الرَّسُولِ " وَيُقَالُ أَيْضًا هِيَ " تَرْتِيبُ الْأُصُولِ فِي مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَالْمَعْقُولِ " . جَعَلُوهَا أُصُولًا لِلْعِلْمِ بِالْخَالِقِ وَهِيَ أُصُولٌ تُنَاقِضُ الْعِلْمَ بِهِ . فَلَا يَتِمُّ الْعِلْمُ بِالْخَالِقِ إلَّا مَعَ اعْتِقَادِ نَقِيضهَا . وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالدَّلِيلِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْعِلْمِ بِالرَّبِّ وَبَيْنَ الْمُنَاقِضِ الْمُعَارِضِ لِلْعِلْمِ بِالرَّبِّ .

فالمتفلسفة يَقُولُونَ إنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ . وَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ بَلْ كَلَامُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ . وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَدِيمَ الْمُحْدِثَ لِلْحَوَادِثِ وَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ بَلْ كَلَامُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا ثَمَّ قَدِيمٌ أَصْلًا . وَكَذَلِكَ الْأَشْعَرِيَّةُ والكَرَّامِيَة وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ أَثْبَتَ الْعِلْمَ بِالْخَالِقِ فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ لَكِنَّ كَلَامَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا ثَمَّ خَالِقٌ . وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي يُظْهِرُهَا هَؤُلَاءِ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَالْقَدِيمُ وَالصَّانِعُ أَوْ الْخَالِقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْوُجُودِ مِنْ مَوْجُودٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ مُحْدِثٍ لِلْحَوَادِثِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ وَكَانَتْ أُصُولُهُمْ الَّتِي عَارَضُوا بِهَا الرَّسُولَ تُنَاقِضُ هَذَا دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالصَّانِعِ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ مَعَ كَثْرَةِ دَلَائِلِهِ وَبَرَاهِينِهِ . وَنَقُولُ هُنَا : لَا رَيْبَ أَنَّا نَشْهَدُ الْحَوَادِثَ كَحُدُوثِ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وَالشَّمْسِ وَحُدُوثِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ

وَحُدُوثِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَسَلْسُلُ الْمُحْدَثَاتِ بِأَنْ يَكُونَ لِلْمُحْدَثِ مُحْدِثٌ وَلِلْمُحْدَثِ مُحْدِثٌ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ . وَهَذَا يُسَمَّى تَسَلْسُلَ الْمُؤَثِّرَاتِ وَالْعِلَلِ وَالْفَاعِلِيَّةِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ وَذُكِرَ مَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِشْكَالَاتِ . حَتَّى ذُكِرَ كَلَامُ الآمدي والأبهري مَعَ كَلَامِ الرَّازِي وَغَيْرِهِمْ . مَعَ أَنَّ هَذَا بَدِيهِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي الْعُقُولِ وَتِلْكَ الْخَوَاطِرُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ . وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ إذَا خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَيَنْتَهِيَ عَنْهُ . فَقَالَ : { يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ فَيَقُولُ : اللَّهُ . فَيَقُولُ : فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحْدِثَ الْوَاحِدَ لَا يُحْدِثُ إلَّا بِمُحْدِثِ . فَإِذَا كَثُرَتْ الْحَوَادِثُ وَتَسَلْسَلَتْ كَانَ احْتِيَاجُهَا إلَى الْمُحْدِثِ أَوْلَى . وَكُلُّهَا مُحْدَثَاتٌ فَكُلُّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى مُحْدِثٍ . وَذَلِكَ لَا يَزُولُ إلَّا بِمُحْدِثِ لَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ بَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ بِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْمَوْجُودَ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَالْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْقَدِيمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ كَانَ بُرْهَانًا صَحِيحًا .

وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : إمَّا مُمْكِنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَبُيِّنَ الْمُمْكِنُ بِأَنَّهُ الْمُحْدِثُ كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . وَأَمَّا إذَا فُسِّرَ الْمُمْكِنُ بِمَا يَتَنَاوَلُ الْقَدِيمَ كَمَا فَعَلَ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ كالرَّازِي كَانَ هَذَا بَاطِلًا . فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُمْكِنِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً وَالدَّلِيلُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ هَذَا ابْتِدَاءً . وَإِنَّمَا يَمْكَنُ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ . فَإِنَّ هَذَا تُشْهَدُ أَفْرَادُهُ وَتُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كُلِّيَّاتُهُ . وَأَمَّا إثْبَاتُ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ مُمْكِنٍ فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى امْتِنَاعِهِ . وَابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ وَافَقُوا عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ تَبَعًا لِسَلَفِهِمْ ؛ لَكِنْ تَنَاقَضُوا أَوَّلًا . فَسَلَفُهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ : الْمُمْكِنُ الْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ الَّذِي يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا لَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا وَكُلُّ مَا كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَهُوَ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْمَوْجُودُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مَخْلُوقًا وَالْمَخْلُوقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَوْجُودٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ فَثَبَتَ وُجُودُ الْمَوْجُودِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْمَوْجُودُ إمَّا غَنِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ وَإِمَّا فَقِيرٌ إلَى غَيْرِهِ وَالْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ لَا تَزُولُ حَاجَتُهُ وَفَقْرُهُ إلَّا بِغِنَى عَنْ غَيْرِهِ

فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْغِنَى عَنْ غَيْرِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْحَيُّ إمَّا حَيٌّ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا حَيٌّ حَيَاتُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَمَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ أَوْلَى بِالْحَيَاةِ فَيَكُونُ حَيًّا بِنَفْسِهِ فَثَبَتَ وُجُودُ الْحَيِّ بِنَفْسِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْعَالِمُ إمَّا عَالِمٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا عَالِمٌ عَلَّمَهُ غَيْرُهُ وَمَنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ عَالِمًا بِنَفْسِهِ فَثَبَتَ وُجُودُ الْعَالِمِ بِنَفْسِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ سِوَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ وَالْقِسْمَيْنِ . فَإِذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ إلَّا أَحَدُهُمَا وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ الْعَالِمُ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ وَالْحَيُّ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ وَالْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ وَالْقَدِيمُ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ لَزِمَ وُجُودُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَامْتِنَاعُ عَدَمِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْقَادِرُ إمَّا قَادِرٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا قَادِرٌ قَدَّرَهُ غَيْرُهُ وَمَنْ أَقْدَرَ غَيْرَهُ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَادِرًا . وَإِذَا لَمْ تَكُنْ قُدْرَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَانَتْ قُدْرَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ فَثَبَتَ وُجُودُ الْقَادِرِ بِنَفَسِهِ الَّذِي قُدْرَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ وَعِلْمُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ وَحَيَاتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ .

وَكَذَلِكَ الْحَكِيمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حِكْمَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ . وَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ حَكِيمًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْحَكِيمِ بِنَفْسِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الرَّحِيمُ إمَّا أَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَعَلَهُ رَحِيمًا . وَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ رَحِيمًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رَحِيمًا وَتَكُونَ رَحْمَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ فَثَبَتَ وُجُودُ الرَّحِيمِ بِنَفَسِهِ الَّذِي رَحْمَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْكَرِيمُ الْمُحْسِنُ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَرَمُهُ وَإِحْسَانُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ . وَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ كَرِيمًا مُحْسِنًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كِرِيمًا مُحْسِنًا وَذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً مِنْ السَّبْيِ إذَا رَأَتْ طِفْلًا أَرْضَعْته رَحْمَةً لَهُ فَقَالَ : أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا } . فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أَرْحَمِ الْوَالِدَاتِ بِوَلَدِهَا . فَإِنَّهُ مَنْ جَعَلَهَا رَحِيمَةً أَرْحَمُ مِنْهَا . وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ { وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } وَقَوْلُنَا " اللَّهُ أَكْبَرُ "

فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . وَخَيْرُ الْغَافِرِينَ وَخَيْرُ الْفَاتِحِينَ وَخَيْرُ النَّاصِرِينَ وَأَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَهُوَ نِعْمَ الْوَكِيلِ وَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرِ . وَهَذَا يَقْتَضِي حَمْدًا مُطْلَقًا عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهُ كَافِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَتَوَلَّى عَبْدَهُ تَوَلِّيًا حَسَنًا وَيَنْصُرُهُ نَصْرًا عَزِيزًا . وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُنَا " اللَّهُ أَكْبَرُ " . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْمُتَكَلِّمُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَعَلَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا . وَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا وَإِلَّا كَانَ الْمَفْعُولُ أَكْمَلَ مِنْ الْفَاعِلِ فَإِنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ : الْعَادِلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا بِنَفْسِهِ وَالصَّادِقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَعَلَهُ صَادِقًا عَادِلًا . وَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ صَادِقًا عَادِلًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَادِلًا . فَهَذِهِ كُلُّهَا طُرُقٌ صَحِيحَةٌ بَيِّنَةٌ . فَإِنْ قِيلَ : يُعَارَضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ : مَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ ظَالِمًا أَوْ كَاذِبًا فَهُوَ أَيْضًا ظَالِمٌ كَاذِبٌ وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ إنَّهُ جَعَلَ غَيْرَهُ كَذَلِكَ

وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ سُبْحَانَهُ قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ عَلَى صِفَةٍ أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ كَانَ مُتَّصِفًا بِهَا بَلْ مَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَهُوَ أَوْلَى بِاتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ مِنْ مَفْعُولِهِ . وَأَمَّا صِفَاتُ النَّقْصِ فَلَا يَلْزَمُ إذَا جَعَلَ الْجَاعِلُ غَيْرَهُ نَاقِصًا أَنْ يَكُونَ هُوَ نَاقِصًا . فَالْقَادِرُ يَقْدِرُ أَنْ يَعْجِزَ غَيْرَهُ وَلَا يَكُونُ عَاجِزًا . وَالْحَيُّ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْتُلَ غَيْرَهُ وَيُمِيتَهُ وَلَا يَكُونُ مَيِّتًا . وَالْعَالِمُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُجْهِلَ غَيْرَهُ وَلَا يَكُونُ جَاهِلًا . وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ وَالنَّاطِقُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْمِيَ غَيْرَهُ وَيُصِمَّهُ وَيُخْرِسَهُ وَلَا يَكُونُ هُوَ كَذَلِكَ . فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنَّ مَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ ظَالِمًا وَكَاذِبًا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا وَظَالِمًا لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ نَقْصٍ . فَإِنْ قِيلَ : الْكَاذِبُ وَالظَّالِمُ قَدْ يُلْزِمُ غَيْرَهُ بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ أَحْيَانًا قِيلَ : هُوَ لَمْ يَجْعَلْهُ صَادِقًا وَعَالِمًا وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ . وَلَمْ نَقُلْ : كُلُّ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِشَيْءِ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَا أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ . الثَّانِي : أَنَّ الظُّلْمَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ فَمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَقْتُلَ شَخْصًا

فَقَتَلَهُ هَذَا الْقَاتِلُ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ يَعْلَمُهُ كَانَ ظَالِمًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْآمِرُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِهِ لِكَوْنِهِ قَدْ قَتَلَ أَبَاهُ وَالْمَأْمُورُ لَمْ يَفْعَلْهُ لِذَلِكَ . فَلَوْ فَعَلَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا . فَإِنْ كَانَ لَهُ مَعَهُ غَرَضٌ فَقَتَلَهُ ظُلْمًا وَلَكِنَّ الْآمِرَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِقَتْلِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِمَا هُوَ كَذِبٌ مِنْ الْمَأْمُورِ كَأَمْرِ يُوسُفَ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَقُولَ { أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَدَ . إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يُوسُفَ مِنْ أَبِيهِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي هَذَا . وَالْمَأْمُورُ قَصَدَ : إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ الصُّوَاعَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ كَذِبًا . وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا تُقَاسُ أَفْعَالُهُ بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ . فَهُوَ يَخْلُقُ جَمِيعَ مَا يَخْلُقُهُ لِحِكْمَةِ وَمَصْلَحَةٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَا خَلَقَهُ فِيهِ قُبْحٌ كَمَا يَخْلُقُ الْأَعْيَانَ الْخَبِيثَةَ كَالنَّجَاسَاتِ وَكَالشَّيَاطِينِ لِحِكْمَةِ رَاجِحَةٍ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ دَلَائِلَ إثْبَاتِ الرَّبِّ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَعْقُولَ يُعَارِضُ خَبَرَ الرَّسُولِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ أَوْ الْقَدِيمَ أَوْ الصَّانِعَ هُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ بَلْ حُجَجُهُمْ تَقْتَضِي نَفْيَهُ وَتَعْطِيلَهُ فَهُمْ نَافُونَ لَهُ . لَا مُثْبِتُونَ لَهُ . وَحُجَجُهُمْ بَاطِلَةٌ

فِي الْعَقْلِ لَا صَحِيحَةٌ فِي الْعَقْلِ . وَالْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى أُصُولِهِمْ . بَلْ تَمَامُ الْمَعْرِفَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِفَسَادِ أُصُولِهِمْ وَإِنْ سَمَّوْهَا " أُصُولَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ " فَهِيَ " أُصُولُ الْجَهْلِ وَأُصُولُ دِينِ الشَّيْطَانِ لَا دِينِ الرَّحْمَنِ " . وَحَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ " تَرْتِيبُ الْأُصُولِ فِي مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَالْمَعْقُولِ " كَمَا قَالَ أَصْحَابُ النَّارِ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . فَمَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ فَقَدْ خَالَفَ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ خَالَفَ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ . أَمَّا الْقَائِلُونَ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ . وَأَنَّ الرَّازِيَّ لَمَّا تَبِعَ ابْنَ سِينَا لَمْ يَكُنْ فِي كُتُبِهِ إثْبَاتُ وَاجِبِ الْوُجُودِ . فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا وُجُودَهُ مَوْقُوفًا عَلَى إثْبَاتِ " الْمُمْكِنِ " الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْقَدِيمُ . فَمَا بَقِيَ يُمْكِنُ إثْبَاتُ وَاجِبِ الْوُجُودِ عَلَى طَرِيقِهِمْ إلَّا بِإِثْبَاتِ مُمْكِنٍ قَدِيمٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . فَكَانَ طَرِيقُهُمْ مَوْقُوفًا عَلَى مُقَدِّمَةٍ بَاطِلَةٍ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى بُطْلَانِهَا فَبَطَلَ دَلِيلُهُمْ . وَلِهَذَا كَانَ كَلَامُهُمْ فِي " الْمُمْكِنِ " مُضْطَرِبًا غَايَةَ الِاضْطِرَابِ . وَلَكِنْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَهُوَ

وَاجِبُ الْوُجُودِ . وَلَكِنْ قَدْ أَثْبَتُوا قَدِيمًا لَيْسَ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ . فَصَارَ مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الْقَدِيمِ يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ هُوَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إذْ أَثْبَتُوا قَدِيمًا يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَإِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ . وَأَيْضًا فَالْوَاجِبُ الَّذِي أَثْبَتُوهُ قَالُوا : إنَّهُ يَمْتَنِعُ اتِّصَافُهُ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ . وَهَذَا مُمْتَنِعُ الْوُجُوبِ لَا مُمْكِنُ الْوُجُوبِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَدَّعُونَهُ يَقُولُونَ إنَّهُ لَا يَكُونُ لَا صِفَةً وَلَا مَوْصُوفًا أَلْبَتَّةَ . وَهَذَا إنَّمَا يَتَخَيَّلُ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ . وَالْوَاجِبُ إذَا فُسِّرَ بِمُبْدِعِ الْمُمَكَّنَاتِ فَهُوَ حَقٌّ وَهُوَ اسْمٌ لِلَّذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهَا . وَإِذَا فُسِّرَ بِالْمَوْجُودِ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا فَاعِلَ لَهُ فَالذَّاتُ وَاجِبَةٌ وَالصِّفَاتُ وَاجِبَةٌ . وَإِذَا فُسِّرَ بِمَا لَا فَاعِلَ لَهُ وَلَا مُحْدِثَ فَالذَّاتُ وَاجِبَةٌ وَالصِّفَاتُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً . وَإِذَا فُسِّرَ بِمَا لَيْسَ صِفَةً وَلَا مَوْصُوفًا فَهَذَا بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . بَلْ هُوَ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ لَا مُمْكِنَ الْوُجُودِ وَلَا وَاجِبَ الْوُجُودِ . وَكُلَّمَا أَمْعَنُوا فِي تَجْرِيدِهِ عَنْ الصِّفَاتِ كَانُوا أَشَدَّ إيغَالًا فِي التَّعْطِيلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَدِيمَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ

وَلُزُومِهَا لِلْأَجْسَامِ وَامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُثْبِتُوا الصَّانِعَ لِمَا عُرِفَ مِنْ فَسَادِ هَذَا الدَّلِيلِ حَيْثُ ادَّعَوْا امْتِنَاعَ كَوْنِ الرَّبِّ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ أَوْ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ . بَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ امْتِنَاعُ كَوْنِهِ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا . وَأَدِلَّتُهُمْ عَلَى هَذَا الِامْتِنَاعِ قَدْ ذُكِرَتْ مُسْتَوْفَاةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذُكِرَ كَلَامُهُمْ هُمْ فِي بَيَانِ بُطْلَانِهَا . وَأَمَّا كَوْنُهُمْ عَطَّلُوا الْخَالِقَ فَلِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ مُحْدِثٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُحْدِثًا لَا قَدِيمًا . بَلْ حَقِيقَةُ أَصْلِهِمْ أَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَوْجُودٍ مُحْدِثًا . وَلِهَذَا صَرَّحَ أَئِمَّةُ هَذَا الطَّرِيقِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ بِنَفْيِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَبِنَفْيِ قِيَامِ الْأَفْعَالِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ إذْ هَذَا مُوجَبُ دَلِيلِهِمْ . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَازِمَةٌ لَهُ وَنَفْيُ اللَّازِمِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَلْزُومِ . فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ نَفْيَ الرَّبِّ وَتَعْطِيلَهُ . وَهُمْ يُسَمُّونَ الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا وَالْأَفْعَالَ وَنَحْوَهَا حَوَادِثَ . فَقَالُوا الرَّبُّ يُنَزَّهُ عَنْ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَالْحَوَادِثُ . فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا . قَالُوا : وَقَدْ أَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى حُدُوثِ كُلِّ جِسْمٍ . فَإِنَّ

الْجِسْمَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمُحْدَثَةِ وَلَا يَسْبِقُهَا وَمَا لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ الْحَوَادِثِ وَلَمْ يَسْبِقْهَا فَهُوَ حَادِثٌ . وَقَدْ قَامَتْ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ وَلَمْ يَنْفَكَّ عَنْهَا . وَيَجِبُ عَلَى قَوْلِهِمْ كَوْنُهُ حَادِثًا . فَالْأَصْلُ الَّذِي أَثْبَتُوا بِهِ الْقَدِيمَ هُوَ نَفْسُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ بِقَدِيمِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ قَدِيمٌ . كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ أَصْلُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ بِذَاتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ وَاجِبٌ بِذَاتِهِ . وَالطَّرِيقُ الَّتِي قَالُوا بِهَا يَثْبُتُ الصَّانِعُ مُنَاقِضَةٌ لِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ . وَإِذَا قَالُوا : لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالصَّانِعِ إلَّا بِهَا كَانَ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ : بَلْ لَا يُمْكِنُ تَمَامُ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِفَسَادِهَا . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِصِحَّتِهَا قَدْ كَذَّبَ بَعْضَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الرَّبِّ وَنَفْيُ اللَّازِمِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَلْزُومِ . وَاَلَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ مِنْ جِنْسِ مَا زَعَمَ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى إمْكَانِ الْأَجْسَامِ . وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَاطِلٌ .

وَمُقْتَضَاهُ حُدُوثُ كُلِّ مَوْجُودٍ وَإِمْكَانُ كُلِّ مَوْجُودٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ قَدِيمٌ وَلَا وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ . فَأُصُولُهُمْ تُنَاقِضُ مَطْلُوبَهُمْ . وَهِيَ طَرِيقَةٌ مُضِلَّةٌ لَا هَادِيَةٌ . لَكِنَّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } .
وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ : نُثْبِتُ الصَّانِعَ وَالْخَالِقَ وَيَقُولُونَ : إنَّا نَسْلُك غَيْرَ هَذِهِ الطَّرِيقِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِحُدُوثِ الصِّفَاتِ عَلَى الرَّبِّ . فَإِنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى مَا الْتَزَمَهُ أُولَئِكَ . وَالرَّازِي قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الطَّرِيقَ . وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ فَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهَا . بَلْ " فِي اللُّمَعِ " و " رِسَالَتِهِ " إلَى الثَّغْرِ اسْتَدَلَّ بِالْحَوَادِثِ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي النُّطْفَةِ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . ثُمَّ جَعَلَ حُدُوثَ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى حُدُوثِهَا هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ بَاطِلَةٌ كَمَا قَدْ بُيِّنَ . وَأَمَّا تِلْكَ فَهِيَ صَحِيحَةٌ لَكِنْ أَفْسَدُوهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ جَعَلُوا

الْحَوَادِثَ الْمَشْهُودَ لَهُمْ حُدُوثُهَا هِيَ الْأَعْرَاضُ فَقَطْ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ . ثُمَّ يُقَالُ : هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ خَالِقًا لَا خَلْقَ لَهُ . وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ ؟ فَلَمْ يُثْبِتُوا خَالِقًا . وَالكَرَّامِيَة وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ : الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ فَهُمْ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ الْخَلْقِ بِلَا سَبَبٍ يُوجِبُ حُدُوثَهُ . وَهَذَا أَيْضًا مُمْتَنِعٌ . فَمَا أَثْبَتُوا خَالِقًا . وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : الْمُوجِبُ لِلتَّخْصِيصِ بِحُدُوثِ مَا حَدَثَ دُونَ غَيْرِهِ هُوَ إرَادَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ . فالكَرَّامِيَة يَقُولُونَ : هِيَ الْمُخَصَّصُ لِمَا قَامَ بِهِ وَمَا خَلَقَهُ . وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَقُمْ بِهِ شَيْءٌ يَكُونُ مُرَادًا بَلْ يَقُولُونَ : هِيَ الْمُخَصَّصُ لِمَا حَدَثَ . وَالطَّائِفَتَانِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ : تِلْكَ الْإِرَادَةُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ عَلَى نَعْتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ وُجِدَتْ الْحَوَادِثُ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا . وَيَقُولُونَ : مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُخَصِّصَ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ وَمِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَى الْمُرَادِ تَقَدُّمًا لَا أَوَّلَ لَهُ . فَوَصَفُوا الْإِرَادَةَ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ بَاطِلَةٍ يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَكُونُ هَكَذَا وَهِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْخَلْقِ وَالْحُدُوثِ فَإِذَا أُثْبِتَتْ فَلَا خَلْقَ وَلَا حُدُوثَ .

وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ الَّتِي أَثْبَتُوهَا وَصَفُوهَا بِمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قُدْرَةً . وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْخَلْقِ . فَإِذَا نَفَوْا شَرْطَ الْخَلْقِ انْتَفَى الْخَلْقُ فَلَمْ يَبْقَ خَالِقًا . فَاَلَّذِي وَصَفُوا بِهِ الْخَالِقَ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ خَالِقًا لَيْسَ بِلَازِمِ لِكَوْنِهِ خَالِقًا . وَهُمْ جَعَلُوهُ لَازِمًا لَا مُنَاقِضًا . أَمَّا الْإِرَادَةُ فَذَكَرُوا لَهَا ثَلَاثَةَ لَوَازِمَ وَالثَّلَاثَةُ تُنَاقِضُ الْإِرَادَةَ . قَالُوا إنَّهَا تَكُونُ وَلَا مُرَادَ لَهَا بَلْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ثُمَّ حَدَثَ مُرَادُهَا مِنْ غَيْرِ تَحَوُّلِ حَالِهَا . وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ . فَإِنَّ الْفَاعِلَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ فَالْمُتَقَدِّمُ كَانَ عَزْمًا عَلَى الْفِعْلِ وَقَصْدًا لَهُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَكُنْ إرَادَةً لِلْفِعْلِ فِي الْحَالِ . بَلْ إذَا فَعَلَ فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَةِ الْفِعْلِ فِي الْحَالِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الْمَاضِي عَزْمٌ وَالْمُقَارَنُ قَصْدٌ . فَوُجُودُ الْفِعْلِ بِمُجَرَّدِ عَزْمٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَجَدَّدَ قَصْدٌ مِنْ الْفَاعِلِ مُمْتَنِعٌ . فَكَانَ حُصُولُ الْمَخْلُوقَاتِ بِهَذِهِ الْإِرَادَةِ مُمْتَنِعًا لَوْ قَدَّرَ إمْكَانَ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ فَكَيْفَ وَذَاكَ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ ؟ فَصَارَ الِامْتِنَاعُ مِنْ جِهَةٍ الْإِرَادَةَ وَمِنْ جِهَةٍ تَعَيَّنَتْ بِمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ . الثَّانِي قَوْلُهُمْ إنَّ الْإِرَادَةَ تُرَجِّحُ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ : فَهَذَا مُكَابَرَةٌ بَلْ لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا لِمَا تَرَجَّحَ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ عِنْدَ الْفَاعِلِ . إمَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَوْ لِكَوْنِ مَحَبَّتِهِ لَهُ أَقْوَى . وَهُوَ إنَّمَا يَتَرَجَّحُ فِي الْعِلْمِ لِكَوْنِ

عَاقِبَتِهِ أَفْضَلَ . فَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ شَيْئًا بِإِرَادَتِهِ إلَّا لِكَوْنِهِ يُحِبُّ الْمُرَادَ أَوْ يُحِبُّ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْمُرَادُ بِحَيْثُ يَكُونُ وُجُودُ ذَلِكَ الْمُرَادِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِهِ لَا يَكُونُ وُجُودُهُ وَعَدِمُهُ عِنْدَهُ سَوَاءً . الثَّالِثُ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا مُرَادُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ : فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ . بَلْ مَتَى حَصَلَتْ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَجَبَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ وَحَيْثُ لَا يَجِبُ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَقْصِ الْقُدْرَةِ أَوْ لِعَدَمِ الْإِرَادَةِ التَّامَّةِ . وَالرَّبُّ تَعَالَى مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَهُوَ يُخْبِرُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَ أُمُورًا لَمْ يَفْعَلْهَا كَمَا قَالَ { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } . فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ ذَلِكَ لَكَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ . لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَشَأْهُ إذْ كَانَ عَدَمُ مَشِيئَتِهِ أَرْجَحَ فِي الْحِكْمَةِ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ لَوْ شَاءَهُ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَذْكُرُونَهُ فِي الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْأُمُورِ الْمُبَايَنَةِ لَهُ دُونَ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَعَلَى مَا هُوَ باين عَنْهُ كَمَا يُحْكَى عَنْ الكَرَّامِيَة .

وَالصَّوَابُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْعَقْلُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى هَذَا وَهَذَا قَالَ تَعَالَى { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } وَقَالَ { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } وَقَالَ { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } وَقَالَ { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ . فَإِنَّ مَا قَالَهُ الكَرَّامِيَة والهشامية أَقْرَبُ إلَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مِمَّا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيمَا حَكَوْهُ عَنْهُمْ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ نَفْيِهِمْ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأُمُورِ الْمُبَايَنَةِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ لَمَّا رَآهُ يَضْرِبُ غُلَامَهُ : لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْك مِنْك عَلَى هَذَا } . وَفِي الْقُرْآنِ { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ } { أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ } . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوَاضِعُ أُخَرُ . فَجَمِيعُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ لَازِمٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَكُلُّ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ فَهُوَ لَازِمٌ . وَإِذَا قَدَّرَ عَدَمَهُ لَزِمَ عَدَمُ الْمَلْزُومِ . فَنَفْيُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّعْطِيلِ . لَكِنْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَظْهَرُ بِالْعَقْلِ مَعَ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْعَقْلِ وَمِنْهُ

مَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ خَبَرِ الرَّسُولِ . فَإِنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ حَقٌّ . وَكُلُّ مَا أَثْبَتَ لِلرَّبِّ فَهُوَ لَازِمُ الثُّبُوتِ وَمَا انْتَفَى عَنْهُ فَهُوَ لَازِمُ الِانْتِفَاءِ فَإِذَا قَدَّرَ عَدَمَ اللَّازِمِ لَزِمَ عَدَمُ الْمَلْزُومِ . لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَازِمُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ . وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا وَلَا يَلْتَزِمُونَ لَوَازِمَهَا . فَلَا يَلْزَمُ إذَا قَالَ الْقَائِلُ مَا يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدًا لِلتَّعْطِيلِ . بَلْ يَكُونُ مُعْتَقِدًا لِلْإِثْبَاتِ وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ اللُّزُومُ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ أُصُولُهُمْ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا إثْبَاتَ الصَّانِعِ بَاطِلَةً لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونُوا هُمْ غَيْرَ مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَازِمًا مِنْ قَوْلِهِمْ . إذَا قَالُوا : إنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ وَقَدْ ظَهَرَ فَسَادُهُ لَزِمَ أَنْ لَا يُعْرَفَ . لَكِنَّ هَذَا اللُّزُومَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا النَّفْيِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونُوا هُمْ مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ لِمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالصَّانِعِ وَمَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَتَوْحِيدَهُ فِطْرِيٌّ يَكُونُ ثَابِتًا فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ . وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ هَؤُلَاءِ مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ مُعْتَرِفِينَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْلُكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَ النَّظَرِيَّةَ سَوَاءٌ كَانَتْ صَحِيحَةً أَوْ بَاطِلَةً . وَهَذَا

أَمْرٌ يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ سُلُوكِ هَذِهِ الطَّرِيقِ عَدَمُ الْمَعْرِفَةِ . وَقَدْ اعْتَرَفَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الطَّرِيقَ النَّظَرِيَّةَ الَّتِي يَسْلُكُهَا زَادَتْهُ بَصِيرَةً وَعِلْمًا . كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ . وَهُوَ سَلَكَ طَرِيقَةَ الْأَعْرَاضِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ لَمْ تُفِدْهُمْ إلَّا شَكًّا وَرَيْبًا وَفِطْرَةُ هَؤُلَاءِ أَصَحُّ فَإِنَّهَا طُرُقٌ فَاسِدَةٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَحْصُلْ لِي بِهَا شَيْءٌ لَا عِلْمَ وَلَا شَكَّ . وَذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تُحَصِّلْ لَهُ عِلْمًا وَلَا سَلَّمَهَا فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صِحَّتُهَا وَلَا فَسَادُهَا . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مُرَادَهُمْ بِهَا . وَأَكْثَرُ أَتْبَاعِهِمْ لَا يَفْهَمُونَهَا بَلْ يَتَّبِعُونَهُمْ تَقْلِيدًا وَإِحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ .
فَصْلٌ :
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِإِثْبَاتِ جَمِيعِ لَوَازِمِهِ . هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ بَلْ قَدْ تُعْرَفُ عَامَّةُ الْأَشْيَاءِ وَكَثِيرٌ

مِنْ لَوَازِمِهَا لَا تُعْرَفُ وَقَدْ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الرَّبَّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنْ لَوَازِمِ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ . لَكِنَّ أَهْلَ الِاسْتِقَامَةِ كَمَا لَا يَعْرِفُونَ اللَّوَازِمَ فَلَا يَنْفُونَهَا فَإِنَّ نَفْيَهَا خَطَأٌ . وَأَمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِهَا كُلِّهَا فَهَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَسُبْحَانَ مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا . وَمَا سِوَاهُ { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ فِي كَلِمَةٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْخَطَأِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالسَّمْعِيَّةَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ تُوَافِقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُنَاقِضُ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَإِذَا قَالُوا : إنَّ الْعَقْلَ يُخَالِفُ النَّقْلَ أَخْطَئُوا فِي خَمْسَةِ أُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ لَا يُنَاقِضُهُ . الثَّانِي : أَنَّهُ يُوَافِقُهُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَا يَدْعُونَهُ مِنْ الْعَقْلِ الْمُعَارِضِ لَيْسَ بِصَحِيحِ . الرَّابِعُ : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْقُولِ الْمُعَارِضِ هُوَ الْمُعَارِضُ لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ . الْخَامِسُ : أَنَّ مَا أَثْبَتُوا بِهِ الْأُصُولَ كَمَعْرِفَةِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ لَا يُثْبِتُهَا بَلْ يُنَاقِضُ إثْبَاتَهَا .

فَصْلٌ :
وَذَلِكَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ . فَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ فَاَللَّهُ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ بِعِلْمِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُخْبِرَ بِنَقِيضِ عِلْمِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . قَالَ تَعَالَى { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } وَقَالَ تَعَالَى { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَوْلُهُ { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } . قَالَ الزَّجَّاجُ : أَنْزَلَهُ وَفِيهِ عِلْمُهُ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ : أَنْزَلَهُ مِنْ عِلْمِهِ . وَهَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُهُمَا . وَهَذَا الْمَعْنَى مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ : أَقْرَأَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرْآنَ . وَكَانَ إذَا أَقْرَأَ أَحَدَنَا الْقُرْآنَ قَالَ : قَدْ أَخَذْت عِلْمَ اللَّهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ أَفْضَلَ مِنْك إلَّا بِعَمَلِ ثُمَّ يَقْرَأُ { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } . وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } قَالُوا : أَنْزَلَهُ وَفِيهِ عِلْمُهُ .

قُلْت : الْبَاءُ قَدْ يَكُونُ لِلْمُصَاحَبَةِ كَمَا تَقُولُ : جَاءَ بِأَسْيَادِهِ وَأَوْلَادِهِ . فَقَدْ أَنْزَلَهُ مُتَضَمِّنًا لِعِلْمِهِ مُسْتَصْحِبًا لِعِلْمِهِ . فَمَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ هُوَ خَبَرٌ بِعِلْمِ اللَّهِ . وَمَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ فَهُوَ أَمْرٌ بِعِلْمِ اللَّهِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ . فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ كَذِبًا وَظُلْمًا كَقُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ وَقَدْ يَكُونُ صِدْقًا لَكِنَّ إنَّمَا فِيهِ عِلْمُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي قَالَهُ فَقَطْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى عِلْمِ اللَّه تَعَالَى إلَّا مِنْ جِهَةِ اللُّزُومِ . وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ . وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِعِلْمِ اللَّهِ ابْتِدَاءً : فَإِنَّمَا أَنْزَلَ بِعِلْمِهِ لَا بِعِلْمِ غَيْرِهِ وَلَا هُوَ كَلَامٌ بِلَا عِلْمٍ . وَإِذَا كَانَ قَدْ أَنْزَلَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ اللَّهِ وَيَقْتَضِي أَنَّ الرَّسُولَ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ عِلْمَهُ . قَالَ الزَّجَّاجُ : " الشَّاهِدُ " الْمُبَيِّنُ لِمَا شَهِدَ بِهِ وَاَللَّهُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ حَقٌّ . ( قُلْت : قَوْلُهُ { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ } شَهَادَتُهُ هُوَ بَيَانُهُ وَإِظْهَارُهُ دَلَالَتُهُ وَإِخْبَارُهُ . فَالْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا صِدْقَ الرَّسُولِ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَمِنْهَا الْقُرْآنُ هُوَ شَهَادَةٌ بِالْقَوْلِ . وَهُوَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ وَمُعْجِزَةٌ تَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ كَمَا تَدُلُّ سَائِرُ الْآيَاتِ وَالْآيَاتُ كُلُّهَا شَهَادَةٌ مِنْ اللَّهِ كَشَهَادَةِ بِالْقَوْلِ وَقَدْ تَكُونُ أَبْلَغَ . وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِالْمِثْلِ فَقَالَ

{ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . فَإِنَّ عَجْزَ . أُولَئِكَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ دَلَّ عَلَى عَجْزِ غَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَتَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَأَنَّهُ آيَةٌ بَيِّنَةٌ تَدُلُّ عَلَى الرِّسَالَةِ وَعَلَى التَّوْحِيدِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ } . بَعْد قَوْلِهِ { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ } إلَى قَوْلِهِ { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ قَالَ : لَا نَشْهَدُ لِمُحَمَّدِ بِالرِّسَالَةِ فَقَالَ تَعَالَى { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ } وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } نَفَى حُجَّةَ الْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ فَقَالَ : لَكِنْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ قَائِمَةٌ بِشَهَادَتِهِ بِالرِّسَالَةِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْك أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ فَمَا لِلْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَلْ لَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ . وَهُوَ الَّذِي هَدَى عِبَادَهُ بِمَا أَنْزَلَهُ . وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ فَقَوْلُهُ { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } أَيْ فِيهِ عِلْمُهُ بِمَا كَانَ وَسَيَكُونُ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ . فَإِنَّهُ إذَا أَخْبَرَ بِالْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ بِهِ

كَقَوْلِهِ { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا } { إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } الْآيَةَ وَقَدْ قِيلَ : أَنْزَلَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ وَبِك . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري فِي آيَةِ النِّسَاءِ : أَنْزَلَهُ إلَيْك بِعِلْمِ مِنْهُ أَنَّك خِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ . وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي آيَةِ هُودٍ قَوْلَيْنِ أَحَدِهِمَا : أَنْزَلَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِإِنْزَالِهِ وَعَالِمٌ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِمَا أَخْبَرَ فِيهِ مِنْ الْغُيُوبِ وَدَلَّ عَلَى مَا سَيَكُونُ وَمَا سَلَفَ . ( قُلْت : هَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي تُقَدَّمُ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ . فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِهِ وَبِمَنْ أَنْزَلَ إلَيْهِ وَعَالِمٌ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ أَهْلٌ لِمَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ لَهُ وَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } وَقَوْلِ مَنْ قَالَ { إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } أَيْ عَلَى عِلْمٍ مِنْ اللَّهِ بِاسْتِحْقَاقِي . ( قُلْت وَهَذَا الْوَجْهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا نَزَلَ الْكَلَامُ بِعِلْمِ الرَّبِّ تَضَمَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ فَهُوَ مِنْ عِلْمِهِ وَفِيهِ الْإِخْبَارُ بِحَالِهِ وَحَالِ الرَّسُولِ . وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الصَّوَابُ . وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ .

وَالْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَأَمَّا كَوْنُ الثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ فَغَلَطٌ لِأَنَّ كَوْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُودٌ وَلَا مَذْمُومٌ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ أَنْزَلَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ . لَكِنْ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ أَنْزَلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ أَيْ وَلَيْسَ فِيهِ عِلْمُهُ وَأَنَّهُ مِنْ تَنْزِيلِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } وَالشَّيَاطِينُ هُوَ يُرْسِلُهُمْ وَيُنْزِلُهُمْ لَكِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَأْتُونَ بِهِ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْهُ ؛ وَلَا هُوَ مُنَزَّلٌ بِعِلْمِ اللَّهِ بَلْ مُنَزَّلٌ بِمَا تَقُولهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ كَذِبٍ وَغَيْرِهِ . وَلِهَذَا هُوَ سُبْحَانَهُ إذَا ذَكَرَ نُزُولَ الْقُرْآنِ قَيَّدَهُ بِأَنَّ نُزُولَهُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ } { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ خَلَقَهُ فِي مَحَلٍّ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ مُنَزَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا مِنْ اللَّهِ . وَقَالَ إنَّهُ نَزَلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَإِنَّهُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ .

وَقَالَ أَحْمَد : كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ شَيْئًا مِنْهُ . وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . فَقَالُوا : مِنْهُ بَدَأَ لَمْ يَبْدَأْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا تَقُولهُ الْجَهْمِيَّة . يَقُولُونَ : بَدَأَ مِنْ الْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ عِلْمُهُ فَهُوَ حَقٌّ وَالْكَلَامُ الَّذِي يُعَارِضُهُ بِهِ خِلَافُ عِلْمِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ كَالشِّرْكِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
فَصْلٌ :
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ فِي أُصُولِ الدِّينِ إلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ كَمَا بَيَّنَتْهُ مِنْ أَنَّ الْكِتَابَ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ الْمَطَالِبُ الْإِلَهِيَّةُ وَبَيَّنَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ هُوَ يُظْهِرُ الْحَقَّ بِأَدِلَّتِهِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . وَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ " الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ " قَدْ صَارَ لَفْظًا مُجْمَلًا . فَكُلُّ مَنْ

وَضَعَ شَيْئًا بِرَأْيِهِ سَمَّاهُ " عَقْلِيَّاتٍ " وَالْآخَرُ يُبَيِّنُ خَطَأَهُ فِيمَا قَالَهُ وَيَدَّعِي الْعَقْلَ أَيْضًا وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ أُخَرَ تَكُونُ أَيْضًا خَطَأً كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ يَحْتَجُّ فِي السَّمْعِ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ أَوْ مَوْضُوعَةٍ أَوْ نُصُوصٍ ثَابِتَةٍ لَكِنْ لَا تَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِهِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَجْعَلُ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ . فَلِهَذَا يَضْطَرُّونَ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ أَصْلًا كَمَا يَفْعَلُ أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو حَامِد وَالرَّازِي وَغَيْرهمْ . وَأَئِمَّة الْمُتَكَلِّمِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيّ وَغَيْره وَعَبْد الْجَبَّار بْن أَحْمَد وَغَيْره مِنْ الْمُعْتَزِلَة . ثُمَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَذْكُرُونَ أَدِلَّةً يَجْعَلُونَهَا أَدِلَّة الْقُرْآنِ وَلَا تَكُونُ هِيَ إيَّاهَا كَمَا فَعَلَ الْأَشْعَرِيّ فِي " اللُّمَعِ " وَغَيْرِهِ حَيْثُ احْتَجَّ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَذَكَرَ قَوْلِهِ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ } { أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } . لَكِنْ هُوَ يَظُنُّ أَنَّ النُّطْفَةَ فِيهَا جَوَاهِرُ بَاقِيَةٌ وَأَنَّ نَقْلَهَا فِي

الْأَعْرَاضِ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا . فَاسْتَدَلَّ عَلَى حُدُوثِ جَوَاهِرِ النُّطْفَةِ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ وَلَا جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ . بَلْ يَعْرِفُونَ أَنَّ النُّطْفَةَ حَادِثَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِيلَةً عَنْ دَمِ الْإِنْسَانِ ؛ وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ إلَى الْمُضْغَةِ وَأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ هَذَا الْجَوْهَرَ الثَّانِيَ مِنْ الْمَادَّةِ الْأُولَى بِالِاسْتِحَالَةِ وَيَعْدَمُ الْمَادَّةَ الْأُولَى لَا تَبْقَى جَوَاهِرُهَا بِأَعْيَانِهَا دَائِمًا كَمَا تَقَدَّمَ . فَالنُّظَّارُ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ . مِنْهُمْ مَنْ يُعْرِضُ عَنْ دَلَائِلِهِ الْعَقْلِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِهَا لَكِنْ يَغْلَطُ فِي فَهْمِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُهَا عَلَى وَجْهِهَا كَمَا أَنَّهُمْ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ فِي دَلَالَتِهِ الْخَبَرِيَّةِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ . وَالْأَشْعَرِيُّ وَأَمْثَالُهُ بَرْزَخٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْجَهْمِيَّة . أَخَذُوا مِنْ هَؤُلَاءِ كَلَامًا صَحِيحًا وَمِنْ هَؤُلَاءِ أُصُولًا عَقْلِيَّةً ظَنُّوهَا صَحِيحَةً وَهِيَ فَاسِدَةٌ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ مَالَ إلَيْهِ مِنْ الْجِهَةِ السَّلَفِيَّةِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ مَالَ إلَيْهِ مِنْ الْجِهَةِ الْبِدْعِيَّةِ الْجَهْمِيَّة كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ كَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ .
إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ جَعْلَ الْقُرْآنِ إمَامًا يُؤْتَمُّ بِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ

وَفُرُوعِهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ . وَهُوَ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . فَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ يَقْبَلُونَ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ بِمَعْقُولِ أَوْ رَأْيٍ يُقَدِّمُهُ عَلَى الْقُرْآنِ . وَلَكِنْ إذَا عَرَضَ لِلْإِنْسَانِ إشْكَالٌ سَأَلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ . وَلِهَذَا صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ " . وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ يَرْجِعُونَ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ إلَى الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ لَا إلَى رَأْيِ أَحَدٍ وَلَا مَعْقُولِهِ وَلَا قِيَاسِهِ . قَالَ الأوزاعي : كُنَّا وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ نَقُولُ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : لَا يُوصَفُ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ لَا يَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي خُطْبَةِ " الرِّسَالَةِ " : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ " وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ

وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ . وَكَانَ يَكْرَهُ مَا أَحْدَثَ مِنْ الْكَلَامِ . وَرُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَيُقَالُ : هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ . وَقَالَ : لَقَدْ اطَّلَعْت مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ مَا كُنْت أَظُنُّهُ وَلَأَنْ يُبْتَلَى الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكَلَامِ . وَقَدْ بُسِطَ تَفْسِيرُ كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْكَلَامِ هُوَ كَلَامُ الْجَهْمِيَّة الَّذِي نَفَوْا بِهِ الصِّفَاتِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ بِهِ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَعْرَاضِ . وَقَالَ أَحْمَد أَيْضًا : عُلَمَاءُ الْكَلَامِ زَنَادِقَةٌ وَمَا ارْتَدَى أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ . وَكَلَامُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون مَبْسُوطٌ فِي هَذَا . وَذَكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَنْطِقَ فِي اللَّهِ بِشَيْءِ مِنْ رَأْيِهِ وَلَكِنَّهُ يَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَتَانَا مِنْ خُرَاسَانَ ضَيْفَانِ كِلَاهُمَا ضَالَّانِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُشَبِّهَةُ .

وَعَنْ أَبِي عِصْمَةَ قَالَ : سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ : مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ ؟ قَالَ . مَنْ فَضَّلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمْرَ وَأَحَبَّ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَلَمْ يُحَرِّمْ نَبِيذَ الْجَرِّ وَلَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا بِذَنْبِ وَرَأَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يَنْطِقْ فِي اللَّهِ بِشَيْءِ . وَرَوَى خَالِدُ بْنُ صَبِيحٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : الْجَمَاعَةُ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ : أَنْ يُفَضِّلَ أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَأَنْ يُحِبَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَنْ . مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ وَأَنْ لَا يَنْطِقَ فِي اللَّهِ شَيْئًا . قُلْت : قَوْلُهُ فِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ " لَا يَنْطِقُ فِي اللَّهِ شَيْئًا " قَدْ بَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ " أَنْ لَا يَنْطِقَ فِي اللَّهِ بِشَيْءِ مِنْ رَأْيِهِ وَلَكِنَّهُ يَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ " . فَهَذَا ذَمٌّ مِنْ الْأَئِمَّةِ لِكُلِّ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ بِغَيْرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ . فَكَيْفَ بالذين يَجْعَلُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُفِيدُ عِلْمًا وَيُقَدِّمُونَ رَأْيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَعَ فَسَادِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَرَوَى هُشَامٌ عَنْ مُحَمَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ قَالُوا : السُّنَّةُ الَّتِي عَلَيْهَا أَمْرُ النَّاسِ أَنْ لَا يُكَفَّرَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَلَا يَشُكَّ فِي الدِّينِ يَقُولُ الرَّجُل : لَا أَدْرِي أَمُؤْمِنٌ أَنَا أَوْ كَافِرٌ وَلَا يَقُولُ بِالْقَدَرِ وَلَا يَخْرُجُ

عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالسَّيْفِ وَيُقَدِّمُ مَنْ يُقَدَّمُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُفَضِّلُ مَنْ فُضِّلَ . وَذَكَرُوا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : مَذْهَبُ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَنَا وَمَا أَدْرَكْنَا عَلَيْهِ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْفِقْهِ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ أَنْ لَا يَشْتُمَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَلَا يَذْكُرَ فِيهِمْ عَيْبًا وَلَا يَذْكُرَ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فَيُحَرِّفَ الْقُلُوبَ عَنْهُمْ وَأَنْ لَا يَشُكَّ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَأَنْ لَا يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِمَّنْ يُقِرُّ بِالْإِسْلَامِ وَيُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَعْصِيَةِ إنْ كَانَتْ فِيهِ ؛ وَلَا يَقُولُ بِقَوْلِ أَهْلِ الْقَدَرِ وَلَا يُخَاصِمُ فِي الدِّينِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ . فَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ فِي هَذَا كَيْفَ وَلِمَ ؟ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَ السَّائِلَ عَنْ هَذَا إلَّا بِالنَّهْيِ لَهُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَتَرْكِ الْمُجَالَسَةِ وَالْمَشْيِ مَعَهُ إنْ عَادَ . وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنْ يُخَالِطَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ حَتَّى يُصَاحِبَهُ وَيَكُونَ خَاصَّتَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَسْتَزِلَّهُ أَوْ يَسْتَزِلَّ غَيْرَهُ بِصُحْبَةِ هَذَا . قَالَ : وَالْخُصُومَةُ فِي الدِّينِ بِدْعَةٌ وَمَا يَنْقُضُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ . لَوْ كَانَتْ فَضْلًا لَسَبَقَ إلَيْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعُهُمْ فَهُمْ كَانُوا عَلَيْهَا أَقْوَى وَلَهَا أَبْصَرُ . وَقَالَ

اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْجِدَالِ . وَلَوْ شَاءَ لَأَنْزَلَ حُجَجًا وَقَالَ لَهُ : قُلْ كَذَا وَكَذَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : دَعُوا قَوْلَ أَصْحَابِ الْخُصُومَاتِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْأَهْوَاءِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة . قَالُوا : وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ . قُلْت مَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي أَمْرِ الْجِدَالِ هُوَ يُشْبِهُ كَلَامَ كَثِيرٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يُشْبِهُ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَفِيهِ بَسْطٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَلِهَذَا كَانَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ صَاحِبُ أَبِي يُوسُفَ يُحِبُّ أَحْمَد وَيَمِيلُ إلَيْهِ . فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ أَمْيَلَ إلَى الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
السُّورُ الْقِصَارُ فِي أَوَاخِرِ الْمُصْحَفِ مُتَنَاسِبَةٌ . فَسُورَةُ ( اقْرَأْ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ وَلِهَذَا اُفْتُتِحَتْ بِالْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَخُتِمَتْ بِالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ وَوُسِّطَتْ بِالصَّلَاةِ الَّتِي أَفْضَلُ أَقْوَالِهَا وَأَوَّلُهَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ هُوَ الْقِرَاءَةُ وَأَفْضَلُ أَفْعَالِهَا وَآخِرُهَا قَبْلَ التَّحْلِيلِ هُوَ السُّجُودُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا أُمِرَ بِأَنْ يَقْرَأَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا الْمُدَّثِّرُ لِأَجْلِ التَّبْلِيغِ فَقِيلَ لَهُ : { قُمْ فَأَنْذِرْ } فَبِالْأُولَى صَارَ نَبِيًّا وَبِالثَّانِيَةِ صَارَ رَسُولًا ؛ وَلِهَذَا خُوطِبَ بِالْمُتَدَثِّرِ وَهُوَ الْمُتَدَفِّئُ مِنْ بَرْدِ الرُّعْبِ وَالْفَزَعِ الْحَاصِلُ بِعَظَمَةِ مَا دَهَمَهُ لَمَّا رَجَعَ إلَى خَدِيجَةَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ وَقَالَ دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي فَكَأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الِاسْتِدْفَاءِ وَأَمْرٌ بِالْقِيَامِ لِلْإِنْذَارِ كَمَا خُوطِبَ فِي ( الْمُزَّمِّلِ ) وَهُوَ الْمُتَلَفِّفُ لِلنَّوْمِ لَمَّا أُمِرَ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا أُمِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْقِرَاءَةِ ذَكَرَ فِي الَّتِي تَلِيهَا نُزُولَ الْقُرْآنِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَذَكَرَ فِيهَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ وَفِي ( الْمَعَارِجِ ) عُرُوجَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ وَفِي ( النَّبَأِ ) قِيَامَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ . فَذَكَرَ الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ وَالْقِيَامَ ثُمَّ

فِي الَّتِي تَلِيهَا تِلَاوَتَهُ عَلَى الْمُنْذَرِينَ حَيْثُ قَالَ : { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } . فهذه السُّوَرُ الثَّلَاثُ مُنْتَظِمَةٌ لِلْقُرْآنِ أَمْرًا بِهِ وَذِكْرًا لِنُزُولِهِ وَلِتِلَاوَةِ الرَّسُولِ لَهُ عَلَى الْمُنْذَرِينَ ثُمَّ سُورَةُ ( الزَّلْزَلَةِ ) و ( الْعَادِيَّاتِ ) و ( الْقَارِعَةِ ) و ( التَّكَاثُرِ ) مُتَضَمِّنَةٌ لِذِكْرِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قِيلَ هُوَ النَّبَأُ الْعَظِيمُ . ثُمَّ سُورَةُ ( الْعَصْرِ ) و ( الْهُمَزَةِ ) و ( الْفِيلِ ) و ( لِإِيلَافِ ) و ( أَرَأَيْت ) و ( الْكَوْثَرِ ) و ( الْكَافِرُونَ ) و ( النَّصْرِ ) و ( تَبَّتْ ) مُتَضَمِّنَةٌ لِذِكْرِ الْأَعْمَالِ حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ سُورَةٍ خَاصَّةٌ . وَأَمَّا سُورَةُ ( الْإِخْلَاصِ و ( الْمُعَوِّذَتَانِ فَفِي الْإِخْلَاصِ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ وَفِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ دُعَاءُ الْعَبْدِ رَبَّهُ لِيُعِيذَهُ وَالثَّنَاءُ مَقْرُونٌ بِالدُّعَاءِ كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي أُمِّ الْقُرْآنِ الْمَقْسُومَةِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ : نِصْفُهَا ثَنَاءٌ لِلرَّبِّ وَنِصْفُهَا دُعَاءٌ لِلْعَبْدِ وَالْمُنَاسَبَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الرِّسَالَةِ وَهُوَ الْقُرْآنُ ثُمَّ الْإِيمَانُ بِمَقْصُودِ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ وَهُوَ مَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ إلَيْهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ : وَهُوَ الْجَزَاءُ ثُمَّ مَعْرِفَةُ طَرِيقِ الْمَقْصُودِ وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْأَعْمَالُ : خَيْرُهَا لِيَفْعَلَ وَشَرُّهَا لِيَتْرُكَ .

ثُمَّ خَتَمَ الْمُصْحَفَ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ كَمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ أُمُّ الْقُرْآنِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ الْمَعْنَوِيَّةَ هُوَ الْمَنْطِقُ وَالْمَنْطِقُ قِسْمَانِ : خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ وَأَفْضَلُ الْخَبَرِ وَأَنْفَعُهُ وَأَوْجَبُهُ مَا كَانَ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ كَنِصْفِ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَأَفْضَلُ الْإِنْشَاءِ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ وَأَنْفَعُهُ وَأَوْجَبُهُ مَا كَانَ طَلَبًا مِنْ اللَّهِ كَالنِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْن .

سُورَةُ الْبَيِّنَةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى . { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } . فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ سُورَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا فَضَائِلُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي : إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك الْقُرْآنَ . قَالَ : آللَّهُ سَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : اللَّهُ سَمَّاك لِي قَالَ : فَجَعَلَ أبي يَبْكِي } . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : { إنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك . { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } . قَالَ : سَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَبَكَى } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : { وَذُكِرْت عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ . } قَالَ قتادة : أُنْبِئْت

أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } . وَتَخْصِيصُ هَذِهِ السُّورَةِ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى أبي يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا وَامْتِيَازَهَا بِمَا اقْتَضَى ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ : { أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك } أَيْ قِرَاءَةَ تَبْلِيغٍ وَإِسْمَاعٍ وَتَلْقِينٍ لَيْسَ هِيَ قِرَاءَةَ تَلْقِينٍ فِي تَصْحِيحٍ كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلِّمُ عَلَى الْمُعَلِّمِ . فَإِنَّ هَذَا قَدْ ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ . وَجَعَلَ أَبُو حَامِدٍ هَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَوَاضُعِ الْمُتَعَلِّمِ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ كَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى جِبْرِيلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ . وَأَمَّا النَّاسُ فَمِنْهُ تَعَلَّمُوهُ فَكَيْفَ يُصَحِّحُ قِرَاءَتَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَقْرَأُ كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلِّمُ ؟ وَلَكِنَّ قِرَاءَتَهُ عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ كَمَا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . فَقَدْ قَرَأَ عَلَى الْجِنِّ الْقُرْآنَ . وَكَانَ إذَا خَرَجَ إلَى النَّاسِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ . وَيَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ . قَالَ تَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا

سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } . وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَهُوَ يَتْلُو عَلَى الْمُؤْمِنِينَ آيَاتِ اللَّهِ . وأبي بْنُ كَعْبٍ أَمَرَ بِتَخْصِيصِهِ بِالتِّلَاوَةِ عَلَيْهِ لِفَضِيلَةِ أبي وَاخْتِصَاصِهِ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : أبي أَقْرَؤُنَا وَعَلِيٌّ أَقْضَانَا . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ . قَالَ : أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ ؟ قَالَ : إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي } . فَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِإِسْمَاعِهِ إيَّاهُ لَا لِأَجْلِ التَّصْحِيحِ وَالتَّلْقِينِ . وَفِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . هَلْ الْمُرَادُ لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ الْكُفْرِ . أَوْ هَلْ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدِ حَتَّى بُعِثَ فَلَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَالتَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ حَتَّى بُعِثَ . أَوْ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ ؟

وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ . قَالَ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَهْم عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ { مُنْفَكِّينَ } أَيْ مُنْفَصِلِينَ وَزَائِلِينَ . يُقَالُ : فَكَكْت الشَّيْءَ فَانْفَكَّ أَيْ انْفَصَلَ . وَالْمَعْنَى : لَمْ يَكُونُوا زَائِلِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . لَفْظُهُ لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي . وَالْبَيِّنَةُ الرَّسُولُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَهُمْ وَجَهْلَهُمْ . وَهَذَا بَيَانٌ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى مَنْ آمَنُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إذْ أَنْقَذَهُمْ بِهِ . وَلَفْظُ البغوي نَحْوُ هَذَا . قَالَ : لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَقَالَ : أَهْلُ اللُّغَةِ : " مُنْفَكِّينَ " مُنْفَصِلِينَ زَائِلِينَ يُقَالُ : فَكَكْت الشَّيْءَ فَانْفَكَّ أَيْ انْفَصَلَ . { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } لَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي أَيْ حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ يَعْنِي مُحَمَّدًا أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ . فَأَنْقَذَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ . وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا حَتَّى بَعَثَ فَافْتَرَقُوا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ حُجَجِ اللَّهِ حَتَّى أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ .

قَالَ : وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ . وَذَكَرَ الثَّلَاثَةُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ عَطِيَّةَ لَكِنَّ الثَّالِثَ وَجَّهَهُ وَقَوَّاهُ وَلَمْ يَحْكِهِ عَنْ غَيْرِهِ . فَقَالَ : قَوْلُهُ : { مُنْفَكِّينَ } أَيْ مُنْفَصِلِينَ مُتَفَرِّقِينَ . تَقُولُ : انْفَكَّ الشَّيْءُ عَنْ الشَّيْءِ إذَا انْفَصَلَ عَنْهُ . قَالَ : و " مَا انْفَكَّ " الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ " كَانَ " لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ أَنْ يَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ مُنْفَكَّةً . قَالَ : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ عَنْ مَاذَا ؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَأَوْقَعَ الْمُسْتَقْبَلَ مَوْقِعَ الْمَاضِي فِي { تَأْتِيهِمْ } لِأَنَّ بَأْسَ الشَّرِيعَةِ وَعِظَمَهَا لَمْ يَجِئْ بَعْدُ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ مَعْرِفَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَكُّدُ لِأَمْرِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَتَفَرَّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ : وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إلَى أَنَّ هَذَا الْمَنْفِيَّ الْمُتَقَدِّمَ مَعَ " مُنْفَكِّينَ " بِجَعْلِهِمْ تِلْكَ هِيَ مَعَ " كَانَ " وَيُرْوَى التَّقْدِيرُ فِي خَبَرِهَا " عَارِفِينَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ " أَوْ نَحْوَ هَذَا . قَالَ : وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بَارِعُ الْمَعْنَى . وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : لَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ حَتَّى

يَبْعَثُ إلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ وَتَتِمُّ عَلَى مَنْ آمَنَ النِّعْمَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَا كَانُوا [ ل ] (1) يُتْرَكُوا سُدًى . قَالَ : وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَظَائِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ . لَكِنَّ الثَّالِثَ حَكَاهُ عَمَّنْ جَعَلَ مَقْصُودَهُ إهْلَاكَهُمْ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَجَعَلَ " مُنْفَكِّينَ " بِمَعْنَى هَالِكِينَ . فَقَالَ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ . وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : زَائِلِينَ . تَقُولُ الْعَرَبُ : مَا انْفَكَّ فُلَانٌ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ مَا زَالَ . وَأَصْلُ الْفَكِّ : الْفَتْحُ وَمِنْهُ فَكُّ الْكِتَابِ وَفَكُّ الْخَلْخَالِ . { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ . وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ . قَالَ وَقَالَ ابْنُ كيسان : مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ تَارِكِينَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِمْ حَتَّى بُعِثَ فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِيهِ . وَقَالَ : قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } حُكْمُهَا فِيمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ . { وَمَا تَفَرَّقَ } حُكْمُهُ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ .

قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ : قَوْلُهُ { مُنْفَكِّينَ } أَيْ هَالِكِينَ . مِنْ قَوْلِهِمْ : انْفَكَّ صَلَا الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَلَا يَلْتَئِمَ فَتَهْلِكَ . وَمَعْنَى الْآيَةِ : لَمْ يَكُونُوا هَالِكِينَ مُكَذِّبِينَ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ . وَقَدْ ذَكَرَ البغوي هَذَا وَالْأَوَّلَ . قَالَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . ( قُلْت : الْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي حَكَاهُ عَنْ ابْنِ كيسان هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ . وَقَدْ قَدَّمَهُ المهدوي عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ : { مُنْفَكِّينَ } مِنْ " انْفَكَّ الشَّيْءُ مِنْ الشَّيْءِ " إذَا فَارَقَهُ . وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ إلَّا إذَا جَاءَهُمْ الرَّسُولُ لِمُفَارَقَتِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِهِ وَصِفَتِهِ . وَكُفْرِهِمْ بَعْدَ الْبَيِّنَاتِ . قَالَ : وَلَا يَحْتَاجُ { مُنْفَكِّينَ } عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إلَى خَبَرٍ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . قَالَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ . وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا : لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ . قَالَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ : لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ ذِكْرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ حَتَّى ظَهَرَ . فَلَمَّا ظَهَرَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا .

قُلْت : هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ . لَكِنَّ الْفَرَّاءَ وَابْنَ كيسان جَعَلَ الِانْفِكَاكَ مُفَارَقَتَهُمْ وَتَرْكَهُمْ لِذِكْرِهِ وَخَبَرِهِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ . أَيْ لَمْ يَكُونُوا مُفَارِقِينَ تَارِكِينَ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ خَبَرِهِ حَتَّى ظَهَرَ . فَانْفَكُّوا حِينَئِذٍ . وَذَاكَ يَقُولُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ أَيْ مُتَفَرِّقِينَ إلَّا إذَا جَاءَ الرَّسُولُ لِمُفَارَقَتِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِهِ . وَهُوَ مَعْنَى مَا حَكَاهُ أَبُو الْفَرَجِ : لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا حَتَّى بُعِثَ فَافْتَرَقُوا . فَالِانْفِكَاكُ انْفِكَاكُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ أَوْ انْفِكَاكُهُمْ عَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ وَخَبَرِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لَمْ يَرِدْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَطْعًا . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ أَهْلَ الْكِتَابِ بَلْ ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَلَا كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِهِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ . فَلَمَّا جَاءَ تَفَرَّقُوا . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ : لَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ تَارِكِينَ لِمَعْرِفَةِ مُحَمَّدٍ وَذِكْرِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ . وَلَمْ يَكُونُوا مُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ حَتَّى بُعِثَ . فَهَذَا مَعْنًى بَاطِلٌ فِي الْمُشْرِكِينَ . وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا أَيْضًا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ . فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ فَقَالَ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

وَالْمُشْرِكِينَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ نُبُوَّتَهُ وَيُقِرُّونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَهُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ لَمْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ كُفَّارًا . بَلْ كَانَ الْإِيمَانُ أَغْلَبَ عَلَيْهِمْ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ تَفَرُّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَإِنَّهُ يَعُمُّهُمْ فَيَقُولُ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ : كَانَ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَأَيْضًا فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الِانْفِكَاكِ " فِي هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَهُ شَاهِدٌ . فَتَسْمِيَةُ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ " انْفِكَاكًا " غَيْرُ مَعْرُوفٍ . وَأَيْضًا فَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ ل { مُنْفَكِّينَ } خَبَرًا كَمَا يُقَالُ : مَا انْفَكُّوا يَذْكُرُونَ مُحَمَّدًا وَمَا زَالُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ " كَانَ " لَا يُقَالُ فِيهَا " مَا كُنْت مُنْفَكًّا " بَلْ يُقَالُ " مَا انْفَكَكْت أَفْعَلُ كَذَا " فَهُوَ يَلِي حَرْفَ " مَا " . وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِانْفِكَاكَ عَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً . وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . فَلَوْ أُرِيدَ بِهَذِهِ لَكَانَ تَكْرِيرًا مَحْضًا . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ : أَشْهَرُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ غَيْرَهُ كالبغوي وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ كَمَا فِي التَّفْسِيرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : { مُنْفَكِّينَ } قَالَ : مُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : لَمْ يَزَالُوا مُقِيمِينَ عَلَى الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَالرُّسُلُ . وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَضَمَّنُ مَدْحَهُمْ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ وَلِهَذَا احْتَاجَ مَنْ قَالَهُ إلَى أَنْ يَقُولَ : هَذَا فِيمَنْ آمَنُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنَّهُ بَيَانٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَجَعَلُوا قَوْلَهُ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وهذا أَيْضًا ضَعِيفٌ . فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ إلَيْهِمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } { وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلَّا مِنْ

بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وَقَالَ : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } ثُمَّ قَالَ { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ . فَكَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ

الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُوَ حِينَ يُبْعَثُ مُحَمَّدٌ وَلِيُّهُمْ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ إلَيْهِمْ الْكِتَابَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . فَهَذَا بَيَّنَ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ أُمَّتَهُ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ عَنْ الْيَهُودِ : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ وَالْمَسْنَدِ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَفَرَّقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً } . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ كَابْنِ حَزْمٍ يُضَعِّفُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبِلُوهَا وَصَدَّقُوهَا .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ . فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { نَحْنُ الآخرون السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ . فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ . النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَد لِلنَّصَارَى } . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا وَتَفَرَّقُوا قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . بَلْ الْيَهُودُ افْتَرَقُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْمَسِيحِ ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الْمَسِيحُ اخْتَلَفُوا فِيهِ . ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّصَارَى اخْتِلَافًا آخَرَ . فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ قَوْلَهُ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } هُوَ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدِ مِنْهُمْ ؟ . وَأَيْضًا فَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدِ كُفَّارٌ وَهُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } .

الْبَيِّنَةُ } . وَهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ . وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَإِنَّ رَبِّي قَالَ لِي : قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ . فَقُلْت : أَيْ رَبِّ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً . فَقَالَ : إنِّي مُبْتَلِيك وَمُبْتَلٍ بِك وَمُنْزِلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَأهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَا . فَابْعَثْ جُنْدًا نَبْعَثُ مِثْلَيْهِمْ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَك مَنْ عَصَاك } وَالْحَدِيثُ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ فَنَقُولُ : الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ لَفْظًا وَمَعْنًى . أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَدَلَالَتِهِ وَبَيَانِهِ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا يَلْزَمُ بِهِ الْإِنْسَانُ يَعْنِي اخْتِيَارَهُ وَيَقْهَرُ عَلَيْهِ إذَا تَخَلَّصَ مِنْهُ . يُقَالُ : انْفَكَّ مِنْهُ كَالْأَسِيرِ وَالرَّقِيقِ الْمَقْهُورِ بِالرِّقِّ وَالْأَسْرِ . يُقَالُ : فَكَكْت الْأَسِيرَ فَانْفَكَّ وَفَكَكْت الرَّقَبَةَ . قَالَ تَعَالَى { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } { فَكُّ رَقَبَةٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ : { عُودُوا الْمَرِيضَ وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ : وَفُكُّوا الْعَانِي } . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا سُئِلَ عَمَّا فِي الصَّحِيفَةِ فَقَالَ : فِيهَا الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ . فَفَكُّهُ : فَصْلُهُ عَمَّنْ يَقْهَرُهُ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا . وَيُقَالُ : فُلَانٌ مَا يَفُكُّ فُلَانًا حَتَّى يُوقِعَهُ فِي كَذَا وَكَذَا وَالْمُتَوَلِّي لَا يَفُكُّ هَذَا حَتَّى يَفْعَلَ كَذَا يُقَالُ لِمَنْ لَزِمَ غَيْرَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ إمَّا بِقُدْرَةِ وَقَهْرٍ وَإِمَّا بِتَحْسِينِ وَتَزْيِينٍ وَأَسْبَابٍ حَتَّى يَصِيرَ بِهَا مُطِيعًا لَهُ .

وَيُقَالُ لِلْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ : هُوَ مَا يَنْفَكُّ مِنْ هَذَا كَمَا لَا يَنْفَكُّ الْأَسِيرُ وَالرَّقِيقُ مِنْ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ . فَقَوْلُهُ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ } أَيْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ يَفْعَلُونَ مَا يَهْوَوْنَهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ الْمُنْفَكَّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ " مَفْكُوكِينَ " بَلْ قَالَ { مُنْفَكِّينَ } . وَهَذَا أَحْسَنُ فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِفِعْلِهِمْ . وَلَوْ قَالَ " مَفْكُوكِينَ " كَانَ التَّقْدِيرُ : لَمْ يَكُونُوا مُسَيِّبِينَ مُخِلِّينَ فَهُوَ نَفْيٌ لِفِعْلِ غَيْرِهِمْ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ وَلَا تُرْسَلُ إلَيْهِمْ رُسُلٌ بَلْ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا مِمَّا تَهْوَاهُ الْأَنْفُسُ . وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مَا يُخَلِّيهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ . فَهُوَ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى . أَيْ أَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَكُونُ ؟ هَذَا مَا لَا يَكُونُ أَلْبَتَّةَ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ } . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ أَيْ لِأَجْلِ إسْرَافِكُمْ نَتْرُكُ إنْزَالَ الذِّكْرِ وَنُعْرِضُ عَنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ . وَمَنْ كَرِهَ إرْسَالَهُمْ ؟

فَإِنَّ الْأَوَّلَ تَكْذِيبٌ بِوُجُودِهِمْ وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ بُغْضَهُمْ وَكَرَاهَةَ مَا جَاءُوا بِهِ . قَالَ تَعَالَى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ } وَأَمَّا مَنْ كَذَّبَ بِهِمْ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ . وَلَكِنْ مَنْ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إلَيْهِ رَسُولًا وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ذَمَّهُ اللَّهُ إذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقِيَامِ الْقِيَامَةِ . وَلِهَذَا يُنْكِرُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فَقَالَ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } وَقَالَ { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

وَقَالَ عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَنَحْوُهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَالْمَعَادَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ . وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَوْ حَسِبَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ . وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُوبَ وُقُوعِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَقَعُ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُصَدِّقِينَ لِلرُّسُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ تَصْدِيقِ الْخَبَرِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ . فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مُخْبِرِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِحُكْمِ وَعْدِهِ وَخَبَرِهِ . فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ وَكَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ شَاءَ ذَلِكَ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ كُلُّ مَا شَاءَهُ . لَكِنْ هَلْ يُقَالُ : إنَّ الْمَشِيئَةَ مُوجِبَةٌ فِيهِ نِزَاعٌ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ وَجَبَ لِإِيجَابِهِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِاقْتِضَاءِ حِكْمَتِهِ ذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا نِزَاعٌ . وَمَا أَقْسَمَ لَيَفْعَلَنهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ . وَالْقَسَمُ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْخَبَرِ

وَمَعْنَى الْحَضِّ وَالطَّلَبِ . لَكِنَّ فِي ثُبُوتِ الثَّانِي فِي حَقِّ اللَّهِ نِزَاعٌ بَيْنَ النَّاسِ كَقَوْلِهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَوْلِهِ { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ حِكْمَتَهُ أَوْ حُكْمَهُ أَوْ مَشِيئَتَهُ تُوجِبُ ذَلِكَ يَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ . فَيَقُولُونَ : أَنَّهُ قَدْ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ . وَأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الطَّوَائِفِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالْخَبَرِ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْأَشْعَرِيَّةِ . وَذَاكَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَالْحَنَفِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ . وَأَمَّا أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مَعَ السَّلَفِ يُثْبِتُونَ الْحِكْمَةَ وَالتَّعْلِيلَ . وَإِنَّمَا يَنْفِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةَ . كَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ . وَكَذَلِكَ جُمْهُورُهُمْ يُثْبِتُونَ لِلْأَفْعَالِ صِفَاتٍ بِهَا كَانَتْ حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً قَبِيحَةً . لَا يَجْعَلُونَ حُسْنَهَا وَقُبْحَهَا تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ بَلْ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ كَمَا تَقُولهُ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ .

هَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ وَالْجُمْهُورِ كَمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ وَالْجُمْهُورَ عَلَى إثْبَاتِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . لَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ الْقَدَرَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ وَلَا بِقَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ حِكْمَةَ الرَّبِّ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةِ وَنَحْوِهِمْ . فَلَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْنُّفَاةِ لِلْقَدَرِ وَلَا بِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يَسْتَلْزِمُ قَوْلُهُمْ إنْكَارَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْجَزَاءِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا سِيَّمَا مَنْ أَفْصَحُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَوْ قَالَ : إنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ . فَآمَنُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فِي الْجُمْلَةِ وَأَوْجَبُوا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَآمَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَاجْتَهَدُوا فِي مُتَابَعَةِ الرُّسُلِ . لَكِنْ أَخْطَئُوا حَيْثُ نَفَوْا الْقَدَرَ وَظَنُّوا أَنَّ إثْبَاتَهُ يُنَاقِضُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إيمَانُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَادِلٌ صَادِقٌ حَتَّى يُكَذِّبُوا بِالْقَدَرِ وَبِإِخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ النَّارِ وَلَا يَرْحَمُهُ أَبَدًا . فَلَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يُعَذَّبَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ يُرْحَمَ بَلْ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ لَمْ يُرْحَمْ أَبَدًا . وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَتَعَمَّدُوا تَكْذِيبَ الرُّسُلِ فَقَوْلُهُمْ هَذَا يَتَضَمَّنُ

مُخَالَفَةَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُرُوجِ أَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ النَّارِ وَشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ فِيهِمْ . وَيَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ آيَسُوا الْخَلْقَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِعُمُومِ خَلْقِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَشَاؤُهُ وَلَا يَخْلُقُهُ . وَتَشَبَّهُوا بِالْمَجُوسِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى قِيلَ : الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَقَابَلَهُمْ أُولَئِكَ فَتَوَقَّفُوا فِي خَبَرِ اللَّهِ مُطْلَقًا حَتَّى أَنْكَرُوا صِنْفَيْ الْعُمُومِ فَلَمْ يَعْلَمُوا بِخَبَرِهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ . فَلَا يَجْزِمُونَ بِالنَّجَاةِ لِلصِّنْفِ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ طَاعَةً لِلَّهِ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ صَغِيرَةٌ . وَلَا بِالْعَذَابِ لِلصِّنْفِ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ أَفْجَرُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَشَرِّهَا ؛ بَلْ يُجَوِّزُونَ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِهَذَا وَبِهَذَا أَنْ يُعَذِّبَ أَهْلَ الْحَسَنَاتِ الْكَبِيرَةِ عَلَى سَيِّئَةٍ صَغِيرَةٍ عَذَابًا مَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَأَنْ يُدْخِلَ فُجَّارَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْجَنَّةَ مَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ . وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُ مَقَامٌ آخَرُ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ دَلَّتْ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَوَاضِعُ أُخَرُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إلَى النَّاسِ تَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ يُرْسِلُهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } يُنْذِرُونَ الَّذِينَ أَسَاءُوا عُقُوبَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَيُبَشِّرُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ و { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } { مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } فَقَوْلُهُ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَدَعَهُمْ وَيَتْرُكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ . بَلْ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِمْ الرَّسُولَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ " حَتَّى " حَرْفُ غَايَةٍ وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } وَقَوْلِهِ { حَتَّى يَطْهُرْنَ } وَقَوْلِهِ : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَنَظَائِرُ ذَلِكَ . فَلَوْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ وَيُؤْمِنُونَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ لَزِمَ أَنْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ قَدْ انْتَهَوْا وَآمَنُوا . فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِيهِمْ .

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ حَتَّى بُعِثَ لَزِمَ أَنْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ إرْسَالِهِ إلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ بَعْدَ إرْسَالِهِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا . وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ . فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مَا فِي الْكُتُبِ مِنْ بَعْثِهِ وَمِنْ أُمُورٍ أُخَرٍ . وَلَمَّا بُعِثَ فَقَدْ آمَنَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يَتَفَرَّقُوا كُلُّهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ . وَحِينَئِذٍ فَالْآيَةُ لَمْ تَتَضَمَّنْ مَدْحَهُمْ مُطْلَقًا كَمَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ . وَلَا تَتَضَمَّنُ ذَمَّهُمْ مُطْلَقًا كَمَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ الرَّسُولُ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ مَا كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى التَّصْدِيقِ ؛ بَلْ تَضَمَّنَتْ مَدْحَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالرَّسُولِ . وَذَمَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَالْإِخْبَارُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ فَيُؤْمِنُ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيَكْفُرُ بَعْضٌ . قَالَ تَعَالَى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .

ثم إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ لِيُمَيِّزَ بِهِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } ثُمَّ قَالَ : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } . فالناس إذَا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ أَحَدُ رَجُلَيْنِ . إمَّا رَجُلٌ آمَنَ بِهِمْ فِي الظَّاهِرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُمْتَحَنَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ . وَإِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ وَلَمْ يُؤْمِنْ فَلَا يَفُوتُ اللَّهُ بَلْ هُوَ آخِذُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَلِهَذَا انْقَسَمَ النَّاسُ فِي الرُّسُلِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُؤْمِنٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَكَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَمُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُبْطِنٌ لِلْكُفْرِ . وَمِنْ حِينِ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ حَصَلَ هَذَا الِانْقِسَامُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ . وَأَمَّا حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُسْتَضْعَفِينَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَحْتَاجُ

إلَى النِّفَاقِ بَلْ كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَكْتُمُ إيمَانَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْكُفْرِ مُكْرَهًا مَعَ طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ . وَهَذَا مُؤْمِنٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . فَإِنَّهُ وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ لِبَعْضِ النَّاسِ لَمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ كَتَمَ عَنْهُ إيمَانُهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ فِي خَلْوَتِهِ وَمَعَ مَنْ يَأْمَنُهُ وَيَعْمَلُ بِمَا يُمْكِنُهُ وَمَا عَجَزَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ نِفَاقٌ إنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ بِالْمَدِينَةِ . وَلَكِنْ كَانَ بِمَكَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ { وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } . وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِيمَانِ مَا كَانَ لِيَدَعَهُمْ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثُ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَمْتَحِنُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } وَقَالَ { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .

فَكَذَلِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَمْ يَكُنْ لِيَتْرُكَهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ الرَّسُولَ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ . فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } . وَهُمْ إذَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْفُرُ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْآيَةَ تَتَضَمَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَهْتَدُوا وَيَعْرِفُوا الْحَقَّ وَيُؤْمِنُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ إلَّا بِرَسُولِ يَأْتِي مِنْ اللَّهِ أَيْضًا ؛ أَوَلَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ مُتَّعِظِينَ وَإِنْ عَرَفُوا الْحَقَّ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَنْ يُذَكِّرُهُمْ ؛ فَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاقِضُ ذَاكَ . بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ تَارِكِينَ لِمَعْرِفَةِ مُحَمَّدٍ وَلِذِكْرِهِ وَلَمْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ بَلْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَتَرَكُوا الْإِيمَانَ بِهِ وَتَفَرَّقُوا . فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } وَلَمْ يَقُلْ " حَتَّى أَتَتْهُمْ " وَأُولَئِكَ لَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَى الْآيَةِ ظَنُّوا أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعَ الْمَاضِي وَأَنَّ الْمُرَادَ : مَا انْفَكُّوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إمَّا مِنْ كُفْرٍ وَإِمَّا مِنْ إيمَانٍ حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . فَلَمَّا قِيلَ { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ

بَعْضُهُمْ : لَمَّا تَأْتِهِمْ كُلَّهَا . وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ فَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْمُضَارِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } . فَإِنَّ الْمُرَادَ : مَا كَانُوا مَفْكُوكِينَ مَتْرُوكِينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } . و " لَمْ " وَإِنْ كَانَتْ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا فَذَاكَ إذَا تَجَرَّدَ فَقِيلَ " لَمْ يَأْتِ " و " لَمْ يَذْهَبْ " فَمَعْنَاهُ " مَا أَتَى " و " مَا ذَهَبَ " . وَأَمَّا إذَا قِيلَ " لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ هَذَا " و { لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } فَالْمَقْصُودُ مَعْنَى الْفِعْلِ الدَّائِمِ مُطْلَقًا . وَإِذَا قِيلَ " لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ آتِيًا حَتَّى يَذْهَبَ إلَيْهِ فُلَانٌ " بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْت " لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ قَدْ أَتَى حَتَّى ذَهَبَ إلَيْهِ فُلَانٌ " . وَلَوْ قِيلَ " مَا كَانَ فُلَانٌ فَاعِلًا لِهَذَا حَتَّى يَكُونَ كَذَا " كَانَ نَحْوُ ذَاكَ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ " مَا كَانَ فُلَانٌ قَدْ فَعَلَ حَتَّى أَتَى فُلَانٌ " . فَنَفَى الْمُضَارِعَ الَّذِي خَبَرُهُ اسْمُ فَاعِلٍ وَهُوَ الدَّائِمُ . وَالْمُرَادُ : لَمْ يَكُونُوا فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مَتْرُوكِينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَلَوْ قِيلَ هُنَا " حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ " لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُهُ .

وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الِانْتِهَاءَ عَنْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ لَقِيلَ " حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ " أَيْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ نَبِيٌّ يُعَرِّفُهُمْ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّعِظِينَ عَامِلِينَ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ يَعِظُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ . فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْمَاضِي بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ : " مَا زَالُوا كَافِرِينَ حَتَّى أَتَاهُمْ " . فَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَنْ وُجُوبِ إثْبَاتِ الْبَيِّنَةِ وَامْتِنَاعِ الِانْفِكَاكِ بِدُونِهَا . لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مُجَرَّدَ الْخَبَرِ عَنْ عَدَمِ الِانْفِكَاكِ ثُمَّ ثُبُوتِهِ فِي الْمَاضِي . وَهُوَ كَمَا لَوْ قِيلَ " لَمْ يَكُونُوا يَنْفَكُّوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ " لَكِنْ هُنَا ذَكَرَ اسْمَ الْفَاعِلِينَ فَقِيلَ " مُنْفَكِّينَ " . وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِتَقُومَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ مَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ . فَبَيِّنَاتُ اللَّهِ وَحُجَّتُهُ قَامَتْ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ . وَهُوَ لَمْ يُعَذِّبْ وَاحِدًا مِنْ الْحِزْبَيْنِ إلَّا بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ كَمَا فِي قِصَّةِ مُوسَى وَمَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ . فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَدَعْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ حَتَّى أَرْسَلَ إلَيْهِمْ مُوسَى وَلَمْ يُعَذِّبْهُمْ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ . ثُمَّ لَمَّا آمَنَ بَنُو إسْرَائِيلَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ لَمْ يَتَفَرَّقُوا وَيَخْتَلِفُوا إلَّا مِنْ

بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . فَلَمْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ فِي ذَلِكَ . وَلِهَذَا نُهِيَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فَقِيلَ { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } . وَالنَّاسُ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ هُمْ كَذَلِكَ . فَمَنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَكُنْ مُنْفَكًّا حَتَّى تَأْتِيَهُ الْبَيِّنَةُ وَمَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدِ مِنْ الْأُمَمِ ثُمَّ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فَمَا اخْتَلَفُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَمَا أُمِرَ الْجَمِيعُ { إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . وَالْآيَةُ تَضَمَّنَتْ مَدْحَ الرَّبِّ وَذِكْرَ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَحُجَّتِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَدْعُهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا كَمَا قَالَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ { قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } الْآيَةَ . لَمْ تَتَضَمَّنْ مَدْحَهُمْ عَلَى بَقَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يَأْتِيَ الرَّسُولُ . فَإِنَّ هَذَا غَايَتُهُ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ الرَّسُولُ لَا أَنْ يُحْمَدُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ الرَّسُولُ . فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ لَا سِيَّمَا وَأَهْلُ الْكِتَابِ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ .

وَنَظِيرُ هَذَا فِي اللَّفْظِ قَوْلُهُ { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ } . لَيْسَ الْمُرَادُ : مَا كُنْتُمْ بَالِغِيهِ فِي الْمَاضِي بَلْ هَذِهِ حَالُهُمْ دَائِمًا . فَقَوْلُهُ " لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ " يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ حَالُهُمْ دَائِمًا . وَتَضَمَّنَتْ السُّورَةُ ذِكْرَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الْعِبَادِ وَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَبَيَانِ السُّعَدَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْأَشْقِيَاءِ أَهْلِ النَّارِ . فَقَوْلُهُ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } جُمْلَةً فِيهِ بَيَانُ إرْسَالِ الرَّسُولِ إلَى الْجَمِيعِ . وَقَوْلُهُ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } فِيهِ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الشَّرَائِعِ وَذَمُّ تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ نَظِيرُهُمَا قَوْلُهُ { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } ثُمَّ قَالَ { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ

مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } ثُمَّ قَالَ { وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } وَقَوْلُهُ { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } فِي سُورَةِ " هُودٍ " وَسُورَةِ " عسق " . ثُمَّ ذَكَرَ مَا أُمِرَ بِهِ الْجَمِيعُ بِقَوْلِهِ { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . ثُمَّ ذَكَرَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَعَاقِبَةَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .

فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : هُوَ تَفَرُّقُهُمْ فِي مُحَمَّدٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ جَعَلَ تَفَرُّقَهُمْ إيمَانَ بَعْضِهِمْ وَكُفْرَ بَعْضٍ . قَالَ البغوي : ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } أَيْ الْبَيَانُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ مُجْتَمَعِينَ فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ . فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِ وَاخْتَلَفُوا . فَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمْ .
وَهَكَذَا ذَكَرَ طَائِفَةٌ فِي قَوْلِهِ { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } قَالَ أَبُو الْفَرَجِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَزَالُوا بِهِ مُصَدِّقِينَ حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ يَعْنِي الْقُرْآنَ . وَرُوِيَ عَنْهُ : حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ يَعْنِي مُحَمَّدًا . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعِلْمُ هُنَا عِبَارَةً عَنْ الْمَعْلُومِ . وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُمْ

اخْتَلَفُوا فِي تَصْدِيقِهِ فَكَفَرَ بِهِ أَكْثَرُهُمْ بَغْيًا وَحَسَدًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى تَصْدِيقِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا . وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمُتَفَرِّقِينَ كُلَّهُمْ كُفَّارًا . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَذَمَّةَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ رَأَوْا الْآيَاتِ الْوَاضِحَةِ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِفَتِهِ . فَلَمَّا جَاءَ مِنْ الْعَرَبِ حَسَدُوهُ . وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّعْلَبِيُّ : مَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ فَكَذَّبُوهُ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ الْبَيَانُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ : مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } حُكْمُهَا فِيمَنْ آمَنُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ { وَمَا تَفَرَّقَ } حُكْمُهُ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ . قَالَ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } يَعْنِي مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ . { إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ مُحَمَّدٌ وَالْمَعْنَى لَمْ يَزَالُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ حَتَّى بُعِثَ قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ ؛

وَالثَّانِي : الْقُرْآنُ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّالِثُ : مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ بَيَانِ نُبُوَّتِهِ ذَكَرَهُ الماوردي . ( قُلْت : هَذَا هُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّعْلَبِيُّ والبغوي وَغَيْرُهُمَا سِوَاهُ . وَأَبُو الْعَالِيَةِ إنَّمَا قَالَ : الْكِتَابُ لَمْ يَقُلْ : الْقُرْآنَ . هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ : { إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } قَالَ : قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : الْكِتَابُ . وَمُرَادُ أَبِي الْعَالِيَةِ جِنْسُ الْكِتَابِ . فَيَتَنَاوَلُ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ كَمَا قَالَ { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ } فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ تَعَالَى { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } ثُمَّ قَالَ { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } . وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَرَوَاهُ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ

النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } . وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ { وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } قَالَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ . { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ } يَعْنِي بَنِي إسْرَائِيلَ . أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْعِلْمَ { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } يَقُولُ بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبِ مُلْكِهَا وَزُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا أَيُّهُمْ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَالْمَهَابَةُ فِي النَّاسِ فَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَضَرَبَ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } يَقُولُ : فَهَدَاهُمْ اللَّهُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ أَقَامُوا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ . وَأَقَامُوا عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ وَاعْتَزَلُوا الِاخْتِلَافَ . فَكَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ وَآلِ فِرْعَوْنَ أَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغَتْهُمْ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ .
قُلْت : الِاخْتِلَافُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَانِ . أَحَدُهُمَا يَذُمُّ فِيهِ الْمُخْتَلِفِينَ كُلَّهُمْ كَقَوْلِهِ { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } وَقَوْلِهِ { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } { إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } وَالثَّانِي يَمْدَحُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَذُمُّ الْكَافِرِينَ كَقَوْلِهِ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ

اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَوْلِهِ { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي ذَمَّهُ مِنْ تَفَرُّقِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاخْتِلَافِهِمْ ذَمَّ فِيهِ الْجَمِيعَ وَنَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فَقَالَ { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وَقَالَ : { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } . وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ طَائِفَةٌ بِبَعْضِ حَقٍّ وَتَكْفُرَ بِمَا عِنْدَ الْأُخْرَى مِنْ الْحَقِّ وَتَزِيدَ فِي الْحَقِّ بَاطِلًا كَمَا اخْتَلَفَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَحِينَئِذٍ نَقُولُ : مَنْ قَالَ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا تَفَرَّقُوا فِي مُحَمَّدٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا بُعِثَ إرَادَةَ إيمَانِ بَعْضِهِمْ وَكُفْرَ بَعْضِهِمْ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ فَالْمَذْمُومُ هُنَا مَنْ كَفَرَ لَا مَنْ آمَنَ . فَلَا يُذَمُّ كُلُّ الْمُخْتَلِفِينَ وَلَكِنْ يُذَمُّ مَنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ رَسُولٌ فَلَمَّا جَاءَ كَفَرَ بِهِ حَسَدًا أَوْ بَغْيًا كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ

يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } . وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّفَرُّقِ فِيهِ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ وَتَفَرَّقَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَاخْتِلَافُ هَؤُلَاءِ وَتَفَرُّقُهُمْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ التَّكَاثُرِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
" سُورَةُ التَّكَاثُرِ " قِيلَ فِيهَا : { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الزَّائِرَ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ مَزَارِهِ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْبَعْثِ . ثُمَّ قَالَ : { كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } { ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } فَهَذَا خَبَرٌ عَنْ عِلْمِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ ثُمَّ قَالَ . { كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى عِلْمِهِمْ فِي الْحَالِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ : أَيْ لَكَانَ الْأَمْرُ فَوْقَ الْوَصْفِ وَلَعَلِمْتُمْ أَمْرًا عَظِيمًا وَلَأَلْهَاكُمْ عَمَّا أَلْهَاكُمْ فَإِنَّ الِالْتِهَاءَ بِالتَّكَاثُرِ إنَّمَا وَقَعَ مِنْ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الْيَقِينِ . كَمَا قَالَ : { كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } وَمِثْلُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا } وَحَذْفُ جَوَابِ لَوْ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَفْخِيمًا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ

مِنْ أَنْ يُوصَفَ أَوْ يُتَصَوَّرَ بِسَمَاعِ لَفْظٍ إذْ الْمُخْبِرُ لَيْسَ كَالْمُعَايِنِ وَلِهَذَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ عَلَى الرُّؤْيَةِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْيَقِينِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الْيَقِينِ فَقَالَ : { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ } { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } وَهَذَا الْكَلَامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ مُسْتَقْبَلٍ مَعَ كَوْنِ جَوَابِ لَوْ مَحْذُوفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَفِي الْآخَرِ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِلَوْ لَكِنْ يُقَالُ جَوَابُ لَوْ إنَّمَا يَكُونُ مَاضِيًا فَيُقَالُ : لَرَأَيْتُمْ الْجَحِيمَ . كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ تَكُونُونَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ فِي طُرُقِكُمْ وَعَلَى فُرُشِكُمْ } وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا فَلَيْسَ مِمَّا يُؤَكَّدُ بَلْ يُقَالُ : لَوْ يَجِيءُ لَأَجِيءُ . وَجَوَابُ هَذَا أَنَّهُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ لَوْ . كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى قَسَمٍ وَشَرْطٍ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي جَوَابَهُ أُجِيبَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا وَهُوَ هُنَا الْقَسَمُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمَعْنَى : وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين لترون الْجَحِيمَ بِقُلُوبِكُمْ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُ وَهُوَ الَّذِي أَثَرُوهُ عَنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ : { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا } { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ } مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلُهُ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي حَيِّزِهِ فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ لَكَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ

كَذَلِكَ وَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ رُؤْيَتَهَا عَيْنُ الْيَقِينِ وَالْمَسْأَلَةُ عَنْ النَّعِيمِ لَيْسَ مُعَلَّقًا بِأَنْ يَعْلَمُوهَا فِي الدُّنْيَا عِلْمَ الْيَقِينِ . وَأَيْضًا فَتَفْسِيرُ الرُّؤْيَةِ الْمُطْلَقَةِ بِرُؤْيَةِ الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ . وَأَيْضًا فَيَكُونُ الشَّرْطُ هُوَ الْجَوَابُ فَإِنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ لَوْ عَلِمْتُمْ عِلْمَ الْيَقِينِ لَرَأَيْتُمْ بِقُلُوبِكُمْ وَذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ فَالْمَعْنَى لَوْ عَلِمْتُمْ لَعَلِمْتُمْ وَهَذَا لَا يُفِيدُ وَلَوْ أُرِيدُ بِمُشَاهَدَةِ الْقَلْبِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْعِلْمِ فَهَذَا مَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَلِمَ الشَّيْءَ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُشَاهِدًا لَهُ بِقَلْبِهِ . وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَعْنَى لَوْ كَانَ مُفِيدًا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْقَسَمَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِطَائِلِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } لَمْ يَذْكُرْ الْمَعْلُومَ حَتَّى يَسْتَلْزِمَ الْعِلْمُ بِهِ الْعِلْمَ بِالْجَحِيمِ فَإِنْ أُرِيدَ مَعْلُومٌ خَاصٌّ فَلَا دَلِيلَ فِي الشَّرْطِ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ الِارْتِبَاطُ . وَإِنْ أُرِيدَ الْمَعْلُومُ الْعَامُّ وَهُوَ مَا بَعْدُ الْمَوْتِ فَذَاكَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالْجَحِيمِ وَغَيْرهَا وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . فَقَدْ يَسْأَلُ وَيُقَالُ قَوْلُهُ : { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } { ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } لَمْ يَذْكُرْ

فِيهِ الْمَعْلُومَ بَلْ أَطْلَقَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ سَوْفَ يَعْلَمُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ وَجَوَابُهُ : أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ حَيْثُ افْتَتَحَهُ بِقَوْلِهِ : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } . وَأَيْضًا فَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ صَارَ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَعِيدِ غَالِبًا أَوْ فِي الْوَعْدِ . وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ مُقَيَّدًا بِالسِّيَاقِ اللَّفْظِيِّ وَبِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ . فَقَوْلُهُ : { لَوْ تَعْلَمُونَ } هُوَ ذَاكَ الْعِلْمُ أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ مُسْتَقْبَلًا ثُمَّ عَلَّقَ بِوُقُوعِهِ حَاضِرًا وَقَيَّدَ الْمُعَلِّقَ بِهِ بِعِلْمِ الْيَقِينِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَعْلَمُونَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَكِنْ لَيْسَ عِلْمًا هُوَ يَقِينٌ .

سُورَةُ الْهُمَزَةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ
قَوْلُهُ : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } هُوَ الطَّعَّانُ الْعَيَّابُ كَمَا قَالَ : ( { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } وَقَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } وَقَالَ : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وَالْهَمْزُ : أَشَدُّ ؛ لِأَنَّ الْهَمْزَ الدَّفْعُ بِشِدَّةِ وَمِنْهُ الْهَمْزَةُ مِنْ الْحُرُوفِ وَهِيَ نَقْرَةٌ فِي الْحَلْقِ وَمِنْهُ : { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ } وَقَالَ : " هَمْزُهُ الموتة " وَهِيَ الصَّرْعُ فَالْهَمْزُ مِثْلُ الطَّعْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَاللَّمْزُ كَالذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَإِنَّمَا ذَمَّ مَنْ يُكْثِرُ الْهَمْزَ . [ وَاللَّمْزَ فَإِنَّ الْهُمَزَةَ وَاللُّمَزَةَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا و ( الْهُمْزَةُ ) و ( اللُّمْزَةُ )

الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ . كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِثْلُ الضُّحْكَةِ وَالضُّحَكَةِ وَاللُّعْبَةِ وَاللُّعَبَةِ ] (*) وَقَوْلُهُ : { الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ } وَصَفَهُ بِالطَّعْنِ فِي النَّاسِ وَالْعَيْبِ لَهُمْ وَبِجَمْعِ الْمَالِ وَتَعْدِيدِهِ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } فِي " الْحَدِيدِ " وَنَظِيرُهَا فِي الْمَعْنَى فِي " النِّسَاءِ " فَإِنَّ الْهُمَزَةَ اللُّمَزَةَ يُشْبِهُ الْمُخْتَالَ الْفَخُورَ وَالْجَمَّاعُ الْمُحْصِي نَظِيرُ الْبَخِيلِ . وَكَذَلِكَ نَظِيرُهُمَا : قَوْلُهُ { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } { مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } وَصَفَهُ بِالْكِبْرِ وَالْبُخْلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } فَهَذِهِ خَمْسُ مَوَاضِعَ وَذَلِكَ نَاشِئٌ عَنْ حُبِّ الشَّرَفِ وَالْمَالِ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الشَّرَفِ تُحْمَلُ عَلَى انْتِقَاصِ غَيْرِهِ بِالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَمَحَبَّةُ الْمَالِ تُحْمَلُ عَلَى الْبُخْلِ وَضِدُّ ذَلِكَ مَنْ أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَاتَّقَى فَلَمْ يَهْمِزْ وَلَمْ يَلْمِزْ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُعْطِيَ نَفَعَ النَّاسَ وَالْمُتَّقِيَ لَمْ يَضُرَّهُمْ فَنَفَعَ وَلَمْ يَضُرَّ وَأَمَّا الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ الْبَخِيلُ فَإِنَّهُ بِبُخْلِهِ مَنَعَهُمْ الْخَيْرَ وَبِفَخْرِهِ سَامَهُمْ الضُّرَّ فَضَرَّهُمْ وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ وَكَذَلِكَ " الْهُمَزَةُ الَّذِي جَمَعَ مَالًا " وَنَظِيرُهُ قَارُونُ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَكَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَجَدَ بَعْضَهُ يُفَسِّرُ بَعْضًا فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الوالبي : مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَقْسَامِ وَالْأَمْثَالِ وَهُوَ تَفْسِيرُ : مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ .

وَلِهَذَا جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ جَامِعًا . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ } " وَقَالَ تَعَالَى : { كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } فَالتَّشَابُهُ يَكُونُ فِي الْأَمْثَالِ وَالْمَثَانِي فِي الْأَقْسَامِ فَإِنَّ التَّثْنِيَةَ فِي مُطْلَقِ التَّعْدِيدِ . كَمَا قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } وَكَمَا فِي قَوْلِ حُذَيْفَةَ " كُنَّا نَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ : رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي " وَكَمَا يُقَالُ : فَعَلْت هَذَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَتَثْنِيَةُ اللَّفْظِ يُرَادُ بِهِ التَّعْدِيدُ ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ وَهُوَ أَوَّلُ التَّثْنِيَةِ وَكَذَلِكَ ثَنَيْت الثَّوْبَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ أَوْ مُطْلَقَ الْعَدَدِ فَهُوَ جَمِيعُهُ مُتَشَابِهٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَيْسَ مُخْتَلِفًا بَلْ كُلُّ خَبَرٍ وَأَمْرٍ مِنْهُ يُشَابِهُ الْخَبَرَ لِاتِّحَادِ مَقْصُودِ الْأَمْرَيْنِ وَلِاتِّحَادِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي إلَيْهَا مَرْجِعُ الْمَوْجُودَاتِ . فَلَمَّا كَانَتْ الْحَقَائِقُ الْمَقْصُودَةُ وَالْمَوْجُودَةُ تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ . كَانَ الْكَلَامُ الْحَقُّ فِيهَا خَبَرًا وَأَمْرًا مُتَشَابِهًا لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِفِ الْمُتَنَاقِضِ . كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَكْثَرِ الْبَشَرِ وَالْمُصَنِّفُونَ الْكِبَارُ مِنْهُمْ يَقُولُونَ شَيْئًا ثُمَّ يَنْقُضُونَهُ وَهُوَ جَمِيعُهُ مَثَانِي ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُوْفِيَتْ فِيهِ الْأَقْسَامُ الْمُخْتَلِفَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } فَذِكْرُ الزَّوْجَيْنِ مَثَانِي وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْحَقَائِقِ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَحْكُمُ عَلَى الشَّيْءِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ وَهُوَ حُكْمٌ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الْمُشْتَرَكِ خَبَرًا أَوْ طَلَبًا خِطَابٌ مُتَشَابِهٌ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ مَثَانِي .

وَهَذَا فِي الْمَعَانِي مِثْلُ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ فِي الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَعْرَاضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِثْلَ الْآخَرِ أَوْ لَا يَكُونَ مِثْلَهُ فَهِيَ الْأَمْثَالُ وَجَمْعُهَا هُوَ التَّأْلِيفُ وَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظِ وَاحِدٍ كَانَتْ نَظَائِرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ فَهُوَ خِلَافُهُ سَوَاءٌ كَانَ ضِدًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ يُقَالُ : إمَّا أَنْ يَجْمَعَهُمَا جِنْسٌ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا جِنْسٌ فَأَحَدُهُمَا بَعِيدٌ عَنْ الْآخَرِ وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ جَمَعَهُمَا جِنْسٌ فَهِيَ الْأَقْسَامُ وَجَمْعُهَا هُوَ التَّصْنِيفُ وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ تُسَمَّى الْوُجُوهَ . وَالْكَلَامُ الْجَامِعُ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِي الْأَقْسَامَ الْمُخْتَلِفَةَ وَالنَّظَائِرَ الْمُتَمَاثِلَةَ جَمْعًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَفَرْقًا بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ . بِحَيْثُ يَبْقَى مُحِيطًا وَإِلَّا فَذِكْرُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ أَوْ الْمِثْلَيْنِ لَا يُفِيدُ التَّمَامَ وَلَا يَكُونُ الْكَلِمُ مُحِيطًا وَلَا الْكَلِمُ جَوَامِعَ وَهُوَ فِعْلُ غَالِبِ النَّاسِ فِي كَلَامِهِمْ . وَالْحَقَائِقُ فِي نَفْسِهَا : مِنْهَا الْمُخْتَلِفُ وَمِنْهَا الْمُؤْتَلِفُ وَالْمُخْتَلِفَانِ بَيْنَهُمَا اتِّفَاقٌ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ مِنْ وَجْهٍ فَإِذَا أَحَاطَ الْكَلَامُ بِالْأَقْسَامِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَمْثَالِ الْمُؤْتَلِفَةِ كَانَ جَامِعًا وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَتْ ضُرُوبُ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الْمَنْطِقِيِّ ثَلَاثَةً : الْحَمْلِيَّاتُ وَالشَّرْطِيَّاتُ الْمُتَّصِلَةُ وَالشَّرْطِيَّاتُ الْمُنْفَصِلَةُ . فَالْأَوَّلُ لِلْحَقَائِقِ الْمُتَمَاثِلَةِ الدَّاخِلَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْجَامِعَةِ . وَالثَّانِي لِلْمُخْتَلِفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مُتَضَادَّةً بَلْ تَتَلَازَمُ تَارَةً وَلَا تَتَلَازَمُ أُخْرَى .

وَالثَّالِثُ لِلْحَقَائِقِ الْمُتَضَادَّةِ الْمُتَنَافِيَةِ إمَّا وُجُودًا أَوْ عَدَمًا وَهِيَ النَّقِيضَانِ وَإِمَّا وُجُودًا فَقَطْ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ وَإِمَّا عَدَمًا فَقَطْ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ . فَالْحَمْلِيَّاتُ لِلْمِثْلَيْنِ وَالْأَمْثَالِ وَالشَّرْطِيَّاتُ الْمُنْفَصِلَةُ لِلْمُتَضَادَّيْنِ وَالْمُتَضَادَّاتِ وَيُسَمَّى التَّقْسِيمَ وَالسَّبْرَ وَالتَّرْدِيدَ وَالْبَيَانِيَّ وَالْمُتَّصِلَةُ لِلْخِلَافَيْنِ غَيْرِ الْمُتَضَادَّيْنِ وَيُسَمَّى التَّلَازُمَ .

سُورَةُ الْكَوْثَرِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
" سُورَةُ الْكَوْثَرِ " مَا أَجَلَّهَا مِنْ سُورَةٍ وَأَغْزَرُ فَوَائِدِهَا عَلَى اخْتِصَارِهَا وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهَا تُعْلَمُ مِنْ آخِرِهَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَتَرَ شَانِئَ رَسُولِهِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ فَيَبْتُرُ ذِكْرَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ فَيَخْسَرُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَيَبْتُرُ حَيَاتَهُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا يَتَزَوَّدُ فِيهَا صَالِحًا لِمَعَادِهِ وَيَبْتُرُ قَلْبَهُ فَلَا يَعِي الْخَيْرَ وَلَا يُؤَهِّلُهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَيَبْتُرُ أَعْمَالَهُ فَلَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي طَاعَةٍ وَيَبْتُرُهُ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا وَلَا عَوْنًا . وَيَبْتُرُهُ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَبِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَا يَذُوقُ لَهَا طَعْمًا وَلَا يَجِدُ لَهَا حَلَاوَةً وَإِنْ بَاشَرَهَا بِظَاهِرِهِ فَقَلْبُهُ شَارِدٌ عَنْهَا . وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ شَنَأَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّهُ لِأَجْلِ هَوَاهُ أَوْ مَتْبُوعِهِ أَوْ شَيْخِهِ أَوْ أَمِيرِهِ أَوْ كَبِيرِهِ . كَمَنْ شَنَأَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَتَأَوَّلَهَا عَلَى غَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ

وَرَسُولِهِ مِنْهَا أَوْ حَمَلَهَا عَلَى مَا يُوَافَقُ مَذْهَبَهُ وَمَذْهَبَ طَائِفَتِهِ أَوْ تَمَنَّى أَنْ لَا تَكُونَ آيَاتُ الصِّفَاتِ أُنْزِلَتْ وَلَا أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ومن أَقْوَى عَلَامَاتِ شَنَاءَتِهِ لَهَا وَكَرَاهَتِهِ لَهَا أَنَّهُ إذَا سَمِعَهَا حِينَ يَسْتَدِلُّ بِهَا أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ اشْمَأَزَّ مِنْ ذَلِكَ وَحَادَ وَنَفَرَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ الْبُغْضِ لَهَا وَالنُّفْرَةِ عَنْهَا فَأَيُّ شَانِئٍ لِلرَّسُولِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَكَذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاعِ الَّذِينَ يَرْقُصُونَ عَلَى سَمَاعِ الْغَنَّاءِ وَالْقَصَائِدِ وَالدُّفُوفِ وَالشَّبَّابَاتِ إذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ يُتْلَى وَيُقْرَأُ فِي مَجَالِسِهِمْ اسْتَطَالُوا ذَلِكَ وَاسْتَثْقَلُوهُ فَأَيُّ شَنَآنٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ الطَّوَائِفِ فِي هَذَا الْبَابِ . وَكَذَا مِنْ آثَرَ كَلَامَ النَّاسِ وَعُلُومَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَلَوْلَا أَنَّهُ شَانِئٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لِيَنْسَى الْقُرْآنَ بَعْدَ أَنْ حَفِظَهُ وَيَشْتَغِلَ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَلَكِنَّ أَعْظَمَ مَنْ شَنَأَهُ وَرَدَّهُ : مَنْ كَفَرَ بِهِ وَجَحَدَهُ وَجَعَلَهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ وَسِحْرًا يُؤْثَرُ فَهَذَا أَعْظَمُ وأطم انْبِتَارًا وَكُلُّ مَنْ شَنَأَهُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الِانْبِتَارِ عَلَى قَدْرِ شَنَاءَتِهِ لَهُ فَهَؤُلَاءِ لَمَّا شَنَئُوهُ وَعَادُوهُ جَازَاهُمْ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَ الْخَيْرَ كُلَّهُ مُعَادِيًا لَهُمْ فَبَتَرَهُمْ مِنْهُ وَخَصَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْكَوْثَرَ وَهُوَ مِنْ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا

وَالْآخِرَةِ فَمِمَّا أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا الْهُدَى وَالنَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ وَقُرَّةَ الْعَيْنِ وَالنَّفْسِ وَشَرْحَ الصَّدْرِ وَنِعْمَ قَلْبِهِ بِذِكْرِهِ وَحُبِّهِ بِحَيْثُ لَا يُشْبِهُ نَعِيمَهُ نَعِيمٌ فِي الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ وَأَعْطَاهُ فِي الْآخِرَةِ الْوَسِيلَةَ وَالْمَقَامَ الْمَحْمُودَ وَجَعَلَهُ أَوَّلَ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ بَابُ الْجَنَّةِ وَأَعْطَاهُ فِي الْآخِرَةِ لِوَاءَ الْحَمْدِ وَالْحَوْضَ الْعَظِيمَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ أَوْلَادَهُ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ وَهَذَا ضِدُّ حَالِ الْأَبْتَرِ الَّذِي يَشْنَؤُهُ وَيَشْنَأُ مَا جَاءَ بِهِ . وَقَوْلُهُ { إنَّ شَانِئَكَ } أَيْ مُبْغِضُك وَالْأَبْتَرُ الْمَقْطُوعُ النَّسْلِ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ خَيْرٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ فَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ خَيْرٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ . قِيلَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ : إنَّ بِالْمَسْجِدِ قَوْمًا يَجْلِسُونَ وَيُجْلَسُ إلَيْهِمْ فَقَالَ : مَنْ جَلَسَ لِلنَّاسِ جَلَسَ النَّاسُ إلَيْهِ . وَلَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَمُوتُونَ وَيَحْيَى ذِكْرُهُمْ وَأَهْلَ الْبِدْعَةِ يَمُوتُونَ وَيَمُوتُ ذِكْرُهُمْ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ أَحْيَوْا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } وَأَهْلَ الْبِدْعَةِ شَنَئُوا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ : { إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَيُّهَا الرَّجُلُ مِنْ أَنْ تَكْرَهَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ تَرُدَّهُ لِأَجْلِ هَوَاك أَوْ انْتِصَارًا لِمَذْهَبِك أَوْ

لِشَيْخِك أَوْ لِأَجْلِ اشْتِغَالِك بِالشَّهَوَاتِ أَوْ بِالدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى أَحَدٍ طَاعَةَ أَحَدٍ إلَّا طَاعَةَ رَسُولِهِ وَالْأَخْذَ بِمَا جَاءَ بِهِ بِحَيْثُ لَوْ خَالَفَ الْعَبْدُ جَمِيعَ الْخَلْقِ وَاتَّبَعَ الرَّسُولَ مَا سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْ مُخَالَفَةِ أَحَدٍ فَإِنَّ مَنْ يُطِيعُ أَوْ يُطَاعُ إنَّمَا يُطَاعُ تَبَعًا لِلرَّسُولِ وَإِلَّا لَوْ أَمَرَ بِخِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ مَا أُطِيعَ . فَاعْلَمْ ذَلِكَ وَاسْمَعْ وَأَطِعْ وَاتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ . تَكُنْ أَبْتَرَ مَرْدُودًا عَلَيْك عَمَلُك بَلْ لَا خَيْرَ فِي عَمَلٍ أَبْتَرَ مِنْ الِاتِّبَاعِ وَلَا خَيْرَ فِي عَامِلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وقَوْله تَعَالَى { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى عَطِيَّةٍ كَثِيرَةٍ صَادِرَةٍ عَنْ مُعْطٍ كَبِيرٍ غَنِيٍّ وَاسِعٍ . وَأَنَّهُ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ وَجُنْدَهُ مَعَهُ : صَدَّرَ الْآيَةَ ( بِإِنَّ ) الدَّالَّةَ عَلَى التَّأْكِيدِ وَتَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَجَاءَ الْفِعْلُ بِلَفْظِ الْمَاضِي الدَّالِّ عَلَى التَّحْقِيقِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ وَاقِعٌ وَلَا يَدْفَعُهُ مَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَانِ بِأَنَّ إعْطَاءَ الْكَوْثَرِ سَابِقٌ فِي الْقَدْرِ الْأَوَّلِ حِينَ قُدِّرَتْ مَقَادِيرُ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَحَذَفَ مَوْصُوفَ الْكَوْثَرِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْعُمُومِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ التَّعْيِينِ وَأَتَى بِالصِّفَةِ أَيْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } فَوَصَفَهُ بِالْكَوْثَرِ وَالْكَوْثَرُ الْمَعْرُوفُ إنَّمَا هُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَدْ وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْكَوْثَرُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ وَإِذَا كَانَ أَقَلُّ أَهْلِ

الْجَنَّةِ مَنْ لَهُ فِيهَا مِثْلُ الدُّنْيَا عَشْرُ مَرَّاتٍ فَمَا الظَّنُّ بِمَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ فِيهَا فَالْكَوْثَرُ عَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ عَلَى تَعَدُّدِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ وَاتِّصَالِهَا وَزِيَادَتِهَا وَسُمُوِّ الْمَنْزِلَةِ وَارْتِفَاعِهَا وَأَنَّ ذَلِكَ النَّهْرَ وَهُوَ الْكَوْثَرُ أَعْظَمُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَأَطْيَبُهَا مَاءً وَأَعْذَبُهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا . وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى فِيهِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ الْمُسَمَّى وَتَمَامِهِ . كَقَوْلِهِ : زَيْدٌ الْعَالِمُ زَيْدٌ الشُّجَاعُ أَيْ لَا أَعْلَمُ مِنْهُ وَلَا أَشْجَعُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } . دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ كَامِلًا مُوَفَّرًا وَإِنْ نَالَ مِنْهُ بَعْضُ أُمَّتِهِ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي نَالَهُ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ . وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ مَعَ أَنَّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الْمُتَّبَعِ لَهُ شَيْءٌ فَفِيهِ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهِ فِي الْجَنَّةِ بِقَدْرِ أُجُورِ أُمَّتِهِ كُلِّهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ فَإِنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي هِدَايَتِهِمْ وَنَجَاتِهِمْ فَيَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ وَأَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَيُكْثِرَ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ صَوْمًا وَصَلَاةً وَصَدَقَةً وَطِهَارَةً لِيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ الْمَحْظُورَاتِ فَاتَ الرَّسُولَ مِثْلُ أَجْرِ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ فَإِنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ مَعَ تَرْكِ الْمَأْمُورِ قَوِيَ وِزْرُهُ وَصَعُبَتْ نَجَاتُهُ لِارْتِكَابِهِ الْمَحْظُورَ وَتَرْكِهِ الْمَأْمُورَ وَإِنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَارْتَكَبَ الْمَحْظُورَ دَخَلَ فِيمَنْ يَشْفَعُ

فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ نَالَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ وَإِلَى اللَّهِ إيَابُ الْخَلْقِ وَعَلَيْهِ حِسَابُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ : أَيْ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ فَإِنَّ شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَالْمُحْسِنُ إنَّمَا أَحْسَنَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لَهُ وَالْمُسِيءُ لَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا عُذْرَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْكَوْثَرَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مِنْ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا غَيْرُ مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ مِنْ الْأَجْرِ الَّذِي هُوَ مِثْلُ أُجُورِ أُمَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَكُلُّ مَنْ قَرَأَ أَوْ عَلِمَ أَوْ عَمِلَ صَالِحًا أَوْ عَلَّمَ غَيْرَهُ أَوْ تَصَدَّقَ أَوْ حَجَّ أَوْ جَاهَدَ أَوْ رَابَطَ أَوْ تَابَ أَوْ صَبَرَ أَوْ تَوَكَّلَ أَوْ نَالَ مَقَامًا مِنْ الْمَقَامَاتِ الْقَلْبِيَّةِ مِنْ خَشْيَةٍ وَخَوْفٍ وَمَعْرِفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ ذَلِكَ الْعَامِلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالنُّسُكُ الدَّالَّتَانِ عَلَى الْقُرْبِ وَالتَّوَاضُعِ وَالِافْتِقَارِ وَحُسْنِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى عُدَّتِهِ وَأَمْرِهِ وَفَضْلِهِ وَخُلْفِهِ عَكْسُ حَالِ أَهْلِ الْكِبْرِ وَالنُّفْرَةِ وَأَهْلِ الْغِنَى عَنْ اللَّهِ الَّذِينَ لَا حَاجَةَ فِي صَلَاتِهِمْ إلَى رَبِّهِمْ يَسْأَلُونَهُ إيَّاهَا وَاَلَّذِينَ لَا يَنْحَرُونَ لَهُ خَوْفًا مِنْ الْفَقْرِ وَتَرْكًا لِإِعَانَةِ الْفُقَرَاءِ وَإِعْطَائِهِمْ وَسُوءِ الظَّنِّ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا . فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْ

إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَالنُّسُكُ هِيَ الذَّبِيحَةُ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الصَّلَاةَ وَالنُّسُك هُمَا أَجَلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ أَتَى فِيهِمَا بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالنَّحْرُ سَبَبٌ لِلْقِيَامِ بِشُكْرِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ مِنْ الْكَوْثَرِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ فَشُكْرُ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ وَعِبَادَتُهُ أَعْظَمُهَا هَاتَانِ الْعِبَادَتَانِ بَلْ الصَّلَاةُ نِهَايَةُ الْعِبَادَاتِ وَغَايَةُ الْغَايَاتِ . كَأَنَّهُ يَقُولُ : { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } الْخَيْرَ الْكَثِيرَ وَأَنْعَمْنَا عَلَيْك بِذَلِكَ لِأَجْلِ قِيَامِك لَنَا بِهَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ شُكْرًا لِإِنْعَامِنَا عَلَيْك وَهُمَا السَّبَبُ لِإِنْعَامِنَا عَلَيْك بِذَلِكَ فَقُمْ لَنَا بِهِمَا فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالنَّحْرَ مَحْفُوفَانِ بِإِنْعَامِ قَبْلِهِمَا وَإِنْعَامٍ بَعْدِهِمَا وَأَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ النَّحْرُ وَأَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ وَمَا يَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَجْتَمِعُ لَهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ كَمَا عَرَفَهُ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ الْحَيَّةِ وَأَصْحَابُ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ وَمَا يَجْتَمِعُ لَهُ فِي نَحْرِهِ مِنْ إيثَارِ اللَّهِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ وَالْوُثُوقِ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَمْرٌ عَجِيبٌ إذَا قَارَنَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ وَقَدْ امْتَثَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ رَبِّهِ فَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ لِرَبِّهِ كَثِيرَ النَّحْرِ حَتَّى نَحَرَ بِيَدِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً وَكَانَ يَنْحَرُ فِي الْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا . وَفِي قَوْلِهِ : { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } إشَارَةٌ إلَى

أَنَّك لَا تَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي آخِرِ " طَه " " وَالْحِجْرِ " وَغَيْرِهِمَا وَفِيهَا الْإِشَارَةُ إلَى تَرْكِ الِالْتِفَات إلَى النَّاسِ وَمَا يَنَالُك مِنْهُمْ بَلْ صَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ . وَفِيهَا التَّعْرِيضُ بِحَالِ الْأَبْتَرِ الشَّانِئِ الَّذِي صَلَاتُهُ وَنُسُكُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَفِي قَوْلِهِ : { إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } أَنْوَاعٌ مِنْ التَّأْكِيدِ : أَحَدُهَا تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِإِنَّ . الثَّانِي : الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْإِسْنَادِ وَالِاخْتِصَاصِ . الثَّالِثُ : مَجِيءُ الْخَبَرِ عَلَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ . دُونَ اسْمِ الْمَفْعُولِ . الرَّابِعُ : تَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ هَذَا الْمَوْصُوفِ لَهُ بِتَمَامِهِ . وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَنَظِيرُ هَذَا فِي التَّأْكِيدِ قَوْلُهُ : { لَا تَخَفْ إنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } . وَمِنْ فَوَائِدِهَا اللَّطِيفَةِ الِالْتِفَاتُ فِي قَوْلِهِ : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ رَبَّك مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ وَأَنْتَ جَدِيرٌ بِأَنَّ تَعْبُدَهُ وَتَنْحَرَ لَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الْكَافِرُونَ
قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي سُورَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لِلنَّاسِ فِي وَجْهِ تَكْرِيرِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ طُرُقٌ حَيْثُ قَالَ : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } ثُمَّ قَالَ : { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } مِنْهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ هَلْ كَرَّرَ الْكَلَامَ لِلتَّوْكِيدِ أَوْ لِنَفْيِ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ ؟ . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : فِي تَكْرَارِ الْكَلَامِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ وَحَسْمِ أَطْمَاعِهِمْ فِيهِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَقَدْ أَفْعَمنَا هَذَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : التَّكْرِيرُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ لِلتَّوْكِيدِ . قَالَ : وَهَذِهِ مَذَاهِبُ الْعَرَبِ أَنَّ التَّكْرِيرَ لِلتَّوْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ كَمَا أَنَّ مَذَاهِبَهُمْ الِاخْتِصَارُ لِلتَّخْفِيفِ

وَالْإِيجَازِ . لِأَنَّ افْتِنَانَ الْمُتَعَلِّمِ وَالْخَطِيبِ فِي الْفُنُونِ أَحْسَنُ مِنْ اقْتِصَادِهِ فِي الْمَقَامِ عَلَى فَنٍّ وَاحِدٍ . يَقُولُ الْقَائِلُ : وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُهُ ثُمَّ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُهُ إذَا أَرَادَ التَّوْكِيدَ وَحَسْمَ الْأَطْمَاعِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَهُ كَمَا يَقُولُ : وَاَللَّهِ أَفْعَلُهُ ؟ بِإِضْمَارِ " لَا " إذَا أَرَادَ الِاخْتِصَارَ . وَيَقُولُ لِلْمُرْسِلِ . الْمُسْتَعْجِلِ : اعْجَلْ اعْجَلْ وَالرَّامِي : ارْمِ ارْمِ ؛ قَالَ الشَّاعِرُ :
كَمْ نِعْمَةٍ كانت لَكُمْ وَكَمْ وَكَمْ ؟
وَقَالَ الْآخَرُ :
هَلْ سَأَلْت جُمُوعَ كِنْـ * * * ــدَةَ يَوْم وَلَّوْا أَيْنَ أينا ؟
وَرُبَّمَا جَاءَتْ الصِّفَةُ فَأَرَادُوا تَوْكِيدَهَا وَاسْتَوْحَشُوا مِنْ إعَادَتِهَا ثَانِيَةً لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَغَيَّرُوا مِنْهَا حَرْفًا . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : فَلَمَّا عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إنْعَامَهُ وَذَكَّرَ عِبَادَهُ آلَاءَهُ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ جَعَلَ كُلَّ كَلِمَةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ لِتَفْهِيمِهِمْ النِّعَمَ وَتَقْرِيرِهِمْ بِهَا كَقَوْلِك لِلرَّجُلِ : أَلَمْ أُنْزِلْك مُنْزَلًا وَكُنْت طَرِيدًا ؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا ؟ أَلَمْ أَحُجَّ بِك وَكُنْت صرورا ؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا ؟ . قُلْت قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : تَكْرَارُ الْكَلَامِ فِي { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } .

لِتَكْرَارِ الْوَقْتِ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنْ سَرَّك أَنْ نَدْخُلَ فِي دِينِك عَامًا فَادْخُلْ فِي دِينِنَا عَامًا . فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ . قُلْت : هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِإِعَادَةِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ كَلَامُ الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ يُؤَكِّدُونَ إمَّا فِي الطَّلَبِ وَإِمَّا فِي الْخَبَرِ بِتَكْرَارِ الْكَلَامِ . وَمِنْهُ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا . ثُمَّ قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ . ثُمَّ لَمْ يَغْزُهُمْ } " . وَرُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ يَقُودُ بِهِ حُذَيْفَةُ وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ فَخَرَجَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا حَتَّى صَعِدُوا الْعَقَبَةَ رُكْبَانًا مُتَلَثِّمِينَ وَكَانُوا قَدْ أَرَادُوا الْفَتْكَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِحُذَيْفَةَ : قُدْ قُدْ وَلِعَمَّارِ : سُقْ سُقْ } . فَهَذَا أَكْثَرُ لَكِنْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ . فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَهُ شَأْنٌ اخْتَصَّ بِهِ لَا يُشْبِهُهُ كَلَامُ الْبَشَرِ لَا كَلَامُ نَبِيِّ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ . فَلَا يَقْدِرُ مَخْلُوقٌ أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةِ وَلَا بِبَعْضِ سُورَةٍ مِثْلِهِ . فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَكْرَارٌ لِلَفْظِ بِعَيْنِهِ عَقِبَ الْأَوَّلِ قَطُّ . وَإِنَّمَا فِي

سُورَةِ الرَّحْمَنِ خِطَابُهُ بِذَلِكَ بَعْدَ كُلِّ آيَةٍ لَمْ يَذْكُرْ مُتَوَالِيًا . وَهَذَا النَّمَطُ أَرْفَعُ مِنْ الْأَوَّلِ . وَكَذَلِكَ قَصَصُ الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهَا تَكْرَارٌ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ . و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ تَكْرَارٍ إلَّا قَوْلُهُ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } وَهُوَ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِجُمْلَةِ . وَقَدْ شَبَّهُوا مَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ أَحْسَن إلَيْهِ وَتَابَعَ عَلَيْهِ بِالْأَيَادِي وَهُوَ يُنْكِرُهَا وَيَكْفُرُهَا : أَلَمْ تَكُ فَقِيرًا فَأَغْنَيْتُك ؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا ؟ أَلَمْ تَكُ عريانا فَكَسَوْتُك ؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا ؟ أَلَمْ تَكُ خَامِلًا فَعَرَّفْتُك ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ التَّكْرَارِ الْمُتَوَالِي كَمَا فِي الْيَمِينِ الْمُكَرَّرَةِ . وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ إنَّهُ قَدْ يَعْطِفُ الشَّيْءَ لِمُجَرَّدِ تَغَايُرِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ : فَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ . وَلَا يَذْكُرُ فِيهِ لَفْظًا زَائِدًا إلَّا لِمَعْنَى زَائِدٍ وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ التَّوْكِيدِ وَمَا يَجِيءُ مِنْ زِيَادَةِ اللَّفْظِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } وَقَوْلِهِ { عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } وَقَوْلِهِ { قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } فَالْمَعْنَى مَعَ هَذَا أَزْيَدُ مِنْ الْمَعْنَى بِدُونِهِ . فَزِيَادَةُ اللَّفْظِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى وَقُوَّةُ اللَّفْظِ لِقُوَّةِ الْمَعْنَى . وَالضَّمُّ أَقْوَى

مِنْ الْكَسْرِ وَالْكَسْرُ أَقْوَى مِنْ الْفَتْحِ . وَلِهَذَا يَقْطَعُ عَلَى الضَّمِّ لِمَا هُوَ أَقْوَى مِثْلُ " الْكُرْهِ " و " الْكَرْهِ " . فَالْكُرْهُ هُوَ الشَّيْءُ الْمَكْرُوهُ كَقَوْلِهِ { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } وَالْكَرْهُ الْمَصْدَرُ كَقَوْلِهِ { طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } . وَالشَّيْءُ الَّذِي فِي نَفْسِهِ مَكْرُوهٌ أَقْوَى مِنْ نَفْسِ كَرَاهَةِ الْكَارِهِ . وَكَذَلِكَ " الذِّبْحُ " و " الذَّبْحُ " فَالذِّبْحُ : الْمَذْبُوحُ كَقَوْلِهِ { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } وَالذَّبْحُ : الْفِعْلُ . وَالذِّبْحُ . مَذْبُوحٌ وَهُوَ جَسَدٌ يُذْبَحُ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } فِي حَالِي هَذِهِ { وَلَا أَنْتُمْ } فِي حَالِكُمْ هَذِهِ { عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } فِي مَا اسْتَقْبَلَ وَكَذَلِكَ { أَنْتُمْ } فَنَفَى عَنْهُمْ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ . وَهَذَا فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُقَاتِلٍ . فَلَا يَكُونُ حِينَئِذٍ تَكْرَارٌ . قَالَ : وَهَذَا قَوْلُ ثَعْلَبٍ وَالزَّجَّاجِ . قُلْت : قَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ جَمَاعَةٌ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَوْلَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَعَانِي . فَقَالُوا وَاللَّفْظُ للبغوي : مَعْنَى الْآيَةِ : لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْحَالِ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ فِي الِاسْتِقْبَالِ

وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الِاسْتِقْبَالِ . وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . قَالَ وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي : نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَجَارِي خِطَابِهِمْ . وَمِنْ مَذَاهِبِهِمْ التَّكْرَارُ إرَادَةً لِلتَّوْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ كَمَا أَنَّ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ الِاخْتِصَارَ لِلتَّخْفِيفِ وَالْإِيجَازِ . قُلْت : وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ الثَّانِي مِنْهُمْ المهدوي وَابْنُ عَطِيَّةَ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ : { لَا أَعْبُدُ } مُحْتَمِلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْآنَ وَيَبْقَى الْمُسْتَأْنِفُ مُنْتَظِرًا مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ عِبَادَتِهِ جَاءَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } أَيْ أَبَدًا مَا حَيِيت . ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ : { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } الثَّانِي حَتْمًا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا كَاَلَّذِينَ كَشَفَ الْغَيْبَ عَنْهُمْ كَمَا قِيلَ لِنُوحِ { أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ } أَمَا إنَّ هَذَا فَخِطَابٌ لِمُعَيَّنِينَ وَقَوْمُ نُوحٍ قَدْ عَمُوا بِذَلِكَ . قَالَ : فَهَذَا مَعْنَى التَّرْدِيدِ الَّذِي فِي السُّورَةِ وَهُوَ بَارِعُ الْفَصَاحَةِ . وَلَيْسَ هُوَ بِتَكْرَارِ فَقَطْ بَلْ فِيهِ مَا ذَكَرْته مَعَ الْإِبْلَاغِ وَالتَّوْكِيدِ وَزِيَادَةُ الْأَمْرِ بَيَانًا وَتَبَرِّيًا مِنْهُمْ . قُلْت : هَذَا الْقَوْلُ أَجْوَدُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ بَيَانِهِمْ لِمَعْنَى

زَائِدٍ عَلَى التَّكْرِيرِ . لَكِنْ فِيهِ نَقْصٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى . وَهُوَ جَعْلُهُمْ هَذَا خِطَابًا لِمُعَيَّنِينَ فَنَقَصُوا مَعْنَى السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَهَذَا غَلَطٌ .
فَإِنَّ قَوْلَهُ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } خِطَابٌ لِكُلِّ كَافِرٍ وَكَانَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَوْتِ أُولَئِكَ الْمُعَيَّنِينَ وَيَأْمُرُ بِهَا وَيَقُولُ هِيَ بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ . فَلَوْ كَانَتْ خِطَابًا لِأُولَئِكَ الْمُعَيَّنِينَ أَوْ لِمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا لَمْ يُخَاطِبْ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَأُولَئِكَ الْمُعَيَّنُونَ إنْ صَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا خَاطَبَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ إنَّمَا خَاطَبَ بِهَا مُعَيَّنِينَ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ . وَلَكِنْ قَدْ قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَالْمُسْتَهْزِئِين وَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ أَحَدٌ . ونقل مُقَاتِلٍ وَحْدَهُ مِمَّا لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كنقل الْكَلْبِيِّ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ لَا يَذْكُرُونَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا كَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه . وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ هَذَا عَنْ قُرَيْشٍ مُطْلَقًا كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حميد

عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ : قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ سَرَّك أَنْ نَدْخُلَ فِي دِينِك عَامًا وَتَدْخُلَ فِي دِينِنَا عَامًا فَنَزَلَتْ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } حَتَّى خَتَمَهَا . وَعَنْ ابْن عَبَّاسٍ قَالَتْ قُرَيْشٌ : يَا مُحَمَّدُ لَوْ اسْتَلَمْت آلِهَتَنَا لَعَبَدْنَا إلَهَك فَنَزَلَتْ السُّورَةُ . وَعَنْ قتادة قَالَ : أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُنَادِيَ الْكُفَّارَ فَنَادَاهُمْ بِقَوْلِهِ { يَا أَيُّهَا } . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ . قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَذَكَرَهُ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : بَرَّأَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ مِنْ عَبَدَةِ جَمِيعِ الْأَوْثَانِ وَدِينِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَقَالَ قتادة : أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ . وَرَوَى قتادة عَنْ زرارة بْنِ أَوْفَى : كَانَتْ تُسَمَّى " الْمُقَشْقَشَةَ " . يُقَالُ : قَشْقَشَ فُلَانٌ إذَا بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ فَهِيَ تُبَرِّئُ . صَاحَبَهَا مِنْ الشِّرْكِ . وَبِهَذَا نَعَتَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ فِي الْمَسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ { فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : مَجِيء مَا جَاءَ بِك ؟ قَالَ : جِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ لِتُعَلِّمَنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي . قَالَ : إذَا أَخَذْت مَضْجَعَك فَاقْرَأْ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ثُمَّ نَمْ عَلَى

خَاتِمَتِهَا فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ } " . رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ وَكَانَ تَارَةً يُسْنِدُهُ وَتَارَةً يُرْسِلُهُ رَوَاهُ عَنْهُ زُهَيْرٌ وَإِسْرَائِيلُ مُسْنَدًا ؛ وَرَوَاهُ عَنْهُ شُعْبَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ " عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ " وَلَمْ يَقُلْ " عَنْ أَبِيهِ " . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَحَدِيثُ زُهَيْرٍ أَشْبَهُ وَأَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ . قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَوْفَلٍ هُوَ أَخُو فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ . قُلْت : وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي . قَالَ : إنَّك لَنَا ظِئْرٌ اقْرَأْ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } عِنْدَ مَنَامِك فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ } " . فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْرَأَهَا وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ . فَلَوْ كَانَ الْخِطَابُ لِمَنْ يَمُوتُ عَلَى الشِّرْكِ كَانَتْ بَرَاءَةً مِنْ دِينِ أُولَئِكَ فَقَطْ لَمْ تَكُنْ بَرَاءَةً مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي يُسْلِمُ صَاحِبُهُ فِيمَا بَعْدُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ بَرَاءَةً مِنْ كُلِّ شِرْكٍ اعْتِقَادِيٍّ وَعَمَلِيٍّ .

وَقَوْلُهُ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } خِطَابٌ لِكُلِّ كَافِرٍ وَإِنْ أَسْلَمَ فِيمَا بَعْدُ . فَدِينُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَهُ كَانَ وَالْمُؤْمِنُونَ بَرِيئُونَ مِنْهُ وَإِنْ غَفَرَهُ اللَّهُ لَهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ كَمَا قَالَ لِنَبِيِّهِ { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } فَإِنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ مَعَاصِي أَصْحَابِهِ وَإِنْ تَابُوا مِنْهَا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الجرشي ثَنَا أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى ثَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا دَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا فَيَكُونَ أَغْنَى رَجُلٍ فِيهِمْ وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنْ النِّسَاءِ وَيَطَئُوا عَقِبَهُ أَيْ يُسَوِّدُوهُ فَقَالُوا : هَذَا لَك عِنْدَنَا يَا مُحَمَّدُ وَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا فَلَا تَذْكُرُهَا بِسُوءِ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْك خَصْلَةً وَاحِدَةً وَهِيَ لَك وَلَنَا فِيهَا صَلَاحٌ . قَالَ : مَا هِيَ ؟ . قَالُوا : تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَنَعْبُدُ إلَهَك سَنَةً . قَالَ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي مِنْ رَبِّي . فَجَاءَهُ الْوَحْيُ مِنْ اللَّهِ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } إلَى آخِرِهَا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } { وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } } .

وَقَوْلُهُ { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } خِطَابٌ لِكُلِّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَتُوبَ فِيمَا بَعْدُ . وَكَذَلِكَ كَلُّ مُؤْمِنٍ يُخَاطِبُ بِهَذَا مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ . وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " { حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي مِنْ رَبِّي } " قَدْ يَقُولُ هَذَا مَنْ يَقْصِدُ بِهِ دَفْعَ الظَّالِمِينَ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِيَجْعَلَ حُجَّتَهُ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ طَاعَتُهُ قَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَيُؤَخِّرُ الْجَوَابَ حَتَّى يَسْتَأْمِرَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ . وَقَدْ تُخْطَبُ إلَى الرَّجُلِ ابْنَتُهُ فَيَقُولُ : حَتَّى أُشَاوِرَ أُمَّهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا بِذَلِكَ وَيَعْلَمُ أَنَّ أُمَّهَا لَا تُشِيرُ لَهُ . وَكَذَلِكَ قَدْ يَقُولُ النَّائِبُ : حَتَّى أُشَاوِرَ السُّلْطَانَ . فَلَيْسَ فِي مِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ تَرَدُّدٌ وَلَا تَجْوِيزٌ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُ وَأَصْحَابَهُ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَيُقَاتِلُونَهُمْ وَيُعَادُونَهُمْ عَدَاوَةً عَظِيمَةً عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَابُوا وَأَسْلَمُوا وَقَرَءُوا هَذِهِ السُّورَةَ . وَمِنْ النَّقَلَةِ مَنْ يُعَيِّنُ نَاسًا غَيْرَ الَّذِينَ عَيَّنَهُمْ غَيْرُهُ . مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ أَبَا جَهْلٍ وَطَائِفَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ عتبة بْنَ رَبِيعَةَ وَطَائِفَةً وَمِنْهُمْ مَنْ

يَذْكُرُ الْوَلِيدَ بْنَ مُغِيرَةَ وَطَائِفَةً . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : طَلَبُوا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مَعَهُ عَامًا وَيَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ مَعَهُمْ عَامًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : طَلَبُوا أَنْ يَسْتَلِمَ آلِهَتَهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : طَلَبُوا الِاشْتِرَاكَ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ مَوْلَى أَبِي البختري قَالَ { لَقِيَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ والعاص بْنُ وَائِلٍ وَالْأُسُودُ بْنُ الْمُطَّلِبِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ وَلْنَشْتَرِك نَحْنُ وَأَنْتَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ . فَإِنْ كَانَ الَّذِي جِئْت بِهِ خَيْرًا مِمَّا بِأَيْدِينَا كُنَّا قَدْ شَرِكْنَاك فِيهِ وَأَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْرًا مِمَّا بِيَدِك كُنْت قَدْ شَرِكْتنَا فِي أَمْرِنَا وَأَخَذْت بِحَظِّك مِنْهُ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ } . وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَفِيهِ أَنَّ الْقَائِلَ لَهُ عتبة وَأُمَيَّةُ . فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَطَابِقَةٌ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ وَيَدْخُلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ كُلُّهَا صَحِيحَةً فَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا وَقَوْمُ هَذَا وَقَوْمُ هَذَا . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ كُلِّهِمْ مَنْ مَضَى وَمَنْ يَأْتِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ . وَهَذِهِ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَهُوَ مَبْعُوثٌ بِمِلَّتِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } . وَقَالَ الْخَلِيلُ أَيْضًا : { يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . وَقَالَ { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } . فَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِ كُلِّ مَنْ كَذَّبَهُ وَتَبَرِّيه هَذَا يَتَنَاوَلُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ . وَقَدْ ذَكَرَ المهدوي هَذَا الْقَوْلَ وَذَكَرَ مَعَهُ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ . فَقَالَ : الْأَلِفُ وَاللَّامُ تَرْجِعُ إلَى مَعْهُودٍ وَإِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ حَيْثُ كَانَتْ صِفَةً لِأَنَّ لَامَهَا مُخَاطِبَةٌ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يَمُوتَ كَافِرًا . فَهِيَ مِنْ الْخُصُوصِ الَّذِي جَاءَ بِلَفْظِ الْعُمُومِ . وَتَكْرِيرُ مَا كَرَّرَ فِيهَا لَيْسَ بِتَكْرِيرِ فِي الْمَعْنَى وَلَا فِي اللَّفْظِ سِوَى

مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهَا . فَإِنَّهُ تَكْرِيرٌ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى . بَلْ مَعْنَى { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } فِي الْحَالِ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } فِي الْحَالِ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } فِي الِاسْتِقْبَالِ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } فِي الِاسْتِقْبَالِ . قَالَ : فَقَدْ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ { لَا أَعْبُدُ } وَمَا بَعْدَهُ { وَلَا أَنَا } . وَتَكَرَّرَ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى . قَالَ : وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ : وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا عَبَدْت وَمَعْنَى الثَّانِي : وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ " عَبَدْت " لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَا عَبَدَ فِي الْمَاضِي هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَقَعُ أَحَدُهُمَا مَوْقِعَ الْآخَرِ . وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي ذَلِكَ فِي إخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " مَا " وَالْفِعْلُ مَصْدَرًا وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى الْآيَاتِ وَتَقْدِيرَهَا : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ الْأَصْنَامَ . الَّذِي تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ الَّذِي أَعْبُدُهُ لِإِشْرَاكِكُمْ بِهِ وَاِتِّخَاذِكُمْ مَعَهُ الْأَصْنَامَ . فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُ فَأَنْتُمْ كَاذِبُونَ لِأَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُ مُشْرِكِينَ بِهِ . فَأَنَا لَا أَعْبُدُ مَا عَبَدْتُمْ أَيْ مِثْلُ عِبَادَتِكُمْ . فَهُوَ فِي الثَّانِي مَصْدَرٌ . وَكَذَلِكَ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } هُوَ فِي الثَّانِي مَصْدَرٌ أَيْضًا مَعْنَاهُ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مِثْلَ عِبَادَتِي الَّتِي هِيَ تَوْحِيدٌ .

قُلْت : الْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ فِي مَعْنَى الثَّانِي لَكِنْ جَعَلَ قَوْلَهُ : { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى " مَا عَبَدْت " وَالْآخِرَ بِمَعْنَى " مَا أَعْبُدُ " لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ لَهُمْ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } . فَلَمَّا تَبَرَّأَ مِنْ أَنْ يَعْبُدَ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مَا يَعْبُدُونَهُ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ كَذَلِكَ بَرَّأَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ . لَكِنَّ الْعِبَارَةَ عَنْهُمْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ الْمَاضِي . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فِي حَقِّهِ : " مَا عَبَدْت " لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَا أَعْبُدُهُ فِي الْمَاضِي هُوَ الَّذِي أَعْبُدُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . قُلْت : أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ أَرَادُوا الْمُطَابَقَةَ كَمَا تَقَدَّمَ . لَكِنْ إذَا أُرِيدَ بِقَوْلِهِ : { مَا عَبَدْتُمْ } مَا أُرِيدَ بِقَوْلِهِ : { مَا أَعْبُدُ } فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ الْمَاضِي كَانَ التَّقْدِيرُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ : لَا أَنَا عَابِدٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا عَبَدْتُمْ فِي الْمَاضِي . فَيَكُونُ قَدْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِبَادَةَ مَا عَبَدُوهُ فِي الْمَاضِي دُونَ مَا يَعْبُدُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } أَيْ فِي الْمَاضِي فَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِمَا يَعْبُدُونَ الْحَالُ أَوْ الِاسْتِقْبَالُ إنَّمَا نَفَى عِبَادَةَ مَا عَبَدُوهُ فِي الْمَاضِي . وَهَذَا أَنْقَصُ لِمَعْنَى الْآيَةِ . وَكَيْفَ يَتَبَرَّأُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ عِبَادَةِ مَا عَبَدُوهُ فِي الْمَاضِي فَقَطْ ؟ وَكَذَلِكَ هُمْ ؟

وَإِنْ قِيلَ : فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِالِانْتِقَالِ عَنْ الْكُفْرِ فَهُوَ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لَا يَعْبُدُ مَا عَبَدُوهُ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا لَا يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا عَبَدْت فِي الْمَاضِي بَلْ قَدْ يَعْبُدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا انْتَقَلُوا رَبَّهُ الَّذِي عَبَدَهُ فِيمَا مَضَى . وَإِنْ قِيلَ : قَوْلُ هَؤُلَاءِ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لَا أَعْبُدُ فِي الْحَالِ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْحَالِ وَلَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قِيلَ : وَلَفْظُ الْآيَةِ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } لَيْسَ لَفْظُهَا " وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا تَعْبُدُونَ " . فَقَوْلُهُ : { مَا عَبَدْتُمْ } إنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي الَّذِي أَرَادَهُ هَؤُلَاءِ فَسَدَ الْمَعْنَى وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ بَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْمُضَارِعَ بِمَعْنَى الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ : { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } فَإِنَّ الْمَاضِيَ هُنَا بِمَعْنَى الْمُضَارِعِ . فَإِذَا كَانَ الْمُضَارِعُ مُطَابِقًا لَهُ بَقِيَ مُضَارِعًا لَمْ يُنْقَلْ إلَى الْمَاضِي فَيَكُونُ عَكْسَ الْمَقْصُودِ . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ " مَا " مَصْدَرِيَّةً فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُخْرَى . وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا . وَإِذَا جُعِلَتْ فِي الْجُمَلِ كُلِّهَا مَصْدَرِيَّةً كَانَ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ " مَا " الْمَصْدَرِيَّةُ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ " مَا " . فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ " وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مِنْ أَعْبُدُ " بَلْ قَالَ { مَا أَعْبُدُ } .

وَلَفْظُ " مَا " يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ بِخِلَافِ " مَنْ " . فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعَيْنِ كَقَوْلِهِ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } أَيْ الطَّيِّبَ { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } أَيْ وَبَانِيهَا . وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ : { إذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ } وَلَمْ يَقُلْ " مَنْ تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي " . وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ : { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } سَوَاءٌ . فَالْمَعْنَى : لَا أَعْبُدُ مَعْبُودَكُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَعْبُودِي . فَقَوْلُهُ : { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } يَتَنَاوَلُ شِرْكَهُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةِ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ . فَإِذَا أَشْرَكُوا بِهِ لَمْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَهُ وَإِنْ دَعَوْهُ وَصَلَّوْا لَهُ . وَأَيْضًا فَمَا عَبَدُوا مَا يَعْبُدُهُ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ مَعْبُودٌ لَهُ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِصَاصِ . بَلْ هَذَا يَتَنَاوَلُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَيَتَنَاوَلُ الرَّبُّ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ بِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ . فَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فِي بَعْضِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ فَمَا عَبَدَ مَا يَعْبُدُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَأَيْضًا فَالشَّرَائِعُ قَدْ تَتَنَوَّعُ فِي الْعِبَادَاتِ فَيَكُونُ الْمَعْبُودُ وَاحِدًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْعِبَادَةُ مِثْلَ الْعِبَادَةِ . وَهَؤُلَاءِ لَا يُتَبَرَّأُ مِنْهُمْ . فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ .

مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ فَهُوَ مُسْلِمٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَكِنَّ عِبَادَتَهُ لَا تَكُونُ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ . فَلَوْ قَالَ : لَا أَعْبُدُ عِبَادَتكُمْ وَلَا تَعْبُدُونَ عِبَادَتِي فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ تَدْخُلُ فِيهِ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ تُخَالِفُ صُورَتُهَا صُورَةَ عِبَادَتِهِ . وَإِنَّمَا الْبَرَاءَةُ مِنْ الْمَعْبُودِ وَعِبَادَتِهِ .
فَصْلٌ :
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ : الْقُرْآنُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وَهُوَ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ عِلْمٌ أَوْ حِكْمَةٌ أَوْ خُطْبَةٌ أَوْ قَصِيدَةٌ أَوْ مُصَنَّفٌ فَهَذَّبَ أَلْفَاظَ ذَلِكَ وَأَتَى فِيهِ بِمِثْلِ هَذَا التَّغَايُرِ لَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ فِي ذَلِكَ حِكْمَةً وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى سُدًى . فَكَيْفَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ فِيهِ { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } . فَنَقُولُ : الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ هُوَ فِي اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ الزَّمَنَ الدَّائِمَ سِوَى الْمَاضِي فَيَعُمُّ الْحَاضِرَ وَالْمُسْتَقْبَلَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَبَنُوهُ لِمَا مَضَى مِنْ

الزَّمَانِ وَلِمَا هُوَ دَائِمٌ لَمْ يَنْقَطِعْ وَلِمَا لَمْ يَأْتِ بِمَعْنَى الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَفِعْلِ الْأَمْرِ . فَجُعِلَ الْمُضَارِعُ لِمَا هُوَ مِنْ الزَّمَانِ دَائِمًا لَمْ يَنْقَطِعْ وَقَدْ يَتَنَاوَلُ الْحَاضِرَ وَالْمُسْتَقْبَلَ . فَقَوْلُهُ { لَا أَعْبُدُ } يَتَنَاوَلُ نَفْيَ عِبَادَتِهِ لِمَعْبُودِهِمْ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ وَالزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَوْلُهُ { مَا تَعْبُدُونَ } يَتَنَاوَلُ مَا يَعْبُدُونَهُ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ كِلَاهُمَا مُضَارِعٌ . وَقَالَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ نَفْسِهِ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } . فَلَمْ يَقُلْ " لَا أَعْبُدُ " بَلْ قَالَ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ } . وَلَمْ يَقُلْ " مَا تَعْبُدُونَ " بَلْ قَالَ { مَا عَبَدْتُمْ } . فَاللَّفْظُ فِي فِعْلِهِ وَفِعْلِهِمْ مُغَايِرٌ لِلَّفْظِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى . وَالنَّفْيُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ أَعَمُّ مِنْ النَّفْيِ بِالْأُولَى . فَإِنَّهُ قَالَ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } بِصِيغَةِ الْمَاضِي . فَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَا عَبَدُوهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً شَتَّى . وَلَيْسَ مَعْبُودُهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ هُوَ الْمَعْبُودَ فِي الْوَقْتِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ لَهَا مَعْبُودٌ سِوَى مَعْبُودِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى . فَقَوْلُهُ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } بَرَاءَةٌ مِنْ كُلِّ مَا عَبَدُوهُ فِي الْأَزْمِنَةِ

الْمَاضِيَةِ كَمَا تَبَرَّأَ أَوَّلًا مِمَّا عَبَدُوهُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ . فَتَضَمَّنَتْ الْجُمْلَتَانِ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مَا يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ مَاضٍ وَحَاضِرٍ وَمُسْتَقْبَلٍ . وَقَوْلُهُ أَوَّلًا : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } لَا يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ . وَقَوْلُهُ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ } اسْمُ فَاعِلٍ قَدْ عَمِلَ عَمَلَ الْفِعْلِ لَيْسَ مُضَافًا فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ أَيْضًا . لَكِنَّهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَالنَّفْيُ بِمَا بَعْدَ الْفِعْلِ فِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى كَمَا تَقُولُ : مَا أَفْعَلُ هَذَا وَمَا أَنَا بِفَاعِلِهِ . وَقَوْلُك " مَا هُوَ بِفَاعِلِ هَذَا أَبَدًا " أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِك " مَا يَفْعَلُهُ أَبَدًا " . فَإِنَّهُ نَفَى عَنْ الذَّاتِ صُدُورَ هَذَا الْفِعْلِ عَنْهَا بِخِلَافِ قَوْلِك " مَا يَفْعَلُ هَذَا " فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي إمْكَانَهُ وَجَوَازَهُ مِنْهُ . وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ " مَا هُوَ فَاعِلًا وَمَا هُوَ بِفَاعِلِ " كَمَا فِي قَوْلِهِ { فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } وَقَوْلِهِ { مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } وَقَوْلِهِ { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } { وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ } { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } . وَلَا يُقَالُ : الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ تَرْكُ الثُّبُوتِ وَنَفْيُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ

الْعَارِضِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِيَّةِ نَفْيٌ لِكَوْنِهَا عَمِلَتْ عَمَلَ الْفِعْلِ . لَكِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى اتِّصَافِ الذَّاتِ بِهَذَا فَنَفَتْ عَنْ الذَّاتِ أَنْ يَعْرِضَ لَهَا هَذَا الْفِعْلُ تَنْزِيهًا لِلذَّاتِ وَنَفْيًا لِقَبُولِهَا لِذَلِكَ . فَالْأَوَّلُ نَفْيُ الْفِعْلِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَالثَّانِي نَفْيُ قَبُولِهِ فِي الْمَاضِي مَعَ الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ . فَقَوْلُهُ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } أَيْ نَفْسِي لَا تَقْبَلُ وَلَا يَصْلُحُ لَهَا أَنْ تَعْبُدَ مَا عَبَدْتُمُوهُ قَطُّ وَلَوْ كُنْتُمْ عَبَدْتُمُوهُ فِي الْمَاضِي فَقَطْ . فَأَيُّ مَعْبُودٍ عَبَدْتُمُوهُ فِي وَقْتٍ فَأَنَا لَا أَقْبَلُ أَنْ أَعْبُدَهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ . فَفِي هَذَا مِنْ عُمُومِ عِبَادَتِهِمْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَمِنْ قُوَّةِ بَرَاءَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ مَا لَيْسَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى . تِلْكَ تَضَمَّنَتْ نَفْيَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ غَيْرِ الْمَاضِي وَهَذِهِ تَضَمَّنَتْ نَفْيَ إمْكَانِهِ وَقَبُولِهِ لِمَا كَانَ مَعْبُودًا لَهُمْ وَلَوْ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ الْمَاضِي فَقَطْ . وَالتَّقْدِيرُ : مَا عَبَدْتُمُوهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ فَأَنَا لَا يُمْكِنُنِي وَلَا يَسُوغُ لِي أَنْ أَعْبُدَهُ أَبَدًا . وَلَكِنْ لَمْ يَنْفِ إلَّا مَا يَكُونُ مِنْهُ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَرَاءَتُهُ هُوَ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ . وَهَذِهِ السُّورَةُ يُؤْمَرُ بِهَا كُلُّ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ قَبْلَ قِرَاءَتِهَا .

فَهُوَ يَتَبَرَّأُ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ مِمَّا يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي أَيْ زَمَانٍ كَانَ وَيَنْفِي جَوَازَ عِبَادَتِهِ لِمَعْبُودِهِمْ وَيُبَيِّنُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ وَلَا يَصْلُحُ وَلَا يَسُوغُ . فَهُوَ يَنْفِي جَوَازَهُ شَرْعًا وَوُقُوعًا . فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُقَالُ إلَّا فِيمَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ الْأَفْعَالِ كَمَنْ دُعِيَ إلَى ظُلْمٍ أَوْ فَاحِشَةٍ فَقَالَ : " أَنَا أَفْعَلُ هَذَا ؟ مَا أَنَا بِفَاعِلِ هَذَا أَبَدًا " . فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ " لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا " . وَهَذَا كَقَوْلِهِ { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } . فَهُوَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْفِعْلِ بُغْضًا فِيهِ وَكَرَاهَةً لَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ " لَا أَفْعَلُ " . فَقَدْ يَتْرُكُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ يُحِبُّهُ لِغَرَضِ آخَرَ . فَإِذَا قَالَ " مَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ " دَلَّ عَلَى الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْمَقْتِ لِمَعْبُودِهِمْ وَلِعِبَادَتِهِمْ إيَّاهُ . وَهَذِهِ هِيَ الْبَرَاءَةُ . وَلِهَذَا تُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ الْوِلَايَةِ فَيُقَالُ : تَوَلَّ فُلَانًا وَتَبَرَّأَ مِنْ فُلَانٍ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَنْ الْكُفَّارِ : { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } فَهُوَ خِطَابٌ لِجِنْسِ الْكُفَّارِ وَإِنْ أَسْلَمُوا فِيمَا بَعْدُ فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمْ مَا دَامُوا كُفَّارًا . فَإِذَا أَسْلَمُوا لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ ذَلِكَ . فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ مُؤْمِنُونَ لَا كَافِرُونَ .

وَإِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ فَهُمْ كَافِرُونَ فِي الْبَاطِنِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ الْخِطَابُ . وَهَذَا كَمَا يُقَالُ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْمُحَارِبُونَ وَالْمُخَاصِمُونَ وَالْمُقَاتِلُونَ وَالْمُعَادُونَ . فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمْ مَا دَامُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ . وَمَا دَامَ الْكَافِرُ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ ؛ سَوَاءٌ كَانَ مُتَظَاهِرًا أَوْ غَيْرَ مُتَظَاهِرٍ بِهِ كَالْيَهُودِ . فَإِنَّ الْيَهُودَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ لِأَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ إنَّمَا تَكُونُ بِمَا شَرَعَ وَأَمَرَ . وَهُمْ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ فَتِلْكَ الْأَعْمَالُ الْمُبَدَّلَةُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا هُوَ يَكْرَهُهَا وَيُبْغِضُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا فَلَيْسَتْ عِبَادَةً . فَكُلُّ كَافِرٍ بِمُحَمَّدِ لَا يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُهُ مُحَمَّدٌ مَا دَامَ كَافِرًا . وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ يَتَنَاوَلُ مَا هُوَ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ . فَهُوَ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يَعْبُدُ مَعْبُودَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي الْحَاضِرِ وَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُمْ " وَلَا تَعْبُدُونَ مَا أَعْبُدُ " بَلْ ذَكَرَ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ نَفْسَ نُفُوسِكُمْ الْخَبِيثَةِ الْكَافِرَةِ بَرِيئَةٌ مِنْ عِبَادَةِ إلَهِ مُحَمَّدٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْبُدَهُ مَا دَامَتْ كَافِرَةً . إذْ لَا تَكُونُ عَابِدَتَهُ إلَّا بِأَنْ تَعْبُدَهُ

وَحْدَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ . وَمَنْ كَانَ كَافِرًا بِمُحَمَّدِ لَا يَكُونُ عَمَلُهُ عِبَادَةً لِلَّهِ قَطُّ . وَتَبْرِئَتُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ جَاءَتْ بِلَفْظِ وَاحِدٍ بِجُمْلَةِ اسْمِيَّةٍ تَقْتَضِي بَرَاءَةَ ذَوَاتِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ . وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُولَ فِيهِمْ " وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا عَبَدْت " كَمَا قَالَ فِي نَفْسِهِ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِقِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعْبُودُهُ غَيْرَ اللَّهِ . فَلَوْ قَالَ " وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا عَبَدْت " لَقَالُوا : بَلْ نَحْنُ نَعْبُدُ مَا كُنْت تَعْبُدُ لَمَّا كُنْت مُشْرِكًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ " وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ " . وَلَمْ يَقُلْ " مَا أَنَا عَابِدٌ لَهُ " إذْ نَفْسُهُ قَدْ لَا تَكُونُ عَابِدَةً لَهُ مُطْلَقًا . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ الْوَاحِدُ مِنْ النَّاسِ غَيْرَ اللَّهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَكُونُ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ مَا يَعْبُدُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَذْمُومًا بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يُخَاطِبُ بِهَذِهِ السُّورَةِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ حِينَ يَقُولُهَا مَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ . فَهُوَ يَقُولُ لِلْكُفَّارِ " وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُهُ الْآنَ " . وَذَكَرَ النَّفْيَ عَنْ الْكُفَّارِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ لِتَقَارُبِ كُلُّ جُمْلَةٍ جُمْلَةً . فَلَمَّا قَالَ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } فَنَفَى الْفِعْلَ قَالَ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } .

ثُمَّ لَمَّا زَادَ النَّفْيُ بِنَفْيِ جَوَازِ ذَلِكَ وَبَرَاءَةِ النَّفْسِ مِنْهُ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ لَهُ وَقُبْحِهِ وَنَفَى أَنْ يَعْبُدَ شَيْئًا مِمَّا عَبَدُوهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ قَالَ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } بَلْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِنْ عِبَادَةِ مَا أَعْبُدُهُ . فَلَيْسَ لِبَرَاءَتِي وَكَمَالِ بَرَاءَتِي وَبُعْدِي مِنْ مَعْبُودِكُمْ وَكَمَالِ قُرْبِي إلَى اللَّهِ فِي عِبَادَتِي لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يَكُونُ لَكُمْ نَصِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ . بَلْ أَنْتُمْ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا تَعْبُدُونَ مَا أَعْبُدُ لَا فِي الْحَالِ الْأُولَى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ . وَلَوْ اقْتَصَرَ فِي تَبِرِّيهِمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَبْرِئَةٌ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الثَّانِيَةِ . فَبَرَّأَهُمْ مِنْ مَعْبُودِهِ حِينَ الْبَرَاءَةِ الْأُولَى الْخَاصَّةِ وَحِينَ الْبَرَاءَةِ الثَّانِيَةِ الْعَامَّةِ الْقَاطِعَةِ . وَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُهُمْ فِي الْحَالَيْنِ بَلْ هُمْ فِيهِمَا لَا يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُ . فَلَمْ يَكُنْ فِي تَغْيِيرِ الْعِبَارَةِ فَائِدَةٌ وَإِنَّمَا غُيِّرَتْ الْعِبَارَةُ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْمُؤْمِنِينَ لِتَغْيِيرِ الْمَعْنَيَيْنِ . وَالْإِنْسَانُ يَقْوَى يَقِينُهُ وَإِخْلَاصُهُ وَتَوْحِيدُهُ وَبَرَاءَتُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَبُغْضُهُ لِمَا يَعْبُدُونَ وَلِعِبَادَتِهِمْ فَرَفَعَ دَرَجَتَهُ فِي ذَلِكَ . وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَقُولُ لِلْكُفَّارِ : " لَا تَعْبُدُونَ مَا أَعْبُدُ " فِي هَذِهِ الْحَالِ سَوَاءٌ كَانُوا هُمْ قَدْ زَادَ كُفْرُهُمْ وَبُغْضُهُمْ لَهُ أَوْ لَمْ يَزِدْ .

فَالْمَقْصُودُ بِالسُّورَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنْهُ . وَتَبِرِّيهِ مِنْهُمْ إنْشَاءٌ يُنْشِئُهُ كَمَا يُنْشِئُ الْمُتَكَلِّمُ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَهَذَا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَيَقْوَى وَيَضْعُفُ . وَأَمَّا هُمْ فَهُوَ يُخْبِرُ بِبَرَاءَتِهِمْ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يُنْشِئُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ . فَخِطَابُ الْمُؤْمِنِ عَنْ حَالِهِمْ خَبَرٌ عَنْ حَالِهِمْ وَالْخَبَرُ مُطَابِقٌ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَفْظُ خَبَرِهِ عَنْهُمْ إذَا كَانُوا فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ عِبَادَتِهِ لِلَّهِ لَا يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُ . فَهَذَا اللَّفْظُ الْخَبَرِيُّ مُطَابِقٌ لِحَالِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ زَادُوا أَوْ نَقَصُوا . وَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُنْشِئَ زِيَادَةً فِي كُفْرِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ . بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِدُعَائِهِمْ إلَى الْإِيمَانِ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْقِصَهُمْ فِي خَبَرِهِ عَمَّا هُمْ مُتَّصِفُونَ بِهِ . فَلَمْ يَكُنْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِهِمْ زِيَادَةٌ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ وَلَا نَقْصٌ . فَلَمْ يُغَيِّرْ لَفْظَ الْخَبَرِ فِي الْحَالَيْنِ بِلَفْظِ وَاحِدٍ . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ نَفْسُهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُنْشِئَ قُوَّةَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَالْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ وَعِبَادَتَهُ وَبَرَاءَتَهُ مِنْهُ وَمِنْ عَابِدِيهِ . وَقَوْلُهُ : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا خَبَرًا فَفِيهَا مَعْنَى الْإِنْشَاءِ كَسَائِرِ أَلْفَاظٍ الْإِنْشَاءَاتِ كَقَوْلِهِ " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَقَوْلِهِ { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } وَقَوْلِهِ { إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } فَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيهَا مَعْنَى الْإِنْشَاءِ لَهَا يُنْشِئُهُ الْمُؤْمِنُ فِي

نَفْسِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ وَهِيَ الْمُقَشْقَشَةُ الَّتِي تُقَشْقِشُ مِنْ الشِّرْكِ كَمَا يُقَشْقَشُ الْمَرِيضُ مِنْ الْمَرَضِ . فَإِنَّ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ أَعْظَمُ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ . فَأَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِقَوْلِ يُوجِبُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ قَبْلَ ذَلِكَ . وَكُلَّمَا قَالَهُ ازْدَادَ بَرَاءَةً مِنْ الشِّرْكِ وَقَلْبُهُ شِفَاءً مِنْ الْمَرَضِ وَإِنْ كَانَ الْكَفَرَةُ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَزْدَادُونَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ إلَّا كُفْرًا . فَالْجُمَلُ الْخَبَرِيَّةُ تُطَابِقُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ وَالْإِنْشَاءُ يُوجِبُ إحْدَاثَ مَا لَمْ يَكُنْ . فَقِيلَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } أَيْ أَنَا مُمْتَنِعٌ مِنْ هَذَا تَارِكٌ لَهُ ثُمَّ قَالَ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } أَيْ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ هَذَا مُتَنَزِّهٌ عَنْهُ ؛ مُزَكٍّ لِنَفْسِي مِنْهُ فَإِنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ مَا تنجس بِهِ النَّفْسُ وَأَعْظَمُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَطْهِيرِهَا تَزْكِيَتُهَا مِنْهُ وَتَطْهِيرُهَا مِنْهُ . فَمَا أَنَا عَابِدٌ قَطُّ مَا عَبَدْتُمْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ . وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ مَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بَلْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْبُدُ . وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ مَأْمُورٌ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَطَالِبٌ زِيَادَةَ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَمُجْتَهِدٌ فِي ذَلِكَ . وَأَنَا أُخْبِرُ عَنْكُمْ بِأَنَّكُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْبُدُ إمَّا لِكَوْنِكُمْ تَأْمُرُونَ بِذَلِكَ وَإِمَّا لِكَوْنِكُمْ تَعْبُدُونَهُ فَلَا أُخْبِرُ بِهِ فَإِنَّهُ كَذِبٌ . وَإِمَّا لِكَوْنِكُمْ تَجْتَهِدُونَ فِي الْبَرَاءَةِ وَتُبَالِغُونَ فِيهَا فَبِهَا تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُكُمْ .

وَأَنَا لَا يَسُوغُ لِي أَنْ أَذْكُرَ مَا يُزِيلُ بَرَاءَتَكُمْ وَلَا أُكْذِبُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّكُمْ تَنْقُصُونَ مِنْهَا إذَا تَبَرَّأَتْ بَلْ التَّبَرِّي مِنْهَا دَاعٍ وَبَاعِثٌ لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ أَنْ يَنْظُرَ فِي سَبَبِ هَذِهِ الْبَرَاءَةِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الرَّسُولِ الَّذِي خُوطِبَ أَوَّلًا . بِقَوْلِهِ { قُلْ } . فَلْيَنْظُرْ الْعَاقِلُ فِي سَبَبِ بَرَاءَتِي مِنْ الشِّرْكِ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَاخْتِيَارِي بِهِ عَدَاوَتَكُمْ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاكُمْ وَاحْتِمَالِي هَذِهِ الْمَكَارِهَ الْعَظِيمَةَ . بَعْدَ مَا كُنْتُمْ تُعَظِّمُونِي غَايَةَ التَّعْظِيمِ وَتَصِفُونِي بِالْأَمَانَةِ وَتُسَمُّونِي " الْأَمِينَ " وَتُفَضِّلُونِي عَلَى غَيْرِي وَنَسَبِي فِيكُمْ أَفْضَلُ نَسَبٍ وَتَعْرِفُونَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيَّ مِنْ الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْمَقَاصِدِ وَطَلَبِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَأَنِّي لَا أَخْتَارُ لِأَحَدِ مِنْكُمْ سُوءًا وَلَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَ أَحَدًا بِشَرِّ . فَاخْتِيَارِي لِلْبَرَاءَةِ مِمَّا تَعْبُدُونَ وَإِظْهَارِي لِسَبِّهِمْ وَشَتْمِهِمْ . أَهْوَ سُدًى لَيْسَ لَهُ مُوجِبٌ أُوجِبُهُ ؟ فَانْظُرُوا فِي ذَلِكَ . فَفِي السُّورَةِ دُعَاءٌ وَبَعْثٌ لِلْكُفَّارِ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَتِهِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ كَمَالِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ . وَمَعَانِيهَا كَثِيرَةٌ شَرِيفَةٌ يَطُولُ وَصْفُهَا .
وَقَوْلُهُ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ . فَهُوَ لَا يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُهُ أَحَدٌ مِنْ الْكُفَّارِ وَلَا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ

وَالْكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } . فَذَكَرَ لَفْظَ " مَا " وَلَمْ يَقُلْ " مَنْ تَعْبُدُونَ " . و " مَا " تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا ذَكَرَهُ المهدوي وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَعْبُدُ } وَلَمْ يَقُلْ " مَنْ أَعْبُدُ " يُقَابِلُ بِهِ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْأَصْنَامُ فَضَعِيفٌ جِدًّا يُغَيِّرُ اللُّغَةَ وَيَخُصُّ عُمُومَ الْقُرْآنِ وَهُوَ عُمُومٌ مَقْصُودٌ وَيُزِيلُ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَتْ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ . فَإِنَّ " مَا " فِي اللُّغَةِ إمَّا لِمَا لَا يُعْلَمُ ، و لِصِفَاتِ مَا يُعْلَمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ } { وَمَا سَوَّاهَا } { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } وَفِي التَّسْبِيحِ الْمَأْثُورِ أَنَّهُ يُقَالُ عِنْدَ سَمَاعِ الرَّعْدِ : " سُبْحَانَ مَا سَبَّحَتْ لَهُ " وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ . فَقَوْلُهُ : { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } جَارٍ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا فَهُوَ لَا يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَا عَبَدَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَوَاتِهِمْ بـ " مَنْ " فَتَخْصِيصُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ بِشِرْكِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ غَلَطٌ عَظِيمٌ وَإِنَّمَا هِيَ بَرَاءَةٌ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ . وَكَوْنُ الرَّبِّ يَتَّصِفُ بِمَا تَتَّصِفُ بِهِ الْأَصْنَامُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ مَا لَا

يَجُوزُ عَلَيْهِ وَلَا تَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . بَلْ الْمَقْصُودُ ذِكْرُ الصِّفَاتِ وَالْإِخْبَارُ بِمَعْبُودِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيَتَبَرَّأَ مِنْ مَعْبُودِهِمْ وَيُبَرِّئَهُمْ مِنْ مَعْبُودِهِ . وَإِذَا قَالَ الْيَهُودُ : نَحْنُ نَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ . كَانُوا كَاذِبِينَ سَوَاءٌ عَرَفُوا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا كَمَا يَقُولُ النَّصَارَى : إنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَمَا نَحْنُ بِمُشْرِكِينَ وَهُمْ كَاذِبُونَ . لِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا عِبَادَتَهُ لَعَبَدُوهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَهُوَ الشَّرْعُ لَا بِالْمَنْسُوخِ الْمُبَدَّلِ . وَأَيْضًا فَالرَّبُّ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ عِبَادَتَهُ هُوَ عِنْدَهُمْ رَبٌّ لَمْ يُنْزِلْ الْإِنْجِيلَ وَلَا الْقُرْآنَ وَلَا أَرْسَلَ الْمَسِيحَ وَلَا مُحَمَّدًا . بَلْ هُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَقِيرٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَخِيلٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ عَاجِزٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا شَرَعَهُ . وَعِنْد جَمِيعِهِمْ أَنَّهُ أَيَّدَ الْكَاذِبِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ رُسُلُهُ وَلَيْسُوا رُسُلَهُ بَلْ هُمْ كَاذِبُونَ سَحَرَةٌ . قَدْ أَيَّدَهُمْ وَنَصَرَهُمْ : وَنَصَرَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى أَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَوْلِيَاؤُهُ دُونَ النَّاسِ . فَالرَّبُّ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ هُوَ دَائِمًا يَنْصُرُ أَعْدَاءَهُ . فَهُمْ يَعْبُدُونَ هَذَا الرَّبَّ وَالرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَعْبُدُونَ هَذَا الْمَعْبُودَ الَّذِي تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ . فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَمَّا وَصَفَتْ بِهِ الْيَهُودُ مَعْبُودَهَا

مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْبُودًا لَهُمْ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ . فَلَيْسَ هُوَ مَعْبُودًا لِلْيَهُودِ وَإِنَّمَا فِي جِبِلَّاتِهِمْ صِفَاتٌ لَيْسَتْ هِيَ صِفَاتُهُ زَيَّنَهَا لَهُمْ الشَّيْطَانُ . فَهُمْ يَقْصِدُونَ عِبَادَةَ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ . فَالرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَنْ يَعْبُدُونَهُ . وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ بِهِ فَائِدَةُ مَا ذَكَرْنَا . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ قَالَ إنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى دُونَ الْيَهُودِ كَمَا فِي قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } قَالَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ لَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُونَ إلَّا أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَكْفُرُونَ " بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَقَتَلُوا طَوَائِفَ الْأَنْبِيَاءِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا . قَالَ : إلَّا الْعِصَابَةَ الَّتِي تَقُولُ حَيْثُ خَرَجَ بُخْتُ نَصَّرَ وَقِيلَ : مَنْ سَمَّوْا عُزَيْرًا " ابْنُ اللَّهِ " وَلَمْ يَعْبُدُوهُ . وَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى قَالَتْ : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَعَبَدَتْهُ . فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ لَا تُشْرِكُ كَمَا أَشْرَكَتْ الْعَرَبُ وَالنَّصَارَى صَحِيحٌ لَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ . بَلْ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ . وَمَنْ قَالَ إنَّ الْيَهُودَ

تَعْبُدُ اللَّهَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا قَبِيحًا . فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ كَانَ سَعِيدًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . قَالَ تَعَالَى { أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } { وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : إنَّك تَأْتِي قَوْمًا هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَأَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { فَادْعُهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَعْلِمْهُمْ . . . } " فَلَا يُعْبَدُ إلَّا اللَّهُ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا وَعُرِفَتْ رِسَالَتُهُ وَبُلِّغَتْ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ حَابِطَةٌ . وَلَوْ عَبَدُوا اللَّهَ لَمْ تَحْبَطْ أَعْمَالُهُمْ . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا . وَقَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مَنْ عَبَدَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ . فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ عِبَادَتَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَهُوَ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ إنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَيَعْبُدُ الطَّاغُوتَ . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ وَأَنَّهُ لَعَنَهُمْ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ . وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ فِيهِ الشَّيْطَانُ وَالْوَثَنُ وَالْكُهَّانُ

وَالدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى . { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } وَقَالَ { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } الْآيَةَ وَهُمْ أَشَدُّ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ النَّصَارَى وَكُفْرُهُمْ أَغْلَظُ وَهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ . وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّهُمْ تَحْتَ النَّصَارَى فِي النَّارِ . وَالْيَهُودُ إنْ لَمْ يَعْبُدُوا الْمَسِيحَ فَقَدْ افْتَرَوْا عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى . وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ النَّصَارَى فَوْقَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَالنَّصَارَى مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُشْرِكُونَ بِهِ . وَأَمَّا الْيَهُودُ فَلَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ بَلْ هُمْ مُعَطِّلُونَ لِعِبَادَتِهِ مُسْتَكْبِرُونَ عَنْهَا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ اسْتَكْبَرُوا فَفَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ . بَلْ هُمْ مُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَابِدُونَ لِلشَّيْطَانِ . فَالنَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَعْبُدُونَ مَا تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ . وَهُمْ وَإِنْ وَصَفُوا اللَّهَ بِبَعْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ فَهُمْ يَصِفُونَهُ بِمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ . وَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ عِبَادَةٌ لَهُ وَحْدَهُ . فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ عَبَدَهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ . وَالسُّورَةُ لَمْ يَقُلْ فِيهَا : " يَا أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ " حَتَّى يُقَالَ فِيهَا إنَّهَا

إنَّمَا تَنَاوَلَتْ مَنْ أَشْرَكَ . بَلْ قَالَ { يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَتَنَاوَلَتْ كُلَّ كَافِرٍ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يُظْهِرُ الشِّرْكَ أَوْ كَانَ فِيهِ تَعْطِيلٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ وَاسْتِكْبَارٌ عَنْ عِبَادَتِهِ . وَالتَّعْطِيلُ شَرٌّ مِنْ الشِّرْكِ وَكُلُّ مُعَطِّلٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا . وَالنَّصَارَى مَعَ شِرْكِهِمْ لَهُمْ عِبَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَالْيَهُودُ مِنْ أَقَلِّ الْأُمَمِ عِبَادَةً وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ . لَكِنْ قَدْ يَعْرِفُونَ مَا لَا تَعْرِفُهُ النَّصَارَى لَكِنْ بِلَا عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ بِالْعِلْمِ . فَهُمْ مَغْصُوبٌ عَلَيْهِمْ وَأُولَئِكَ ضَالُّونَ . وَكِلَاهُمَا قَدْ بَرَّأَ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ . وَفِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَعْرِفُ مَا لَا تَعْرِفُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِلَا عَمَلٍ بِالْعِلْمِ . فَفِيهِمْ شَبَهٌ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة : مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عِبَادِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى . بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا أَقْرَبَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْبَارِحَةِ أَنْتُمْ أَشْبَهُ النَّاسِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ . بَلْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ . قَالُوا : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى . قَالَ : فَمَنْ ؟ وَفِي رِوَايَةٍ : فَارِسُ وَالرُّومُ ؟ قَالَ : وَمَنْ النَّاسُ إلَّا أُولَئِكَ } ؟ " . وَقَالَ : " { افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتْ

النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً } " . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ فِيهِ حَالُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } مَعْنَاهُ الْمَعْبُودُ . وَلَكِنْ هُوَ لَفْظٌ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْكَثِيرَ وَالْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ . فَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْبُودٍ لَهُمْ . وَالْمَعْبُودُ هُوَ الْإِلَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا أَعْبُدُ إلَهَكُمْ وَلَا تَعْبُدُونَ إلَهِي كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ يَعْقُوبَ . قَالَ تَعَالَى { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } وَاسْمُ الْإِلَهِ وَالْمَعْبُودِ يَتَضَمَّنُ إضَافَةً إلَى الْعَابِدِ . وَقَالَ : { إلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } هُوَ الَّذِي يَعْبُدُهُ هَؤُلَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَيُؤَلِّهُونَهُ . وَإِنَّمَا يَعْبُدُهُ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ { إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ

وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ } إلَى قَوْلِهِ { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِلَّةَ آبَائِهِ هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ . وَهِيَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِلَّتِهِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ إلَهَ إبْرَاهِيمَ . فَإِنَّ مَنْ عَبَدَ إلَهَ إبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِ قَالَ تَعَالَى { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فَقَوْلُهُ : { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ } يُبَيِّنُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُنَافِي مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ . وَهَذَا بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي بُعِثَ بِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ . وَالطَّائِفَتَانِ كَانَتَا خَارِجَتَيْنِ عَنْهَا بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ التَّبْدِيل . قَالَ تَعَالَى { إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا } وَقَالَ { قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ } الْآيَةَ . وَقَالَ { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } . وَقَوْلُهُ { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } ، يُبَيِّنُ

أَنَّ كُلَّ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا فَقَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ . وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ وَالْمَعْنَى قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَاخْتِيَارُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي سَفِهَتْ . فَإِنَّ " سَفِهَ " فِعْلٌ لَازِمٌ لَا يَتَعَدَّى لَكِنَّ الْمَعْنَى : إلَّا مَنْ كَانَ سَفِيهًا فَجَعَلَ الْفِعْلَ لَهُ وَنَصَبَ النَّفْسَ عَلَى التَّمْيِيزِ لَا النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } . وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَعَرَفُوا هَذَا وَهَذَا . قَالَ الْفَرَّاءُ : نَصْبُ النَّفْسِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالتَّفْسِيرِ كَمَا يُقَالُ : ضِقْت بِالْأَمْرِ ذَرْعًا مَعْنَاهُ : ضَاقَ ذَرْعِي بِهِ . وَمِثْلُهُ { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } أَيْ اشْتَعَلَ الشَّيْبَ فِي الرَّأْسِ . قَالَ : وَمِنْهُ قَوْلُهُ : أَلِمَ فُلَانٌ رَأَسَهُ وَوَجِعَ بَطْنَهُ وَرَشَدَ أَمْرَهُ . وَكَانَ الْأَصْلُ : سَفِهَتْ نَفْسُ زَيْدٍ وَرَشَدَ أَمْرُهُ فَلَمَّا حَوَّلَ الْفِعْلَ إلَى زَيْدٍ انْتَصَبَ مَا بَعْدَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ . فَهَذِهِ شَوَاهِدُ عَرَفَهَا الْفَرَّاءُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : غَبَنَ فُلَانٌ رَأْيَهُ وَبَطِرَ عَيْشَهُ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أَيْ بَطِرَتْ نَفْسُ الْمَعِيشَةِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ يَمَانِ بْنِ رَبَابٍ : حَمِقَ رَأْيُهُ وَنَفَسُهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ السَّائِبِ : ضَلَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَقَوْلِ

أَبِي رَوْقٍ : عَجَزَ رَأْيُهُ عَنْ نَفْسِهِ . وَالْبَصْرِيُّونَ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : جَهِلَ نَفْسَهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ كيسان وَالزَّجَّاجُ . قَالَ : لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ جَهِلَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ خَالِقَهَا . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيفٌ . فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ إنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ فَهُوَ إنَّمَا قَالَ ( سَفِهَ و " سَفُهَ " فِعْلٌ لَازِمٌ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ و " جَهِلَ " فِعْلٌ مُتَعَدٍّ . وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ " سَفَّهْت كَذَا " أَلْبَتَّةَ بِمَعْنَى : جهلته . بَلْ قَالُوا : سَفُهَ بِالضَّمِّ سَفَاهَةً أَيْ صَارَ سَفِيهًا وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ أَيْ حَصَلَ مِنْهُ سَفَهٌ كَمَا قَالُوا فِي " فَقِهَ وَفَقُهَ " . وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ : سَفِهَتْ الشُّرْبَ إذَا أَكْثَرْت مِنْهُ . وَهُوَ يُوَافِقُ مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ أَيْ صَارَ شُرْبُهُ سَفِيهًا فَسَفِهَ شُرْبَهُ لَمَّا جَاوَزَ الْحَدَّ . وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَيُونُسُ : نُصِبَ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ أَيْ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ . وَقَوْلُهُمْ " بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ " لَيْسَ هُوَ أَصْلًا فَيُعْتَبَرُ بِهِ وَلَكِنْ قَدْ تَنْزِعُ حُرُوفُ الْجَرِّ فِي مَوَاضِعَ مَسْمُوعَةٍ فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ . وَإِنْ كَانَ مَقِيسًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ . ف " سَفِهَ " لَيْسَ مِنْ هَذَا لَا يُقَالُ : سَفِهْت أَمْرَ اللَّهِ وَلَا دِينَ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى : جَهِلْته أَيْ سَفِهْت فِيهِ . وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالسَّفَهِ وَيُنْصَبُ عَلَى التَّمْيِيزِ مَا خُصَّ بِهِ .

مِثْلُ نَفْسِهِ أَوْ شُرْبِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَهُوَ سَفِيهٌ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : رَغِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَابْتَدَعُوا الْيَهُودِيَّةَ والنصرانية وَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ وَتَرَكُوا دِينَ إبْرَاهِيمَ . وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة : بَدَّلُوا دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَاتَّبَعُوا الْمَنْسُوخَ . فَأَمَّا مُوسَى وَالْمَسِيحُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا فَهُمْ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ مُتَّبِعُونَ لَهُ وَهُوَ إمَامُهُمْ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ { إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا } . فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ وَبَعْدَ مَبْعَثِهِ . وَقِيلَ إنَّهُ عَامٌّ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : كُلُّ مُؤْمِنٍ وَلِيُّ إبْرَاهِيمَ مِمَّنْ مَضَى وَمِمَّنْ بَقِيَ . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ صَدَّقُوا نَبِيَّ اللَّهِ وَاتَّبَعُوهُ وَكَانَ مُحَمَّدٌ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ . وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمُشْرِكُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَغَيْرَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْخَلِيلِ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } . فَقَدْ اسْتَثْنَاهُ مِمَّا يَعْبُدُونَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } وَاسْتَثْنَاهُ

أَيْضًا . وَفِي الْمَسْنَدِ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ { حُصَيْنٍ الخزاعي لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ ؟ قَالَ : سَبْعَةُ آلِهَةٍ سِتَّةٌ فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ . قَالَ : فَمَنْ الَّذِي تَعُدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك ؟ قَالَ : الَّذِي فِي السَّمَاءِ } . قِيلَ : هَذَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقُولُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى : نَحْنُ نَعْبُدُ اللَّهَ . فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ عِبَادَتَهُ مَعَ الشِّرْكِ بِهِ عِبَادَةٌ وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا . وَأَمَّا قَوْلُ الْخَلِيلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ . قَالَ طَائِفَةٌ : إنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ آلِهَتِهِمْ . وَعَلَى هَذَا فَهَذَا لَفْظٌ مُقَيَّدٌ . فَإِنَّهُ قَالَ { مَا تَعْبُدُونَ } . فَسَمَّاهُ عِبَادَةً إذَا عَرَفَ الْمُرَادَ لَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ عِنْدَ اللَّهِ عِبَادَةٌ . فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ . مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ } " . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } . سَمَّاهُ إيمَانًا مَعَ التَّقْيِيدِ وَإِلَّا فَالْمُشْرِكُ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَقَدْ قَالَ { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . فَهَذَا مَعَ التَّقْيِيدِ . وَمَعَ الْإِطْلَاقِ فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْبِشَارَةُ بِالْخَيْرِ .

وَقَوْلُهُ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } نَفْيُ الْعِبَادَةِ مُطْلَقًا لَيْسَ هُوَ نَفْيٌ لِمَا قَدْ يُسَمَّى عِبَادَةً مَعَ التَّقْيِيدِ . وَالْمُشْرِكُ إذَا كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَعْبُدُ غَيْرَهُ فَيُقَالُ : إنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَغَيْرَهُ أَوْ يَعْبُدُهُ مُشْرِكًا بِهِ . لَا يُقَالُ : إنَّهُ يَعْبُدُ مُطْلَقًا . وَالْمُعَطِّلُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ شَيْئًا شَرٌّ مِنْهُ . وَالْعِبَادَةُ الْمُطْلَقَةُ الْمُعْتَدِلَةُ هِيَ الْمَقْبُولَةُ وَعِبَادَةُ الْمُشْرِكِ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } الْآيَةَ . قَالُوا فِيهَا { نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ } ثُمَّ قَالُوا : { إلَهًا وَاحِدًا } . فَهَذَا بَدَلٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ . فَإِنَّ النَّكِرَةَ تُبْدَلُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ } { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } فَذُكِرَتْ مُعَرَّفَةً وَمَوْصُوفَةً . كَذَلِكَ قَالُوا { نَعْبُدُ إلَهَكَ } فَعَرَّفُوهُ ثُمَّ قَالُوا { إلَهًا وَاحِدًا } فَوَصَفُوهُ . وَالْبَدَلُ فِي حُكْمِ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ أَحْيَانًا كَمَا فِي قَوْلِهِ { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } فَالتَّقْدِيرُ : نَعْبُدُ إلَهَك نَعْبُدُ إلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَجَمَعُوا بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ بِأَمْرَيْنِ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ إلَهَهُ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا يَعْبُدُونَ إلَهًا وَاحِدًا . فَمَنْ عَبَدَ إلَهَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لِإِلَهِهِ وَإِلَهِ آبَائِهِ . وَإِنَّمَا يَعْبُدُ إلَهَهُ مَنْ عَبَدَ إلَهًا وَاحِدًا . وَلَوْ كَانَ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ عَابِدًا لَهُ لَكَانَتْ عِبَادَتُهُ نَوْعَيْنِ عِبَادَةَ إشْرَاكٍ وَعِبَادَةَ إخْلَاصٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ

قَوْلُهُ { إلَهًا وَاحِدًا } بَدَلًا . لِأَنَّ هَذَا كُلٌّ مِنْ كُلٍّ لَيْسَ هُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ . فَعَلِمَ أَنَّ إلَهَهُ وَإِلَهَ آبَائِهِ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا وَاحِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَوْلُهُ { إلَهًا وَاحِدًا } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ لَكِنَّهَا حَالٌ لَازِمَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا وَاحِدًا كَقَوْلِهِ { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا } وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا مُصَدِّقًا . وَمِنْهُ { مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } . فَمَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَمَا عَبَدَهُ إلَهًا وَاحِدًا وَمَنْ أَشْرَكَ بِهِ فَمَا عَبَدَهُ . وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا وَاحِدًا . فَإِذَا لَمْ يَعْبُدُهُ فِي الْحَالِ اللَّازِمَةِ لَهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَالٌ أُخْرَى يَعْبُدُهُ فِيهَا فَمَا عَبَدَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُشْرِكُ يَجْعَلُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فَهُوَ يَعْبُدُ فِي حَالٍ لَيْسَ هُوَ فِيهَا الْوَاحِدُ قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ مَنْشَؤُهُ أَنَّ لَفْظَ " الْإِلَهِ " يُرَادُ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْإِلَهِيَّةِ وَيُرَادُ بِهِ مَا اتَّخَذَهُ النَّاسُ إلَهًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَهًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ هِيَ أَسْمَاءٌ سَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ . فَتِلْكَ لَيْسَتْ فِي نَفْسِهَا آلِهَةً وَإِنَّمَا هِيَ آلِهَةٌ فِي أَنْفُسِ الْعَابِدِينَ . فَإِلَهِيَّتُهَا أَمْرٌ قَدَّرَهُ الْمُشْرِكُونَ وَجَعَلُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْخَارِجِ كَاَلَّذِي يَجْعَلُ مَنْ لَيْسَ بِعَالَمِ عَالِمًا وَمَنْ لَيْسَ بِحَيِّ حَيًّا وَمَنْ لَيْسَ بِصَادِقِ وَلَا عَدْلٍ صَادِقًا وَعَدْلًا فَيُقَالُ : هَذَا عِنْدَك صَادِقٌ وَعَادِلٌ وَعَالِمٌ وَتِلْكَ اعْتِقَادَاتٌ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ وَأَقْوَالٌ كَاذِبَةٌ غَيْرُ لَائِقَةٍ .

وَلِهَذَا يَجْعَلُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِافْتِرَاءِ وَالْكَذِبِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ { هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } . وَقَالَ الْخَلِيلُ { إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إفْكًا } . وَقَالَ { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ } أَيْ أَيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ ؟ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَالْخَرْصَ وَهُوَ الْحَزْرُ . هَذَا صَوَابٌ وَأَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ . وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا نَافِيَةٌ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ كَأَبِي الْفَرَجِ . وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَالَ هُودٌ { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُفْتَرُونَ } . وَإِذَا كَانَتْ إلَهِيَّةُ مَا سِوَى اللَّهِ أَمْرًا مُخْتَلَقًا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ وَاللِّسَانِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ . وَهُوَ مِنْ بَابِ الْكَذِبِ وَالِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقِ . وَمَا عِنْدَ عَابِدِيهَا مِنْ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَهَا تَابِعٌ لِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ . كَمَنْ اعْتَقَدَ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ صَادِقٌ فَصَدَّقَهُ فِيمَا يَقُولُ وَبَنَى عَلَى إخْبَارِهِ أَعْمَالًا كَثِيرَةً . فَلَمَّا تَبَيَّنَ كَذِبُهُ ظَهَرَ فَسَادُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ كَأَتْبَاعِ مُسَيْلِمَةَ وَالْأُسُودِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ الزَّوَايَا وَالتُّرَّهَاتِ وَمَا يَشْرَعُونَهُ لِأَتْبَاعِهِمْ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ بِخِلَافِ الصَّادِقِ وَالصِّدْقِ .

وَلِهَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } . وَقَالَ فِي كَلِمَةِ الشِّرْكِ { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } . فَلَيْسَ لَهَا أَسَاسٌ ثَابِتٌ وَلَا فَرْعٌ ثَابِتٌ إذْ كَانَتْ بَاطِلَةً كَأَقْوَالِ الْكَاذِبِينَ وَأَعْمَالِهِمْ . بَلْ هِيَ أَعْظَمُ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ مَعَ الْحُبِّ لَهَا . وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ الظُّلْمِ . { قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ الذَّنْبِ أَعْظَمُ . قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك } " . فَنَفْسُ تَأَلُّهِهِمْ لَهَا وَعِبَادَتِهِمْ إيَّاهَا وَتَعْظِيمِهَا وَحُبِّهَا وَدُعَائِهَا وَاعْتِقَادِهَا آلِهَةً وَالْخَبَرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا آلِهَةٌ مَوْجُودٌ كَمَا كَانَ اعْتِقَادُ الْكَذَّابِينَ مَوْجُودًا . وَأَمَّا نَفْسُ اتِّصَافِهَا بِالْإِلَهِيَّةِ فَمَفْقُودٌ كَاتِّصَافِ مُسَيْلِمَةَ بِالنُّبُوَّةِ .
فَهُنَا حَالَانِ حَالٌ لِلْعَابِدِ وَحَالٌ لِلْمَعْبُودِ . فَأَمَّا الْعَابِدُونَ فَكُلُّهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِبَادَةٌ وَتَأَلُّهٌ لِمَنْ عَبَدُوهُ . وَأَمَّا الْمَعْبُودُونَ فَالرَّحْمَنُ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ وَمَا سِوَاهُ لَا إلَهِيَّةَ لَهُ بَلْ هُوَ مَيِّتٌ لَا يَمْلِكُ لِعَابِدِيهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا . { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } وَهُوَ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ { سَبِيلًا } بِالتَّقَرُّبِ بِعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ

إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } فَأَخْبَرَ عَنْ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَقَوْلُهُ { نَعْبُدُ إلَهَكَ } { إلَهًا وَاحِدًا } إذَا قِيلَ إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْفَاعِلِ الْعَابِدِ أَوْ مِنْ الْمَفْعُولِ الْمَعْبُودِ . فَالْأَوَّلُ : نَعْبُدُهُ فِي حَالِ كَوْنِنَا مُخْلِصِينَ لَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ . وَالثَّانِي نَعْبُدُهُ فِي الْحَالِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَهُوَ أَنَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ فَنَعْبُدُهُ مُخْلِصِينَ مُعْتَرِفِينَ لَهُ بِأَنَّهُ الْإِلَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ . فَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ هَذَا الثَّانِي امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُ عَابِدًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَعْبُدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَتْ لَهُ حَالٌ أُخْرَى نَعْبُدُهُ فِيهَا . وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ نَعْبُدَهُ فِي حَالٍ أُخْرَى نَتَّخِذُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فِي أَنْفُسِنَا . لَكِنَّ قَوْلَهُ { إلَهًا وَاحِدًا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنْ الْمَعْبُودِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ : نَعْبُدُهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينُ فَإِنَّ هَذِهِ حَالٌ مِنْ الْفَاعِلِ . وَلِهَذَا يَأْتِي هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } وَقَوْلِهِ { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } . فَهَذَا حَالٌ مِنْ الْفَاعِلِ

فَإِنَّهُ يَكُونُ تَارَةً مُخْلِصًا وَتَارَةً مُشْرِكًا . وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا وَاحِدًا . وَالْحَالُ وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً لِلْمَفْعُولِ فَهِيَ أَيْضًا حَالٌ لِلْفَاعِلِ . فَإِنَّهُمْ قَالُوا : نَعْبُدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ . فَلَزِمَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهُ لَيْسَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ . وَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ { نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ } . . . { إلَهًا وَاحِدًا } هِيَ حَالٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ جَمِيعًا بِالْعَابِدِ وَالْمَعْبُودِ . فَإِنَّ الْعَامِلَ فِيهَا الْمُتَعَلِّقَ بِهَا الْعِبَادَةُ وَهِيَ فِعْلُ الْعَابِدِ وَاَلَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَفْعُولُ فِي الْعَرَبِيَّةِ هُوَ الْمَعْبُودُ . كَمَا قِيلَ فِي الْجُمْلَةِ { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . قِيلَ : هِيَ وَاوُ الْعَطْفِ وَقِيلَ وَاوُ الْحَالِ أَيْ نَعْبُدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ . قَالُوا : وَهِيَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ " نَعْبُدُ " أَوْ مَفْعُولِهِ لِرُجُوعِ الْهَاءِ إلَيْهِ فِي " لَهُ " وَهَذَا التَّرْدِيدُ غَلَطٌ إذْ هِيَ حَالٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا . فَإِنَّهُمْ إذَا عَبَدُوهُ وَهُمْ مُسْلِمُونَ فَهُمْ مُسْلِمُونَ حَالَ كَوْنِهِمْ عَابِدِينَ وَحَالَ كَوْنِهِ مَعْبُودًا إذْ كَوْنُهُمْ عَابِدِينَ وَكَوْنِهِ مَعْبُودًا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمُقَارَنَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ . فَالظَّرْفُ وَالْحَالُ هُنَا كَلِمَةٌ وَلَيْسَتْ مُفْرَدًا وَلِهَذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ . فَإِنَّ الْمُفْرَدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ صِفَةً لِهَذَا وَهَذَا . فَإِذَا قُلْت : ضَرَبْت زَيْدًا قَاعِدًا فَالْقُعُودُ حَالٌ لِلْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ . وَإِذَا قُلْت : ضَرَبْته وَالنَّاسُ

قُعُودٌ فَلَيْسَ هَذِهِ الْحَالُ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ بَلْ هِيَ مُقَارِنَةٌ لِلضَّرْبِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا كَأَنَّهُ قَالَ : ضَرَبْته فِي زَمَانِ قُعُودِ النَّاسِ . فَهُوَ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْت : ضَرَبْته فِي حَالِ قُعُودِي أَوْ قُعُودِهِ فَهَذَا يَخْتَلِفُ . وَالْآيَةُ فِيهَا { إلَهًا وَاحِدًا } . فَهَذِهِ حَالٌ مِنْ الْمَعْبُودِ بِلَا رَيْبٍ . فَلَزِمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا عَبَدُوهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ إلَهًا وَاحِدًا وَهَذِهِ لَازِمَةٌ لَهُ . وَإِذَا قِيلَ الْمُرَادُ : فِي حَالِ كَوْنِهِ مَعْبُودًا وَاحِدًا لَا نَتَّخِذُ مَعَهُ مَعْبُودًا آخَرَ فَهَذِهِ حَالٌ لَيْسَتْ لَازِمَةً لَكِنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَابِدِينَ لَا لَهُ . قِيلَ : هَذَا لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ لَهُ وَلَا وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ . لَكِنْ فِيهَا وَصْفَهُمْ فَقَطْ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ { إلَهًا وَاحِدًا } كَقَوْلِهِ { وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ } فَهُوَ فِي نَفْسِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ جَعَلَ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ آلِهَةً بِالِافْتِرَاءِ وَالْحُبِّ . فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ . وَلَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ الْمَعْنَى لَقَالُوا : نَعْبُدُهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ . وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ ذَكَرُوهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } لَا سِيَّمَا إذَا جُعِلَتْ حَالًا أَيْ نَعْبُدُهُ إلَهًا وَاحِدًا فِي حَالِ إسْلَامِنَا لَهُ .

وَإِسْلَامِهِمْ لَهُ يَتَضَمَّنُ إخْلَاصَ الدِّينِ لَهُ وَخُضُوعَهُمْ وَاسْتِسْلَامَهُمْ لِأَحْكَامِهِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا قَالَ آمِرًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . ثُمَّ قَالَ { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } { قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَانٍ جَلِيلَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ اسْتِيفَائِهَا .
فَصْلٌ :
وَهَذَا النِّزَاعُ فِي قَوْلِهِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } هَلْ هُوَ خِطَابٌ لِجِنْسِ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ أَوْ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ يَتَعَلَّقُ بِمُسَمَّى " الْكَافِرِ " وَمُسَمَّى " الْمُؤْمِنِ " .

فَطَائِفَةٌ تَقُولُ : هَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ وَافَى الْقِيَامَةَ بِالْإِيمَانِ . فَاسْمُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا . فَأَمَّا مَنْ آمَنَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَذَاكَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ بِإِيمَانِ . وَهَذَا اخْتِيَارُ الْأَشْعَرِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَهَكَذَا يُقَالُ : الْكَافِرُ مَنْ مَاتَ كَافِرًا . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ حُبَّ اللَّهِ وَبُغْضَهُ وَرِضَاهُ وَسَخَطَهُ وَوِلَايَتَهُ وَعَدَاوَتَهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَافَاةِ فَقَطْ . فَاَللَّهُ يُحِبُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا . وَيَرْضَى عَنْهُ وَيُوَالِيهِ بِحُبِّ قَدِيمٍ وَمُوَالَاةٍ قَدِيمَةٍ . وَيَقُولُونَ : إنَّ عُمَرَ حَالَ كُفْرِهِ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ كِلَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ . وَأَكْثَرُ الطَّوَائِفِ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا فَيَقُولُونَ : بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَدُوًّا لِلَّهِ ثُمَّ يَصِيرُ وَلِيًّا لِلَّهِ وَيَكُونُ اللَّهُ يُبْغِضُهُ ثُمَّ يُحِبُّهُ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَالْعَامَّةِ . وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَالْحَنَفِيَّةِ قَاطِبَةً وَقُدَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ . وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } . وَقَوْلُهُ { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } فَوَصَفَهُمْ بِكُفْرِ بَعْدَ إيمَانٍ وَإِيمَانٍ بَعْدَ كُفْرٍ . وَأَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَأَنَّهُمْ إنْ انْتَهَوْا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ . وَقَالَ { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَالَ { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ : تَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ : " { إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ . وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ } " . وَفِي دُعَاءِ الْحَجَّاجِ عِنْدَ الْمُلْتَزِمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : " فَإِنْ كُنْت رَضِيت عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا وَإِلَّا فَمِنْ الْآنَ فَارْضَ عَنِّي " . وَبَعْضُهُمْ حَذَفَ " فَارْضَ عَنِّي فَظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ " فَمِنْ الْآنِ " أَنَّهُ مِنْ " الْمَنِّ " . وَهُوَ تَصْحِيفٌ . وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ كَمَا فِي تَمَامِ الْكَلَامِ وَإِلَّا فَمِنْ الْآنَ فَارْضَ عَنِّي . فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَزْدَادُ رِضًا وَأَنَّهُ يَرْضَى فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ . وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ . وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ .
فَصْلٌ :
وَنَظِيرُ الْقَوْلِ فِي { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } الْقَوْلَانِ فِي قَوْلِهِ { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ .

أَحَدَهُمَا : أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ يَمُوتُ كَافِرًا . وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ مُقَاتِلٍ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } . وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ الضَّحَّاكِ . قَالَا : نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي طَالِبٍ وَأَبِي لَهَبٍ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَخَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ كَالثَّعْلَبِيِّ والبغوي وَابْنِ الْجَوْزِيِّ . قَالَ البغوي : هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَقْوَامٍ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الشَّقَاوَةِ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ . وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ : وَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ لِأَنَّهَا آذَنَتْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ حِينَ إنْذَارِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَدْ آمَنُ كَثِيرٌ مِنْ الْكُفَّارِ عِنْدَ إنْذَارِهِمْ . وَلَوْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْعُمُومِ لَكَانَ خَبَرُ اللَّهِ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ نَقْلُهَا إلَى الْخُصُوصِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْآيَةَ عَلَى مُقْتَضَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَافِرِ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يَنْفَعُهُ الْإِنْذَارُ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْإِيمَانِ . وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ { وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ } .

فَالْآيَاتُ أُفُقِيَّةٌ وَأَرْضِيَّةٌ وَقُرْآنِيَّةٌ وَهِيَ أَدِلَّةُ الْعِلْمِ . وَالْإِنْذَارُ يَقْتَضِي الْخَوْفَ . فَالْآيَاتُ لِمَنْ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ عَمِلَ بِهِ فَهَذَا تَنْفَعُهُ الْحِكْمَةُ . وَالْإِنْذَارُ لِمَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَهُ هَوًى يَصُدُّهُ فَيُنْذَرُ بِالْعَذَابِ الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى مُخَالَفَةِ هَوَاهُ وَهُوَ خَوْفُ الْعَذَابِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ . وَآخَرُ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ فَيَحْتَاجُ إلَى الْجَدَلِ فَيُجَادِلُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } . فَالْمُرَادُ أَنَّ الْكَافِرَ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ سَوَاءٌ أُنْذِرَ أَمْ لَمْ يُنْذَرْ وَلَا يُؤْمِنُ مَا دَامَ كَذَلِكَ . لِأَنَّ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ مَوَانِعَ تَصُدُّ عَنْ الْفَهْمِ وَالْقَبُولِ . وَهَكَذَا حَالُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ " إنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " . وَقِيلَ ذَلِكَ لِمَنْ سَبَقَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ أَوْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ كَقَوْلِهِ { إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ إلَّا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ وَقْتَ

رُؤْيَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ كَإِيمَانِ فِرْعَوْنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا . وَمُوسَى قَدْ دَعَا عَلَيْهِ فَقَالَ { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } . وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ الْكُفَّارَ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ } الْآيَةَ . فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ قَدْ يُؤْمِنُوا إذَا شَاءَ . وَآيَةُ الْبَقَرَةِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ . فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ . وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي الْمُنَافِقِينَ . فَبَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِ الْمُصِرِّ عَلَى كُفْرِهِ أَنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَنْفَعُهُ لِلْحُجُبِ الَّتِي عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ . وَلَيْسَ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ فَيَسْمَعُ وَيَقْبَلُ . وَلَكِنْ هُوَ حِينَ يَكُونُ كَافِرًا لَا تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ . وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ : لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ لَهُ الذِّمَّةُ وَلَا يَكُونُ قَطُّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ مَا دَامَ حَرْبِيًّا . فَالْكُفَّارُ مَا دَامُوا كُفَّارًا هُمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ . لَهُمْ مَوَانِعُ تَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ لِلْمُنَافِقِينَ مَوَانِعَ تَمْنَعُهُمْ مَا دَامُوا كَذَلِكَ وَإِنْ أُنْذِرُوا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } فَهَذَا مِثْلُ كُلِّ كَافِرٍ مَا دَامَ كَافِرًا .

وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ يَسْمَعُونَ إذَا زَالَ الْغِطَاءُ الَّذِي عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ وَهُوَ الْكُفْرُ . فَمَا دَامُوا هَذِهِ حَالُهُمْ فَهُمْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ تَغَيُّرَ الْحَالِ مُمْكِنٌ كَمَا قَالَ { إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَكَمَا هُوَ الْوَاقِعُ .
وَمِثْلُ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بِدُعَائِهِ وَإِنْذَارِهِ وَبَيَانِهِ يَحْصُلُ الْهُدَى وَلَوْ كَانَ أَكْمَلَ النَّاسِ وَأَنَّ الدَّاعِيَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا نَاصِحًا مُخْلِصًا فَقَدْ لَا يَسْتَجِيبُ الْمَدْعُوُّ لَا لِنَقْصِ فِي الدُّعَاءِ لَكِنْ لِفَسَادِ فِي الْمَدْعُوِّ . وَهَذَا لِأَنَّ حُصُولَ الْمَطْلُوبِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فِعْلِ الْفَاعِلِ وَقَبُولِ الْقَابِلِ كَالسَّيْفِ الْقَاطِعِ يُؤَثِّرُ بِشَرْطِ قَبُولِ الْمَحَلِّ فِيهِ لَا يَقْطَعُ الْحِجَارَةَ وَالْحَدِيدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالنَّفْخُ يُؤَثِّرُ إذَا كَانَ هُنَاكَ قَابِلٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي الرَّمَادِ . وَالدُّعَاءُ وَالتَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ . وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لَهُ فَاعِلٌ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالنِّذَارَةِ وَلَهُ قَابِلٌ وَهُوَ الْمُسْتَمِعُ . فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَمِعُ قَابِلًا حَصَلَ الْإِنْذَارُ التَّامُّ وَالتَّعْلِيمُ التَّامُّ وَالْهُدَى التَّامُّ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا قِيلَ : عَلَّمْته فَلَمْ يَتَعَلَّمْ وَهَدَيْته فَلَمْ يَهْتَدِ وَخَاطَبْته فَلَمْ يُصْغِ وَنَحْوَ ذَلِكَ .

فَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } هُوَ مِنْ هَذَا . إنَّمَا يَهْتَدِي مَنْ يَقْبَلُ الِاهْتِدَاءَ وَهُمْ الْمُتَّقُونَ لَا كُلَّ أَحَدٍ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ قَبْلَ اهْتِدَائِهِمْ بَلْ قَدْ يَكُونُوا كُفَّارًا . لَكِنْ إنَّمَا يَهْتَدِي بِهِ مِنْ كَانَ مُتَّقِيًا . فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ اهْتَدَى بِالْقُرْآنِ . وَالْعِلْمُ وَالْإِنْذَارُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ . وَهَكَذَا قَوْلُهُ { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا } الْإِنْذَارَ التَّامَّ فَإِنَّ الْحَيَّ يَقْبَلُهُ . وَلِهَذَا قَالَ { وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } فَهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا الْإِنْذَارَ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } . وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } أَيْ كُلُّ مَنْ ضَلَّ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ . فَهُوَ ذَمٌّ لِمَنْ يَضِلُّ بِهِ فَإِنَّهُ فَاسِقٌ . لَيْسَ أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا قَبْلَ ذَلِكَ . وَلِهَذَا تَأَوَّلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْخَوَارِجِ وَسَمَّاهُمْ " فَاسِقِينَ " لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا بِالْقُرْآنِ . فَمَنْ ضَلَّ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ فَاسِقٌ . فَقَوْلُهُ { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَالتَّقْدِيرُ : مَنْ خَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ غِشَاوَةً فَسَوَاءٌ عَلَيْك أَنْذَرْته أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُ هُوَ لَا يُؤْمِنُ أَيْ مَا دَامَ كَذَلِكَ .

وَلَكِنْ هَذَا قَدْ يَزُولُ وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك " الْمُتَوَكِّلَ " لَسْت بِفَظِّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سخاب فِي الْأَسْوَاقِ . وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ . وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ فَأَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا . وَقَدْ قَالَ { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْمِنُونَ . ثُمَّ قَالَ { إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا } إلَى قَوْلِهِ { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } فَهَذَا هُوَ الْإِنْذَارُ التَّامُّ وَهُوَ الْإِنْذَارُ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْمُنْذِرُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ . وَقَوْلُهُ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } هُوَ أَصْلُ الْإِنْذَارِ كَمَا يُقَالُ فِي الْبَلِيدِ وَالْمَشْغُولِ الذِّهْنِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ : سَوَاءٌ عَلَيْك أَعْلَمْته أَمْ لَمْ تُعْلِمْهُ لَا يَتَعَلَّمُ وَلَا يَقْبَلُ الْهُدَى وَيُقَالُ فِي الذَّكِيِّ الْفَارِغِ : إنَّمَا يَتَعَلَّمُ مِثْلُ هَذَا . ثُمَّ الْمَشْغُولُ قَدْ يَتَفَرَّغُ . وَقَدْ يَصْلُحُ ذِهْنٌ بَعْدَ فَسَادِهِ وَيَفْسُدُ بَعْدَ صَلَاحِهِ لِفَسَادِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِهِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ تَفْسِيرِ السَّلَفِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي

مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَإِنْ قَالُوا : إنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا جَاءَنَا قَبْلَك { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } أَيْ إنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِك وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمِيثَاقِ فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَك وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرُك . فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنْك إنْذَارًا وَتَحْذِيرًا ؟ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْإِنْذَارَ لِكُفْرِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ وَمَا جَاءَهُمْ مِنْ الْحَقِّ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْهُمْ خَلْقًا تَابُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَآمَنُوا . وَرُوِيَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ : آيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } . قَالَ : هُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } . ( قُلْت : جَعَلَهُمْ قَادَةَ الْأَحْزَابِ لِكَوْنِهِمْ أَضَلُّوا الْأَتْبَاعَ فَأَحَلُّوهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . وَالْأَحْزَابُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَدْ أَسْلَمَ عَامَّةُ قَادَتِهَا وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ مِثْلُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي سُفْيَان . وَهَؤُلَاءِ أَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُمْ الطُّلَقَاءُ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ . وَالْحِزْبُ الْآخَرُ غطفان وَقَدْ أَسْلَمُوا أَيْضًا .

وَالْآيَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَتَنَاوَلَ كُفَّارَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَإِنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَإِنْ تَنَاوَلَتْ مَعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ . فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ كَافِرٍ . وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ يَخُصُّهَا بِبَعْضِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ . وَابْنُ السَّائِبِ يَقُولُ : هِيَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ مِنْهُمْ حيي بْنُ أَخْطَبَ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ . وَأَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ . وَالْآيَةُ تَعُمُّ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَغَيْرُهُمْ كَمَا أَنَّ آيَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ النُّزُولِ وَهِيَ تَعُمُّهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } كَقَوْلِهِ { فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } { وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ } وَقَوْلَهُ { أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } . وَكُلُّ هَذَا فِيهِ بَيَانُ أَنَّ مُجَرَّدَ دُعَائِك وَتَبْلِيغِك وَحِرْصِك عَلَى هُدَاهُمْ لَيْسَ مُوجِبُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا شَاءَ اللَّهُ هُدَاهُمْ فَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { إنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ

لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } فَفِيهِ تَعْزِيَةٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَتْ الْآيَةُ لَهُ أَنَّ تَبْلِيغَك وَإِنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَفِيهِ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ . وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ . ف { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } وَقَدْ قَالَ لَهُ { إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . فَفِيهِ تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرُ مَقْصُودِ الرِّسَالَةِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَمَّنْ لَا يُؤْمِنُ فَقَالَ { إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } . وَقَالَ { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } " ثُمَّ قَالَ { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } . فَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي تِلْكَ { إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } . وَهُمْ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ مَا قَالَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَكَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ . فَجَعَلَ الْمُوجَبَ هُوَ التَّقْدِيرُ السَّابِقُ وَهُوَ قَوْلُهُ . وَالْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ خَبَرًا مُجَرَّدًا بِمَا سَيَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ قَوْلًا يَتَضَمَّنُ أَشْيَاءَ كَالْيَمِينِ الْمُتَضَمِّنَة لِلْحَضِّ وَالْمَنْعِ . فَقَدْ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ تَقَدُّمَ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } وَنَحْوُ ذَلِكَ .

فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّا قَالَهُ أَوْ قَالَهُ وَكَتَبَهُ . وَهُوَ التَّقْدِيرُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا يَفْعَلُهُ وَعَلِمَهُ وَكَتَبَهُ كَمَا تَظَاهَرَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ . وَالْقَدَرُ تَضَمَّنَ عِلْمَهُ بِمَا سَيَكُونُ وَمَشِيئَتَهُ لِوُجُودِ مَا قَدَّرَهُ وَعَلِمَ أَنْ سَيَخْلُقُهُ . وَالْقَوْلُ قَدْ يَكُونُ خَبَرًا وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ الْحَضِّ وَالْمَنْعِ بِالْقَسَمِ وَإِمَّا لِكِتَابَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَقَوْلِهِ { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } " .
وَأَمَّا قَوْلُهُ { وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } فَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ . وَهُوَ الْوَعِيدُ الْمُتَضَمِّنُ الْجَزَاءَ عَلَى الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لإبليس { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } .
وَقَوْلُهُ { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } أَيْ إنَّ عَذَابَهُمْ لَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى إمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِمَّا فِي الدُّنْيَا كَيَوْمِ بَدْرٍ وَإِمَّا عَقِبَ الْمَوْتِ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ . فَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَكَانَ الْعَذَابُ لِزَامًا أَيْ لَازِمًا لَهُمْ . فَإِنَّ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ تَامٌّ وَهُوَ كُفْرُهُمْ .

وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ . فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ إذْ كَانَ أُولَئِكَ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ وَإِنَّمَا هُمْ طَائِفَةٌ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ وَهُمْ لَا يَتَمَيَّزُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ . بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِإِنْذَارِ الْجَمِيعِ وَفِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ . فَذَكَرَ اللَّفْظَ الْعَامَّ ؛ وَإِرَادَةُ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ الْخَاصِّ . وَذَكَرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَطُّ وَلَا فِيهِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ . وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى يُصَانُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَوَانِعِ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْإِنْذَارَ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِسَبَبِ يُوجِبُ ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ قَبُولُ الْإِنْذَارِ بِسَبَبِ الْمَوَانِعِ . وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَوَانِعَ قَدْ تَزُولُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً لِكُلِّ كَافِرٍ . وَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ مَا سَبَقَ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ فَقَدْ لَا يَزُولُ أَبَدًا كَمَا قَالَ { إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } . وَقَدْ يَذْكُرُ هَذَا وَهَذَا .

وَأَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمَوَانِعِ الَّتِي فِيهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا سَبَقَ مِنْ الْقَوْلِ فَهَذِهِ الْمَوَانِعُ يُرْجَى زَوَالُهَا وَيُمْكِنُ مَا لَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا مَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ تَغَيُّرِ حَالِهِمْ وَحُصُولِ الْهُدَى .
فَصْلٌ :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } . جَاءَ الْخِطَابُ فِيهَا بـ " مَا " وَلَمْ يَجِئْ بـ " مَنْ " فَقِيلَ : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } لَمْ يَقُلْ " لَا أَعْبُدُ مَنْ تَعْبُدُونَ " لِأَنَّ " مَنْ " لِمَنْ يَعْلَمُ وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْلَمُ .
وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا ، فَإِنَّ مَعْبُودَ الْمُشْرِكِينَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَعْلَمُ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ . وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ تَغْلِبُ صِيغَةُ أُولِي الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } . فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِحَالِ مَنْ يَعْلَمُ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِعِبَادَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا } الْآيَةَ فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ وَهُوَ لِأُولِي الْعِلْمِ .

وَأَمَّا مَا لَا يَعْلَمُ فَجَمْعُهُ مُؤَنَّثٌ كَمَا تَقُولُ : الْأَمْوَالُ جَمَعْتهَا وَالْحِجَارَةُ قَذَفَتْهَا . ف " مَا " هِيَ لِمَا لَا يَعْلَمُ وَلِصِفَاتِ مَنْ يَعْلَمُ . وَلِهَذَا تَكُونُ لِلْجِنْسِ الْعَامِّ لِأَنَّ شُمُولَ الْجِنْسِ لِمَا تَحْتَهُ هُوَ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِهِ كَمَا قَالَ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } أَيْ الَّذِي طَابَ وَالطَّيِّبُ مِنْ النِّسَاءِ . فَلَمَّا قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَوْصُوفِ بِالطَّيِّبِ وَقَصَدَ هَذِهِ الصِّفَةَ دُونَ مُجَرَّدِ الْعَيْنِ عَبَّرَ بـ " مَا " . وَلَوْ عَبَّرَ بـ " مَنْ " كَانَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ الْعَيْنِ وَالصِّفَةُ لِلتَّعْرِيفِ حَتَّى لَوْ فُقِدَتْ لَكَانَتْ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ كَمَا إذَا قُلْت : جَاءَنِي مَنْ يَعْرِفُ وَمَنْ كَانَ أَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ فَعَلَ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَالْمَقْصُودُ الْإِخْبَارُ عَنْ عَيْنِهِ وَالصِّلَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ قَدْ ذَهَبَتْ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } { وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ إنَّهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَالْمَعْنَى : وَبَانِيهَا وَطَاحِيهَا وَمُسَوِّيهَا وَلَمَّا قَالَ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } أَخْبَرَ بـ " مَنْ " لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ عَنْ فَلَاحِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّدْسِيَةِ قَدْ ذَهَبَ فِي الدُّنْيَا . فَالْقَسَمُ هُنَاكَ بِالْمَوْصُوفِ بِحَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا أَقْسَمَ بِهَذَا الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةُ

لَازِمَةٌ . فَإِنَّهُ لَا تُوجَدُ مَبْنِيَّةً إلَّا بِبَانِيهَا وَلَا مطحية إلَّا بِطَاحِيهَا وَلَا مُسَوَّاةً إلَّا بِمُسَوِّيهَا . وَأَمَّا الْمَرْءُ الْمُزَكِّي نَفْسَهُ وَالْمُدَسِّيهَا فَقَدْ انْقَضَى عَمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَفَلَاحُهُ وَخَيْبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ لَيْسَا مُسْتَلْزِمَيْنِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ . وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُهُ { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } . وَلِهَذَا يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ صِفَاتِ مَنْ يَعْلَمُ فِي قَوْلِهِ { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } كَمَا يُسْتَفْهَمُ عَلَى وَجْهٍ بِهَا فِي قَوْلِهِ { مَاذَا تَعْبُدُونَ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ عَيْنِ الْخَالِقِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآلِهَةِ الَّتِي تُعْبَدُ . فَإِنَّ الْمُسْتَفْهِمِينَ بِهَا كَانُوا مُقِرِّينَ بِصِفَةِ الْخَالِقِ وَإِنَّمَا طَلَبَ بِالِاسْتِفْهَامِ تَعْيِينَهُ وَتَمْيِيزَهُ وَلِتُقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِاسْتِحْقَاقِهِ وَحْدَهُ الْعِبَادَةَ . وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَكَانَ مُنْكِرًا لِلْمَوْصُوفِ الْمُسَمَّى فَاسْتَفْهَمَ بِصِيغَةِ " مَا " لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِ طَالِبًا لِتَعْيِينِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الْجَوَابُ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِ مُوسَى { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَبِقَوْلِهِ { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } فَأَجَابَ أَيْضًا بِالصِّفَةِ . وَهُنَاكَ قَالَ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } فَكَانَ الْجَوَابُ بِالِاسْمِ الْمُمَيِّزِ لِلْمُسَمَّى عَنْ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا } إلَى تَمَامِ الْآيَاتِ .

فَقَوْلُهُ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ مَعْبُودُهُمْ . لِأَنَّ كُلَّ مَا عَبَدَهُ الْكَافِرُ وَجَبَتْ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا لَا يَكُونُ مَعْبُودُهُ الْإِلَهَ الَّذِي يَعْبُدُهُ الْمُؤْمِنُ . إذْ لَوْ كَانَ هُوَ مَعْبُودَهُ لَكَانَ مُؤْمِنًا لَا كَافِرًا . وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أُمُورًا . أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ بَرَاءَتَهُ مِنْ أَعْيَانِ مَنْ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ . الثَّانِي : أَنَّهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ وَغَيْرَهُ فَمَعْبُودُهُمْ الْمَجْمُوعُ وَهُوَ لَا يَعْبُدُ الْمَجْمُوعَ لَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ . فَيَعْبُدُهُ عَلَى وَجْهِ إخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ لَا عَلَى وَجْهِ الشِّرْكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ الْخَلِيلِ { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } وَقَوْلُهُ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } بِأَنْ يُقَالَ : هُنَا نَفْيُ عِبَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي عِبَادَةَ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ . وَالْخَلِيلُ تَبَرَّأَ مِنْ الْمَجْمُوعِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فَاسْتَثْنَى . أَوْ يُقَالُ : الْخَلِيلُ تَبَرَّأَ مِنْ جَمِيعِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ الْجَمِيعِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَثْنَى رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَ مُسْتَثْنًى فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ

{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِثْنَاءٍ آخَرَ . وَأَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ فَإِنَّ فِيهَا التَّبَرِّي مِنْ عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ لَا مِنْ نَفْسِ مَا يَعْبُدُونَ . وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ وَمِمَّا يَعْبُدُونَ . فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بَاطِلٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ : " { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ } " . فَعِبَادَةُ الْمُشْرِكِ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لَا يُقَالُ : نَصِيبُ اللَّهِ مِنْهَا حَقٌّ وَالْبَاقِي بَاطِلٌ بِخِلَافِ مَعْبُودِهِمْ . فَإِنَّ اللَّهَ إلَهٌ حَقٌّ وَمَا سِوَاهُ آلِهَةٌ بَاطِلَةٌ . فَلَمَّا تَبَرَّأَ الْخَلِيلُ مِنْ الْمَعْبُودِينَ احْتَاجَ إلَى اسْتِثْنَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ تَبَرُّؤُهُ مِنْ أَنْ يَعْبُدَ مَا يَعْبُدُونَ فَكَانَ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْعِبَادَةَ تَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَةِ الْمَجْمُوعِ الَّذِينَ يَعْبُدُهُمْ الْكَافِرُونَ . الثَّالِثُ : إنْ كَانَ النَّفْيُ عَنْ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ مَعْبُودُهُمْ لَا عَنْ عَيْنِهِ فَهُوَ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُمْ . لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُمْ هُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ فَوَجَبَتْ الْبَرَاءَةُ مِنْ عِبَادَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ . وَلَوْ قَالَ " مَنْ تَعْبُدُونَ " لَكَانَ يُقَالُ : إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّ النَّفْيَ وَاقِعٌ عَلَى

عَيْنِ الْمَعْبُودِ . وَلَيْسَ إذَا لَمْ يَعْبُدْ مَا يَعْبُدُونَ مُتَبَرِّئًا مِنْهُ وَمُعَادِيًا لَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ . بَلْ هُوَ تَارِكٌ لِعِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ . وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْوَجْهِ الرَّابِعِ : وَهُوَ قَوْلُهُ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } نَفَى عَنْهُمْ عِبَادَةَ مَعْبُودِهِ . فَهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ مُشْرِكِينَ بِهِ لَمْ يَكُونُوا عَابِدِينَ مَعْبُودَهُ . وَكَذَلِكَ هُوَ إذَا عَبَدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا مَعْبُودَهُمْ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُمْ لَوْ عَيَّنُوا اللَّهَ بِمَا لَيْسَ هُوَ اللَّهُ وَقَصَدُوا عِبَادَةَ اللَّهَ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ هَذَا هُوَ اللَّهُ كَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الدَّجَّالَ وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَهَوَاهُمْ وَمَنْ عَبَدَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهُمْ عِنْدَ نُفُوسِهِمْ إنَّمَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ لَكِنَّ هَذَا الْمَعْبُودَ الَّذِي لَهُمْ لَيْسَ هُوَ اللَّهَ . فَإِذَا قَالَ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } كَانَ مُتَبَرِّئًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْعَابِدِينَ هُوَ اللَّهُ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّهُمْ إذَا وَصَفُوا اللَّهَ بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ كَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ وَأَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ بَخِيلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ وَعَبَدُوهُ كَذَلِكَ . فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَعْبُودِ الَّذِي لِهَؤُلَاءِ . فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ اللَّهَ

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَلَّا تَرَوْنَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي سَبَّ قُرَيْشٍ ؟ يَسُبُّونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ } " . فَهُمْ وَإِنْ قَصَدُوا عَيْنَهُ لَكِنْ لَمَّا وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ مُذَمَّمٌ كَانَ سَبُّهُمْ وَاقِعًا عَلَى مَنْ هُوَ مُذَمَّمٌ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَاكَ لَيْسَ هُوَ اللَّهَ . فَالْمُؤْمِنُونَ بُرَآءُ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا وَصَفَ بِهِ الرَّسُولُ رَبَّهُ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَعْبُدْ مَا عَبَدَهُ الرَّسُولُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ . وَقِسْ عَلَى هَذَا فَلْتَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَتُلَخِّصْ وَتُهَذِّبْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

سُورَةُ تَبَّتْ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
" سُورَةُ تَبَّتْ " نَزَلَتْ فِي هَذَا وَامْرَأَتِهِ وَهُمَا مِنْ أَشْرَفِ بَطْنَيْنِ فِي قُرَيْشٍ وَهُوَ عَمُّ عَلِيٍّ وَهِيَ عَمَّةُ مُعَاوِيَةَ وَاَللَّذَانِ تَدَاوَلَا الْخِلَافَةَ فِي الْأُمَّةِ هَذَانِ الْبَطْنَانِ : بَنُو أُمَيَّة وَبَنُو هَاشِمٍ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَمِنْ قَبِيلَتَيْنِ أَبْعَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتُّفِقَ فِي عَهْدِهِمَا مَا لَمْ يُتَّفَقْ بَعْدَهُمَا . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذَمُّ مَنْ كَفَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِهِ إلَّا هَذَا وَامْرَأَتَهُ فَفِيهِ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَا عِبْرَةَ بِهَا بَلْ صَاحِبُ الشَّرَفِ يَكُونُ ذَمُّهُ عَلَى تَخَلُّفِهِ عَنْ الْوَاجِبِ أَعْظَمَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ } الْآيَةَ . قَالَ النَّحَّاسُ : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْخُسْرِ وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ : وَقَدْ تَبَّ وَقَوْلُهُ : { وَمَا كَسَبَ } أَيْ وَلَدُهُ . فَإِنَّ قَوْلَهُ :

{ وَمَا كَسَبَ } يَتَنَاوَلُهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ . وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ . ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ : { سَيَصْلَى نَارًا } أَخْبَرَ بِزَوَالِ الْخَيْرِ وَحُصُولِ الشَّرِّ و " الصِّلِيّ " الدُّخُولُ وَالِاحْتِرَاقُ جَمِيعًا . وَقَوْلُهُ : { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } إنْ كَانَ مَثَلًا لِلنَّمِيمَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُضْرِمُ الشَّرَّ فَيَكُونُ حَطَبَ الْقُلُوبِ وَقَدْ يُقَالُ : ذَنْبُهَا أَعْظَمُ وَحَمْلُ النَّمِيمَةِ لَا يُوصَفُ بِالْحَبْلِ فِي الْجِيدِ وَإِنْ كَانَ وَصْفًا لِحَالِهَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا وَصَفَ بَعْلَهَا وَهُوَ يَصْلَى وَهِيَ تَحْمِلُ الْحَطَبَ عَلَيْهِ كَمَا أَعَانَتْهُ عَلَى الْكُفْرِ . فَيَكُونُ مِنْ حَشْرِ الْأَزْوَاجِ وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى الْإِثْمِ أَوْ عَلَى إثْمٍ مَا أَوْ عُدْوَانٍ مَا . وَيَكُونُ الْقُرْآنُ قَدْ عَمَّمَ الْأَقْسَامَ الْمُمْكِنَةَ فِي الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ إمَّا كَإِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتِهِ وَإِمَّا هَذَا وَامْرَأَتُهُ وَإِمَّا فِرْعَوْنُ وَامْرَأَتُهُ وَإِمَّا نُوحٌ وَامْرَأَتُهُ وَلُوطٌ وَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُفَسَّرَ حَمْلُ الْحَطَبِ بِالنَّمِيمَةِ بِحَمْلِ الْوَقُودِ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ : " { مَنْ كَانَ لَهُ لِسَانَانِ } إلَخْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْسَادِسِ عَشْرَ

الْجُزْءُ الْسَابِعِ عَشَرَ
كِتَابُ الْتَفْسِيرِ
الْجُزْءُ الْرَابِعُ
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .
سُورَةُ الْإِخْلَاصِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - َرحِمَهُ الْلَّهُ - تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ ) وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ ) هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ

ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ - كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ - فَأَخْرَجُوا فَضْلَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَرُوِيَ عَنْ الدارقطني أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَصِحَّ فِي فَضْلِ سُورَةٍ أَكْثَرُ مِمَّا صَحَّ فِي فَضْلِهَا . وَكَذَلِكَ أَخْرَجُوا فَضْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا { إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا { قَالَ فِي { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ الضَّحَّاكِ الْمَشْرِقِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا : أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ معدان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟

قَالُوا : وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجَعَلَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ { أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَانَ الرَّجُلُ يتقالها فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَخِي قتادة بْنُ النُّعْمَانِ { أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ مِنْ السِّحْرِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا . . الْحَدِيثَ } بِنَحْوِهِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُحْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالَ : فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضِ : إنِّي أَرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنْ السَّمَاءِ فَذَاكَ الَّذِي أَدَخَلَهُ . ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي قُلْت لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلَا إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } حَتَّى خَتَمَهَا . } وَأُمًّا حَدِيثُ " الزَّلْزَلَةِ " و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَرَأَ إذَا زُلْزِلَتْ عَدَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْقُرْآنِ . وَمَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ عَدَلَتْ لَهُ رُبُعَ الْقُرْآنِ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا زُلْزِلَتِ } تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ } رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا : غَرِيبٌ . وَأَمَّا حَدِيثُ ( الْفَاتِحَةِ فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ابْنِ الْمُعَلَّى قَالَ : كُنْت أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَجِبْهُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت أُصَلِّي . قَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ } ثُمَّ قَالَ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ قَالَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ } . وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدُ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي بْنِ كَعْبٍ أَلَا أُعَلِّمُك سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا - قَالَ - فَإِنِّي أَرْجُو

أَلَا تَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْبَابِ حَتَّى تَعْلَمَهَا وَقَالَ فِيهِ كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَرَأْت عَلَيْهِ أُمَّ الْقُرْآنِ فَقَالَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا إنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيته } . وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كريز مُرْسَلًا . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } } . وَفِي لَفْظٍ : { قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ الْمُعَوِّذَتَانِ } فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمْ يُرَ مِثْلُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ الْفَاتِحَةِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ فَضْلَ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي كَوْنِ الْجَمِيعِ كَلَامُ اللَّهِ فَهَذَا السُّؤَالُ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِي : مَا مَعْنَى كَوْنِ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ ؟

فَنَقُولُ :
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ " مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ " وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِيهَا نِزَاعًا مُنْتَشِرًا فَطَوَائِفُ يَقُولُونَ : بَعْضُ كَلَامِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ : حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ ( الْفَاتِحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ مِثْلُهَا . وَأَخْبَرَ عَنْ سُورَةِ ( الْإِخْلَاصِ ) أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَعَدْلُهَا لِثُلُثِهِ يَمْنَعُ مُسَاوَاتَهَا لِمِقْدَارِهَا فِي الْحُرُوفِ . وَجَعَلَ ( آيَةَ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا وَكَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي بْنِ كَعْبٍ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَك أَعْظَمُ ؟ قَالَ : قُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : فَقُلْت : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قَالَ : فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ : ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ وَزَادَ فِيهِ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ } . وَرُوِيَ أَنَّهَا { سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ . } وَقَالَ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ : { لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ اللَّهِ لِكَوْنِ تِلْكَ الْآيَةِ قَدْ يَأْتِي بِمَثَلِهَا تَارَةً أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا أُخْرَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ

الْآيَاتِ تَتَمَاثَلُ تَارَةً وَتَتَفَاضَلُ أُخْرَى . وَأَيْضًا فَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ جَمِيعُهَا كَلَامُ اللَّهِ مَعَ عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ . قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَغَيْرِ الْمُنَزَّلَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَجِيدًا وَكَرِيمًا وَعَزِيزًا . وَقَدْ تَحَدَّى الْخَلْقَ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِمِثْلِ عَشْرِ سُورٍ مِنْهُ أَوْ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ فَقَالَ : { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ } . وَقَالَ { فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } . وَقَالَ : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } وَخَصَّهُ بِأَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا هُوَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقْرَأَ غَيْرَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِ وَلَا بِدُونِ قِرَاءَتِهِ وَلَا يُصَلِّي بِلَا قُرْآنٍ ، فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ

مَقَامَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ لَا يَقُومُ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ مَقَامَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ قِيلَ بِأَنَّهَا فَرْضٌ تُعَادُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا أَوْ قِيلَ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ يَأْثَمُ تَارِكُهَا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَوْ قِيلَ إنَّهَا سُنَّةٌ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ قِرَاءَةَ غَيْرِهَا مُسَاوٍ لِقِرَاءَتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَخُصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ لَا يُمَسُّ مُصْحَفُهُ إلَّا طَاهِرٌ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ - مِثْلَ سَعْدٍ وَسَلْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ - وَجَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَمَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ كَتَبَهُ لَهُ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَّةُ . وَتَفْضِيلُ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِأَحْكَامِ تُوجِبُ تَشْرِيفَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ وَهَذَا خِلَافُ مَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي شَرْعِهِ بَلْ وَفِي خَلْقِهِ وَخِلَافُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ مَعَ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَبَشِّرْ عِبَادِي } { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } . فَدَلَّ عَلَى

أَنَّ فِيمَا أُنْزِلَ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ سَوَاءٌ كَانَ الْأَحْسَنُ هُوَ وَالنَّاسِخُ الَّذِي يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ دُونَ الْمَنْسُوخِ إذْ كَانَ لَا يَنْسَخُ آيَةً إلَّا يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَوْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ هُوَ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَلَامُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ثُلُثٌ مِنْهُ أَحْكَامٌ وَثُلُثٌ مِنْهُ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَثُلُثٌ مِنْهُ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ . وَهَذِهِ السُّورَةُ جَمَعَتْ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ . وَمِثْلَ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمْعَانِي الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ " الِاصْطِلَامِ " وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرْآنِ لَا تَخْتَصُّ بِالْفَاتِحَةِ قُلْت : سَائِرُ الْأَحْكَامِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْعُمُومِ وَهَذَا عَلَى الْخُصُوصِ بِدَلِيلِ أَنَّ عِنْدَنَا قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَعِنْدَكُمْ عَلَى السُّنَّةِ . قَالَ : وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ الْفَاتِحَةُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ امْتَازَ عَنْ غَيْرِهِ بِالْإِعْجَازِ وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْجَازُ سُورَةٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ أَشْرَفُ السُّوَرِ لِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَلِأَنَّهَا تَصْلُحُ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ السُّورِ وَلَا

تَصْلُحُ جَمِيعُ السُّورِ عِوَضًا عَنْهَا وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا تَشْتَمِلُ سُورَةٌ مَا عَلَى قَدْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ وَذَلِكَ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ لِلرَّبِّ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْعَبْدِ . فَإِذَا صَارَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَشْرَفَ السُّوَرِ وَكَانَتْ الصَّلَاةُ أَشْرَفَ الْحَالَاتِ فَتَعَيَّنَتْ أَشْرَفَ السُّوَرِ فِي أَشْرَفِ الْحَالَاتِ . هَذَا لَفْظُهُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَشْرَفُ السُّوَرِ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْحَالَاتِ وَبَيَّنُوا مِنْ شَرَفِهَا عَلَى غَيْرِهَا مَا ذَكَرُوهُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْقَاضِي أَبِي خَازِمِ بْنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ قَالَ فِي تَعْلِيقِهِ - وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْت - قَالَ فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ : أَمَّا الطَّرِيقُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ : الصَّلَاةُ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ فِيهَا الْقِرَاءَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهَا أَشْرَفُ السُّورِ وَالْفَاتِحَةُ أَشْرَفُ السُّوَرِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ . قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي تَمْهِيدِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَمْدَ أَشْرَفُ السُّوَرِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ قَالَ : وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَشْرَفُ فَالنَّصُّ وَالْمَعْنَى وَالْحَكَمُ : أَمَّا النَّصُّ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ غَيْرِهَا . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ

الخدري عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَاتِحَةُ الْكِتَابُ شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ } . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ مِنْ السَّمَاءِ أَوْدَعَ عُلُومَهَا أَرْبَعَةً مِنْهَا : التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْفُرْقَانَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْمُفَصَّلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ . فَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَهَا كَانَ كَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَ جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَمَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْقُرْآنَ . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ قَابَلَهَا بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ فَقَالَ : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا يُدَانِيهَا غَيْرُهَا فِيهَا قُلْت : هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا هِيَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ . قَالَ : وَلِأَنَّهَا تُسَمَّى " أُمَّ الْقُرْآنِ " وَأُمُّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ وَمَادَّتُهُ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهَ مَكَّةَ " أُمَّ الْقُرَى " لِشَرَفِهَا عَلَيْهِنَّ . وَلِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سُورَةٌ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ لِلرَّبِّ تَعَالَى وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي } الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنَزِّلْ مِثْلَهَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَيَسَّرَ قِرَاءَتُهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا لَا يَتَيَسَّرُ غَيْرُهَا مِنْ الْقُرْآنِ .

وَتُضْرَبُ بِهَا الْأَمْثَالُ وَلِهَذَا يُقَالُ : فُلَانٌ يَحْفَظُ الشَّيْءَ مِثْلَ الْفَاتِحَةِ وَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَغَيْرُهَا لَا يُسَاوِيهَا فِي هَذَا فَاخْتَصَّتْ بِالشَّرَفِ وَلِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تَثَنَّى قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ . قَالَ بَعْضُهُمْ : ثُنِّيَ نُزُولُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت : وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ . قَالَ : وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ تُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَيُكْرَهُ الْإِخْلَالُ بِهَا وَلَوْلَا أَنَّهَا أَشْرَفُ لَمَا اخْتَصَّتْ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَ الْمُنَازِعِينَ - يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِقِرَاءَتِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ . فَنَقُولُ : لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ رُكْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِرُكْنِ فَإِنْ كَانَتْ رُكْنًا وَجَبَ أَنْ لَا تُجْبَرَ بِالسُّجُودِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُكْنًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ سُجُودٌ . قُلْت : يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَرْكِ وَاجِبٍ فِي حَالِ الْعَمْدِ فَإِذَا سَهَا عَنْهُ وَجَبَ لَهُ السُّجُودُ وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَإِذَا تَعَمَّدَ تَرْكَهُ وَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ بِخِلَافِ مَنْ سَهَا عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ فَإِنَّ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْبِرَ مَا تَرَكَهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ لِأَنَّ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَهُمْ مَا إذَا تَرَكَهُ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ . كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ سَهْوًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ زَادَ عَمْدًا لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ . لَكِنَّ مَالِكًا وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا يَقُولَانِ :

مَا كَانَ وَاجِبًا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِذَا تَرَكَهُ سَهْوًا فَمِنْهُ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَمِنْهُ مَا يَنْجَبِرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَتَرْكُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَتَرْكُ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ عَمْدُهُ وَيَجِبُ السُّجُودُ لِسَهْوِهِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ : الْوَاجِبُ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضِ - كَالْفَاتِحَةِ - إذَا تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يُفَرِّقُ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْوَاجِبِ . وَلَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَجِّ هُوَ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ قَالَ إنَّ الْفَاتِحَةَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهَا . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَأَمَّا { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي . هَلْ تَعْلَمُ سُورَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا ؟ } فَمَعْنَاهُ مِثْلُهَا فِي جَمْعِهَا لِمَعَانِي الْخَيْرِ لِأَنَّ فِيهَا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ وَخَيْرٍ مِنْهُ لَا مِنْ سِوَاهُ فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ حُمِدَ غَيْرُهُ فَإِلَيْهِ يَعُودُ الْحَمْدُ . وَفِيهَا التَّعْظِيمُ لَهُ وَأَنَّهُ الرَّبُّ لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَالْمُسْتَعَانُ . وَفِيهَا تَعْلِيمُ الدُّعَاءِ وَالْهُدَى وَمُجَانَبَةُ طَرِيقِ مَنْ ضَلَّ وَغَوَى . وَالدُّعَاءُ لُبَابُ الْعِبَادَةِ فَهِيَ أَجْمَعُ سُورَةٍ لِلْخَيْرِ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ مِثْلُهَا عَلَى هَذِهِ

الْوُجُوهِ . قَالَ : وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَلَا يُجْزِئُ غَيْرُهَا عَنْهَا . وَلَيْسَ هَذَا بِتَأْوِيلِ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ . قُلْت : يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ فِي هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كَوْنُ الصَّلَاةِ لَا تُجْزِئُ إلَّا بِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْأَوَّلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّهَا أَفْضَلُ السُّوَرِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ تَفْضِيلِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ وَأَنَّ السَّلَفَ كُلَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِذَلِكَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ الْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يُفَضِّلُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَقَالَ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } .
" وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ " قِيلَ إنَّهُ مَصْدَرٌ وَقِيلَ إنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ . قِيلَ : الْمَعْنَى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الِاقْتِصَاصِ كَمَا يُقَالُ نُكَلِّمُك أَحْسَنَ التَّكْلِيمِ وَنُبَيِّنُ لَك أَحْسَنَ الْبَيَانِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : نَحْنُ نُبَيِّنُ لَك أَحْسَنَ الْبَيَانِ . وَالْقَاصُّ الَّذِي يَأْتِي بِالْقِصَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا . قَالَ وَقَوْلُهُ : { بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } أَيْ بِوَحْيِنَا إلَيْك هَذَا الْقُرْآنَ وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْك هَذَا الْقُرْآنَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : نَقْرَأُ

عَلَيْك أَحْسَنَ الْقِرَاءَةِ وَنَتَلُوا عَلَيْك أَحْسَنَ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ مَا يُقَصُّ أَيْ أَحْسَنَ الْأَخْبَارِ الْمَقْصُوصَاتِ كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وَقَالَ : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى : { فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } وَقَوْلُهُ : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } الْمُرَادُ خَبَرُهُمْ وَنَبَؤُهُمْ وَحَدِيثُهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْمَصْدَرِ . وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْمَعْنَى كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَنْصُوبَ قَدْ جَمَعَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُبَايِنُ فِيهَا الْفِعْلُ الْمَفْعُولَ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا انْتَصَبَ بِهَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ الْمَعْنَى الْآخَرُ . وَمَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ مِنْ النُّحَاةِ - كَالزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ - قَالُوا : الْقَصَصُ مَصْدَرٌ يُقَالُ قَصَّ أَثَرَهُ يَقُصُّهُ قَصَصًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } . وَكَذَلِكَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَتَقَصَّصَ وَقَدْ اقْتَصَصْت الْحَدِيثَ : رَوَيْته عَلَى وَجْهِهِ وَقَدْ اقْتَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ قَصَصًا . وَلَيْسَ الْقَصَصُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ قِصَّةٍ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ . فَإِنَّ ذَلِكَ يُقَالُ فِي قِصَصٍ بِالْكَسْرِ وَاحِدُهُ قِصَّةٌ وَالْقِصَّةُ هِيَ الْأَمْرُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُقَصُّ فِعْلَةُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَجَمْعُهُ قِصَصٌ بِالْكَسْرِ . وَقَوْلُهُ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } بِالْفَتْحِ لَمْ يَقُلْ أَحْسَنَ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَلَكِنْ

بَعْضُ النَّاسِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَأَنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ قِصَّةُ يُوسُفَ وَذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . ثُمَّ ذَكَرُوا : لِمَ سُمِّيَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ؟ فَقِيلَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةٌ تَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالنُّكَتِ مَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْقِصَّةُ . وَقِيلَ : لِامْتِدَادِ الْأَوْقَاتِ بَيْنَ مُبْتَدَاهَا وَمُنْتَهَاهَا . وَقِيلَ لِحُسْنِ مُحَاوَرَةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى أَذَاهُمْ وَإِغْضَائِهِ عَنْ ذِكْرِ مَا تَعَاطَوْهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَكَرَمِهِ فِي الْعَفْوِ . وَقِيلَ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَسِيَرِ الْمُلُوكِ وَالْمَمَالِيكِ وَالتُّجَّارِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمَكْرِهِنَّ وَحِيَلِهِنَّ وَفِيهَا أَيْضًا ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْفِقْهِ وَالسِّيَرِ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالسِّيَاسَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَتَدْبِيرِ الْمَعَاشِ فَصَارَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَقِيلَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَبِيبِ وَالْمَحْبُوبِ . وَقِيلَ " أَحْسَنُ " بِمَعْنَى أَعْجَبَ . وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ " الْقَصَصَ " بِالْفَتْحِ هُوَ النَّبَأُ وَالْخَبَرُ وَيَقُولُونَ هِيَ أَحْسَنُ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ :
( أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) قِصَّةَ يُوسُفَ وَحْدَهَا بَلْ هِيَ مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْسَنِ الْقَصَصِ

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ } { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي قَصَصِ الْمُرْسَلِينَ وَأَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَاقِبَتُهُمْ بِالنَّصْرِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ وَلِهَذَا هِيَ أَعْظَمُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ ثَنَّاهَا اللَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا وَبَسَطَهَا وَطَوَّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا ؛ بَلْ قَصَصُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُرْسَلِينَ - أَعْظَمُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَلِهَذَا ثَنَّى اللَّهُ تِلْكَ الْقَصَصَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يُثَنِّ قِصَّةَ يُوسُفَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ عَادُوا يُوسُفَ لَمْ يُعَادُوهُ عَلَى الدِّينِ بَلْ عَادَوْهُ عَدَاوَةً دُنْيَوِيَّةً وَحَسَدُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ أَبِيهِ لَهُ وَظَلَمُوهُ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ وَابْتُلِيَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَنْ ظَلَمَهُ وَبِمَنْ دَعَاهُ إلَى الْفَاحِشَةِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَفِي هَذَا وَابْتُلِيَ أَيْضًا بِالْمُلْكِ فَابْتُلِيَ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَهَذَا فَكَانَتْ قِصَّتُهُ مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ وَهِيَ

أَحْسَنُ مِنْ الْقَصَصِ الَّتِي لَمْ تُقَصَّ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ يَظْلِمُونَ وَيَحْسُدُونَ وَيَدْعُونَ إلَى الْفَاحِشَةِ وَيُبْتَلَوْنَ بِالْمُلْكِ لَكِنْ لَيْسَ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ مِثْلَ يُوسُفَ وَلَا فِيهِمْ مَنْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَحْسَنَ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِثْلَ يُوسُفَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَقِصَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا هِيَ فِي جِنْسِهَا أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهَا . فَقِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَحْسَنُ قَصَصِ الْمُلُوكِ وَقِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ أَحْسَنُ قَصَصِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا قَصَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا لَمْ يَقُصُّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنُ مَا قُصَّ فِي الْقُرْآنِ . وَأَيْنَ مَا جَرَى لِيُوسُفَ مِمَّا جَرَى لِمُوسَى وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الرُّسُلِ وَأَيْنَ مَا عُودِيَ أُولَئِكَ مِمَّا عُودِيَ فِيهِ يُوسُفُ وَأَيْنَ فَضْلُ أُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَعُلُوُّ دَرَجَتِهِمْ مِنْ يُوسُفَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ؟ وَأَيْنَ نَصْرُ أُولَئِكَ مِنْ نَصْرِ يُوسُفَ ؟ فَإِنَّ يُوسُفَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَأَذَلَّ اللَّهُ الَّذِينَ ظَلَمُوهُ ثُمَّ تَابُوا فَكَانَ فِيهَا مِنْ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْمَظْلُومَ الْمَحْسُودَ إذَا صَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ وَأَنَّ الظَّالِمَ الْحَاسِدَ

قَدْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَعْفُو عَنْهُ وَأَنَّ الْمَظْلُومَ يَنْبَغِي لَهُ الْعَفْوُ عَنْ ظَالِمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ . وَبِهَذَا { اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ أَذَلَّ اللَّهُ لَهُ الَّذِينَ عَادُوهُ وَحَارَبُوهُ مِنْ الطُّلَقَاءِ - فَقَالَ : مَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ فَقَالُوا : نَقُولُ أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ عَمٍّ كَرِيمٌ . فَقَالَ : إنِّي قَائِلٌ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } } . وَكَذَلِكَ { عَائِشَةُ لَمَّا ظُلِمَتْ وَافْتُرِيَ عَلَيْهَا وَقِيلَ لَهَا : إنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ فَقَالَتْ فِي كَلَامِهَا : أَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } } . فَفِي قِصَّةِ يُوسُفَ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِبْرَةِ لِلْمَظْلُومِ وَالْمَحْسُودِ وَالْمُبْتَلَى بِدَوَاعِي الْفَوَاحِشِ وَالذُّنُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . لَكِنْ أَيْنَ قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَالْمَسِيحِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ قِصَّتُهُ أَنَّهُ دَعَا الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ وَآذَوْا مَنْ آمَنَ بِهِ ؟ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أُوذُوا اخْتِيَارًا مِنْهُمْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فَعُودُوا وَأُوذُوا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ بِاخْتِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْلَا إيمَانُهُمْ وَدَعْوَتُهُمْ الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ لَمَا أُوذُوا وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أُوذِيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا أُخِذَ يُوسُفُ مِنْ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ مِحْنَةُ يُوسُفَ بِالنِّسْوَةِ وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَاخْتِيَارِهِ السِّجْنَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ

أَعْظَمَ مِنْ إيمَانِهِ وَدَرَجَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَجْرِهِ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِ إخْوَتِهِ لَهُ ؛ وَلِهَذَا يَعْظُمُ يُوسُفُ بِهَذَا أَعْظَمَ مِمَّا يَعْظُمُ بِذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَهَذَا كَالصَّبْرِ عَنْ الْمَعَاصِي مَعَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ فَالْأَوَّلُ أَعْظَمُ وَهُوَ صَبْرُ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : أَفْعَالُ الْبِرِّ يَفْعَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَلَنْ يَصْبِرَ عَنْ الْمَعَاصِي إلَّا صِدِّيقٌ وَيُوسُفُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . وَأَمَّا مَنْ يُظْلَمُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَيَصْبِرُ فَهَذَا كَثِيرٌ وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سَلْوَ الْبَهَائِمِ . وَكَذَلِكَ إذَا مُكِّنَ الْمَظْلُومُ وَقَهَرَ ظَالِمَهُ فَتَابَ الظَّالِمُ وَخَضَعَ لَهُ فَعَفْوُهُ عَنْهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ وَالْفَضَائِلِ لَكِنَّ هَذَا يَفْعَلُهُ خَلْقٌ كَثِيرُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَعُقَلَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ حِلْمَ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ أَجْمَعُ لِأَمْرِهِمْ وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُمْ وَتَأْلِيفِهِمْ لِقُلُوبِ النَّاسِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ مِنْ أَحْلَمِ النَّاسِ وَكَانَ الْمَأْمُونُ حَلِيمًا حَتَّى كَانَ يَقُولُ : لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَحَبَّتِي فِي الْعَفْوِ تَقَرَّبُوا إلَيَّ بِالذُّنُوبِ وَلِهَذَا لَمَّا قَدَرَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِي الْمُلْكِ - وَهُوَ عَمُّهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ - عَفَا عَنْهُ . وَأَمَّا الصَّبْرُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَالْهَوَى الْغَالِبِ لِلَّهِ لَا رَجَاءً لِمَخْلُوقِ وَلَا خَوْفًا مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الدَّوَاعِي إلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَاخْتِيَارِهِ الْحَبْسَ الطَّوِيلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ يُوسُفُ : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } فَهَذَا لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ إلَّا فِي خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَائِهِ

الْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَهَذَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَلِهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ ذَنَبٌ أَصْلًا بَلْ الْهَمُّ الَّذِي هَمَّ بِهِ لَمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ تَوْبَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَآدَمَ ودَاوُد وَنُوحٍ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فَاحِشَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَوْبَاتُهُمْ مِنْ أُمُورٍ أُخَرَ هِيَ حَسَنَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ لِيُوسُفَ نَظِيرٌ فِيمَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ دَوَاعِي الْفَاحِشَةِ وَتَقْوَاهُ وَصَبْرِهِ فِي ذَلِكَ . وَإِنَّمَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ قَلْبُهُ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ } وَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى لِئَلَّا يَفْعَلَ الْفَاحِشَةَ أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِ إخْوَتِهِ فَكَيْفَ بِصَبْرِ الرُّسُلِ عَلَى أَذَى الْمُكَذِّبِينَ لِئَلَّا يَتْرُكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنْ

الْمُنْكَرِ ؟ فَهَذَا الصَّبْرُ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذْ كَانَ الْجِهَادُ مَقْصُودًا بِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَالْجِهَادُ وَالصَّبْرُ فِيهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ الطَّوِيلِ - وَهُوَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ - فَالصَّبْرُ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ صَبْرُ الْمُهَاجِرِ الَّذِي هَجَرَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَصَبْرُ الْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ وَجَاهَدَ عَدُوَّ اللَّهِ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَالْمُهَاجِرُ الصَّابِرُ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ إنَّمَا جَاهَدَ نَفْسَهُ وَشَيْطَانَهُ ثُمَّ يُجَاهِدُ عَدُوَّ اللَّهِ الظَّاهِرَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَصَبْرُ الْمَظْلُومِ صَبْرُ الْمُصَابِ . لَكِنَّ الْمُصَابَ بِمُصِيبَةٍ سَمَاوِيَّةٍ تَصْبِرُ نَفْسُهُ مَا لَا تَصْبِرُ نَفْسُ مَنْ ظَلَمَهُ النَّاسُ فَإِنَّ ذَاكَ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ هَذَا فَتَيْأَسُ نَفْسُهُ مِنْ الدَّفْعِ وَالْمُعَاقَبَةِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ بِخِلَافِ الْمَظْلُومِ الَّذِي ظَلَمَهُ النَّاسُ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَسْتَشْعِرُ أَنَّ ظَالِمَهُ يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَعُقُوبَتُهُ وَأَخْذُ ثَأْرِهِ مِنْهُ فَالصَّبْرُ عَلَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ كَصَبْرِ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَهَذَا يَكُونُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ فَيَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ كَالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ وَيَكُونُ أَيْضًا لِيَنَالَ ثَوَابَ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ

النَّاسِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَلِيُسْلِمَ قَلْبَهُ مِنْ الْغِلِّ لِلنَّاسِ وَكِلَا النَّوْعَيْنِ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِذُنُوبِهِ وَهُوَ مِمَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ وَأَيْضًا فَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْجَزَعَ مِمَّا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ . وَإِنْ ارْتَقَى إلَى الرِّضَا رَأَى أَنَّ الرِّضَا جَنَّةُ الدُّنْيَا وَمُسْتَرَاحُ الْعَابِدِينَ وَبَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ . وَإِنْ رَأَى ذَلِكَ نِعْمَةً لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ قَلْبِهِ وَدِينِهِ وَقُرْبِهِ إلَى اللَّهِ وَتَكْفِيرَ سَيِّئَاتِهِ وَصَوْنَهُ عَنْ ذُنُوبٍ تَدْعُوهُ إلَيْهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ شَكَرَ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ . فَالْمَصَائِبُ السَّمَاوِيَّةُ وَالْآدَمِيَّةُ تَشْتَرِكُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَعِلْمُهُمْ بِهَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَصَائِبِ وَغَيْرِهَا مُتَبَايِنَةً تَبَايُنًا عَظِيمًا . ثُمَّ إذَا شَهِدَ الْعَبْدُ الْقَدَرَ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَهُوَ الْخَالِقُ لَهُ فَهُوَ مَعَ الصَّبْرِ يُسَلِّمُ لِلرَّبِّ الْقَادِرِ الْمَالِكِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهَذَا حَالُ الصَّابِرِ وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلرَّبِّ الْمُحْسِنِ الْمُدَبِّرِ لَهُ بِحُسْنِ اخْتِيَارِهِ الَّذِي { لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ : إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا تَسْلِيمُ رَاضٍ لِعِلْمِهِ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ وَهَذَا يُورِثُ الشُّكْرَ . وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلرَّبِّ الْمُحْسِنِ إلَيْهِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَيْهِ بِنِعَمِ عَظِيمَةٍ . وَإِنْ لَمْ

يَرَ هَذَا نِعْمَةً فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ تَسْلِيمَ رَاضٍ غَيْرَ شَاكِرٍ . وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ فَإِنَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إلَّا لِحِكْمَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحَمْدِهِ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَهُ . فَهَذَا تَسْلِيمُ عَبْدٍ عَابِدٍ حَامِدٍ وَهَذَا مِنْ الْحَامِدِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ وَمِنْ بَيْنِهِمْ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ . وَهَذَا يَكُونُ الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ وَنِعْمَةً مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ . لَكِنْ يَكُونُ حَمْدُهُ لِلَّهِ وَرِضَاهُ بِقَضَائِهِ مِنْ حَيْثُ عَرَفَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ وَعَبَدَهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأُلُوهِيَّةَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَيَكُونُ صَبْرُهُ وَرِضَاهُ وَحَمْدُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ وَهَذَا يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْإِلَهُ عِنْدَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا مُجَرَّدَ رُبُوبِيَّتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ مُجَرَّدَ إحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ فَإِنَّهُمَا مَشْهَدَانِ نَاقِصَانِ قَاصِرَانِ وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِمَا مَنْ نَقَصَ عِلْمُهُ بِاَللَّهِ وَبِدِينِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ كَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَشْهَدُ أُولَئِكَ وَالثَّانِي مَشْهَدُ هَؤُلَاءِ وَشُهُودُ رُبُوبِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مَعَ شُهُودِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ مَعَ شُهُودِ إلَهِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَمَجْدِهِ هُوَ مَشْهَدُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ

لِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فِي عُمُومِ الْمَصَائِبِ وَمَا يَكُونُ بِأَفْعَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُ فِيهِ كَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ عَنْ النَّاسِ . وَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ هَذَا وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرُ عَنْ الْفَاحِشَةِ مَعَ قُوَّةِ الدَّاعِي إلَيْهَا فَهَذَا الصَّبْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرِ بَلْ وَأَعْظَمُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ . وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعَدَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ : { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } فَوَصَفَهُمْ بِالْكَرَمِ وَالْحِلْمِ وَبِالْإِنْفَاقِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ عَنْ النَّاسِ . ثُمَّ لَمَّا جَاءَتْ الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَاتُ وَصَفَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَقَالَ { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ

يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } فَوَصَفَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَتَرْكِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا لَا بِتَرْكِ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ : فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْمَنْطِقُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . وَفِي الْحَدِيثِ { كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } . فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْكَبِيرَةِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقَعُ فِي الْكَبِيرَةِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَيُؤْمَرُونَ أَنْ لَا يُصِرُّوا عَلَى صَغِيرَةٍ فَإِنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ . وَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَرَ عَلَى الذَّنْبِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا هَمٌّ تَرَكَهُ لِلَّهِ كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ بَعْضُ الْمُقَدِّمَاتِ مِثْلَ حَلِّ السَّرَاوِيلِ وَالْجُلُوسِ مَجْلِسَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا يُصَدَّقُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِثْلَ هَذِهِ الإسْرائيليَّاتِ إذَا لَمْ تُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْرَفْ صِدْقُهَا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهَا وَلَا تَكْذِيبُهَا إلَّا بِدَلِيلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ

وَالْفَحْشَاءَ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَ صَغِيرَةً لَتَابَ مِنْهَا . وَالْقُرْآنُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَوْبَتِهِ . وَمَنْ وَقَعَ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْ صُرِفَ عَنْهُ بَلْ يَكُونُ قَدْ وَقَعَ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهُ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا . وَقَدْ شَهِدَتْ النِّسْوَةُ لَهُ أَنَّهُنَّ مَا عَلِمْنَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَلَوْ كَانَ قَدْ بَدَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ لَكَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ رَأَتْ ذَلِكَ وَهِيَ مِنْ النِّسْوَةِ اللَّاتِي شَهِدْنَ وَقُلْنَ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَقَالَتْ مَعَ ذَلِكَ : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } وَقَالَتْ : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } . وَقَوْلُهُ ( سُوءٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَرَ مِنْهُ سُوءًا فَإِنَّ الْهَمَّ فِي الْقَلْبِ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ وَلَوْ اطَّلَعَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذًا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ حَسَنَةً وَلَوْ تَرَكَهُ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً فَإِنَّهُ لَا إثْمَ فِيهِ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ أَوْ الْعَمَلِ . وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ أَعْظَمُ وَالْوَاقِعُ فِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمَا فَعَلَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَمُجَاهَدَةِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلِهَذَا كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَمَا صَبَرُوا عَلَيْهِ وَعَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي صَبَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ وَعِبَادَتُهُمْ لِلَّهِ

وَطَاعَتُهُمْ وَتَقْوَاهُمْ وَصَبْرُهُمْ بِمَا فَعَلُوهُ أَعْظَمُ مِنْ طَاعَةِ يُوسُفَ وَعِبَادَتِهِ وَتَقْوَاهُ أُولَئِكَ أُولُوا الْعَزْمِ الَّذِينَ خَصَّهُمْ اللَّهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ تَطْلُبُ مِنْهُمْ الْأُمَمُ الشَّفَاعَةَ وَبِهِمْ أَمَرَ خَاتَمُ الرُّسُلِ أَنْ يُقْتَدَى فِي الصَّبْرِ فَقِيلَ لَهُ : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } فَقِصَصُهُمْ أَحْسَنُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ ؛ وَلِهَذَا ثَنَّاهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ لَا سِيَّمَا قِصَّةُ مُوسَى . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : أَحْسَنُ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ حَدِيثُ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ : { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } قَدْ قِيلَ إنَّهُ مَصْدَرٌ وَقِيلَ إنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ . لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْقَصَصَ مَفْعُولٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَصْدَرًا فَقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَقْصُوصِ كَمَا فِي لَفْظِ الْخَبَرِ وَالنَّبَأِ وَالِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَقَدْ قَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ قَصَصًا وَالِاسْمُ أَيْضًا الْقَصَصُ بِالْفَتْحِ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ حَتَّى صَارَ أَغْلَبَ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ أَحْسَنَ الْقَصَصِ كَقَوْلِهِ : نُخْبِرُك أَحْسَنَ الْخَبَرِ وَنُنَبِّئُك أَحْسَنَ النَّبَأِ

وَنُحَدِّثُك أَحْسَنَ الْحَدِيثِ . وَلَفْظُ " الْكَلَامِ " يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْقَوْلِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهِ فِعْلٌ مِنْ الْقَائِلِ هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَالْقَوْلُ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَلِهَذَا تَارَةً يَجْعَلُ الْقَوْلَ نَوْعًا مِنْ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِعَمَلِ وَتَارَةً يُجْعَلُ قَسِيمًا لَهُ يُقَالُ : الْقَوْلُ وَالْعَمَلُ وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي لَفْظِ " الْقَصَصِ " وَ " الْبَيَانِ " وَ " الْحَدِيثِ " وَ " الْخَبَرِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِذَا أُرِيدَ بِالْقِصَصِ وَنَحْوِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي مُسَمَّاهُ الْفِعْلُ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقَوْلِ وَالْقَوْلُ تَابِعٌ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلُ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْفِعْلِ تَابِعٌ لِلْفِعْلِ . فَالْمَصَادِرُ الْجَارِيَةُ عَلَى سُنَنِ الْأَفْعَالِ يُرَادُ بِهَا الْفِعْلُ كَقَوْلِك كَلَّمْته تَكْلِيمًا وَأَخْبَرْته إخْبَارًا وَأَمَّا مَا لَمْ يَجْرِ عَلَى سُنَنِ الْفِعْلِ - مِثْلَ الْكَلَامِ وَالْخَبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّ هَذَا إذَا أُطْلِقَ أُرِيدَ بِهِ الْقَوْلُ وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي لَفْظِ الْقَصَصِ فَإِنَّ مَصْدَرَهُ الْقِيَاسِيَّ قَصًّا مِثْلَ عَدَّهُ عَدًّا وَمَدَّهُ مَدًّا وَكَذَلِكَ قَصَّهُ قَصًّا وَأَمَّا قَصَّصَ فَلَيْسَ هُوَ قِيَاسُ مَصْدَرِ الْمُضَعَّفِ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَى كَوْنِهِ مَصْدَرًا إلَّا قَوْلَهُ { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ . بَلْ قَدْ يَكُونُ اسْمَ مَصْدَرٍ أُقِيمَ مَقَامَهُ كَقَوْلِهِ : { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } وَإِنْ جُعِلَ مَصْدَرَ قَصَّ الْأَثَرَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ قَصَّ الْحَدِيثَ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ خَبَرٌ وَنَبَأٌ فَكَانَ لَفْظُ قَصَصٍ كَلَفْظِ خَبَرٍ وَنَبَأٍ وَكَلَامٍ .

وَأَسْمَاءُ الْمَصَادِرِ فِي بَابِ الْكَلَامِ تَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ نَفْسَهُ وَتَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الْقَائِلِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَاللُّزُومِ فَإِنَّك إذَا قُلْت : الْكَلَامُ وَالْخَبَرُ وَالْحَدِيثُ وَالنَّبَأُ وَالْقَصَصُ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ قَوْلِك : التَّكْلِيمُ وَالْإِنْبَاءُ وَالْإِخْبَارُ وَالتَّحْدِيثُ وَلِهَذَا يُقَالُ إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَاسْمُ الْمَصْدَرِ يَنْتَصِبُ عَلَى الْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } فَإِذَا قَالَ : كَلَّمْته كَلَامًا حَسَنًا وَحَدَّثْته حَدِيثًا طَيِّبًا وَأَخْبَرْته أَخْبَارًا سَارَّةً وَقَصَصْت عَلَيْهِ قِصَصًا صَادِقَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا كَقَوْلِك كَلَّمْته تَكْلِيمًا وَأَنْبَأْته إنْبَاءً . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ وَكُلُّ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فَهُوَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ جَازَ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ تَقُولُ : قُلْت قَوْلًا حَسَنًا وَقَدْ أَسْمَعْته قَوْلًا وَلَمْ يَسْمَعْ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَإِنَّمَا سَمِعَ الصَّوْتَ وَتَقُولُ قَالَ يَقُولُ قَوْلًا فَتَجْعَلُهُ مَصْدَرًا وَالصَّوْتُ نَفْسُهُ لَيْسَ هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ إنَّمَا مُسَمَّى الْمَصْدَرِ الْفِعْلُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلصَّوْتِ وَلَكِنَّ هُمَا مُتَلَازِمَانِ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي التِّلَاوَةِ وَالْقُرْآنِ هَلْ هِيَ الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ تَفَطَّنَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ لِمَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَبَبُ الِاشْتِبَاهِ أَنَّ الْمَتْلُوَّ هُوَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ وَالتِّلَاوَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا هَذَا وَقَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ حَرَكَةِ التَّالِي

وَفِعْلِهِ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْأَمْرَانِ جَمِيعًا فَمَنْ قَالَ : التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ أَرَادَ بِالتِّلَاوَةِ نَفْسَ الْقُرْآنِ الْمَسْمُوعِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَتْلُوُّ وَمَنْ قَالَ غَيْرَهُ أَرَادَ بِالتِّلَاوَةِ حَرَكَةَ الْعَبْدِ وَفِعْلَهُ وَتِلْكَ لَيْسَتْ هِيَ الْقُرْآنُ وَمَنْ نَهَى عَنْ أَنْ يُقَالَ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ أَوْ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ فَلِأَنَّ لَفْظَ التِّلَاوَةِ يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ كَمَا نَهَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ أَنْ يُقَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ الْمَلْفُوظُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَيُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَطْلَقَ نَاسٌ آخَرُونَ أَنَّ لَفْظِي بِهِ مَخْلُوقٌ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَمْ يَتَنَازَعْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ وَهَذَا كَانَ تَنَازُعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُ . ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ قَالُوا : التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَأَرَادُوا بِالتِّلَاوَةِ نَفْسَ كَلَامِ اللَّهِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ وَأَرَادُوا بِالْمَتْلُوِّ مَعْنًى وَاحِدًا قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَأَرَادُوا بِالتِّلَاوَةِ نَفْسَ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرْآنِ جَعَلُوا مَا سَمِعَ مِنْ الْأَصْوَاتِ هُوَ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلَّغِ لَهُ عَنْهُ فَزَادَ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْبِدَعِ مَا لَمْ يَكُنْ يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ

السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَجْعَلُ الْمَتْلُوَّ مُجَرَّدَ مَعْنًى وَلَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ - وَغَيْرُهَا مِنْ خَصَائِصِهِمْ - غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ هُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي تِلَاوَةِ الْعِبَادِ لَهُ : هَلْ هِيَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ أَمْ هِيَ الْفِعْلُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنَ ؟ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لَفْظَ " التِّلَاوَةِ " يُرَادُ بِهِ هَذَا وَهَذَا وَلَفْظُ " الْقُرْآنِ " يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي قَلْبِك وَتَقْرَأَهُ بِلِسَانِك . وَقَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : يُقَالُ قَرَأْت الْكِتَابَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ :
ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانَ السُّجُودِ بِهِ * * * يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَهْم إنَّمَا يَسْتَمِعُونَ الْكَلَامَ نَفْسَهُ وَلَا يَسْتَمِعُونَ

مُسَمَّى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْمَعُ فَقَوْلُهُ { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } مِنْ هَذَا الْبَابِ مِنْ بَابِ نَقْرَأُ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ وَنَتْلُو عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْ قِرَاءَةَ جِبْرِيلَ { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } فَاسْتَمِعْ لَهُ حَتَّى يَقْضِيَ قِرَاءَتَهُ . وَالْمَشْهُورُ فِي قَوْلِهِ { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فَكَذَلِكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لَكِنَّ فِي كِلَاهُمَا مَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فَفِيهِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَمَعْنَى الْمَصْدَرِ جَمِيعًا وَقَدْ يَغْلِبُ هَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } فَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَقَدْ يَغْلِبُ هَذَا تَارَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَقَوْلِهِ : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } وَغَالِبُ مَا يَذْكُرُ لَفْظَ " الْقُرْآنِ " إنَّمَا يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ لَا يُرَادُ بِهِ التَّكَلُّمُ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ . وَمِثْلَ هَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ أَمْرَانِ مُتَلَازِمَانِ إمَّا دَائِمًا وَإِمَّا غَالِبًا فَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَيْهِمَا وَيَغْلِبُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَقَدْ يَقَعُ عَلَى أَحَدِهِمَا مُفْرَدًا كَلَفْظِ " النَّهْرِ " وَ " الْقَرْيَةِ " وَ " الْمِيزَابِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ حَالٌ وَمَحَلُّ فَالِاسْمِ يَتَنَاوَلُ مَجْرَى الْمَاءِ وَالْمَاءُ الْجَارِي وَكَذَلِكَ لَفْظُ

الْقَرْيَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ وَالسُّكَّانَ ثُمَّ تَقُولُ : حَفَرَ النَّهْرَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَجْرَى وَتَقُولُ جَرَى النَّهْرُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ وَتَقُولُ جَرَى الْمِيزَابُ تَعْنِي الْمَاءَ وَنَصَبَ الْمِيزَابَ تَعْنِي الْخَشَبَ . وَقَالَ تَعَالَى { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ } وَالْمُرَادُ السُّكَّانُ فِي الْمَكَانِ وَقَالَ تَعَالَى { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } وَقَالَ تَعَالَى { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } وَالْخَاوِي عَلَى عُرُوشِهِ الْمَكَانُ لَا السُّكَّانُ وَقَالَ تَعَالَى : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْقَرْيَةِ هُمْ السُّكَّانُ كَانَ إرَادَتُهُمْ أَكْثَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ النَّهْرِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَاءُ كَانَ إرَادَتُهُ أَكْثَرَ كَقَوْلِهِ : { وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } وَقَوْلُهُ : { وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا } فَهَذَا كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ حَفَرْنَا النَّهْرَ . وَكَذَلِكَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى نَفْسِ الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِنْ إطْلَاقِهِ عَلَى نَفْسِ التَّكَلُّمِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَالْقَصَصِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ

الْكَلَامِ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِمَّا يُرَادُ بِهَا فِعْلُ الْمُتَكَلِّمِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } الْمُرَادُ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا قَصَّهُ اللَّهُ لَمْ يَخُصَّ بِهِ سُورَةَ يُوسُفَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } وَلَمْ يَقُلْ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْك هَذِهِ السُّورَةَ وَالْآثَارُ الْمَأْثُورَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ وَهُوَ الْمُرَادُ . وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَسَوَاءٌ كَانَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ مَصْدَرًا أَوْ مَفْعُولًا أَوْ جَامِعًا لِلْأَمْرَيْنِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْقَصَصِ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَحْسَنَ كَانَ الْآخَرُ أَحْسَنَ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } كَقَوْلِهِ : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وَالْآثَارُ السَّلَفِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَالسَّلَفُ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ كَمَا أَنَّهُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُتُبِ السَّمَاءِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ كُلَّهُ لَا فَضْلَ لِبَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ { عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلُّوا مِلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } ثُمَّ مَلُّوا مِلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ }

ثُمَّ مَلُّوا مِلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } } . وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ " عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فَقَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ { عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عتبة قَالَ : مَلَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلَّةً فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } قَالَ : ثُمَّ نَعَتَهُ فَقَالَ : { كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ : ثُمَّ مَلُّوا مِلَّةً أُخْرَى فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا شَيْئًا فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ يَعْنُونَ الْقَصَصَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } - إلَى قَوْلِهِ - { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } قَالَ : فَإِنْ أَرَادُوا الْحَدِيثَ دَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْحَدِيثِ وَإِنْ أَرَادُوا الْقَصَصَ دَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْقَصَصِ . } وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ مَرْفُوعًا عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ { عَنْ سَعْدٍ قَالَ : نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْت عَلَيْنَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الر } { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ }

فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا } . وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ أَحْسَنَ الْكَلَامِ نُهُوا عَنْ اتِّبَاعِ مَا سِوَاهُ قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } . وَرَوَى النَّسَائِي وَغَيْرُهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ شَيْئًا مِنْ التَّوْرَاةِ فَقَالَ : لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ . } وَفِي رِوَايَةٍ { مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي . } وَفِي لَفْظٍ : { فَتَغَيَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ عُمَرُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرَى إلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : رَضِينَا بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا . } وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُنْهَوْنَ عَنْ اتِّبَاعِ كُتُبٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ . وَعُمَرُ انْتَفَعَ بِهَذَا حَتَّى أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ الإسْكَنْدَريَّة وُجِدَ فِيهَا كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كُتُبِ الرُّومِ فَكَتَبُوا فِيهَا إلَى عُمَرَ فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْرَقَ وَقَالَ : حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ عرفطة قَالَ : كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إذْ أُتِيَ بِرَجُلِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَسْكَنُهُ بِالسُّوسِ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَنْتَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ العبدي ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : وَأَنْتَ النَّازِلُ بِالسُّوسِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَضَرَبَهُ بِقَنَاةِ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ : مَا ذَنْبِي ؟ قَالَ

فَقَرَأَ عَلَيْهِ { الر } { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَضَرَبَهُ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ : أَنْتَ الَّذِي انتسخت كِتَابَ دَانْيَالَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : اذْهَبْ فَامْحُهُ بِالْحَمِيمِ وَالصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَلَا تَقْرَأْهُ وَلَا تُقْرِئْهُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ . فَقَرَأَ عَلَيْهِ عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ لِيُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ فَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى غَيْرِهِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصَصَ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِسُورَةِ يُوسُفَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ كِتَابِ دَانْيَالَ وَنَحْوِهِ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ . وَكَذَلِكَ مِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَأْثُورَةٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أُتِيَ بِمَا كُتِبَ مِنْ الْكُتُبِ مَحَاهُ وَذَكَرَ فَضِيلَةَ الْقُرْآنِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قتادة { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } قَالَ : مِنْ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ وَأُمُورِ اللَّهِ السَّالِفَةِ فِي الْأُمَمِ { بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْقَصَصِ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ ؛ بَلْ لَفْظُ " الْقَصَصِ " يَتَنَاوَلُ مَا قَصَّهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ غَيْرَ أَخْبَارِ الْأُمَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ

الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَعْرُوفِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّهُ الْأَمِينُ . وَرُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : الْمُهَيْمِنُ الْأَمِينُ قَالَ : عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ وَكَذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : مُصَدِّقًا بِهَذِهِ الْكُتُبِ وَأَمِينًا عَلَيْهَا . وَمِنْ تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ قَالَ : شَهِيدًا وَكَذَلِكَ قَالَ السدي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ : " وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ " عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطِيَّةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وقتادة والسدي وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوِ ذَلِكَ . وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَدْ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ طُلِبَ مِنْهُ إخْرَاجُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مُخْتَصَرًا بِأَصَحِّ الْأَسَانِيدِ وَأَنَّهُ تَحَرَّى إخْرَاجَهُ بِأَصَحِّ الْأَخْبَارِ إسْنَادًا وَأَشْبَعَهَا مَتْنًا وَذَكَرَ إسْنَادَهُ عَنْ كُلِّ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ شَيْئًا . فَالسَّلَفُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُهَيْمِنُ الْمُؤْتَمِنُ الشَّاهِدُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُهَيْمِنَ عَلَى الشَّيْءِ أَعْلَى مِنْهُ مَرْتَبَةً . وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ " الْمُهَيْمِنُ " وَيُسَمَّى الْحَاكِمَ عَلَى النَّاسِ الْقَائِمَ بِأُمُورِهِمْ " الْمُهَيْمِنُ " . قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا : الْمُهَيْمِنُ فِي اللُّغَةِ الْمُؤْتَمِنُ . وَقَالَ الْخَلِيلُ : الرَّقِيبُ الْحَافِظُ وَقَالَ الْخَطَّابِيَّ : الْمُهَيْمِنُ

الشَّهِيدُ . قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ : الْهَيْمَنَةُ الْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ وَالرِّعَايَةُ لَهُ وَأَنْشَدَ : أَلَا إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ مُهَيْمِنُهُ التاليه فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ يُرِيدُ الْقَائِمُ عَلَى النَّاسِ بِالرِّعَايَةِ لَهُمْ . وَفِي مُهَيْمِنٍ قَوْلَانِ : قِيلَ أَصْلُهُ مؤيمن وَالْهَاءُ مُبَدَّلَةٌ مِنْ الْهَمْزَةِ وَقِيلَ بَلْ الْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ . وَهَكَذَا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ قَرَّرَ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَزَادَ ذَلِكَ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا . وَبَيَّنَ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى ذَلِكَ وَقَرَّرَ نُبُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ وَرِسَالَةَ الْمُرْسَلِينَ وَقَرَّرَ الشَّرَائِعَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي بُعِثَتْ بِهَا الرُّسُلُ كُلُّهُمْ . وَجَادَلَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ بِأَنْوَاعِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَبَيَّنَ عُقُوبَاتِ اللَّهِ لَهُمْ وَنَصْرَهُ لِأَهْلِ الْكُتُبِ الْمُتَّبِعِينَ لَهَا وَبَيَّنَ مَا حُرِّفَ مِنْهَا وَبُدِّلَ وَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيَّنَ أَيْضًا مَا كَتَمُوهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِبَيَانِهِ وَكُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ بِأَحْسَنِ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ فَصَارَتْ لَهُ الْهَيْمَنَةُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَهُوَ شَاهِدٌ بِصِدْقِهَا وَشَاهِدٌ بِكَذِبِ مَا حُرِّفَ مِنْهَا وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِقْرَارِ مَا أَقَرَّهُ اللَّهُ وَنَسْخِ مَا نَسَخَهُ فَهُوَ شَاهِدٌ فِي الْخَبَرِيَّاتِ حَاكِمٌ فِي الْأَمْرِيَّاتِ .

وَكَذَلِكَ مَعْنَى " الشَّهَادَةِ " وَ " الْحُكْمِ " يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ صِدْقٍ وَمُحْكَمٍ وَإِبْطَالِ مَا أَبْطَلَهُ مِنْ كَذِبٍ وَمَنْسُوخٍ وَلَيْسَ الْإِنْجِيلُ مَعَ التَّوْرَاةِ وَلَا الزَّبُورِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ بَلْ هِيَ مُتَّبَعَةٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ إلَّا يَسِيرًا نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْإِنْجِيلِ ؛ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ . ثُمَّ إنَّهُ مُعْجِزٌ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْدِرُ الْخَلَائِقُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَفِيهِ دَعْوَةُ الرَّسُولِ وَهُوَ آيَةُ الرَّسُولِ وَبُرْهَانُهُ عَلَى صِدْقِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَفِيهِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ نَفْسُهُ بُرْهَانٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ . وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَبَيَانِ الْآيَاتِ عَلَى تَفْضِيلِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مَا لَوْ جُمِعَ إلَيْهِ عُلُومُ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَكُنْ مَا عِنْدَهُمْ إلَّا بَعْضُ مَا فِي الْقُرْآنِ . وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَأُمُورِ الْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ مَا فِيهِ كَمَالُ النُّفُوسِ وَصَلَاحُهَا وَسَعَادَتُهَا وَنَجَاتُهَا لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّاتِ وَمِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ كالمتفلسفة وَغَيْرِهِمْ إلَّا بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ . وَلِهَذَا لَمْ تَحْتَجْ الْأُمَّةُ مَعَ رَسُولِهَا وَكِتَابِهَا إلَى نَبِيٍّ آخَرَ وَكِتَابٍ آخَرَ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى شَيْءٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ غَيْرُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عِلْمِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُلْهَمِينَ أَوْ مِنْ عِلْمِ أَرْبَابِ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ الَّذِينَ لَا يَعْتَصِمُونَ مَعَ ذَلِكَ بِكِتَابِ مُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إنَّهُ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } . فَعَلَّقَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا فِي أُمَّتِهِ مَعَ جَزْمِهِ بِهِ فِيمَنْ تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْأُمَمَ قَبْلَنَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَى الْمُحَدِّثِينَ كَمَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَى نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيٍّ وَأَمَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَغْنَاهُمْ اللَّهُ بِرَسُولِهِمْ وَكِتَابِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ حَتَّى أَنَّ الْمُحَدِّثَ مِنْهُمْ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِذَا حَدَّثَ شَيْئًا فِي قَلْبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا إنْ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا سِوَاهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ مِنْ الْعِلْمِ الْمُسْتَقِرِّ فِي نُفُوسِ الْأُمَّةِ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ وَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ رَدَّ مِثْلَ هَذَا وَلَا قَالَ : لَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ بَعْضُهُ أَشْرَفُ مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّهُ كُلُّهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ إنَّمَا حَدَثَ هَذَا الْإِنْكَارُ لَمَّا ظَهَرَتْ بِدَعُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ وَجَعَلُوهُ عِضِينَ .
وَمِمَّنْ ذَكَرَ " تَفْضِيلَ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ فِي نَفْسِهِ " أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الإسفرائيني وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَأَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَمِثْلِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالْحَلْوَانِيِّ الْكَبِيرِ وَابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنِ عَقِيلٍ . قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي

" كِتَابِ الْوَاضِحِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " فِي احْتِجَاجِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ بِالسَّنَةِ قَالَ : فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَيْسَتْ السُّنَّةُ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَلَا خَيْرًا مِنْهُ فَبَطَلَ النَّسْخُ بِهَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْمُحَالِ وَهُوَ كَوْنُ خَبَرِهِ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ فَمَا أَدَّى إلَيْهِ فَهُوَ مُحَالٌ . قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : أَصْلُ اسْتِدْلَالِكُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ الْفَضْلُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ فِي حَقِّنَا : إمَّا سُهُولَةٌ فِي التَّكْلِيفِ فَهُوَ خَيْرٌ عَاجِلٌ أَوْ أَكْثَرُ ثَوَابًا لِكَوْنِهِ أَثْقَلَ وَأَشَقَّ وَيَكُونُ نَفْعًا فِي الْآجِلِ وَالْعَاقِبَةِ وَكِلَاهُمَا قَدْ يَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ . وَيَحْتَمِلُ : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَا نَاسِخًا لَهَا بَلْ يَكُونُ تَكْلِيفًا مُبْتَدَأً هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ الْقُرْآنَ النَّاسِخَ وَلَا السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ . قَالُوا : يُوَضِّحُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ لَيْسَ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْرِفُوا اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ خَيْرٍ يَعُودُ إلَى التَّكْلِيفِ لَا إلَى الطَّرِيقِ . وَقَالَ فِي الْجَوَابِ : قَوْلُهُمْ : الْخَيْرُ يَرْجِعُ إلَى مَا يَخُصُّنَا مِنْ سُهُولَةٍ أَوْ ثَوَابٍ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ : " لَكُمْ " . فَلَمَّا حَذَفَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ كَوْنُ النَّاسِخِ خَيْرًا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ وَمِنْ جِهَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي

بِآيَاتِ خَيْرٍ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَعُودُ إلَى الْجِنْسِ كَمَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ : مَا آخُذُ مِنْك دِينَارًا إلَّا أُعْطِيك خَيْرًا مِنْهُ لَا يُعْقَلُ بِالْإِطْلَاقِ إلَّا دِينَارًا خَيْرًا مِنْهُ فَيَتَخَيَّرُ مِنْ الْجِنْسِ أَوَّلًا ثُمَّ النَّفْعِ فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إلَى ثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ غَيْرِ الدِّينَارِ فَلَا وَفِي آخِرِ الْآيَةِ مَا يَشْهَدُ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ قَالَ : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَوَصْفُهُ لِنَفَسِهِ بِالْقُدْرَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ هُوَ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { أَوْ مِثْلِهَا } يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ يَقْتَضِي إطْلَاقَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَنَّثَهَا تَأْنِيثَ الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : نَأْتِ بِآيَةِ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ بِآيَةِ مِثْلِهَا . " قُلْت " : وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَخَفَّ عَمَلًا أَوْ أَشَقَّ وَأَكْثَرَ ثَوَابًا لِأَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ثَابِتَانِ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُبْتَدَأً وَنَاسِخًا فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَيْسَرَ مِنْ غَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشَقَّ فَيَكُونُ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لَازِمَةً لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يُقَالَ مَا نَنْسَخُ مِنْ حُكْمٍ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ أَيْضًا يَكُونُ خَيْرًا وَمَثَلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُمْ إنْ فَسَّرُوا الْخَيْرَ بِكَوْنِهِ أَسْهَلَ فَقَدْ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ أَسْهَلَ فَيَكُونُ خَيْرًا وَإِنْ فَسَّرُوهُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ أَجْرًا لِمَشَقَّتِهِ فَقَدْ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِمَّا يَنْسَخُهُ أَوْ مِثْلِهِ فَلَا يَأْتِي بِمَا هُوَ دُونَهُ .

وَأَيْضًا فَعَلَى مَا قَالُوهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ بَلْ إنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ جِهَةِ السُّهُولَةِ فَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْأَجْرِ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَخَايَرُ وَلَا يَتَفَاضَلُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْخَيْرَ الَّذِي هُوَ الْأَفْضَلِيَّةُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ الَّذِي فِي " سُورَةِ الْإِخْلَاصِ " وَمَا ضَمِنَهَا مِنْ نَفْيِ التَّجَزُّؤِ وَالِانْقِسَامِ أَفْضَلُ مِنْ " تَبَّتْ " الْمُتَضَمِّنَةِ ذَمِّ أَبِي لَهَبٍ وَذَمِّ زَوْجَتِهِ إنْ شِئْت فِي كَوْنِ الْمَدْحِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَدْحِ وَإِنْ شِئْت فِي الْإِعْجَازِ فَإِنَّ تِلَاوَةَ غَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْهَا الْفَصَاحَةُ وَالْبَيَانُ أَفْضَلُ وَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا لَا يَكُونُ التَّفَاضُلُ لِمَعْنَى يَعُودُ إلَى الْكَلَامِ ثَانِيًا كَمَا أَنَّ الْمُرْسَلَ وَاحِدٌ لِذِي النُّونِ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ مِنْ ذِي النُّونِ . قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } لَا يَكُونُ نَاسِخًا بَلْ مُبْتَدَأً فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَزَاءِ مَجْزُومًا وَهَذَا يُعْطِي الْبَدَلِيَّةَ وَالْمُقَابَلَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ : إنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك وَإِنْ أَطَعْتَنِي أَطَعْتُك يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُقَابَلَةً وَبَدَلًا لَا فِعْلًا مُبْتَدَأً . قُلْت : الْمَقْصِدُ هُنَا ذِكْرُ مَا نَصَرَهُ - مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِهِ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ - لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ النَّسْخِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ صَرَّحُوا بِأَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ " جَوَاهِرُ الْقُرْآنِ " قَالَ :

لَعَلَّك تَقُولُ قَدْ تَوَجَّهَ قَصْدُك فِي هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ إلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ وَالْكُلُّ كَلَامُ اللَّهِ فَكَيْفَ يُفَارِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ بَعْضُهَا أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ نُورَ الْبَصِيرَةِ إنْ كَانَ لَا يُرْشِدُك إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الْمُدَايَنَاتِ وَبَيْنَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُورَةِ تَبَّتْ وَتَرْتَاعُ مِنْ اعْتِقَادِ الْفِرَقِ نَفْسُك الْخَوَّارَةُ الْمُسْتَغْرِقَةُ فِي التَّقْلِيدِ فَقَلِّدْ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَقَالَ : { قَلْبُ الْقُرْآنِ يس } وَقَدْ دَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَى شَرَفِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ : { فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ } وَقَالَ : { آيَةُ الْكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ } وَقَالَ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضَائِلِ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَتَخَصُّصِ بَعْضِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ بِالْفَضْلِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي تِلَاوَتِهَا لَا تُحْصَى فَاطْلُبْهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ إنْ أَرَدْت . وَنُنَبِّهُك الْآنَ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ فِي تَفْضِيلِ هَذِهِ السُّوَرِ . قُلْت : وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ فِي تَفْضِيلِ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَمِمَّنْ ذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَمَّنْ حَكَاهُ مِنْ السَّلَفِ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " قَالَ فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي : أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ وَذَكَرَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ } فِيهِ حُجَّةٌ لِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ

وَتَفْضِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ عِنْدَ مَنْ اخْتَارَهُ : مِنْهُمْ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين . قَالَ : وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى عِظَمِ أَجْرِ قَارِئِي ذَلِكَ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ عَلَى بَعْضِهِ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِهِ . قَالَ : وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ فَأَبَى ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الْبَاقِلَانِي وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ نَقْصُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ . قَالُوا : وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " أَفْضَلُ " وَ " أَعْظَمُ " لِبَعْضِ الْآيِ وَالسُّوَرِ فَمَعْنَاهُ عَظِيمٌ وَفَاضِلٌ . قَالَ : وَقِيلَ : كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظُمَ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحَيَاةِ والوحدانية وَالْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهَذِهِ السَّبْعَةُ قَالُوا هِيَ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ . قُلْت : الْمَقْصُودُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ . فَهَذِهِ السَّبْعَةُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالْعَقْلِ وَمَا سِوَاهَا قَالُوا إنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى طَرِيقِ عِلْمِنَا لَا إلَى أَمْرٍ حَقِيقِيٍّ ثَابِتٍ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَا سِوَاهَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا كَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَذْهَبُ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَكْثَرُ قُدَمَاءِ الصفاتية أَنَّ الْعُلُوَّ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَمَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي

أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِ وَمَذْهَبِ ابْنِ كَرَّامٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ . وَكَذَلِكَ مَا فَسَّرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ قَوْلِ الْمُفَضَّلِينَ إنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فَهَذَا لَا يُنَازَعُ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الْبَاقِلَانِي فَإِنَّ الثَّوَابَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُنَازَعُ أَحَدٌ فِي أَنَّ بَعْضَهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ فَحِكَايَتُهُ النِّزَاعُ يُنَاقِضُ مَا فَسَّرَ بِهِ قَوْلَ الْمُثَبِّتَةِ . وَقَدْ بَيَّنَ مَأْخَذَ الْمُمْتَنِعِينَ عَنْ التَّفْضِيلِ : مِنْهُمْ مِنْ نَفْيِ التَّفَاضُلِ فِي الصِّفَاتِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَتَفَاضَلُ وَالْقُرْآنُ مِنْ الصِّفَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ عَلَى أَصْلِهِ فَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنَيَانِ فَضْلًا أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ فَاضِلٌ وَمَفْضُولٌ وَهَذَا أَصْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا أَقْوَالَهُمْ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يَكُونُ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ - بَلْ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَوْ تُتُبِّعَ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَكَثَرُوا فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ أَمَا السَّلَفُ - كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ - فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَنَازُعٌ بَلْ الْآثَارُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِهِ .

وَاشْتَهَرَ الْقَوْلُ بِإِنْكَارِ تَفَاضُلِهِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لَمَّا أَظْهَرَتْ الْجَهْمِيَّة الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ . وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ . وَظَنَّتْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ - مِثْلَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ - أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَّا إذَا قِيلَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا كَلَّمَ مُوسَى حِينَ أَتَاهُ وَلَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يُطِيعَهُ وَلَا يُحِبَّهُ بَعْدَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ فَتَكُونُ كَلِمَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ظَنُّوا انْتِفَاءَهُ عَنْ اللَّهِ . وَقَالُوا إنَّمَا يُمْكِنُ مُخَالَفَةُ هَؤُلَاءِ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ كَلَامٍ لَهُ كَقَوْلِهِ : يَا آدَمَ يَا نُوحُ . وَصَارُوا طَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ تَقُولُ إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَطَائِفَةٌ تَقُولُ إنَّهُ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَتِّبَةً فِي ذَاتِهَا تَرَتُّبًا ذَاتِيًّا لَا تَرَتُّبًا وُجُودِيًّا كَمَا قَدْ بَيَّنَ مَقَالَاتِ النَّاسِ فِي كَلَامِ اللَّهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْأَوَّلُونَ عِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا بَعْضٌ لَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ . وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ : هُوَ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ وَالْقَدِيمُ لَا يَتَفَاضَلُ . وَرُبَّمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا }

أَنَّهُ قَالَ : خَيْرًا لَكُمْ مِنْهَا أَوْ أَنْفَعَ لَكُمْ . فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ مُوَافِقٌ لِهَؤُلَاءِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَقْصُودُهُ بَيَانُ وَجْهِ كَوْنِهِ خَيْرًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَنْفَعَ لِلْعِبَادِ فَإِنَّ مَا كَانَ أَكْثَرُ مِنْ الْكَلَامِ نَفْعًا لِلْعِبَادِ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ كَمَا بَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ . وَصَارَ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْكُلَّابِيَة مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفَاضُلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ إنَّمَا يُمْكِنُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ يَرَوْنَ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَضْلَ مَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقِ وَتَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ . فَإِذَا ظَنَّ أُولَئِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا فَرُّوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِهِ لِأَجْلِ مَا ظَنُّوهُ مِنْ التَّلَازُمِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوهُ بَلْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَجُمْهُورُهَا يَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ . وَحَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ وَصَاحِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُمَا نَظَرَا فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَأَظُنُّهُ كَانَ نَظَرَهُمْ فِي تَفْسِيرِ أَبِي عَبْدِ

الله مُحَمَّدِ بْنِ تَيْمِيَّة فَلَمَّا رَأَيَا تِلْكَ الْأَقْوَالَ قَالَا : هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ . وَزَارَ مَرَّةً أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ هَذَا شَيْخَنَا أَبِي زَكَرِيَّا بْنِ الصَّيْرَفِيِّ وَكَانَ مَرِيضًا فَدَعَا أَبُو زَكَرِيَّا بِدُعَاءِ مَأْثُورٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد يَقُولُ فِيهِ " أَسْأَلُك - بِقُدْرَتِك الَّتِي قَدَرْت بِهَا أَنْ تَقُولَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - أَنْ تَفْعَلَ بِنَا كَذَا وَكَذَا " فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ : مَا هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي دَعَوْت بِهِ ؟ هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَلَا يُقَالُ عِنْدَهُمْ قَدَرَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يَقُولَ فَإِنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ تَلَقَّى هَذَا عَنْ الْبُحُوثِ الَّتِي يَذْكُرُهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالُهُ وَقَبْلَهُ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَمْثَالُهُ وَقَبْلَهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَنَحْوُهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - كَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي - وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يُوَافِقُونَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى قَوْلِهِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَلَى قَوْلِهِ : إنَّ الْقُرْآنَ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ - قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ السَّلَفِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَتَّى إنَّ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ السالمية مِنْ هَؤُلَاءِ - كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ

الزَّاغُونِي - يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَقُولُوا هَذَا قَطُّ وَلَا نَاظَرُوا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَعْرِفُوا أَقْوَالَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ . وَلَكِنْ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَمِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُمْ الَّذِينَ صَارُوا يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا صَارَ يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ كُلَّابٍ هَذَا الْأَصْلَ وَأَمَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ بِهَجْرِ الْكُلَّابِيَة عَلَى هَذَا الْأَصْلِ حَتَّى هُجِرَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ ابْنِ كُلَّابٍ وَكَانَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ أَحْمَد يُحَذِّرُ عَنْ الْكُلَّابِيَة . وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْن أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَة الْمُلَقَّبِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ مُشَاجَرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُمْ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي ( تَارِيخِ نَيْسَابُورَ ) وَبَسْطُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى الْمَآخِذِ الَّتِي تَعْرِفُ بِهَا حَقَائِقَ الْأَقْوَالِ .

فَصْلٌ :
وَفِي الْجُمْلَةِ فَدَلَالَةُ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ هُوَ مِنْ الدَّلَالَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ كَلَامَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْأَحَادِيثُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي يَحْكِيهَا الرَّسُولُ عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَقَوْلِهِ : { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } الْحَدِيثَ وَكَقَوْلِهِ : { مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي كَوْنِهَا كَلَامَ اللَّهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ لَهُ نِسْبَتَانِ : نِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَنِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ . فَهُوَ يَتَفَاضَلُ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَتَيْنِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ أَيْضًا مِثْلَ الْكَلَامِ الْخَبَرِيِّ لَهُ نِسْبَتَانِ : نِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُخْبِرِ وَنِسْبَةٌ إلَى الْمَخْبَرِ عَنْهُ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ . ف { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } كِلَاهُمَا كَلَامُ اللَّهِ وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَكِنَّهُمَا مُتَفَاضِلَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ . فَهَذِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَبَرُهُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَتِهِ الَّتِي يَصِفُ بِهَا نَفْسَهُ

وَكَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ . وَهَذِهِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ عَنْ بَعْضِ خَلْقِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ وَيَصِفُ بِهِ حَالَهُ وَهُمَا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مُتَفَاضِلَانِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامَيْنِ . أَلَّا تَرَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ هُوَ كُلُّهُ كَلَامُهُ لَكِنَّ كَلَامَهُ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ رَبَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْجَمِيعُ كَلَامُهُ فَاشْتِرَاكُ الْكَلَامَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ لَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَتْ النِّسْبَتَانِ أَوْ إحْدَاهُمَا تُوجِبُ التَّفْضِيلَ أَوْ لَا تُوجِبُهُ . فَكَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ وَالْخُطَبَاءُ وَالشُّعَرَاءُ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الْمَعَانِي فَقَطْ أَوْ الْأَلْفَاظُ فَقَطْ أَوْ كِلَاهُمَا أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا فَلَا رَيْبَ فِي تَفَاضُلِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي مِنْ الْمُتَكَلِّمِ الْوَاحِدِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ اتِّفَاقِ الْكَلَامَيْنِ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِمَا وَاحِدٌ لَا يُوجِبُ تَمَاثُلُهُمَا مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ . فَتَفَاضُلُ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ إنْشَاءً أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ فَلَيْسَ الْخَبَرُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَالْخَبَرِ الْمُتَضَمِّنِ لِذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ وَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ وَإِنْ كَانَ هَذَا كَلَامًا عَظِيمًا مُعَظَّمًا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَتْ

بِهِ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالْمَأْمُورَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا وَمَا يَحْصُلُ مَعَهُ فَسَادٌ عَظِيمٌ كَالْأَمْرِ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرَانِ وَاجِبَيْنِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالْأَمْرِ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَإِيتَائِهَا أَجْرَهَا إذَا أَرْضَعَتْ .
وَلِهَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى تَفَاضُلِ أَنْوَاعِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَقَالُوا : إنَّ إيجَابَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ إيجَابِ الْآخَرِ وَتَحْرِيمُهُ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْآخَرِ فَهَذَا أَعْظَمُ إيجَابًا وَهَذَا أَعْظَمُ تَحْرِيمًا وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ نَازَعُوا فِي ذَلِكَ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ فَقَالُوا : التَّفَاضُلُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ لَكِنْ فِي مُتَعَلَّقِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : بَلْ التَّفَاضُلُ فِي الْأَمْرَيْنِ وَالتَّفَاضُلُ فِي الْمُسَبِّبَاتِ دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْأَسْبَابِ وَكَوْنُ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ ثَوَابُهُ أَعْظَمُ وَعِقَابُهُ أَعْظَمُ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ أَوْكَدُ وَكَوْنُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَالنَّهْيَيْنِ مَخْصُوصًا بِالتَّوْكِيدِ دُونَ الثَّانِي مِمَّا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ عَاقِلٌ وَلَوْ تَسَاوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَامْتَنَعَ الِاخْتِصَاصُ بِتَوْكِيدِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ وَالتَّفْضِيلَ مُتَضَادَّانِ . وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَإِطْلَاقُ

ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْقَاضِي يَعْقُوبَ البرزبيني وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَلْوَانِيِّ وأبي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَسِّرُ التَّفَاضُلَ بِتَفَاضُلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ الْنُّفَاةِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَفْسَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْبُغْضَ وَالْإِرَادَةَ وَالْكَرَامَةَ وَالطَّلَبَ وَالِاقْتِضَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي تَتَفَاضَلُ وَتَتَفَاضَلُ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا . وَنَفْسُ حُبِّ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ يَتَفَاضَلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } . وَنَفْسُ حُبِّ اللَّهِ لَهُمْ يَتَفَاضَلُ أَيْضًا فَإِنَّ الْخَلِيلَيْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّنْ سِوَاهُمَا وَبَعْضُ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ بَعْضٍ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ هَذَا مَشْهُورٌ وَمُسْتَفِيضٌ فِي الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَكَلَامِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كَقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ : لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَفَعَلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الصَّفِّ وَهُوَ مَشْهُورٌ ثَابِتٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ . وَكَوْنُ هَذَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا هُوَ دَاخِلٌ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَبَعْضِ الْأَشْخَاصِ عَلَى بَعْضٍ . وَبَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ : وَاَللَّهِ إنَّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ . وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْك لَمَا خَرَجْت } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مِنْ

حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ . وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ عَلَى حُبِّ غَيْرِهِ وَبُغْضِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسِهِ . وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } . وَقَالَ { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ } وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ تَفَاضُلُ الْمَأْمُورَاتِ : فَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْمَنْهِيَّاتِ شَرٌّ مِنْ بَعْضٍ وَحِينَئِذٍ فَطَلَبُ الْأَفْضَلِ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ أَكْمَلُ مِنْ طَلَبِ الْمَفْضُول وَالطَّالِبُ إذَا كَانَ حَكِيمًا يَكُونُ طَلَبُهُ لِهَذَا أَوْكَدَ . فَفِي الْجُمْلَةِ مِنْ الْمُسْتَقَرِّ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ يَلْحَقُهُمَا التَّفَاضُلُ مِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ وَالْمَأْمُورِ بِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَخْبَرُ بِهِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ كَانَ الْخَبَرُ بِهِ أَفْضَلَ وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَفْضَلَ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَفْضَلَ . وَلِهَذَا كَانَ الْخَبَرُ بِمَا فِيهِ نَجَاةُ النُّفُوسِ مِنْ الْعَذَابِ وَحُصُولُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ أَفْضَلَ مِنْ الْخَبَرِ بِمَا فِيهِ نَيْلُ مَنْزِلَةٍ أَوْ حُصُولُ دَرَاهِمَ وَالرُّؤْيَا الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَفْضَلَ الْخِبْرَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ الرُّؤْيَا الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَدْنَاهُمَا وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً . وَإِذَا قَدَرَ أَمِيرَانِ أَمَرَ أَحَدُهُمَا بِعَدْلِ عَامٍّ عَمَّرَ بِهِ الْبِلَادَ وَدَفَعَ بِهِ الْفَسَادَ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ أَعْظَمَ مِنْ أَمْرِ أَمِيرٍ

يَعْدِلُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فِي مِيرَاثِ بَعْضِ الْأَمْوَاتِ . وَأَيْضًا فَالْخَبَرُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِالْمَخْبَرِ بِهِ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ طَلَبًا وَإِرَادَةً لِلْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إرَادَةَ فِعْلِ الْأَمْرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَلَكِنْ أَعَانَ أَهْلَ الطَّاعَةِ فَصَارَ مُرِيدًا لَأَنْ يَخْلُقَ أَفْعَالَهُمْ وَلَمْ يَعْنِ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَ أَفْعَالَهُمْ . فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْخِلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ وَأَمَّا الْإِرَادَةُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّ فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَرْضَاهُ إذَا فُعِلَ وَيُرِيدُ مِنْ الْمَأْمُورِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَأْمُورٌ فَهَذِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْأَمْرِ . وَلِهَذَا أَثَبَتَ اللَّهُ هَذِهِ الْإِرَادَةَ فِي الْأَمْرِ دُونَ الْأُولَى . وَلَكِنْ فِي النَّاسِ مِنْ غَلَطٍ فَنَفَى الْإِرَادَةَ مُطْلَقًا وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الْخِلْقِيَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْأَمْرِيَّةِ . وَالْقُرْآنُ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ فَقَالَ فِي الْأُولَى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } وَقَالَ نُوحٌ : { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } وَقَالَ : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ : { وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ } وَلِهَذَا قَالَ الْمُسْلِمُونَ : مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَالَ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } وَقَالَ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ }

وَقَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْأَمْرِ مِنْ طَلَبٍ وَاسْتِدْعَاءٍ وَاقْتِضَاءٍ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ هُنَاكَ إرَادَةً شَرْعِيَّةً وَأَنَّهُ لَا إرَادَةَ لِلرَّبِّ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ سِوَاهَا كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَوْ قِيلَ : لَا إرَادَةَ لِلرَّبِّ إلَّا الْإِرَادَةُ الْخِلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ إرَادَتَهُ عَيْنُ نَفْسِ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَنَّ إرَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ إيمَانٍ وَكُفْرٍ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُوجَدُ سَوَاءٌ كَانَ إيمَانًا أَوْ كُفْرًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ لَهَا أَثَرٌ فِي وُجُودِ مَقْدُورِهِ وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَأَسْبَابٌ يَخْلُقُ بِهَا وَلَا لِلَّهِ حِكْمَةٌ يَخْلُقُ وَيَأْمُرُ لِأَجْلِهَا كَمَا يَقُولُ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ رَأْسُ الْجَبْرِيَّةِ هُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَبَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَاقَضُوا الْقَدَرِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةَ مُنَاقِضَةً أَلْجَأَتْهُمْ إلَى إنْكَارِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ بِبَعْضِ ذَلِكَ يَتَنَاقَضُ وَقَدْ يَثْبُتُ أَحَدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْمَعْنَى .

وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ فَيُثْبِتُونَ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ وَالْإِرَادَةَ الْخِلْقِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ الشَّامِلَةَ لِكُلِّ حَادِثٍ وَالْإِرَادَةَ الْأَمْرِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُتَنَاوِلَةَ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ وَهُوَ مَا أَمَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ مَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ وَيُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ النَّافِعَةُ فِي الْمَعَادِ الدَّافِعَةُ لِلْفَسَادِ . فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْأَمْرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِرُبُوبِيَّتِهِ كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ الْخِلْقِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ نَظَرَ إلَى هَذِهِ فَقَطْ وَرَاعَى هَذِهِ الْخِلْقِيَّةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ دُونَ تِلْكَ يَكُونُ لَهُ بِدَايَةٌ بِلَا نِهَايَةٍ فَيَكُونُ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا يَحْصُلُ لَهُمْ بَعْضُ مُطَالِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِاسْتِعَانَتِهِمْ بِاَللَّهِ إذْ شَهِدُوا رُبُوبِيَّتَهُ وَلَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إذْ لَمْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ . وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ . وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ دُونَ تِلْكَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَقَدْ يُرَاعَى الْأَمْرُ ؛ لَكِنَّهُ يَكُونُ عَاجِزًا مَخْذُولًا حَيْثُ لَمْ يَشْهَدْ رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ وَفَقْرَهُ إلَيْهِ لِيَكُونَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ بَرِيًّا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ . فَهَذَا قَدْ يَقْصِدُ أَنْ يَعْبُدَهُ وَلَا يَقْصِدَ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَهِيَ حَالُ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ خَالِقًا أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَلَا مُرِيدًا لِلْكَائِنَاتِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّمَا يَعْجَبُ بِفِعْلِهِ الْقَدَرِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَرَى أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِهِ . فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ

يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ لِلَّهِ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يَعْجَبُونَ بِهَا ؟ أَوْ كَمَا قَالَ . وَالْأَوَّلُ قَدْ يَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَهُ وَيَسْأَلَهُ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَبْرَأَ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ وَلَكِنْ لَا يَقْصِدُ أَنْ يَعْبُدَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَلَا يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ وَأَنَّهُ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بَلْ يَنْسَلِخُ مِنْ الدِّينِ أَوْ بَعْضِهِ لَا سِيَّمَا فِي نِهَايَةِ أَمْرِهِ . وَهَذِهِ الْحَالُ إنْ طَرَدَهَا صَاحِبُهَا كَانَ شَرًّا مِنْ حَالِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ بَلْ إنْ طَرَدَهَا طَرْدًا حَقِيقِيًّا أَخْرَجَتْهُ مِنْ الدِّينِ خُرُوجَ الشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ وَهِيَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ . وَأَمَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَيَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَلَا يُوَافِقُ أَمْرَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَكُلُّ قَاصِدٍ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ فَهُوَ مَصْدُودٌ مِنْ مَآرِبِهِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مُؤْمِنًا بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ : بِقَدْرِهِ وَشَرْعِهِ فَيَسْتَعِينُ اللَّهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَأَنَّ لِلَّهِ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَى خَلْقِهِ وَأَنَّ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ حِكْمَةً بَالِغَةً وَرَحْمَةً سَابِغَةً . وَهَذِهِ الْأُمُورُ أُصُولٌ عَظِيمَةٌ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْخَبَرَ الصَّادِقَ يَتَضَمَّنُ جِنْسَ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ جِنْسَ الطَّلَبِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . ثُمَّ هَلْ مَدْلُولُ الْخَبَرِ جِنْسٌ مِنْ الْمَعَانِي غَيْرَ جِنْسِ الْعِلْمِ وَمَدْلُولُ الْأَمْرِ جِنْسٌ مِنْ الْمَعَانِي غَيْرَ جِنْسِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ مِثْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ ؟ أَوْ الْمَدْلُولُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ ؟ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ نُظَّارِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرَ . فَيَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُخَالِفُونَ ابْنَ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي ذَيْنك الْأَصْلَيْنِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْقَوْلِ فِي الْكَلَامِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ خَيْرًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَطَوَائِفِ النُّظَّارِ فَلَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا الْكُلَّابِيَة كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الطَّوَائِفِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْكُتُبِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ لَهَا مَعَانٍ : سَوَاءٌ سُمِّيَ طَلَبًا أَوْ إرَادَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ حُكْمًا أَوْ كَلَامًا نَفْسَانِيًّا . وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهَا فَلَيْسَ عِلْمُنَا بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ

كَعِلْمِنَا بِحَالِ أَبِي لَهَبٍ . وَلَيْسَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِنَا إذَا أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالطَّلَبِ الْقَائِمِ بِنَا إذَا أُمِرْنَا بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَإِخْرَاجِ الدِّرْهَمِ مِنْ الزَّكَاةِ . فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعَانِيَ الْكَلَامِ قَدْ تَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهَا كَمَا قَدْ تَتَمَاثَلُ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا صِيغَةُ الْأَمْرِ - سَوَاءٌ سُمِّيَتْ طَلَبًا أَوْ اقْتِضَاءً أَوْ اسْتِدْعَاءً أَوْ إرَادَةً أَوْ مَحَبَّةً أَوْ رِضًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ - فَإِنَّهَا مُتَفَاضِلَةٌ بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ النَّفْسَانِيَّةِ فَهِيَ مُتَفَاضِلَةٌ فِي نَفْسِهَا بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ . فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ تَفَاضُلِ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَاحِدًا . وَهُوَ أَيْضًا مُتَفَاضِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ وَاحِدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَكْلِيمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَفْضَلُ مِنْ تَكْلِيمِهِ بِالْإِيحَاءِ وَبِإِرْسَالِ رَسُولٍ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَقَالَ : { إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } وَقَالَ : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } وَاَلَّذِي يَجِدُ النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ تَتَفَاضَلُ أَحْوَالُهُ

فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ بَلْ وَفِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ يَتَفَاضَلُ مَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعَانِي وَمَا يَقُومُ بِلِسَانِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ بِحَيْثُ قَدْ يَكُونُ إذَا كَانَ طَالِبًا هُوَ أَشَدُّ رَغْبَةً وَمَحَبَّةً وَطَلَبًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ لِلْآخَرِ وَيَكُونُ صَوْتُهُ بِهِ أَقْوَى وَلَفْظُهُ بِهِ أَفْصَحَ وَحَالُهُ فِي الطَّلَبِ أَقْوَى وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمَوْعِظَةِ بَلْ لِلْآيَةِ الْوَاحِدَةِ إذَا سُمِعَتْ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْ ظُهُورِ التَّفَاضُلِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تَمْثِيلٍ . وَكَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ قَدْ يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْلُومِ وَشُهُودِ الْقَلْبِ إيَّاهُ بِاللِّسَانِ مِنْ حُسْنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ لَفْظًا وَصَوْتًا مَا لَا يُقَارِبُهُ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِهِ . فَهَذَا نَوْعُ إشَارَةٍ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ مُوَافِقًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةُ . وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ تَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُفَضَّلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لِهَؤُلَاءِ فِي تَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي التَّفْضِيلِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ فِي مُتَعَلَّقِهِ مِثْلَ كَوْنِ بَعْضِهِ أَنْفَعَ لِلنَّاسِ مِنْ بَعْضٍ لِكَوْنِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ أَوْ الْعَمَلِ بِهِ أَخَفَّ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الْأَجْرِ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } أَيْ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ لَا أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا خَيْرٌ مِنْ تِلْكَ . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري قَالَ . نَأْتِ بِحُكْمِ خَيْرٍ لَكُمْ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ : إمَّا فِي الْعَاجِلِ لِخِفَّتِهِ

عَلَيْكُمْ وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ لِعِظَمِ ثَوَابِهِ مِنْ أَجْلِ مَشَقَّةِ حَمْلِهِ . قَالَ : وَالْمُرَادُ مَا نَنْسَخُ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } أَيْ حُبَّهُ قَالَ : وَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ . لِأَنَّ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ : بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَوْ بَعْضُهَا خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ . وَطَرْدُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ فَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَسْمَائِهِ أَعْظَمَ أَوْ أَفْضَلَ أَوْ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ . وَقَالَ : مَعْنَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ : الْعَظِيمُ وَكُلُّهَا سَوَاءٌ فِي الْعَظَمَةِ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ حَالُ النَّاسِ حِينَ الدُّعَاءِ فَيَكُونُ الْأَعْظَمُ بِحَسَبِ حَالِ الدُّعَاءِ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ أَعَظُمَ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ نَظِيرَ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِمَنْ مَنَعَ تَفْضِيلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ أَوْ خَيْرًا كَوْنُهُ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ ؛ لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ يُحْكَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ قَالُوا : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَظِيمٌ فَاضِلٌ وَقَالُوا : مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ تَقْصِيرُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ وَهَذَا يَقُولُونَهُ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ عِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ فِيهِ تَمَاثُلُ أَوْ تَفَاضُلُ وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَلِامْتِنَاعِ التَّغَايُرِ وَلَا يَقُولُونَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ قَالُوا : لِأَنَّ الْكَلَامَ

يَمْتَنِعُ قِيَامُهُ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ قِيَامُهُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ قَائِمًا بِغَيْرِهِ لَبَطَلَ أَصْلُهُمْ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهَؤُلَاءِ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِهِمْ . وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ يَقُولُ : إنَّ لَفْظَ " كَلَامِ اللَّهِ " يَقَعُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَعَلَى الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمَخْلُوقِ الدَّالِّ عَلَيْهِ . وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ الَّذِي يَمْتَنِعُ تَفَاضُلُهُ عِنْدَهُمْ . وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْمَعَانِي بَلْ هُوَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ فَقَطْ وَأَنَّ مَعَانِيَ كِتَابِ اللَّهِ هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ . فَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ وَالْفَاتِحَةِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَتَبَّتْ وَمَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَكُلِّ حَدِيثٍ إلَهِيٍّ وَكُلِّ مَا يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُلِّ مَا يُكَلِّمُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ : إنَّمَا هِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ لَا بِالنَّوْعِ . وَلَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بَلْ كَلَامُ غَيْرِهِ : جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ الْوَاحِدِ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ وَالْإِخْبَارُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لِلْكَلَامِ وَأَقْسَامًا لَهُ فَإِنَّ الْوَاحِدَ بِالْعَيْنِ لَا يَقْبَلُ

التَّنْوِيعَ وَالتَّقْسِيمَ ؛ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّنْوِيعَ وَالتَّقْسِيمَ وَإِنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَهِيَ صِفَاتٌ إضَافِيَّةٌ لَهُ فَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَانَ أَمْرًا وَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُنْهَى عَنْهُ كَانَ نَهْيًا وَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُخْبَرُ عَنْهُ كَانَ خَبَرًا . وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : فَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَعَانِيَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَلَا مَعَانِي آيَةِ الدَّيْنِ مَعَانِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا مَعَانِي الْخَبَرِ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ هِيَ مَعَانِي الْخَبَرِ عَنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ تَعَلُّقَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْحَقَائِقِ الْمَخْبَرِ عَنْهَا وَالْأَفْعَالُ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ فَإِنْ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ فَقَدْ تَعَدَّدَتْ مَعَانِي الْكَلَامِ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ وَإِنْ قَامَ بِذَاتِ غَيْرِهِ كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لِلَّهِ وَإِنْ قَامَ لَا بِمَحَلِّ كَانَ مُمْتَنِعًا ؛ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا ؛ وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْحَقَائِقِ أَمْرًا عَدَمِيًّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ إذْ كَانَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْتَازَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ . وَالْحَقَائِقُ الْمَخْبَرُ عَنْهَا وَالْمَأْمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا لَا تَكُونُ بِأَنْفُسِهَا مُخْبَرًا بِهَا وَمَأْمُورًا بِهَا وَمَنْهِيًّا عَنْهَا بَلْ الْخَبَرُ عَنْهَا وَالْأَمْرُ بِهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا هُوَ غَيْرُ ذَوَاتِهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي لَا امْتِيَازَ فِيهِ وَلَا تَعَدُّدَ وَغَيْرُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ : لَمْ

يَكُنْ هُنَا مَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَلَا مَا يَجْعَلُ مَعَانِيَ آيَةِ الْوُضُوءِ غَيْرَ مَعَانِي آيَةِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْحُرُوفَ الْمَخْلُوقَةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى إنْ لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَيْهِ فَلَا تَعَدُّدَ فِيهِ وَلَا تَنْوِيعَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى التَّعَلُّقَاتِ الَّتِي هِيَ عَدَمِيَّةٌ فَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءِ حَتَّى يَكُونَ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى وَتَعَلُّقُهُ بِالْحَقَائِقِ الْمَخْبَرِ عَنْهَا وَالْمَأْمُورِ بِهَا وَنَفْسُ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ هُوَ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فَالْمَدْلُولُ إنْ كَانَ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ أَمْرٌ عَنْ خَبَرٍ وَلَا أَمْرٌ بِصَلَاةِ عَنْ أَمْرٍ بِزَكَاةِ وَلَا نَهْيٌ عَنْ الْكُفْرِ عَنْ إخْبَارٍ بِتَوْحِيدِ . وَإِنْ كَانَتْ التَّعَلُّقَاتُ عَدَمِيَّةً فَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَلَا يَكُونُ الْعَدَمُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَلَا يَكُونُ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ أُمُورًا عَدَمِيَّةً لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا تَكُونُ الْأُمُورُ الْعَدَمِيَّةُ هِيَ الَّتِي بِهَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ وَحَرَّمَ الظُّلْمَ وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ إلَّا صِفَاتٍ إضَافِيَّةً وَهِيَ مِنْ مَعْنَى السَّلْبِيَّةِ فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ سَلْبَ أَمْرٍ مَوْجُودٍ فَهِيَ تَعَلُّقٌ لَيْسَ بِمَوْجُودِ . فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ - عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ لَا مَعَانٍ وَلَا حُرُوفٌ إلَّا بِمَعْنَى وَاحِدٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَوْجُودَةً وَلَا مَعْلُومَةً . وَمِنْ حُجَّةِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْمَفْضُولُ نَاقِصًا عَنْ الْفَاضِلِ وَصِفَاتُ اللَّهِ كَامِلَةٌ لَا نَقْصَ فِيهَا وَالْقُرْآنُ

مِنْ صِفَاتِهِ . قَالَ هَؤُلَاءِ : صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا مُتَوَافِرَةٌ فِي الْكَمَالِ مُتَنَاهِيَةٌ إلَى غَايَةِ التَّمَامِ لَا يَلْحَقُ شَيْئًا مِنْهَا نَقْصٌ بِحَالِ . ثُمَّ لَمَّا اعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ ظَنُّوا أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ لَا يُمْكِنُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ . قَالُوا : وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ التَّفَاضُلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ . وَلِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِقَادِ صَارَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ يَذْكُرُ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ التَّفْضِيلِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الدَّرَّاجِ فِي مُصَنَّفٍ صَنَّفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ : " أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِمَّا ظَاهِرُهُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ آيِ الْقُرْآنِ وَسُورِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَفْضِيلَ ذَوَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ؛ إذْ هُوَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ بَلْ هُوَ كُلُّهُ لِلَّهِ فَاضِلٌ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْوَاجِبِ لَهَا نَعْتُ الْكَمَالِ " . وَهَذَا النَّقْلُ لِلْإِجْمَاعِ هُوَ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ لَازِمًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَظَنَّ هُوَ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ إنَّمَا تَقَعُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لَا فِي الصِّفَاتِ قَالَ مَا قَالَ . وَإِلَّا فَلَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ فَضْلَ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضَهُ

عَلَى بَعْضٍ : لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي لَوَازِمِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا إجْمَاعًا . وَلَيْسَ هُوَ لَازِمًا لِابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ وُقُوعَ الْمُفَاضَلَةِ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَهَذَا الْمَخْلُوقُ يُسَمَّى " كِتَابَ اللَّهِ " وَالْمَعْنَى الْقَدِيمُ يُسَمَّى " كَلَامُ اللَّهِ " وَلَفْظُ " الْقُرْآنِ " يُرَادُ بِهِ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَدِيمُ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الْمَخْلُوقُ . وَحِينَئِذٍ فَهِمَ يَتَأَوَّلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى الْقُرْآنِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ . وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَقَالَةَ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْ اللَّهِ بَلْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَالْكُتُبُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا أَلْفَاظُهُمْ بِأَسَانِيدِهَا وَغَيْرِ أَسَانِيدِهَا كَثِيرَةٌ : مِثْلُ : ( كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ) لِلْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَ ( الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ) لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الجعفي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَ ( الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ) لِلْحَكَمِ بْنِ مَعْبَدٍ الخزاعي وَ ( كِتَابِ السُّنَّةِ ) لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَ ( السُّنَّةِ ) لِحَنْبَلِ ابْنِ عَمِّ الْإِمَامِ أَحْمَد وَ ( السُّنَّةِ ) لِأَبِي دَاوُد السجستاني وَ ( السُّنَّةِ ) لِلْأَثْرَمِ وَ ( السُّنَّةِ ) لِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَ ( السُّنَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ) لِخُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ

وَ ( الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ) لِعُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي . وَ ( نَقْضِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى الجهمي الْكَاذِبِ الْعَنِيدِ فِيمَا افْتَرَى عَلَى اللَّهِ فِي التَّوْحِيدِ ) وَ ( كِتَابِ التَّوْحِيدِ ) لِابْنِ خُزَيْمَة وَ ( السُّنَّةِ للطبراني ) وَلِأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَ ( شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ ) لِأَبِي الْقَاسِمِ اللالكائي وَ ( الْإِبَانَةِ ) لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَكُتُبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَ ( السُّنَّةِ ) لِأَبِي ذَرٍّ الهروي وَ ( الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ) للبيهقي وَ ( الْأُصُولِ ) لِأَبِي عُمَرَ الطلمنكي وَ ( الْفَارُوقِ ) لِأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ وَ ( الْحُجَّةِ ) لِأَبِي الْقَاسِمِ التيمي . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي يَطُولُ تَعْدَادُهَا : الَّتِي يَذْكُرُ مُصَنِّفُوهَا الْعُلَمَاءُ الثِّقَاتُ مَذَاهِبَ السَّلَفِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظِهِمْ الْكَثِيرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ مِنْهَا أَقْوَالُهُمْ مَعَ أَنَّهُ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْجَهْمِيَّة لِأَهْلِ السُّنَّةِ - الَّتِي جَرَتْ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ لَمَّا صَبَرَ فِيهَا الْإِمَامُ أَحْمَد وَقَامَ بِإِظْهَارِ السُّنَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مِحْنَةِ الْجَهْمِيَّة حَتَّى نَصَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَالسُّنَّةَ وَأَطْفَأَ نَارَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ - ظَهَرَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَانْتَشَرَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلسَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الَّذِينَ أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ هُمْ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمِنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْجَهْمِيَّة لَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ

كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْمِحْنَةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ عَدَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هَذَا نَقْلٌ لِمَا يَظُنُّهُ النَّاقِلُ لَازِمًا لِمَذْهَبِهِمْ . فَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَظَنَّ هَذَا النَّاقِلُ أَنَّ التَّفَاضُلَ يَمْتَنِعُ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ نَقَلَ امْتِنَاعَ التَّفَاضُلِ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّلَازُمِ . وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ : أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَمَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ فَهَلْ يُمْكِنُك أَنْ تَنْقُلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ قَوْلًا بِذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَنْقُلَ إجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا عَلِمْت أَحَدًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُثْبِتَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا إجْمَاعًا . وَلَكِنْ إنْ كَانَ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا قَوْلُهُ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ . لَكِنَّ الَّذِي أَقْطَعُ بِهِ وَيَقْطَعُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِكَلَامِ السَّلَفِ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بَيْنَ السَّلَفِ وَلَا قَالَهُ وَاحِدٌ وَاشْتَهَرَ قَوْلُهُ عِنْدَ الْبَاقِينَ فَسَكَتُوا عَنْهُ وَلَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي نُقِلَ

فِيهَا أَلْفَاظُهُمْ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَنْقُولُ الثَّابِتُ عَنْهُمْ - أَوْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ تَفَاضُلَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَكَذَا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّمَا مُسْتَنَدُهُمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ كَلَامَهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ . ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ التَّفَاضُلَ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْمَخْلُوقِ لَا فِي الصِّفَاتِ وَهَذَا الظَّنُّ لَمْ يَنْقُلُوهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَلَا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ وَلِهَذَا شَنَّعَ هَؤُلَاءِ عَلَى مَنْ ظَنَّ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ لِظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِخِلَافِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي رَدِّهِ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ إذَا عَدَلَتْ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ أَنَّهَا تَفْضُلُ الرُّبُعَ مِنْهُ وَخُمُسَهُ وَمَا دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ التَّفَاضُلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَقَالَ : فَهَذَا لَوْلَا عُذْرُ الْجَهَالَةِ لَحُكِمَ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ إذْ لَا يَصِحُّ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ ؛ إذْ صِفَاتُهُ كُلُّهَا فَاضِلَةٌ فِي غَايَةِ الْفَضِيلَةِ وَنِهَايَةِ الْعُلُوِّ وَالْكَرَامَةِ فَمَنْ تَنَقَّصَ شَيْئًا مِنْهَا عَنْ سَائِرِهَا فَقَدْ أَلْحَدَ فِيهَا أَلَا تَسْمَعُهُ مَنَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } .

قَالَ : وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا مِنْ صِفَةِ خَلْقِهِ . قَالَ : وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَا يَخْلُو مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تَكُونَ النَّاسِخَةُ خَيْرًا مِنْ الْمَنْسُوخَةِ فِي ذَاتِهَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْهَا لِمَنْ تَعَبَّدَ بِهَا إذْ مُحَالٌ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْقُرْآنُ فِي ذَاتِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ ؛ إذْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ صِفَةُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا مُتَوَافِرَةٌ فِي الْكَمَالِ مُتَنَاهِيَةٌ إلَى غَايَةِ التَّمَامِ لَا يَلْحَقُ شَيْئًا مِنْهَا نَقْصٌ بِحَالِ . فَلَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ خَيْرًا مِنْ آيَةٍ فِي ذَاتِهَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِخَيْرِ مِنْهَا إنَّمَا هُوَ لِلْمُتَعَبِّدِينَ بِهَا لَمْ يَنْقُلْ عِبَادَهُ مِنْ تَخْفِيفٍ إلَى تَثْقِيلٍ وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُمْ بِالنَّسْخِ مِنْ تَحْرِيمٍ إلَى تَحْلِيلٍ وَمِنْ إيجَابٍ إلَى تَخْيِيرٍ وَمِنْ تَطْهِيرٍ إلَى تَطْهِيرٍ وَالشَّاهِدُ لَنَا قَوْلُهُ : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . فَيُقَالُ : أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " لَوْلَا عُذْرُ الْجَهَالَةِ لَحُكِمَ عَلَى مُثْبِتِ الْمُفَاضَلَةِ بِالْكُفْرِ " فَهُمْ يُقَابِلُونَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَحُجَّتُهُمْ أَقْوَى . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ بَلْ عُلِمَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَإِنَّمَا الْكَافِرُ مَنْ أَنْكَرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَصٌّ يَمْنَعُ تَفْضِيلَ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ بَلْ وَلَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَ صِفَاتِهِ

تَعَالَى بَلْ وَلَا نَقْلَ هَذَا النَّفْيِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ بِحَيْثُ جُعِلُوا أَعْلَامًا لِلسُّنَّةِ وَأَئِمَّةً لِلْأُمَّةِ .
وَأَمَّا تَفْضِيلُ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ ؛ بَلْ تَفْضِيلُ بَعْضِ صِفَاتِهِ عَلَى بَعْضِ : فَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ كَثِيرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّهَا لَا تَتَفَاضَلُ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ تَفَاضُلِهَا مَعْلُومًا إلَّا بِالْعَقْلِ لَا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا تَتَفَاضَلُ فَالدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مَعَ الْعَقْلِيَّةِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ التَّفْضِيلُ لَكَانَ كُفْرُ جَاحِدِ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ كُفْرِ مَنْ يُثْبِتُ التَّفْضِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ جَحَدَ مُوجِبَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ؛ بَلْ لَمَّا رَآهُ بِعَقْلِهِ وَأَخْطَأَ فِيهِ ؛ إذْ نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ لَمْ يُخَالِفْ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا خَالَفَ مَا عُلِمَ بِالْعَقْلِ إنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ نفاة الصِّفَاتِ لَمَّا تَأَمَّلَ حَالَ أَصْحَابِهِ وَحَالَ مُثْبِتِيهَا قَالَ : لَا رَيْبَ أَنَّ حَالَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَالِنَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إنْ كَانُوا مُصِيبِينَ فَقَدْ نَالُوا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالرِّضْوَانَ الْأَكْبَرَ وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ يَا رَبِّ صَدَّقْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُك

وَسُنَّةُ رَسُولِك إذْ لَمْ تُبَيِّنْ لَنَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَفْيَ الصِّفَاتِ كَمَا دَلَّ كَلَامُك عَلَى إثْبَاتِهَا فَنَحْنُ أَثْبَتْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُك وَكَلَامُ رَسُولِك فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَلَمْ يُبَيِّنْ الرَّسُولُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ خِلَافَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ بَلْ إنَّ قُدِّرَ أَنَّهُ حَقٌّ فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْأَفْرَادُ فَكَيْفَ وَعَامَّةُ الْمُنْتَهِينَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ إلَى الْغَايَةِ يُقِرُّونَ بِالْحَيْرَةِ وَالِارْتِيَابِ . قَالَ النَّافِي : وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ مُصِيبِينَ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَنَا : أَنْتُمْ قُلْتُمْ شَيْئًا لَمْ آمُرْكُمْ بِقَوْلِهِ وَطَلَبْتُمْ عِلْمًا لَمْ آمُرْكُمْ بِطَلَبِهِ . فَالثَّوَابُ إنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَنْتُمْ لَمْ تَمْتَثِلُوا أَمْرِي . قَالَ : وَإِنْ كُنَّا مُخْطِئِينَ فَقَدْ خَسِرْنَا خُسْرَانًا مُبِينًا . وَهَذَا حَالُ مَنْ أَثَبَتَ الْمُفَاضَلَةَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمَنْ نَفَاهَا فَإِنَّ الْمُثْبِتَ مُعْتَصِمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَمَعَهُ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِهِ وَفَسَادَ قَوْلِ مُنَازِعِهِ مَا لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا طَعْنٌ صَحِيحٌ . وَأَمَّا النَّافِي فَلَيْسَ مَعَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ يَزْعُمُ أَنَّ عَقْلَهُ دَلَّ عَلَيْهِ وَمُنَازِعُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى نَقِيضِهِ وَأَنَّ خَطَأَهُ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ . وَاحْتِجَاجُ الْمُحْتَجِّ عَلَى نَفْيِ التَّفَاضُلِ بِقَوْلِهِ : { جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } فِي غَايَةِ الْفَسَادِ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ=ج28=

ج28. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهَا مَنْ آمَنَ بِبَعْضِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِهِ أَوْ أُرِيدَ بِهَا مَنْ عَضَهَهُ فَقَالَ : هُوَ سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ بَلْ مَنْ نَفَى فَضْلَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } عَلَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ جَعَلَهُ عِضِينَ ؛ إنْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كَلَامَهُ فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ وَأَقَرَّ بِهِ كُلِّهِ فَلَمْ يَكْفُرْ بِحَرْفِ مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ وَأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا وَلَا أَصْدَقَ مِنْهُ قِيلًا وَأَقَرَّ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِ بَعْضِ كَلَامِهِ كَفَضْلِ ( فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَ ( آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ وَتَفْضِيلُ ( يس وَ ( تَبَارَكَ وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَلْ وَتَفْضِيلُ ( الْبَقَرَةِ وَ ( آلِ عِمْرَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السُّورِ وَالْآيَاتِ الَّتِي نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِفَضْلِهَا وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا مَعَانِيهِ وَلَا حُرُوفُهُ فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ جَعْلِهِ عِضِينَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ ؛ بَلْ آمَنَ بِفَضْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِفَضْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ آمَنَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ ؛ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَهَذَا

أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيمَنْ عَضَهَ الْقُرْآنُ وَرَمَاهُ بِالْإِفْكِ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامَ مَخْلُوقٍ : إمَّا بَشَرٌ وَإِمَّا مَلِكٌ وَإِمَّا غَيْرُهُمَا فَمَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَا هُوَ مِنْ إحْدَاثِ مَخْلُوقٍ لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ وَلَا شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ جِبْرِيلُ رَسُولٌ مَلَكٌ وَمُحَمَّدٌ رَسُولٌ بَشَرٌ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ فَاصْطَفَى لِكَلَامِهِ الرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ فَنَزَلَ بِهِ عَلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ الَّذِي اصْطَفَاهُ وَقَدْ أَضَافَهُ إلَى كُلٍّ مِنْ الرَّسُولَيْنِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ ؛ لَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَهُ وَابْتَدَاهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فَهَذَا نَعْتُ جِبْرِيلَ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَقَالَ : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَقَالَ : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ } { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } { فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } فَهَذِهِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَضَافَ الْقَوْلَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ الرَّسُولِ فَقَالَ { لَقَوْلُ رَسُولٍ }

لِأَنَّ الرَّسُولَ يَدُلُّ عَلَى الْمُرْسَلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسَلٍ . لَمْ يَقُلْ : إنَّهُ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا بَشَرٍ بَلْ كَفَرَ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ بَشَرٍ بِقَوْلِهِ : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا } { وَبَنِينَ شُهُودًا } { وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا } { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } { كَلَّا إنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا } { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ نَظَرَ } { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } { فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } فَمِنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ بِشَرِّ أَوْ قَوْلُ مَخْلُوقٍ غَيْرِ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ فَقَدْ صَدَقَ ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ لَهُ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدّ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } . وَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ : " مِنْهُ بَدَأَ " أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَبْتَدِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ قَالُوا : خَلْقُهُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمَخْلُوقِ وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمَخْلُوقِ لَا لِلَّهِ

تَعَالَى ؛ لَا سِيَّمَا وَالْجَهْمِيَّة كُلُّهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهُمْ غُلَاةٌ فِي الْجَبْرِ وَلَكِنْ الْمُعْتَزِلَةِ تُوَافِقُهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَتُخَالِفُهُمْ فِي الْقَدَرِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ كَلَامَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ الطَّائِيُّ - وَكَانَ مِنْ غُلَاةِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة يَقُولُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ - قَالَ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَلِهَذَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ - نَظِيرُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الَّذِي قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا رَأَيْت أَعْقَلَ مِنْ رَجُلَيْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ - قَالَ : مَنْ قَالَ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ . وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ إذْ قَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ ؟ . وَمَعْنَى ذَلِكَ كَوْنُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِ فِرْعَوْنَ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } كَلَامًا خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ كَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ لِذَلِكَ كَمَا كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ جَعْلُ الشَّجَرَةِ إلَهًا أَعْظَمَ كُفْرًا مِنْ جَعْلِ فِرْعَوْنَ إلَهًا .

وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ بِذَاتِ اللَّهِ لَا طَلَبٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًا وَلَا غَضَبٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُجْعَلُ مَدْلُولَ الْأَصْوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ . وَلَا قَامَ بِذَاتِهِ عِنْدَهُمْ إيجَابٌ وَإِلْزَامٌ وَلَا تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ فَلَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ الْمَخْلُوقِ فِي غَيْرِهِ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا خَلَقَهُ فِي الْجَمَادِ وَمَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانِ . وَكَانَ مَقْصُودُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَسَائِرِ كَلَامِهِ . وَأَنَّهُ مِنْهُ نَزَلَ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَإِنَّمَا قَالُوا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالُوا لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَمَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّ اللَّهَ فِي الْأَزَلِ نَادَى مُوسَى وَلَا قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ يَا آدَمَ يَا نُوحُ يَا مُوسَى يَا إبْلِيسُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ قَالَ . وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ اتَّبَعَ السَّلَفَ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ إلَّا هَذَا وَهَذَا وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ يَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ إذَا عَصَوْهُ أَوْ يَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا أَطَاعُوهُ أَوْ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ إذَا تَابُوا أَوْ يَكُونُ نَادَى مُوسَى حِينَ أَتَى الشَّجَرَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ

الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا نَفَادَ لَهَا بِقَوْلِهِ : { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وَأَتْبَاعُ السَّلَفِ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَيْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ لَا يَقُولُونَ : إنَّ نَفْسَ الْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ قَدِيمَةٌ كَنِدَائِهِ لِمُوسَى وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ كَلَامِ اللَّهِ قَدِيمُ الْعَيْنِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقَدِيمُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ جَمِيعُ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَأَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ صَارَتْ قُرْآنًا وَالْقُرْآنُ إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ صَارَ تَوْرَاةً : قَالُوا : وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الرَّسُولِ تَرْجَمَ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ

جَمِيعُ مَعَانِي الْكَلَامِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْقُرْآنُ الْقَدِيمُ هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَهِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهِيَ مُتَعَاقِبَةٌ فِي ذَاتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا ؛ فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى بَعْضٍ فَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَاتِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَجَعَلُوا التَّعَاقُبَ فِي ذَاتِهِ لَا فِي وُجُودِهِ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ بِأَعْيَانِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والمتفلسفة وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ : إنَّهُ إذَا كَلَّمَ مُوسَى أَوْ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُ بِكَلَامِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ حِينَ يُكَلِّمُهُ وَلَكِنْ يَخْلُقُ لَهُ إدْرَاكًا يُدْرِكُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ اللَّازِمَ لِذَاتِ اللَّهِ أَزَلًا وَأَبَدًا . وَعِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ : { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } وَ : { يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ } و { يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ : أَعْنِي الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا زَمَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا قَبْلَهُمْ . وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ هَذَا الْأَصْلَ هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَعَرَفَ أَنَّ الْحُرُوفَ مُتَعَاقِبَةٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةَ الْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ

قَدْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ وَالْقَدِيمُ لَا يَسْبِقُهُ غَيْرُهُ وَالصَّوْتُ الْمُعَيَّنُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدِيمًا فَقَالَ بِأَنَّ الْقَدِيمَ هُوَ الْمَعْنَى ثُمَّ جَعَلَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ لِامْتِنَاعِ اخْتِصَاصِهِ بِعَدَدِ مُعَيَّنٍ وَامْتِنَاعِ مَعَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ . فَلَمَّا شَاعَ قَوْلُهُ وَعَرَفَ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ فَسَادَهُ شَرْعًا وَعَقْلًا قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - مِمَّنْ وَافَقَتْهُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ - إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَعَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَحْدَثَهُ مِنْ الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ - : إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ الْحُرُوفِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُؤَلَّفَةِ . فَصَارَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مُرَكَّبًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلِ الْكُلَّابِيَة فَإِذَا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ نَاظَرُوهُمْ بِطَرِيقَةِ ابْنِ كُلَّابٍ وَإِذَا نَاظَرَهُمْ الْكُلَّابِيَة عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ نَاظَرُوهُمْ بِحُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ . وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا قَالَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا أَصْحَابُهُمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ وَإِنَّمَا قَالَهُ - مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِمْ - بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَمَّنْ قَالَهَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ لَا بِأَقْوَالِ السَّلَفِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ

وَلَا بِحَقَائِقِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَلِمَ قَالُوا هَذَا وَمَا الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إلَى هَذَا ؟ وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَصَارَ مَنْ يُطَالِعُ كُتُبَ الْكَلَامِ الَّتِي لَا يَجِدُ فِيهَا إلَّا قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ وَانْتَسَبَ إلَى السُّنَّةِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا هَذَا الْقَوْلُ وَهَذَا وَذَاكَ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ قَوْلٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ السَّلَفِ فَيُظَنُّ الْقَوْلَ الْآخَرَ قَوْلَ السَّلَفِ كَمَا يَقَعُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذِهِ : لَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَيَظُنُّ الصَّوَابَ وَاحِدًا مِنْهَا وَيَكُونُ فِيهَا قَوْلٌ لَمْ يَبْلُغْهُ وَهُوَ الصَّوَابُ دُونَ تِلْكَ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ إلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَمَنْ اجْتَهَدَ بِقَصْدِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَلْ يُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ طَاعَتِهِ وَيَغْفِرُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ فَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ .
فَصْلٌ :
وَالنُّصُوصُ وَالْآثَارُ فِي تَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ - بَلْ وَتَفْضِيلُ بَعْضِ صِفَاتِهِ - عَلَى بَعْضٍ مُتَعَدِّدَةٌ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ " صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا فَاضِلَةٌ

فِي غَايَةِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ لَيْسَ فِيهَا نَقْصُ " كَلَامٍ صَحِيحٍ لَكِنَّ تَوَهُّمَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْمَفْضُولُ مَعِيبًا مَنْقُوصًا خَطَأٌ مِنْهُ فَإِنَّ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَسْمَائِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَلِهَذَا يُقَالُ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ . وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ صِفَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ وَبَعْضُ أَفْعَالِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فَفِي الْآثَارِ ذَكَرَ اسْمَهُ الْعَظِيمَ وَاسْمَهُ الْأَعْظَمَ وَاسْمَهُ الْكَبِيرَ وَالْأَكْبَرَ كَمَا فِي السُّنَنِ وَرَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ ابْنِ بريدة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : دَخَلْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي يَدْعُو : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ } . { وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنْت جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَلْقَةِ وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ تَشَهَّدَ وَدَعَا فَقَالَ فِي فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي } وَفِي رِوَايَةٍ { سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي } فَوَصَفَ رَحْمَتَهُ بِأَنَّهَا تَغْلِبُ وَتَسْبِقُ غَضَبَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ رَحْمَتِهِ عَلَى غَضَبِهِ مِنْ جِهَةِ سَبْقِهَا وَغَلَبَتِهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَأَعُوذُ بِك مِنْك } . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي وِتْرِهِ لَكِنَّ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِ الِاسْتِعَاذَةِ بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ كَقَوْلِهِ { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ خَوْلَةَ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانِ بْنِ أَبِي العاص : { قُلْ : أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ فَقَدْ اسْتَعَاذَ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ . وَأَمَّا اسْتِعَاذَتُهُ بِهِ مِنْهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ : يَسْتَعِيذُ بِهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْجِهَةِ وَمِنْهُ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْجِهَةِ لِيَتَغَايَرَ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ وَالْمُسْتَعَاذُ

مِنْهُ إذْ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ مُخَوِّفٌ مَرْهُوبٌ مِنْهُ وَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ مَدْعُوٌّ مُسْتَجَارٌ بِهِ مُلْتَجَأٌ إلَيْهِ وَالْجِهَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَكُونُ مَطْلُوبَةً مَهْرُوبًا مِنْهَا لَكِنْ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ تَصِحُّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ النَّوْمِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك لَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ مِنْك إلَّا إلَيْك . آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت وَبِنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت } فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُنْجِي مِنْهُ إلَّا هُوَ وَلَا يُلْتَجَأُ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ . وَأَعْمَلَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ لَمَّا تَنَازَعَ الْفِعْلَانِ فِي الْعَمَلِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِهَةَ كَوْنِهِ مُنْجِيًا غَيْرَ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْجِيًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ جِهَةُ كَوْنِهِ مُلْتَجَأً إلَيْهِ غَيْرَ كَوْنِهِ مُلْتَجَأً مِنْهُ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِمَفْعُولَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ بِذَاتِهِ بِاعْتِبَارَيْنِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ : الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَمَا وَلُوا } . وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْيَدَيْنِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَيَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ كِلْتَاهُمَا يَمِينٌ مَعَ تَفْضِيلِ الْيَمِينِ . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمَّا كَانَتْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ مُتَضَمِّنَةً لِلنَّقْصِ فَكَانَتْ يَسَارُ أَحَدِهِمْ نَاقِصَةً فِي الْقُوَّةِ نَاقِصَةً فِي الْفِعْلِ

بِحَيْثُ تَفْعَلُ بِمَيَاسِرِهَا كُلَّ مَا يُذَمُّ - كَمَا يُبَاشِرُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارَ - بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كِلْتَا يَمِينِ الرَّبِّ مُبَارَكَةٌ لَيْسَ فِيهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ أَفَضْلُهُمَا كَمَا فِي حَدِيثِ آدَمَ قَالَ { اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ } فَإِنَّهُ لَا نَقْصٌ فِي صِفَاتِهِ وَلَا ذَمٌّ فِي أَفْعَالِهِ بَلْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا إمَّا فَضْلٌ وَإِمَّا عَدْلٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ . وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ } فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالْعَدْلُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ أَنَّ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ فَالْفَضْلُ أَعْلَى مِنْ الْعَدْلِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَرَحْمَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ نِقْمَتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَكُونُوا عَنْ يَدِهِ الْأُخْرَى . وَجَعَلَهُمْ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ تَفْضِيلٌ لَهُمْ كَمَا فَضَّلَ فِي الْقُرْآنِ أَهْلَ الْيَمِينِ وَأَهْلَ الْمَيْمَنَةِ عَلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَأَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا عَذَّبَهُمْ بِعَدْلِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ جَاءَتْ بِأَنَّ أَهْلَ قَبْضَةِ الْيَمِينِ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَأَهْلَ الْقَبْضَةِ الْأُخْرَى هُمْ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الشَّرَّ لَمْ يَرِدْ فِي أَسْمَائِهِ وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَلَمْ يُضِفْ إلَيْهِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَأَضَافَهُ إلَى السَّبَبِ الْمَخْلُوقِ أَوْ بِحَذْفِ فَاعِلِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } و { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } وَكَأَسْمَائِهِ الْمُقْتَرِنَةِ مِثْلَ الْمُعْطِي الْمَانِعِ الضَّارِّ النَّافِعِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ الْخَافِضِ الرَّافِعِ وَكَقَوْلِهِ : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وَكَقَوْلِهِ : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَكَقَوْلِ الْجِنِّ : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ : أَنَّهُ لَا يُضَافُ إلَيْك وَلَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك أَوْ قِيلَ إنَّ الشَّرَّ إمَّا عَدَمٌ وَإِمَّا مِنْ لَوَازِمِ الْعَدَمِ وَكِلَاهُمَا لَيْسَ إلَى اللَّهِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ الْخَيْرُ وَأَسْمَاؤُهُ تَدُلُّ عَلَى صِفَاتِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ خَيْرٌ حَسَنٌ جَمِيلٌ لَيْسَ فِيهِ شَرٌّ وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّرُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قَالَ تَعَالَى { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فَجَعَلَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي يُسَمِّي بِهَا نَفْسَهُ فَتَكُونُ الْمَغْفِرَةُ

وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَمَّا الْعِقَابُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْعِبَادِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْأَلِيمُ فَلَمْ يَقُلْ : وَإِنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ وَلَا فِي أَسْمَائِهِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمُ الْمُنْتَقِمِ وَإِنَّمَا جَاءَ الْمُنْتَقِمُ فِي الْقُرْآنِ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ { إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } وَجَاءَ مَعْنَاهُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وَهَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مُطْلَقَةٌ لَيْسَ فِيهَا عُمُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ رَحِيمٌ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِحِكْمَتِهِ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } وَقَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : { مَا خَلَقْنَاهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ : ( بِالْحَقِّ هُوَ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ كَمَا قَالَ : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَوْلُهُ : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا

بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } . وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلَهُ { هُوَ الْخَلَّاقُ } إشَارَةً إلَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَلَا يَنْبَغِي التَّشْدِيدُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بَلْ يَصْفَحُ عَنْهُمْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ لِأَجْلِ الْقَدَرِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَاقَبَ الْمُخَالِفِينَ لَهُ وَلِرُسُلِهِ . وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِمُعَاقَبَتِهِمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ مَا يُنَافِي قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ . وَقَوْلُهُ { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } تَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } فَإِنَّ لَهُمْ مَوْعِدًا يُجْزَوْنَ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } { فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } { إلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ } { فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ } { إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ } { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } وَقَوْلُهُ : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } وَقَوْلُهُ { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وَلَمْ يَعْذُرْ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ بِالْقَدَرِ وَلَوْ عَذَرَ بِهِ لَكَانَ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِذَلِكَ وَآدَمُ إنَّمَا حَجَّ مُوسَى لِأَنَّهُ لَامَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْ الذُّرِّيَّةَ فَقَالَ لَهُ : لِمَاذَا أَخَرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ وَمَا أَصَابَ الْعَبْدُ مِنْ الْمَصَائِبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ فِيهَا لِلَّهِ وَيَعْلَمَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ

تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قَالَ عَلْقَمَةُ - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ : فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ بِهِ وَمِنْ الصَّبْرِ الصَّبْرُ عَلَى مَا أَصَابَهُ وَهَذَا هُوَ صَاحِبُ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَالَ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَالَ : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } . وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَيُبْتَلَى بِمَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الصَّبْرِ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ الْخَلْقِ : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى مُنَاظَرَةِ آدَمَ وَمُوسَى ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ حَمَلُوهَا عَلَى مُحَامِلَ مُخَالَفَةٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَذَّبَ بِالْحَدِيثِ لِعَدَمِ فَهْمِهِ لَهُ وَالْحَدِيثُ حَقٌّ يُوجِبُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا جَرَتْ عَلَيْهِ مُصِيبَةٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ مِثْلَ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِ أَبِيهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ أَبُوهُ قَدْ تَابَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَبِعَةٌ كَمَا جَرَى لِآدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى }

وَقَالَ : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } وَكَانَ آدَمَ وَمُوسَى أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ أَحَدُهُمَا لِذَنْبِهِ بِالْقَدَرِ وَيُوَافِقُهُ الْآخَرُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ آدَمَ إلَى تَوْبَةٍ وَلَا أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ وَمُوسَى هُوَ الْقَائِلُ : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَهُوَ الْقَائِلُ : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وَهُوَ الْقَائِلُ : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } وَهُوَ الْقَائِلُ لِقَوْمِهِ : { فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } فَلَوْ كَانَ الْمُذْنِبُ يُعْذَرُ بِالْقَدَرِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى هَذَا بَلْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ لَمَّا حَصَلَ مِنْ مُوسَى مَلَامٌ عَلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُصِيبَةِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ وَقَدَّرَهَا . وَمِنْ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَالْمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب وَالْجَاهِلُ الظَّالِمُ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى ذُنُوبِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَلَا يَعْذُرُ بِالْقَدَرِ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ وَلَا يَذْكُرُ الْقَدَرَ عِنْدَ مَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ فَعَكْسُ الْقَضِيَّةِ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا عَمِلَ حَسَنَةً أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ هُوَ يَسَّرَهَا وَتَفَضَّلَ بِهَا فَلَا يَجِبُ بِهَا وَلَا يُضِيفُهَا إلَى نَفْسِهِ كَأَنَّهُ الْخَالِقُ لَهَا وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً اسْتَغْفَرَ وَتَابَ مِنْهَا وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ سَمَاوِيَّةٌ أَوْ بِفِعْلِ الْعِبَادِ يَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً مَقْضِيَّةً عَلَيْهِ

وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ لِحِكْمَتِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { بِالْحَقِّ } وَقَدْ ذَمَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَعَبَثًا فَقَالَ : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } وَقَالَ : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } وَقَالَ : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فَلَا بُدَّ مِنْ جَزَاءِ الْعِبَادِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَلِهَذَا قِيلَ : { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } . وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ مَا يَخْلُقُهُ حِكْمَةٌ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَأَتْقَنَ كُلَّ مَا صَنَعَ فَمَا وَقَعَ مِنْ الشَّرِّ الْمَوْجُودِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَقَدْ وُجِدَ لِأَجْلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمَحْبُوبَةِ الْمَرْضِيَّةِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ حَسَنٌ جَمِيلٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ كَانَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ . وَهَذَا مَوْضُوعٌ عَظِيمٌ قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ النَّاسَ - فِي بَابِ خَلْقِ الرَّبِّ وَأَمْرِهِ وَلِمَ فَعَلَ ذَلِكَ - عَلَى طَرَفَيْنِ وَوَسَطٍ : فَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ قَصَدُوا تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا ظَنُّوهُ قَبِيحًا مِنْ الْأَفْعَالِ وَظُلْمًا ؛ فَأَنْكَرُوا عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ خَالِقًا

لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَا أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ بَلْ قَالُوا : يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ ثُمَّ إنَّهُمْ وَضَعُوا لِرَبِّهِمْ شَرِيعَةً فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَحْرُمُ - بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ - وَتَكَلَّمُوا فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ بِهَذَا الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي شَبَّهُوا فِيهِ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . وَقَابَلَهُمْ الْجَهْمِيَّة الْغُلَاةُ فِي الْجَبْرِ فَأَنْكَرُوا حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَقَالُوا : لَمْ يَخْلُقْ لِحِكْمَةِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِحِكْمَةِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ " لَامُ كَيْ " لَا فِي خَلْقِهِ وَلَا فِي أَمْرِهِ . وَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } و { خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَقَوْلَهُ : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } وَقَوْلَهُ { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وَقَوْلَهُ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } - وَأَمْثَالَ ذَلِكَ - إنَّمَا اللَّامُ فِيهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } وَقَوْلُ الْقَائِلِ : " لُدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ " . وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِعَاقِبَةِ فِعْلِهِ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ أَمْرُ مُوسَى أَوْ مِمَّنْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ رَدِّ عَاقِبَةِ فِعْلِهِ كَعَجْزِ بَنِي آدَمَ عَنْ دَفْعِ الْمَوْتِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَالْخَرَابِ عَنْ دِيَارِهِمْ فَأَمَّا مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ مُرِيدٌ لِكُلِّ

مَا خَلَقَ : فَيَمْتَنِعُ فِي حَقِّهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْعِلْمِ أَوْ نَفْيَ الْقُدْرَةِ . وَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ لِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ دُونَ بَعْضٍ . وَقَالُوا الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا هُوَ مِنْ مَعْنَى الْإِرَادَةِ وَاَللَّهُ مُرِيدٌ لِكُلِّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ مُحِبٌّ لَهُ . وَزَعَمُوا أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَفْيِ حُبِّهِ وَرِضَاهُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كَقَوْلِهِ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } مَحْمُولٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ دِينًا يُثِيبُهُمْ عَلَيْهِ . وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ إلَّا إذَا وَقَعَ فَيُرِيدُهُ كَمَا يُرِيدُ حِينَئِذٍ مَا وَقَعَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الْمَبْسُوطَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ جَمِيعُ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ وَلَكِنْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ اتَّبَعَ جَهْمًا فِي ذَلِكَ . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي : وَمِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي إطْلَاقِهِ وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا فَصَارَ الْمُتَقَدِّمُونَ إلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَلَا يَرْضَاهُ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَعْصِيَةٍ . وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ : الْمَحَبَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ نَفْسُهَا وَكَذَلِكَ الرِّضَا وَالِاصْطِفَاءُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْكُفْرَ

وَيَرْضَاهُ كُفْرًا قَبِيحًا مُعَاقِبًا عَلَيْهِ . وَهُوَ كَمَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَى مَا نَهَى عَنْهُ وَلَا يُحِبُّهُ وَعَلَى ذَلِكَ قُدَمَاءُ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِنْ قُدَمَائِهِمْ وَلَكِنَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ قَوْلٌ لِجَهْمِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْجَبْرِ وَبِمَا يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَنْكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجَذْمَى فَيَقُولُ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ هَذَا ؟ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَقَدْ قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ { لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا } . وَهَذِهِ مَسَائِلُ عَظِيمَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْجُمَلِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقْرَأُ كُتُبًا مُصَنَّفَةً فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلَا يَجِدُ فِيهَا الْقَوْلَ الْمُوَافِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ بَلْ يَجِدُ أَقْوَالًا كُلٌّ مِنْهَا فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ فَيَحَارُ مَا الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ إذْ لَمْ يَجِدْ فِي تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْهُدَى فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } .

فَصْلٌ :
وَإِذَا عُلِمَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ مَعَ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ بَعْضُ صِفَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ بَقِيَ الْكَلَامُ فِي كَوْنِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ) تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مَا وَجْهُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ ثَوَابُهَا بِقَدْرِ ثَوَابِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَمَا وَجْهُ قِرَاءَةِ سَائِرِ الْقُرْآنِ ؟ فَيُقَالُ : أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحْسَنُهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْجَوَابُ الْمَنْقُولُ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ فَعَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } فَقَالَ : مَعْنَاهُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ثُلُثٌ مِنْهَا الْأَحْكَامُ وَثُلُثٌ مِنْهَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَثُلُثٌ مِنْهَا الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ . وَهَذِهِ السُّورَةُ جَمَعَتْ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : بَدَأَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَرَوَى قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ هَذَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَاهِدٍ عَنْ الصَّابُونِيِّ وَالْبَيْهَقِي عَنْ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظِ قَالَ : سَمِعْت أَبَا الْوَلِيدِ

حَسَّانَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهَ يَقُولُ : سَأَلْت أَبَا الْعَبَّاسِ ابْنَ سُرَيْجٍ قُلْت : مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } ؟ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَثُلُثٌ أَحْكَامٌ وَثُلُثٌ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَثُلُثٌ أَسْمَاءٌ وَصَفَاتٌ . وَقَدْ جُمِعَ فِي ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ) أَحَدُ الْأَثْلَاثِ وَهُوَ الصِّفَاتُ فَقِيلَ إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ . الْوَجْهُ الثَّانِي - مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ هِيَ مَعْرِفَةُ ذَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ فَهَذِهِ السُّورَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ إذْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا وُجِدَ مِنْ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ . فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ كُفْءٌ وَلَا لَهُ مَثَلٌ . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ . قَالَ : وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ الْمَعْنَى : مَنْ عَمِلَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِذْعَانِ لِلْخَالِقِ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : مَنْ قَرَأَهَا فَلَهُ أَجْرُ ثُلُثِ الْقُرْآنِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشَرُ حَسَنَاتٍ } . قُلْت : كِلَا الْوَجْهَيْنِ ضَعِيفٌ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ وُجُوهٌ : الْأَوَّلُ أَنْ نَقُولَ الْقُرْآنَ لَيْسَ

كُلُّهُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْمَذْكُورَةُ بَلْ فِيهِ أَمْرٌ بِالْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْعِبَادِ الْمَعْرِفَةُ الْوَاجِبَةُ وَالْعَمَلُ الْوَاجِبُ وَالْأُمَّةُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ نَازَعُوا فِي كَوْنِ الْأَعْمَالِ مِنْ الْإِيمَانِ فَلَمْ يُنَازِعُوا فِي أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَغَيْرَهَا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحَرَّمَ الْفَوَاحِشَ : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقُدِّرَ أَنَّ سُورَةً مِنْ السُّورِ تَضَمَّنَتْ ثُلُثَ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا ثُلُثَ الْقُرْآنِ . الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ مَعْرِفَةُ ذَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ ذَاتَه تُعْرَفُ بِدُونِ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَلَوْ قَدَّرَ إمْكَانَ ذَلِكَ أَوْ فَرَضَ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ السَّلْبِيَّةِ وَالثُّبُوتِيَّةِ فَلَيْسَ ذَاكَ مَعْرِفَتُهُ بِاَللَّهِ أَلْبَتَّةَ وَلَا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلْبِيٍّ أَوْ ثُبُوتِيٍّ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ هَذَا إلَّا الْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ يَقُولُونَ : يُسْلَبُ عَنْهُ كُلُّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ وَعَدَمِيٍّ فَلَا يُقَالُ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا لَيْسَ بِعَالِمِ وَلَا قَادِرٌ وَلَا لَيْسَ بِقَادِرِ وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُمْ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُمْ

مُتَنَاقِضُونَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ سَلْبَ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ كَمَا أَنَّ جَمْعَهُمَا مُمْتَنِعٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا . وَأَمَّا تَنَاقُضُهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرُوا مَا ذَكَرُوا أَنَّهُ يُسْلَبُ عَنْهُ النَّقِيضَانِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا لِيُخْبِرَ عَنْهُ بِهَذَا السَّلْبِ وَأَيُّ شَيْءٍ قَالُوهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ إثْبَاتًا وَقَدْ بَسَطْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ لَا يَصِلُونَ إلَى هَذَا الْحَدِّ ؛ بَلْ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ السجستاني وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ : نَحْنُ لَا نَنْفِي النَّقِيضَيْنِ بَلْ نَسْكُتُ عَنْ إضَافَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ ؛ فَلَا نَقُولُ هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ . فَيُقَالُ لَهُمْ : إعْرَاضُ قُلُوبِكُمْ عَنْ الْعِلْمِ بِهِ وَكَفُّ أَلْسِنَتِكُمْ عَنْ ذِكْرِهِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُجَرَّدًا عَنْ النَّقِيضَيْنِ ؛ بَلْ يُفِيدُ هَذَا كُفْرَكُمْ بِاَللَّهِ وَكَرَاهَتَكُمْ لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَهَذَا حَقِيقَةُ مَذْهَبِكُمْ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّصَوُّفِ وَالتَّحْقِيقِ كَابْنِ سَبْعِينَ وَالصَّدْرِ القُونَوي وَغَيْرِهِمَا : إنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ ثُبُوتِيٍّ وَسَلْبِيٍّ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَؤُلَاءِ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ فَيَخُصُّونَهُ بِالْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ . ثُمَّ يَقُولُونَ هُوَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ سَلْبِيٍّ وَثُبُوتِيٍّ إنَّمَا يَكُونُ

فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : الْوُجُودُ الْكُلِّيُّ الْمَقْسُومُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْفَلَاسِفَةُ مَوْضُوعَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَيُسَمُّونَهُ " الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا " وَ " الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى " إنَّمَا يَكُونُ كُلِّيًّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ قَطُّ وُجُودٌ هُوَ بِعَيْنِهِ وَاجِبٌ وَهُوَ بِعَيْنِهِ مُمْكِنٌ وَلَا وُجُودَ هُوَ نَفْسُهُ يَتَّصِفُ بِهِ الْوَاجِبُ وَهُوَ نَفْسُهُ يَتَّصِفُ بِهِ الْمُمْكِنُ ؛ بَلْ صِفَةُ الْوَاجِبِ تَخْتَصُّ بِهِ وَصِفَةُ الْمُمْكِنِ تَخْتَصُّ بِهِ وَوُجُودُ الْوَاجِبِ يَخُصُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ يَخُصُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِهِ فَهِيَ صِفَاتٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مُشَارِكٌ أَوْ مُمَاثِلٌ فَإِنَّ ذَاتَه الْمُقَدَّسَةَ لَا تُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ الذَّوَاتِ وَصِفَاتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَلَا تُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَاسْمُهُ ( الْأَحَدُ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَاسْمُهُ ( الصَّمَدُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ الْمُصَنَّفِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ . وَصِفَاتِ التَّنْزِيهِ كُلِّهَا ؛ بَلْ وَصِفَاتُ الْإِثْبَاتِ : يَجْمَعُهَا هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ نَوْعَانِ : عِلْمِيٌّ قَوْلِيٌّ وَعَمَلِيٌّ قَصْدِيٌّ . فَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ نَصًّا وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْعِلْمِيِّ

لُزُومًا . و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الْقَوْلِيِّ نَصًّا وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ لُزُومًا . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ أَيْضًا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِآيَةِ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَآيَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ صِفَاتِ التَّنْزِيهِ يَجْمَعُهَا هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : أَحَدُهُمَا نَفْيُ النَّقَائِصِ عَنْهُ وَذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَمَنْ ثَبَتَ لَهُ الْكَمَالُ التَّامُّ انْتَفَى النُّقْصَانُ الْمُضَادُّ لَهُ وَالْكَمَالُ مِنْ مَدْلُولِ اسْمِهِ الصَّمَدِ . وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ وَهَذَا مِنْ مَدْلُولِ اسْمِهِ الْأَحَدِ . فَهَذَانِ الِاسْمَانِ الْعَظِيمَانِ - الْأَحَدُ الصَّمَدُ - يَتَضَمَّنَانِ تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ وَتَنْزِيهِهِ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مُمَاثِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا . وَاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ جَمِيعِ

صِفَاتِ الْكَمَالِ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ إثْبَاتَ جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيَ جَمِيعِ صِفَاتِ النَّقْصِ فَالسُّورَةُ تَضَمَّنَتْ كُلَّ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ وَتَضَمَّنَتْ أَيْضًا كُلَّ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ اسْمِهِ الصَّمَدِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا نُفِيَ عَنْهُ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالنُّظَرَاءِ مُسْتَلْزِمٌ ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَيْضًا . فَإِنَّ كُلَّ مَا يُمْدَحُ بِهِ الرَّبُّ مِنْ النَّفْيِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ ثُبُوتًا بَلْ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا يُمْدَحُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ النَّفْيِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ ثُبُوتًا وَإِلَّا فَالنَّفْيُ الْمَحْضُ مَعْنَاهُ عَدَمٌ مَحْضٌ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ كَمَالٍ . وَهَذَا كَمَا يَذْكُرُهُ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِثْلُ قَوْلِهِ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } فَنَفْيُ أَخْذِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ حَيَاتِهِ وقيوميته فَإِنَّ النَّوْمَ يُنَافِي القيومية وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ . ثُمَّ قَالَ : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَنَفْيُ الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إذْنِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ مُلْكِهِ ؛ إذْ كُلُّ مَنْ شَفَعَ إلَيْهِ شَافِعٌ بِلَا إذْنِهِ فَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ كَانَ مُنْفَعِلًا عَنْ ذَلِكَ الشَّافِعِ فَقَدْ أَثَّرَتْ شَفَاعَتُهُ فِيهِ فَصَيَّرَتْهُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ ذَلِكَ الشَّافِعُ شَرِيكًا لِلْمَشْفُوعِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بِالشَّفَاعَةِ ؛ إذْ كَانَتْ بِدُونِ إذْنِهِ لَا سِيَّمَا وَالْمَخْلُوقُ إذَا شُفِعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَبِلَ الشَّفَاعَةَ فَإِنَّمَا يَقْبَلُهَا لِرَغْبَةِ أَوْ لِرَهْبَةِ : إمَّا مِنْ

الشَّافِعِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ دَاعِيَتُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ تَامَّةً مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى شَفَاعَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ : { يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي } . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالشَّفَاعَةِ إلَيْهِ فَكَانَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ يَقُولُ : { اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ؛ وَكَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُمْ يُؤْجَرُونَ عَلَى الشَّفَاعَةِ وَهُوَ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ كَمَا قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : { لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } فَكَانَ فِي هَذَا النَّفْيِ إثْبَاتُ أَنَّ عِبَادَهُ لَا يَعْلَمُونَ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ فَأَثْبَتَ أَنَّهُ الَّذِي عَلَّمَهُمْ لَا يَنَالُونَ الْعِلْمَ إلَّا مِنْهُ . فَإِنَّهُ : { الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } وَ { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . ثُمَّ قَالَ : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أَيْ لَا يُكْرِثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ . وَهَذَا النَّفْيُ تَضَمَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ فَإِنَّهُ مَعَ حِفْظِهِ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا يَثْقُلُ عَلَى مَنْ فِي قُوَّتِهِ ضَعْفٌ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ مَسِّ اللُّغُوبِ . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ :

اللُّغُوبُ الْإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } الْإِدْرَاكُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَكْثَرِينَ هُوَ الْإِحَاطَةُ . وَقَالَ طَائِفَةٌ هُوَ الرُّؤْيَةُ وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ عَنْهُ لَا مَدْحَ فِيهِ فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا يَرَى . وَكُلُّ وَصْفٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا فَلَا يَكُونُ فِيهِ مَدْحٌ إذْ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ لَا يُحَاطُ بِهِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ . وَإِنَّ الْعِبَادَ مَعَ رُؤْيَتِهِمْ لَهُ لَا يُحِيطُونَ بِهِ رُؤْيَةً كَمَا أَنَّهُمْ مَعَ مَعْرِفَتِهِ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَكَمَا أَنَّهُمْ مَعَ مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لَا يُحِيطُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ ؛ بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ . وَلِهَذَا قَالَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ : { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى كَوْنِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَبَيَانِ أَنَّ الصَّوَابَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ " مَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ " إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَعْرِفَةَ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَهَذِهِ مِنْ تَمَامِ مَعْرِفَتِهِ وَيَبْقَى مَعْرِفَةُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَقِصَصُ الْأُمَمِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكَافِرَةِ لَمْ يَذْكُرْهُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ مَعَانِي الْقُرْآنِ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ . وَإِنْ جَعَلَ هَذِهِ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَصَصِ الْمَطْلُوبِ فِيهَا الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ

كَمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ طَاعَتُهُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِكُلِّ أُمَّةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَفْيِ الْمَثَلِ عَنْهُ وَمِنْ نَفْيِ الْوِلَادَةِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهَذَا الْمَعْنَى . الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ التَّنْزِيهَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فَمَعْرِفَةُ اللَّهِ لَيْسَتْ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتِ السَّلْبِ بَلْ الْأَصْلُ فِيهَا صِفَاتُ الْإِثْبَاتِ وَالسَّلْبُ تَابِعٌ وَمَقْصُودُهُ تَكْمِيلُ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ تَنْزِيهٍ مُدِحَ بِهِ الرَّبُّ فَفِيهِ إثْبَاتٌ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ " سُبْحَانَ اللَّهِ " مُتَضَمِّنًا تَنْزِيهَ الرَّبِّ وَتَعْظِيمَهُ فَفِيهَا تَنْزِيهٌ مِنْ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَفِيهَا تَعْظِيمُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ فَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ وَمَا نَفَاهُ مِنْ الْمُعَادَلَةِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ فِي مِقْدَارِ الْأَجْرِ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ كَمَا قَدْ بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا إنْ أَرَادَ

بِهِ الْعَمَلَ الْوَاجِبَ مِنْ التَّصْدِيقِ بِمَضْمُونِهَا وَتَوْحِيدِ اللَّهِ فَهَذَا أَجْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَجْرِ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَلَمْ يَعْمَلْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ إنْ خَلَا عَنْ الْإِيمَانِ بِمَضْمُونِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ خَلَا عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فَهُوَ فَاسِقٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَشْر مَرَّاتٍ لَمْ يَكُنْ أَجْرُهُ مِثْلَ أَجْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْأَجْرَ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَضْمُونِهَا سَوَاءٌ قَرَأَهَا أَوْ لَمْ يَقْرَأْهَا وَالْأَجْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ لِمَنْ قَرَأَهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرَأَهَا مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ . وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ قِرَاءَتَهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَقَرَأَهَا عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ : فَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ لَهَا تَعْدِلُ قِرَاءَتَهُ هُوَ لِلثُّلُثِ . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي جَعَلَ يُرَدِّدُهَا . وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ لَهُمْ بِأَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ ثُلُثَهُ إذَا قَرَءُوهُ هُمْ لَمْ يَرِدْ بِهِ الثُّلُثُ إذَا قَرَأَهَا مُنَافِقٌ لَا يُؤْمِنُ بِمَعْنَى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . ثُمَّ إنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ بِذَلِكَ مَنْ قَرَأَ الثُّلُثَ بِلَا إيمَانٍ بِهَا مَعْنًى لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى نَقِيضِهِ . وَهَذَا التَّأْوِيلُ وَأَمْثَالُهُ هُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَجْهًا آخَرَ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ : " جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَدُرَرِهِ " أَمَّا قَوْلُهُ : { { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }

تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } مَا أَرَاك تَفْهَمُ وَجْهَ ذَلِكَ فَتَارَةً تَقُولُ : ذَكَرَ هَذَا التَّرْغِيبَ فِي التِّلَاوَةِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِهِ التَّقْدِيرَ وَحَاشَا مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ عَنْ ذَلِكَ . وَتَارَةً تَقُولُ : هَذَا بَعِيدٌ عَنْ الْفَهْمِ وَالتَّأْوِيلِ فَإِنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ آلَافِ آيَةٍ فَهَذَا الْقَدْرُ كَيْفَ يَكُونُ ثُلُثَهَا ؟ وَهَذَا لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِك بِحَقَائِقِ الْقُرْآنِ وَنَظَرِك إلَى ظَاهِرِ أَلْفَاظِهِ فَتَظُنُّ أَنَّهَا تَعْظُمُ وَتَكْثُرُ بِطُولِ الْأَلْفَاظِ وَتَقْصُرُ بِقِصَرِهَا . وَذَلِكَ كَظَنِّ مَنْ يُؤْثِرُ الدَّرَاهِمَ الْكَثِيرَةَ عَلَى الْجَوْهَرَةِ الْوَاحِدَةِ نَظَرًا إلَى كَثْرَتِهَا . فَاعْلَمْ أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَطْعًا وَتَرْجِعُ إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مُهِمَّاتِ الْقُرْآنِ وَهِيَ : مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ الْآخِرَةِ وَمَعْرِفَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . فَهَذِهِ الْمَعَارِفُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْمُهِمَّةُ وَالْبَاقِي تَوَابِعُ . وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ تَشْتَمِلُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَتَقْدِيسُهُ وَتَوْحِيدُهُ عَنْ مُشَارِكٍ فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْكُفْءِ . وَالْوَصْفِ بِالصَّمَدِ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ فِي الْوُجُودِ لِلْحَوَائِجِ سِوَاهُ . نَعَمْ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثُ الْآخِرَةِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . فَلِذَلِكَ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ . أَيْ ثُلُثَ الْأُصُولِ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ : { الْحَجُّ عَرَفَةَ } أَيْ هُوَ الْأَصْلُ وَالْبَاقِي تَبَعٌ .
قُلْت آيَاتُ الْقُرْآنِ نَوْعَانِ : عِلْمِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ وَفِي الْآيَاتِ مَا يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ . وَأَبُو حَامِدٍ جَمَعَ الْعِلْمِيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ

بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقِصَصِ وَسَمَّاهَا " جَوَاهِرَ الْقُرْآنِ " وَجَمَعَ الْعَمَلِيَّاتِ وَسَمَّاهَا " دُرَرَ الْقُرْآنِ " . وَجَعَلَ الشَّطْرَ الْأَوَّلَ مِنْ " الْفَاتِحَةِ " مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالثَّانِي مِنْ الدُّرَرِ وَالْآيَاتُ الَّتِي تَجْمَعُ الْمَعْنَيَيْنِ يَذْكُرُهَا فِي أَغْلَبِ النَّوْعَيْنِ عَلَيْهَا . وَمَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقِسْمَيْنِ رُبُعُ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ آيَةٍ . وَجَعَلَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ سِتَّةَ أَصْنَافٍ : ثَلَاثَةُ أُصُولٍ وَثَلَاثَةُ تَوَابِعَ . فَذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ والآخرين . وَقَالَ : سِرُّ الْقُرْآنِ وَلُبَابُهُ الْأَصْفَى وَمَقْصِدُهُ الْأَقْصَى دَعْوَةُ الْعِبَادِ إلَى الْجَبَّارِ الْأَعْلَى رَبِّ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَخَالِقِ السَّمَوَاتِ الْعُلَى وَالْأَرْضِينَ السُّفْلَى . فَالثَّلَاثَةُ الْمُهِمَّةُ : تَعْرِيفُ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ وَتَعْرِيفُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي تَجِبُ مُلَازَمَتُهُ فِي السُّلُوكِ إلَيْهِ وَتَعْرِيفُ الْحَالِ عِنْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ . وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمَعْنِيَّةُ فَأَحَدُهَا : أَحْوَالُ الْمُجِيبِينَ لِلدَّعْوَةِ وَلَطَائِفِ صُنْعِ اللَّهِ فِيهِمْ وَسِرِّهِ وَمَقْصُودُهُ التَّشْوِيقُ وَالتَّرْغِيبُ . وَتَعْرِيفُ أَحْوَالِ النَّاكِبِينَ وَالنَّاكِلِينَ عَنْ الْإِجَابَةِ وَكَيْفِيَّةِ قَمْعِ اللَّهِ لَهُمْ وَتَنْكِيلِهِ بِهِمْ وَسِرِّهِ وَمَقْصُودُهُ الِاعْتِبَارُ وَالتَّرْهِيبُ . وَثَانِيهَا : حِكَايَةُ أَقْوَالِ الْجَاحِدِينَ . وَكَشْفِ فَضَائِحِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِالْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ عَلَى الْحَقِّ . وَمَقْصُودُهُ وَسِرُّهُ فِي جَنَبَةِ الْبَاطِلِ الْإِفْصَاحُ وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّنْفِيرُ وَفِي جَنَبَةِ الْحَقِّ الْإِيضَاحُ وَالتَّثْبِيتُ وَالتَّقْرِيرُ . وَثَالِثُهَا : تَعْرِيفُ عِمَارَةِ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَكَيْفِيَّةِ أَخْذِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالْأُهْبَةِ لِلِاسْتِعْدَادِ . قُلْت : مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ أُصُولَ الْإِيمَانِ ثَلَاثَةٌ فَهُوَ حَقٌّ كَمَا ذَكَرَهُ

وَلَا بُدَّ مِنْ الثَّلَاثَةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَدِينٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ . فَذَكَرَ هَذِهِ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ . وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ التَّابِعَةُ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ . فَإِنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مِنْ تَفْضِيلِ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَمَا فِيهِ مِنْ عِمَارَةِ الطَّرِيقِ فَهُوَ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَمَا فِيهِ مِنْ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ فَذَاكَ مِنْ تَمَامِ الْإِخْبَارِ بِالثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ إذَا أَخْبَرَ بِالثَّلَاثَةِ ذَكَرَ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّةَ الْمُثْبِتَةَ لِذَلِكَ وَذَكَرَ شِبْهَ الْجَاحِدِينَ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ ذَلِكَ فَقَالَ : الْقِسْمُ الْجَائِي لِمُحَاجَّةِ الْكُفَّارِ وَمُجَادَلَتِهِمْ وَإِيضَاحِ مَخَازِيهِمْ بِالْبُرْهَانِ الْوَاضِحِ وَكَشْفِ أَبَاطِيلِهِمْ وتخاييلهم . وَأَبَاطِيلُهُمْ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ :
الْأَوَّلُ : ذِكْرُ اللَّهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُهُ وَأَنَّ لَهُ وَلَدًا شَرِيكًا وَأَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ . الثَّانِي ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَشَاعِرٌ وَإِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ . وَثَالِثُهَا إنْكَارُ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَحْدُ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِنْكَارُ عَاقِبَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ . وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ الْأَخْبَارِ بِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا - وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ أَبُو حَامِدٍ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُسْتَجِيبِينَ وَالنَّاكِبِينَ - فَهَذَا مِنْ

تَمَامِ الْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ . فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ شُوهِدَ فِي الدُّنْيَا وَرُئِيَتْ آثَارُهُ وَتَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ غَيْبٌ عَنْ الْعِبَادِ . وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ هَذَا فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَوْعِظَةِ كَقَوْلِهِ : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } . وَقَوْلُهُ : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } وَقَوْلُهُ : { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وَقَوْلُهُ : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } الْآيَاتِ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِمَا ذَكَرَ قِصَّةَ قَوْمِ لُوطٍ : { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } وَالْمُتَوَسِّمُ : الْمُسْتَدِلُّ بِالسِّمَةِ وَالسِّيمَا وَهِيَ الْعَلَامَةُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } . فَمَعْرِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ثَابِتَةٌ مَقْسَمٌ عَلَيْهَا لَكِنَّ هَذَا يَكُونُ إذَا تَكَلَّمُوا وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُمْ بِالسِّيمَا فَمَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَخْفَى . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } } قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ لِلْمُتَفَرَّسِينَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : يُقَالُ تَوَسَّمْت فِي فُلَانٍ الْخَيْرَ أَيْ تَبَيَّنْته وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْمُتَوَسِّمُونَ فِي اللُّغَةِ النُّظَّارُ الْمُثْبِتُونَ فِي نَظَرِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ سِمَةِ الشَّيْءِ يُقَالُ تَوَسَّمْت فِي فُلَانٍ كَذَا أَيْ عَرَفْت وَقَوْلُهُ " الْمُثْبِتُونَ فِي نَظَرِهِمْ " أَيْ فِي نَظَرِ أَعْيُنِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا السِّيمَا بِخِلَافِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : النَّاظِرُونَ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الْمُنْتَقِدُونَ وَقَالَ قتادة : الْمُعْتَبِرُونَ . وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْمُتَوَسِّمَ يَجْمَعُ هَذَا كُلَّهُ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ . ثُمَّ قَالَ : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ } أَيْ بِطَرِيقِ مُتَبَيِّنٍ لِلنَّاسِ وَاضِحٍ .

وَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَمَّا قَالَ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } { وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } وَقَالَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ : { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَبْقَى آيَاتٍ وَهِيَ الْعَلَامَاتُ وَالدَّلَالَاتُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَخُصُّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَخْبَارِ الْكُفَّارِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مِنْ بَابِ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا وَيُعْتَبَرُ بِهَا عِلْمًا وَوَعْظًا فَيُفِيدُ مَعْرِفَةَ صِحَّةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيُفِيدُ التَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ وَيُكْرِمُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَيُعَاقِبُهُمْ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِمَخْلُوقَاتِهِ الْعَامَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَةَ الْفَاعِلِ وَيُسْتَدَلُّ بِإِحْكَامِ الْأَفْعَالِ عَلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْفَاعِلِ وَبِالتَّخْصِيصِ عَلَى مَشِيئَتِهِ ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِرَادَتِهِ فَكَذَلِكَ يُسْتَدَلُّ بِالتَّخْصِيصِ بِمَا هُوَ أَحْمَد عَاقِبَةً عَلَى حِكْمَتِهِ ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْفِعْلِ بِمَا هُوَ مَحْمُودٌ فِي الْعَاقِبَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحِكْمَةِ وَيُسْتَدَلُّ بِتَخْصِيصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَتَخْصِيصِ مُكَذِّبِيهِمْ بِالْخِزْيِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ عَلَى أَنَّهُ يَأْمُرُ وَيُحِبُّ وَيَرْضَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَيَكْرَهُ وَيَسْخَطُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُكَذِّبُوهُمْ ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالْإِكْرَامِ وَالنَّجَاةِ وَالذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالدُّعَاءِ وَتَخْصِيصَ الْآخَرِ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ وَقُبْحِ الذِّكْرِ وَاللَّعْنَةِ : يَسْتَلْزِمُ مَحَبَّةَ مَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلُ وَبُغْضَ مَا فَعَلَهُ الصِّنْفُ الثَّانِي .

وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا إنَّهَا تَخُصُّ أَحَدَ الْمِثْلَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ فَتِلْكَ هَلْ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهَا فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يُوصَفُ بِهَا فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ بِهَذَا وَتَخْصِيصَ أَعْدَائِهِمْ بِهَذَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْ تَخْصِيصٍ بِلَا مُخَصَّصٍ ؛ بَلْ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَصَدَ تَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ بِالْإِكْرَامِ وَهَؤُلَاءِ بِالْعِقَابِ وَأَنَّ إيمَانَ هَؤُلَاءِ سَبَبُ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا وَكَفْرَ هَؤُلَاءِ سَبَبُ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا . وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ دَاخِلَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ . وَلَكِنْ أَبُو حَامِدٍ يَجْعَلُ الْحِجَاجَ صَنْعَةَ الْكَلَامِ وَيَجْعَلُ عِمَارَةَ الطَّرِيقِ عِلْمَ الْفِقْهِ وَيَجْعَلُ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ عِلْمَ الْقَصَصِ وَيَقُولُ : إنَّ الْكَلَامَ وَالْجَدَلَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ حَقٍّ بِدَلِيلِ ؛ بَلْ إنَّمَا فِيهِ دَفْعُ الْبِدَعِ بِبَيَانِ تَنَاقُضِهَا ؛ وَيَجْعَلُ أَهْلَهُ مِنْ جِنْسِ خُفَرَاءِ الْحَجِيجِ وَيَجْعَلُ عِلْمَ الْفِقْهِ لَيْسَ غَايَتُهُ إلَّا مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا وَهَذَا مِمَّا نَازَعَهُ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِكَلَامِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ ( جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ ) وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ مِنْ مَعَانِي الْفَلْسَفَةِ وَجَعَلَ ذَلِكَ هُوَ بَاطِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِمَّا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرَّسُولِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي النُّبُوَّةِ بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ فِيهَا .

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِيهَا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَنَصَرْنَاهُ ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ . فَجَعَلَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ لَيْسَ هُوَ سِتَّةٌ : ثَلَاثَةُ أُصُولٍ وَثَلَاثَةُ فُرُوعٍ . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَمْ يَقُلْ ثُلُثَ الْمُهِمِّ مِنْهُ وَلَا ثُلُثَ أَكْثَرِهِ وَلَا أُصُولَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ هُوَ سِتَّةٌ : ثَلَاثَةٌ مُهِمَّةٌ وَثَلَاثَةٌ تَوَابِعُ وَالسُّورَةُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الْمُهِمَّةِ وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ تَقْسِيمَ الْقُرْآنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ تَقْسِيمُ بِالدَّلِيلِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ إمَّا إخْبَارٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ وَالْإِخْبَارُ إمَّا عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا عَنْ الْمَخْلُوقِ فَهَذَا تَقْسِيمٌ بَيِّنٌ . وَأَمَّا جَعْلُ عِلْمِ الْفِقْهِ خَارِجًا عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَجَعْلُ عِلْمِ الْأَدِلَّةِ وَالْحِجَجِ خَارِجًا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهَذَا مَرْدُودٌ عِنْدَ جَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَأَبُو حَامِدٍ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّمَا يُعْرَفُ مَعَانِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّصْفِيَةِ فَقَطْ لَا بِطْرِيقِ الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ وَلَا بِطْرِيقِ النَّظَرِ الِاسْتِدْلَالِيِّ

فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَلَا بِالْعَقْلِ . وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَصَنَّفُوا كُتُبًا فِي رَدِّ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَلَكِنَّ عُذْرَ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْ طَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ طُرُقًا عَقْلِيَّةً غَيْرَ ذَلِكَ فَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ فِيهِ . وَأَمَّا الطُّرُقُ الْخَبَرِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا صَحَّ مِنْ أَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَبِطَرِيقِ دَلَالَةِ أَلْفَاظِهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَظَنَّ - بِمَا شَارَكَ بِهِ بَعْضَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ - أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ بِأَلْفَاظِهِ فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذَا وَهَذَا سَدُّ بَابِ الطَّرِيقِ الْعَقْلِيِّ وَالسَّمْعِيِّ وَظَنَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَحْصُلُ لَا بِطْرِيقَ التَّصْفِيَةِ وَالْعَمَلِ فَسَلَكَ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمَقْصُودُ أَيْضًا فَرَجَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إلَى قِرَاءَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَقْوَالًا فِي كَوْنِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ المازري قَبْلَهُ قَالَ : قَالَ الْإِمَامُ يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيَّ - قِيلَ مَعْنَى ذَلِكَ : أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ : قَصَصٌ وَأَحْكَامٌ ؛ وَأَوْصَافُ اللَّهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ . و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ الصِّفَاتِ فَكَانَتْ ثُلُثًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ قَالَ : وَرُبَّمَا أَسْعَدَ هَذَا التَّأْوِيلُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ . قُلْت : هَذَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ - وَهُوَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ - ذَكَرَهُ المازري فِي كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ كَمَا سَيَأْتِي . قَالَ : وَقِيلَ مَعْنَى ثُلُثِ الْقُرْآنِ لِشَخْصِ

بِعَيْنِهِ قَصَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا قَالَ : وَقِيلَ مَعْنَاهُ إنَّ اللَّهَ يَتَفَضَّلُ بِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ لِقَارِئِهَا وَيَكُونُ مُنْتَهَى التَّضْعِيفِ إلَى مِقْدَارِ ثُلُثِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ دُونِ تَضْعِيفِ أَجْرٍ قَالَ : وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَشَدَ النَّاسَ وَقَالَ : سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } } . قَالَ المازري : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْدَحُ فِي تَأْوِيلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ لِشَخْصِ بِعَيْنِهِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : قَالَ بَعْضُهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { الر } { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ثُمَّ بَيَّنَ التَّفْصِيلَ فَقَالَ { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ } فَهَذَا فَصْلُ الْأُلُوهِيَّةِ ثُمَّ قَالَ { إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } وَهَذَا فَصْلُ النُّبُوَّةِ ثُمَّ قَالَ : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ } فَهَذَا فَصْلُ التَّكْلِيفِ وَمَا وَرَاءَهُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَعَامَّةِ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ مِمَّا فِيهِ مِنْ الْقَصَصِ فَمَنْ فَصَلَ النُّبُوَّةَ لِأَنَّهَا مِنْ أَدِلَّتِهَا وَفَهْمِهَا أَيْضًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جَمَعَتْ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ . قُلْت : مَضْمُونُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : الْإِلَهِيَّاتُ وَالنُّبُوَّاتُ وَالشَّرَائِعُ . وَأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْهَا الْإِلَهِيَّاتُ وَجَعَلَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالْقَصَصَ مِنْ قِسْمِ

النُّبُوَّةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُقَالُ : وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَيْضًا مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ كَمَا جَاءَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ . وَيُقَالُ أَيْضًا : الْقَصَصُ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إكْرَامِهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَعُقُوبَتِهِ لِمَنْ عَصَاهُ وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَقْصُودَ النُّبُوَّةِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا دَلَّ عَلَى إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ الْقَصَصِ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ وَمَا دَلَّ عَلَى إثْبَاتِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . ثُمَّ الْإِلَهِيَّاتُ أَيْضًا هِيَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيَّنَ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ بِالْعَقْلِ وَأَخْبَرَ عَنْ الْغَيْبِ الْمُطْلَقِ الَّذِي تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ . فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ الْقَصَصِ دَاخِلَةً فِي النُّبُوَّةِ دُونَ الْإِلَهِيَّاتِ فَإِنَّهُ إنْ عَنِيَ أَنَّ الْقَصَصَ تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَهِيَ تَدُلُّ مِنْ جِهَةِ إخْبَارِهِ بِهَا كَإِخْبَارِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْغَيْبِ وَفِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبِلَاتِ مَا هُوَ كَالْقَصَصِ فِي ذَلِكَ وَأَبْلَغَ . وَإِنْ عَنِيَ أَنَّ تَعْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى جِنْسِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى

نُبُوَّةِ مَنْ عَذَّبَ قَوْمَهُ ؛ لَا تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ الْمُتَأَخِّرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جِنْسِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْأَوَّلُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَزِيَادَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ فِيهَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَصَّ أَخْبَارَهُمْ كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَقُولُ لِقَوْمِهِ : { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } بَلْ يَفْتَتِحُ دَعْوَتَهُ بِذَلِكَ وَذَكَرَ تَعَالَى عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ مِنْ نُوحٍ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَأَيْضًا فَالْإِلَهِيَّاتُ الَّتِي تُعْلَمُ مِنْهَا قُدْرَةُ الرَّبِّ وَإِرَادَتُهُ وَحِكْمَتُهُ وَأَفْعَالُهُ : مِنْهَا يُعْلَمُ النَّبِيُّ مِنْ الْمُتَنَبِّئِ وَمِنْهَا يُعْلَمُ صِدْقُ النَّبِيِّ فَهِيَ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ مِنْ مُجَرَّدِ الْقَصَصِ وَمَا فِي الْقَصَصِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ إنَّمَا يَدُلُّ مَعَ الْإِلَهِيَّاتِ وَإِلَّا فَلَوْ تَجَرَّدَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ فَالنُّبُوَّةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالْإِلَهِيَّاتِ أَعْظَمُ مِنْ ارْتِبَاطِهَا بِغَيْرِهَا وَالْأَنْبِيَاءُ إنَّمَا بُعِثُوا بِالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ

وَحْدَهُ وَقَدْ يَذْكُرُونَ الْمَعَادَ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا وَالْقَصَصُ قَدْ يَذْكُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضَهَا مُجْمَلًا . وَأَمَّا الْإِلَهِيَّاتُ فَهِيَ الْأَصْلِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ . وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ يَذْكُرُهَا اللَّهُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِثْلَ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَذَوَاتِ ( { الر } ) وَ ( { طسم } ) وَ ( { حم } ) وَأَكْثَرِ الْمُفَصَّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْمَدَنِيَّاتُ تَتَضَمَّنُ خِطَابَ مَنْ آمَنَ بِجِنْسِ الرُّسُلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا خَاتَمُ الرُّسُلِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ لَفْظًا وَمَعْنًى . ثُمَّ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَخُصُّ الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ بِحُكْمِ يَخُصُّهُ لِمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا { قَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ - وَكَانَ قَدْ ذَبَحَ فِي الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ - قَبْلَ أَنْ يُشَرِّعَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذَّبْحَ يَكُونُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَذْبَحُ فَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ ذَكَرَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَهُ عَنَاقًا خَيْرًا مِنْ جَذَعَةٍ فَقَالَ : تُجْزِئُ عَنْك وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } فَخَصَّهُ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي ذَبْحِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ؛ إذْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ شَرْعِ الْحُكْمِ فَلَمْ

يَكُنْ ذَلِكَ الذَّبْحُ مَنْهِيًّا عَنْهُ بَعْدُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا هَذَا السِّنُّ وَأَمَّا أَمْرُهُ لِامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عتبة أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَاهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لِيَصِيرَ لَهَا مُحَرَّمًا فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ : هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ أَوْ مُشْتَرَكٌ ؟ وَإِذَا قِيلَ هَذَا لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ - كَمَا احْتَاجَتْ هِيَ إلَيْهِ - كَانَ فِي ذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ إلَّا لِاخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِمَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ غَيْرِ مُتَسَاوِيَيْنِ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ إلَى ذَلِكَ وَقَبَّحَ مَنْ يَحْكُمُ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } . وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا سَوَّى بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَأَمَّا إذَا قِيلَ : لَيْسَ الْوَاقِعُ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَخُصُّ بِالْأَمْرِ

وَالنَّهْيِ مَا يَخُصُّهُ لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ قَطُّ بَلْ مُجَرَّدُ تَخْصِيصِ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ؟ فَقَالَ بِذَلِكَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ وَوَافَقَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ . وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَأَكْثَرِ طَوَائِفِ الْكَلَامِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ كالكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ وَنَفُتْهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْأَصْلِ بَلْ يَقُولُونَ : هُوَ سُبْحَانَهُ يَخُصُّ مَا يَخُصُّ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ لِأَسْبَابِ وَلِحِكْمَةِ لَهُ فِي التَّخْصِيصِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُضَعِّفُ لِقَارِئِهَا مِقْدَارَ مَا يُعْطَاهُ قَارِئُ ثُلُثِ الْقُرْآنِ بِلَا تَضْعِيفٍ : قَوْلٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ وَلَا حِكْمَةٌ فَإِنَّ النَّصَّ أَخْبَرَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَأَنَّ مَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَإِنْ كَانَ فِي هَذَا تَضْعِيفٌ فَفِي هَذَا تَضْعِيفٌ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا تَضْعِيفٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْآخَرِ فَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِالتَّضْعِيفِ تَحَكُّمٌ . ثُمَّ جَعَلَ التَّضْعِيفَ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ لِمَا اُخْتُصَّتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ الْفَضْلِ وَحِينَئِذٍ فَفَضْلُهَا هُوَ سَبَبُ هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى نَقْصِ ثَوَابِ سَائِرِ الْقُرْآنِ وَأَيْضًا فَهَذَا تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَلَا سَبَبٌ يَقْتَضِيهِ وَلَا حِكْمَةٌ فِيهِ . وَالنَّاسُ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ مِنْ جِهَةِ نَقْصِ عِلْمِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْرِ ذَلِكَ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ

ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يَفُوقُ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ والآخرين . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ وَأَفْصَحُ الْخَلْقِ فِي الْبَيَانِ وَأَنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ كَمَالُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَكَمَالُ الْقُدْرَةِ عَلَى بَيَانِهِ وَكَمَالُ الْإِرَادَةِ لَهُ وَمَعَ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فَيُعْلَمُ أَنَّ كَلَامَهُ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ وَأَتَمُّ مَا يَكُونُ وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ بَيَانًا لِمَا بَيَّنَهُ فِي الدِّينِ مِنْ أُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ وَقَّرَ هَذَا فِي قَلْبِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْرِيفِ النُّصُوصِ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي إذَا تُدُبِّرَتْ وَجَدَ مَنْ أَرَادَهَا بِذَلِكَ الْقَوْلَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَمَّا يَجِبُ اتِّصَافُ الرَّسُولِ بِهِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَقْصِ مَا أُوتِيَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } . فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِخْوَانَنَا مِمَّنْ رَفَعَ دَرَجَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ . وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ - غَيْرَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي نَصَرْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ كَالْمُهَلَّبِ وَالْأَصِيلِيَّ وَغَيْرِهِمَا - فَنَقُولُ : قَدْ عُلِمَ أَنَّ تَفَاضُلَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا وَبِاعْتِبَارِ أَلْفَاظِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَعَانِيهِ . وَاَلَّذِي قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَضَّلَ مِنْ السُّوَرِ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ وَقَالَ : { إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي

التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفَضَّلَ مِنْ الْآيَاتِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لأبي بْنِ كَعْبٍ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَك أَعْظَمُ ؟ قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ تَضَمَّنَتْ مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ وَآخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ عِدَّةَ آيَاتٍ لَا آيَةً وَاحِدَةً .
وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا أَنَّهَا يَكْتَفِي بِتِلَاوَتِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ بَلْ قَدْ كَرِهَ السَّلَفُ أَنْ تُقْرَأَ إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُقْرَأُ كَمَا كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَالتَّكْبِيرُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ لَيْسَ هُوَ مُسْنَدًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسْنِدْهُ أَحَدٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا البزي وَخَالَفَ بِذَلِكَ سَائِرَ مَنْ نَقَلَهُ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا نَقَلُوهُ اخْتِيَارًا مِمَّنْ هُوَ دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْفَرَدَ هُوَ بِرَفْعِهِ وَضَعْفِهِ نَقَلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ مِنْ عُلَمَاءِ الْقِرَاءَةِ وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ

وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُقْرَأَ كَمَا فِي الْمَصَاحِفِ وَلَكِنْ إذَا قُرِئَتْ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مُفْرَدَةً تُقْرَأُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ قَرَأَهَا فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَعْدِلُ ثُلُثَ أَجْرِ الْقُرْآنِ لَكِنَّ عَدْلَ الشَّيْءِ - بِالْفَتْحِ - يَكُونُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالثَّوَابُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا أَنَّ الْأَمْوَالَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ : مِنْ مَطْعُومٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ وَمَسْكُونٍ وَنَقْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ مِنْ أَحَدِ أَجْنَاسِ الْمَالِ مَا يَعْدِلُ أَلْفَ دِينَارٍ مَثَلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْمَالِ بَلْ إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ وَهُوَ طَعَامٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى لِبَاسٍ وَمَسْكَنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ النَّقْدِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا النَّقْدُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى أَنْوَاعِهَا وَمَنَافِعِهَا . وَالْفَاتِحَةُ فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ ثَنَاءٌ وَدُعَاءٌ مِمَّا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ مَا لَا تَقُومُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَجْرُهَا عَظِيمًا فَذَلِكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ مَعَ أَجْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَلِهَذَا لَوْ صَلَّى بِهَا وَحْدَهَا بِدُونِ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إلَّا الْفَاتِحَةَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ مَعَانِيَ الْفَاتِحَةِ فِيهَا الْحَوَائِجُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْعِبَادِ مِنْهَا وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ مَا فِي الْفَاتِحَةِ مِنْ الثَّنَاءِ

وَالدُّعَاءِ وَهُوَ قَوْلُ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } هُوَ أَفْضَلُ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَهُوَ أَوْجَبُ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَأَنْفَعُ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْعَبْدُ دَائِمًا مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فَلَوْ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ تِسْعَةِ أَعْشَارِ الْقُرْآنِ - دَعْ ثُلُثَهُ - وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ هَذَا الدُّعَاءِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ وَلَمْ يَسُدَّ مَسَدَّهُ . وَهَذَا كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ تَصَدَّقَ بِصَدَقَاتِ عَظِيمَةٍ وَجَاهَدَ جِهَادًا عَظِيمًا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَرَّاتٍ وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ ذَلِكَ الْيَوْمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ لَمْ يَقُمْ ثَوَابُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مَقَامَ هَذِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَتَغَدَّى بِهِ وَيَتَعَشَّى مِنْ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَائِعًا مُتَأَلِّمًا فَاسِدَ الْحَالِ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الْعَظِيمَةُ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَشْرَفُ الْعُلُومِ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَأَنْفَعُ الْعِلْمِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ . فَلَيْسَ الْأَفْضَلُ الْأَشْرَفُ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ فِي وَقْتٍ بَلْ الْأَنْفَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا يُقَالُ : الْمَفْضُولُ فِي مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ إذْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ

الدُّعَاءِ فَهَذَا أَمْرٌ مُطْلَقٌ . وَقَدْ تَحْرُمُ الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتٍ فَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ . وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْقِرَاءَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . فَهَكَذَا يُعْلَمُ الْأَمْرُ فِي فَضْلِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَغَيْرِهَا فَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهَا بَلْ هُوَ الْوَاجِبُ والاحتزاء بِهَا وَحْدَهَا لَا يُمْكِنُ بَلْ تَبْطُلُ مَعَهُ الصَّلَاةُ . وَلِهَذَا وَجَبَ التَّقَرُّبُ بِالْفَرَائِضِ قَبْلَ النَّوَافِلِ وَالتَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ إنَّمَا يَكُونُ تَقَرُّبًا إذَا فُعِلَتْ الْفَرَائِضُ لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الِاتِّحَادِيَّةِ كَصَاحِبِ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " وَنَحْوِهِ مِنْ أَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ يَكُونُ بَعْدَ قُرْبِ النَّوَافِلِ وَالنَّوَافِلُ تَجْعَلُ الْحَقَّ غِطَاءَهُ وَتِلْكَ تَجْعَلُ الْحَقَّ عَيْنَهُ . فَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ مِنْ الِاتِّحَادِ كَمَا بَيَّنَ . وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ يُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ . وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا . فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي . وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ

وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ لَيْسَ هُوَ الْمُتَقَرَّبَ إلَيْهِ ؛ بَلْ هُوَ غَيْرُهُ . وَأَنَّهُ مَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ عَبْدُهُ بِمِثْلِ أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يَصِيرَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ فَيَسْمَعُ بِهِ وَيُبْصِرُ بِهِ وَيَبْطِشُ بِهِ وَيَمْشِي بِهِ . ثُمَّ قَالَ { وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ وَالْمُسْتَعِيذِ وَالْمُسْتَعَاذِ بِهِ وَجَعَلَ الْعَبْدَ سَائِلًا لِرَبِّهِ مُسْتَعِيذًا بِهِ . وَهَذَا حَدِيثٌ شَرِيفٌ جَامِعٌ لِمَقَاصِدَ عَظِيمَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا بَلْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : تَوْحِيدٌ وَقَصَصٌ وَأَحْكَامٌ . وَهَذِهِ السُّورَةُ صِفَةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا التَّوْحِيدُ وَحْدَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ . وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ : إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ وَالْإِخْبَارُ إمَّا خَبَرٌ عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ . فَالْإِنْشَاءُ هُوَ الْأَحْكَامُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَالْخَبَرُ عَنْ الْمَخْلُوقِ هُوَ الْقَصَصُ . وَالْخَبَرُ عَنْ الْخَالِقِ هُوَ ذِكْرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ سُورَةٌ هِيَ وَصْفُ الرَّحْمَنِ مَحْضًا إلَّا هَذِهِ السُّورَةَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ

فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَلُوهُ : لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ } . وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي ( بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ : وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ : { كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاء فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ لَهُمْ بِهَا فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ بِسُورَةِ أُخْرَى مَعَهَا فَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا : إنَّك تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِيك حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى فَقَالَ : مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْت وَإِنْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ تَرَكَتْكُمْ . وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ . فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ : يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُك أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُك بِهِ أَصْحَابُك وَمَا يَحْمِلُك عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ . قَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا . قَالَ حُبُّك إيَّاهَا أَدْخَلَك الْجَنَّةَ } . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } حُقٌّ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ إلَّا حَقٌّ .

وَاَلَّذِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ مَأْخَذَانِ :
أَحَدُهُمَا مَنْعُ تَفَاضُلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُهُ . الثَّانِي اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْأَجْرَ يَتْبَعُ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ فَمَا كَثُرَتْ حُرُوفُهُ مِنْ الْكَلَامِ يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ . قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ . أَمَّا إنِّي لَا أَقُولُ { الم } حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . قَالُوا وَمَعْلُومٌ أَنَّ ثُلُثَ الْقُرْآنِ حُرُوفُهُ أَكْثَرُ بِكَثِيرِ فَتَكُونُ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ . فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذَا حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْحَسَنَاتِ فِيهَا كِبَارٌ وَصِغَارٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُودُهُ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } فَإِذَا قَرَأَ حَرْفًا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَةً فَيُعْطِيهِ بِقَدْرِ تِلْكَ الْحَسَنَةِ عَشْرَ مَرَّاتٍ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الْحَسَنَاتِ فِي الْحُرُوفِ مُتَمَاثِلَةٌ . كَمَا أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِدِينَارِ يُعْطَى بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . وَالْوَاحِدُ مِنْ بَعْدِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ إذَا أَنْفَقَ مُدًّا كَانَ لَهُ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . وَلَكِنْ

لَا تَكُونُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ بِقَدْرِ حَسَنَةِ مَنْ أَنْفَقَ مُدًّا مِنْ الصَّحَابَةِ السَّابِقِينَ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . فَكَذَلِكَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ تَتَفَاضَلُ لِتَفَاضُلِ الْمَعَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ فَحُرُوفُ الْفَاتِحَةِ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا حَسَنَةٌ أَعْظَمُ مِنْ حَسَنَاتِ حُرُوفٍ مِنْ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ يَعْدِلُ غَيْرَهُ فَعَدْلُ الشَّيْءِ - بِالْفَتْحِ - هُوَ مُسَاوِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } وَالصِّيَامُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الطَّعَامِ وَالْجَزَاءِ وَلَكِنَّهُ يُعَادِلُهُ فِي الْقَدْرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } أَيْ فِدْيَةٌ وَالْفِدْيَةُ مَا يَعْدِلُ بِالْمُفْدَى وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أَيْ يَجْعَلُونَ لَهُ عَدْلًا أَيْ نِدًّا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ . وَلَوْ كَانَ لِرَجُلِ أَمْوَالٌ مِنْ أَصْنَافٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَلِآخَرَ ذَهَبٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ لَكَانَ مَالُ هَذَا يَعْدِلُ مَالَ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ ؛ وَلِهَذَا قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا يَعْدِلُ شَيْئًا عَظِيمًا وَإِذَا احْتَاجَ إلَى دَوَاءٍ أَوْ مُرَكَّبٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى اشْتِرَائِهِ لَمْ تَنْفَعْهُ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الْعَظِيمَةُ . فَالْقُرْآنُ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ . وَإِنْ كَانَ التَّوْحِيدُ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْأَفْعَالِ أَوْ

احْتَاجَ إلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيَعْتَبِرُ بِهِ مِنْ الْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَمْ يَسُدَّ غَيْرُهُ مَسَدَّهُ فَلَا يَسُدُّ التَّوْحِيدُ مَسَدَّ هَذَا وَلَا تَسُدُّ الْقَصَصُ مَسَدَّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَسَدَّ الْقَصَصِ . بَلْ كُلُّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ وَيَحْتَاجُونَ إلَيْهِ . فَإِذَا قَرَأَ الْإِنْسَانُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حَصَلَ لَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ ثَوَابِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ ؛ لَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ مِنْ جِنْسِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِبَقِيَّةِ الْقُرْآنِ بَلْ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى جِنْسِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ فَلَا تَسُدُّ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَسَدَّ ذَلِكَ وَلَا تَقُومُ مَقَامَهُ فَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَقْرَأْ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَإِنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَكِنَّ جِنْسَ الْأَجْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهَا لَا يَحْصُلُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا بَلْ يَبْقَى فَقِيرًا مُحْتَاجًا إلَى مَا يَتِمُّ بِهِ إيمَانُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلَوْ قَامَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ . فَالْمَعَارِفُ الَّتِي تَحْصُلُ بِقِرَاءَةِ سَائِرِ الْقُرْآنِ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ فَيَكُونُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِتَنَوُّعِ الثَّوَابِ وَإِنْ كَانَ قَارِئُ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثَلَاثًا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ الثَّوَابِ لَكِنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَيْسَ فِيهِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْعَبْدُ كَمَنْ مَعَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ وَآخَرُ مَعَهُ طَعَامٌ وَلِبَاسٌ وَمَسَاكِنُ وَنَقْدٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَعَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَذَاكَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا مَعَ هَذَا وَإِنْ كَانَ مَا مَعَهُ يَعْدِلُ مَا مَعَ هَذَا . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ

طَعَامٌ مِنْ أَشْرَفِ الطَّعَامِ يُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى لِبَاسٍ وَمَسَاكِنَ وَمَا يَدْفَعُ بِهِ الضَّرَرَ مِنْ السِّلَاحِ وَالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الطَّعَامِ .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فَضْلَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ فَالْقِرَاءَةُ بِتَدَبُّرِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ بِلَا تَدَبُّرٍ وَالصَّلَاةُ بِخُشُوعِ وَحُضُورِ قَلْبٍ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ بِدُونِ ذَلِكَ .
وَفِي الْأَثَرِ : { إنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونُ مَقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } . وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يَرْقَى بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَكَانَ لَهَا بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ فَيَرْقَى بِهَا غَيْرُهُ فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ : لَيْسَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مِنْ كُلِّ أَحَدٍ تَنْفَعُ كُلَّ أَحَدٍ . وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ تَسْبِيحُ بَعْضِ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِ وَيَكُونُ قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّوَرِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِ لـ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَغَيْرِهَا . وَالْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ أَيْضًا حَالُهُ . فَقَدْ يَفْعَلُ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ عَلَى وَجْهٍ كَامِلٍ فَيَكُونُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِ الْفَاضِلَةِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِبَغِيِّ لِسَقْيِهَا الْكَلْبَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا لَمَّا حَصَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا . وَقَدْ يُنْفِقُ الرَّجُلُ أَضْعَافَ ذَلِكَ فَلَا يُغْفَرُ لَهُ لِعَدَمِ الْأَسْبَابِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْعَمَلِ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } يَقُولُهُ عَنْ أَصْحَابِهِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِذَا قِيلَ : إنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يَعْدِلُ ثَوَابُهَا ثَوَابَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ التَّمَاثُلِ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَإِلَّا فَإِذَا اعْتَبَرَ قِرَاءَةَ غَيْرِهَا مَعَ التَّدَبُّرِ وَالْخُشُوعِ بِقِرَاءَتِهَا مَعَ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ الْعَبْدِ : " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ وَاتِّصَافِهِ بِمَعَانِيهَا أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ وَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي فَهْمِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي فَهْمِ سَائِرِ الْقُرْآنِ .
فَصْلٌ :
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ التَّفَاضُلَ وَالتَّمَاثُلَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا إذْ الْوَاحِدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُعْقَلُ فِيهِ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْ شَيْءٍ فَالتَّفَاضُلُ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى إنَّمَا يُعْقَلُ إذَا أُثْبِتَ لَهُ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ . وَكَإِثْبَاتِ أَسْمَاءٍ لَهُ مُتَعَدِّدَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأُثْبِتَ لَهُ كَلِمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ

تَقُومُ بِذَاتِهِ حَتَّى يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ وَكُلُّ قَوْلٍ سِوَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ خَطَأٌ مُتَنَاقِضٌ وَأَيُّ شَيْءٍ قَالَهُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ خَطَأً لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ فِيهِ بِجَوَابِ صَحِيحٍ . فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ بَلْ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ إلَّا سَلْبِيَّةٌ أَوْ إضَافِيَّةٌ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ أَتْبَاعِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ - فَهَذَا إذَا قِيلَ لَهُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ : نِسْبَتُهُ الَّتِي هِيَ الْخَلْقُ إلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَمْ إلَى بَعُوضَةٍ ؟ أَمْ أَيُّمَا أَفْضَلُ : نَفْيُ الْجَهْلِ بِكُلِّ شَيْءٍ عَنْهُ وَالْعَجْزُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ أَمْ نَفْيُ الْجَهْلِ بِالْكُلِّيَّاتِ ؟ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُجِيبَ بِجَوَابِ صَحِيحٍ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ . فَإِنَّهُ إنْ قَالَ : خَلْقُ السَّمَوَاتِ مُمَاثِلُ خَلْقِ الْبَعُوضَةِ كَانَ هَذَا مُكَابَرَةً لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ قَالَ تَعَالَى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وَإِنْ قَالَ : بَلْ ذَلِكَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ كَمَا فِي الْقُرْآنِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ عِنْدَك أَمْرَانِ وُجُودِيَّانِ يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ إذْ الْخَلْقُ عَلَى قَوْلِك لَا يَزِيدُ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَكَيْفَ يُعْقَلُ فِي الْمَعْدُومِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِنْ صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وُجُودٌ يَحْصُلُ فِيهِ التَّفَاضُلُ ؟ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : نَفْيُ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِثْلُ نَفْيِ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَانَ هَذَا مُكَابَرَةً وَإِنْ قَالَ : بَلْ نَفْيُ الْجَهْلِ الْعَامِّ أَكْمَلُ مِنْ نَفْيِ الْجَهْلِ الْخَاصِّ قِيلَ لَهُ : إذَا لَمْ

يَلْزَمْ مِنْ نَفْيِ الْجَهْلِ ثُبُوتٌ عُلِمَ بِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ بَلْ كَانَ النفيان عدمين مَحْضَيْنِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ التَّفَاضُلُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؟ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَالنَّفْيِ الصِّرْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءِ أَصْلًا وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْوُجُودِ وَلَا فِيهِ كَمَالٌ وَلَا مَدْحٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّفَاضُلُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْكَمَالُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ صِفَةٍ مَوْجُودَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهَا . فَأَمَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَلَا كَمَالَ فِيهِ أَصْلًا . وَلِهَذَا إنَّمَا يَصِفُ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ التَّنْزِيهِ لَا السَّلْبِيَّةِ الْعَدَمِيَّةِ لِتَضَمُّنِهَا أُمُورًا وُجُودِيَّةً تَكُونُ كَمَا لَا يَتَمَدَّحُ سُبْحَانَهُ بِهَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } فَنَفْيُ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ والقيومية وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمُلْكِ وَالرُّبُوبِيَّةَ وَانْفِرَادَهُ بِذَلِكَ وَنَفْسُ انْفِرَادِهِ بِالْمُلْكِ وَالْهِدَايَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلِهَذَا كَانَتْ السُّورَةُ فِيهَا الِاسْمَانِ الْأَحَدُ الصَّمَدُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ . فَقَوْلُهُ ( أَحَدٌ ) يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ النَّظِيرِ وَقَوْلُهُ ( الصَّمَدُ ) بِالتَّعْرِيفِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالصَّمَدِيَّةِ . وَلِهَذَا جَاءَ التَّعْرِيفُ فِي اسْمِهِ الصَّمَدُ دُونَ الْأَحَدِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُوصَفُ بِهِ فِي الْإِثْبَاتِ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الصَّمَدِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي السَّيِّدَ صَمَدًا . قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ : الْمَلَائِكَةُ تُسَمَّى صَمَدًا وَالْآدَمِيُّ أَجْوَفُ فَقَوْلُهُ

" الصَّمَدُ " بَيَانُ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الصَّمَدِيَّةِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الصَّمَدِ وَاشْتِمَالَهُ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) يَقُولُ : السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظْمَتِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تَنْبَغِي إلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ سُبْحَانَهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كُتُبِهِمْ قَالَ : الصَّمَدُ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا : الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . أَمَّا كَوْنُ الصَّمَدِ هُوَ السَّيِّدُ فَهَذَا مَشْهُورٌ وَأَمَّا الْآخَرُ فَهُوَ أَيْضًا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الصَّمَدَ لُغَةٌ فِي الصمت وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إبْدَالِ الدَّالِّ بِالتَّاءِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ بَلْ لَفْظُ صَمَدٍ يَصْمُدُ صَمَدًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ إنَّمَا هِيَ فِي الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ

وَالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ إنَّمَا تَكُونُ كَمَالًا إذَا تَضَمَّنَتْ أُمُورًا وُجُودِيَّةً ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَسْبِيحُ الرَّبِّ يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ وَتَعْظِيمَهُ جَمِيعًا فَقَوْلُ الْعَبْدِ : " سُبْحَانَ اللَّهِ " يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَ اللَّهِ وَبَرَاءَتَهُ مِنْ السُّوءِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ عَظَمَتَهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ عَدَمًا مَحْضًا لَا يَتَضَمَّنُ وُجُودًا فَإِنَّ هَذَا لَا مَدْحٌ فِيهِ وَلَا تَعْظِيمٌ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا تَنَزَّهَ الرَّبُّ عَنْهُ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا } - إلَى قَوْلِهِ - { إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } { وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } وَغَيْرُ ذَلِكَ . فَنَفْيُ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْكَمَالِ وَنَفْيُ الشُّرَكَاءِ يَقْتَضِي الْوَحْدَانِيَّةَ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْكَمَالِ فَإِنَّ مَا لَهُ نَظِيرٌ قَدْ انْقَسَمَتْ صِفَاتُ الْكَمَالِ وَأَفْعَالُ الْكَمَالِ فِيهِ وَفِي نَظِيرِهِ فَحَصَلَ لَهُ بَعْضُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا كُلُّهَا . فَالْمُنْفَرِدُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَهُ شَرِيكٌ يُقَاسِمُهُ إيَّاهَا . وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ أَكْمَلَ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ غَيْرَهُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ . قَالَ

تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } . وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ ذَلِكَ : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } الْآيَةَ . فَمَنْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا يُحِبُّهُ كَحُبِّ اللَّهِ فَهُوَ مِمَّنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَهَذَا مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الشَّيْءَ إذَا انْقَسَمَ وَوَقَعَتْ فِيهِ الشَّرِكَةُ نَقَصَ مَا يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَإِذَا كَانَ جَمِيعُهُ لِوَاحِدِ كَانَ أَكْمَلَ فَلِهَذَا كَانَ حُبُّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ أَكْمَلَ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ يُوجِبُ كَمَالَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ فِي عِبَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَذَلِكَ مَنْ زَكَّاهُمْ كَمَا أَنَّ الزَّرْعَ كُلَّمَا نُقِّيَ عَنْهُ الدَّغَلُ كَانَ أَزْكَى لَهُ وَأَكْمَلَ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْوُجُودِيَّةِ فِيهِ قَالَ تَعَالَى : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَأَصْلُ الزَّكَاةِ التَّوْحِيدُ

وَالْإِخْلَاصُ كَمَا فَسَّرَهَا بِذَلِكَ أَكَابِرُ السَّلَفِ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } وَقَالَ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْ اللَّهِ النَّقَائِصَ ؛ كَالْمَوْتِ وَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْبُكْمِ وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ صِفَاتٍ وُجُودِيَّةً ؛ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ ؛ بَلْ زَعَمَ أَنَّ صِفَاتِهِ لَيْسَتْ إلَّا عَدَمِيَّةً مَحْضَةً وَأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِأَمْرِ وُجُودِيٍّ فَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ صِفَةُ كَمَالٍ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ أَيُّ الصِّفَتَيْنِ أَفْضَلُ ؟ فَإِنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَرْعُ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَهُ كَمَالٌ مَا ثُمَّ يَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَكْمَلُ فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَدَمٌ مَحْضٌ فَلَا كَمَالَ وَلَا فَضِيلَةَ هُنَاكَ أَصْلًا . وَكَذَلِكَ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ الْأَسْمَاءَ دُونَ الصِّفَاتِ فَقَالَ إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَا تَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِحَيَاةِ وَلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ وَلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ وَلَا عِزَّةٍ وَلَا حِكْمَةٍ - فَإِذَا قِيلَ لَهُ : أَيُّ الِاسْمَيْنِ أَفْضَلُ ؟ لَمْ يُجِبْ بِجَوَابِ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ إنْ قَالَ : الْعَلِيمُ أَعْظَمُ مِنْ السَّمِيعِ لِعُمُومِ تَعَلُّقِهِ مَثَلًا أَوْ قَالَ : الْعَزِيزُ أَكْمَلُ مِنْ الْقَدِيرِ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَسْمَاءِ عِنْدَك

مَعَانٍ مَوْجُودَةٌ تَقُومُ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَا عِلْمٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا عِزَّةٌ وَلَا قُدْرَةٌ لَيْسَ إلَّا ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ صِفَاتٍ وَمَخْلُوقَاتٍ وَالذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ تَفَاضُلٌ وَلَا تَمَاثُلٌ . وَالْمَخْلُوقَاتُ لَمْ يَكُنْ السُّؤَالُ عَنْ تَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَى عَاقِلٍ . وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ صِفَاتِهِ بَعْضًا أَوْ جَعَلَ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ مِثْلُ مَنْ قَالَ : الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ هُمَا الْعَالِمُ الْقَادِرُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ جهمية الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ . أَوْ قَالَ : كَلَامُهُ كُلُّهُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مَخْبَرٍ بِهِ إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَإِنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ وَاحِدٌ وَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ صِفَاتٌ نِسْبِيَّةٌ لِلْكَلَامِ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا ؛ بَلْ ذَاتُ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ هُوَ ذَاتُ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ نَهْيٌ وَإِنَّمَا تَنَوَّعَتْ الْإِضَافَةُ . فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي تَقُولُهُ الْكُلَّابِيَة وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ مُجَرَّدَ تَصَوُّرِهِ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِهِ فَلَا يُمْكِنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجَوَابُ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَلَا مُمَاثَلَةِ بَعْضَهُ لِبَعْضِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ

لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ بَعْضُهُ مِثْلُ بَعْضٍ وَلَا بَعْضٌ لَهُ عِنْدَهُمْ ؟ . وَإِنْ قَالُوا : التَّمَاثُلُ وَالتَّفَاضُلُ يَقَعُ فِي الْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ قِيلَ : تِلْكَ لَيْسَتْ كَلَامًا لِلَّهِ عَلَى أَصْلِهِ وَلَا عِنْدَ أَئِمَّتِهِمْ ؛ بَلْ هِيَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَالتَّفَاضُلُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لَا إشْكَالَ فِيهِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ : إنَّهَا تُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً . وَإِنَّ اسْمَ الْكَلَامِ يَقَعُ عَلَيْهَا وَعَلَى مَعْنَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْقَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ بَلْ قَوْلُهُ هَذَا يُفْسِدُ أَصْلَهُمْ . لِأَنَّ أَصْلَ قَوْلِهِمْ : أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْمُتَكَلِّمِ لَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ إذْ لَوْ جَازَ قِيَامُ الْكَلَامِ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ .
وَهَذَا أَصْلُ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِي خَالَفَهُمْ فِيهِ الْكُلَّابِيَة وَسَائِرُ الْمُثَبِّتَةِ وَقَالُوا : إنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا حَتَّى يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ قَالُوا : لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِمًا حَتَّى يَقُومَ بِهِ الْعِلْمُ وَلَا يَكُونُ الْمُرِيدُ مُرِيدًا حَتَّى تَقُومَ بِهِ الْإِرَادَةُ فَلَوْ جَوَّزُوا أَنَّ يَكُونَ لِلَّهِ مَا هُوَ كَلَامٌ لَهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ بَطَلَ هَذَا الْأَصْلُ .
وَأَصْلُ الْنُّفَاةِ الْمُعَطِّلَةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ : أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ بَلْ بِمَا قَامَ بِغَيْرِهِ أَوْ بِمَا لَمْ يُوجَدْ وَيَقُولُونَ : هَذِهِ إضَافَاتٌ لَا صِفَاتٌ فَيَقُولُونَ : هُوَ رَحِيمٌ وَيَرْحَمُ وَالرَّحْمَةُ لَا تَقُومُ بِهِ بَلْ هِيَ

مَخْلُوقَةٌ وَهِيَ نِعْمَتُهُ . وَيَقُولُونَ : هُوَ يَرْضَى وَيَغْضَبُ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ لَا يَقُومُ بِهِ ؛ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ وَهُوَ ثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ وَيَقُولُونَ : هُوَ مُتَكَلِّمٌ وَيَتَكَلَّمُ وَالْكَلَامُ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ . وَقَدْ يَقُولُونَ : هُوَ مُرِيدٌ وَيُرِيدُ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ لَيْسَتْ الْإِرَادَةُ شَيْئًا مَوْجُودًا وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّهَا هِيَ الْمَخْلُوقَاتُ وَالْأَمْرُ الْمَخْلُوقُ . وَقَدْ يَقُولُونَ أَحْدَثَ إرَادَةً لَا فِي مَحَلٍّ . وَهَذَا الْأَصْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي أَصَّلَهُ نفاة الصِّفَاتِ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ هُوَ الَّذِي فَارَقَهُمْ بِهِ جَمِيعُ الْمُثَبِّتَةِ لِلصِّفَاتِ : مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالتَّفْسِيرِ وَأَصْنَافِ نُظَّارِ الْمُثَبِّتَةِ : كالْكُلَّابِيَة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وكالهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ الْمُثَبِّتَةِ لِلصِّفَاتِ وَعَلَى هَذَا أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورُونَ بِالْإِمَامَةِ وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْكَلَامَ يَقَعُ حَقِيقَةً عَلَى الْعِبَارَةِ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَخْلُوقَةٌ يُنَاقِضُ الْأَصْلَ الْفَارِقَ بَيْنَ الْمُثَبِّتَةِ وَالْمُعَطِّلَةِ إلَّا أَنْ يُسَمَّى مُتَعَلَّقُ الصِّفَةِ بِاسْمِ الصِّفَةِ كَمَا يُسَمَّى الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا وَالْمَرْحُومُ بِهِ رَحْمَةً وَالْمَخْلُوقُ خَلْقًا وَالْقَدَرُ قُدْرَةً وَالْمَعْلُومُ عِلْمًا ؛ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ : هَذَا كُلُّهُ لَيْسَ هُوَ الْحَقِيقَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .

وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأُمُورُ أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا فَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى اللَّهِ عُلِمَ أَنَّهَا إضَافَةُ مُلْكٍ لَا إضَافَةُ وَصْفٍ ؛ بِخِلَافِ الْعِبَارَةِ فَإِنَّهَا لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا كَمَا لَا يَقُومُ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْفَارِقُ بَيْنَ إضَافَةِ الصِّفَاتِ وَإِضَافَةِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ الْمُعَطِّلَةَ الْنُّفَاةِ مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ : كَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِمَا - وَإِنْ كَانَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَقُولَانِ بِخِلَافِ ذَلِكَ - يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي النُّصُوصِ إلَّا إضَافَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ وَهَذِهِ الْأُمُورِ تُسَمَّى نُصُوصَ الْإِضَافَاتِ لَا نُصُوصَ الصِّفَاتِ . وَيَقُولُونَ : نُصُوصُ الْإِضَافَاتِ وَأَحَادِيثُ الْإِضَافَاتِ لَا آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ . وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ إضَافَةَ مَخْلُوقٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ كَإِضَافَةِ الْبَيْتِ وَالنَّاقَةِ وَالرُّوحِ فِي قَوْلِهِ : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } وَقَوْلِهِ : { نَاقَةُ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } . وَقَالَتْ الْحُلُولِيَّةُ مِنْ النَّصَارَى وَغُلَاةُ الشِّيعَةِ وَالصُّوفِيَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِمَّنْ يَقُولُ بِقِدَمِ الرُّوحِ - أَرْوَاحُ الْعِبَادِ - وَيَنْتَسِبُ إلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مِثْلَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ جِيلَانَ وَغَيْرِهِمْ - بَلْ إضَافَةُ الرُّوحِ إلَى اللَّهِ كَإِضَافَةِ الْكَلَامِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامُ وَالْقُدْرَةُ صِفَاتُهُ فَكَذَلِكَ الرُّوحُ . وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْعَبْدِ صِفَةٌ لِلَّهِ قَدِيمَةٌ . وَقَالَتْ النَّصَارَى :

عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَعِيسَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَقَالَتْ الصَّابِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة : عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ أَيْضًا مَخْلُوقٌ . وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَتَكَلَّمُوا فِي إضَافَةِ الْكَلَامِ وَالرُّوحِ وَمُنَاظَرَةِ الْجَهْمِيَّة وَالنَّصَارَى . وَقَدْ سُئِلْت عَنْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحُلُولِيَّةِ تَارَةً وَمِنْ جِهَةِ الْمُعَطِّلَةِ تَارَةً وَالسَّائِلُونَ تَارَةً مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا وَقَدْ بُسِطَ جَوَابُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الْمُضَافَيْنِ : أَنَّ الْمُضَافَ إنْ كَانَ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ حَالًّا فِي ذَلِكَ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ قَائِمَةٌ بِالْمَوْصُوفِ . فَالْأَعْيَانُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَصِفَاتُهَا الْقَائِمَةُ بِهَا تَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتٍ لِلَّهِ فَإِضَافَتُهَا إلَيْهِ تَتَضَمَّنُ كَوْنَهَا مَخْلُوقَةً مَمْلُوكَةً لَكِنْ أُضِيفَتْ لِنَوْعِ مِنْ الِاخْتِصَاصِ الْمُقْتَضَى لِلْإِضَافَةِ لَا لِكَوْنِهَا صِفَةَ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ وَالنَّاقَةَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمَالُ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَرُوحُ بَنِي آدَمَ مِنْ هَذَا وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } .

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ ؛ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا صِفَةً كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إضَافَةَ صِفَةٍ إلَيْهِ فَتَكُونُ قَائِمَةً بِهِ سُبْحَانَهُ فَإِذَا قِيلَ : { أَسَتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرك بِقُدْرَتِك } فَعِلْمُهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَقُدْرَتُهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : { أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك } فَرِضَاهُ وَسَخَطُهُ قَائِمٌ بِهِ وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ وَعُقُوبَتُهُ . وَأَمَّا أَثَرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِنْ النِّعْمَةِ وَانْدِفَاعِ النِّقْمَةِ فَذَاكَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَيْسَ صِفَةً لَهُ وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا بَاسِمُ ذَاكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { يَقُولُ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ : أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي } فَالرَّحْمَةُ هنا عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِغَيْرِهَا . فَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ مَا يُضَافُ إضَافَةَ وَصْفٍ وَإِضَافَةَ مِلْكٍ . وَإِذَا قِيلَ " الْمَسِيحُ كَلِمَةُ اللَّهِ " فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِالْكَلِمَةِ إذْ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ لَيْسَ كَلَامًا . وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ نَفْسُهُ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ إلَّا بِالْمُتَكَلِّمِ فَإِضَافَتُهُ إلَى الْمُتَكَلِّمِ إضَافَةُ صِفَةٍ إلَى مَوْصُوفِهَا وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ سَمَّى فِعْلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَهُوَ صِفَةٌ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِ بِالْمُتَكَلِّمِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِجَوَابِ صَحِيحٍ . فَإِذَا قِيلَ

لَهُ : كَلَامُ اللَّهِ هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ ؟ امْتَنَعَ الْجَوَابُ عَلَى أَصْلِهِ بِنَعَمْ أَوْ لَا لِامْتِنَاعِ تَبَعُّضِهِ عِنْدَهُ وَلِكَوْنِ الْعِبَارَةِ لَيْسَتْ كَلَامًا ؛ لِلَّهِ لَكِنْ إذَا أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الْعِبَارَةُ أَوْ قِيلَ لَهُ : هَلْ بَعْضُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ - وَأُرِيدَ بِالْقُرْآنِ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ فَهُوَ عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُ إنْشَاءٌ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ ؛ أَوْ قِيلَ : هَلْ بَعْضُ كُتُبِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ - وَكِتَابُ اللَّهِ عِنْدَهُ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الْمَخْلُوقُ عِنْدَهُ - فَهَذَا السُّؤَالُ يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الظَّاهِرِ وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْقَائِمَةَ فِي النَّفْسِ تَدُلُّ عَلَيْهَا الْعِبَارَاتُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْعِبَارَاتِ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَعَلَى أَصْلِهِ لَيْسَ الْمَعْنَى إلَّا وَاحِدًا فَيَمْتَنِعُ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كُلُّهُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَسَائِرُ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ مِنْ الْعِبَارَاتِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَحِينَئِذٍ فَتَبَعُّضُ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي بِدُونِ تَبَعُّضِ تِلْكَ الْمَعَانِي مُمْتَنِعٌ . وَلِهَذَا قِيلَ لَهُمْ : مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ أَسْمَعَهُ كُلَّهُ أَمْ سَمِعَ بَعْضَهُ ؟ إنْ قُلْتُمْ : " كُلَّهُ " فَقَدْ عَلِمَ كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لَهُ { مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ } وَقَدْ

قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وَإِنْ قُلْتُمْ " سَمِعَ بَعْضَهُ " فَقَدْ تَبَعَّضَ وَعِنْدَكُمْ لَا يَتَبَعَّضُ . وَأَيْضًا فَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَيْنَ إيحَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ النَّبِيِّينَ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَكَانَ الْجَمِيعُ إيحَاءً وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَكْلِيمٌ يَتَمَيَّزُ عَلَى ذَلِكَ . وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى مُنَادِيًا لِأَحَدِ إذْ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ لَا يَكُونُ نِدَاءً وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِنِدَائِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ مِنْ هَؤُلَاءِ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُمْتَنِعَةٌ فَلَيْسَ هُنَاكَ أَمْرَانِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ مِثْلَ الْآخَرِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ . وَالتَّمَاثُلُ وَالتَّفَاضُلُ إنَّمَا يُعْقَلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا . وَهَكَذَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِي إرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الصِّفَةَ وَاحِدَةً بِالْعَيْنِ امْتَنَعَ - عَلَى قَوْلِهِ - أَنْ يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ إذْ لَا بَعْضَ لَهَا عِنْدَهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى وَحْدَةِ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْعَيْنِ وَقَالَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ سَوَاءٌ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا أَعْيَانُ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ قَالَ إنَّهَا بَعْضُ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ . وَإِنْ كَانَ فَسَادُ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ ،

وَقَالَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ غَيْرُ تِلْكَ . فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْكَلَامَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ كَمَا أَنَّ مَنْ جَعَلَهَا قَوْلًا وَاحِدًا فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَمْتَنِعُ مَعَ الْقَوْلِ بِوَحْدَةِ شَيْءٍ أَنْ يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ مَا يَتَعَدَّدُ مِنْ الْمَعَانِي وَالْحُرُوفِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَهَذَا يُعْقَلُ عَلَى قَوْلِهِ : السُّؤَالُ عَنْ التَّمَاثُلِ وَالتَّفَاضُلِ . ثُمَّ حِينَئِذٍ يَقَعُ السُّؤَالُ : هَلْ يَتَفَاضَلُ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ وَأَسْمَاؤُهُ أَمْ لَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقِ ؟ . وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ : قَالَ الْمُهَلَّبُ - وَحَكَاهُ عَنْ الْأَصِيلِيَّ - وَمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَابْنِ أَبِي زَيْدٍ والدَاوُدي وَأَبِي الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ وَجَمَاعَةِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا إذْ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتُهُ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ نَقْلٌ لِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ لَازِمًا لَهُمْ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّفَاضُلَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقِ وَالْقُرْآنُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ . لَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّ السَّلَفَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ

خِلَافُ ذَلِكَ . وَأَمَّا نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَمُوَافَقِيهِ فَغَلَطٌ عَلَيْهِمْ ؛ إذْ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لَهُ كُلٌّ وَلَا بَعْضٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هَلْ يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْ لَا يَفْضُلُ فَامْتِنَاعِ التَّفَاضُلِ فِيهِ عِنْدَهُ كَامْتِنَاعِ التَّمَاثُلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مُتَمَاثِلٌ وَلَا مُتَفَاضِلٌ إذْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ . وَلَكِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ فِي الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَيُقَالُ : أَيُّهَا أَفْضَلُ ؟ فَإِنْ كَانَ قَالَ : إنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ نَقْصُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ لَا فِي نَفْسِ الْكَلَامِ مَعَ أَنَّ هَذَا النَّقْلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ فِي نَفْيِ تَفَاضُلِ الصِّفَاتِ غَيْرُ مُحَرَّرٍ فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَتَفَاضَلُ بَلْ هَذَا خَطَأٌ عَلَيْهِ وَلَكِنْ هُوَ يَقُولُ : إنَّ الْكَلَامَ لَا يَدْخُلُهُ التَّفَاضُلُ كَمَا لَا يَدْخُلُهُ التَّمَاثُلُ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ عِنْدَهُ لَا لِمَا ذُكِرَ . وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الذَّاتَ لَيْسَتْ مِثْلَ الصِّفَاتِ وَلَا كُلُّ صِفَةٍ مِثْلُ الْأُخْرَى فَهُوَ لَا يَثْبُتُ تَمَاثُلُ الْمَعَانِي الْقَدِيمَةِ عِنْدَهُ فَكَيْفَ يُقَالُ - عَلَى أَصْلِهِ - مَا يُوجِبُ تَمَاثُلَهَا وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ التَّفَاضُلِ فَهُوَ كَامْتِنَاعِهِ مِنْ إطْلَاقِ لِفَظِّ التَّمَاثُلِ وَكَامْتِنَاعِهِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ التَّغَايُرِ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ نَفَى التَّفَاضُلَ وَأَثْبَتَ التَّمَاثُلَ فَقَدْ أَخْطَأَ

لَكِنْ قَدْ لَا يُطْلِقُ لَفْظَ التَّفَاضُلِ كَمَا لَا يُطْلِقُ لَفْظَ التَّمَاثُلِ لَا لِأَنَّ الصِّفَاتِ مُتَمَاثِلَةٌ عِنْدَهُ ؛ بَلْ هُوَ يَنْفِي التَّمَاثُلُ لِعَدَمِ التَّعَدُّدِ وَلِعَدَمِ إطْلَاقِ التَّغَايُرِ كَمَا يُقَالُ : هَلْ يُقَالُ الصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هِيَ مُتَغَايِرَةٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُقَالُ فِي كُلِّ صِفَةٍ إنَّهَا الذَّاتُ أَوْ غَيْرُهَا أَوْ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ نَفْيِهِمَا وَإِنَّمَا يُفْرَدُ كُلُّ نَفْيٍ مِنْهُمَا أَوْ لَا يُطْلَقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةِ التَّفْضِيلِ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّمَاثُلَ أَوْ التَّفَاضُلَ لَا يُعْقَلُ إلَّا مَعَ التَّعَدُّدِ وَتَعَدُّدُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ وَكَلِمَاتُهُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ فَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ يَتَخَاطَبُونَ بِمُوجِبِ الْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ وَإِنْ كَانَتْ لِبَعْضِهِمْ أَقْوَالٌ أُخَرُ تُنَافِي الْفِطْرَةَ وَالشِّرْعَةَ وَتَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ مَا يَقُولُهُ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّا عَلَى تَعَدُّدِ كَلِمَاتِ اللَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَ السَّلَفِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ كَلِمَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا ؛ وَبَيَّنَّا النِّزَاعَ فِي تَعَدُّدِ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَأَنَّ

كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَقُولُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ مِنْ تَعَدُّدِ ذَلِكَ وَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا يُرِيدُ جَمِيعَ الْمُرَادَاتِ بِإِرَادَةِ وَاحِدَةٍ إنَّمَا أَخَذُوهُ عَنْ ابْنِ كُلَّابٍ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ قَالُوا : هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ حَتَّى إنَّ مِنْ فُضَلَاءِ النُّظَّارِ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى هَذَا عَاقِلٌ مِنْ النَّاسِ لِأَنَّهُ رَآهُ ظَاهِرَ الْفَسَادِ فِي الْعَقْلِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ . وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ نَفْسَ إرَادَتِهِ هِيَ رَحْمَتَهُ وَهِيَ غَضَبَهُ يَكُونُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك } مَعْنَاهُ يَكُونُ مُسْتَعِيذًا عِنْدَهُ بِنَفْسِ الْإِرَادَةِ مِنْ نَفْسِ الْإِرَادَةِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ لِلْإِرَادَةِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ يُسْتَعَاذُ بِهَا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوَجْهِ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْآخَرِ . بَلْ الْإِرَادَةُ عِنْدَهُ لَهَا مُجَرَّدُ تَعَلُّقٍ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَالتَّعَلُّقُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ . وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْهُ لِأَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ صِفَاتٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَيُسْتَعَاذُ بِهِ بِاعْتِبَارِ وَمِنْهُ بِاعْتِبَارِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ ذَاتٌ لَا صِفَةَ لَهَا أَوْ مَوْجُودٌ مُطْلَقٌ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ فَهَذَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ هَذَا فِي الذِّهْنِ كَمَا تُقَدَّرُ الممتنعات فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ رَبًّا خَالِقًا لِلْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَهَؤُلَاءِ أَلْجَأَهُمْ إلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مُضَايَقَاتُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ لَهُمْ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُمْ صَارُوا يَقُولُونَ لَهُمْ : كَلَامُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُ اللَّهِ ؟ إنْ قُلْتُمْ هُوَ غَيْرُهُ فَمَا كَانَ غَيْرُ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَإِنْ قُلْتُمْ هُوَ

هُوَ فَهُوَ مُكَابَرَةٌ . وَهَذَا أَوَّلُ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فِي الْمِحْنَةِ فَإِنَّ الْمُعْتَصِمَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ : نَاظِرُوهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ - أَوْ قَالَ فِي كَلَامِ اللَّهِ - يَعْنِي أَهُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ ؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمَد : مَا تَقُولُ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَهُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ ؟ فَعَارَضَهُ أَحْمَد بِالْعِلْمِ فَسَكَتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ . وَهَذَا مِنْ حُسْنِ مَعْرِفَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِالْمُنَاظَرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ . فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ الَّذِي بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ مَتَى ذَكَرْت لَهُ الْحَقَّ الَّذِي عِنْدَك ابْتِدَاءً أَخَذَ يُعَارِضُك فِيهِ ؛ لِمَا قَامَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الشُّبْهَةِ فَيَنْبَغِي إذَا كَانَ الْمَنَاظِرُ مُدَّعِيًا أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِهَدْمِ مَا عِنْدَهُ فَإِذَا انْكَسَرَ وَطَلَبَ الْحَقَّ فَأَعْطِهِ إيَّاهُ وَإِلَّا فَمَا دَامَ مُعْتَقِدًا نَقِيضَ الْحَقِّ لَمْ يَدْخُلْ الْحَقُّ إلَى قَلْبِهِ كَاللَّوْحِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ كَلَامٌ بَاطِلٌ اُمْحُهُ أَوَّلًا ثُمَّ اُكْتُبْ فِيهِ الْحَقَّ . وَهَؤُلَاءِ كَانَ قَصْدُهُمْ الِاحْتِجَاجَ لِبِدْعَتِهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ الْمُعَارَضَةِ وَالنَّقْضِ مَا يُبْطِلُهَا . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة فِي جَوَابِ هَذَا وَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " لَمْ يَنْطِقْ بِهِ الشَّرْعُ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا لَفْظُ " الْغَيْرِ " فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَا غَيْرَ دَاخِلٍ فَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ . وَأَيْضًا فَهُوَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ : يُرَادُ بِالْغَيْرِ مَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الشَّيْءِ وَيُرَادُ بِالْغَيْرِ مَا لَيْسَ هُوَ الشَّيْءُ

فَلِهَذَا لَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَعِلْمَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ هُوَ لِأَنَّ هَذَا بَاطِلٌ . وَلَا يُطْلَقُ أَنَّهُ غَيْرُهُ لِئَلَّا يُفْهَمَ أَنَّهُ بَائِنٌ عَنْهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَهَؤُلَاءِ لَا يُطْلِقُونَ أَنَّهُ هُوَ وَلَا يُطْلِقُونَ أَنَّهُ غَيْرُهُ وَلَا يَقُولُونَ لَيْسَ هُوَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ . فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا إثْبَاتُ قِسْمٍ ثَالِثٍ وَهُوَ خَطَأٌ فَفَرْقٌ بَيْنَ تَرْكِ إطْلَاقِ اللَّفْظَيْنِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ وَبَيْنَ نَفْيِ مُسَمَّى اللَّفْظَيْنِ مُطْلَقًا وَإِثْبَاتِ مَعْنًى ثَالِثٍ خَارِجٍ عَنْ مُسَمَّى اللَّفْظَيْنِ . فَجَاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ " أَبُو الْحَسَنِ " وَكَانَ أَحْذَقَ مِمَّنْ بَعْدَهُ فَقَالَ : نَنْفِي مُفْرَدًا لَا مَجْمُوعًا فَنَقُولُ مُفْرَدًا : لَيْسَتْ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفُ وَنَقُولُ مُفْرَدًا : لَيْسَتْ غَيْرُهُ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيُقَالُ : لَا هِيَ هُوَ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّفْيِ فِيهِ مِنْ الْإِيهَامِ مَا لَيْسَ فِي التَّفْرِيقِ . وَجَاءَ بَعْدَهُ أَقْوَامٌ فَقَالُوا : بَلْ نَنْفِي مَجْمُوعًا فَنَقُولُ : لَا هِيَ هُوَ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ . ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ إذَا بَحَثُوا يَقُولُونَ هَذَا الْمَعْنَى أَمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ فَيَتَنَاقَضُونَ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " مُجْمَلٌ : يُرَادُ بِالْغَيْرِ : الْمُبَايِنُ الْمُنْفَصِلُ وَيُرَادُ بِالْغَيْرِ : مَا لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الشَّيْءِ . وَقَدْ يُعَبِّرُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الغيرين مَا جَازَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا وَعَدَمُهُ أَوْ مَا جَازَ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ بِزَمَانِ أَوْ مَكَانٍ أَوْ وُجُودٍ وَيُعَبِّرُ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ مَا جَازَ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا مَعَ

عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْآخَرِ . وَبَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ فَصِفَاتُ الرَّبِّ اللَّازِمَةُ لَهُ لَا تُفَارِقُهُ أَلْبَتَّةَ فَلَا تَكُونُ غِيَرًا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَيَجُوزُ أَنْ تَعْلَمَ بَعْضَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَتَعْلَمَ الذَّاتَ دُونَ الصِّفَةِ فَتَكُونُ غِيَرًا بِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَلِهَذَا أَطْلَقَ كَثِيرٌ مِنْ مُثَبِّتَةِ الصِّفَاتِ عَلَيْهَا أَغْيَارًا لِلذَّاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نَقُولُ إنَّهَا غَيْرُ الذَّاتِ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ فَإِنَّ لَفْظَ الذَّاتِ لَا يَتَضَمَّنُ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ اسْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الصِّفَاتِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ - عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ - أَنْ لَا يُقَالَ فِي الصِّفَاتِ : إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مُسَمَّى اسْمِ اللَّهِ ؛ بَلْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ . وَإِذَا قِيلَ : هَلْ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا ؟ كَانَ الْجَوَابُ : إنَّ الذَّاتَ الْمَوْجُودَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلصِّفَاتِ فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ الذَّاتِ مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ ؛ بَلْ وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ الذَّوَاتِ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ بَلْ لَفْظُ " الذَّاتِ " تَأْنِيثُ " ذُو " وَلَفْظُ " ذُو " مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِضَافَةِ . وَهَذَا اللَّفْظُ مُوَلَّدٌ وَأَصْلُهُ أَنْ يُقَالَ : ذَاتُ عِلْمٍ ذَاتُ قُدْرَةٍ ذَاتُ سَمْعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وَيُقَالُ : فُلَانَةٌ ذَاتُ مَالٍ ذَاتُ جَمَالٍ . ثُمَّ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ نَفْسَ الرَّبِّ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ - رَدًّا عَلَى مَنْ نَفَى صِفَاتِهَا - عَرَفُوا لَفْظَ الذَّاتِ وَصَارَ التَّعْرِيفُ يَقُومُ مَقَامَ الْإِضَافَةِ فَحَيْثُ قِيلَ لَفْظُ الذَّاتِ فَهُوَ ذَاتُ كَذَا فَالذَّاتُ لَا تَكُونُ إلَّا ذَاتَ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ

وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَإِنَّمَا يُرِيدُ محققوا أَهْلِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِمْ " الصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ " أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الذَّاتِ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذَاتًا مُجَرَّدَةً لَا صِفَاتٍ لَهَا فَأَثْبَتَ أَهْلُ السُّنَّةِ الصِّفَاتِ زَائِدَةً عَلَى مَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ فَهِيَ زِيَادَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْخَبَرِ لَا زِيَادَةَ عَلَى نَفْسِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ . بَلْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ مُتَّصِفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُفَارِقَهَا فَلَا تُوجَدُ الصِّفَاتُ بِدُونِ الذَّاتِ وَلَا الذَّاتُ بِدُونِ الصِّفَاتِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ الصفاتية - الَّذِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ ابْنِ كُلَّابٍ - إذَا قَالَ أَحَدُهُمْ فِي الصِّفَاتِ إنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ إذْ الْمِثْلَانِ مَا سَدَّ أَحَدُهُمَا مُسَدَّ الْآخَرِ وَقَامَ مَقَامَهُ وَالْعِلْمُ لَيْسَ مَثَلًا لِلْقُدْرَةِ وَلَا الْقُدْرَةُ مَثَلًا لِلْإِرَادَةِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ يَمْتَنِعُ فِيهِ تَفَاضُلٌ أَوْ تَمَاثُلٌ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَاَلَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ لَهُمْ مَأْخَذَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا يَكُونُ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَتَفَاضَلُ .

" وَالثَّانِي " أَنَّهُ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ تَفَاضُلٌ وَلَا تَمَاثُلٌ . وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعَ ذَلِكَ حُرُوفًا أَوْ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا قَدِيمَةَ الْأَعْيَانِ وَيَقُولُ : هُوَ مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْ الْكُلَّابِيَة أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا إرَادَةٌ وَاحِدَةٌ وَعِلْمٌ وَاحِدٌ وَقُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَلَامٌ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ . وَأَخَذُوا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالْتَزَمُوا أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ مَعَ أَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ فِي نَفْسِهَا تَرَتُّبًا ذَاتِيًّا فِي الْوُجُودِ أَزَلِيَّةً لَمْ يَزَلْ بَعْضُهَا مُقَارِنًا لِبَعْضِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَاتِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ مُوَافَقَةً لِمَنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِهِ وَأَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لَا يَقُولُونَ إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ بَلْ يَجْعَلُونَهُ مُتَعَدِّدًا مَعَ قِدَمِ الْقُرْآنِ وَقِدَمِ أَعْيَانِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ : أَنَّ الْقَدِيمَ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ كَمَا قَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ . وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ إلَى ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَهُ فِي الْإِسْلَامِ ابْنُ كُلَّابٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ كَثْرَةِ مَا تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمَ وَأَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ الَّذِي تَتَوَفَّرُ

الْهِمَمُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ وَمَعَ تَوَاتُرِ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ . وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِمَّا يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ . وكل مِنْهَا مِمَّا اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَتَصَوَّرُونَهُ عَلَى أَنَّ فَسَادَهُ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَيَجُوزُ اتِّفَاقُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ عَلَى قَوْلٍ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ إذَا كَانَ عَنْ تَوَاطُؤٍ كَمَا يَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ تَوَاطُؤًا وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ . فَالْمَذْهَبُ الَّذِي تَقَلَّدَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ - كَقَوْلِ النَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالدَّهْرِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ قَالُوهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَّا أَنْ يَقُولُوهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ فَهَذَا لَا يَقَعُ وَأَكْثَرُ الْمُتَقَلِّدِينَ لِلْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ لَا يَتَصَوَّرُونَهَا تَصَوُّرًا تَامًّا حَتَّى يَكُونَ تَصَوُّرُهَا التَّامُّ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِفَسَادِهَا . ثُمَّ إذَا اُشْتُهِرَ الْقَوْلُ عِنْدَ طَائِفَةٍ لَمْ يَعْلَمُوا غَيْرَهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ظَنُّوا أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ .
وَلَمَّا كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ صَارَ كُلُّ مَنْ رَأَى طَائِفَةً تُنْكِرُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَتْهُ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ - وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَوَافَقُوا

السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ فِي هَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ مِحْنَةُ الْجَهْمِيَّة - وَثَبَتَ فِيهَا الْإِمَامُ أَحْمَد الَّذِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ السُّنَّةَ وَنَصَرَ السُّنَّةَ - صَارَ شِعَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ فِي اللِّسَانِ الْعَامِّ - فَكَثُرَ حِينَئِذٍ مَنْ يُوَافِقُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ بَلْ مَعَهُ أُصُولٌ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْجَهْمِيَّة يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا يُرِيدُ الْمُتَفَلْسِفُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَقْوَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ . فَلِهَذَا صَارَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَهُ أَقْوَالٌ :
أَحَدُهَا : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ قَدِيمُ الْعَيْنِ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ ثُمَّ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ الْقَدِيمَ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ أَبَدًا أَوْ خَمْسَةُ مَعَانٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَازِمَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ أَبَدًا .
الثَّالِثُ (1) : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الرَّبُّ فِي أَزَلِهِ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ كَمَا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ عِنْدَهُمْ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَوُجُودِ مَا يَكُونُ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ مُحَالٌ عِنْدَهُمْ دَوَامُهُ . ثُمَّ الْمَشْهُورُ عَنْ هَؤُلَاءِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ :

تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَزَالُ بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ تَقُومُ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهُمْ الْكَرَامِيَّة . وَبَعْضُ النَّاسِ يَذْكُرُ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَامَ بِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إنَّمَا هُوَ عُلُومٌ وَإِرَادَاتٌ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ يَمِيلُ إلَى هَذَا فِي بَعْضِ كُتُبِهِ .
وَالْخَامِسُ (1) : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ . وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَائِرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا لَا يَسْكُتُ بَلْ لَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ ابْنُ حَامِدٍ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَصْحَابِهِ مَعَ أَنَّهُ حُكِيَ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَد أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ . وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ ابْنُ حَامِدٍ قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ مَعَ ذِكْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُهُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ سَاكِتًا ثُمَّ صَارَ مُتَكَلِّمًا كَمَا يَقُولُهُ الكَرَّامِيَة . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَتَوَابِعُهَا مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : " كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " تَنَازَعُوا

بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ قَالُوا بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يَعْلَمُونَ مَا قَالَ غَيْرُهُمْ ؛ بَلْ غَايَةُ مَا عِنْدَ أَئِمَّتِهِمْ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ مُعَرَّفَةُ قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ - كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة والسالمية والكَرَّامِيَة - وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ قَالَ سِوَى ذَلِكَ وَيُصَنِّفُ أَحَدُهُمْ كِتَابًا كَبِيرًا فِي " مَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ " وَفِي " الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ " وَيَذْكُرُ عَامَّةَ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَنْقُلُهُ مَعَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مَعَ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَيْهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ أَقْوَالٌ مُتَنَاقِضَةٌ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْقَصْدُ هُنَا : أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ مَثَلًا أَوْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة أَوْ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ الْكُلَّابِيَة أَوْ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ السالمية - هُوَ بَاطِلٌ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ فَيُفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ مَا يُضِيفُهُ إلَى السُّنَّةِ ثُمَّ إذَا تَدَبَّرَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ وَجَدَهَا تُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَصْلًا وَفَرْعًا كَمَا وَقَعَ لِمَنْ أَنْكَرَ فَضْلَ " فَاتِحَةِ الْكِتَابِ " وَ " آيَةِ الْكُرْسِيِّ " وَ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ مَا قَدَّمْته مِنْ الْأَصْلِ الْفَاسِدِ . أَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ وَاحِدًا فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ

تَفَاضُلٌ وَلَا تَمَاثُلٌ وَلَا تَعَدُّدٌ . وَأَمَّا كَوْنُ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ - وَرُبَّمَا قَالُوا : الْقَدِيمُ لَا يَتَفَاضَلُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ : الْقَدِيمُ لَا يَتَعَدَّدُ - فَهَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ : فَإِنَّ الْقَدِيمَ إذَا أُرِيدَ بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ : فَرَبُّ الْعَالَمِينَ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ صِفَاتُهُ . فَمَنْ قَالَ إنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَعَدَّدُ فَهُوَ يَقُولُ : الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةُ ؛ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُوَ الْعِلْمُ . وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ أَيْضًا : الْعِلْمُ هُوَ الْكَلَامُ وَيَقُولُ آخَرُونَ : الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ هُوَ الْإِرَادَةُ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ إنَّ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ : فَالْعِلْمُ هُوَ الْعَالِمُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْقَادِرُ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صَرَّحَ بِهَا نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ كَمَا حَكَيْت أَلْفَاظَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَعْقُول الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ - بَلْ مُخَالَفَةُ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ لِلْعُقَلَاءِ . وَالْمَعْلُومُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِ الرُّسُلِ - مَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ شَرْعًا وَعَقْلًا . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ تَأَوَّلُوا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِتَأْوِيلَاتِ بَاطِلَةٍ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ وَأَفْضَلَ وَخَيْرًا كَوْنِهِ عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ وَامْتَنَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ إجْرَاءِ التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ الْبَاقِلَانِي وَجَمَاعَةٍ غَيْرِهِمَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْقَرْمَطَةِ . فَإِنَّ اللَّهَ

تَعَالَى يَقُولُ : { نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ } وَقَالَ : { لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " خَيْرٌ مِنْهَا " أَيْ خَيْرٌ مِنْهَا لَكُمْ أَيْ أَكْثَرَ ثَوَابًا أَوْ أَقَلَّ تَعَبًا وَقَالَ : مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فَلَيْسَ هُوَ تَفْضِيلًا لِنَفْسِ الْكَلَامِ بَلْ لِمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ أَنَّ تِلَاوَةَ هَذَا وَالْعَمَلَ بِهِ يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الْأَجْرِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْآخَرِ . فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ . وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الثَّوَابِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْفِعْلَيْنِ أَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى الثَّانِي إنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ وَلِهَذَا إنَّمَا تَنْطِقُ النُّصُوصُ بِفَضْلِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي نَفْسِهِ كَمَا قَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَيُجِيبُ بِتَفْضِيلِ عَمَلٍ عَلَى عَمَلٍ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِرُجْحَانِ ثَوَابِهِ . وَأَمَّا رُجْحَانُ الثَّوَابِ مَعَ تَمَاثُلِ الْعَمَلَيْنِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ }

فَأَخْبَرَ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَفَضَّلَ نَفْسَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْدَ الْقُرْآنِ عَلَى سِوَاهَا وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّهُ سُئِلَ : أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } . وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَفْضَلُ مَا قَالَهُ هُوَ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الذَّكَرِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ } وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - أَوْ وَسَبْعُونَ - شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي النُّصُوصِ يُفَضِّلُ الْعَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ وَالْقَوْلَ عَلَى الْقَوْلِ . وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ فَضْلُ ثَوَابِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . أَمَّا تَفْضِيلُ الثَّوَابِ بِدُونِ تَفْضِيلِ نَفْسِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَلَمْ يَرِدْ بِهِ نَقْلٌ وَلَا يَقْتَضِيهِ عَقْلٌ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْقَوْلَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ الْعَمَلَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ جَعَلَ ثَوَابَ أَحَدِهِمَا أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ الْآخَرِ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجَّحٍ . وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ بِهَذَا الْأَصْلِ يَنْصُرُونَ الْإِسْلَامَ فَلَا لِلْإِسْلَامِ

نَصَرُوا وَلَا لِعَدُوِّهِ كَسَرُوا بَلْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا بِالتَّبْدِيعِ وَالتَّضْلِيلِ وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّجْهِيلِ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ خُصُومُهُمْ الدَّهْرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ بِإِلْزَامِهِمْ مُخَالَفَةَ الْمَعْقُولِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الزِّيَادَةِ فِي مُخَالَفَةِ الْمَشْرُوعِ وَالْمَعْقُولِ كَمَا جَرَى لِلْمُلْحِدِينَ مَعَ الْمُبْتَدِعِينَ . وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ بَلْ بَعْضُهُ أَكْثَرُ ثَوَابًا ؛ رَدٌّ لِخَبَرِ اللَّهِ الصَّرِيحِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَكَيْفَ يُقَالُ لَيْسَ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ ؟ وَإِذَا كَانَ الْجَمِيعُ مُتَمَاثِلًا فِي نَفْسِهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ . وَكَوْنُ مَعْنَى الْخَيْرِ أَكْثَرَ ثَوَابًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَمَاثِلًا فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ؛ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ قَطُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ مِنْ هَذَا مَعَ تَسَاوِي الذَّاتَيْنِ بِصِفَاتِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ لَا بُدَّ - مَعَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ - مِنْ التَّفَاضُلِ وَلَوْ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ مُخْتَارًا جَعَلَ لِأَحَدِهِمَا مَعَ التَّمَاثُلِ مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا بِصِفَاتِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهَذَا لَا يَعْقِلُ وُجُودَهُ وَلَوْ عَقَلَ لَمْ يَقُلْ إنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ لِأَمْرِ لَا يَتَّصِفُ بِهِ أَحَدُهُمَا أَلْبَتَّةَ . وَأَيْضًا فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَاتِحَةِ : { لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } فَقَدْ صَرَّحَ الرَّسُولُ

بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ لَهَا مَثَلًا فَمَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ مَثَلٌ لَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَقَدْ نَاقَضَ الرَّسُولَ فِي خَبَرِهِ . وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ : { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وَمَعَ تَمَاثُلِ كُلِّ حَدِيثٍ لِلَّهِ فَلَيْسَ الْقُرْآنُ أَحْسَنَ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ الْأَحْكَامِ . فَإِنْ قِيلَ : نَحْنُ نُسَلِّمُ لَكُمْ أَنَّ اللَّهَ خَصَّ بَعْضَ كَلَامِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْأَحْكَامِ بِمَا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ لَكِنَّ هَذَا عِنْدَنَا بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ ؛ لَا لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِوَصْفِ امْتَازَ بِهِ عَنْ الْآخَرِ . قِيلَ : أَوَّلًا هَذَا مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ . ثُمَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ . وَهَؤُلَاءِ لَمَّا جَوَّزُوا هَذَا قَالُوا : إنَّ الرَّبَّ يَزَلْ مُعَطِّلًا وَمَا كَانَ يُمْكِنُ فِي الْأَزَلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَلَا أَنْ يَفْعَلَ . ثُمَّ صَارَ الْكَلَامُ وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ اقْتَضَى انْتِقَالَهُمَا مِنْ الِامْتِنَاعِ إلَى الْإِمْكَانِ وَقَالُوا : إنَّ الْقَادِرَ الْمُرَجِّحَ يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ . ثُمَّ قَالَتْ الْجَهْمِيَّة : وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِقَادِرِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يُرَجِّحُ شَيْئًا بَلْ اللَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ الرَّبِّ . وَقَالَتْ

الْقَدَرِيَّةُ : الْعَبْدُ قَادِرٌ تَامُّ الْقُدْرَةِ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَلَا حَاجَةٍ إلَى أَنْ يُحَدِّثَ اللَّهَ مَا بِهِ يَخْتَصُّ بِهِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا ؛ بَلْ هُوَ - مَعَ أَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى الضِّدَّيْنِ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ سَوَاءٌ - يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِلَا مُرَجِّحٍ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ الْعَبْدِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إعَانَةِ اللَّهِ وَلَا إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ شَائِيًا وَلَا يَجْعَلَهُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَلَا يَجْعَلَهُ مُسْلِمًا . وَمَعْلُومٌ بِالْعُقُولِ خِلَافُ هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يُشَاء لَمْ يَكُنْ لَكِنَّ الْمَدْحَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُطْلَقُ الْمَشِيئَةِ لَا مُعَوِّقٌ لَا إذَا أَرَادَ شَيْئًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت وَلَكِنْ لِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ } . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ لَيْسَ لَهُ مُكْرِهٌ حَتَّى يُقَالَ لَهُ افْعَلْ إنْ شِئْت وَلَا يَفْعَلُ إنْ لَمْ يَشَأْ . فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ . لَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ يَفْعَلُ لِمُجَرَّدِ مَشِيئَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حِكْمَةٌ بَلْ يَفْعَلُ عِنْدَهُمْ مَا وُجُودُ فِعْلِهِ وَعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَدْحِ بَلْ الْمَعْقُولُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ صِفَةُ ذَمٍّ فَمَنْ فَعَلَ لِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ حِكْمَةٍ لِفِعْلِهِ وَلَا تَضَمَّنَ غَايَةً مُجَرَّدَةً كَانَ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا لَهُ . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مَنْ نَسَبَهُ إلَى هَذَا فَقَالَ تَعَالَى

{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : الْعَبَثُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لَا لِحِكْمَةِ وَهُوَ جِنْسٌ مِنْ اللَّعِبِ . وَقَالَ : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } وَقَالَ : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ : السُّدَى الْمُهْمَلُ الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى ؛ كَاَلَّذِي يَتْرُكُ الْإِبِلَ سُدًى مُهْمَلَةً وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } .
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَبَيْنَ مَنْ يَحْمَدُهُ وَيُكْرِمُهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَمَنْ يَذُمُّهُ وَيُعَاقِبُهُ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ لَا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا . وَجَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا مَسَاغَ لَهُ . فَقَالَ تَعَالَى { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } وَقَالَ : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى :

{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ سَيِّئٌ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ الْحُكْمُ بِهِ مُسَاوِيًا لِلْحُكْمِ بِالتَّفَاضُلِ . ثُمَّ قَالَ : { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَجْزِيَ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَيَنْقُصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْئًا بَلْ كَمَا قَالَ : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } . وَقَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ فَلَا يُؤْتِيهِ أَجْرَهُ أَوْ يَحْمِلُ عَلَيْهِ ذَنْبَ غَيْرِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ } { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } . وَمَا تَزْعُمُهُ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ أَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضٍ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ جَهْلٌ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي جَرَى

بِهَا الْقَدَرُ لَيْسَ بِظُلْمِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ النَّاسِ إذَا عَاقَبَهُ غَيْرُهُ بِسَيِّئَاتِهِ وَانْتَصَفَ لِلْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مَحْمُودٌ مِنْهُ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ الظَّالِمَ مَعْذُورٌ لِأَجْلِ الْقَدَرِ . فَرَبُّ الْعَالَمِينَ إذَا أَنْصَفَ بَعْضَ عِبَادِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَخَذَ لِلْمَظْلُومِينَ حَقَّهُمْ مِنْ الظَّالِمِينَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ لِأَجْلِ الْقَدَرِ وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنْ الْعِبَادِ إذَا وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ فَجَعَلَ الطَّيِّبَ مَعَ الطَّيِّبِ فِي الْمَكَانِ الْمُنَاسِبِ لَهُ وَجَعَلَ الْخَبِيثَ مَعَ الْخَبِيثِ فِي الْمَكَانِ الْمُنَاسِبِ لَهُ كَانَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْهُ وَحِكْمَةً فَرَبُّ الْعَالَمِينَ إذَا وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَجْعَلْ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَلَا الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . وَالْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَهَا إلَّا طَيِّبٌ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إلَّا بَعْدَ الْقِصَاصِ الَّذِي يُنَظِّفُهُمْ مِنْ الْخُبْثِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا عَبَرُوا الْجِسْرَ - وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمَنْصُوبُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ - فَإِنَّهُمْ يُوقِفُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ } وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ : هُنَا أَنَّ مَا يَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْعَدْلِ الَّذِي يَقِيسُونَ بِهِ الرَّبَّ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ بِدَعِهِمْ الَّتِي ضَلُّوا بِهَا وَخَالَفُوا بِهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ

وَإِجْمَاعَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَابَلَهُمْ فَنَفَى حِكْمَةَ الرَّبِّ الثَّابِتَةَ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَمَا كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَمَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَمَا جَعَلَهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَشْرُوعَاتِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا النَّصَّ مَعَ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلَ أَصْلُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ إمَامِ غُلَاةِ الْمُجَبِّرَةِ وَكَانَ يُنْكِرُ رَحْمَةَ الرَّبِّ وَيَخْرُجُ إلَى الْجَذْمَى فَيَقُولُ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَا ثَمَّ إلَّا إرَادَةٌ رَجَّحَ بِهَا أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا رَحْمَةٍ . وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ وَافَقُوهُ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَنَاقَضُونَ لِأَنَّهُمْ إذَا خَاضُوا فِي الشَّرْعِ احْتَاجُوا أَنْ يَسْلُكُوا مَسَالِكَ أَئِمَّةِ الدِّينِ فِي إثْبَاتِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَمْرِ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ النَّهْيِ عَنْ مَفَاسِدِهِمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ وَأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي بُعِثَ بِهَا بُعِثَ رَحْمَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ

عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَيَنْهَى عَمَّا هُوَ مُنْكَرٌ وَيُحِلُّ مَا هُوَ طَيِّبٌ وَيُحَرِّمُ مَا هُوَ خَبِيثٌ . وَلَوْ كَانَ الْمَعْرُوفُ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمُنْكَرُ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا مَا حُرِّمَ لَكَانَ هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ : يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْهَاهُمْ وَيُحِلُّ لَهُمْ مَا أَحَلَّ لَهُمْ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ . وَهَذَا كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمَرَ بِأَمْرِ يُوصَفُ بِذَلِكَ وَكُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ فَهَذِهِ حَالُهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } فَعُلِمَ أَنَّ الطَّيِّبَ وَصْفٌ لِلْعَيْنِ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ يُحَرِّمُهَا مَعَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لِلْعِبَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الطَّيِّبِ هُوَ مَا أُحِلَّ كَانَ الْكَلَامُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ . فَعُلِمَ أَنَّ الطَّيِّبَ وَالْخَبِيثَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالْأَعْيَانِ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ الْتِذَاذِ الْأَكْلِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْتَذُّ بِمَا يَضُرُّهُ مِنْ السُّمُومِ وَمَا يَحْمِيهِ الطَّبِيبُ مِنْهُ وَلَا الْمُرَادُ بِهِ الْتِذَاذَ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُمَمِ كَالْعَرَبِ وَلَا كَوْنُ الْعَرَبِ تَعَوَّدَتْهُ ؛ فَإِنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ تَعَوَّدَتْ أَكْلَهُ وَطَابَ لَهَا أَوْ كَرِهَتْهُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِي بِلَادِهَا

لَا يُوجِبُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَمْ تَعْتَدْهُ طِبَاعُ هَؤُلَاءِ وَلَا أَنْ يُحِلُّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَعَوَّدُوهُ . كَيْفَ وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ اعْتَادَتْ أَكْلَ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْعَرَبِ : مَا تَأْكُلُونَ ؟ قَالَ : مَا دَبَّ وَدَرَجَ إلَّا أُمَّ حبين . فَقَالَ : ليهن أُمُّ حبين الْعَافِيَةَ . وَنَفْسُ قُرَيْشٍ كَانُوا يَأْكُلُونَ خَبَائِثَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَكَانُوا يُعَافُونَ مَطَاعِمَ لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قُدِّمَ لَهُ لَحْمُ ضَبٍّ فَرَفَعَ يَدَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ فَقِيلَ : أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ } . فَعُلِمَ أَنَّ كَرَاهَةَ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا لِطَعَامِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِتَحْرِيمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يُحَرِّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا كَرِهَتْهُ الْعَرَبُ وَلَمْ يُبِحْ كُلَّ مَا أَكَلَتْهُ الْعَرَبُ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } إخْبَارٌ عَنْهُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَحَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِثْلَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَإِنَّهَا عَادِيَةٌ بَاغِيَةٌ فَإِذَا أَكَلَهَا النَّاسُ - وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي - صَارَ فِي أَخْلَاقِهِمْ شَوْبٌ مِنْ أَخْلَاقِ هَذِهِ الْبَهَائِمِ وَهُوَ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ كَمَا حَرَّمَ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ قُوَى النَّفْسِ الشهوية الْغَضَبِيَّةِ وَزِيَادَتُهُ تُوجِبُ طُغْيَانَ هَذِهِ الْقُوَى

وَهُوَ مَجْرَى الشَّيْطَانِ مِنْ الْبَدَنِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ } . وَلِهَذَا كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ إذَا دَخَلَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ لِأَنَّ الصَّوْمَ جُنَّةٌ . فَالطَّيِّبَاتُ الَّتِي أَبَاحَهَا هِيَ الْمَطَاعِمُ النَّافِعَةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْخَبَائِثُ هِيَ الضَّارَّةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الْعُقُولَ وَالْأَخْلَاقَ فَأَبَاحَ اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ الَّتِي تَضُرُّهُمْ فِي الْمَقْصُودِ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ وَأَمَرَهُمْ مَعَ أَكْلِهَا بِالشُّكْرِ وَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِهَا فَمَنْ أَكَلَهَا وَلَمْ يَشْكُرْ تَرَكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ . وَمَنْ حَرَّمَهَا - كَالرُّهْبَانِ - فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أَيْ عَنْ شُكْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُبِيحُ شَيْئًا وَيُعَاقِبُ مَنْ فَعَلَهُ وَلَكِنْ يَسْأَلُهُ عَنْ الْوَاجِبِ الَّذِي أَوَجَبَهُ مَعَهُ وَعَمَّا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ : هَلْ فَرَّطَ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ

مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } فَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ . كَمَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّرَهُّبِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ رِجَالًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ آخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَقْرَبُ النِّسَاءَ وَقَالَ آخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا . . لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ؛ وَآكُلُ اللَّحْمَ . فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ حِكْمَتَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمَرَهُ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } فَعَلَّلَ التَّحْرِيمَ بِأَنَّهَا فَاحِشَةٌ بِدُونِ النَّهْيِ وَأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنْهَا وَقَوْلِهِ : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } فَذَكَرَ بَرَاءَتَهُ مِنْ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُ بِذَلِكَ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى اللَّهِ الْأَمْرُ بِهِ لَيْسَتْ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مُسْتَوِيَةً فِي أَنْفُسِهَا وَلَا عِنْدَهُ وَأَنَّهُ لَا يُخَصِّصُ الْمَأْمُورَ عَلَى الْمَحْظُورِ لِمُجَرَّدِ التَّحَكُّمِ بَلْ يُخَصِّصُ الْمَأْمُورَ بِالْأَمْرِ وَالْمَحْظُورَ بِالْحَظْرِ لِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ .

وَقَدْ تَدَبَّرْت عَامَّةَ مَا رَأَيْته مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ - مَعَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ عَنْهُ وَكَثْرَةِ مَا رَأَيْته مِنْ ذَلِكَ - هَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَوْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْته مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي وَجَدْتهَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَامِ : مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ تَلَقَّى ذَلِكَ عَنْهُمْ : مِثْلَ دَعْوَى الْجَهْمِيَّة أَنَّ الْأُمُورَ الْمُتَمَاثِلَةَ يَأْمُرُ اللَّهُ بِأَحَدِهَا وَيَنْهَى عَنْ الْآخَرِ لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ أَوْ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُتَمَاثِلَةَ وَالْأَعْمَالَ الْمُتَمَاثِلَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَجْعَلُ اللَّهُ ثَوَابَ بَعْضِهَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا حِكْمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَهُ : كَقَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ كُلُّهُ مُتَمَاثِلٌ وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ فِي بَعْضِهِ أَعْظَمَ فَمَا وَجَدْت فِي كَلَامِ السَّلَفِ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ بَلْ يُصَرِّحُونَ بِالْحُكْمِ وَالْأَسْبَابِ وَبَيَانِ مَا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْأَمْرِ بِهِ وَمَا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّيِّئَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَمِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فِي نَفْسِهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَمْ أَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ أَنَّهُ خَالَفَ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ وَلَا تَأَوَّلَهُ عَلَى مَفْهُومِهِ مَعَ أَنَّهُ يُوجَدُ عَنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ اسْتِشْكَالٌ وَاشْتِبَاهٌ وَتَفْسِيرُهَا عَلَى أَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا خَطَأً . وَالصَّوَابُ هُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ وَمَا وَجَدْتهمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي { أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ } وَقَوْلِهِ فِي الْفَاتِحَةِ { لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا }

وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا مُقِرِّينَ لِذَلِكَ قَائِلِينَ بِمُوجِبِهِ . { وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ أبيا أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ } فَأَجَابَهُ أبي بِأَنَّهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ { ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } . وَلَمْ يَسْتَشْكِلْ أبي وَلَا غَيْرُهُ السُّؤَالَ عَنْ كَوْنِ بَعْضِ الْقُرْآنِ أَعْظَمَ مِنْ بَعْضٍ بَلْ شَهِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِلْمِ لِمَنْ عَرَفَ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَعَرَفَ أَفْضَلَ الْآيَاتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } . وَمَا رَأَيْتهمْ تَنَازَعُوا فِي تَفْسِيرِ ( { بِخَيْرٍ مِنْهَا } . فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ : قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِينَ ( { أَوْ نُنْسِهَا } مَنْ أَنْسَاهُ يُنْسِيهِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو ( أَوْ نَنْسَأهَا بِالْهَمْزِ مِنْ نَسَأَهُ يَنْسَأهُ . فَالْأَوَّلُ مِنْ النِّسْيَانِ وَالثَّانِي مِنْ نَسَأَ إذَا أَخَّرَ . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : نَسَأْته نَسْئًا إذَا أَخَّرْته . وَكَذَلِكَ أَنْسَأْته يُقَالُ نَسَأْته الْبَيْعَ وَأَنْسَأْته . قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ وَنَسَأَ فِي أَجَلِهِ بِمَعْنَى . وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ بَيْعُ النَّسِيئَةِ . وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ : مَنْ أَرَادَ النَّسَاءَ وَلَا نَسَاءً فَلْيُبَكِّرْ الْغَدَاءَ وَلْيُخَفِّفْ الرِّدَاءَ وَلْيُقَلِّلْ مِنْ غَشَيَانِ النَّسَاءِ . فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : الْمُرَادُ بِهِ مَا أَنْسَاهُ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ فَإِنَّ مَا يَرْفَعُ

مِنْ الْقُرْآنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعًا شَرْعِيًّا بِإِزَالَتِهِ مِنْ الْقُلُوبِ وَهُوَ الْإِنْسَاءُ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا يَنْسَخُهُ أَوْ يُنْسِيهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ بَيَّنَ ذَلِكَ فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } فَنَهَاهُمْ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُوءِ أَدَبِهِمْ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لِحَسَدِهِمْ مَا يَوَدُّونَ أَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ بِنِعْمَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ بَعْضُ الْقُرْآنِ يُنْسَخُ وَبَعْضُهُ يُنْسَى - كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ - وَمَا أَنْسَاهُ سُبْحَانَهُ هُوَ مِمَّا نَسَخَ حُكْمَهُ وَتِلَاوَتُهُ بِخِلَافِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي يُتْلَى وَقَدْ نَسَخَ مَا نَسَخَ مِنْ حُكْمِهِ أَوْ نَسَخَ تِلَاوَتَهُ وَلَمْ يَنْسَ وَفِي النَّسْخِ وَالْإِنْسَاءِ نَقُصُّ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا نَقْصَ فِي ذَلِكَ بَلْ كُلُّ مَا نَسَخَ أَوْ يَنْسَى فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُونَ فِي نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لَا تَنْقُصُ بَلْ تَزِيدُ فَإِنَّهُ إذَا أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا زَادَتْ النِّعْمَةُ وَإِنْ أَتَى بِمِثْلِهَا كَانَتْ النِّعْمَةُ بَاقِيَةً وَقَالَ تَعَالَى : { أَوْ نُنْسِهَا } فَأَضَافَ الْإِنْسَاءَ إلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا الْإِنْسَاءَ لَيْسَ مَذْمُومًا بِخِلَافِ نِسْيَانِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ

فَإِنَّ هَذَا إنْسَاءٌ لِمَا رَفَعَهُ اللَّهُ وَأَمَّا نِسْيَانُ مَا أَمَرَ بِحِفْظِهِ فَمَذْمُومٌ قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَهَذَا النِّسْيَانُ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا مَعَ حِفْظِهَا فَإِذَا نُسِيَتْ الْآيَاتُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يُعْرَفُ مَا فِيهَا كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا فَكَانَ هَذَا مَذْمُومًا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ } وَلِهَذَا كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضِيفَ الْإِنْسَانُ النِّسْيَانَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ : نَسِيت آيَةَ كَيْت وَكَيْت بَلْ هُوَ أَنْسَى . اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا } ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } هُوَ مَا تَرَكَ تِلَاوَتَهُ وَرَسْمَهُ وَنَسْخَ حُكْمِهِ وَمَا أَنْسَى هُوَ مَا رَفَعَ فَلَا يُتْلَى . وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ فِي الْأَوَّلِ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا . فَالْأَوَّلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَرَوَى النَّاسُ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قَالَ : نُثْبِتُ خَطَّهَا وَنُبَدِّلُ حُكْمَهَا قَالَ : وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نَمْحُوهَا فَإِنَّ مَا نُسِيَ لَمْ يُتْرَكْ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ

وَيَنْسَاهُ بِالنَّهَارِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } } . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وقتادة وَعِكْرِمَةَ . وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْرَؤُهَا أَوْ تُنْسِهَا بِالْخِطَابِ أَيْ تُنْسِهَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَتَلَا قَوْلَهُ : سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى وَقَوْلَهُ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ { كَانَ يَحْفَظُ قُرْآنًا ثُمَّ يَنْسَاهُ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ : إنَّهُ رُفِعَ } مِثْلَ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيّ : حَدَّثَنِي أَبُو أمامة بْنُ سَهْلِ بْنِ حنيف فِي مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَهُ سُورَةٌ فَقَامَ يَقْرَؤُهَا مِنْ اللَّيْلِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَأَصْبَحُوا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : ذَهَبْت الْبَارِحَةَ لِأَقْرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَالَ الْآخَرُ : مَا جِئْت إلَّا لِذَلِكَ وَقَالَ الْآخَرُ : مَا جِئْت إلَّا لِذَلِكَ وَقَالَ الْآخَرُ : وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا نُسِخَتْ الْبَارِحَةَ } وَقَوْلُهُ : أَوْ نَنْسَؤُهَا النَّسْءُ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ وَفِيهِ قَوْلَانِ السَّلَفُ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ يُرْوَى عَنْ طَائِفَةٍ قَالَ السدي : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قَالَ : نَسْخُهَا قَبْضُهَا أَوْ نَنْسَأهَا فَنَتْرُكُهَا لَا نَنْسَخُهَا { نَأْتِ بِخَيْرٍ } مِنْ

الَّذِي نَسَخْنَاهُ أَوْ مِثْلِ الَّذِي تَرَكْنَاهُ . وَكَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } يَقُولُ مَا نُبَدِّلْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَتْرُكْهَا فَلَا نَرْفَعُهَا مِنْ عِنْدِكُمْ { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَسَّرَ بِهَذَا الْمَعْنَى الْقِرَاءَةَ الْأُولَى فَقَالُوا : مَعْنَى نُنْسِهَا نَتْرُكُهَا عِنْدَكُمْ فَإِنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ نُنْسِهَا نَأْمُرُ بِتَرْكِهَا . يُقَالُ أَنْسَيْت الشَّيْءَ وَأَنْشَدَ : إنِّي عَلَى عُقْبَةَ أَقْضِيهَا لِسِتِّ بِنَاسِيهَا وَلَا مُنْسِيهَا أَيْ وَلَا آمُرُ بِتَرْكِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ نُؤَخِّرُهَا عَنْ الْعَمَلِ بِهَا بِنَسْخِنَا إيَّاهَا . وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوْسَطُ . رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : خَطَبَنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَقُولُ اللَّهُ { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُؤَخِّرُهَا . وَبِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } فَلَا يُعْمَلُ بِهَا { أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُرْجِئُهَا عِنْدَنَا وَفِي لَفْظٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ : نُؤَخِّرُهَا عِنْدَنَا . وَعَنْ عَطَاءٍ : نُؤَخِّرُهَا . وَقَدْ ذُكِرَ قَوْلٌ ثَالِثٌ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ قَوْلٌ رَابِعُ أَنَّ الْمَعْنَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } وَهُوَ مَا أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكُمْ وَلَا نَرْفَعُهُ { أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُؤَخِّرُ تَنْزِيلَهُ فَلَا نُنَزِّلُهُ . وَنَقَلَ هَذَا بَعْضُهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ أَمَّا

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } فَهُوَ مَا قَدْ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ جَعَلَاهُ مِنْ النسخة { أَوْ نَنْسأهَا } أَيْ نُؤَخِّرُهَا فَلَا يَكُونُ وَهُوَ مَا لَمْ يُنَزِّلْ . وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ رَوَى بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ عَطَاءٍ { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } أَمَّا مَا نُسِخَ فَهُوَ مَا تُرِكَ مِنْ الْقُرْآنِ ( بِالْكَافِ ) وَكَأَنَّهُ تَصَحُّفٌ عَلَى مَنْ ظَنَّهُ نَزَلَ مِنْ النُّزُولِ فَإِنَّ لَفْظَ تُرِكَ فِيهِ إبْهَامٌ . وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : يَعْنِي تَرَكَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ مُرَادُ عَطَاءٍ هَذَا وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ تَرَكَ مَكْتُوبًا مَتْلُوًّا وَنُسِخَ حُكْمُهُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِهِ وَمَا أَنْسَأَهُ هُوَ مَا أَخَّرَهُ لَمْ يُنْزِلْهُ . وَسَعِيدٌ وَعَطَاءٌ مِنْ أَعْلَمِ التَّابِعِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمَا هَذَا . وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } وَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ غَلِطَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ فَسَرَّهَا بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ مَا نَنْسَخْ نَجْعَلُكُمْ تَنْسَخُونَهَا كَمَا يُقَالُ أَكْتَبْته هَذَا . وَقِيلَ : أَنْسَخُ جَعَلَهُ مَنْسُوخًا كَمَا يُقَالُ : قَبَرَهُ إذَا أَرَادَ دَفْنَهُ وَأَقْبَرَهُ أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا . وَطَرَدَهُ إذَا نَفَاهُ وَأَطْرَدَهُ إذَا جَعَلَهُ طَرِيدًا . وَهَذَا أَشْبَهُ بِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ . وَالصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ أَوْ نَنْسَؤُهَا أَيْ نُؤَخِّرُهَا عِنْدَنَا فَلَا نُنْزِلُهَا . وَالْمَعْنَى : أَنَّ مَا نَنْسَخُهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا أَوْ نُؤَخِّرُ نُزُولَهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي لَمْ نُنَزِّلْهَا بَعْدَ { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَكَمَا أَنَّهُ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ الْمَرْفُوعِ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ بَعْدُ إلَى أَنْ يُنَزِّلَهُ

فَإِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَ نُزُولِهِ فَيُعَوِّضُهُمْ بِمِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ نُزُولِهِ فَيُنْزِلُهُ أَيْضًا مَعَ مَا تَقَدَّمَ وَيَكُونُ مَا عَوَّضَهُ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ نُزُولِهِ . وَأَمَّا مَا أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَنْسَخْهُ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَدَلٍ وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا لَمْ يَنْسَخْهُ اللَّهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ لَزِمَ إنْزَالُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ . وَكَذَلِكَ إنْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُرَادَ يُؤَخِّرُ نَسْخَهُ إلَى وَقْتٍ ثُمَّ يَنْسَخُهُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى بَدَلٍ يَكُونُ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ وَإِنَّمَا الْبَدَلُ لِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِمَّا أَنْسَوْهُ أَوْ أَخَّرَ نُزُولَهُ فَلَمْ يُنْزِلْهُ بَعْدُ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ الْبَدَلَ لِكُلِّ مَا لَمْ يُنْزِلْهُ بَلْ لِمَا نَسَأَهُ فَأَخَّرَ نُزُولَهُ إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا لَمْ يَنْزِلْ يَكُونُ لَهُ بَدَلٌ لَزِمَ إنْزَالُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ بَلْ مَا كَانَ يُعْلَمُ أَنَّهُ سَيُنْزِلُهُ وَقَدْ أَخَّرَ نُزُولَهُ يَكُونُونَ فَاقِدِيهِ إلَى حِينِ يَنْزِلُ كَمَا يَفْقِدُونَ مَا نَزَلَ ثُمَّ نُسِخَ فَيَجْعَلُ سُبْحَانَهُ لِهَذَا بَدَلًا وَلِهَذَا بَدَلًا . وَأَمَّا مَا أَنْزَلَهُ وَأَقَرَّهُ عِنْدَهُمْ وَأَخَّرَ نُسَخَهُ إلَى وَقْتٍ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَدَلٍ فَإِنَّهُ نَفْسُهُ بَاقٍ . وَلَوْ كَانَ هَذَا مُرَادًا لَكَانَ كُلُّ قُرْآنٍ قَدْ نَسَخَهُ يَجِبُ أَنْ يَنْزِلَ قَبْلَ نَسْخِهِ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ ثُمَّ إذَا نَسَخَهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَيَكُونُ لِكُلِّ مَنْسُوخٍ بَدَلَانِ : بَدَلٌ قَبْلَ نَسْخِهِ وَبَدَلٌ بَعْدَ نَسْخِهِ . وَالْبَدَلُ الَّذِي قَبْلَ نَسْخِهِ لَا ابْتِدَاءَ لِنُزُولِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ نُزُولُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي أَوَّلِ الْوَحْيِ وَهَذَا بَاطِلٌ

قَطْعًا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَلْزَمُ فِيمَا أَخَّرَهُ فَلَمْ يُنْزِلْهُ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا وَلَا وَقْتَ لِنُزُولِ ذَلِكَ الْبَدَلِ قِيلَ : مَا أَخَّرَ نُزُولِهِ وَهُوَ يُرِيدُ إنْزَالَهُ مَعْلُومٌ وَالْبَدَلُ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ يُؤْتَى بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَا زَالَ يَنْزِلُ وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا أَخَّرَ نُزُولَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْزِلَ قَبْلَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ الْقُرْآنِ نُزُولُهُ لَمْ يُنْسَخْ كَثِيرٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ كَالْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَأُصُولِ الشَّرَائِعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ كَمَسَائِلِ الرِّبَا وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذَا الَّذِي أَخَّرَهُ اللَّهُ مِثْلَ آيَةِ الرِّبَا فَإِنَّهَا مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ وَكَذَلِكَ آيَةُ الدَّيْنِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ قَبْلَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مِنْ الشَّرَائِعِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ هَذَا وَفِيهَا مِنْ الْأُصُولِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ هَذَا . وَلِهَذَا كَانَتْ سُورَةُ " الْأَنْعَامِ " أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا وَكَذَلِكَ سُورَةُ " يس " وَنَحْوُهَا مِنْ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا أُصُولُ الدِّينِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الرُّسُلُ كُلُّهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَلِهَذَا كَانَتْ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا التَّوْحِيدَ فَعُلِمَ أَنَّ آيَاتِ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِلَا رَيْبٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ

تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيته } وَسُورَةُ الْحِجْرِ مَكِّيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَفِيهَا كَلَامُ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَحَالُهُ مَعَهُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ اللَّهُ يَنْسَؤُهُ فَيُؤَخِّرُ نُزُولَهُ مِنْ الْقُرْآنِ كَانَ يَنْزِلُ قَبْلَهُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } مَكِّيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : الْفَاتِحَةُ لَمْ تَنْزِلْ إلَّا بِالْمَدِينَةِ غَلَطٌ بِلَا رَيْبٍ . وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّنَا عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ مَنْ قَالَ إنَّهَا مَكِّيَّةٌ مَعَهُ زِيَادَةُ عَلَمٍ .
وَسُورَةُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ . وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا سُؤَالُ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ وَسُؤَالُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا بِمَكَّةَ أَوَّلًا ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ نَحْوَ ذَلِكَ أَنْزَلَهَا مَرَّةً أُخْرَى . وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا : إنَّ الْآيَةَ أَوْ السُّورَةَ قَدْ تَنْزِلُ مَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . فَمَا يُذْكَرُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ الْمُتَعَدِّدَةِ قَدْ يَكُونُ جَمِيعُهُ حَقًّا . وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَدَثَ سَبَبٌ يُنَاسِبُهَا نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ لِيُعَلِّمَهُ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ جَوَابَ ذَلِكَ السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ يَحْفَظُهَا قَبْلَ ذَلِكَ .

وَالْوَاحِدُ مِنَّا قَدْ يَسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيَذْكُرُ لَهُ الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ لِيُبَيِّنَ لَهُ دَلَالَةَ النَّصِّ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ حَافِظٌ لِذَلِكَ لَكِنْ يُتْلَى عَلَيْهِ ذَلِكَ النَّصُّ لِيَتَبَيَّنَ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَدَلَ لَمَّا أَخَّرَ نُزُولَهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ لَمْ يُنْسَخْ فَإِنَّ هَذَا لَا بَدَلَ لَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَيُنْسَخُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ مُحْكَمًا لَمْ يَكُنْ بَدَلُهُ خَيْرًا مِنْهُ . وَكَذَلِكَ الْبَدَلُ عَنْ الْمَنْسُوخِ يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ . وَأَكْثَرُ السَّلَفِ أَطْلَقُوا لَفْظَ " خَيْرٍ مِنْهَا " كَمَا فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَسْتَشْكِلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَفِي تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ : خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَرْفُقُ بِكُمْ . وَعَنْ قتادة { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } آيَةٌ فِيهَا تَخْفِيفٌ فِيهَا رُخْصَةٌ فِيهَا أَمْرٌ فِيهَا نَهْيٌ . وَهَذَانِ لَمْ يَسْتَشْكِلَا كَوْنَهَا خَيْرًا مِنْ الْأُولَى بَلْ بَيَّنَا وَجْهَ الْفَضِيلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَمْرِيَّ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ الْمَطْلُوبِ فَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنْفَعَ لِلْمَأْمُورِ كَانَ طَلَبُهُ أَفْضَلَ كَمَا أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَضَبِهِ . فَمَا قَالَاهُ تَقْرِيرٌ لِلْخَيْرِيَّةِ لَا نَفْيَ لَهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَآيَةُ الْكُرْسِيِّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَعْظَمُ آيَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ - فَقَدْ أَخَّرَ نُزُولَهَا وَلَمْ يَنْزِلْ قَبْلَهَا مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَلَا مِثْلُهَا . قِيلَ : عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ :

أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَمْ يَقُلْ بِآيَةِ خَيْرٍ مِنْهَا بَلْ يَأْتِي بِقُرْآنِ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ الْآيَاتِ فَقَدْ يَكُونُ مَجْمُوعُ آيَاتٍ أَفْضَلَ مِنْهَا . وَالْبَقَرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا رَيْب أَنَّ هَذَا فِي بَعْضِ مَا نَزَلَ وَإِلَّا فَتَحْرِيمُ الرِّبَا إنَّمَا نَزَلَ مُتَأَخِّرًا . وَقَوْلُهُ : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ } مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ . وَقَوْلُهُ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ كَانَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقِصَّةُ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ بَلْ عَلَى الْخَنْدَقِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَنْ الْخَنْدَقِ أَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ فَهُمْ الَّذِينَ حَاصَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ الْخَنْدَقِ وَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَ أَجْلَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ سُورَةُ الْحَدِيدِ مَدَنِيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا إنَّمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ كَثِيرٍ مِنْ الْبَقَرَةِ . فَفِي الْجُمْلَةِ نُزُولُ أَوَّلِ الْحَدِيدِ وَآخِرِ الْحَشْرِ قَبْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مُمْكِنٌ وَالْأَنْعَامِ وَيس وَغَيْرُهَا نَزَلَ قَبْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ بِالِاتِّفَاقِ .

الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا وَعَدَ أَنَّهُ إذَا نَسَخَ آيَةً أَوْ نَسَأَهَا أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا لَمَّا أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ قَوْلُهُ { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ تَضَمَّنَتْ وَعْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمِيعَادُ . فَمَا نَسَخَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ أَنْسَأَ نُزُولَهُ مِمَّا يُرِيدُ إنْزَالَهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ . وَأَمَّا مَا نَسَخَهُ قَبْلَ هَذِهِ أَوْ أَنْسَأَهُ فَلَمْ يَكُنْ قَدْ وَعَدَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ . وَبِهَذَا أَيْضًا يَنْدَفِعُ الْجَوَابُ عَنْ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا عَنْ سُورَةِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْهَا . فَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ إنْزَالُ الْفَاضِلِ وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ نَزَلَ قَبْلَهُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ . لَكِنْ إذَا كَانَ الْمَوْعُودُ بِهِ بَعْدَ الْوَعْدِ لَمْ يَرُدَّ هَذَا السُّؤَالَ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ { مَا نَنْسَخْ } فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَجْزُومَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ وَجَوَازِمَ الْفِعْلِ " إنَّ " وَأَخَوَاتِهَا وَنَوَاصِبَهُ تَخَلُّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ . وَقَدْ يُجَابُ بِجَوَابِ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : مَا نَزَلَ فِي وَقْتِهِ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ خَيْرًا لَهُمْ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ فَضْلُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : لَازِمٌ كَفَضْلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَفَضْلٌ عَارِضٌ بِحَيْثُ تَكُونُ هَذِهِ أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ وَهَذِهِ أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا قَدْ يُقَالُ فِي آيَةِ التَّخْيِيرِ لِلْمُقِيمِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ مَعَ الْفِدْيَةِ وَمَعَ آيَةِ إيجَابِ الصَّوْمِ عَزْمًا . وَهَذَا كَمَا أَنَّ

الْأَفْعَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا كُلٌّ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ أَفْضَلُ فَالصَّلَاةُ إلَى الْقُدْسِ قَبْلَ النَّسْخِ كَانَتْ أَفْضَلَ وَبَعْدَ النَّسْخِ الصَّلَاةُ إلَى الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ . وَعَلَى مَا ذُكِرَ فَيَتَوَجَّهُ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ إلَّا قُرْآنٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد بَلْ هِيَ الْمَنْصُوصَةُ عَنْهُ صَرِيحًا أَنْ لَا يَنْسَخَ الْقُرْآنَ إلَّا قُرْآنٌ يَجِيءُ بَعْدَهُ وَعَلَيْهَا عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَنْسُوخِ مِنْ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ أَوْ خَيْرٍ وَوَعْدٍ بِأَنَّ مَا أَنْسَاهُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ كَذَلِكَ وَأَنَّ مَا أَخَّرَهُ فَلَمْ يَأْتِ وَقْتُ نُزُولِهِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الْقُرْآنُ الَّذِي رُفِعَ أَوْ آخَرُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ وَلَوْ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ فَهُوَ خِلَافُ مَا وَعَدَ اللَّهُ . وَإِنْ قِيلَ بَلْ يَأْتِي بَعْدَ نَسْخِهِ بِالسُّنَّةِ كَانَ بَيْنَ نَسْخِهِ وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ مُدَّةٌ خَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ مَقْصُودِ الْآيَةِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَرْفُوعِ أَوْ مِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ { نَأْتِ } لَمْ يَرِدْ بِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ فَإِنَّ الَّذِي نَسَأَهُ وَهُوَ يُرِيدُ إنْزَالَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُنْزِلُهُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ مَا أَخَّرَهُ يَأْتِي بِمِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ قَبْلَ نُزُولِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ الْأَمْرَ بِلَا بَدَلٍ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَبْقَى مُدَّةً بِلَا بَدَلٍ لَكَانَ مَا لَمْ يُنْزِلْ أَحَقَّ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بَدَلٌ مِنْ الْمَنْسُوخِ فَلَمَّا كَانَ ذَاكَ قَدْ حَصَلَ لَهُ بَدَلٌ قَبْلَ وَقْتِ نُزُولِهِ لِتَكْمِيلِ الْإِنْعَامِ فَلَأَنْ يَكُونُ الْبَدَلُ لَمَّا نُسِخَ مِنْ

حِينِ نُسِخَ بَعْدُ أَوْلَى وَأَحْرَى وَلِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَلَوْ كَانَ مَا يُنْزِلُهُ بَدَلًا عَنْ الْمَنْسُوخِ يُؤَخِّرُهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ بَدَلٌ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ الْبَدَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَائِدَةٌ إلَّا كَالْفَائِدَةِ الْمَعْلُومَةِ لَوْ لَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ . غَايَةُ مَا يُقَالُ : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ لَجَازَ أَنْ لَا يَنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَإِذَا نُسِخَ شَيْءٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَدَلِهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ . وَهَذَا مِمَّا يَعْتَقِدُونَهُ فَإِنَّهُمْ قَدْ اعْتَادُوا نُزُولَ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ وَالْمَسَائِلِ وَالْحَاجَةِ فَمَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ - إذَا نُسِخَتْ آيَةٌ - أَنْ لَا يُنْزَلْ بَعْدَهَا شَيْءٌ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُنْسَخْ لَمْ يَظُنُّوا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَظُنُّونَ إذَا نُسِخَتْ ؟ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ ضَمِنَ لَهُمْ الْإِتْيَانَ بِالْبَدَلِ عَنْ الْمَنْسُوخِ عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهُمْ شَيْءٌ مِمَّا أَنْزَلَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مِثْلِ الْمَرْفُوعِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ وَلَوْ بَقُوا مُدَّةً بِلَا بَدَلٍ لَنَقَصُوا . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا وَعْدٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ وَالْوَعْدُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ يَلْزَمُ عَقِبَهُ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُ فِيهِ أَدَاءُ الْعِوَضِ عَلَى الْفَوْرِ إذَا قَبَضَ الْمُعَوَّضَ كَمَا إذَا قَالَ : مَا أَلْقَيْت مِنْ مَتَاعِك فِي الْبَحْرِ فَعَلَيَّ بَدَلُهُ وَلَيْسَ هَذَا وَعْدًا مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ مِائَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا آخُذُ مِنْك شَيْئًا إلَّا أَعْطَيْتُك بَدَلَهُ فَإِنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ .

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ عِلْمَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إنَّمَا يَذْكُرُونَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِقُرْآنِ لَا يَذْكُرُونَ نَسْخَهُ بِلَا قُرْآنٍ بَلْ بِسُنَّةٍ وَهَذِهِ كُتُبُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْهُمْ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ هَذَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْقَاصِّ : هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَلَوْ كَانَ نَاسِخُ الْقُرْآنِ غَيْرَ الْقُرْآنِ لَوَجَبَ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ أَيْضًا . وَأَيْضًا الَّذِينَ جَوَّزُوا نَسْخَ الْقُرْآنِ بِلَا قُرْآنٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ إنَّمَا عُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُ ذَلِكَ وَعَدَمُ الْمَانِعِ الَّذِي يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ لَا يَقْتَضِي الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يُعْلَمُ بِخَبَرِهِ مَا لَا عُلِمَ لِلْعَقْلِ بِهِ وَقَدْ يُعْلَمُ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ الَّتِي عُلِمَتْ بِالشَّرْعِ مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ . وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ جَوَّزُوا ذَلِكَ عَقْلًا مُخْتَلِفِينَ فِي وُقُوعِهِ شَرْعًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِهَا شَرْعًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّاسِخَ مُهَيْمِنٌ عَلَى الْمَنْسُوخِ قَاضٍ عَلَيْهِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ بِتَصْدِيقِ مَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَإِقْرَارِ مَا أَقَرَّهُ وَنَسْخِ مَا نَسَخَهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ . فَلَوْ كَانَتْ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِلْكِتَابِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ .

وَأَيْضًا فَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ نَسَخَهُ إلَّا قُرْآنٌ . وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ قَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . وَالْفَرَائِضُ الْمُقَدَّرَةُ مِنْ حُدُودِهِ وَلِهَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ فَمَنْ أَعْطَى صَاحِبَ الْفَرَائِضِ أَكْثَرَ مِنْ فَرْضِهِ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ بِأَنْ نَقَصَ هَذَا حَقَّهُ وَزَاد هَذَا عَلَى حَقِّهِ فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهُوَ النَّاسِخُ .
فَصْلٌ :
وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ - وَهُوَ مَقَامُ حِكْمَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ : فَالْمُعْتَزِلَةُ الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ : إنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ كَانَ حَسَنًا وَقَبِيحًا قَبْلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَاشِفٌ عَنْ صِفَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَا يُكْسِبُهُ حَسَنًا وَلَا قُبْحًا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى لِحِكْمَةِ تَنْشَأُ مِنْ الْأَمْرِ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا أَنْكَرُوا جَوَازَ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ كَمَا فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ وَنَسْخِ الْخَمْسِينَ صَلَاةً الَّتِي أَمَرَ بِهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ إلَى خَمْسٍ وَوَافَقَهُمْ عَلَى مَنْعِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْعِبَادَةِ

طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حِكْمَةٍ تَكُونُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ نَفْسِ مَا أَمَرَ بِهِ . وَهَذَا قِيَاسُ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّسْخَ تَخْصِيصٌ فِي الْأَزْمَانِ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ بِرَفْعِ جَمِيعِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُمْ تَنَاقَضُوا وَالْجَهْمِيَّة الْجَبْرِيَّةُ يَقُولُونَ : لَيْسَ لِلْأَمْرِ حِكْمَةٌ تَنْشَأُ لَا مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا مِنْ نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا يَخْلُقُ اللَّهُ شَيْئًا لِحِكْمَةِ وَلَكِنْ نَفْسُ الْمَشِيئَةِ أَوْجَبَتْ وُقُوعَ مَا وَقَعَ وَتَخْصِيصَ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُخَصَّصٍ وَلَيْسَتْ الْحَسَنَاتُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا السَّيِّئَاتُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ وَلَا لِوَاحِدِ مِنْهُمَا صِفَةٌ صَارَ بِهَا حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ بَلْ لَا مَعْنَى لِلْحَسَنَةِ إلَّا مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهَا وَلَا مَعْنَى لِلسَّيِّئَةِ إلَّا مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ أَمْرٍ حَتَّى الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَيَجُوزُ أَنْ يُنْهِيَ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى عَنْ التَّوْحِيدِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَهُوَ لَوْ فُعِلَ لَكَانَ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَنَهَى عَنْ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . هَكَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : يَجُوزُ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا لَا يُنَافِي مَعْرِفَةَ الْأَمْرِ . بِخِلَافِ مَا يُنَافِي مَعْرِفَتَهُ . وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ سَبَبٌ وَلَكِنْ إذَا اقْتَرَنَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ خُلُقًا أَوْ شَرْعًا صَارَ عَلَامَةً عَلَيْهِ فَالْأَعْمَالُ مُجَرَّدُ عَلَامَاتٍ مَحْضَةٍ لَا أَسْبَابَ مُقْتَضِيَةً . وَقَالُوا : أَمْرُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْإِيمَانِ مَعْنَاهُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمْ

وَعَدَمُ إيمَانِكُمْ عَلَامَةٌ عَلَى الْعَذَابِ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِالْإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ مَعْنَاهُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُثِيبَك وَالْإِيمَانُ عَلَامَةٌ . وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِ وَالتَّعْلِيلَ لِلْأَحْكَامِ وَمَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ مِنْهُمْ لَمْ يَجْعَلْ الْعِلَلَ إلَّا مُجَرَّدَ عَلَامَاتٍ . ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى الْعِلَّةِ ؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَلَامَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا تُطْلَبُ عِلَّتُهُ بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ ثُبُوتُ الْجَحِيمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْعَلَامَةِ . وَأَمَّا الْفَرْعُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً لَهُ حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً لِلْأَصْلِ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلَلَ الْمُنَاسِبَةَ وَيَقُولُ : الْمُنَاسَبَةُ لَيْسَتْ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ الْعِلَلِ وَهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ . وَمَنْ قَالَ بِالْمُنَاسَبَةِ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ يَقُولُ إنَّهُ قَدْ اعْتَبَرَ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارَ الْمُنَاسِبِ فَيَسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ لَا لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكَمَ بِمَا حَكَمَ بِهِ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْحُكْمِ وَلَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَصْلًا فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ وَلَا أَمْرِهِ لَامُ كَيْ . فَجَهْمٌ - رَأْسُ الْجَبْرِيَّةِ - وَأَتْبَاعُهُ فِي طَرَفٍ وَالْقَدَرِيَّةُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كَالْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِين فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ فَيُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ وَيُقِرُّونَ بِالشَّرْعِ وَيُقِرُّونَ بِالْحِكْمَةِ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ - لَكِنْ قَدْ يَعْرِفُ أَحَدُهُمْ الْحِكْمَةَ وَقَدْ لَا يَعْرِفُهَا -

وَيُقِرُّونَ بِمَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَمَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي جَعَلَهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ مَعَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَغَيْرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ فَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ سَوَاءٌ عَرَفَ الْعَبْدُ وَجْهَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ . وَالْحِكْمَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْأَمْرِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ - وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ - كَمَا فِي الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلَةِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَاَللَّهُ يَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَيَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ صَارَ مُتَّصِفًا بِحُسْنِ اكْتَسَبَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَقُبْحٍ اكْتَسَبَهُ مِنْ النَّهْيِ كَالْخَمْرِ الَّتِي كَانَتْ لَمْ تُحَرَّمُ ثُمَّ حُرِّمَتْ فَصَارَتْ خَبِيثَةً وَالصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي كَانَتْ حَسَنَةً فَلَمَّا نَهَى عَنْهَا صَارَتْ قَبِيحَةً . فَإِنَّ مَا أَمَرَ بِهِ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا نَهَى عَنْهُ يُبْغِضُهُ وَيَسْخَطُهُ . وَهُوَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا وَوَالَاهُ أَعْطَاهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ مَا يَمْتَازُ بِهَا عَلَى مَنْ أَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ . وَكَذَلِكَ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ - كَالْكَعْبَةِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ - يَخُصُّهُ بِصِفَاتِ يُمَيِّزُهُ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مِنْ رَحْمَتِهِ

وَإِحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْخَمْرُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فَتَخْصِيصُهَا بِالْخُبْثِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ ؟ . قِيلَ : لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا حَرَّمَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا . وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَسَنًا وَسَيِّئًا مِثْلَ كَوْنِهِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ كَوْنِهِ نَافِعًا وَضَارًّا وَمُلَائِمًا وَمُنَافِرًا وَصِدِّيقًا وَعَدُوًّا وَنَحْوَ هَذَا مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ : فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ نَافِعًا فِي وَقْتٍ ضَارًّا فِي وَقْتٍ وَالشَّيْءُ الضَّارُّ قَدْ يُتْرَكُ تَحْرِيمُهُ إذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ التَّحْرِيمِ أَرْجَحَ كَمَا لَوْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ كَانَتْ قَدْ اعْتَادَتْهَا عَادَةً شَدِيدَةً وَلَمْ يَكُنْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ مَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَلَا كَانَ إيمَانُهُمْ وَدِينُهُمْ تَامًّا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَقْصٌ إلَّا مَا يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ صَدِّهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَلِهَذَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِهَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَوَّلًا فِيهَا : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ثُمَّ أَنْزَلَ فِيهَا - لَمَّا شَرِبَهَا طَائِفَةٌ وَصَلَّوْا فَغَلِطَ الْإِمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ - آيَةُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ سُكَارَى : ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّحْرِيمِ :

وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ نَاشِئَةً مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ فِي الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ مَصْلَحَةٌ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِلَاءُ الْعَبْدِ هَلْ يُطِيعُ أَوْ يَعْصِي فَإِذَا اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ وَعَزَمَ عَلَى الْفِعْلِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ فَيُنْسَخُ حِينَئِذٍ كَمَا جَرَى لِلْخَلِيلِ فِي قِصَّةِ الذَّبْحِ : فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ مَصْلَحَةً وَلَا كَانَ هُوَ مَطْلُوبُ الرَّبِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ كَانَ مُرَادُ الرَّبِّ ابْتِلَاءَ إبْرَاهِيمَ لِيُقَدِّمَ طَاعَةَ رَبِّهِ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْوَلَدِ وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْوَلَدَ مَحَبَّةً شَدِيدَةً وَكَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهُ أَنْ يَهَبَهُ إيَّاهُ - وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ - فَأَرَادَ تَعَالَى تَكْمِيلَ خَلَّتِهِ لِلَّهِ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مَا يُزَاحِمُ بِهِ مُحِبَّةَ رَبِّهِ : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ } { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } { إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى كَانَ الْمَقْصُودُ ابْتِلَاءَهُمْ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ . وَهَذَا الْوَجْهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِمَّا خَفِيَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمْ يَعْرِفُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْأَمْرِ وَلَا مِنْ الْمَأْمُورِ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ بَلْ لَمْ يَعْرِفُوا إلَّا الْأَوَّلَ . وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا الْحِكْمَةَ عِنْدَهُمْ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ لَا يَعْتَبِرُونَ حِكْمَةً وَلَا تَخْصِيصَ فِعْلٍ بِأَمْرِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِمْ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فَيَبْنُونَ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ وَلَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ أَقْوَالِهِمْ إلَّا

مَنْ عَرَفَ مَأْخَذَهُمْ فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ قَدْ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهَا مُمَاثِلَةً لِسَائِرِ السُّوَرِ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ مُمَاثِلَةٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِكَثْرَةِ ثَوَابِ قَارِئِهَا أَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ الْفَاتِحَةُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا صِفَةٌ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِ جَهْمٍ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ وَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ . وَكَتَبَ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي فِيهَا آثَارُ السَّلَفِ يَذْكُرُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَيَجْعَلُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْجَبْرِيَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِجَهْمِ فِي أَقْوَالِ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَالسَّلَفُ كَانُوا يُنْكِرُونَ قَوْلَ الْجَبْرِيَّةِ الْجَهْمِيَّة كَمَا يُنْكِرُونَ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَالزُّبَيْدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعِهِ وَذَكَرْت أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ . وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا هُنَا عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ وَلَا يَظُنُّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ إلَّا الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَوْلَ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ الْمُجَبِّرَةِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ أَيْضًا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِقَوْلِ جَهْمٍ . وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ

أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ . وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الَّتِي فِيهَا أَقْوَالُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا أَقْوَالُهُمْ فِي الْفِقْهِ كَثِيرًا وَالْعُلَمَاءُ الْأَكَابِرُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا أَقْوَالُ السَّلَفِ عَلَى وَجْهِ الِاتِّبَاعِ مِنْ تَصْنِيفِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِيهَا . وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَسَائِلِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ جَاهِلِينَ بِهَا وَلَا مُعْرِضِينَ عَنْهَا . بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا قَالُوهُ فَهُوَ الْجَاهِلُ بِالْحَقِّ فِيهَا وَبِأَقْوَالِ السَّلَفِ وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالصَّوَابُ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَقَوْلُهُمْ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ : تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ فُتْيَا صُورَتُهَا :
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ : " إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ " فَكَيْفَ ذَلِكَ مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهَا وَكَثْرَةِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا مَبْسُوطًا شَافِيًا وَأَفْتُونَا مَأْجُورِينَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا صُورَتُهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ؛ الْأَحَادِيثُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَأَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ وَأَشْهَرِهَا حَتَّى قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ كالدارقطني : لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِمَّا صَحَّ عَنْهُ فِي فَضْلِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَجَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِالْأَلْفَاظِ كَقَوْلِهِ : { { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ قَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }

مَرَّةً فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَمَنْ قَرَأَهَا مَرَّتَيْنِ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلْثَيْ الْقُرْآنِ وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ } وَقَوْلِهِ لِلنَّاسِ : { احْتَشِدُوا حَتَّى أَقْرَأَ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَحَشَدُوا حَتَّى قَرَأَ عَلَيْهِمْ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } قَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . وَأَمَّا تَوْجِيهُ ذَلِكَ : فَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّ الْقُرْآنَ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ : ثُلُثٌ تَوْحِيدٌ وَثُلُثٌ قَصَصٌ وَثُلُثٌ أَمْرٌ وَنَهْيٌ . و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَنَسَبُهُ وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَلَامُ إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ فَالْإِنْشَاءُ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ كَالْإِبَاحَةِ وَنَحْوِهَا وَهُوَ الْإِحْكَامُ . وَالْإِخْبَارُ : إمَّا إخْبَارٌ عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا إخْبَارٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ فَالْإِخْبَارُ عَنْ الْخَالِقِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْمَخْلُوقِ هُوَ الْقَصَصُ وَهُوَ الْخَبَرُ عَمَّا كَانَ وَعَمَّا يَكُونُ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . قَالُوا : فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ ثُلُثُ مَعَانِي الْقُرْآنِ . بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : فَإِذَا كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهَا كَانَ

لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْقُرْآنِ . فَيُقَالُ فِي جَوَابِ ذَلِكَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَعَدْلُ الشَّيْءِ - بِالْفَتْحِ - يُقَالُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } فَجَعَلَ الصِّيَامَ عَدْلَ كَفَّارَةٍ وَهُمَا جِنْسَانِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الثَّوَابَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ وَيَلْتَذُّ بِهِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَنْكُوحٍ وَمَشْمُومٍ هُوَ مِنْ الثَّوَابِ وَأَعْلَاهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا كَانَتْ أَحْوَالُ الدُّنْيَا لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا كُلِّهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا يَعْدِلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي الصُّورَةِ كَمَا أَنَّ أَلْفَ دِينَارٍ تَعْدِلُ مِنْ الْفِضَّةِ وَالطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا ثُمَّ مَنْ مَلَكَ الذَّهَبَ فَقَدْ مَلَكَ مَا يَعْدِلُ مِقْدَارَ أَلْفِ دِينَارٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي بِذَلِكَ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَالِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ وَقَعَتْ فِي الْقَدْرِ لَا فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَكَذَلِكَ ثَوَابُ : ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَإِنْ كَانَ يَعْدِلُ ثَوَابَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فِي الْقَدْرِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَأَمَّا سَائِرُ الْقُرْآنِ فَفِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعِبَادُ فَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ لِسَائِرِ الْقُرْآنِ وَمُنْتَفِعِينَ بِهِ مَنْفَعَةً لَا تُغْنِي عَنْهَا هَذِهِ السُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ . فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ : وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ هَلْ يَتَفَاضَلُ فِي

نَفْسِهِ فَيَكُونُ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ ؟ وَهَذَا فِيهِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ قَالُوا : وَصِفَةُ اللَّهِ لَا تَتَفَاضَلُ . لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَتَفَاضَلُ كَذَلِكَ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } قَالُوا فَخَيْرٍ إنَّمَا يَعُودُ إلَى غَيْرِ الْآيَةِ مِثْلَ نَفْعِ الْعِبَادِ وَثَوَابِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ ؛ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْفَاتِحَةِ : أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا الزَّبُورِ وَلَا الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهَا مِثْلٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مُتَمَاثِلٌ ؟ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ قَالَ لأبي بْنِ كَعْبٍ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ؛ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ لَهُ ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا بَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ أَعْظَمُ مِنْ بَعْضٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْكَلَامُ يَشْرُفُ بِالْمُتَكَلِّمِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا فَالْخَبَرُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْمُخْبِرِ وَبِشَرَفِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ وَالْأَمْرُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْآمِرُ وَبِشَرَفِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالْقُرْآنُ وَإِنْ كَانَ

كُلُّهُ مُشْتَرِكًا فَإِنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ لَكِنَّ مِنْهُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَمِنْهُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ وَمِنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فَمِنْهُ مَا أَمَرَهُمْ فِيهِ بِالْإِيمَانِ وَنَهَاهُمْ فِيهِ عَنْ الشِّرْكِ وَمِنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ وَنَهَاهُمْ فِيهِ عَنْ الرِّبَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ : ك { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَعْظَمُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ : ك { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَمَا أَمَرَ فِيهِ بِالْإِيمَانِ . وَمَا نَهَى فِيهِ عَنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِمَّا أَمَرَ فِيهِ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ وَنَهَى فِيهِ عَنْ الرِّبَا وَلِهَذَا كَانَ كَلَامُ الْعَبْدِ مُشْتَرِكًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ وَهُوَ كَلَامٌ لِمُتَكَلِّمِ وَاحِدٍ ثُمَّ إنَّهُ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ فَكَلَامُ الْعَبْدِ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ رَبَّهُ وَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى فِيهِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي يَذْكُرُ فِيهِ خَلْقَهُ وَيَأْمُرُ فِيهِ بِمُبَاحِ أَوْ مَحْظُورٍ وَإِنَّمَا غَلِطَ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ إلَى إحْدَى جِهَتَيْ الْكَلَامِ وَهِيَ جِهَةُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ الْجِهَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ جِهَةُ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ وَكِلَاهُمَا لِلْكَلَامِ بِهِ تَعَلُّقٌ يَحْصُلُ بِهِ التَّفَاضُلُ وَالتَّمَاثُلُ . قَالُوا : وَمَنْ أَعَادَ التَّفَاضُلَ إلَى مُجَرَّدِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ أَوْ قِلَّتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ عَمَلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَثَوَابُ أَحَدِهِمَا أَضْعَافُ ثَوَابِ الْآخَرِ مَعَ أَنَّ الْعَمَلَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمَا لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِمَزِيَّةِ بَلْ كَدِرْهَمِ وَدِرْهَمٍ تَصَدَّقَ بِهِمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَمَكَانٍ

وَاحِدٍ عَلَى اثْنَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَنِيَّتُهُ بِهِمَا وَاحِدَةٌ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِفَضِيلَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ ثَوَابُ أَحَدِهِمَا أَضْعَافَ ثَوَابِ الْآخَرِ بَلْ تَفَاضُلُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ دَلِيلٌ عَلَى تَفَاضُلِ الْأَعْمَالِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ . وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ فِي اشْتِمَالِ الْأَعْمَالِ عَلَى صِفَاتٍ بِهَا كَانَتْ صَالِحَةً حَسَنَةً وَبِهَا كَانَتْ فَاسِدَةً قَبِيحَةً . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : صِفَاتُ اللَّهِ لَا تَتَفَاضَلُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مَوْرِدُ النِّزَاعِ وَمَنْ الَّذِي جَعَلَ صِفَتَهُ الَّتِي هِيَ الرَّحْمَةُ لَا تَفْضُلُ عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي هِيَ الْغَضَبُ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ مَوْضُوعٍ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي - وَفِي رِوَايَةٍ - تَسْبِقُ غَضَبِي } وَصِفَةُ الْمَوْصُوفِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ تَتَفَاضَلُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَعْضَ الصِّفَاتِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَأَدْخَلَ فِي كُلِّ الْمَوْصُوفِ بِهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اتِّصَافَ الْعَبْدِ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ أَفْضَلُ مِنْ اتِّصَافِهِ بِضِدِّ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِضِدِّ ذَلِكَ وَلَا يُوصَفُ إلَّا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُدْعَى بِهَا فَلَا يُدْعَى إلَّا بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَسْمَاؤُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِصِفَاتِهِ وَبَعْضُ أَسْمَائِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ

وَأُدْخِلَ فِي كَمَالِ الْمَوْصُوفِ بِهَا ؛ وَلِهَذَا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ : { أَسْأَلُك بِاسْمِك الْعَظِيمِ الْأَعْظَمِ الْكَبِيرِ الْأَكْبَرِ } وَ { لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَتَفَاضُلُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ الْأُمُورِ الْبَيِّنَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصِّفَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ تَتَفَاضَلُ فَالْأَمْرُ بِمَأْمُورِ يَكُونُ أَكْمَلَ مِنْ الْأَمْرِ بِمَأْمُورِ آخَرَ وَالرِّضَا عَنْ النَّبِيِّينَ أَعْظَمُ مِنْ الرِّضَا عَمَّنْ دُونَهُمْ وَالرَّحْمَةُ لَهُمْ أَكْمَلُ مِنْ الرَّحْمَةِ لِغَيْرِهِمْ وَتَكْلِيمُ اللَّهِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ أَكْمَلُ مِنْ تَكْلِيمِهِ لِبَعْضِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ هَذَا الْبَابِ وَكَمَا أَنَّ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ مُتَنَوِّعَةٌ فَهِيَ أَيْضًا مُتَفَاضِلَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مَعَ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا شُبْهَةُ مَنْ مَنَعَ تَفَاضُلَهَا مِنْ جِنْسِ شُبْهَةِ مَنْ مَنَعَ تَعَدُّدَهَا وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ . كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة لَمَّا ادَّعَوْهُ مِنْ التَّرْكِيبِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعِهِ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ . هَلْ يَقْرَأُ ( سُورَةَ الْإِخْلَاصِ ) مَرَّةً أَوْ ثَلَاثًا ؟ وَمَا السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا كَمَا فِي الْمُصْحَفِ مَرَّةً وَاحِدَةً هَكَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ ؛ لِئَلَّا يُزَادَ عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ . وَأَمَّا إذَا قَرَأَهَا وَحْدَهَا أَوْ مَعَ بَعْضِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ إذَا قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَدَلَتْ الْقُرْآنَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ . وَمَنْ يَضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ :
فِي تَفْسِيرِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }
وَالِاسْمُ " الصَّمَدُ " فِيهِ لِلسَّلَفِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّهَا صَوَابٌ . وَالْمَشْهُورُ مِنْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَالْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ

أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَالثَّانِي قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَجُمْهُورِ اللُّغَوِيِّينَ وَالْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ السَّلَفِ بِأَسَانِيدِهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُسْنَدَةِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ كَتَبْنَا مِنْ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا بِإِسْنَادِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ . وَتَفْسِيرُ " الصَّمَدِ " بِأَنَّهُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ . وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ والسدي وقتادة وَبِمَعْنَى ذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ : هُوَ الَّذِي لَا حَشْوَ لَهُ . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هُوَ الَّذِي لَيْسَتْ لَهُ أَحْشَاءٌ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ : هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القرظي وَعِكْرِمَةَ : هُوَ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ . وَعَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ : هُوَ الْمُصْمَتُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : كَأَنَّ الدَّالَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مُبْدَلَةٌ مِنْ تَاءٍ والصمت مِنْ هَذَا . قُلْت : لَا إبْدَالَ فِي هَذَا وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَجْهَ الْقَوْلِ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ وَاللُّغَةِ . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعْدٍ الصغاني : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِي

عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ : { أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْسُبْ لَنَا رَبَّك فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . قَالَ : الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إلَّا سَيَمُوتُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلَّا سَيُورَثُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ } . وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِأَنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ فَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا فَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ : ( الصَّمَدُ ) السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ : هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ . وَعَنْ أَبِي إسْحَاقَ الْكُوفِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ الصَّمَدُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ . وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ : الَّذِي لَا يُكَافِئُهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدٌ وَعَنْ السدي أَيْضًا : هُوَ الْمَقْصُودُ إلَيْهِ فِي الرَّغَائِبِ وَالْمُسْتَغَاثِ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْمُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا : الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَعَنْ الرَّبِيعِ الَّذِي لَا تَعْتَرِيهِ الْآفَاتُ . وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ الَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ . وَعَنْ ابْنِ كيسان هُوَ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِصِفَتِهِ أَحَدٌ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ : لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصَّمَدَ السَّيِّدَ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ الَّذِي يَصْمُدُ إلَيْهِ النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَأُمُورِهِمْ .

وَقَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ السُّؤْدُدُ فَقَدْ صَمَدَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ أَيْ قَصَدَ قَصْدَهُ وَقَدْ أَنْشَدُوا فِي هَذَا بَيْتَيْنِ مَشْهُورَيْنِ أَحَدُهُمَا :
أَلَا بَكْرٌ النَّاعِي بِخَيْرَيْ بَنِي أَسَدٍ * * * بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدِ
وَقَالَ الْآخَرُ :
عَلَوْته بِحُسَامِي ثُمَّ قُلْت لَهُ * * * خُذْهَا حذيف فَأَنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ : الصَّمَدُ هُوَ السَّيِّدُ الْمَقْصُودُ فِي الْحَوَائِجِ تَقُولُ الْعَرَبُ صمدت فُلَانًا أصمده - بِكَسْرِ الْمِيمِ - وَأَصْمُدُهُ - بِضَمِّ الْمِيمِ - صَمْدًا - بِسُكُونِ الْمِيمِ - إذَا قَصَدْته وَالْمَصْمُودُ صَمَدَ كَالْقَبْضِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ وَالنَّقْضُ بِمَعْنَى الْمَنْقُوضِ وَيُقَالُ بَيْتٌ مَصْمُودٌ وَمُصَمَّدٌ إذَا قَصَدَهُ النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ قَالَ طرفة :
وَأَنْ يَلْتَقِ الْحَيُّ الْجَمِيعُ تُلَاقِنِي * * * إلَى ذُرْوَةِ الْبَيْتِ الرَّفِيعِ الْمُصَمَّدِ
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : صَمَدَهُ يَصْمُدُهُ صَمْدًا إذَا قَصَدَهُ وَالصَّمَدُ بِالتَّحْرِيكِ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَيُقَالُ بَيْتٌ مُصَمَّدٌ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ مَقْصُودٌ .

وَقَالَ الْخَطَّابِيَّ : أَصَحُّ الْوُجُوهِ أَنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَشْهَدُ لَهُ فَإِنَّ أَصْلَ الصَّمَدِ الْقَصْدُ يُقَالُ : اُصْمُدْ صَمْدَ فُلَانٍ أَيْ اقْصِدْ قَصْدَهُ فَالصَّمَدُ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْأُمُورِ وَيُقْصَدُ فِي الْحَوَائِجِ وَقَالَ قتادة : الصَّمَدُ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُعْمَرٌ : هُوَ الدَّائِمُ وَقَدْ جَعَلَ الْخَطَّابِيَّ وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : الْأَقْوَالُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ هَذَيْنِ وَاَللَّذَيْنِ تَقَدَّمَا . وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ بَقَاءَهُ وَدَوَامَهُ مِنْ تَمَامِ الصَّمَدِيَّةِ . وَعَنْ مَرَّةٍ الهمداني هُوَ الَّذِي لَا يَبْلَى وَلَا يَفْنَى . وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ : هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ . وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ : هُوَ الْمُتَعَالِي عَنْ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ . وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ : الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَتَبَيَّنْ عَلَيْهِ أَثَرٌ فِيمَا أَظْهَرَ يُرِيدُ قَوْلَهُ : { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ : هُوَ الْأَزَلِيُّ بِلَا ابْتِدَاءٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ : هُوَ الْأَوَّلُ بِلَا عَدَدٍ وَالْبَاقِي بِلَا أَمَدٍ وَالْقَائِمُ بِلَا عَمْدٍ . وَقَالَ أَيْضًا الصَّمَدُ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَلَا تَحْوِيهِ الْأَفْكَارُ وَلَا تَبْلُغُهُ الْأَقْطَارُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارِ . وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي جَلَّ عَنْ شَبَهِ الْمُصَوِّرِينَ . وَقِيلَ هُوَ بِمَعْنَى نَفْيِ التجزي وَالتَّأْلِيفِ عَنْ ذَاتِهِ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَقِيلَ هُوَ الَّذِي أيست الْعُقُولُ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ . وَكَذَلِكَ قِيلَ هُوَ الَّذِي لَا تُدْرِكُ حَقِيقَةَ نُعُوتِهِ

وَصِفَاتِهِ فَلَا يَتَّسِعُ لَهُ اللِّسَانُ وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ الْبَنَانُ . وَقِيلَ هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْطِ خَلْقَهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ إلَّا الِاسْمَ وَالصِّفَةَ . وَعَنْ الْجُنَيْد قَالَ : الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ لِأَعْدَائِهِ سَبِيلًا إلَى مَعْرِفَتِهِ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا حَضَرْنَا مِنْ أَلْفَاظِ السَّلَفِ بِأَسَانِيدِهَا . فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ : " ثنا أَبِي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ نفيع الجرشي ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى يَعْنِي أَبَا خَلَفٍ الْخَزَّازَ ثنا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ قَالَ : الصَّمَدُ الَّذِي تَصْمُدُ إلَيْهِ الْأَشْيَاءُ إذَا نَزَلَ بِهِمْ كُرْبَةٌ أَوْ بَلَاءٌ . حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَوَاءٍ السدوسي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ ثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : الصَّمَدُ الَّذِي يَصْمُدُ الْعِبَادُ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ حَدَّثَنَا أَبِي ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضَّحَّاكِ ثنا سُوِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثنا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : الصَّمَدُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ . حَدَّثَنَا أَبِي ثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ ثنا يَزِيدُ بْنُ زريع عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : الصَّمَدُ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ وَهُوَ قَوْلُ قتادة حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) قَالَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ .

حَدَّثَنَا أَبِي ثنا أَبُو صَالِحٍ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) قَالَ : السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تَنْبَغِي لِأَحَدِ إلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ سُبْحَانَ اللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ . حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِهَابٍ المذحجي الْقَزْوِينِيّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِي عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) قَالَ : الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ ( الصَّمَدُ ) قَالَ : الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ . حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثنا أَبُو أَحْمَد ثنا مِنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَحْشَاءٌ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِثْلُهُ . حَدَّثَنَا أَبِي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرُّومِيُّ ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَائِدُ الْأَعْمَشِ عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بريدة عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَا أَعْلَمُهُ إلَّا قَدْ رَفَعَهُ قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَا جَوْفَ

لَهُ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطِيَّةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ وَالضَّحَّاكُ مِثْلُ ذَلِكَ . حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا قَبِيصَةَ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : الصَّمَدُ الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ . حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطهراني ثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ ( الصَّمَدُ ) قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَا يُطْعَمُ . حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ مَرْزُوقٍ ثَنَا هشيم عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ . حَدَّثَنَا أَبِي وَأَبُو زُرْعَةَ قَالَا ثَنَا أَحْمَد بْنُ مَنِيعٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْسِرٍ - يَعْنِي أَبَا سَعْدٍ الصغاني - ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِي عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَلِدُ إلَّا يَمُوتُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلَّا يُورَثُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } قَالَ : لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبَهٌ وَلَا عِدْلٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ثنا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ ثنا أَبُو سَعْدٍ الصغاني . ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِي عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ : " أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : اُنْسُبْ لَنَا رَبَّك فَأَنْزَلَ اللَّهُ

هَذِهِ السُّورَةَ " حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثنا الْعَبَّاسُ بْن الْوَلِيدِ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع عَنْ سَعِيد عَنْ قتادة { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُكَافِئُهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدٌ . حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الجرشي ثَنَا أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى ثَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { إنَّ الْيَهُودَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وحيي بْنُ أَخْطَبَ وجدي بْن أَخْطُبُ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد صَفُّ لَنَا رَبّك الَّذِي بَعَثَك فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ } فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْوَلَدُ { وَلَمْ يُولَدْ } فَيَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ } وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري فِي تَفْسِيرِهِ : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ مَنِيعٍ الْمَرْوَزِي . وَمَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ الطالقاني فَذَكَرَ مِثْلَ إسْنَادِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أبي بْنِ كَعْبَ { سُؤَال الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْسُبْ لَنَا رَبّك فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } } . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد ثَنَا يَحْيَى ابْنُ وَاضِحٍ ثَنَا الْحُسَيْنُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عِكْرِمَةَ { أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرْنَا عَنْ صِفَةِ رَبِّك مَا هُوَ ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ } وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا شريح ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ فَذَكَرَهُ قَالَ : وَقِيلَ : هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْيَهُودِ . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد ثَنَا سَلَمَةُ ثَنَا ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ

قَالَ : { أَتَى رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَهُ ؟ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اُنْتُقِعَ لَوْنُهُ ثُمَّ سَاوَرَهُمْ غَضَبًا لِرَبِّهِ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَسَكَّنَهُ وَقَالَ اخْفِضْ عَلَيْك جَنَاحَك يَا مُحَمَّدُ وَجَاءَهُ مِنْ اللَّهِ جَوَابٌ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إلَى آخِرِهَا فَلَمَّا تَلَاهَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لَهُ : صِفْ لَنَا رَبَّك كَيْفَ خَلْقُهُ كَيْفَ عَضُدُهُ ؟ كَيْفَ سَاعِدُهُ ؟ وَكَيْفَ ذِرَاعُهُ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِهِ الْأَوَّلِ وَسَاوَرَهُمْ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ : مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأَوْلَى وَأَتَاهُ بِجَوَابِ مَا سَأَلُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } } . وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ مَعْبَدٍ فِي ( كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة قَالَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ ثَنِيّ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنِيّ ضِرَارٌ عَنْ أَبَانَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { أَتَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِمِ خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُورِ الْحِجَابِ وَآدَمَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَإِبْلِيسَ مِنْ لَهَبِ النَّارِ وَالسَّمَاءَ مِنْ دُخَانٍ وَالْأَرْضَ مِنْ زَبَدِ الْمَاءِ فَأَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّك ؟ قَالَ : فَلَمْ يُجِبْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } لَيْسَ لَهُ عُرُوقٌ شَعِبَ إلَيْهَا . الصَّمَدُ لَيْسَ بِأَجْوَفَ وَلَا يَأْكُلُ

وَلَا يَشْرَبُ { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدَ يُنْسَبُ إلَيْهِ { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ يَعْدِلُ مَكَانَهُ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا } الْحَدِيثَ . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سابور عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ( الصَّمَدُ الَّذِي لَيْسَ بِأَجْوَفَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ( الصَّمَدُ الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ حَدَّثَنَا أَبُو كريب ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ مَثَلَهُ سَوَاءٌ . حَدَّثَنَا الْحَارِثُ ثَنَا الْحَسَنُ ثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : ( الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ إبْرَاهِيمَ ابْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ : أَرْسَلَنِي مُجَاهِدٌ إلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَسْأَلُهُ عَنْ ( الصَّمَدِ فَقَالَ : الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ثَنَا يَحْيَى ثَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : ( الصَّمَدُ الَّذِي لَا يُطْعِمُ الطَّعَامَ وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ عَنْ هشيم عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْهُ قَالَ : لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ . حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَزَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ قَالَا : ثَنَا ابْنُ دَاوُد عَنْ الْمُسْتَقِيمِ ابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : ( الصَّمَدُ الَّذِي لَا حَشْوَ

لَهُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ثَنَا أَبُو مُعَاذٍ ثَنَا عُبَيْدٌ قَالَ : سَمِعْت الضَّحَّاكَ يَقُولُ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَرَوَى عَنْ ابْنِ بريدة فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ قَالَ : وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي عُلَيَّة عَنْ أَبِي رَجَاءٍ سَمِعْت عِكْرِمَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ : لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ . وَقَالَ آخَرُونَ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَذَكَرَ حَدِيثَ أبي بْنَ كَعْبٍ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَاَلَّذِي فِيهِ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ قَالَ : وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى فِي سُؤْدُدِهِ قَالَ : وَثَنًا أَبُو السَّائِبِ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ : ( الصَّمَدُ ) هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى فِي سُؤْدُدِهِ حَدَّثَنَا أَبُو كريب وَابْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالُوا : ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ ( الصَّمَدُ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى فِي سُؤْدُدِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ حميد ثَنَا مهران عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ ثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) قَالَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَذَكَرَ مِثْلَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ .

قُلْت : الِاشْتِقَاقُ يَشْهَدُ لِلْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ ( الصَّمَدَ ) الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ السَّيِّدُ وَهُوَ عَلَى الْأَوَّلِ أَدَلُّ ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ أَصْلٌ لِلثَّانِي وَلَفْظُ ( الصَّمَدِ ) يُقَالُ عَلَى مَا لَا جَوْفَ لَهُ فِي اللُّغَةِ . قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْمَلَائِكَةُ صَمَدٌ وَالْآدَمِيُّونَ جَوْفٌ وَفِي حَدِيثِ آدَمَ أَنَّ إبْلِيسَ قَالَ عَنْهُ أَنَّهُ أَجْوَفُ لَيْسَ بِصَمَدِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْمُصَمَّدُ لُغَةً فِي الْمُصْمَتِ وَهُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ قَالَ وَالصِّمَادُ عِفَاصُ الْقَارُورَةِ وَقَالَ : الصَّمَدُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْغَلِيظُ قَالَ أَبُو النَّجْمِ :
يُغَادِرُ الصَّمَدُ كَظَهْرِ الْأَجْزَل
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ الْجَمْعُ وَالْقُوَّةُ وَمِنْهُ يُقَالُ يَصْمُدُ الْمَالَ : أَيْ يَجْمَعُهُ وَكَذَلِكَ " السَّيِّدُ " أَصْله سيود اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَوَاوٌ وَسَبَقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ . كَمَا قِيلَ مَيِّتٌ وَأَصْلُهُ ميوت . وَالْمَادَّةُ فِي السَّوَادِ وَالسُّؤْدُدِ تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ وَاللَّوْنُ الْأَسْوَدُ هُوَ الْجَامِعُ لِلْبَصَرِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } قَالَ أَكْثَرُ السَّلَفِ ( سَيِّدًا ) حَلِيمًا وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ . وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ . و أبي الشَّعْثَاءِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ . وَمُقَاتِلٍ وَقَالَ : أَبُو رَوْقٍ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ الْحَسَنُ الْخُلُقِ . وَرَوَى سَالِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ التَّقِيُّ وَلَا يَسُودُ الرَّجُلُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مُجْتَمِعَ الْخُلُقِ ثَابِتًا .

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : مَا رَأَيْت بَعْد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ فَقِيلَ لَهُ : وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ قَالَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ خَيْرًا مِنْهُ وَمَا رَأَيْت بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : يَعْنِي بِهِ الْحَلِيمُ أَوْ قَالَ : الْكَرِيمُ وَلِهَذَا قِيلَ : إذَا شِئْت يَوْمًا أَنْ تَسُودَ قَبِيلَةً فَبِالْحِلْمِ سُدْ لَا بِالتَّسَرُّعِ وَالشَّتْمِ وَلِهَذَا فَسَّرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ السَّيِّدَ بِأَنَّهُ سَيِّدُ قَوْمِهِ فِي الدِّينِ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : هُوَ الشَّرِيفُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الَّذِي يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي الْخَيْرِ . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : السَّيِّدُ هُنَا الرَّئِيسُ وَالْإِمَامُ فِي الْخَيْرِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ : هُوَ الْكَرِيمُ عَلَى رَبِّهِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ هُوَ الْفَقِيهُ الْعَالِمُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِعِفَاصِ الْقَارُورَةِ : صِمَادٌ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْعِفَاصُ جِلْدٌ يُلْبِسُهُ رَأْسَ الْقَارُورَةِ وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ فِي فَمِهِ فَهُوَ الصِّمَامُ وَقَدْ عَفَصْت الْقَارُورَةَ شَدَدْت عَلَيْهَا الْعِفَاصَ . ( قُلْت : وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللُّقَطَةِ : { ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا } وَالْمُرَادُ بِالْعِفَاصِ : مَا يَكُونُ فِيهِ الدَّرَاهِمُ كَالْخِرْقَةِ الَّتِي تُرْبَطُ فِيهَا الدَّرَاهِمُ وَالْوِكَاءُ : مِثْلُ الْخَيْطِ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ عِفَاصِ الْقَارُورَةِ . وَلَفْظُ الْعَفْصِ وَالسَّدِّ وَالصَّمَدِ

وَالْجَمْعُ وَالسُّؤْدُدُ مَعَانِيهَا مُتَشَابِهَةٌ فِيهَا الْجَمْعُ وَالْقُوَّةُ وَيُقَالُ طَعَامٌ عَفْصٌ وَفِيهِ عُفُوصَةٌ ؛ أَيْ تَقْبِضُ وَمِنْهُ الْعَفْصُ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْحِبْرُ . وَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : هُوَ مُوَلَّدٌ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَهَذَا لَا يَضُرُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عَفَصٌ يُسَمُّونَهُ بِهَذَا الِاسْمِ لَكِنَّ التَّسْمِيَةَ بِهِ جَارِيَةٌ عَلَى أُصُولِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهُمْ لِمَا يَدْخُلُ فِي فَمِهَا صِمَامٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ فِيهَا مَعْنَى الْجَمْعِ وَالسَّدِّ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : صِمَامُ الْقَارُورَةِ سِدَادُهَا وَالْحَجَرُ الْأَصَمُّ الصُّلْبُ الْمُصْمَتُ وَالرَّجُلُ الْأَصَمُّ هُوَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ لِانْسِدَادِ سَمْعِهِ وَالرَّجُلُ الصِّمَّةُ الشُّجَاعُ وَالصِّمَّةُ الذَّكَرُ مِنْ الْحَيَّاتِ وَصَمِيمُ الشَّيْءِ خَالِصُهُ حَيْثُ لَمْ يَدْخُلُ إلَيْهِ مَا يُفَرِّقُهُ وَيُضْعِفُهُ يُقَالُ صَمِيمُ الْحَرِّ وَصَمِيمُ الْبَرْدِ وَفُلَانٌ مِنْ صَمِيمِ قَوْمِهِ وَالصَّمْصَامِ : الصَّارِمُ الْقَاطِعُ الَّذِي لَا يَنْثَنِي وَصَمَّمَ فِي السَّيْرِ وَغَيْرِهِ أَيْ مَضَى وَرَجُلٌ صُمٍّ أَيْ غَلِيظٌ . وَمِنْهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ الصَّوْمُ فَإِنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : كُلُّ مُمْسِكٍ عَنْ طَعَامٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ سَيْرٍ فَهُوَ صَائِمٌ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِيهِ اجْتِمَاعٌ وَالصَّائِمُ لَا يَدْخُلُ جَوْفَهُ شَيْءُ وَيُقَالُ صَامَ الْفَرَسُ إذَا قَامَ فِي غَيْرِ اعْتِلَافٍ . قَالَ النَّابِغَةُ : خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللجما

وَكَذَلِكَ السَّدُّ وَالسَّدَادُ وَالسُّؤْدُدُ وَالسَّوَادُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الصَّمَدِ فِيهِ الْجَمْعُ وَالْجَمْعُ فِيهِ الْقُوَّةُ فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا اجْتَمَعَ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خَلَلٌ كَانَ أَقْوَى مِمَّا إذَا كَانَ فِيهِ خُلُوٌّ . وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْمَكَانِ الْغَلِيظِ الْمُرْتَفِعِ : صَمَدٌ لِقُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِ وَالرَّجُلُ الصَّمَدُ هُوَ السَّيِّدُ الْمَصْمُودُ ؛ أَيْ الْمَقْصُودُ يُقَالُ قَصَدْته وَقَصَدْت لَهُ وَقَصَدْت إلَيْهِ وَكَذَلِكَ هُوَ مَصْمُودٌ وَمَصْمُودٌ لَهُ وَإِلَيْهِ وَالنَّاسُ إنَّمَا يَقْصِدُونَ فِي حَوَائِجِهِمْ مَنْ يَقُومُ بِهَا . وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا مَنْ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ مُجْتَمِعًا قَوِيًّا ثَابِتًا وَهُوَ السَّيِّدُ الْكَرِيمُ بِخِلَافِ مَنْ يَكُونُ هَلُوعًا جَزُوعًا يَتَفَرَّقُ وَيُقْلِقُ وَيَتَمَزَّقُ مِنْ كَثْرَةِ حَوَائِجِهِمْ وَثِقَلِهَا فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِسَيِّدٍ صَمَدٍ يَصْمُدُونَ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ . فَهُمْ إنَّمَا سَمَّوْا السَّيِّدَ مِنْ النَّاسِ صَمَدًا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ يَقْصِدُهُ النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ فَلَيْسَ مَعْنَى السَّيِّدِ فِي لُغَتِهِمْ مَعْنًى إضَافِيٍّ فَقَطْ - كَلَفْظِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ - بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالسَّيِّدِ ؛ لِأَجْلِهِ يَقْصِدُهُ النَّاسُ وَالسَّيِّدُ مِنْ السُّؤْدُدِ وَالسَّوَادِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ السَّدَادِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُعَاقِبُ بَيْنَ حَرْفِ الْعِلَّةِ وَالْحَرْفِ الْمُضَاعَفِ . كَمَا يَقُولُونَ : تَقَضَّى الْبَازِي وَتَقَضَّضَ وَالسَّادُّ هُوَ الَّذِي يَسُدُّ غَيْرَهُ فَلَا يَبْقَى فِيهِ خُلُوٌّ وَمِنْهُ سَدَادُ الْقَارُورَةِ وَسِدَادُ الثَّغْرِ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا وَهُوَ مَا يَسُدُّ ذَلِكَ وَمِنْهُ السَّدَادُ بِالْفَتْحِ : وَهُوَ الصَّوَابُ وَمِنْهُ الْقَوْلُ السَّدِيدُ . قَالَ

اللَّهُ تَعَالَى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } قَالُوا قَصْدًا حَقًّا . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ صَوَابًا . وَعَنْ قتادة وَمُقَاتِلٍ عَدْلًا . وَعَنْ السدي مُسْتَقِيمًا وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ السَّدِيدَ هُوَ الْمُطَابِقُ الْمُوَافِقُ فَإِنْ كَانَ خَبَرًا كَانَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِمُخْبِرِهِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا كَانَ أَمْرًا بِالْعَدْلِ الَّذِي لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ؛ وَلِهَذَا يُفَسِّرُونَ السَّدَادَ بِالْقَصْدِ وَالْقَصْدَ بِالْعَدْلِ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : التَّسْدِيدُ التَّوْفِيقُ لِلسَّدَادِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَالْقَصْدُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَرَجُلٌ مُسَدَّدٌ إذَا كَانَ يَعْمَلُ بِالسَّدَادِ . وَالْقَصْدُ . وَالْمُسَدَّدُ الْمُقَوَّمُ وَسَدَّدَ رُمْحَهُ وَأَمْرٌ سَدِيدٌ وَأَسَدُّ أَيْ قَاصِدٌ وَقَدْ اسْتَدَّ الشَّيْءُ اسْتَقَامَ . قَالَ الشَّاعِرُ : أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ فَلَمَّا اسْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : اشْتَدَّ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ لَيْسَ بِشَيْءِ وَتَعْبِيرُهُمْ عَنْ السَّدِّ بِالْقَصْدِ يَدُلُّك عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْقَصْدِ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ وَالْقُوَّةِ وَالْقَصْدُ الْعَدْلُ كَمَا أَنَّهُ السَّدَادُ وَالصَّوَابُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ الْمُوَافِقُ الَّذِي لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهَذَا هُوَ الْجَامِعُ الْمُطَابِقُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } أَيْ السَّبِيلُ الْقَصْدُ وَهُوَ السَّبِيلُ الْعَدْلُ : أَيْ إلَيْهِ تَنْتَهِي السَّبِيلُ الْعَادِلَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } أَيْ الْهُدَى إلَيْنَا

هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } . وَمِنْهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ : الصِّدْقُ فَإِنَّ حُرُوفَهُ حُرُوفُ الْقَصْدِ فَمِنْهُ الصِّدْقُ فِي الْحَدِيثِ لِمُطَابَقَتِهِ مُخْبِرَهُ كَمَا قِيلَ فِي السَّدَادِ . وَالصِّدْقُ بِالْفَتْحِ الصَّلْبُ مِنْ الرِّمَاحِ وَيُقَالُ الْمُسْتَوِي فَهُوَ مُعْتَدِلٌ صَلْبٌ لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ وَلَا عِوَجٌ وَالصُّنْدُوقُ وَاحِدُ الصَّنَادِيقِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ مَا يُوضَعُ فِيهِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فِي بَابِ الِاشْتِقَاقِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ هَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا فَلَهُ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَنَاسُبًا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ تَكَلَّمُوا بِهَذَا بَعْدَ هَذَا أَوْ بِهَذَا بَعْدَ هَذَا وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْآخَرِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى كَمَا يُقَالُ : هَذَا الْمَاءُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ أَوْ الْمَصْدَرَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ كَانَ كِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحًا وَهَذَا هُوَ الِاشْتِقَاقُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلُ التَّصْرِيفِ . وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي فِي الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا لِلْآخَرِ

فَهَذَا إذَا عَنَى بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَكَلَّمَ بِهِ قَبْلَ الْآخَرِ لَمْ يَقُمْ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ وَإِنْ عَنَى بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعَقْلِ لِكَوْنِ هَذَا مُفْرَدًا وَهَذَا مُرَكَّبًا فَالْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ وَالِاشْتِقَاقُ الْأَصْغَرُ اتِّفَاقُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا وَالْأَوْسَطُ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحُرُوفِ لَا فِي التَّرْتِيبِ وَالْأَكْبَرُ اتِّفَاقُهُمَا فِي أَعْيَانِ بَعْضِ الْحُرُوفِ وَفِي الْجِنْسِ لَا فِي الْبَاقِي كَاتِّفَاقِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ إذَا قِيلَ حَزَرَ وَعَزَّرَ وَأَزَرَ فَإِنَّ الْجَمِيعَ فِيهِ مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ وَقَدْ اشْتَرَكَتْ مَعَ الرَّاءِ وَالزَّايِ وَالْحَاءِ فِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ حُرُوفٌ حَلْقِيَّةٌ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قِيلَ : الصَّمَدُ بِمَعْنَى الْمُصْمَتِ وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَهُوَ صَحِيحٌ فَإِنَّ الدَّالَ أُخْت التَّاءِ ؛ فَإِنَّ الصَّمْتَ السُّكُوتُ وَهُوَ إمْسَاكٌ . وَإِطْبَاقٌ لِلْفَمِ عَنْ الْكَلَامِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَقَدْ أَصْمَتّه أَنَا وَبَابٌ مُصْمَتٌ قَدْ أُبْهِمَ إغْلَاقُهُ . وَالْمُصْمَتُ مِنْ الْخَيْلِ الْبَهِيمُ أَيْ لَا يُخَالِطُ لَوْنَهُ لَوْنٌ آخَرُ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتُ فَالْمُصْمَدُ وَالْمُصْمَتُ مُتَّفِقَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ وَلَيْسَتْ الدَّالُ مُنْقَلِبَةً عَنْ التَّاءِ بَلْ الدَّالُ أَقْوَى وَالْمُصْمَدُ أَكْمَلُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْمُصْمَتِ وَكُلَّمَا قَوِيَ الْحِرَفُ كَانَ مَعْنَاهُ أَقْوَى فَإِنَّ لُغَةَ الرَّبِّ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالتَّنَاسُبِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّمْتُ إمْسَاكٌ عَنْ الْكَلَامِ مَعَ

إمْكَانِهِ وَالْإِنْسَانُ أَجْوَفُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ فِيهِ لَكِنَّهُ قَدْ يَصْمُتُ بِخِلَافِ الصَّمَدِ فَإِنَّهُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِيمَا لَا تَفَرُّقَ فِيهِ كَالصَّمَدِ وَالسَّيِّدِ وَالصَّمَدُ مِنْ الْأَرْضِ وَصِمَادُ الْقَارُورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَنَاسِبَةِ أَكْمَلُ مِنْ أَلْفَاظِ الصَّمَدِ فَإِنَّ فِيهِ الصَّادَ وَالْمِيمَ وَالدَّالَ وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ لَهَا مَزِيَّةَ عَلَى مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُرُوفِ أَكْمَلَ . وَمِمَّا يُنَاسِبُ هَذِهِ الْمَعَانِي مَعْنَى " الصَّبْرِ " فَإِنَّ الصَّبْرَ فِيهِ جَمْعٌ وَإِمْسَاكٌ وَلِهَذَا قِيلَ : الصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ الْجَزَعِ يُقَالُ صَبَرَ وَصَبَّرْته أَنَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } وَكَذَلِكَ مَعْنَى السَّيِّدِ الصَّمَدُ خِلَافُ مَعْنَى الْجَزُوعِ الْمُنَوَّعِ وَمِنْهُ الصُّبْرَةُ مِنْ الطَّعَامِ فَإِنَّهَا مُجْتَمِعَةٌ مُكَوَّمَةٌ والصبارة الْحِجَارَةُ وَصَبْرُ الشَّيْءِ غِلَظُهُ وَضِدُّهُ الْجَزَعُ وَفِيهِ مَعْنَى التَّقَطُّعِ وَالتَّفَرُّقِ يُقَالُ جَزَعَ لَهُ جِزْعَةً مِنْ الْمَالِ أَيْ قَطَعَ لَهُ قِطْعَةً وَالْجُزَيْعَةُ : الْقِطْعَةُ مِنْ الْغَنَمِ واجتزعت مِنْ الشَّجَرِ عُودًا أَيْ اقْتَطَعْته واكتسرته وَجَزَعْت الْوَادِيَ إذَا قَطَعْته عَرْضًا وَالْجَزْعُ مُنْعَطَف الْوَادِي وَمِنْهُ الْجَزْعُ وَهُوَ الْخَرَزُ الْيَمَانِيُّ الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَكَذَلِكَ جَزَّعَ الْبُسْرَ تَجْزِيعًا إذَا أَرْطَبَ نِصْفُهُ أَوْ ثُلُثَاهُ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِمْ مُصْمَتٌ لِلَّوْنِ الْوَاحِدِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَفِي هَذَا مِنْ التَّفَرُّقِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ

جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْهَلَعُ أَفْحَشُ الْجَزَعِ وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ الْحِرْصِ وَأَسْوَأُ الْجَزَعِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } وَنَاقَةٌ هَلُوعٌ إذَا كَانَتْ سَرِيعَةَ السَّيْرِ خَفِيفَةً وَذِئْبٌ هَلِعٌ بُلَعٌ وَالْهَلِعُ مِنْ الْحِرْصِ وَالْبُلَعُ مِنْ الِابْتِلَاعِ وَلِهَذَا كَانَ كَلَامُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهِ يَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْمَعَانِي فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هُوَ الَّذِي إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ الْحَرِيصُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ . وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : شَحِيحًا . وَعَنْ عِكْرِمَةَ : ضَجُورًا . وَعَنْ جَعْفَرٍ : حَرِيصًا وَعَنْ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ : بَخِيلًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ : شَرِهًا وَعَنْ الضَّحَّاكِ أَيْضًا : الْهَلُوعُ الَّذِي لَا يَشْبَعُ وَعَنْ مُقَاتِلٍ : ضَيِّقُ الْقَلْبِ وَعَنْ عَطَاءٍ : عَجُولًا وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا تُنَافِي الثَّبَاتَ وَالْقُوَّةَ وَالِاجْتِمَاعَ وَالْإِمْسَاكَ وَالصَّبْرَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهَا تَنْصَدِعُ فَيَمُوتُونَ فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ : فِي مِثْلِ ذَلِكَ قَدْ انْصَدَعَ قَلْبُهُ وَقَدْ تَفَرَّقَ قَلْبِي وَقَدْ تَشَتَّتَ قَلْبِي وَقَدْ تَقَسَّمَ قَلْبِي وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْخَوْفِ : قَدْ فَرَّقَ قَلْبَهُ وَيُقَالُ : بِإِزَاءِ ذَلِكَ هُوَ ثَابِتُ الْقَلْبِ مُجْتَمَعُ الْقَلْبِ مَجْمُوعُ الْقَلْبِ .

فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } فَأَدْخَلَ اللَّامَ فِي الصَّمَدِ وَلَمْ يُدْخِلْهَا فِي أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا يُسَمَّى أَحَدًا فِي الْإِثْبَاتِ مُفْرِدًا غَيْرَ مُضَافٍ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ؛ بِخِلَافِ النَّفْيِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ : كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّهُ يُقَالُ : هَلْ عِنْدَك أَحَدٌ ؟ وَإِنْ جَاءَنِي أَحَدٌ مِنْ جِهَتِك أَكْرَمْته وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْعَدَدِ الْمُطْلَقِ يُقَالُ : أَحَدٌ اثْنَانِ . وَيُقَالُ : أَحَدٌ عَشْرٌ . وَفِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ يُقَالُ : يَوْمُ الْأَحَدِ . فَإِنَّ فِيهِ - عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ - ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ . وَمَا بَيْنَهُمَا . كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : أَنَّ آخِرَ الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ آدَمَ خُلِقَ يَوْم الْجُمُعَةِ . وَإِذَا كَانَ آخِرُ الْخَلْقِ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُ كَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِأَنَّهَا سِتَّةٌ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي قَوْلِهِ : { خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ } فَهُوَ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ قَدَحَ فِيهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ

قَالَ الْبُخَارِيُّ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَعْبٍ وَقَدْ ذَكَرَ تَعْلِيلَهُ البيهقي أَيْضًا وَبَيَّنُوا أَنَّهُ غَلَطٌ لَيْسَ مِمَّا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِمَّا أَنْكَرَ الْحُذَّاقُ عَلَى مُسْلِمٍ إخْرَاجَهُ إيَّاهُ كَمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ إخْرَاجَ أَشْيَاءَ يَسِيرَةٍ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جريج والسدي وَالْأَكْثَرُونَ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ . قَالَ : وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ { خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ } قَالَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَصَحُّ فَصَحَّحَ هَذَا لِظَنِّهِ صِحَّةَ الْحَدِيثِ إذْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَكِنَّ هَذَا لَهُ نَظَائِرُ رَوَى مُسْلِمٌ أَحَادِيثَ قَدْ عَرَفَ أَنَّهَا غَلَطٌ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا أَسْلَمَ : أُرِيدَ أَنْ أُزَوِّجَك أُمَّ حَبِيبَةَ وَلَا خِلَافَ بَيْنِ النَّاسِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ وَلَكِنَّ هَذَا قَلِيلٌ جِدًّا وَمِثْلَ مَا رَوَى فِي بَعْضِ طَرْقِ حَدِيثِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِثَلَاثِ ركوعات وَأَرْبَعٍ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِرُكُوعَيْنِ وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ إلَّا هَذَا وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا وَالْبُخَارِيُّ سَلِمَ مِنْ مِثْلِ هَذَا ؛ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ

الرِّوَايَاتِ غَلَطٌ ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ الْمَحْفُوظَةَ الَّتِي تُبَيِّنُ غَلَطَ الغالط فَإِنَّهُ كَانَ أَعْرَفَ بِالْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ وَأَفْقَهَ فِي مَعَانِيهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَنَحْوِهِ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ : وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَهَذَا إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَذَكَرَ قَوْلًا ثَالِثًا فِي ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ : أَنَّهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ . وَقَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ . وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ وَالِابْتِدَاءُ بِيَوْمِ الْأَحَدِ قَوْلُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَهَذَا النَّقْلُ غَلَطٌ عَلَى أَهْلِ الْإِنْجِيلِ . كَمَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ الْأَوَّلَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَجْعَلُ اجْتِمَاعَهَا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا الْعَالَمَ وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا اجْتِمَاعُهُمْ فِي آخِرِ يَوْمٍ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ الْعَالَمَ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ لَفْظَ الْأَحَدِ لَمْ يُوصَفْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْيَانِ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ . وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ اللَّهِ فِي النَّفْيِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُ : لَا أَحَدَ فِي الدَّارِ وَلَا تَقُلْ فِيهَا أَحَدٌ . وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي غَيْرِ الْمُوجَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } وَكَقَوْلِهِ : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ

الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } وَفِي الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ } { جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } . وَأَمَّا اسْمُ ( الصَّمَدِ ) فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ . كَمَا تَقَدَّمَ . فَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ صَمَدٌ بَلْ قَالَ : { اللَّهُ الصَّمَدُ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ ؛ لَأَنْ يَكُونَ هُوَ الصَّمَدَ دُونَ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ الْمُسْتَوْجِبُ لِغَايَتِهِ عَلَى الْكَمَالِ وَالْمَخْلُوقُ وَإِنْ كَانَ صَمَدًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؛ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الصَّمَدِيَّةِ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّفَرُّقَ وَالتَّجْزِئَةَ وَهُوَ أَيْضًا مُحْتَاجٌ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَيْسَ أَحَدٌ . يَصْمُدُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ وَلَا يَصْمُدُ هُوَ إلَى شَيْءٍ إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا مَا يَقْبَلُ أَنْ يَتَجَزَّأَ وَيَتَفَرَّقَ وَيَتَقَسَّمَ وَيَنْفَصِلَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الصَّمَدُ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ حَقِيقَةُ الصَّمَدِيَّةِ وَكَمَالِهَا لَهُ وَحْدَهُ وَاجِبَةٌ لَازِمَةٌ لَا يُمْكِنُ عَدَمُ صَمَدِيَّتِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؛ كَمَا لَا يُمْكِنُ تَثْنِيَةُ أَحَدِّيَّتِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَهُوَ أَحَدٌ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } اسْتَعْمَلَهَا هُنَا فِي النَّفْيِ أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ كُفُوًا لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ أَحَدٌ . { وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ سَيِّدُنَا فَقَالَ :

السَّيِّدُ اللَّهُ } وَدَلَّ قَوْلُهُ . ( الْأَحَدُ ، الصَّمَدُ ) عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ؛ فَإِنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَلَا أَحْشَاءَ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ فَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا قَالَ : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } وَفِي قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ وَلَا يُطْعَمَ بِالْفَتْحِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ } وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ صَمَدٌ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ فَالْخَالِقُ لَهُمْ جَلَّ جَلَالُهُ أَحَقُّ بِكُلِّ غِنًى وَكَمَالٍ جَعَلَهُ لِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ فَلِهَذَا فَسَّرَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّمَدَ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَالصَّمَدُ الْمُصْمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ عَيْنٌ مِنْ الْأَعْيَانِ فَلَا يَلِدُ . وَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَال مِنْ السَّلَفِ : هُوَ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ لَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَإِنْ كَانَ يُقَالُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ : { مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَمَّا سَمِعَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ : إنَّ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلٍّ . فَخُرُوجُ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِهِ فَيَسْمَعُ مِنْهُ وَيَبْلُغُ إلَى غَيْرِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فِي غَيْرِهِ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيَّة : لَيْسَ بِمَعْنَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْقَائِمَةِ بِهِ يُفَارِقُهُ وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ

فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ . أَنْ تُفَارِقَ الصِّفَةُ مَحِلَّهَا وَتَنْتَقِلَ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهَا فَكَيْفَ بِصِفَاتِ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا } وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ هِيَ قَائِمَةٌ بِالْمُتَكَلِّمِ وَسُمِعَتْ مِنْهُ لَيْسَ خُرُوجُهَا مِنْ فِيهِ أَنَّ مَا قَامَ بِذَاتِهِ مِنْ الْكَلَامِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ فَخُرُوجُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ وَمِنْ شَأْنِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ إذَا اُسْتُفِيدَ مِنْ الْعَالِمِ وَالْمُتَكَلِّمِ أَنْ لَا يَنْقُصَ مِنْ مَحَلِّهِ وَلِهَذَا شُبِّهَ بِالنُّورِ الَّذِي يَقْتَبِسُ مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ الضَّوْءَ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَنْقُصْ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : الصَّمَدُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ كَلَامٌ صَحِيحٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ شَيْءٌ مِنْهُ . وَلِهَذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَلِدَ وَأَنْ يُولَدَ وَذَلِكَ أَنَّ الْوِلَادَةَ وَالتَّوَلُّدَ وَكُلَّ مَا يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَصْلَيْنِ وَمَا كَانَ مِنْ الْمُتَوَلِّدِ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَادَّةٍ تَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا كَانَ عَرَضًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ فَالْأَوَّلُ نَفَاهُ بِقَوْلِهِ : ( أَحَدٌ فَإِنَّ الْأَحَدَ هُوَ الَّذِي لَا كُفُؤَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ لَا صَاحِبَةَ وَالتَّوَلُّدُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ قَالَ تَعَالَى : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فَنَفَى سُبْحَانَهُ الْوَلَدَ بِامْتِنَاعِ لَازِمِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَدُلُّ

عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ وَبِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ لَهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَوْلُودٌ لَهُ . وَالثَّانِي : نَفَاهُ بِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ الصَّمَدَ وَهَذَا الْمُتَوَلَّدُ مِنْ أَصْلَيْنِ يَكُونُ بِجُزْأَيْنِ يَنْفَصِلَانِ مِنْ الْأَصْلَيْنِ كَتَوَلُّدِ الْحَيَوَانِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ بِالْمَنِيِّ الَّذِي يَنْفَصِلُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَهَذَا التَّوَلُّدُ يَفْتَقِرُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ وَإِلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمَا شَيْءٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ أَحَدٌ فَلَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ يَكُونُ صَاحِبَةً وَنَظِيرًا وَهُوَ صَمَدٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ كَوْنِهِ أَحَدًا وَمَنْ كَوْنِهِ صَمَدًا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَكَمَا أَنَّ التَّوَالُدَ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَصْلَيْنَ - سَوَاءٌ كَانَ الْأَصْلَانِ مِنْ جِنْسِ الْوَلَدِ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْمُتَوَالِدُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَهُوَ الْمُتَوَلَّدُ - فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ كَالنَّارِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الزَّنْدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا خَشَبَتَيْنِ أَوْ كَانَا حَجَرًا وَحَدِيدًا : أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ } { أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ } { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ }

قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرَيْنِ هُمَا شَجَرَتَانِ يُقَالُ لِإِحْدَاهُمَا : الْمَرْخُ وَالْأُخْرَى الْعِفَارُ . فَمَنْ أَرَادَ مِنْهُمَا النَّارَ قَطَعَ مِنْهُمَا غُصْنَيْنِ مِثْلَ السِّوَاكَيْنِ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ يَقْطُرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ فَيُسْحَقُ الْمَرْخُ - وَهُوَ ذَكَرٌ - عَلَى الْعِفَارِ . - وَهُوَ أُنْثَى - فَتَخْرُجُ مِنْهُمَا النَّارُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقُولُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعِفَارُ . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي كُلِّ شَجَرَةٍ نَارٌ إلَّا الْعُنَّابُ { فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } فَذَلِكَ زِنَادُهُمْ . وَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ : الزَّنْدُ الْعُودُ الَّذِي يُقْدَحُ بِهِ النَّارُ وَهُوَ الْأَعْلَى . وَالزَّنْدَةُ السُّفْلَى فِيهَا ثَقْبٌ وَهِيَ الْأُنْثَى فَإِذَا اجْتَمَعَا قِيلَ زَنْدَانِ . وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهَذَا : إنَّهُمْ يَسْحَقُونَ الثُّقْبَ الَّذِي فِي الْأُنْثَى بِالْأَعْلَى كَمَا يَفْعَلُ ذَكَرُ الْحَيَوَانِ فِي أُنْثَاهُ فَبِذَلِكَ السَّحْقِ وَالْحَكِّ يَخْرُجُ مِنْهُمَا أَجْزَاءُ نَاعِمَةٌ تَنْقَدِحُ مِنْهَا النَّارُ فَتَتَوَلَّدُ النَّارُ مِنْ مَادَّةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَمَا يَتَوَلَّدُ الْوَلَدُ مِنْ مَادَّةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَسَحْقُ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ وَقَدْحُهَا بِهِ يَقْتَضِي حَرَارَةَ كُلًّا مِنْهُمَا وَيَتَحَلَّلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَادَّةٌ تَنْقَدِحُ مِنْهَا النَّارُ كَمَا أَنَّ إيلَاجَ ذَكَرِ الْحَيَوَانِ فِي أُنْثَاهُ بِقَدْحِ وَحَكِّ فَرْجِهَا بِفَرْجِهِ فَتَقْوَى حَرَارَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيَتَحَلَّلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَادَّةٌ تَمْتَزِجُ بِالْأُخْرَى وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ وَيُقَالُ : عَلِقَتْ النَّارُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْدَحُ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ

كَالرَّحِمِ لِلْوَلَدِ وَهُوَ الْحِرَاقُ وَالصُّوفَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ أَسْرَعَ قَبُولًا لِلنَّارِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا عَلِقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ وَقَدْ لَا تَعْلَقُ النَّارُ كَمَا قَدْ لَا تَعْلَقُ الْمَرْأَةُ وَقَدْ لَا تَنْقَدِحُ نَارٌ كَمَا لَا يَنْزِلُ مَنِيٌّ وَالنَّارُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الزِّنَادَيْنِ بَلْ تُوَلَّدُ النَّارُ مِنْهُمَا كَتَوَلُّدِ حَيَوَانٍ مِنْ الْمَاءِ وَالطِّينِ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ نَوْعَانِ مُتَوَالِدٌ كَالْإِنْسَانِ وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يُخْلَقُ مِنْ أَبَوَيْنِ وَمُتَوَلِّدُ كَاَلَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْ الْفَاكِهَةِ وَالْخَلِّ وَكَالْقَمْلِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْ وَسَخِ جِلْدِ الْإِنْسَانِ وَكَالْفَأْرِ وَالْبَرَاغِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخْلَقُ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَالْمَطَرِ وَالنَّارِ الَّتِي تُورَى بِالزِّنَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هَلْ تَحْدُثُ أَعْيَانُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ فَيُقْلَبُ هَذَا الْجِنْسُ إلَى جِنْسٍ آخَرَ . كَمَا يُقْلَبُ الْمَنِيُّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً أَوْ لَا تَحْدُثُ إلَّا أَعْرَاضٌ وَأَمَّا الْأَعْيَانُ الَّتِي هِيَ الْجَوَاهِرُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ بِغَيْرِ صِفَاتِهَا بِمَا يُحْدِثُهُ فِيهَا مِنْ الْأَكْوَانِ الْأَرْبِعَةِ : الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التجزي كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ . وَإِمَّا مِنْ جَوَاهِرَ لَا نِهَايَةَ لَهَا كَمَا يُحْكَى عَنْ النَّظَّامِ .

فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُحْدِثُ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُحْدِثُ الْأَعْرَاضَ الَّتِي هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَاضِ . ثُمَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْجَوَاهِرَ مُحْدَثَةٌ قَالَ : إنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهَا ابْتِدَاءً ثُمَّ جَمِيعُ مَا يُحْدِثُهُ إنَّمَا هُوَ إحْدَاثُ أَعْرَاضٍ فِيهَا لَا يُحْدِثُ اللَّهُ بَعْد ذَلِكَ جَوَاهِرَ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَمِنْ أَكَابِرِ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَيَذْكُرُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا جُمْهُورِ الْأُمَّةِ ؛ بَلْ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ حَتَّى مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ يُنْكِرُونَ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَتَرَكُّبَ الْأَجْسَامِ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَابْنُ كُلَّابٍ إمَامُ أَتْبَاعِهِ هُوَ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ فورك فِي مُصَنَّفِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي مَقَالَاتِ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ الْخِلَافِ وَهَكَذَا نَفَى الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ قَوْلُ الهشامية والضرارية وَكَثِيرٍ مِنْ الكَرَّامِيَة والنجارية أَيْضًا . وَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ : الْمَشْهُورُ عَنْهُمْ ؛ بِأَنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ ؛ بَلْ وَيَقُولُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ : أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُتَمَاثِلَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الْأَعْرَاضِ وَتِلْكَ صِفَاتٌ عَارِضَةٌ لَهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً فَلَا تَنْفِي التَّمَاثُلَ فَإِنَّ حَدَّ الْمِثْلَيْنِ أَنْ يَجُوزَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ . وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَجُوزُ

عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مَا جَازَ عَلَى الْآخَرِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ الْأَجْسَامُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ الْجَوَاهِرِ ؛ وَلِهَذَا إذَا أَثْبَتُوا حُكْمًا لِجِسْمٍ قَالُوا : هَذَا ثَابِتٌ لِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ بِنَاءً عَلَى التَّمَاثُلِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُونَ هَذَا وَحُذَّاقِهِمْ قَدْ أَبْطَلُوا الْحُجَجَ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَى التَّمَاثُلِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّازِي والآمدي وَغَيْرُهُمَا . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ . وَالْأَشْعَرِيُّ فِي " كِتَابِ الْإِبَانَةِ " جَعَلَ الْقَوْلَ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يَخُصُّ أَحَدَ الْجِسْمَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِأَعْرَاضٍ دُونَ الْآخَرِ بِمُجَرَّدِ الْمَشِيئَةِ عَلَى أَصْلِ الْجَهْمِيَّة أَوْ لِمَعْنَى آخَرَ كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ وَيَقُولُونَ يَمْتَنِعُ انْقِلَابُ الْأَجْنَاسِ فَلَا يَنْقَلِبُ الْجِسْمُ عَرَضًا وَلَا جِنْسٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ إلَى جِنْسٍ آخَرَ فَلَوْ قَالُوا : إنَّ الْأَجْسَامَ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ يَنْقَلِبُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ آخَرَ لَزِمَ انْقِلَابُ الْأَجْنَاسِ . فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : أَنَّ التَّوَلُّدَ الْحَاصِلَ فِي الرَّحِمِ وَالثَّمَرَ الْحَاصِلَ فِي الشَّجَرِ وَالنَّارَ الْحَاصِلَةَ مِنْ الزِّنَادِ هِيَ جَوَاهِرُ كانت فِي الْمَادَّةِ الَّتِي خُلِقَ ذَلِكَ مِنْهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ ؛ لَكِنْ غُيِّرَتْ صِفَتُهَا بِالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ .

وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي أَدِلَّةَ " إثْبَاتِ الصَّانِعِ " ذَكَرَ أَرْبَعَةَ طُرُقٍ : إمْكَانُ الذَّوَاتِ وَحُدُوثُهَا وَإِمْكَانُ الصِّفَاتِ وَحُدُوثُهَا وَالطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ ضَعِيفَةٌ ؛ بَلْ بَاطِلَةٌ ؛ فَإِنَّ الذَّوَاتَ الَّتِي ادَّعَوْا حُدُوثَهَا أَوْ إمْكَانَهَا أَوْ إمْكَانَ صِفَاتِهَا ذَكَرُوهَا بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ لَا يَتَمَيَّزُ فِيهَا الْخَالِقُ عَنْ الْمَخْلُوقِ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى مَا ادَّعَوْهُ دَلِيلًا صَحِيحًا . وَأَمَّا " الطَّرِيقُ الرَّابِعُ " وَهُوَ الْحُدُوثُ لِمَا يُعْلَمُ حُدُوثُهُ فَهُوَ طَرِيقٌ صَحِيحٌ وَهُوَ طَرِيقُ الْقُرْآنِ لَكِنْ قَصَّرُوا فِيهِ غَايَةَ التَّقْصِيرِ ؛ فَإِنَّهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ لَمْ يَشْهَدُوا حُدُوثَ شَيْءٍ مِنْ الذَّوَاتِ بَلْ حُدُوثُ الصِّفَاتِ وَطَرِيقَةُ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوق وَأَنَّهُ آيَةٌ لِلَّهِ وَقَدْ بَسَّطَ الْكَلَام عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ الَّتِي لَمْ يَصِلُ إلَيْهَا هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمَةُ وَالْمُتَفَلْسِفَة وَإِنَّ كُلَّ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ حَقِّ فَهُوَ جُزْءٌ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانَ هَذَا أَصْلَهُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ - كَانَ أَصْلُهُمْ فِي الْمَعَادِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فَصَارُوا عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تُعْدَمُ الْجَوَاهِرُ ثُمَّ تُعَادُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَتَفَرَّقُ الْأَجْزَاءُ ثُمَّ تَجْتَمِعُ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ الْإِنْسَانُ الَّذِي يَأْكُلُهُ حَيَوَانٌ وَذَلِكَ

الْحَيَوَانُ أَكَلَهُ إنْسَانٌ آخَرُ فَإِنْ أُعِيدَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ مِنْ هَذَا لَمْ تَعُدْ مِنْ هَذَا . وَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَحَلَّلُ دَائِمًا فَمَا الَّذِي يُعَادُ أَهُوَ الَّذِي كَانَ وَقْتَ الْمَوْتِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : بِذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُعَادَ عَلَى صُورَةٍ ضَعِيفَةٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بَعْضُ الْأَبْدَانُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ . فَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي الْإِنْسَانِ أَجْزَاءً أَصْلِيَّةً لَا تَتَحَلَّلُ وَلَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ الَّذِي أَكَلَهُ الثَّانِي وَالْعُقَلَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ كُلَّهُ يَتَحَلَّلُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ بَاقٍ فَصَارَ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَعَادِ مِمَّا قَوَّى شُبْهَةَ الْمُتَفَلْسِفَةِ فِي إنْكَارٍ مَعَادِ الْأَبْدَانِ وَأَوْجَبَ أَنْ صَارَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ إلَى أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ بَدَنًا آخَرَ تَعُودُ الرُّوحُ إلَيْهِ . وَالْمَقْصُودُ تَنْعِيمُ الرُّوحِ وَتَعْذِيبُهَا سَوَاءٌ كَانَ هَذَا فِي الْبَدَنِ أَوْ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ بِإِعَادَةِ هَذَا الْبَدَنِ وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الرَّازِي فَلَيْسَ فِي كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَمْثَالِهِ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ الْكِبَارِ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي يُوَافِقُ الْمَنْقُولَ وَالْمَعْقُولَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ وَكَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا بَلْ يَذْكُرُ بُحُوثَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَلَاحِدَةِ وَبُحُوثَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدَعَةِ الَّذِينَ بَنَوْا عَلَى أُصُولِ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ فِي مَسَائِلِ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ وَالْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ وَكِلَا الطَّرِيقَيْنِ فَاسِدٌ . إذْ بَنَوْهُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ فَاسِدَةٍ وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ

السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَنَّ الْأَجْسَامَ تَنْقَلِبُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ إنَّمَا يَذْكُرُهُ عَنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ - وَهُوَ الْقَوْلُ فِي خَلْقِ اللَّهِ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي يُشَاهِدُ حُدُوثَهَا أَنَّهُ يُقَلِّبُهَا وَيُحِيلُهَا مِنْ جِسْمٍ إلَى جِسْمٍ - هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً وَالْجُمْهُورُ . وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي النَّجَاسَةِ هَلْ تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ أَمْ لَا ؟ كَمَا تَسْتَحِيلُ الْعَذِرَةُ رَمَادًا وَالْخِنْزِيرُ وَغَيْرُهُ مِلْحًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَالْمَنِيُّ الَّذِي فِي الرَّحِمِ يَقْلِبُهُ اللَّهُ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً وَكَذَلِكَ الثَّمَرُ يُخْلَقُ بِقَلْبِ الْمَادَّةِ الَّتِي يُخْرِجُهَا مِنْ الشَّجَرَةِ مِنْ الرُّطُوبَةِ مَعَ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَادِّ الَّتِي يَقْلِبُهَا ثَمَرَةً بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَذَلِكَ الْحَبَّةُ يَفْلِقُهَا وَتَنْقَلِبُ الْمَوَادُّ الَّتِي يَخْلُقُهَا مِنْهَا سُنْبُلَةً وَشَجَرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ وَهَكَذَا خَلْقُهُ لِمَا يَخْلُقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ الطِّينِ فَقَلَبَ حَقِيقَةَ الطِّينِ فَجَعَلَهَا عَظْمًا وَلَحْمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَكَذَلِكَ الْمُضْغَةُ يَقْلِبُهَا عِظَامًا وَغَيْرَ عِظَامٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ } { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } { ثُمَّ إنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ } { ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } . وَكَذَلِكَ النَّارُ يَخْلُقُهَا بِقَلْبِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزِّنَادِ نَارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى :

{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا } . فَنَفْسُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ جَعَلَهَا اللَّهُ نَارًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ كَانَ فِي الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارٌ أَصْلًا كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الشَّجَرَةِ ثَمَرَةٌ أَصْلًا وَلَا كَانَ فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ جَنِينٌ أَصْلًا ؛ بَلْ خَلَقَ هَذَا الْمَوْجُودَ مِنْ مَادَّةِ غَيْرِهِ بِقَلْبِهِ تِلْكَ الْمَادَّةِ إلَى هَذَا وَبِمَا ضَمَّهُ إلَى هَذَا مِنْ مَوَادَّ أُخَرٍ وَكَذَلِكَ الْإِعَادَةُ يُعِيدُهُ بَعْد أَنْ يَبْلَى كُلَّهُ إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ . مِنْهُ خُلِقَ ابْنُ آدَمَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ } . وَهُوَ إذَا أَعَادَ الْإِنْسَانَ فِي النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ النَّشْأَةُ مُمَاثَلَةً لِهَذِهِ فَإِنَّ هَذِهِ كَائِنَةٌ فَاسِدَةٌ وَتِلْكَ كَائِنَةٌ لَا فَاسِدَةَ بَلْ بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَضَلَاتٌ فَاسِدَةٌ تَخْرُجُ مِنْهُمْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَبُولُونَ وَلَا يتغوطون وَلَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ وَإِنَّمَا هُوَ رَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } } فَهُمْ يَعُودُونَ غُلْفًا لَا مَخْتُونِينَ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ : كَمَا بَدَأَكُمْ فَخَلَقَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا كَذَلِكَ تَعُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءَ وَقَالَ قتادة بَدْأَهُمْ

مِنْ التُّرَابِ وَإِلَى التُّرَابِ يَعُودُونَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } وَقَالَ : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } . وَهُوَ قَدْ شَبَّهَ سُبْحَانَهُ إعَادَةَ النَّاسِ فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . كَقَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } وَقَالَ : { وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ } .

وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ إخْبَارِهِ أَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ وَأَنَّهُ يُخْرِجُ النَّاسَ مِنْ الْأَرْضِ تَارَةً أُخْرَى هُوَ يُخْبِرُ أَنَّ الْمَعَادَ هُوَ الْمَبْدَأُ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } وَيُخْبِرُ أَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا } { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا } { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا } { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إنْ لَبِثْتُمْ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقَالَ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ } { أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } { عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ } . وَالْمُرَادُ بِقُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ مِثْلِهِمْ هُوَ قُدْرَتُهُ عَلَى إعَادَتِهِمْ كَمَا أَخْبَرَ

بِذَلِكَ . فِي قَوْلِهِ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } فَإِنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي هَذِهِ الدَّارِ نَاسًا أَمْثَالَهُمْ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ الْمُشَاهَدُ يَخْلُقُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ يَخْلُقُ الْوَلَدُ مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَهَذِهِ هِيَ النَّشْأَةُ الْأُولَى وَقَدْ عَلِمُوهَا وَبِهَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ } وَقَالَ : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } . وَلِهَذَا قَالَ : { عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ البجلي : الَّذِي عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ { وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى } أَيْ أَخُلُقُكُمْ لِلْبَعْثِ بَعْد الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ شِئْت وَذَلِكَ أَنَّكُمْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الْأُولَى كَيْفَ كَانَتْ فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ وَلَيْسَتْ الْأُخْرَى كَذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّشْأَة الْأُولَى كَانَ الْإِنْسَانُ نُطْفَةٍ ثُمَّ عَلَقَةٍ ثُمَّ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ وَتِلْكَ النُّطْفَةُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَهُوَ يُغَذِّيهِ بِدَمِ الطَّمْثِ الَّذِي يُرَبِّي اللَّهُ بِهِ الْجَنِينَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ : ظُلْمَةٍ الْمَشِيمَةِ وَظُلْمَةِ

الرَّحِمِ وَظُلْمَةِ الْبَطْنِ وَالنَّشْأَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَكُونُونَ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ وَلَا يُغَذُّونَ بِدَمِ وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمْ نُطْفَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ عَلَقَةً بَلْ يَنْشَئُونَ نَشْأَةً أُخْرَى وَتَكُونُ الْمَادَّةُ مِنْ التُّرَابِ كَمَا قَالَ : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } وَقَالَ تَعَالَى : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } وَقَالَ { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إخْرَاجًا } وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الْأَرْضَ تُمْطِرُ مَطَرًا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ يَنْبُتُونَ فِي الْقُبُورِ كَمَا يَنْبُتُ النَّبَاتُ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } { كَذَلِكَ النُّشُورُ } { كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . فَعُلِمَ أَنَّ النَّشْأَتَيْنِ نَوْعَانِ تَحْتَ جِنْسٍ يَتَّفِقَانِ وَيَتَمَاثَلَانِ وَيَتَشَابَهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ وَيَتَنَوَّعَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَلِهَذَا جُعِلَ الْمَعَادُ هُوَ الْمَبْدَأَ وَجُعِلَ مِثْلَهُ أَيْضًا . فَبِاعْتِبَارِ اتِّفَاقِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ فَهُوَ هُوَ وَبِاعْتِبَارِ مَا بَيْنَ النَّشْأَتَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ فَهُوَ مِثْلُهُ . وَهَكَذَا كُلُّ مَا أُعِيدَ . فَلَفْظُ الْإِعَادَةِ يَقْتَضِي الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ إعَادَةُ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ كَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلِ يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ } وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ : أَعِدْ كَلَامَك وَفُلَانٌ قَدْ أَعَادَ كَلَامَ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ وَيُعِيدُ الدَّرْسَ . فَالْكَلَامُ هُوَ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ صَوْتُ الثَّانِي غَيْرَ صَوْتِ الْأَوَّلِ وَحَرَكَتِهِ وَلَا

يُطْلَقُ الْقَوْلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِثْلُهُ بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا . وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى مَثَلًا مُقَيَّدًا حَتَّى يُقَالَ لِمَنْ حَكَى كَلَامَ غَيْرِهِ هَكَذَا قَالَ فُلَانٌ أَيْ مِثْلُ هَذَا قَالَ وَيُقَالُ فَعَلَ هَذَا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى وَمِنْهُ الْبِئْرُ الْبَدِيُّ وَالْبِئْرُ الْعَادِيُّ فَالْبَدِيُّ الَّتِي اُبْتُدِئَتْ وَالْعَادِيُّ الَّتِي أُعِيدَتْ وَلَيْسَتْ بِنِسْبَةِ إلَى عَادٍ . كَمَا قِيلَ . وَيُقَالُ اسْتَعَدْته الشَّيْءَ فَأَعَادَهُ إذَا سَأَلْته أَنْ يَفْعَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْعَادَةُ يُقَالُ : عَادَهُ وَاعْتَادَهُ وَتَعَوَّدَهُ أَيْ صَارَ عَادَةً لَهُ : وَعَوَّدَ كَلْبَهُ الصَّيْدَ فَتَعَوَّدَهُ وَهُوَ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ وَالْمُعَاوَدَةُ الرُّجُوعُ إلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَيُقَالُ الشُّجَاعُ مُعَاوِدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمَلُّ الْمِرَاسَ . وَعَاوَدَتْهُ الْحُمَّى وَعَاوَدَهُ بِالْمَسْأَلَةِ أَيْ سَأَلَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وتعاود الْقَوْمُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا إذَا عَادَ كُلُّ فَرِيقٍ إلَى صَاحِبِهِ وَالْعُوَّادُ بِالضَّمِّ مَا أُعِيدَ مِنْ الطَّعَامِ بَعْدَ مَا أُكِلَ مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى وَعَوَادٍ بِمَعْنَى عُدْ مِثْلُ نزال بِمَعْنَى انْزِلْ . فَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْإِعَادَةِ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ هِيَ الْأُولَى وَإِنْ تَعَدَّدَ الشَّخْصُ وَلِهَذَا يُقَالُ : هُوَ مِثْلُهُ وَيُقَالُ هَذَا هُوَ هَذَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَأَعْنِي بِالْحَقِيقَةِ الْأَمْرَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الشَّخْصِ لَيْسَ الْمُرَادُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ

الْفَاعِلِينَ فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ غَيْرِهِ لَا يُقَالُ أَعَادَهُ وَإِنَّمَا يُقَالُ حَاكَاهُ وَشَابَهَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعَادَ فِعْلًا ثَانِيًا مِثْلَ مَا فَعَلَ أَوَّلًا فَإِنَّهُ يُقَالُ أَعَادَ فِعْلَهُ وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ أَعَادَ كَلَامَ غَيْرِهِ قَدْ أَعَادَهُ وَلَا يُقَالُ لِمَنْ أَنْشَأَ مِثْلَهُ قَدْ أَعَادَهُ وَيُقَالُ قُرِئَ عَلَى هَذَا وَأَعَادَ عَلَى هَذَا وَهَذَا يَقْرَأُ أَيْ يَدْرُسُ وَهَذَا يُعِيدُ وَلَوْ كَانَ كَلَامًا آخَرَ مِمَّا يُمَاثِلُهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ يُعِيدُ وَكَذَلِكَ مَنْ كَسَرَ خَاتَمًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْمَصُوغِ يُقَالُ أُعِدْهُ كَمَا كَانَ وَيُقَالُ لِمَنْ هَدَمَ دَارًا أَعِدْهَا كَمَا كَانَتْ بِخِلَافِ مَنْ أَنْشَأَ أُخْرَى مِثْلَهَا فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى مُعِيدًا وَالْمَعَادُ يُقَالُ فِيهِ هَذَا هُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ وَيُقَالُ هَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ هُوَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مِثْلُهُ مِنْ وَجْهٍ . وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبُهَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ : الْإِعَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ إعَادَةِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْنَعُ إعَادَتُهُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا يُعَادُ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّهُ لَا مُغَايَرَةَ أَصْلًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . وَالْإِعَادَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا هِيَ الْإِعَادَةُ الْمَعْقُولَةُ فِي هَذَا الْخِطَابِ وَهِيَ الْإِعَادَةُ الَّتِي فَهِمَهَا الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُ الْإِعَادَةِ وَالْمَعَادُ هُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ لَوَازِمَ الْإِعَادَةِ وَلَوَازِمِ الْبَدْأَةِ فَرْقٌ فَذَلِكَ الْفَرْقُ لَا يَمْنَعُ

أَنْ يَكُونَ قَدْ - أُعِيدَ الْأَوَّلُ لَيْسَ الْجَسَدُ الثَّانِي مُبَايِنًا لِلْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ وَلَا أَنَّ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ كَالْأُولَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا كَذَلِكَ يُعِيدُهُ بَعْد أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا وَعَلَى هَذَا فَالْإِنْسَانُ الَّذِي صَارَ تُرَابًا وَنَبَتَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ نَبَاتٌ آخَرُ أَكَلَهُ إنْسَانٌ آخَرُ وَهَلُمَّ جَرًّا وَالْإِنْسَانُ الَّذِي أَكَلَهُ إنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ وَأَكَلَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ إنْسَانًا آخَرَ فَفِي هَذَا كُلِّهِ قَدْ عُدِمَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْإِنْسَانُ وَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا تُرَابًا " كَمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ ثُمَّ يُعَادَ هَذَا وَيُعَادَ هَذَا مِنْ التُّرَابِ وَإِنَّمَا يَبْقَى عَجْبُ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ . وَأَمَّا سَائِرُهُ فَعَدَمٌ " فَيُعَادُ مِنْ الْمَادَّةِ الَّتِي اسْتَحَالَ إلَيْهَا فَإِذَا اسْتَحَالَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ أَلْفُ مَيِّتٍ وَصَارُوا كُلُّهُمْ تُرَابًا فَإِنَّهُمْ يُعَادُونَ وَيَقُومُونَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبْرِ وَيُنْشِئُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَدَمًا مَحْضًا كَمَا أَنْشَأَهُمْ أَوَّلًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَدَمًا مَحْضًا وَإِذَا صَارَ أَلْفُ إنْسَانٍ تُرَابًا فِي قَبْرٍ أَنْشَأَ هَؤُلَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ كَمَا خَلَقَهُمْ فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى الَّتِي خَلَقَهُمْ مِنْهَا مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وَجَعَلَ نَشْأَتَهُمْ بِمَا يَسْتَحِيلُ إلَى أَبْدَانِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَمَا يَسْتَحِيلُ إلَى بَدَنِ أَحَدِهِمْ مَا يَأْكُلُهُ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَكَذَلِكَ لَوْ أَكَلَ إنْسَانًا أَوْ أَكَلَ حَيَوَانًا قَدْ أَكَلَ إنْسَانًا : فَالنَّشْأَةُ

الثَّانِيَةُ لَا يَخْلُقُهُمْ فِيهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةِ بَلْ يُعِيدُ الْأَجْسَادَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ إلَى عَلَقَةٍ إلَى مُضْغَةٍ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْذُوَهَا بِدَمِ الطَّمْثِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْذُوَهَا بِلَبَنِ الْأُمِّ وَبِسَائِرِ مَا يَأْكُلُهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْإِعَادَةَ تَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي اسْتَحَالَتْ إلَى أَبْدَانِهِمْ فَقَدْ غَلِطَ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا أَكَلَ إنْسَانٌ إنْسَانًا فَإِنَّمَا صَارَ غِذَاءً لَهُ كَسَائِرِ الْأَغْذِيَةِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْأَغْذِيَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغِذَاءَ يَنْزِلُ إلَى الْمَعِدَةِ طَعَامًا وَشَرَابًا ثُمَّ يَصِيرُ كلوسا كالثردة ثُمَّ كيموسا كَالْحَرِيرَةِ ثُمَّ يَنْطَبِخُ دَمًا فَيَقْسِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ وَيَأْخُذُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ نَصِيبَهُ فَيَسْتَحِيلُ الدَّمُ إلَى شَبِيهِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْعَظْمِ عَظْمًا وَاللَّحْمُ لَحْمًا وَالْعَرَقُ عَرَقًا وَهَذَا فِي الرِّزْقِ كَاسْتِحَالَتِهِمْ فِي مَبْدَأِ الْخَلْقِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً . وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي الْإِعَادَةِ إلَى أَنْ يُحِيلَ أَحَدَهُمْ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً فَكَذَلِكَ أَغْذِيَتُهُمْ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَجْعَلَهَا خُبْزًا وَفَاكِهَةً وَلَحْمًا ثُمَّ يَجْعَلُهَا كلوسا وكيموسا ثُمَّ دَمًا ثُمَّ عَظْمًا وَلَحْمًا وَعُرُوقًا بَلْ يُعِيدُ هَذَا الْبَدَنَ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى لِنَشْأَةٍ ثَانِيَةٍ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ النَّشْأَةِ كَمَا قَالَ : { وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الِاسْتِحَالَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى .

وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الْبَدَنُ دَائِمًا فِي التَّحَلُّلِ فَإِنَّ تَحَلُّلَ الْبَدَنِ لَيْسَ بِأَعْجَبَ مِنْ انْقِلَابِ النُّطْفَةِ عَلَقَةً وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً وَحَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا خِلَافُ حَقِيقَةِ الْأُخْرَى . وَأَمَّا الْبَدَنُ الْمُتَحَلِّلُ فَالْأَجْزَاءُ الثَّانِيَةُ تُشَابِهُ الْأُولَى وَتُمَاثِلُهَا وَإِذَا كَانَ فِي الْإِعَادَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى انْقِلَابِهِ مِنْ حَقِيقَةٍ إلَى حَقِيقَةٍ فَكَيْفَ بِانْقِلَابِهِ بِسَبَبِ التَّحَلُّلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ رَأَى شَخْصًا وَهُوَ شَابٌّ ثُمَّ رَآهُ وَهُوَ شَيْخٌ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ ذَاكَ مَعَ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ كَمَنْ غَابَ عَنْ شَجَرَةٍ مُدَّةً ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهَا عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْأُولَى مَعَ أَنَّ التَّحَلُّلَ وَالِاسْتِحَالَةَ ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ . كَمَا هُوَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَحْتَاجُ عَاقِلٌ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ هِيَ الْأُولَى وَأَنَّ هَذِهِ الْفَرَسَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ مِنْ سِنِينَ وَلَا أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ هُوَ الَّذِي رَآهُ مِنْ عِشْرِينَ سُنَّةً إلَى أَنْ يُقَدِّرَ بَقَاءَ أَجْزَاءٍ أَصْلِيَّةٍ لَمْ تَتَحَلَّلْ وَلَا يَخْطِرُ هَذَا بِبَالِ أَحَدٍ وَلَا يَقْتَصِرْ الْعُقَلَاءُ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا هُوَ ذَاكَ عَلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ وَلَا تَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهَا . بَلْ إنَّمَا يُشِيرُونَ إلَى جُمْلَةِ الشَّجَرَةِ وَالْفَرَسِ وَالْإِنْسَانُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَانَ صَغِيرًا فَكَبِرَ . وَلَا يُقَالُ إنَّمَا كَانَ هُوَ ذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ وَاحِدَةٌ كَمَا زَعَمَهُ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْبَدَنَ الثَّانِيَ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ الْأَوَّلَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ جَزَاءُ النَّفْسِ بِنَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ

فَفِي أَيْ بَدَنٍ كَانَتْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ مِنْ الْإِعَادَةِ . فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُقَلَاءَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ : هَذَا الْفَرَسُ هُوَ ذَاكَ وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ هِيَ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ سِنِينَ مَعَ عِلْمِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ نَاطِقَةٌ تُفَارِقُهُ وَتَقُومُ بِذَاتِهَا وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : مِثْلَ هَذَا فِي الْحَيَوَانِ وَفِي الْإِنْسَانِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْطِرْ بِقُلُوبِهِمْ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِهَذَا وَذَاكَ نَفْسٌ مُفَارَقَةٌ . بَلْ قَدْ لَا يَخْطِرُ هَذَا بِقُلُوبِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعُقَلَاءَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْبَدَنَ هُوَ ذَاكَ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِحَالَةِ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْبَدَنُ الَّذِي يُعَادُ فِي النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ هَذَا الْبَدَنُ وَلِهَذَا يَشْهَدُ الْبَدَنُ الْمُعَادُ بِمَا عَمِلَ فِي الدُّنْيَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ قَالَ قَوْلًا أَوْ فَعَلَ فِعْلًا أَوْ رَأَى غَيْرَهُ يَفْعَلُ أَوْ سَمِعَهُ يَقُولُ ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سُنَّةً شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا قَالَ أَوْ فَعَلَ وَهُوَ الْإِقْرَارُ الَّذِي يُؤَاخَذُ بِمُوجِبِهِ أَوْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا قَبَضَهُ

مِنْ الْأَمْوَالِ وَأَقَرَّ بَهْ مِنْ الْحُقُوقِ لَكَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى عَيْنِ ذَلِكَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَقْبُولَةً مَعَ اسْتِحَالَةِ بَدَنِهِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ : إنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُعَيَّنُ حَيَوَانٌ أَوْ نَبَاتٌ وَشَهِدَ أَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ قَبَضَهُ هَذَا مِنْ هَذَا وَأَنَّ هَذَا الشَّجَرَ سَلَّمَهُ هَذَا إلَى هَذَا : كَانَ كَلَامًا مَعْقُولًا مَعَ الِاسْتِحَالَةِ وَإِذَا كَانَتْ الِاسْتِحَالَةُ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ يُعِيدُهُ عَلَى صِفَةِ مَا كَانَ وَقْتَ مَوْتِهِ أَوْ سِمَنِهِ أَوْ هُزَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُ فَإِنَّ صِفَةَ تِلْكَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ لَيْسَتْ مُمَاثَلَةً لِصِفَةِ هَذِهِ النَّشْأَةِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ الصِّفَاتِ هِيَ الْمُغَيَّرَةُ ؛ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ اسْتِحَالَةٌ ؟ وَلَا اسْتِفْرَاغٌ وَلَا امْتِلَاءٌ وَلَا سِمَنٌ وَلَا هُزَالٌ وَلَا سِيَّمَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلُوهَا فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ : طُولَ أَحَدِهِمْ سِتُّونَ ذِرَاعًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَرُوِيَ أَنَّ عَرْضَهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَهُمْ لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ . وَلَيْسَتْ تِلْكَ النَّشْأَةُ مِنْ أَخْلَاطٍ مُتَضَادَّةٍ حَتَّى يَسْتَلْزِمَ مُفَارَقَةُ بَعْضِهَا بَعْضًا كَمَا فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ وَلَا طَعَامُهُمْ مُسْتَحِيلًا وَلَا شَرَابُهُمْ مُسْتَحِيلًا مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَمَا هِيَ أطعماتهم فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ وَلِهَذَا أَبْقَى اللَّهُ طَعَامَ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَشَرَابَهُ مِائَةَ عَامٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَدَلَّنَا سُبْحَانَهُ بِهَذَا عَلَى قُدْرَتِهِ فَإِذَا كَانَ فِي دَارِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ يَبْقَى الطَّعَامُ الَّذِي

هُوَ رُطَبٌ وَعِنَبٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَالشَّرَابُ الَّذِي هُوَ مَاءٌ أَوْ مَا فِيهِ مَاءٌ مِائَةَ عَامٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَقُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى لَا يَتَغَيَّرُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ
فَصْلٌ :
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ التَّوَلُّدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلَيْنِ وَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ نَفْسَ الْهَوَاءِ الَّذِي بَيْن الزِّنَادَيْنِ يَسْتَحِيلُ نَارًا بِسُخُونَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ تَخْرُجُ مِنْهُمَا تَنْقَلِبُ نَارًا فَقَدْ غَلِطَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَخْرُجُ نَارٌ إنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمَا مَادَّةٌ بِالْحَكِّ وَلَا تَخْرُجْ النَّارُ بِمُجَرَّدِ الْحَكِّ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَقْدَحُونَ عَلَى شَيْءٍ أَسْفَلَ مِنْ الزِّنَادَيْنِ كَالصُّوفَانِ وَالْحِرَاقِ فَتَنْزِلُ النَّارُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَنْزِلُ الثَّقِيلُ فَلَوْلَا أَنَّ هُنَاكَ جُزْءًا ثَقِيلًا مِنْ الزِّنَادِ الْحَدِيدِ وَالْحَجَرِ لَمَا نَزَلَتْ النَّارُ وَلَوْ كَانَ الْهَوَاءُ وَحْدَهُ انْقَلَبَ نَارًا لَمْ يَنْزِلْ لِأَنَّ الْهَوَاءَ طَبْعُهُ الصُّعُودُ لَا الْهُبُوطُ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَنْقَلِبَ الْمَادَّةُ الْخَارِجَةُ نَارًا قَدْ يَنْقَلِبُ الْهَوَاءُ الْقَرِيبُ مِنْهَا نَارًا : إمَّا دُخَانًا وَإِمَّا لَهِيبًا .

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَوَلِّدَاتِ خُلِقَتْ مِنْ أَصْلَيْنِ كَمَا خُلِقَ آدَمَ مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَإِلَّا فَالتُّرَابُ الْمَحْضُ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ مَاءٌ لَا يُخْلَقُ مِنْهُ شَيْءٌ لَا حَيَوَانٌ وَلَا نَبَاتٌ . وَالنَّبَاتُ جَمِيعُهُ إنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ أَصْلَيْنِ أَيْضًا وَالْمَسِيحُ خُلِقَ مِنْ مَرْيَمَ وَنَفْخَةِ جِبْرِيلَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } . وَقَالَ : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا } وَقَالَ { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } { قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا } { قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا } . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا . وَالْجَيْبُ هُوَ الطَّوْقُ الَّذِي فِي الْعُنُقِ لَيْسَ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْعَامَّةِ جَيْبًا وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي مُقَدَّمِ الثَّوْبِ لِوَضْعِ الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا وَمُوسَى لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ : هُوَ ذَلِكَ الْجَيْبُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُ قَوْلَيْنِ : هَلْ كَانَتْ النَّفْخَةُ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ ؟ أَوْ فِي الْفَرْجِ . فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ فِي فَرْجِ دِرْعِهَا وَإِنَّ مَنْ قَالَ هُوَ مَخْرَجُ الْوَلَدِ قَالَ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَفَخَ فِي دِرْعِهَا لَا فِي فَرْجِهَا وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءِ بَلْ هُوَ عُدُولٌ عَنْ صَرِيحِ الْقُرْآنِ . وَهَذَا النَّقْلُ إنْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يُنَاقِضْ الْقُرْآنَ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ نَقَلَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ فَمُرَادُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ

يَكْشِفْ بَدَنَهَا وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ كَانَ إذَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ مُتَجَرِّدَةٌ لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهَا مُتَجَرِّدَةً فَنَفَخَ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ فَوَصَلَتْ النَّفْخَةُ إلَى فَرْجِهَا . وَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ النَّفْخُ فِي الْفَرْجِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي آيَتَيْنِ وَإِلَّا فَالنَّفْخُ فِي الثَّوْبِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ وُصُولِ النَّفْخِ إلَى الْفَرَجِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي حُصُولِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَقَلَهُ أَحَدٌ عَنْ عَالِمٍ مَعْرُوفٍ مِنْ السَّلَفِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَسِيحَ خُلِقَ مِنْ أَصْلَيْنِ : مِنْ نَفْخِ جِبْرِيلَ وَمِنْ أُمِّهِ مَرْيَمَ وَهَذَا النَّفْخُ لَيْسَ هُوَ النَّفْخَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْجَنِينُ مُضْغَةٌ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْخٌ فِي بَدَنٍ قَدْ خُلِقَ وَجِبْرِيلُ حِينَ نَفَخَ لَمْ يَكُنْ الْمَسِيحُ خُلِقَ بَعْدُ وَلَا كَانَتْ مَرْيَمُ حَمَلَتْ وَإِنَّمَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ النَّفْخِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا } { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } فَلَمَّا نَفَخَ فِيهَا جِبْرِيلُ حَمَلَتْ بِهِ وَلِهَذَا قِيلَ فِي الْمَسِيحِ رُوحٌ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا النَّفْخِ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي هُوَ رُوحُهُ وَهُوَ جِبْرِيلُ هُوَ الرُّوحُ الَّذِي خَاطَبَهَا وَقَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّك لِأَهَبَ لَك غُلَامًا زَكِيًّا فَقَوْلُهُ { فَنَفَخْنَا فِيهَا } أَوْ { فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } أَيْ مِنْ هَذَا الرُّوحِ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ وَعِيسَى رُوحٌ مِنْ هَذَا الرُّوحِ فَهُوَ رُوحٌ مِنْ اللَّهِ بِهَذَا

الِاعْتِبَارِ وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مِنْ أَصْلَيْنِ بِانْقِلَابِ الْمَادَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا إذَا الْتَقَيَا كَانَ بَيْنَهُمَا مَادَّةٌ فَتَنْقَلِبُ وَذَلِكَ لِقُوَّةِ حَكِّ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْصِ أَجْزَائِهَا وَهَذَا مِثْلُ تَوَلُّدِ النَّارِ بَيْنَ الزِّنَادَيْنِ إذَا قُدِحَ الْحَجَرُ بِالْحَدِيدِ أَوْ الشَّجَرُ بِالشَّجَرِ كَالْمَرْخِ وَالْعِفَارِ فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ الْحَرَكَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ قَدْحِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ يَسْتَحِيلُ بَعْضُ أَجْزَائِهِمَا وَيَسْخَنُ الْهَوَاءُ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَيَصِيرُ نَارًا وَالزَّنْدَانِ كُلَّمَا قُدِحَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ نَقَصَتْ أَجْزَاؤُهُمَا بِقُوَّةِ الْحَكِّ فَهَذِهِ النَّارُ اسْتَحَالَتْ عَنْ الْهَوَاءِ وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ بِسَبَبِ قَدْحِ أَحَدِ الزَّنْدَيْنِ بِالْآخَرِ . وَكَذَلِكَ النُّورُ الَّذِي يَحْصُلُ بِسَبَبِ انْعِكَاسِ الشُّعَاعِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمُضِيءَ كَالشَّمْسِ وَالنَّارِ فَإِنَّ لَفْظَ النُّورِ وَالضَّوْءِ يُقَالُ تَارَةً عَلَى الْجِسْمِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ : كَالنَّارِ الَّتِي فِي رَأْسِ الْمِصْبَاحِ وَهَذِهِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَادَّةٍ تَنْقَلِبُ نَارًا كَالْحَطَبِ وَالدُّهْنِ وَيَسْتَحِيلُ الْهَوَاءُ أَيْضًا نَارًا وَلَا يَنْقَلِبُ الْهَوَاءُ أَيْضًا نَارًا إلَّا بِنَقْصِ الْمَادَّةِ الَّتِي اشْتَعَلَتْ أَوْ نَقْصِ الزَّنْدَيْنِ وَتَارَةً يُرَادُ بِلَفْظِ النُّور وَالضَّوْء وَالشُّعَاع : الشُّعَاعُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْحِيطَانِ مِنْ الشَّمْسِ أَوْ مِنْ النَّارِ فَهَذَا عَرَضٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ يَكُونُ قَابِلًا لَهُ فَلَا بُدَّ فِي الشُّعَاعِ مِنْ جِسْمٍ مُضِيءٍ وَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ يُقَابِلُهُ حَتَّى يَنْعَكِسَ عَلَيْهِ الشُّعَاعُ .

وَكَذَلِكَ النَّارُ الْحَاصِلَةُ فِي ذُبَالَةِ الْمِصْبَاحِ إذَا وُضِعَتْ فِي النَّارِ أَوْ وُضِعَ فِيهَا حَطَبٌ فَإِنَّ النَّارَ تُحِيلُ أَوَّلًا الْمَادَّةَ الَّتِي هِيَ الدُّهْنُ أَوْ الْحَطَبُ فَيَسْخَنُ الْهَوَاءُ الْمُحِيطُ بِهَا فَيَنْقَلِبُ نَارًا وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ بَعْدَ نَقْصِ الْمَادَّةِ وَكَذَلِكَ الرِّيحُ الَّتِي تُحَرِّكُ النَّارَ مِثْلَ مَا تَهُبُّ الرِّيحُ فَتَشْتَعِلُ النَّارُ فِي الْحَطَبِ وَمِثْلُ مَا يَنْفُخُ فِي الْكِيرِ وَغَيْرِهِ تَبْقَى الرِّيحُ الْمَنْفُوخَةُ تُضْرِمُ النَّارَ لِمَا فِي مَحَلِّ النَّارِ كَالْخَشَبِ وَالْفَحْمِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِانْقِلَابِهِ نَارًا وَمَا فِي حَرَكَةِ الرِّيحِ الْقَوِيَّةِ مِنْ تَحْرِيكِ النَّارِ إلَى الْمَحَلِّ الْقَابِلِ لَهُ وَقَدْ يَنْقَلِبُ أَيْضًا الْهَوَاءُ الْقَرِيبُ مِنْ النَّارِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَبَ هُوَ الْهَوَاءُ انْقَلَبَ نَارًا مِثْلَ مَا فِي ذُبَالَةِ الْمِصْبَاحِ وَلِهَذَا إذَا طفئت صَارَ دُخَانًا وَهُوَ هَوَاءٌ مُخْتَلِطٌ بِنَارٍ كَالْبُخَارِ وَهُوَ هَوَاءٌ مُخْتَلِطٌ بِمَاءِ وَالْغُبَارُ هَوَاءٌ مُخْتَلِطٌ بِتُرَابِ .
وَقَدْ يُسَمَّى الْبُخَارُ دُخَانًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : بُخَارُ الْمَاءِ كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ : { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ } وَهُوَ الدُّخَانُ . فَإِنَّ الدُّخَانَ الْهَوَاءُ الْمُخْتَلِطُ بِشَيْءٍ حَارٍّ ثُمَّ قَدْ لَا يَكُونُ فِيهِ مَاءٌ وَهُوَ الدُّخَانُ الصِّرْفُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَاءٌ فَهُوَ دُخَانٌ وَهُوَ بُخَارٌ كَبُخَارِ الْقِدْرِ . وَقَدْ يُسَمَّى الدُّخَانُ بُخَارًا . فَيُقَالُ لِمَنْ اسْتَجْمَرَ بِالطِّيبِ تَبَخَّرَ وَإِنْ كَانَ لَا رُطُوبَةَ هُنَا بَلْ دُخَانٌ الطِّيبِ سُمِّيَ بُخَارًا . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : بُخَارُ الْمَاءِ مَا يَرْتَفِعُ مِنْهُ كَالدُّخَانِ وَالْبَخُورِ بِالْفَتْحِ مَا يتبخر بِهِ ؛ لَكِنْ إنَّمَا يَصِيرُ الْهَوَاءُ نَارًا

بَعْدَ أَنْ تَذْهَبَ الْمَادَّةُ الَّتِي انْقَلَبَتْ نَارًا . كَالْحَطَبِ وَالدُّهْنِ فَلَمْ تَتَوَلَّدْ النَّارُ إلَّا مِنْ مَادَّةٍ كَمَا لَمْ يَتَوَلَّدْ الْحَيَوَانُ إلَّا مِنْ مَادَّةٍ .
فَصْلٌ :
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ التَّوَلُّدِ مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْلَيْنِ وَمِنْ انْفِصَالِ جُزْءٍ مِنْ الْأَصْلِ . وَإِذَا قِيلَ فِي الشِّبَعِ وَالرِّيِّ : إنَّهُ مُتَوَلِّدٌ أَوْ فِي زُهُوقِ الرُّوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَاضِ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ فَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ أَصْلَيْنِ لَكِنَّ الْعَرْضَ يَحْتَاجُ إلَى مَحَلٍّ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَادَّةٍ تَنْقَلِبُ عَرَضًا : بِخِلَافِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تُخْلَقُ مِنْ مَوَادَّ تَنْقَلِبُ أَجْسَامًا كَمَا تَنْقَلِبُ إلَى نَوْعٍ آخَرَ كَانْقِلَابِ الْمَنِيِّ عَلَقَةً . ثُمَّ مُضْغَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ . وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ : كَخَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ الضِّلَعِ الْقُصْرَى لِآدَمَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ مَادَّةٍ أُخِذَتْ مِنْ آدَمَ فَلَا يُسَمَّى هَذَا تَوَلُّدًا ؛ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ : إنَّ آدَمَ وَلَدَ حَوَّاءَ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ أَبُو حَوَّاءَ بَلْ خَلَقَ اللَّهُ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ الطِّينِ .

وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَيُقَالُ : إنَّهُ وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ وَيُقَالُ : الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَكَانَ الْمَسِيحُ جُزْءًا مِنْ مَرْيَمَ وَخُلِقَ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي فَرْجِ مَرْيَمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } وَفِي الْأُخْرَى : { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } وَأَمَّا حَوَّاءُ فَخَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ مَادَّةٍ أُخِذَتْ مِنْ آدَمَ كَمَا خُلِقَ آدَمَ مِنْ الْمَادَّةِ الْأَرْضِيَّةِ وَهِيَ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ وَالرِّيحُ الَّذِي أَيْبَسَتْهُ حَتَّى صَارَ صَلْصَالًا فَلِهَذَا لَا يُقَالُ إنَّ آدَمَ وَلَدَ حَوَّاءَ وَلَا آدَمَ وَلَدَهُ التُّرَابُ وَيُقَالُ فِي الْمَسِيحِ : وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلَيْنِ مِنْ مَرْيَمَ وَمِنْ النَّفْخِ الَّذِي نَفَخَ فِيهَا جِبْرِيلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } { قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا } { قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا } { قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } { قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ . فَهِيَ إنَّمَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ النَّفْخِ لَمْ تَحْمِلْ بِهِ مُدَّةً بِلَا نَفْخٍ ثُمَّ نُفِخَتْ فِيهِ رُوحُ الْحَيَاةِ كَسَائِرِ الْآدَمِيِّينَ فَفَرْقٌ بَيْنَ النَّفْخِ لِلْحَمْلِ وَبَيْنَ النَّفْخِ لِرُوحِ الْحَيَاةِ .

فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُقَالُ إنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا فَلَا يَكُونُ إلَّا مِنْ مَادَّةٍ تَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ الْوَالِدِ وَلَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَصْلَيْنِ وَالرَّبُّ تَعَالَى صَمَدٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَاحِبَةً فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ . وَأَمَّا مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ تَوَلُّدِ الْأَعْرَاضِ . كَمَا يُقَالُ : تَوَلَّدَ الشُّعَاعُ وَتَوَلَّدَ الْعِلْمُ عَنْ الْفِكْرِ وَتَوَلَّدَ الشِّبَعُ عَنْ الْأَكْلِ وَتَوَلَّدَتْ الْحَرَارَةُ عَنْ الْحَرَكَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ تَوَلُّدِ الْأَعْيَانِ ؛ مَعَ أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلَيْنِ . وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ النَّصَارَى إنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ - مُسْتَلْزِمًا لَأَنْ يَقُولُوا : إنَّ مَرْيَمَ صَاحِبَةُ اللَّهِ فَيَجْعَلُونَ لَهُ زَوْجَةً وَصَاحِبَةً كَمَا جَعَلُوا لَهُ وَلَدًا وَبِأَيِّ مَعْنًى فَسَّرُوا كَوْنَهُ ابْنَهُ فَإِنَّهُ يُفَسِّرُ الزَّوْجَةَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَالْأَدِلَّةُ الْمُوجِبَةُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الصَّاحِبَةِ تُوجِبُ تَنْزِيهَهُ عَنْ الْوَلَدِ فَإِذَا كَانُوا يَصِفُونَهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ اتِّصَافِهِ بِهِ كَانَ اتِّصَافُهُ بِمَا هُوَ أَقَلُّ بُعْدًا لَازِمًا لَهُمْ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى .
فَصْلٌ :
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ مَا نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ وَنَفَاهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } وَبِقَوْلِهِ : { أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ } { وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ

لَكَاذِبُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ كَمَا أَنَّ مَا نَفَاهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ يَعُمُّ أَيْضًا جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاتِّخَاذَاتِ الاصطفائية كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } . قَالَ السدي : قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَى إسْرَائِيلَ أَنَّ وَلَدَك بِكْرِيٍّ مِنْ الْوَلَدِ فَأُدْخِلُهُمْ النَّارَ فَيَكُونُونَ فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى تُطَهِّرَهُمْ وَتَأْكُلَ خَطَايَاهُمْ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَخْرِجُوا كُلَّ مَخْتُونٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ } وَقَالَ : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } وَقَالَ : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } وَقَالَ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ }

{ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } وَقَالَ : { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } وَقَالَ : { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا } { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلَّا نُفُورًا } { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } وَقَالَ : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } { أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ } { أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ } { وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } { أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } { فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } { مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } { إلَّا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ } وَقَالَ : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } { وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } { تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } { إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ

سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } . قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : { جُزْءًا } أَيْ نَصِيبًا وَبَعْضًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا مِنْ الْوَلَدِ وَعَنْ قتادة وَمُقَاتِلٍ عِدْلًا . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَالْوَلَدُ يُشْبِهُ أَبَاهُ وَلِهَذَا قَالَ : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا } أَيْ الْبَنَاتِ . كَمَا فَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى } فَقَدْ جَعَلُوهَا لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا فَإِنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْوَالِدِ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي } وَقَوْلُهُ : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } قَالَ الْكَلْبِيُّ نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ وَإِبْلِيسَ شَرِيكَانِ فَاَللَّهُ خَالِقُ النُّورِ وَالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ . وَإِبْلِيسُ خَالِقُ الظُّلْمَةِ وَالسِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } فَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُمْ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَسَمَّى الْمَلَائِكَةَ جِنًّا لِاجْتِنَانِهِمْ عَنْ الْأَبْصَارِ . وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وقتادة وَقِيلَ قَالُوا لِحَيٍّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمْ الْجِنُّ

وَمِنْهُمْ إبْلِيسُ وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ قَالُوا - لَعَنَهُمْ اللَّهُ - بَلْ تَزَوَّجَ مِنْ الْجِنِّ فَخَرَجَ بَيْنَهُمَا الْمَلَائِكَةُ . وَقَوْلُهُ : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ كَالثَّعْلَبِيِّ وَهُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ قَالُوا الْمَلَائِكَةُ وَالْأَصْنَامُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْيَهُودُ قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَالنَّصَارَى قَالُوا الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ مِنْ الْعَرَبِ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُ صَاهَرَ الْجِنَّ فَوَلَدَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةَ فَقَدْ نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِامْتِنَاعِ الصَّاحِبَةِ وَبِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ جُزْءٌ فَإِنَّهُ صَمَدٌ وَقَوْلُهُ : { وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ } . وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ أَصْلَيْنِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ تَوَلُّدُ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُسَمَّى الْجَوَاهِرَ وَتَوَلُّدُ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ بَلْ وَلَا يَكُونُ تَوَلُّدُ الْأَعْيَانِ إلَّا بِانْفِصَالِ جُزْءٍ مِنْ الْوَالِدِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَاحِبَةً امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَقَدْ عَلِمُوا كُلَّهُمْ أَنْ لَا صَاحِبَةَ لَهُ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنْ الْجِنِّ وَلَا مِنْ الْإِنْسِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ لَهُ صَاحِبَةً فَلِهَذَا احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ كُفَّارِ الْعَرَبِ أَنَّهُ صَاهَرَ الْجِنَّ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَذَلِكَ

إنْ كَانَ قَدْ قِيلَ : فَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ انْتِفَاؤُهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَكَذَلِكَ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى : مِنْ أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ وَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْيَهُودِ أَنَّ الْعُزَيْرَ ابْنُ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَدْ نَفَاهُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا وَبِهَذَا . فَإِنْ قِيلَ : أَمَّا عَوَامُّ النَّصَارَى فَلَا تَنْضَبِطُ أَقْوَالُهُمْ وَأَمَّا الْمَوْجُودُ فِي كَلَامِ عُلَمَائِهِمْ وَكُتُبِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : أَنَّ أُقْنُومَ الْكَلِمَةُ وَيُسَمُّونَهَا الِابْنَ تَدْرَعُ الْمَسِيحَ أَيْ اتَّخَذَهُ دِرْعًا كَمَا يَتَدَرَّعُ الْإِنْسَانَ قَمِيصَهُ فَاللَّاهُوتُ تَدْرَعُ النَّاسُوتَ وَيَقُولُونَ : بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ قِيلَ قَصْدُهُمْ أَنَّ الرَّبَّ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ فَالْمَوْجُودُ هُوَ الْأَبُ وَالْعِلْمُ هُوَ الِابْنُ وَالْحَيَاةُ هُوَ رُوحُ الْقُدُسِ هَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ مَوْجُودٌ عَالِمٌ قَادِرٌ وَيَقُولُ الْعِلْمُ هُوَ الْكَلِمَةُ وَهُوَ الْمُتَدَرِّعُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ رُوحُ الْقُدُسِ ؛ فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي أَنَّ الْمُتَدَرِّعَ هُوَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَهِيَ الِابْنُ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي التَّدَرُّعِ وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُمَا جَوْهَرٌ أَوْ جوهران ؟ وَهَلْ لَهُمَا مَشِيئَةٌ أَوْ مَشِيئَتَانِ وَلَهُمْ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ كَلَامٌ مُضْطَرِبٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ . فَإِنَّ مُقَالَةَ النَّصَارَى فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ مَا يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ مَأْخُوذًا عَنْ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلَا هُوَ مُوَافِقٌ لِعُقُولِ الْعُقَلَاءِ فَقَالَتْ الْيَعْقُوبِيَّةُ صَارَ جَوْهَرًا وَاحِدًا وَطَبِيعَةً وَاحِدَةً وَأُقْنُومًا وَاحِدًا كَالْمَاءِ فِي اللَّبَنِ . وَقَالَتْ

النسطورية : بَلْ هُمَا جوهران وَطَبِيعَتَانِ وَمَشِيئَتَانِ ؛ لَكِنْ حَلَّ اللَّاهُوتُ فِي النَّاسُوتِ حُلُولَ الْمَاءِ فِي الظَّرْفِ . وَقَالَتْ الْمَلَكِيَّةُ : بَلْ هُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ مَشِيئَتَانِ وَطَبِيعَتَانِ أَوْ فِعْلَانِ كَالنَّارِ فِي الْحَدِيدِ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } هُمْ الْيَعْقُوبِيَّةُ وَفِي قَوْلِهِ : { وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } هُمْ الْمَلَكِيَّةُ وَقَوْلِهِ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } هُمْ النسطورية وَلَيْسَ بِشَيْءِ بَلْ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ تَقُولُ الْمَقَالَاتِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ النَّصَارَى فَكُلُّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ اللَّهُ وَيَقُولُونَ : إنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ فِي أَمَانَتِهِمْ الَّتِي هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا يَقُولُونَ إلَهٌ حَقٌّ مِنْ إلَهٍ حَقٍّ وَأَمَّا قَوْلُهُ : " ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْلِهِ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ النَّصَارَى قَالُوا بِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَعِيسَى وَمَرْيَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَهٌ وَذُكِرَ عَنْ الزَّجَّاجِ : الْغُلُوُّ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي الظُّلْمِ وَغُلُوُّ النَّصَارَى فِي عِيسَى قَوْلُ بَعْضِهِمْ هُوَ اللَّهُ وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ هُوَ

ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ . فَعُلَمَاءُ النَّصَارَى الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَهُمْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ الِابْنُ وَالْفِرَقُ الثَّلَاثُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَفَسَادُ قَوْلِهِمْ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ تَسْمِيَةُ صِفَةِ اللَّهِ ابْنًا لَا كَلَامُهُ وَلَا غَيْرُهُ فَتَسْمِيَتُهُمْ صِفَةُ اللَّهِ ابْنًا تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ الْمَسِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَمَدُوا النَّاس بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ لَمْ يُرِدْ بِالِابْنِ صِفَةَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ كَلِمَتُهُ وَلَا بِرُوحِ الْقُدُسِ حَيَاتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ إرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِابْنُ أَهِيَ صِفَةُ اللَّهِ قَائِمَةٌ بِهِ أَمْ هِيَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ؟ فَإِنْ كَانَتْ صِفَتَهُ بَطَلَ مَذْهَبُهُمْ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الصِّفَةَ لَا تَكُونُ إلَهًا يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ إلَهٌ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا كَانَ الَّذِي تَدْرَعُهُ لَيْسَ بِإِلَهِ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ إلَهًا . الثَّانِي : أَنَّ الصِّفَةَ لَا تَقُومُ بِغَيْرِ الْمَوْصُوفِ فَلَا تُفَارِقُهُ وَإِنْ قَالُوا : نَزَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ قَالُوا : إنَّهُ الْكَلِمَةُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْن سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ .

الثَّالِثُ : أَنَّ الصِّفَةَ لَا تَتَّحِدُ وَتَتَدَرَّعُ شَيْئًا إلَّا مَعَ الْمَوْصُوفِ فَيَكُونُ الْأَبُ نَفْسُهُ هُوَ الْمَسِيحَ وَالنَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْأَبُ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ مُتَنَاقِضٌ : يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا يَجْعَلُونَهُ إلَهًا يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَلَا يَجْعَلُونَهُ الْأَبَ الَّذِي هُوَ الْإِلَهُ وَيَقُولُونَ : إلَهٌ وَاحِدٌ وَقَدْ شَبَّهَهُ بَعْضُ مُتَكَلِّمِيهِمْ كَيَحْيَى بْنِ عَدِيٍّ بِالرَّجُلِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ طَبِيبٌ وَحَاسِبٌ وَكَاتِبٌ وَلَهُ بِكُلِّ صِفَةٍ حَكَمٌ فَيُقَالُ : هَذَا حَقٌّ لَكِنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ نَظِيرُ هَذَا فَإِذَا قُلْتُمْ أَنَّ الرَّبَّ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَالِمٌ وَلَهُ بِكُلِّ صِفَةٍ حُكْمٌ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَّحِدَ إنْ كَانَ هُوَ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ فَالصِّفَاتُ كُلُّهَا تَابِعَةٌ لَهَا فَإِنَّهُ إذَا تَدَرَّعَ زَيْدٌ الطَّبِيبُ الْحَاسِبُ الْكَاتِبُ دِرْعًا كَانَتْ الصِّفَاتُ كُلُّهَا قَائِمَةً بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَدَرِّعُ صِفَةً دُونَ صِفَةٍ عَادَ الْمَحْذُورُ . وَإِنْ قَالُوا : الْمُتَدَرِّعُ الذَّاتُ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ لَزِمَ افْتِرَاقُ الصِّفَتَيْنِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ ؛ فَإِنَّ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةَ بِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ وَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ لَا تَفْتَرِقُ وَصِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يُمْكِنُ عَدَمُ بَعْضِهَا مَعَ بَقَاءِ الْبَاقِي بِخِلَافِ صِفَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . الرَّابِعُ : إنَّ الْمَسِيحَ نَفْسَهُ لَيْسَ هُوَ كَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَا شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَسَمِّي كَلِمَةً لِأَنَّهُ خُلِقَ بكن مِنْ غَيْرِ الْحَبْلِ الْمُعْتَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ عِيسَى

ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نَفْسَهُ كَلَامُ اللَّهِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ كَلَامِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ خَالِقًا وَلَا رَبًّا وَلَا إلَهًا . فَالنَّصَارَى إذَا قَالُوا : إنَّ الْمَسِيحَ هُوَ الْخَالِقُ كَانُوا ضَالِّينَ مِنْ جِهَةِ جَعْلِ الصِّفَةِ خَالِقَةً وَمِنْ جِهَةِ جَعْلِهِ هُوَ نَفْسَ الصِّفَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مَخْلُوقٌ بِالْكَلِمَةِ ثُمَّ قَوْلُهُمْ بِالتَّثْلِيثِ وَأَنَّ الصِّفَاتِ ثَلَاثٌ بَاطِلٌ وَقَوْلُهُمْ أَيْضًا : بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بَاطِلٌ . فَقَوْلُهُمْ يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا . فَلَوْ قَالُوا : إنَّ الرَّبَّ لَهُ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا اتِّحَادًا وَلَا حُلُولًا كَانَ هَذَا قَوْلَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ . وَإِنْ قَالُوا : إنَّ الصِّفَاتِ أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فَهَذَا مُكَابَرَةٌ فَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ . وَأَيْضًا فَجَعْلُهُمْ عَدَدَ الصِّفَاتِ ثَلَاثَةً بَاطِلٌ فَإِنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ . وَالْأَقَانِيمُ عِنْدَهُمْ الَّتِي جَعَلُوهَا الصِّفَاتِ لَيْسَتْ إلَّا ثَلَاثَةً ؛ وَلِهَذَا تَارَةً يُفَسِّرُونَهَا بِالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَتَارَةً يُفَسِّرُونَهَا بِالْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَاضْطِرَابهمْ كَثِيرٌ . فَإِنَّ قَوْلَهُمْ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ وَلَا يَضْبُطُهُ عَقْلُ عَاقِلٍ وَلِهَذَا يُقَالُ : لَوْ اجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنْ النَّصَارَى لَافْتَرَقُوا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا

وَأَيْضًا فَكَلِمَاتُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا . كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ النَّاسِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ لَكِنْ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ حَادِثًا وَقَوْلُ مَنْ قَالَ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ فِي غَيْرِهِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : كَلَامُهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ قَدِيمُ الْعَيْنِ فَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ أُمُورٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا مَعَ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ وَلَكِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْهُ مُتَعَدِّدَةٌ وَهَؤُلَاءِ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَائِمًا بِغَيْرِ اللَّهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ الْعِبَارَاتُ الْمَخْلُوقَةُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ غَيْرَ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَشَدُّ امْتِنَاعًا ؛ لِأَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ وَالْمَسِيحُ لَيْسَ هُوَ جَمِيعَهَا بَلْ وَلَا مَخْلُوقًا بِجَمِيعِهَا وَإِنَّمَا خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنْهَا وَلَيْسَ هُوَ عَيْنُ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْمَسِيحُ عَيْنٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : تَسْمِيَتُكُمْ الْعِلْمَ وَالْكَلِمَةَ وَلَدًا وَابْنًا تَسْمِيَةٌ بَاطِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَالُوا : لِأَنَّ الذَّاتَ

يَتَوَلَّدُ عَنْهَا الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ كَمَا يَتَوَلَّدُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِ الرَّجُلِ الْعَالِمِ مِنْهَا فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَاتِهِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ وَالْكَلَامُ فَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْكَلِمَةُ ابْنًا قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ صِفَاتِنَا حَادِثَةٌ تَحْدُثُ بِسَبَبِ تَعَلُّمِنَا وَنَظَرِنَا وَفِكْرِنَا وَاسْتِدْلَالِنَا وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ وَعِلْمُهُ فَهُوَ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ بِالتَّوَلُّدِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لَازِمَةٌ لِمَوْصُوفِهَا مُتَوَلِّدَةٌ عَنْهُ وَهِيَ ابْنُ لَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْأُمُورَ فِي الْعُقُولِ وَاللُّغَاتِ فَإِنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ وَنُطْقَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ لَا يُقَالُ إنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ عَنْهُ وَإِنَّهَا ابْنٌ لَهُ وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَيَاةُ الرَّبِّ أَيْضًا ابْنَهُ وَمُتَوَلِّدَةَ وَكَذَلِكَ قُدْرَتُهُ وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَوَلُّدِ الْعِلْمِ وَتَوَلُّدِ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ . وَثَانِيهَا أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ مِنْ بَابِ تَوَلُّدِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْأَصْلِ جُزْءٌ وَأَمَّا عِلْمُنَا وَقَوْلُنَا فَلَيْسَ عَيْنًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ صِفَةً قَائِمَةً بِمَوْصُوفِ وَعَرَضًا قَائِمًا فِي مَحَلٍّ كَعِلْمِنَا وَكَلَامِنَا فَذَاكَ أَيْضًا لَا يَتَوَلَّدُ إلَّا عَنْ أَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَتَوَلَّدُ فِيهِ . وَالْوَاحِدُ مِنَّا لَا يَحْدُثُ لَهُ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ إلَّا بِمُقَدِّمَاتٍ تَتَقَدَّمُ عَلَى ذَلِكَ وَتَكُونُ أُصُولًا لِلْفُرُوعِ وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ فِي مَحَلٍّ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ .

فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ عِلْمَ الرَّبِّ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَصِيرَ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا وَأَنْ تَصِيرَ ذَاتُهُ مُتَكَلِّمَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ كُفْرٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ فَإِنَّ الذَّاتَ الَّتِي لَا تَكُونُ عَالِمَةً يَمْتَنِعُ أَنْ تَجْعَلَ نَفْسَهَا عَالِمَةً بِلَا أَحَدٍ يُعَلِّمُهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّمًا مِنْ خَلْقِهِ وَكَذَلِكَ الذَّاتُ الَّتِي تَكُونُ عَاجِزَةً عَنْ الْكَلَامِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَصِيرَ قَادِرَةً عَلَيْهِ بِلَا أَحَدٍ يَجْعَلُهَا قَادِرَةً وَالْوَاحِدُ مِنْهَا لَا يُوَلِّدُ جَمِيعَ عُلُومِهِ بَلْ ثَمَّ عُلُومٌ خُلِقَتْ فِيهِ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهَا فَإِذَا نَظَرَ فِيهَا حَصَلَتْ لَهُ عُلُومٌ أُخْرَى . فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ : إنَّ الْإِنْسَانَ يُوَلِّدُ عُلُومَهُ كُلَّهَا وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّهُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مُتَكَلِّمَةً بَعْد أَنْ لَمْ تَكُنْ مُتَكَلِّمَةً بَلْ الَّذِي يُقَدِّرُهُ عَلَى النُّطْقِ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ . فَإِنْ قَالُوا : إنَّ الرَّبَّ يُوَلِّدُ بَعْضَ عِلْمِهِ وَبَعْضَ كَلَامِهِ دُونَ بَعْضٍ : بَطَلَ تَسْمِيَةُ الْعِلْمِ - الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ مُطْلَقًا - الِابْنَ وَصَارَ لَفْظُ الِابْنِ إنَّمَا يُسَمَّى بِهِ بَعْضُ عِلْمِهِ أَوْ بَعْضُ كَلَامِهِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ الْكَلِمَةُ وَهُوَ أُقْنُومُ الْعِلْمِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لَيْسَ مُتَوَلِّدًا عَنْهُ كُلِّهِ وَلَا يُسَمَّى كُلَّهُ ابْنًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . وَثَالِثُهَا أَنْ يُقَالَ : تَسْمِيَةُ عِلْمِ الْعَالِمِ وَكَلَامِهِ وَلَدًا لَهُ لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ اللُّغَاتِ الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ فَإِنَّ عِلْمَهُ وَكَلَامَهُ كَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ فَإِنْ

جَازَ هَذَا جَازَ تَسْمِيَةُ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ كُلِّهَا الْحَادِثَةِ مُتَوَلِّدَاتٍ عَنْهُ لَهُ وَتَسْمِيَتُهَا أَبْنَاءَهُ وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْقَدَرِيَّةِ . إنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالنَّظَرِ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ إنَّ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ مُتَوَلِّدٌ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يَقُولُ إنَّ الْعِلْمَ ابْنُهُ وَوَلَدُهُ كَمَا لَا يَقُولُ إنَّ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ ابْنُهُ وَلَا وَلَدَهُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَوَلُّدِ الْأَعْرَاضِ وَالْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِالْإِنْسَانِ وَتِلْكَ لَا يُقَالُ إنَّهَا أَوْلَادُهُ وَأَبْنَاؤُهُ . وَمَنْ اسْتَعَارَ فَقَالَ بُنَيَّاتُ فِكْرِهِ فَهُوَ كَمَا يُقَالُ بُنَيَّاتُ الطَّرِيقِ وَيُقَالُ ابْنُ السَّبِيلِ وَيُقَالُ لِطَيْرِ الْمَاءِ ابْنُ مَاءٍ وَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ مُقَيَّدَةٌ قَدْ عُرِفَ أَنَّهَا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَأَيْضًا فَكَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ابْنًا فَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا مِمَّا يُقِرُّ بِهِ عُلَمَاءُ النَّصَارَى وَمَا وُجِدَ عِنْدَهُمْ مِنْ لَفْظِ الِابْنِ فِي حَقِّ الْمَسِيحِ وَإِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمَا فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَخْلُوقِ لَا لِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُكَرَّمٌ مُعْظَمٌ . وَرَابِعُهَا : أَنْ يُقَالَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي حَصَلَ لِلْمَسِيحِ إنْ كَانَ هُوَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ مِنْ عِلْمِهِ وَكَلَامِهِ فَهَذَا مَوْجُودٌ لِسَائِرِ النَّبِيِّينَ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِ بِكَوْنِهِ ابْنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْكَلَامَ إلَهٌ اتَّحَدَ بِهِ فَيَكُونُ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَبَ فَيَكُونُ الْمَسِيحُ هُوَ الْأَبَ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ جَوْهَرًا آخَرَ فَيَكُونُ إلَهَانِ قَائِمَانِ

بِأَنْفُسِهِمَا فَتَبَيَّنَ فَسَادَ مَا قَالُوهُ بِكُلِّ وَجْهٍ .
وَخَامِسُهَا : أَنْ يُقَالَ : مِنْ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي خُصَّ بِهِ الْمَسِيحُ إنَّمَا هُوَ أَنْ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَب فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ مِنْ الْبَشَرِ جَعَلَ النَّصَارَى الرَّبَّ أَبَاهُ وَبِهَذَا نَاظَرَ نَصَارَى نَجْرَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : إنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ فَقُلْ لَنَا مَنْ أَبُوهُ ؟ فَعُلِمَ أَنَّ النَّصَارَى إنَّمَا ادَّعَوْا فِيهِ الْبُنُوَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ وَأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ كَلَامِ عُلَمَائِهِمْ هُوَ تَأْوِيلٌ مِنْهُمْ لِلْمَذْهَبِ لِيُزِيلُوا بِهِ الشَّنَاعَةَ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا عَاقِلٌ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي جَعْلِهِ ابْنَ اللَّهِ وَجْهٌ يَخْتَصُّ بِهِ مَعْقُولٌ فَعُلِمَ أَنَّ النَّصَارَى جَعَلُوهُ ابْنَ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَحْبَلَ مَرْيَمَ وَاَللَّه هُوَ أَبُوهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِنْزَالِ جُزْءٍ مِنْهُ فِيهَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ الصَّمَدُ وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ صَاحِبَةً وَزَوْجَةً لَهُ وَلِهَذَا يتألهونها كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَأَيُّ مَعْنًى ذَكَرُوهُ فِي بُنُوَّةِ عِيسَى غَيْرَ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ عِيسَى وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلَا صَارَ فِيهِ مَعْنَى الْبُنُوَّةِ بَلْ قَالُوا : كَمَا قَالَ بَعْضُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إنَّهُ صَاهَرَ الْجِنَّ فَوَلَدَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةَ وَإِذَا قَالُوا : اتَّخَذَهُ ابْنًا عَلَى سَبِيلِ الِاصْطِفَاءِ فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْفِعْلِيُّ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إبْطَالُهُ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرُوحٌ مِنْهُ } لَيْسَ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ اللَّهِ صَارَ فِي عِيسَى بَلْ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا قَالَ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ

وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَقَالَ : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وَمَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ أَوْ قِيلَ هُوَ مِنْهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ إنْ كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا } وَقَالَ فِي الْمَسِيحِ : { وَرُوحٌ مِنْهُ } وَمَا كَانَ صِفَةً لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ كَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فَهُوَ صِفَةٌ لَهُ كَمَا يُقَالُ كَلَامُ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَأَلْفَاظُ الْمَصَادِرِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَفْعُولِ فَيُسَمَّى الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا وَالْمَقْدُورُ قُدْرَةً وَالْمَرْحُومُ بِهِ رَحْمَةً وَالْمَخْلُوقُ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةً فَإِذَا قِيلَ فِي الْمَسِيحِ : إنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ خُلِقَ بِكَلِمَةِ قَوْلِهِ كُنْ وَلَمْ يُخْلَقْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مِنْ الْبَشَرِ وَإِلَّا فَعِيسَى بَشَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا صِفَةً لِلْمُتَكَلِّمِ يَقُومُ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ عَنْ الْمَخْلُوقِ : إنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ . فَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ كَوْنُهُ بِأَمْرِهِ كَقَوْلِهِ : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } وَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } فَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَدٌ صَمَدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَعَّضَ وَيَتَجَزَّأَ فَيَصِيرُ بَعْضُهُ فِي غَيْرِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ ذَلِكَ رُوحًا أَوْ غَيْرُهُ فَبَطَلَ مَا يَتَوَهَّمُهُ النَّصَارَى مِنْ كَوْنِهِ ابْنًا لَهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ . وَقَدْ قِيلَ : مَنْشَأُ ضَلَالِ الْقَوْمِ أَنَّهُ كَانَ فِي لُغَةِ مَنْ قَبْلَنَا يُعَبَّرُ عَنْ

الرَّبِّ بِالْأَبِ وَبِالِابْنِ عَنْ الْعَبْدِ الْمُرَبَّى الَّذِي يَرُبُّهُ اللَّهُ وَيُرَبِّيهِ فَقَالَ الْمَسِيحُ : عَمَدُوا النَّاس بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُوا بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ الْمَسِيحِ وَيُؤْمِنُوا بِرُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ . فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَلَكِيِّ وَرَسُولِهِ الْبَشَرِيِّ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى : فِي غَيْرِ آيَةٍ أَنَّهُ أَيَّدَ الْمَسِيحَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ ؛ بَلْ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة وَالضَّحَّاكِ والسدي وَغَيْرِهِمْ وَدَلِيلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ الْإِنْجِيلُ . وَقَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ تَعَالَى : { يُنَزِّلُ

الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فَمَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ مِمَّا تَحْيَا بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ الْخَالِصِ يُسَمِّيهِ رُوحًا وَهُوَ مَا يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ فَكَيْفَ بِالْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ وَالْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَذَا مِنْ جُمْهُورِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وَقَدْ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي تَأْيِيدِهِ بِرُوحِ الْقُدُسِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَيَّدَهُ بِهِ لِإِظْهَارِ أَمْرِهِ وَدِينِهِ . الثَّانِي : لِدَفْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْهُ إذْ أَرَادُوا قَتْلَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَيَّدَهُ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الِابْنِ فِي لُغَتِهِمْ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْمَسِيحِ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي التَّوْرَاةِ لِإِسْرَائِيلَ : أَنْتَ ابْنِي بِكْرِيّ وَالْمَسِيحُ كَانَ يَقُولُ أَبِي وَأَبُوكُمْ فَيَجْعَلُهُ أَبًا لِلْجَمِيعِ وَيُسَمِّي غَيْرَهُ ابْنًا لَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ لِلْمَسِيحِ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ : هُوَ ابْنُهُ بِالطَّبْعِ وَغَيْرُهُ ابْنُهُ بِالْوَضْعِ فَيُفَرِّقُونَ فَرْقًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَوْلُهُمْ هُوَ ابْنُهُ بِالطَّبْعِ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَالَاتِ عَقْلًا وَسَمْعًا مَا يَبِينُ بُطْلَانُهُ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ صَدَرَ عَنْ عِلَّةٍ مُوجَبَةٍ بِذَاتِهِ وَأَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ عَقْلٌ ثُمَّ عَقْلٌ ثُمَّ عَقْلٌ إلَى تَمَامِ عَشَرَةِ عُقُولٍ وَتِسْعَةِ أَنْفُسٍ . وَقَدْ يَجْعَلُونَ الْعَقْلَ بِمَنْزِلَةِ الذَّكَرِ وَالنَّفْسَ بِمَنْزِلَةِ الْأُنْثَى فَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى فَسَادِهِ أَبْلَغُ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَقِدَمِ هَذِهِ الرُّوحَانِيَّاتِ الَّتِي يُثْبِتُونَهَا وَيُسَمُّونَهَا الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ وَالْجَوَاهِرَ الْعَقْلِيَّةَ وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَمَا كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا إلَّا مَا كَانَ حَادِثًا وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ بَدِيهِيَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ وَعَلَيْهَا الْأَوَّلُونَ والآخرون مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ وَلِهَذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْأُمَمِ يَقُولُونَ كُلُّ مُمْكِنٍ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ لَا يُوجَدَ فَلَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَإِنَّمَا ادَّعَى وُجُودَ مُمْكِنٍ قَدِيمٍ مَعْلُولٍ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : كَابْنِ سِينَا وَمَنْ وَافَقَهُ : زَعَمُوا أَنَّ الْفَلَكَ

قَدِيمٌ مَعْلُولٌ لِعِلَّةٍ قَدِيمَةٍ . وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ الْقُدَمَاءُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَقُولُ بِحُدُوثِ الْفَلَكِ وَهُمْ جُمْهُورُهُمْ وَمَنْ كَانَ قَبْلَ أَرِسْطُو فَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ لِأَهْلِ الْمِلَلِ وَمَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْفَلَكِ كَأَرِسْطُو وَشِيعَتِهِ فَإِنَّمَا يُثْبِتُونَ لَهُ عِلَّةً غائية يَتَشَبَّهُ الْفَلَكُ بِهَا لَا يُثْبِتُونَ لَهُ عِلَّةً فَاعِلَةً وَمَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْفَلَكِ كُلُّ ذَلِكَ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ عِلَّةٌ غائية وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ قَوْلَ أُولَئِكَ . الثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ وَيَعْنُونَ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ أَصْلًا وَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ تَرْكِيبٌ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : لَا يَكُونُ فَاعِلًا وَقَابِلًا لِأَنَّ جِهَةَ الْفِعْلِ غَيْرُ جِهَةِ الْقَبُولِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدَ الصِّفَةِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتَّرْكِيبِ وَمَعَ هَذَا يَقُولُونَ : إنَّهُ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَقْلٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ وَيَقُولُونَ : إنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ هِيَ الصِّفَةُ الْأُخْرَى وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفُ وَالْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَهُوَ الْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ هُوَ الْعَالَمُ وَهُوَ الْقَادِرُ . وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْعِلْمُ هُوَ الْمَعْلُومُ فَإِذَا تَصَوَّرَ الْعَاقِلُ أَقْوَالَهُمْ حَقَّ التَّصَوُّرِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ الَّذِي أَثْبَتُوهُ لَا يُتَصَوَّرُ

وُجُودُهُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَبُيِّنَ فَسَادُ مَا يَقُولُونَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَبُيِّنَ فَسَادُ شُبَهِ التَّرْكِيبِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَصْلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ : " إنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ " أَصْلٌ فَاسِدٌ . الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُمْ بِصُدُورِ الْأَشْيَاءِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْكَثْرَةِ وَالْحُدُوثِ عَنْ وَاحِدٍ بَسِيطٍ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ فِي الْعَالِمِ وَاحِدٌ بَسِيطٌ صَدَرَ عَنْهُ شَيْءٌ لَا وَاحِدٌ وَلَا اثْنَانِ فَهَذِهِ الدَّعْوَى الْكُلِّيَّةُ لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهَا فِي شَيْءٍ أَصْلًا . الْخَامِسُ : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ صَدَرَ عَنْهُ وَاحِدٌ وَعَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ عَقْلٌ وَنَفْسٌ وَفَلَكٌ فَيُقَالُ : إنْ كَانَ الصَّادِرُ عَنْهُ وَاحِدًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَصْدُرُ عَنْ هَذَا الْوَاحِدِ إلَّا وَاحِدٌ أَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ إنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ وَهُوَ مُكَابَرَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّادِرِ الْأَوَّلِ كَثْرَةٌ مَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَقَدْ صَدَرَ عَنْ الْأَوَّلِ مَا فِيهِ كَثْرَةٌ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَقَدْ صَدَرَ عَنْ الْوَاحِدِ مَا لَيْسَ بِوَاحِدِ . وَلِهَذَا اضْطَرَبَ مُتَأَخِّرُوهُمْ فَأَبُو الْبَرَكَاتِ صَاحِبُ " الْمُعْتَبَرِ " أَبْطَلَ هَذَا الْقَوْلَ وَرَدَّهُ غَايَةَ الرَّدِّ وَابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ زَعَمَ أَنَّ الْفَلَكَ بِمَا فِيهِ صَادِرٌ عَنْ الْأَوَّلِ . والطوسي وَزِيرُ الْمَلَاحِدَةِ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا ؛ فَجَعَلَ الْأَوَّلَ

شَرْطًا فِي الثَّانِي وَالثَّانِيَ شَرْطًا فِي الثَّالِثِ وَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الضَّلَالِ وَهُوَ إثْبَاتُ جَوَاهِرَ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا أَزَلِيَّةٍ مَعَ الرَّبِّ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ مَعَهُ لَمْ تَكُنْ مَسْبُوقَةً بِعَدَمِ وَجَعَلَ الْفَلَكَ أَيْضًا أَزَلِيًّا وَهَذَا وَحْدَهُ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَالْكُفْرِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَكَيْفَ إذَا ضُمَّ إلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَقْلِ وَالنَّقْلِ الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ الصوادر الْمَعْلُومَةَ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ اثْنَيْنِ وَأَمَّا وَاحِدٌ وَحْدَهُ فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الْمُتَوَلِّدَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَعْرَاضِ . وَكُلُّ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ صُدُورِ الْحَرَارَةِ عَنْ الْحَارِّ وَالْبُرُودَةِ عَنْ الْبَارِدِ وَالشُّعَاعِ عَنْ الشَّمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : فَإِنَّمَا هُوَ صُدُورُ أَعْرَاضٍ وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَصْلَيْنِ . وَأَمَّا صُدُورُ الْأَعْيَانِ عَنْ غَيْرِهَا فَهَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْوِلَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَتِلْكَ لَا تَكُونُ إلَّا بِانْفِصَالِ جُزْءٍ مِنْ الْأَصْلِ وَهَذَا الصُّدُورُ وَالتَّوَلُّدُ والمعلولية الَّتِي يَدَّعُونَهَا فِي الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْأَفْلَاكِ يَقُولُونَ إنَّهَا جَوَاهِرُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا صَدَرَتْ عَنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ بَسِيطٍ فَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ قَوْلٍ قِيلَ فِي الصُّدُورِ وَالتَّوَلُّدِ لِأَنَّ فِيهِ صُدُورَ جَوَاهِرَ عَنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ وَهَذَا لَا يُعْقَلُ وَفِيهِ صُدُورُهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ مِنْ الْأَصْلِ وَهَذَا لَا يَعْقَلُ وَهُمْ غَايَةُ مَا عِنْدَهُمْ أَنْ يُشَبِّهُوا هَذَا بِحُدُوثِ بَعْضِ الْأَعْرَاضِ كَالشُّعَاعِ عَنْ الشَّمْسِ وَحَرَكَةِ الْخَاتَمِ عَنْ حَرَكَةِ الْيَدِ وَهَذَا تَمْثِيلٌ

بَاطِلٌ لِأَنَّ تِلْكَ لَيْسَتْ عِلَّةً فَاعِلَةً وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فَقَطْ وَالصَّادِرُ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ بَلْ عَنْ أَصْلَيْنِ وَالصَّادِرُ عَرَضٌ لَا جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ التَّوَلُّدِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يَدْعُونَهُ مِنْ أَبْعَدِ الْأُمُورِ عَنْ التَّوَلُّدِ وَالصُّدُورِ وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَهُمْ جَعَلُوا مَفْعُولَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ صِفَةٍ أَزَلِيَّةٍ لَازِمَةٍ لِذَاتِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِمَّا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ فَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ إلَهِيَّةِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْكَوَاكِبِ أَكْفَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَمَنْ جَعَلَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَلِ مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَلَكِيَّةِ فَقَوْلُهُ فِي جَعْلِ الْمَلَائِكَةِ متولدين عَنْ اللَّهِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ وَعَوَّامِ النَّصَارَى فَإِنَّ أُولَئِكَ أَثْبَتُوا وِلَادَةً حِسِّيَّةً وَكَوْنَهُ صَمَدًا يُبْطِلُهَا ؛ لَكِنْ مَا أَثْبَتُوهُ مَعْقُولٌ وَهَؤُلَاءِ ادَّعَوْا تَوَلُّدًا عَقْلِيًّا بَاطِلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَبْطَلَ مِمَّا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى مِنْ تَوَلُّدِ الْكَلِمَةِ عَنْ الذَّاتِ فَكَانَ نَفْيُ مَا ادَّعُوهُ أَوْلَى مِنْ نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ أُولَئِكَ لِأَنَّ الْمُحَالَ الَّذِي يَعْلَمُ امْتِنَاعَهُ فِي الْخَارِجِ لَا يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ بَلْ هُوَ يَفْرِضُ فِي الذِّهْنِ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ وَذَلِكَ إنَّمَا يُمْكِنُ إذَا كَانَ لَهُ نَظِيرٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَيُقَدِّرُ لَهُ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ مَا يُشْبِهُهُ كَمَا إذَا قَدَّرَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَقَدَّرَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا فَإِنَّهُ يُشْبِهُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ مِنْ الْعِبَادِ وَمَنْ لَهُ شَرِيكٌ مِنْ

الْعِبَادِ ثُمَّ يُبَيِّنُ امْتِنَاعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَكُلَّمَا كَانَ الْمُحَالُ أَبْعَدَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَوْجُودِ كَانَ أَعْظَمَ اسْتِحَالَةٍ . وَالْوِلَادَةُ الَّتِي ادَّعَتْهَا النَّصَارَى ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ : أَبْعَدُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْوِلَادَةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الْوِلَادَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا بَعْضُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَوَّامِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْوِلَادَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَشَدَّ اسْتِحَالَةً مِنْ تِلْكَ الْوِلَادَةِ الْحِسِّيَّةِ إذْ الْوِلَادَةُ الْحِسِّيَّةُ تُعْقَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا وَأَمَّا الْوِلَادَةُ الْعَقْلِيَّةُ فَلَا تُعْقَلُ فِي الْأَعْيَانِ أَصْلًا وَأَيْضًا فَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا وِلَادَةً مِنْ أَصْلَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْوِلَادَةُ الْمَعْقُولَةُ وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا وِلَادَةً مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا وِلَادَةً بِانْفِصَالِ جُزْءٍ وَهَذَا مَعْقُولٌ . وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا وِلَادَةً بِدُونِ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ وَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا وِلَادَةً قَاسُوهَا عَلَى وِلَادَةِ الْأَعْيَانِ لِلْأَعْيَانِ وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا وِلَادَةً قَاسُوهَا عَلَى تَوَلُّدِ الْأَعْرَاضِ عَنْ الْأَعْيَانِ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَ أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ فَسَادَهُ وَأَنْكَرَهُ فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ إذَا كَفَّرَ مَنْ أَثْبَتَ مَخْلُوقًا يُتَّخَذُ شَفِيعًا مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَمَنْ أَثْبَتَ قَدِيمًا دُونَ اللَّهِ يُعْبَدُ وَيُتَّخَذُ شَفِيعًا كَانَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ . وَمَنْ أَنْكَرَ الْمَعَادَ مَعَ قَوْلِهِ بِحُدُوثِ هَذَا الْعَالَمِ فَقَدْ كَفَّرَهُ اللَّهُ فَمَنْ أَنْكَرَهُ مَعَ قَوْلِهِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ فَهُوَ أَعْظَمُ كُفْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . وَهَذَا كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَهَى أُمَّتَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ

فَارِسَ الْمَجُوسِ وَالرُّومِ النَّصَارَى فَنَهْيُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الرُّومِ الْيُونَانِ الْمُشْرِكِينَ وَالْهِنْدِ الْمُشْرِكِينَ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ وَإِذَا كَانَ مَا دَخَلَ فِي بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُشَابَهَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَفَارِسَ وَالرُّومِ مَذْمُومًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَمَا دَخَلَ مِنْ مُشَابَهَةِ الْيُونَانِ وَالْهِنْدِ وَالتُّرْكِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ فَارِسَ وَالرُّومِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ ذَمُّهُ أَعْظَمَ مِنْ ذَاكَ . فَهَؤُلَاءِ الْأُمَمُ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ اُبْتُلِيَ بِهِمْ أَوَاخِرُ الْمُسْلِمِينَ شَرٌّ مِنْ الْأُمَمِ الَّذِينَ اُبْتُلِيَ بِهِمْ أَوَائِلُ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ أَهْلُهُ أَكْمَلَ وَأَعْظَمَ عِلْمًا وَدِينًا فَإِذَا اُبْتُلِيَ بِمَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْ هَؤُلَاءِ غَلَبَهُمْ الْمُسْلِمُونَ لِفَضْلِ عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ فَالْمُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانُوا أَنْقَصَ مِنْ سَلَفِهِمْ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ رُجْحَانُهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ لِعِظَمِ بُعْدِهِمْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ لَمَّا كَثُرَتْ الْبِدَعُ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْمُسْلِمِينَ اسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ مَنْ اسْتَطَالَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَبَّسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَصَارَتْ شُبَهُ الْفَلَاسِفَةِ أَعْظَمَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا صَارَ قِتَالُ التُّرْكِ الْكُفَّارِ أَعْظَمَ مِنْ قِتَالِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ عِنْدَ أَهْلِ الزَّمَانِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا اُبْتُلُوا بِسُيُوفِ هَؤُلَاءِ وَأَلْسِنَةِ هَؤُلَاءِ وَكَانَ فِيهِمْ مِنْ نَقْصِ الْإِيمَانِ مَا أَوْرَثَ ضَعْفًا فِي الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ وَكَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْعَرَب فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا هَذَا .

وَمِمَّا يَبِينُ هَذَا أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ : بَلْ يَقُولُونَ : إنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ عِنْدَهُمْ لَمْ يُحْدِثْهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يُلْبِسُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ الْعَالَمُ مُحْدَثٌ يَعْنُونَ بِحُدُوثِهِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ عِلَّةً قَدِيمَةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ مُتَوَلِّدٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ هُوَ أَمْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا يَعْقِلُ . وَأَيْضًا فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُقِرُّونَ بِالْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ نَوْعًا وَاحِدًا فَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَسْقَطَهُ وَصَارَ شَيْطَانًا وَيَنْكَرُونَ أَنْ يَكُونَ إبْلِيسُ كَانَ أَبَا الْجِنِّ وَأَنْ يَكُونَ الْجِنُّ يَنْكِحُونَ وَيُولَدُونَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ فَهَؤُلَاءِ النَّصَارَى الَّذِينَ يُنْكِرُونَ هَذَا مَعَ كُفْرِهِمْ هُمْ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا حَقِيقَةَ لِلْمَلَائِكَةِ عِنْدَهُمْ إلَّا مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ أَوْ مِنْ أَعْرَاضٍ تَقُومُ بِالْأَجْسَامِ كَالْقُوَى الصَّالِحَةِ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ جُمْهُورُ أُولَئِكَ يُثْبِتُونَهَا فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُثْبِتُ الْجِنَّ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَهَا وَيَجْعَلُونَ الشَّيَاطِينَ الْقُوَى الْفَاسِدَةَ وَأَيْضًا فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَقُولُونَ إنَّهُ يَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ وَيُجِيبُهُمْ . وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْعَالَمِ وَلَا يَسْمَعُ دُعَاءَ أَحَدٍ

وَلَا يُجِيبُ أَحَدًا وَلَا يُحْدِثُ فِي الْعَالَمِ شَيْئًا وَلَا سَبَبً لِلْحُدُوثِ عِنْدَهُمْ إلَّا حَرَكَاتُ الْفَلَكِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ يُؤَثِّرُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ فِي هَيُولَى الْعَالَمِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَكَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ إنِّي اتَّخَذْت وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إعَادَتِهِ } وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا قَطْعًا لِكُفَّارِ الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } إلَى قَوْلِهِ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا } { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } فَذِكْرُ اللَّهِ هَذَا وَهَذَا فَتَنَاوُلُ النُّصُوصِ لِهَؤُلَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ الْإِعَادَةَ وَالِابْتِدَاءَ أَيْضًا فَلَا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا كَانَ لِلْبَشَرِ ابْتِدَاءٌ أَوَّلُهُمْ آدَمَ وَأَمَّا شَتْمُهُمْ إيَّاهُ بِقَوْلِهِمْ اتَّخَذَ وَلَدًا فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ الْفَلَكُ كُلُّهُ لَازِمٌ لَهُ مَعْلُولٌ لَهُ أَعْظَمُ مِنْ لُزُومِ الْوَلَدِ وَالِدَهُ وَالْوَالِدُ لَهُ اخْتِيَارٌ وَقُدْرَةٌ فِي حُدُوثِ الْوَلَدِ مِنْهُ وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ وَقُدْرَةٌ فِي لُزُومِ الْفَلَكِ لَهُ بَلْ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْفَعَ لُزُومَهُ عَنْهُ فَالتَّوَلُّدُ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ أَبْلَغُ مِنْ التَّوَلُّدِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَلْقِ وَلَا يَقُولُونَ : إنَّهُ اتَّخَذَ وَلَدًا بِقُدْرَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ

عِنْدَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ لُزُومًا : حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا ؛ بَلْ وَلَا هُوَ مَوْجُودٌ وَإِنْ سَمَّوْهُ عِلَّةً وَمَعْلُولًا فَعِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يَرْجِعُونَ إلَى شَيْءٍ مُحَصَّلً فَإِنَّ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ أَعْظَمَ مِمَّا فِي قَوْلِ النَّصَارَى . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غَيْرِهِمْ بِالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنْ يَجْعَلُوهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ فِي الذَّمِّ وَهَذَا تَقْصِيرٌ عَظِيمٌ بَلْ أُولَئِكَ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ إذَا حَقَّقْت مَا يَقُولُهُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ كَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَجَدْت غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ شَرْطًا فِي وُجُودِ الْعَالَمِ لَا فَاعِلًا لَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلتَّحْقِيقِ مِنْ مَلَاحِدَةِ الصُّوفِيَّةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ أَزَلِيٌّ لَيْسَ لَهُ صَانِعٌ غَيْرُ نَفْسِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ : الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ خَالِقٌ خَلَقَ مَوْجُودًا آخَرَ وَكَلَامُهُمْ فِي الْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالتَّوْحِيدِ شَرٌّ مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ عِبَادَةَ كُلِّ صَنَمٍ فِي الْعَالَمِ لَا يَخُصُّونَ بَعْضَ الْأَصْنَامِ بِالْعِبَادَةِ .

فَصْلٌ :
وَقَدْ احْتَجَّ بـ ( سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ) مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ مَنْ يَقُولُ : الرَّبُّ تَعَالَى جِسْمٌ كَبَعْضِ الَّذِينَ وَافَقُوا هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ وَمُحَمَّدَ بْنَ كَرَّامٍ وَغَيْرَهُمَا وَمَنْ يَنْفِي ذَلِكَ وَيَقُولُ لَيْسَ بِجِسْمٍ مِمَّنْ وَافَقَ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ وَأَبَا الهذيل الْعَلَّافَ وَنَحْوَهُمَا فَأُولَئِكَ قَالُوا : هُوَ صَمَدٌ وَالصَّمَدُ لَا جَوْفَ لَهُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَجْسَامِ الْمُصْمَتَةِ . فَإِنَّهَا لَا جَوْفَ لَهَا كَمَا فِي الْجِبَالِ وَالصُّخُورِ وَمَا يُصْنَعُ مِنْ عَوَامِيدِ الْحِجَارَةِ وَكَمَا قِيلَ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ صَمَدٌ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ إنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَنَفْيُ هَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا عَمَّنْ هُوَ جِسْمٌ وَقَالُوا : أَصْلُ الصَّمَدِ الِاجْتِمَاعُ وَمِنْهُ تَصْمِيدُ الْمَالِ وَهَذَا إنَّمَا يُعْقَلُ فِي الْجِسْمِ الْمُجْتَمِعُ وَأَمَّا الْنُّفَاةِ فَقَالُوا : الصَّمَدُ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّفَرُّقُ وَالِانْقِسَامُ وَكُلُّ جِسْمٍ فِي الْعَالَمِ يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّفَرُّقُ وَالِانْقِسَامُ . وَقَالُوا أَيْضًا : الْأَحَدُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ وَالِانْقِسَامَ وَكُلُّ جِسْمٍ فِي الْعَالَمِ يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّفَرُّقُ وَالتَّجَزُّىءُ وَالِانْقِسَامُ . وَقَالُوا :

إذَا قُلْتُمْ هُوَ جِسْمٌ كَانَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَمَا كَانَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا مِنْ غَيْرِهِ كَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ صَمَدٌ وَالصَّمَدُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ فَالْمُرَكَّبُ لَا يَكُونُ صَمَدًا . فَيُقَالُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُرَكَّبٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَجْزَاءَ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ وَالِانْقِسَامَ وَالِانْفِصَالَ فَهَذَا بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي كَوْنَهُ صَمَدًا كَمَا تَقَدَّمَ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً ثُمَّ اجْتَمَعَتْ أَوْ قِيلَ : إنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُجْتَمِعَةً لَكِنْ يُمْكِنُ انْفِصَالُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ كَمَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَجْسَامِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُجْتَمِعَ الْأَعْضَاءِ : لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا قَدَّمْنَا أَنَّ كَمَالَ الصَّمَدِيَّةِ لَهُ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْنَى بَعْضُهُ أَوْ يَعْدَمَ وَمَا قَبْلَ الْعَدَمِ وَالْفِنَاءِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِذَاتِهِ وَلَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا ؛ فَإِنَّ مَا وَجَبَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ وَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ الَّتِي لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَعْدَمَ اللَّازِمُ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْمَلْزُومِ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ . الصَّمَدُ هُوَ الدَّائِمُ وَهُوَ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الصَّمَدِيَّةِ إذْ لَوْ قَبْلَ الْعَدَمِ لَمْ تَكُنْ صَمَدِيَّتُهُ لَازِمَةً لَهُ ؛ بَلْ جَازَ عَدَمُ صَمَدِيَّتِهِ فَلَا يَبْقَى صَمَدًا وَلَا

تَنْتَفِي عَنْهُ الصَّمَدِيَّةُ إلَّا بِجَوَازِ الْعَدَمِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ . فَلَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلصَّمَدِيَّةِ إلَّا إذَا كَانَتْ لَازِمَةً لَهُ وَذَلِكَ يُنَافِي عَدَمَهُ وَهُوَ مُسْتَوْجِبٌ لِلصَّمَدِيَّةِ لَمْ يَصِرْ صَمَدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مُتَفَرِّقًا فَجُمِعَ وَأَنَّهُ مَفْعُولٌ مُحْدَثٌ مَصْنُوعٌ وَهَذِهِ صِفَةُ مَخْلُوقَاتِهِ . وَأَمَّا الْخَالِقُ الْقَدِيمُ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا أَوْ مَفْعُولًا أَوْ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ صَمَدًا وَلَا يَزَالُ صَمَدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : كَانَ مُتَفَرِّقًا فَاجْتَمَعَ وَلَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّقَ بَلْ وَلَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَدْخُلَ فِيهِ شَيْءٌ . وَهَذَا مِمَّا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ سُنِّيِّهِمْ وَبِدْعِيِّهِمْ وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَوْ مَنْ لَا يَعْرِفُ قَدْ يَقُولُ خِلَافَ ذَلِكَ فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا تَنْضَبِطُ خَيَالَاتُهُمْ الْفَاسِدَةُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مَوْلُودٌ وَوَالِدٌ وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْكُفَّارِ وَقَدْ قَالَ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ التَّوَلُّدِ وَالتَّعْلِيلِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ وَأَمَّا إثْبَاتُ الصِّفَاتِ لَهُ وَأَنَّهُ يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَكَلَامَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ : فَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ . وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ مَعَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ

وَكَثِيرٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَلَيْسَ بِجِسْمِ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ الصِّفَاتُ . قَالُوا : لِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ قَائِمَةٌ بِجِسْمِ لَا تُعْقَلُ صِفَتُهُ إلَّا كَذَلِكَ . قَالُوا : وَالرُّؤْيَةُ لَا تُعْقَلُ إلَّا مَعَ الْمُعَايَنَةِ فَالْمُعَايَنَةُ لَا تَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَرْئِيُّ بِجِهَةِ وَلَا يَكُونُ بِجِهَةٍ إلَّا مَا كَانَ جِسْمًا . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِهِ كَلَامٌ أَوْ غَيْرُهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ الْمُضَافُ إلَيْهِ إلَّا مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ . وَهَذِهِ الْمَعَانِي مِمَّا نَاظَرُوا بِهَا الْإِمَامَ أَحْمَد فِي " الْمِحْنَةِ " وَكَانَ مِمَّنْ احْتَجَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ بِنَفْيِ التَّجْسِيمِ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بُرْغُوثٌ تِلْمِيذُ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ ابْنَ أَبِي دؤاد كَانَ قَدْ جَمَعَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد مَنْ أَمْكَنَهُ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَزِلَةً وَبِشْرٌ المريسي لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ بَلْ فِيهِمْ نجارية وَمِنْهُمْ بُرْغُوثٌ . وَفِيهِمْ ضرارية . وَحَفْصٌ الْفَرْدُ الَّذِي نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ كَانَ مِنْ الضرارية أَتْبَاعِ ضِرَارِ بْنِ عَمْرو . وَفِيهِمْ مُرْجِئَةٌ وَمِنْهُمْ بِشْرٌ المريسي . وَمِنْهُمْ جهمية مَحْضَةٌ وَمِنْهُمْ مُعْتَزِلَةٌ وَابْنُ أَبِي

دؤاد لَمْ يَكُنْ مُعْتَزِلِيًّا ؛ بَلْ كَانَ جهميا يَنْفِي الصِّفَاتِ وَالْمُعْتَزِلَةُ تَنْفِي الصِّفَاتِ فنفاة الصِّفَاتِ الْجَهْمِيَّة أَعَمُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بُرْغُوثٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَتَكَلَّمُ وَيَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ لَكَانَ جِسْمًا وَهَذَا مَنْفِيٌّ عَنْهُ وَأَحْمَد وَأَمْثَالُهُ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي ابْتَدَعَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ كَلَفْظِ الْجِسْمِ وَغَيْرِهِ يَنْفِيهَا قَوْمٌ لِيَتَوَصَّلُوا بِنَفْيِهَا إلَى نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ وَيُثْبِتُهَا قَوْمٌ لِيَتَوَصَّلُوا بِإِثْبَاتِهَا إلَى إثْبَاتِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَالْأُولَى طَرِيقَةُ الْجَهْمِيَّة : مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ : يَنْفُونَ الْجِسْمَ حَتَّى يَتَوَهَّمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ قَصْدَهُمْ التَّنْزِيهُ وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ يَقُومُ بِهِ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي خُطْبَتِهِ فِي " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ " : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِهِ أَهْلَ الْعَمَى فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لإبليس قَدْ أَحْيَوْهُ وَكَمْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ وَأَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ وَأَطْلَقُوا عِنَانَ الْفِتْنَةِ

فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ . فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتَنِ الْمُضِلِّينَ . وَالثَّانِيَةُ طَرِيقَةُ هِشَامٍ وَأَتْبَاعِهِ يُحْكَى عَنْهُمْ : أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مَا قَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ مِنْ اتِّصَافِهِ بِالنَّقَائِصِ وَمُمَاثَلَتِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَأَجَابَهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد بِطَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وَقَالَ : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { المص } { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى

وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } { فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ

وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَقَوْلُهُ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِبَيَانِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ وَبَيَانِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ ذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا وَأَنَّ مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ حُشِرَ أَعْمَى ضَالًّا شَقِيًّا مُعَذَّبًا وَأَنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قَدْ بَرِئَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُمْ . فَاتَّبَعَ الْإِمَامُ أَحْمَد طَرِيقَةَ سَلَفِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُعْتَصِمِينَ

بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَّبِعِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَذَلِكَ أَنْ نَنْظُرَ فَمَا وَجَدْنَا الرَّبَّ قَدْ أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَثْبَتْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَاهُ قَدْ نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ نَفَيْنَاهُ وَكُلُّ لَفْظٍ وُجِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِثْبَاتِ أُثْبِتَ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَكُلُّ لَفْظٍ وُجِدَ مَنْفِيًّا نُفِيَ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ وَلَا فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا إثْبَاتُهَا وَلَا نَفْيُهَا . وَقَدْ تَنَازَعَ فِيهَا النَّاسُ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا تُثْبَتُ وَلَا تُنْفَى إلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْسَارِ عَنْ مَعَانِيهَا فَإِنْ وُجِدَتْ مَعَانِيهَا مِمَّا أَثْبَتَهُ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ أُثْبِتَتْ وَإِنْ وُجِدَتْ مِمَّا نَفَاهُ الرَّبُّ عَنْ نَفْسِهِ نُفِيت وَإِنْ وَجَدْنَا اللَّفْظَ أُثْبِتَ بِهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ أَوْ نُفِيَ بِهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ أَوْ كَانَ مُجْمَلًا يُرَادُ بِهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَصَاحِبُهُ أَرَادَ بِهِ بَعْضَهَا لَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُوهِمُ النَّاسَ أَوْ يُفْهِمُهُمْ مَا أَرَادَ وَغَيْرَ مَا أَرَادَ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا يُطْلَقُ إثْبَاتُهَا وَلَا نَفْيُهَا كَلَفْظِ الْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَلَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا إلَّا وَأَدْخَلَ فِيهَا بَاطِلًا وَإِنْ أَرَادَ بِهَا حَقًّا . وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ كَرِهُوا هَذَا الْكَلَامَ الْمُحْدَثَ ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَاطِلٍ وَكَذِبٍ وَقَوْلٍ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَحْمَد فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة أَنَّهُمْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا يَنْفُونَهُ عَنْهُ وَيَقُولُونَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَكُلُّ

ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يَكْرَهْ السَّلَفُ هَذِهِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا اصْطِلَاحِيَّةً وَلَا كَرِهُوا الِاسْتِدْلَالَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ بَلْ كَرِهُوا الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ الْمُخَالِفَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يُخَالِفُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إلَّا مَا هُوَ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ بِعَقْلٍ وَلَا سَمْعٍ . وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ عَنْ التَّوْحِيدِ فَذَكَرَ تَوْحِيدَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ : وَأَمَّا تَوْحِيدُ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَهُوَ الْخَوْضُ فِي الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ وَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا قَدْ أُحْدِثَا فِي زَمَنِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ إنْكَارَ مَا يَعْنِي بِهِمَا مِنْ الْمَعَانِي الْبَاطِلَةِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُمَا الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ إنْكَارُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَنْ يُرَى أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَلَامٌ يَتَّصِفُ بِهِ وَأَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة أَسْمَاءَهُ أَيْضًا . وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْهُ إنْكَارُ ذَلِكَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بواسط . وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا . ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَمِّ هَذَا الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ كَانُوا إذَا ذَكَرَتْ لَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ الْأَلْفَاظَ الْمُجْمَلَةَ : كَلَفْظِ الْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ وَالْحَيِّزِ وَنَحْوِهَا لَمْ يُوَافِقُوهُمْ لَا عَلَى إطْلَاقِ الْإِثْبَاتِ " وَلَا عَلَى إطْلَاقِ النَّفْيِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ بِالْعَكْسِ ابْتَدَعُوا أَلْفَاظًا وَمَعَانِيَ إمَّا فِي النَّفْيِ وَإِمَّا فِي الْإِثْبَاتِ وَجَعَلُوهَا هِيَ الْأَصْلُ الْمَعْقُولُ الْمُحْكَمُ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ ثُمَّ نَظَرُوا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ عَلَى قَوْلِهِمْ تَأَوَّلُوهُ وَإِلَّا قَالُوا هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ الْمُشْكَلَةِ الَّتِي لَا نَدْرِي مَا أُرِيدَ بِهَا . فَجَعَلُوا بِدَعَهُمْ أَصْلًا مُحْكَمًا وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَرْعًا لَهُ وَمُشْكِلًا : إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ . وَهَذَا أَصْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَصْلُ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْبَاطِنِيَّةِ جَمِيعُ كُتُبِهِمْ تُوجَدُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْفِرَقُ بَيْنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَبَيْنَ السُّبُلِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ وَمَسَائِل أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَحَقَائِقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ قَدْ دَخَلَ فِيهَا أَلْفَاظٌ وَمَعَانٍ مُحْدَثَةٌ وَأَلْفَاظٌ وَمَعَانٍ مُشْتَرِكَةٌ . فَالْوَاجِبُ أَنْ يَجْعَلَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ أَصْلًا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ ثُمَّ يَرُدَّ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ النَّاسُ إلَى ذَلِكَ وَيُبَيِّنُ مَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُوَافِقَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَتُقْبَلُ وَمَا فِيهَا مِنْ الْمَعَانِي

الْمُخَالَفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَتُرَدُّ . وَلِهَذَا كُلُّ طَائِفَةٍ أَنُكِرَ عَلَيْهَا مَا ابْتَدَعَتْ احْتَجَّتْ بِمَا ابْتَدَعَتْهُ الْأُخْرَى كَمَا يُوجَدُ فِي أَلْفَاظِ أَهْل الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ إنَّهُ مُشْكِلٌ وَمُتَشَابِهٌ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ يُخَالِفُ غَيْرَهُ مِنْ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الْبَيِّنَةِ فَإِذَا جَاءَتْ نُصُوصٌ بَيِّنَةٌ مُحْكَمَةٌ بِأَمْرِ و جَاءَ نَصٌّ آخَرُ يَظُنُّ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي هَذَا إنَّهُ يَرُدُّ الْمُتَشَابِهَ إلَى الْمُحْكَمِ أَمَّا إذَا نَطَقَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَصْلُ وَيَجْعَلَ مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مُشْكِلًا مُتَشَابِهًا فَلَا يُقْبَلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ . نَعَمْ قَدْ يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ نُصُوصٌ لَا يَفْهَمُونَهَا فَتَكُونُ مُشْكِلَةً بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ لِعَجْزِ فَهِمَهُمْ عَنْ مَعَانِيهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُخَالِفُ صَرِيحَ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ إلَّا وَفِي الْقُرْآنِ بَيَانُ مَعْنَاهُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ جَعَلَهُ اللَّهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَبَيَانًا لِلنَّاسِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ قَدْ تَخْفَى آثَارُ الرِّسَالَةِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى لَا يَعْرِفُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . إمَّا أَنْ لَا يَعْرِفُوا اللَّفْظَ وَإِمَّا أَنْ يَعْرِفُوا اللَّفْظَ وَلَا يَعْرِفُوا مَعْنَاهُ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُونَ فِي جَاهِلِيَّةٍ بِسَبَبِ عَدَمِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ هَهُنَا يَقَعُ الشِّرْكُ وَتَفْرِيقُ الدِّينِ شِيَعًا كَالْفِتَنِ الَّتِي تُحْدِثُ السَّيْفَ فَالْفِتَنُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ

هِيَ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ بِسَبَبِ خَفَاءِ نُورِ النُّبُوَّةِ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : إذَا قَلَّ الْعِلْمُ ظَهَرَ الْجَفَاءُ وَإِذَا قَلَّتْ الْآثَارُ ظَهَرَتْ الْأَهْوَاءُ . وَلِهَذَا شُبِّهَتْ الْفِتَنُ بِقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي خُطْبَتِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . فَالْهُدَى الْحَاصِلُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ إنَّمَا هُوَ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } فَأَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ : هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ الْمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ . وَأَهْلُ الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ : هُمْ الْمُكَذِّبُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ يَبْقَى أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ لَمْ يَصِلُ إلَيْهِمْ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ . فَهَؤُلَاءِ فِي ضَلَالٍ وَجَهْلٍ وَشِرْكٍ وَشَرٍّ لَكِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَالَ : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } فَهَؤُلَاءِ لَا يُهْلِكُهُمْ اللَّهُ وَيُعَذِّبُهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا . وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي أَنَّ مِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الرِّسَالَةُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ إلَيْهِ رَسُولٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ .

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ دِين الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْآخِرَةَ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ إنَّمَا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْجَزَاءِ الْجَنَّةَ أَوْ النَّارَ وَإِلَّا فَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ مُمْتَحَنُونَ وَمَفْتُونُونَ يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ : مَنْ رَبُّك ؟ وَمَا دِينُك ؟ وَمَنْ نَبِيُّك ؟ وَكَذَلِكَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ يُقَالُ : لِيَتَّبِعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَر وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْر الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا . وَفِي رِوَايَةٍ فَيَسْأَلُهُمْ وَيُثَبِّتُهُمْ وَذَلِكَ امْتِحَانٌ لَهُمْ هَلْ يَتَّبِعُونَ غَيْرَ الرَّبِّ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي تَجَلَّى لَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيُثَبِّتُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ كَمَا يُثَبِّتُهُمْ فِي فِتْنَةِ الْقَبْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَّبِعُوهُ لِكَوْنِهِ أَتَى فِي غَيْرِ الصُّورَة الَّتِي يَعْرِفُونَ أَتَاهُمْ حِينَئِذٍ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَإِذَا رَأَوْهُ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا إلَّا مَنْ كَانَ مُنَافِقًا فَإِنَّهُ يُرِيدُ السُّجُودَ فَلَا يَسْتَطِيعُهُ يُبْقَى ظَهْرُهُ مِثْلَ الطَّبَقِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ ثَابِتَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَقَدْ أَخْرَجَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَدَلَّ

ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمِحْنَةَ إنَّمَا تَنْقَطِعُ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْجَزَاءِ وَأَمَّا قَبْلَ دَارِ الْجَزَاءِ امْتِحَانٌ وَابْتِلَاءٌ . فَإِذَا انْقَطَعَ عَنْ النَّاسِ نُورُ النُّبُوَّةِ وَقَعُوا فِي ظُلْمَةِ الْفِتَنِ وَحَدَثَتْ الْبِدَعُ وَالْفُجُورُ وَوَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ . " { سَأَلْت رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي الثَّالِثَةَ سَأَلْته أَنْ لَا يَهْلِك أُمَّتِي بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحُهُمْ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا } " وَالْبَأْسُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبُؤْسِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ : أَعُوذُ بِوَجْهِك . { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ هَاتَانِ أَهْوَنُ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ مَعَ بَرَاءَةِ الرَّسُولِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَهُمْ فِيهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ . وَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ

أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ هَدْرٌ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ : تَرَكَ النَّاسُ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا اقْتَتَلُوا كَانَ الْوَاجِبُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمَّا لَمْ يُعْمَلْ بِذَلِكَ صَارَتْ فِتْنَةٌ وَجَاهِلِيَّةٌ . وَهَكَذَا مَسَائِلُ النِّزَاعِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْأُمَّةُ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ إذَا لَمْ تُرَدَّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ لَمْ يُتَبَيَّنْ فِيهَا الْحَقُّ بَلْ يَصِيرُ فِيهَا الْمُتَنَازِعُونَ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنْ رَحِمَهُمْ اللَّهُ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَمْ يَبْغِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَرْحَمُوا وَقَعَ بَيْنَهُمْ الِاخْتِلَافُ الْمَذْمُومُ فَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إمَّا بِالْقَوْلِ مِثْلَ تَكْفِيرِهِ وَتَفْسِيقِهِ " وَإِمَّا بِالْفِعْلِ مِثْلَ حَبْسِهِ وَضَرْبِهِ وَقَتْلِهِ . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالظُّلْمِ كَالْخَوَارِجِ وَأَمْثَالِهِمْ يَظْلِمُونَ الْأُمَّةَ وَيَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ إذَا نَازَعُوهُمْ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الدِّينِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُمْ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا كَمَا تَفْعَلُ الرَّافِضَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ وَاَلَّذِينَ امْتَحَنُوا النَّاسَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا

وَاسْتَحَلُّوا مَنْعَ حَقِّهِ وَعُقُوبَتَهُ . فَالنَّاسُ إذَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا عَادِلُونَ وَإِمَّا ظَالِمُونَ فَالْعَادِلُ فِيهِمْ الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ وَالظَّالِمُ الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ وَهَؤُلَاءِ ظَالِمُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } وَإِلَّا فَلَوْ سَلَكُوا مَا عَلِمُوهُ مِنْ الْعَدْلِ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَالْمُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّةِ الْفِقْهِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَجَعَلُوا أَئِمَّتَهُمْ نُوَّابًا عَنْ الرَّسُولِ وَقَالُوا هَذِهِ غَايَةُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ فَالْعَادِلُ مِنْهُمْ لَا يَظْلِمُ الْآخَرَ وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ بِقَوْلِ وَلَا فِعْلٍ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ هُوَ الصَّحِيحُ بِلَا حُجَّةٍ يُبْدِيهَا وَيَذُمُّ مَنْ يُخَالِفُهُ مَعَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ . وَكَانَ الَّذِينَ اُمْتُحِنُوا أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ فَابْتَدَعُوا كَلَامًا مُتَشَابِهًا نَفَوْا بِهِ الْحَقَّ فَأَجَابَهُمْ أَحْمَد لَمَّا نَاظَرُوهُ فِي الْمِحْنَةِ وَذَكَرُوا الْجِسْمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَجَابَهُمْ بِأَنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } وَأَمَّا لَفْظُ الْجِسْمِ فَلَفْظٌ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ أَلْبَتَّةَ وَالْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ بِهِ مُجْمَلٌ وَلَمْ تُبَيِّنُوا مُرَادَكُمْ حَتَّى نُوَافِقَكُمْ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ فَقَالَ مَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ ؟

لَكِنْ أَقُولُ : { اللَّهِ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } . يَقُولُ : مَا أَدْرِي مَا تَعْنُونَ بِلَفْظِ الْجِسْمِ فَأَنَا لَا أُوَافِقُكُمْ عَلَى إثْبَاتِ لَفْظٍ وَنَفْيِهِ إذْ لَمْ يَرِدُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِإِثْبَاتِهِ وَلَا نَفْيِهِ إنْ لَمْ نَدْرِ مَعْنَاهُ الَّذِي عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ فَإِنْ عَنَى فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَا يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَافَقْنَاهُ وَإِنْ عَنَى مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَمْ نُوَافِقْهُ . وَلَفْظُ " الْجِسْمِ " و " الْجَوْهَرِ " وَنَحْوِهِمَا لَمْ يَأْتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ - مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ - التَّكَلُّمُ بِهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ إلَى الْمُتَوَكِّلِ : لَا أُحِبُّ الْكَلَامَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ غَيْرُ مَحْمُودٍ . وَذَكَرَ أَيْضًا فِيمَا حَكَاهُ عَنْ الْجَهْمِيَّة أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِيهِ كَذَا وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ لَهُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ مَعْنًى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ

وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ طَالُوتُ أَعْلَمَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِالْحَرْبِ وَكَانَ يَفُوقُ النَّاسَ بِمَنْكِبَيْهِ وَعُنُقِهِ وَرَأْسِهِ و " الْبَسْطَةُ " السَّعَةُ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : هُوَ مِنْ قَوْلِك بَسَطْت الشَّيْءَ إذَا كَانَ مَجْمُوعًا فَفَتَحْته وَوَسِعْته قَالَ بَعْضُهُمْ : وَالْمُرَادُ بِتَعْظِيمِ الْجِسْمِ فَضْلُ الْقُوَّةِ إذْ الْعَادَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ جِسْمًا كَانَ أَكْثَرَ قُوَّةً . فَهَذَا لَفْظُ الْجِسْمِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ : الْجِسْمُ الْجَسَدُ وَكَذَلِكَ الْجُسْمَانُ وَالْجُثْمَانُ " وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : الْجِسْمُ وَالْجَسَدُ وَالْجُثْمَانُ الشَّخْصُ وَقَالَ جَمَاعَةٌ جِسْمُ الْإِنْسَانِ يُقَالُ لَهُ الْجُثْمَانُ وَقَدْ جَسُمَ الشَّيْءُ أَيْ عَظُمَ فَهُوَ جَسِيمٌ وَجِسَامٌ وَالْجِسَامُ بِالْكَسْرِ جَمْعُ جَسِيمٍ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ تَجَسَّمْت فُلَانًا مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ أَيْ اخْتَرْته كَأَنَّك قَصَدْت جِسْمَهُ . كَمَا تَقُولُ : تأتيته أَيْ قَصَدْت أَتْيَهُ وَشَخْصَهُ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ . تَجَسَّمْته مِنْ بَيْنِهِنَّ بِمُرْهَفِ وَتَجَسَّمْت الْأَرْضَ إذَا أَخَذْت نَحْوَهَا تُرِيدُهَا وَتَجَسَّمَ مِنْ الْجِسْمِ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : تَجَسَّمْت الْأَمْرَ : أَيْ رَكِبْت أَجْسَمَهُ وَجَسِيمُهُ أَيْ مُعْظَمُهُ قَالَ : وَكَذَلِكَ تَجَسَّمْت الرَّمْلَ وَالْجَبَلَ أَيْ رَكِبْت أَعْظَمَهُ وَالْأَجْسَمُ الْأَضْخَمُ قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ :

لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ مِنْ عَامِرٍ بِأَنَّ لَنَا الذُّرْوَةَ الْأَجْسَمَا فَهَذَا الْجِسْمُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقَالُ لِلْهَوَاءِ جِسْمٌ وَلَا لِلنَّفَسِ الْخَارِجِ مِنْ الْإِنْسَانِ جِسْمٌ وَلَا لِرُوحِهِ الْمَنْفُوخَةِ فِيهِ جِسْمٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا بَدَنَ الْإِنْسَانِ وَلَا غَيْرَهُ فَلَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَخْتَصُّ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ جِسْمٌ وَلَا جَسَدٌ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْكَلَامِ فَالْجِسْمُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَاهُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا عَقْلِيًّا وَاخْتِلَافًا لَفْظِيًّا اصْطِلَاحِيًّا فَهُمْ يَقُولُونَ كُلُّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ إشَارَةٌ حِسِّيَّةٌ فَهُوَ جِسْمٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ : كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْجِسْمُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ جَوْهَرًا بِشَرْطِ أَنْ يَنْضَمَّ إلَى غَيْرِهِ وَقِيلَ بَلْ الْجَوْهَرَانِ وَالْجَوَاهِرُ فَصَاعِدًا وَقِيلَ بَلْ أَرْبَعَةٌ فَصَاعِدًا وَقِيلَ بَلْ سِتَّةٌ وَقِيلَ بَلْ ثَمَانِيَةٌ وَقِيلَ بَلْ سِتَّةَ عَشَرَ وَقِيلَ بَلْ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْأَجْسَامَ كُلَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الَّتِي لَا تَنْقَسِمُ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ كُلُّ الْأَجْسَامِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْهَيُولَى

وَالصُّورَةِ لَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْكَلَامِ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا وَهَذَا قَوْلُ الهشامية والْكُلَّابِيَة والضرارية وَغَيْرِهِمْ مِنْ الطَّوَائِفِ الْكِبَارِ لَا يَقُولُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَلَا بِالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَآخَرُونَ يَدَّعُونَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ كَمَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ : اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ تَتَنَاهَى فِي تَجَزُّئِهَا وَانْقِسَامِهَا حَتَّى تَصِيرَ أَفْرَادًا وَمَعَ هَذَا فَقَدْ شَكَّ هُوَ فِيهِ وَكَذَلِكَ شَكَّ فِيهِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ . وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ الْمَشْهُورِينَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَهَذَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَعَابُوهُ وَلَكِنَّ حَاكِيَ هَذَا الْإِجْمَاعِ لَمَّا لَمْ يَعْرِفُ أُصُولَ الدِّينِ إلَّا مَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَجِدْ إلَّا مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ اعْتَقَدَ هَذَا إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَوْلُ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ بَاطِلٌ وَالْقَوْلُ بِالْهَيُولَى وَالصُّورَةِ بَاطِلٌ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرٍ .

وَقَالَ آخَرُونَ : الْجِسْمُ هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ وَكُلُّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ جِسْمٌ وَكُلُّ جِسْمٍ فَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مُشَارٌ إلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَجْسَامِ هَلْ هِيَ مُتَمَاثِلَةٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ جِسْمٌ وَأَرَادَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْأَجْزَاءِ فَهَذَا قَوْلُهُ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُمَاثِلُ غَيْرَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَقَدْ عُلِمَ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَثَلًا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَهُوَ مُبْطِلٌ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ جِسْمٌ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُبْطِلٌ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا يَقُومُ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ وَلَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَلَا عُرِجَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَلَا يَصْعَدُ إلَيْهِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَلَا تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ فَهَذَا قَوْلُهُ بَاطِلٌ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالَ إنَّ هَذَا تَجْسِيمٌ فَنَفْيُهُ بَاطِلٌ وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ تَجْسِيمًا تَلْبِيسٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا فِي اللُّغَةِ يُسَمَّى جِسْمًا فَقَدْ أَبْطَلَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ يَكُونَ جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ أَوْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ قِيلَ لَهُ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَك فِي تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ وَفِي أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فَلَا يَقُولُونَ : إنَّ الْهَوَاءَ مِثْلُ الْمَاءِ

وَلَا أَبْدَانَ الْحَيَوَانِ مِثْلُ الْحَدِيدِ وَالْجِبَالِ فَكَيْفَ يُوَافِقُونَك عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يَكُونُ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ إذَا أَثْبَتُوا لَهُ مَا أَثَبَتَ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَفَى الْمُمَاثَلَاتِ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَكِلَاهُمَا جِسْمٌ كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } مَعَ أَنَّ كِلَاهُمَا بَشَرٌ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ لِرَبِّ السَّمَوَاتِ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ أَنَّهُ يَكُونُ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . وَنُكْتَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْجِسْمَ فِي اعْتِقَادِ هَذَا النَّافِي يَسْتَلْزِمُ مُمَاثَلَةَ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَيَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا التَّلَازُمِ وَهَذَا التَّلَازُمُ مُنْتَفٍ بِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى انْتِفَاءِ النَّقْصِ الْمَنْفِيِّ عَنْ اللَّهِ شَرْعًا وَعَقْلًا بَقِيَ بَحْثُهُمْ فِي الْجِسْمِ الِاصْطِلَاحِيِّ هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا الْمَحْذُورِ ؟ وَهُوَ بَحْثٌ عَقْلِيٌّ كَبَحْثِ النَّاسِ فِي الْأَعْرَاضِ هَلْ تَبْقَى أَوْ لَا تَبْقَى ؟ وَهَذَا الْبَحْثُ الْعَقْلِيُّ لَمْ يَرْتَبِطْ بِهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لَمْ يَنْطِقْ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا أَثَرٌ مِنْ السَّلَفِ بِلَفْظِ الْجِسْمِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِعَ اسْمًا مُجْمَلًا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً لَمْ يَنْطِقْ بِهِ الشَّرْعُ وَيُعَلِّقْ بِهِ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ قَدْ نَطَقَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَكَيْفَ إذَا

أَحْدَثَ لِلَّفْظِ مَعْنًى آخَرَ وَالْمَعْنَى الَّذِي يَقْصِدُهُ إذَا كَانَ حَقًّا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبَارَةِ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا فَإِذَا كَانَ مُعْتَقَدُهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا كُفُوَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ فَهَذِهِ عِبَارَاتُ الْقُرْآنِ تُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى بِلَا تَلْبِيسٍ وَلَا نِزَاعَ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقَدُهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ غَيْرُ مُتَمَاثِلَةٍ وَأَنَّ كُلَّ مَا يُرَى وَتَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ جِسْمٌ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا أَثْبَتّه اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ . كَقَوْلِهِ : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسَتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك } " وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " { اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ } " وَيَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا تضامون فِي رُؤْيَتِهِ } " فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَرْئِيُّ كَالْمَرْئِيِّ . فَهَذِهِ عِبَارَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الصَّحِيحِ بِلَا تَلْبِيسٍ وَلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا مَنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ مَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَازِمٌ لِلْحَقِّ لَمْ يَدْفَعْهُ عَنْ عَقْلِهِ فَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ

الشَّرْعُ عَلَيْهِ فَيُبَيِّنُهُ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ قَدَّرَ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اعْتِقَادُهُ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَيْهِ وَإِنْ قَدَّرَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ .
وَمَسْأَلَةُ تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَتَرْكِيبُهَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ قَدْ اضْطَرَبَ فِيهَا جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْكَلَامِ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً . وَأَكْثَرُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً وَلَا مُرَكَّبَةً لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْتَدِعَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ قَوْلَهُ : إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَيُنَاظِرُ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بَلْ يَكْفِيهِ إثْبَاتُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْعِبَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ وَأَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْتَدِعَ النَّفْيَ بِهَذَا الِاسْمِ وَيُنَاظِرَ عَلَى مَعْنَاهُ الَّذِي اعْتَقَدَهُ بِعَقْلِهِ ؛ بَلْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومُ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ يُمْكِنُ إظْهَارُهُ بِعِبَارَةٍ لَا إجْمَالَ فِيهَا وَلَا تَلْبِيسَ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ يَدَّعِي كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ أَكْثَرُ أَجْزَاءً مِنْهُ . وَيَقُولُونَ : هَذَا جَسِيمٌ أَيْ كَثِيرُ الْأَجْزَاءِ .

قَالَ : وَالتَّفْضِيلُ بِصِيغَةِ أَفْعَلَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَإِذَا قِيلَ : هَذَا أَعْلَمُ وَأَحْلَمُ كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى الْفَضِيلَةِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ فَلَمَّا قَالُوا : أَجْسَمَ لِمَا كَانَ أَكْثَرَ أَجْزَاءً دَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ عِنْدَهُمْ الْمُرَادُ بِهِ الْمُرَكَّبُ فَمَنْ قَالَ جِسْمٌ وَلَيْسَ بِمُرَكَّبِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ لُغَةِ الْعَرَبِ . قَالُوا : وَهَذِهِ تخليطة فِي اللَّفْظِ وَإِنْ كُنَّا لَا نُكَفِّرُهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ خَصَائِصُ الْجِسْمِ مِنْ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ وَقَدْ نَازَعَهُمْ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا وَقَالُوا : لَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي زَيْدٍ فَيُقَالُ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ هَذَا جَسِيمٌ أَيْ عَظِيمُ الْجُثَّةِ . وَهَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا أَيْ أَعْظَمُ جُثَّةً لَكِنَّ كَوْنَ الْعَرَبِ تَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي هِيَ الْجَوَاهِرُ الْفَرْدَةُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَاطِبَةً يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ وَالْجَوْهَرُ الْفَرْدُ هُوَ شَيْءٌ قَدْ بَلَغَ مِنْ الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ يَمِينُهُ مِنْ يَسَارِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ لَا يَتَصَوَّرُ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَاَلَّذِينَ يَتَصَوَّرُونَهُ أَكْثَرُهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ وَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوهُ إنَّمَا يُثْبِتُونَهُ بِطُرُقٍ خَفِيَّةٍ طَوِيلَةٍ بَعِيدَةٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الشَّائِعُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا خَوَاصُّهَا وَعَوَامُّهَا أَرَادُوا بِهِ هَذَا . وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ

بِإِحْسَانٍ لَمْ يَنْطِقُ بِإِثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَلَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ بَلْ وَلَا الْعَرَبُ قَبْلَهُمْ وَلَا سَائِرُ الْأُمَمِ الْبَاقِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَلَا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ فَكَيْفَ يُدَعَّى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لَفْظَ جِسْمٍ إلَّا لِمَا كَانَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا وَلَوْ قُلْت لِمَنْ شِئْت مِنْ الْعَرَبِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالسَّمَاءُ مُرَكَّبٌ عِنْدَك مِنْ أَجْزَاءٍ صِغَارٍ كُلٌّ مِنْهَا لَا يَقْبَلُ التجزي أَوْ الْجِبَالُ أَوْ الْهَوَاءُ أَوْ الْحَيَوَانُ أَوْ النَّبَاتُ لَمْ يَتَصَوَّرْ هَذَا الْمَعْنَى إلَّا بَعْدَ كُلْفَةٍ ثُمَّ إذَا تَصَوَّرَهُ قَدْ يُكَذِّبُهُ بِفِطْرَتِهِ وَيَقُولُ : كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ جَانِبٌ عَنْ جَانِبٍ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ يُنْكِرُونَ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ فَالْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً تُنْكِرُهُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ . وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقِينَ عَلَى اسْتِحَالَةِ بَعْضِ الْأَجْسَامِ إلَى بَعْضٍ كَاسْتِحَالَةِ الْعَذِرَةِ رَمَادًا وَالْخِنْزِيرِ مِلْحًا . ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الِاسْتِحَالَةِ هَلْ تَطْهُرُ أَمْ لَا تَطْهُرُ ؟ وَالْقَائِلُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ لَا تَسْتَحِيلُ الذَّوَاتُ عِنْدَهُمْ بَلْ تِلْكَ الْجَوَاهِرُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأَوَّلِ هِيَ بِعَيْنِهَا فِي الثَّانِي وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التَّرْكِيب وَلِهَذَا يَتَكَلَّمُ بِلَفْظِ التَّرْكِيبِ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ هَذَا التَّرْكِيبَ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيَقُولُ : إنَّ الْمَاءَ يُفَارِقُ غَيْرَهُ فِي التَّرْكِيبِ فَقَطْ . وَكَذَلِكَ الْقَائِلُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عِنْدَهُمْ إنَّا لَمْ نُشَاهِدْ قَطُّ إحْدَاثَ اللَّهِ تَعَالَى لِشَيْءٍ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا . وَأَنَّ جَمِيعَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَالثِّمَارِ وَالْمَطَرِ

وَالسَّحَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ جَمْعُ الْجَوَاهِرِ وَتَفْرِيقُهَا وَتَغْيِيرُ صِفَاتِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ لَا أَنَّهُ يُبْدِعُ شَيْئًا مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا وَهَذَا الْقَوْلُ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُهُ وَيَقُولُ : هُوَ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُسْتَلْزِمًا لِهَذَا الْمَعْنَى . ثُمَّ الْجِسْمُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْغِلَظُ نَفْسُهُ وَهُوَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الشَّيْءُ الْغَلِيظُ وَهُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ . فَنَقُولُ : هَذَا الثَّوْبُ لَهُ جِسْمٌ : أَيْ غِلَظٌ وَقَوْلُهُ : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَرَنَ الْجِسْمَ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ . فَنَقُولُ الْمَعْنَى زَادَهُ بَسْطَةً فِي قَدْرِهِ فَجَعَلَ قَدْرَ بَدَنِهِ أَكْبَرَ مِنْ بَدَنِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ الْجِسْمُ هُوَ الْقَدْرُ نَفْسُهُ لَا نَفْسَ الْمُقَدَّرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } أَيْ صُوَرُهُمْ الْقَائِمَةُ بِأَبْدَانِهِمْ كَمَا تَقُولُ : أَعْجَبَنِي حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ وَلَوْنُهُ وَبَهَاؤُهُ فَقَدْ يُرَادُ صِفَةُ الْأَبْدَانِ وَقَدْ يُرَادُ نَفْسُ الْأَبْدَانِ وَهُمْ إذَا قَالُوا : هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا أَرَادُوا أَنَّهُ أَغْلَظُ وَأَعْظَمُ مِنْهُ أَمَّا كَوْنُهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْعِظَمَ وَالْغِلَظَ كَانَ لِزِيَادَةِ الْأَجْزَاءِ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ إلَّا مَنْ أَخَذَ ذَلِكَ عَمَّنْ اعْتَقَدَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ الَّذِي أُحْدِثَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ فَإِنَّ هَذَا لَمْ

يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ إلَّا فِي أَوَاخِرَ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ لَمَّا ظَهَرَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَالْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ ثُمَّ ظَهَرَ فِي الْمُعْتَزِلَةِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَالَ : الْجِسْمُ هُوَ الْمُؤَلَّفُ الْمُرَكَّبُ وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ فَقَدْ ادَّعَى مَعْنًى عَقْلِيًّا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ وَافَقَهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ جَعَلَ لَفْظَ الْجِسْمِ فِي اصْطِلَاحِهِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي اللُّغَةِ فَقَدْ غَيَّرَ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ وَادَّعَى مَعْنًى عَقْلِيًّا فِيهِ نِزَاعٌ طَوِيلٌ وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ الشَّرْعِ مَا يُوَافِقُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ وَلَا مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَعْنَى الْعَقْلِيِّ فَاللُّغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ وَالشَّرْعُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ وَالْعَقْلُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مُسَمَّيَاتِ الْأَلْفَاظِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ وَذَلِكَ فِيهِ نِزَاعٌ طَوِيلٌ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ لَا يَحْتَاجُ نَفْيُهُ إلَى مَا أَحْدَثَهُ هَذَا مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَلَا مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَعْنَى الْعَقْلِيِّ بَلْ الَّذِينَ جَعَلُوا هَذَا عُمْدَتَهُمْ فِي تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَلَى نَفْيِ مُسَمَّى الْجِسْمِ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ النَّقَائِصِ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا : هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَكُلُّ مَا أَثْبَتُوهُ هُوَ أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ مِثْلُ كَوْنِهِ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا بَلْ كَوْنِهِ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَذَا فِي الشَّاهِدِ

إلَّا جِسْمًا فَإِذَا قَالَ الْمُنَازِعُ : أَنَا أَقُولُ فِيمَا نَفَيْتُمُوهُ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ فِيمَا أَثْبَتُّمُوهُ انْقَطَعُوا . ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّبِّ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عِنْدَهُمْ هَلْ عُلِمَ بِالْإِجْمَاعِ فَقَطْ أَوْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ أَيْضًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . فَمَنْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ بِالْعَقْلِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَالرَّازِي وَغَيْرِهِمَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ يُنَزِّهُونَ بِهِ الرَّبَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّقَائِصِ هَذَا إذَا لَمْ يَنْفِ إلَّا مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ مِثْلُ نَفْيِهِ لِلنَّقَائِصِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا وَيَنْفِي عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لَهُ وَهَذَانِ النَّوْعَانِ يَجْمَعَانِ التَّنْزِيهَ الْوَاجِبَ لِلَّهِ و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } دَلَّتْ عَلَى النَّوْعَيْنِ . فَقَوْلُهُ : أَحَدٌ مَعَ قَوْلِهِ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } يَنْفِي الْمُمَاثَلَةَ وَالْمُشَارَكَةَ وَقَوْلُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَالنَّقَائِصُ جِنْسُهَا مَنْفِيٌّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَخْلُوقُ فَهُوَ مِنْ النَّقَائِصِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا بِخِلَافِ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ . وَيُوصَفُ الْعَبْدُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ : مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ نَقَائِصَ بَلْ مَا ثَبَتَ لِلَّهِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلَّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَارِبُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ فِيهِ بَلْ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي

الْجَنَّةِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ لَا يُمَاثِلُ مَا خَلَقَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الِاسْمِ وَكِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ . قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَبَنًا وَخَمْرًا وَعَسَلًا وَمَاءً وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ وَكِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ . فَالْخَالِقُ تَعَالَى أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَخْلُوقِ إلَى الْمَخْلُوقِ . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ عَلِيمًا حَلِيمًا رَءُوفًا رَحِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا عَزِيزًا مَلِكًا جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا . مُؤْمِنًا عَظِيمًا كَرِيمًا غَنِيًّا شَكُورًا . كَبِيرًا حَفِيظًا شَهِيدًا حَقًّا وَكِيلًا وَلَّيَا وَسَمَّى أَيْضًا بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَسَمَّى الْإِنْسَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا وَسَمَّى نَبِيَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ مَلِكًا وَبَعْضَهُمْ شَكُورًا وَبَعْضَهُمْ عَظِيمًا وَبَعْضَهُمْ حَلِيمًا وَعَلِيمًا وَسَائِرُ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ مُمَاثِلًا لِلْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ .
وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ فِي لَفْظِ التَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ مُتَحَيِّزٌ وَهُوَ فِي جِهَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَيْسَ فِي جِهَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ فِي جِهَةٍ وَلَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَفْظُ الْمُتَحَيِّزِ يَتَنَاوَلُ الْجِسْمَ وَالْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَلَفْظُ الْجَوْهَرِ قَدْ يُرَادُ بِهِ

الْمُتَحَيِّزُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ . وَمِنْ الْفَلَاسِفَةِ مَنْ يَدَّعِي إثْبَاتَ جَوَاهِرَ قَائِمَةٍ بِأَنْفُسِهَا غَيْرِ مُتَحَيِّزَةٍ . وَمُتَأَخِّرُو أَهْلِ الْكَلَامِ كَالشِّهْرِسْتَانِي وَالرَّازِي والآمدي وَنَحْوِهِمْ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُ ذَلِكَ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ هَؤُلَاءِ - وَهُوَ إنَّمَا يُثْبِتُ حُدُوثَ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ - يَقُولُ بِتَقْدِيرِ وُجُودِ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةٍ فَلَيْسَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا وَلِهَذَا صَارَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ خَلَطَ الْكَلَامَ بِالْفَلْسَفَةِ إلَى قَدَمِ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ وَحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِحُدُوثِهَا هُوَ حُدُوثُ تَصَوُّرٍ مِنْ تَصَوُّرَاتِ النَّفْسِ وَبَعْضِ أَعْيَانِ الْمُصَنِّفِينَ كَانَ يَقُولُ بِهَذَا . وَكَذَلِكَ الأرموي صَاحِبُ " اللُّبَابِ " الَّذِي أَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى دَوَامِ الْفَاعِلِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحُدُوثِ مِنْ سَبَبٍ فَأَجَابَ بِالْجَوَابِ الْبَاهِرِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الرَّازِي فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " فَإِنَّهُ أَجَابَ بِهِ وَهُوَ فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " يَخْلِطُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ بِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ فِي مَسْأَلَةِ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ حَائِرٌ وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَجْوِبَةِ . فَإِنَّهُ يُقَالُ . مَا الْمُوجِبُ لِحُدُوثِ تِلْكَ التَّصَوُّرَاتِ دَائِمًا ثُمَّ إنَّ النَّفْسَ عِنْدَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِالْجِسْمِ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ نَفْسٍ بِدُونِ جِسْمٍ .

وَأَيْضًا فَاَلَّذِي عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَأَيْضًا فَمَا تُثْبِتُهُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ إنَّمَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَقَالُوا انْتِفَاءُ هَذِهِ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ مَا تَدَّعِي الْفَلَاسِفَةُ إثْبَاتَهُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعُقَلُ وَالنَّفْسُ وَالْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ فَلَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ مَعْقُولَةٌ فِي الذِّهْنِ يُجَرِّدُهَا الْعَقْلُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا يُجَرِّدُ الْعَقْلَ الْكُلِّيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الْأَصْنَافِ : كالحيوانية الْكُلِّيَّةِ والإنسانية الْكُلِّيَّةِ وَالْكُلِّيَّاتِ إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَمَنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا تَكُونُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّاتٌ وَأَنَّ فِي الْخَارِجِ مَاهِيَّاتٍ كُلِّيَّةً مُقَارِنَةً لِلْأَعْيَانِ غَيْرَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَكَذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ كُلِّيَّاتٍ مُجَرَّدَةً عَنْ الْأَعْيَانِ يُسَمُّونَهَا " الْمُثُلَ الأفلاطونية " وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ دَهْرًا مُجَرَّدًا عَنْ الْمُتَحَرِّكِ وَالْحَرَكَةِ وَيُثْبِتُ خَلَاءً مُجَرَّدًا لَيْسَ هُوَ مُتَحَيِّزًا وَلَا قَائِمًا بِمُتَحَيِّزِ . وَيُثْبِتُ هَيُولَى مُجَرَّدَةً عَنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ وَالْهَيُولَى فِي لُغَتِهِمْ بِمَعْنَى الْمَحَلِّ . يُقَالُ الْفِضَّةُ هَيُولَى الْخَاتَمِ وَالدِّرْهَمِ وَالْخَشَبِ هَيُولَى الْكُرْسِيِّ . أَيْ هَذَا الْمَحَلُّ الَّذِي تُصْنَعُ فِيهِ هَذِهِ الصُّورَةُ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الصِّنَاعِيَّةُ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَيَدَّعُونَ أَنَّ لِلْجِسْمِ هَيُولَى مَحَلَّ

الصُّورَةِ الْجِسْمِيَّةِ غَيْرَ نَفْسِ الْجِسْمِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا غَلَطٌ . وَإِنَّمَا هَذَا يُقَدَّرُ فِي النَّفْسِ كَمَا يُقَدَّرُ امْتِدَادُ مُجَرَّدٍ عَنْ كُلِّ مُمْتَدٍّ وَعَدَدٍ مُجَرَّدٍ عَنْ كُلٍّ مَعْدُودٍ وَمِقْدَارٍ مُجَرَّدٍ عَنْ كُلّ مُقَدَّرٍ وَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُقَدَّرَةٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ . وَقَدْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ مَنْ عَادَتُهُ نَصْرُ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَالْجَوَاهِرُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يُثْبِتُهَا هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ بَعْد التَّصَوُّرِ التَّامِّ انْتِفَاؤُهَا فِي الْخَارِجِ . وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَهَذِهِ لَا يَعْرِفُهَا هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ أَتْبَاعَ أَرِسْطُو وَلَا يَذْكُرُونَهَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ كَمَا لَا يَعْرِفُونَ النُّبُوَّاتِ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ إنَّمَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مُتَأَخِّرُوهُمْ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ النُّبُوَّاتِ وَبَيْنَ الْفَلْسَفَةِ فَلَبَّسُوا وَدَلَّسُوا . وَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ الْأُولَى " الَّتِي يُثْبِتُونَهَا لِهَذَا الْعَالَمِ إنَّمَا أَثْبَتُوا عِلَّةً غائية يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا وَتَحْرِيكُهَا لِلْفَلَكِ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيكِ الْإِمَامِ الْمُقْتَدَى بِهِ لِلْمُؤْتَمِّ الْمُقْتَدِي إذَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِإِمَامِهِ وَيَقْتَدِيَ بِإِمَامِهِ وَلَفْظُ " الْإِلَهِ " فِي لُغَتِهِمْ يُرَادُ بِهِ الْمَتْبُوعُ الْإِمَامُ الَّذِي يَتَشَبَّهُ بِهِ فَالْفَلَكُ عِنْدَهُمْ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِالْإِلَهِ وَلِهَذَا جَعَلُوا " الْفَلْسَفَةَ الْعُلْيَا " و " الْحِكْمَةَ الْأُولَى " إنَّمَا هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَكَلَامُ أَرِسْطُو فِي عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ فِي " مَقَالَةِ اللَّامِ " الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَلْسَفَتِهِ

وَفِي غَيْرِهَا كُلُّهُ يَدُورُ عَلَى هَذَا وَتَارَةً يُشَبِّهُ تَحْرِيكَهُ لِلْفَلَكِ بِتَحَرِّيك الْمَعْشُوقِ لِلْعَاشِقِ لَكِنَّ التَّحْرِيكَ هُنَا قَدْ يَكُونُ لِمَحَبَّةِ الْعَاشِقِ ذَاتَ الْمَعْشُوقِ أَوْ لِغَرَضٍ يَنَالُهُ مِنْهُ وَحَرَكَةُ الْفَلَكِ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ يَتَحَرَّكُ لِيَتَشَبَّهَ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى فَهُوَ يُحِبُّهَا أَيْ يُحِبُّ التَّشَبُّهَ بِهَا لَا يُحِبُّ أَنْ يَعْبُدَهَا وَلَا يُحِبَّ شَيْئًا يَحْصُلُ مِنْهَا وَيُشَبِّهُ ذَلِكَ أَرِسْطُو بِحَرَكَةِ النَّوَامِيسِ لِأَتْبَاعِهَا أَيْ أَتْبَاعِ النَّامُوسِ قَائِمُونَ بِمَا فِي النَّامُوسِ وَيَقْتَدُونَ بِهِ وَالنَّامُوسُ عِنْدَهُمْ هِيَ السِّيَاسَةُ الْكُلِّيَّةُ لِلْمَدَائِنِ الَّتِي وَضَعَهَا لَهُمْ ذَوُو الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ لِمَصْلَحَةِ دُنْيَاهُمْ ؛ لِئَلَّا يَتَظَالَمُوا وَلَا تَفْسُدَ دُنْيَاهُمْ . وَمَنْ عَرَفَ النُّبُوَّاتِ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِنْسِ نَوَامِيسِهِمْ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَصْلَحَةُ الدُّنْيَا ؛ بِوَضْعِ قَانُونِ عدلي ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ النُّبُوَّةَ وَجَعَلُوا النُّبُوَّةَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِأَجْلِ وَضْعِ هَذَا النَّامُوسِ وَلَمَّا كَانَتْ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْخِلْقِيَّةُ وَالْمَنْزِلِيَّةُ وَالْمَدَنِيَّةُ : جَعَلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْحِكْمَةِ الْخِلْقِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ . فَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ بَلْ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ مِنْ كُفَّارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرِ . وَأَرِسْطُو الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ إلَى الْغَايَةِ . لَكِنْ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَهَذَا بَحْرُ عِلْمِهِمْ وَلَهُ تَفَرَّغُوا

وَفِيهِ ضَيَّعُوا زَمَانَهُمْ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَحَظُّهُمْ مِنْهَا مَبْخُوسٌ جِدًّا وَأَمَّا مَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَكُتُبُهُ وَرُسُلُهُ وَالْمَعَادُ . فَلَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهِ لَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مُتَأَخِّرُوهُمْ الدَّاخِلُونَ فِي الْمِلَلِ . وَأَمَّا قُدَمَاءُ الْيُونَانِ فَكَانُوا مُشْرِكِينَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شِرْكًا وَسِحْرًا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَلِهَذَا عَظُمَتْ عِنَايَتُهُمْ بِعِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالْكَوَاكِبِ لِأَجْلِ عِبَادَتِهَا . وَكَانُوا يَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ وَكَانَ آخِرُ مُلُوكِهِمْ بَطْلَيْمُوس صَاحِبَ " الْمَجِسْطِي " وَلَمَّا دَخَلَتْ الرُّومُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ فَجَاءَ دِينُ الْمَسِيحِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَبْطَلَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ . وَلِهَذَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ دِينَ الْمَسِيحِ فَوَضَعَ دِينًا مُرَكَّبًا مِنْ دِينِ الْمُوَحِّدِينَ وَدِينِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ وَيُصَلُّونَ لَهَا وَيَسْجُدُونَ فَجَاءَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ النَّصَارَى وَمَنْ اتَّبَعَهُ فَابْتَدَعُوا الصَّلَاةَ إلَى الْمَشْرِقِ وَجَعَلُوا السُّجُودَ إلَى الشَّمْسِ بَدَلًا عَنْ السُّجُودِ لَهَا وَكَانَ أُولَئِكَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ الْمُجَسَّدَةَ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ فَجَاءَتْ النَّصَارَى وَصَوَّرَتْ تَمَاثِيلَ الْقَدَادِيسَ فِي الْكَنَائِسِ وَجَعَلُوا الصُّوَرَ الْمَرْقُومَةَ فِي الْحِيطَانِ وَالسُّقُوفِ بَدَلَ الصُّوَرِ الْمُجَسَّدَةِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا الَّتِي لَهَا ظِلٌّ .

وَأَرِسْطُو كَانَ وَزِيرَ الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فيلبس الْمَقْدُونِيِّ - نِسْبَةً إلَى مَقْدُونِيَّةَ - وَهِيَ جَزِيرَةُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِيِّينَ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمَشَّائِينَ وَهِيَ الْيَوْمُ خَرَابٌ أَوْ غَمَرَهَا الْمَاءُ وَهُوَ الَّذِي يُؤَرِّخُ لَهُ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ التَّارِيخَ الرُّومِيَّ وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سُنَّةٍ فَيَظُنُّ مَنْ يُعَظِّمُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةَ أَنَّهُ كَانَ وَزِيرًا لِذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ لِيُعَظِّمَ بِذَلِكَ قَدْرَهُ وَهَذَا جَهْلٌ ؛ فَإِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ قَبْلَ هَذَا بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ جِدًّا وَذُو الْقَرْنَيْنِ بَنَى سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهَذَا الْمَقْدُونِيُّ ذَهَبَ إلَى بِلَادِ فَارِسَ وَلَمْ يَصِلْ إلَى بِلَادِ الصِّينِ ؛ فَضْلًا عَنْ السَّدِّ . وَالْمَلَائِكَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهَا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسُوا عَشَرَةً وَلَا تِسْعَةً وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ أَحْيَاءُ نَاطِقُونَ يَنْزِلُونَ إلَى الْأَرْضِ وَيَصْعَدُونَ إلَى السَّمَاءِ . وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ . كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ . وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعُقُولَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَأَنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ هُوَ

رَبُّ كُلِّ مَا تَحْتَ هَذَا الْفَلَكِ وَالْعَقْلُ الْأَوَّلُ هُوَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَالْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ دَخَلُوا مَعَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ بَنِي عُبَيْدٍ : كَأَصْحَابِ رَسَائِلَ إخْوَانِ الصَّفَا وَغَيْرِهِمْ وَكَمَلَاحِدَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ : مِثْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَغَيْرِهِمَا يَحْتَجُّونَ لِمِثْلِ ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ : " { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ } " . وَفِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ فِي " الْكُتُبِ الْمَضْنُونِ بِهَا عَلَى غَيْرِ أَهْلِهَا " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي هَؤُلَاءِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ وَيُعَبِّرُ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ بِلَفْظِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ الْجِسْمُ وَالنَّفْسُ وَالْعَقْلُ . فَيَأْخُذُ هَؤُلَاءِ الْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ وَيُودِعُونَهَا مَعَانِيَ هَؤُلَاءِ وَتِلْكَ الْعِبَارَاتُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا سَمِعُوهَا قَبِلُوهَا ثُمَّ إذَا عَرَفُوا الْمَعَانِيَ الَّتِي قَصَدَهَا هَؤُلَاءِ ضَلَّ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ هَذِهِ مَعَانِي هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ لَيْسَتْ هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي عَنَاهَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِخْوَانُهُ الْمُرْسَلُونَ : مِثْلُ مُوسَى وَعِيسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . وَلِهَذَا ضَلَّ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِسَبَبِ هَذَا الِالْتِبَاسِ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَضِلَّ بِهِمْ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي مُخَالَفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يُحِبُّ اتِّبَاعَهُ مُطْلَقًا وَلَوْ عَرَفَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَقْبَلْهُ لَكِنْ لِعَدَمِ كَمَالِ عِلْمِهِ بِمَعَانِي مَا أَخْبَرَ

بِهِ الرَّسُولُ وَمَقَاصِدِ هَؤُلَاءِ يَقْبَلُ هَذَا . لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مِمَّنْ لَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ فِي الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ وَالْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ . وَرَأَى الطَّالِبُ أَنَّ هَذَا مَرْتَبَتُهُ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ إنَّمَا يَعْرِفُونَ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ وَفَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمُحَدِّثِ الَّذِي غَايَتُهُ أَنْ يَنْقُلَ أَلْفَاظًا لَا يُعْلَمُ مَعَانِيهَا وَكَذَلِكَ الْمُقْرِئِ وَالْمُفَسِّرِ وَرَأَى مَنْ يُعَظِّمُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إمَّا مُوَافِقٌ لَهُمْ وَإِمَّا خَائِفٌ مِنْهُمْ وَرَأَى بُحُوثَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَأْتُوا بِتَحْقِيقِ يُبَيِّنُ فَسَادَ قَوْلِهِمْ بَلْ تَارَةً يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى أُصُولٍ لَهُمْ تَكُونُ فَاسِدَةً وَتَارَةً يُخَالِفُونَهُمْ فِي أَمْرٍ قَالَتْهُ الْفَلَاسِفَةُ وَيَكُونُ حَقًّا مِثْلَ مَنْ يَرَى كَثِيرًا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ يُخَالِفُهُمْ فِي أُمُورٍ طَبِيعِيَّةٍ وَرِيَاضِيَّةٍ ظَانًّا أَنَّهُ يَنْصُرُ الشَّرْعَ وَيَكُونُ الشَّرْعُ مُوَافِقًا لِمَا عُلِمَ بِالْعَقْلِ . مِثْلُ اسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بَيْنَ السَّلَفِ خِلَافٌ فِي أَنَّهَا مُسْتَدِيرَةٌ وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَدْ دَلَّا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ اسْتِحَالَةُ الْأَجْسَامِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ . إلَى أُمُورٍ أُخَرِ . لَكِنَّ كَثِيرَا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ لَا خِبْرَةَ لَهُمْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ بَلْ يَنْصُرُ مَقَالَاتٍ يَظُنُّهَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ بَلْ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَكُونُ قَدْ قَالَهَا أَحَدٌ مِنْ

السَّلَفِ ؛ بَلْ الثَّابِتُ عَنْ السَّلَفِ مُخَالِفٌ لَهَا " فَلَمَّا وَقَعَ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ تَقْصِيرٌ وَجَهْلٌ كَثِيرٌ بِحَقَائِقِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ تَارَةً يُوَافِقُونَ الْفَلَاسِفَةَ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَارَةً يُخَالِفُونَهُمْ فِي حَقِّهِمْ صَارَتْ الْمُنَاظَرَاتُ بَيْنَهُمْ دُوَلًا . وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُونَ أَصَحَّ مُطْلَقًا فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْكُلِّيَّةِ كَمَا أَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الشَّرْعِيَّاتِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ ؛ فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ كَلَامُهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ كَلَامٌ قَاصِرٌ جِدًّا وَفِيهِ تَخْلِيطٌ كَثِيرٌ وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ جَيِّدًا فِي الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَفِي كُلِّيَّاتِهَا فَكَلَامُهُمْ فِيهَا فِي الْغَالِبِ جَيِّدٌ . وَأَمَّا الْغَيْبُ الَّذِي تُخْبِرُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْكُلِّيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي تَعُمُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا وَتَقْسِيمُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا قِسْمَةٌ صَحِيحَةٌ فَلَا يَعْرِفُونَهَا أَلْبَتَّةَ : فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّنْ أَحَاطَ بِأَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا الْحَسَيَاتِ وَبَعْضَ لَوَازِمِهَا وَهَذَا مَعْرِفَةٌ بِقَلِيلٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ جِدًّا فَإِنَّ مَا لَا يَشْهَدُهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ أَعْظَمُ قَدْرًا . وَصِفَةً مِمَّا يَشْهَدُونَهُ بِكَثِيرِ . وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَرَفُوا مَا عَرَفْته الْفَلَاسِفَةُ إذَا سَمِعُوا إخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنْ لَا مَوْجُودَ إلَّا مَا عَلِمُوهُ هُمْ وَالْفَلَاسِفَةُ : يَصِيرُونَ حَائِرِينَ مُتَأَوِّلِينَ لِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا عَرَفُوهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ بِهَذَا

النَّفْيِ عِلْمٌ ؛ فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ لَكِنَّ نَفْيَهُمْ هَذَا كَنَفْيِ الطَّبِيبِ لِلْجِنِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صِنَاعَةِ الطِّبّ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْجِنِّ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي عِلْمِ الطِّبِّ مَا يَنْفِي وُجُودَ الْجِنِّ وَهَكَذَا تَجِدُ مِنْ عَرَفَ نَوْعًا مِنْ الْعِلْمِ وَامْتَازَ بِهِ عَلَى الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَهُ فَيَبْقَى بِجَهْلِهِ نَافِيًا لِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَبَنُو آدَمَ ضَلَالُهُمْ فِيمَا جَحَدُوهُ وَنَفَوْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَكْثَرُ مِنْ ظِلَالِهِمْ فِيمَا أَثْبَتُوهُ وَصَدَّقُوا بِهِ . قَالَ تَعَالَى : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } وَهَذَا لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْآدَمِيِّينَ صِحَّةُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ فَإِذَا أَثْبَتُوا شَيْئًا وَصَدَّقُوا بِهِ كَانَ حَقًّا . وَلِهَذَا كَانَ التَّوَاتُرُ مَقْبُولًا مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ ؛ لِأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ عَمَّا شَاهَدُوهُ وَسَمِعُوهُ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشْتَرِكُ الْخَلْقُ الْعَظِيمُ فِي الْغَلَطِ فِيهِ وَلَا فِي تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِيهِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْخُذْهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ كَمَا تُؤْخَذُ الْمَذَاهِبُ وَالْآرَاءُ الَّتِي يَتَلَقَّاهَا الْمُتَأَخِّرُ عَنْ الْمُتَقَدِّمِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُغْلَطُ فِيهِ عَادَةً عُلِمَ قَطْعًا صِدْقُهُمْ فَإِنَّ الْمُخْبِرَ إمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ الْكَذِبَ وَإِمَّا أَنْ يَغْلَطَ وَكِلَاهُمَا مَأْمُونٌ فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ بِخِلَافِ مَا نَفَوْهُ وَكَذَّبُوا بِهِ فَإِنَّ غَالِبَهُمْ أَوْ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَنْفُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ وَيُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ . فَصَارَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَنُّوا الْمَوْجُودَاتِ مَا عَرَفَهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ إذَا سَمِعُوا مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ قَالُوا : الْعَرْشُ هُوَ .

الْفَلَكُ التَّاسِعُ وَالْكُرْسِيُّ هُوَ الثَّامِنُ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِحَاطَةِ " وَبَيَّنَّا جَهْلَ مَنْ قَالَ هَذَا عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِذَا سَمِعَهُمْ يَذْكُرُونَ الْمَلَائِكَةَ ظَنَّ أَنَّهُمْ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ الَّتِي يُثْبِتُهَا الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقُوَى الَّتِي فِي الْأَجْسَامِ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ يَظُنُّ أَنَّهَا أَعْرَاضٌ قَائِمَةٌ بِالنُّفُوسِ حَيْثُ كَانَ هَذَا مَبْلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ يَظُنُّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَنَّ الْغَرَائِبَ فِي هَذَا الْعَالَمِ سَبَبُهَا قُوَّةٌ فَلَكِيَّةٌ أَوْ طَبِيعِيَّةٌ أَوْ نَفْسَانِيَّةٌ وَيَجْعَلُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَابِ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ لَكِنَّ السَّاحِرَ قَصْدُهُ الشَّرُّ وَالنَّبِيَّ قَصْدُهُ الْخَيْرُ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْجَهْلِ بِالْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ الْمُحِيطَةِ بِالْمَوْجُودَاتِ وَأَنْوَاعِهَا وَمِنْ الْجَهْلِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَلَا الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ إلَّا مَا يَعْرِفُهُ الْفَلَاسِفَةُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَزِيَادَاتٌ تَلَقَّوْهَا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ عَنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ . فَلِهَذَا صَارَ كَلَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ أَجْوَدَ مِنْ كَلَامِ سَلَفِهِ وَلِهَذَا قَرُبَتْ فَلْسَفَةُ الْيُونَانِ إلَى أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ لِمَا فِيهَا مِنْ شَوْبِ الْمِلَّةِ وَلِهَذَا دَخَلَ فِيهَا بَنُو عُبَيْدٍ الْمَلَاحِدَةُ فَأَخَذُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئَةَ الْمُشْرِكِينَ الْعَقْلَ وَالنَّفْسَ وَعَنْ الْمَجُوسِ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ وَسَمَّوْهُ هُمْ السَّابِقَ وَالتَّالِيَ وَكَذَلِكَ الْمَلَاحِدَةُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى التَّصَوُّفِ وَالتَّأَلُّهِ : كَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ سَلَكُوا

مَسْلَكًا جَمَعُوا فِيهِ بِزَعْمِهِمْ بَيْنَ الشَّرْعِ وَالْفَلْسَفَةِ وَهُمْ مَلَاحِدَةٌ لَيْسُوا مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا ذُكِرُوا هُنَا لِأَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ صَارُوا - لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِمَا عَلِمَهُ السَّلَفُ وَأَئِمَّةَ السُّنَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَلِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْكَلَامِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ - يُدْخِلُ بِسَبَبِهِمْ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْإِسْلَامِ أُمُورًا بَاطِلَةً وَيَحْصُلُ بِهِمْ مِنْ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ . وَلَمَّا أَحْدَثَتْ الْجَهْمِيَّة مِحْنَتَهُمْ وَدَعَوْا النَّاسَ إلَيْهَا وَضُرِّبَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي سُنَّةِ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ كَانَ مَبْدَأُ حُدُوثِ الْقَرَامِطَةِ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَصَارَتْ الْبِدَعُ بَابَ الْإِلْحَادِ كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ بَرِيدُ الْكُفْرِ وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ التَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُتَفَلْسِفَةُ صَارَ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِي الْمَلَائِكَةِ . هَلْ هِيَ مُتَحَيِّزَةٌ أَمْ لَا ؟ فَمَنْ مَالَ إلَى الْفَلْسَفَةِ وَرَأَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ الَّتِي يُثْبِتُهَا الْفَلَاسِفَةُ وَأَنَّ تِلْكَ لَيْسَتْ مُتَحَيِّزَةً قَالَ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسَتْ مُتَحَيِّزَةً لَا سِيَّمَا وَطَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ لَمْ تَجْعَلْ عَدَدَهَا عَشَرَةَ عُقُولٍ وَتِسْعَةَ نُفُوسٍ كَمَا

هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْمَشَّائِينَ بَلْ قَالَ : لَا دَلِيلَ عَلَى نَفْيِ الزِّيَادَةِ وَرَأَى النُّبُوَّاتِ قَدْ أَخْبَرَتْ بِكَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ فَأَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ كَثْرَتَهُمْ بِطَرِيقَةٍ فَلْسَفِيَّةٍ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْبَرَكَاتِ صَاحِبُ " الْمُعْتَبَرِ " وَالرَّازِي فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ أَوْ كُلَّ مُحْدَثٍ أَوْ كُلَّ مَخْلُوقٍ : فَهُوَ إمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِمُتَحَيِّزِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ : كُلُّ مَوْجُودٍ إمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِمُتَحَيِّزِ وَيَقُولُونَ : لَا يُعْقَل مَوْجُودٌ إلَّا كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ ثُمَّ الْمُتَفَلْسِفَةُ كَابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَالشِّهْرِسْتَانِي وَالرَّازِي وَغَيْرِهِمْ لَمَّا أَرَادُوا إثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ عُمْدَتِهِمْ إثْبَاتَ الْكُلِّيَّاتِ كالإنسانية الْمُشْتَرِكَةِ والحيوانية الْمُشْتَرِكَةِ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ لَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ إلَّا فِي الذِّهْنِ فَلَمْ يُنَازِعْهُمْ النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَازَعُوهُمْ فِي إثْبَاتِ مَوْجُودٍ خَارِجَ الذِّهْنِ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهِ بِحَالِ بَلْ لَا يَكُونُ مَعْقُولًا . وَقَالُوا لَهُمْ : الْمَعْقُولُ مَا كَانَ فِي الْعَقْلِ وَأَمَّا مَا كَانَ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُمْكِنَ الْإِحْسَاسُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نُحِسَّ نَحْنُ بِهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا لَا نُحِسُّ بِالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِسَّ بِهِ غَيْرُنَا كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَأَنْ يُحِسَّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَوْ

يُحِسَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا كَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ رَأَوْا الْمَلَائِكَةَ وَسَمِعُوا كَلَامَهُمْ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ - وَهُوَ أَنْ كُلَّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ - هِيَ الَّتِي سَلَكَهَا أَئِمَّةُ النُّظَّارِ : كَابْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ وَسَلَكَهَا ابْنُ الزَّاغُونِي وَغَيْرُهُ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَجُوزُ رُؤْيَتُهُ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يُحِسَّ بِسَائِرِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ وَمُوَافِقُوهُ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِمَا فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ بَلْ يَقُولُونَ فَسَادُهَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَكَذَلِكَ نِزَاعُهُمْ فِي رُوحِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : هِيَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ عَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ كَالْحَيَاةِ وَغَيْرِهَا وَلَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَالْهَوَاءِ الْخَارِجِ مِنْهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ زَعَمُوا أَنَّهَا عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْبَدَنِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ لَكِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَلِقَوْلِ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَمُخَالِفٌ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ . وَهَذَا مِمَّا اسْتَطَالَ بِهِ الْفَلَاسِفَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ

وَبِهَذَا نَقُولُ إذَا لَمْ يَعْنِ بِالرُّوحِ النَّفْسَ فَإِنَّهُ قَالَ : الرُّوحُ الْكَائِنُ فِي الْجَسَدِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : الْحَيَاةُ الْقَائِمَةُ بِهِ وَالْآخِرُ النَّفَسُ وَالنَّفَسُ رِيحٌ يَنْبَثُّ بِهِ وَالْمُرَادُ بِالنَّفَسِ مَا يَخْرُجُ بِنَفَسِ التَّنَفُّسِ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَوَاءِ الْمُتَحَلِّلِ مِنْ الْمَسَامِّ وَهَذَا قَوْلُ الإسفرائيني وَغَيْرِهِ وَقَالَ ابْنُ فورك : هُوَ مَا يَجْرِي فِي تَجَاوِيفِ الْأَعْضَاءِ وَأَبُو الْمَعَالِي خَالَفَ هَؤُلَاءِ وَأَحْسَنَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ فَقَالَ : إنَّ الرُّوحَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ مُشَابَكَةٌ لِلْأَجْسَامِ الْمَحْسُوسَةِ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِحَيَاةِ الْأَجْسَادِ مَا اسْتَمَرَّتْ مُشَابَكَتُهَا لَهَا فَإِذَا فَارَقَتْهَا تَعَقَّبَ الْمَوْتُ الْحَيَاةَ فِي اسْتِمْرَارِ الْعَادَةِ . وَمَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَائِرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ : أَنَّ الرُّوحَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا تُفَارِقُ الْبَدَنَ وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ لَيْسَتْ هِيَ الْبَدَنَ وَلَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ كَالنَّفَسِ الْمَذْكُورِ . وَلَمَّا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد مِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى زَعَمُوا أَنَّهَا جِسْمٌ وَأَنَّهَا الْهَوَاءُ الْمُتَرَدِّدُ فِي مخاريق الْبَدَنِ ؛ مُوَافَقَةً لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْبَاقِلَانِي . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَضْعَفِ الْأَقْوَالِ تَسَلَّطَ بِهَا عَلَيْهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّهَا عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ الْبَدَنِ وَأَجْزَائِهِ وَأَعْرَاضِهِ تَنَازَعُوا : هَلْ هِيَ جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي الْمَلَائِكَةِ . فالمتكلمون مِنْهُمْ يَقُولُونَ : جِسْمٌ والمتفلسفة يَقُولُونَ : جَوْهَرٌ عَقْلِيٌّ لَيْسَ بِجِسْمِ وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَى أَنَّ مَا تُسَمِّيهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةً لَا تُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَأَصْلُ تَسْمِيَتِهِمْ الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارِقَاتِ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تُفَارِقُ بَدَنَهُ بِالْمَوْتِ وَتَتَجَرَّدُ عَنْهُ سَمَّوْهَا مُفَارِقَةً مُجَرَّدَةً ثُمَّ أَثْبَتُوا مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَسَمَّوْهَا مُفَارِقَاتٍ وَمُجَرَّدَاتٍ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يُرِيدُونَ بِالْمُفَارِقِ لِلْمَادَّةِ مَا لَا يَكُونُ جِسْمًا وَلَا قَائِمًا بِجِسْمِ لَكِنَّ النَّفْسَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِسْمِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالْعَقْلِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَجْسَامِ أَصْلًا وَلَا رَيْبَ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْعُقَلَاءَ عَلَى إثْبَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ الَّتِي تُفَارِقُ وَالْجُمْهُورُ يُسَمُّونَ ذَلِكَ رُوحًا وَهَذَا جِسْمًا لَكِنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ فِي اللُّغَةِ لَيْسَ هُوَ الْجِسْمَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ الْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْجِسْمُ الْغَلِيظُ أَوْ غِلَظُهُ وَالرُّوحُ لَيْسَتْ مِثْلَ الْبَدَنِ فِي الْغِلَظِ وَالْكَثَافَةِ وَلِذَلِكَ لَا تُسَمَّى جِسْمًا فَمَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَرْوَاحَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَتْ أَجْسَامًا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا فَإِنَّهُ مِنْ الْمَشْهُورِ فِي اللُّغَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ .

وَأَمَّا أَهْلُ الِاصْطِلَاح مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة فَيَجْعَلُونَ مُسَمَّى الْجِسْمِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا أَمْكَنَتْ الْإِشَارَةُ الْحِسِّيَّةُ إلَيْهِ وَمَا قِيلَ إنَّهُ هُنَا وَهُنَاكَ وَمَا قَبِلَ الْأَبْعَادَ الثَّلَاثَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْمُتَحَيِّزُ فِي اصْطِلَاحِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْجِسْمُ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْجِسْمِ فِي اللُّغَةِ وَأَمَّا الْمُتَحَيِّزُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } . وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْحَوْزُ الْجَمْعُ وَكُلُّ مَنْ ضَمٍّ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ حَازَهُ حَوْزًا وَحِيَازَةً وَاحْتَازَهُ أَيْضًا وَالْحَوْزُ وَالْحَيِّزُ السُّوقُ اللَّيِّنُ وَقَدْ حَازَ الْإِبِلَ يَحُوزُهَا وَيَحِيزُهَا وَحَوَّزَ الْإِبِلَ سَاقَهَا إلَى الْمَاءِ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : إذَا كَانَتْ الْإِبِلُ بَعِيدَةَ الْمَرْعَى عَنْ الْمَاءِ فَأَوَّلُ لَيْلَةٍ تُوَجِّهُهَا إلَى الْمَاءِ لَيْلَةُ الْحَوْزِ وَتَحَوَّزَتْ الْحَيَّةُ وَتَحَيَّزَتْ تَلَوَّتْ . يُقَالُ مَا لَك تَتَحَوَّزُ تَحَوُّزَ الْحَيَّةِ وَتَتَحَيَّزُ تَحَيُّزَ الْحَيَّةِ قَالَ سِيبَوَيْهِ هُوَ تَفَعُّلٌ مِنْ حُزْت الشَّيْءَ قَالَ الْقَطَامِيُّ : تَحَيَّزَ مِنِّي خَشْيَةَ أَنْ أُضِيفَهَا كَمَا انْحَازَتْ الْأَفْعَى مَخَافَةَ ضَارِبِ يَقُولُ تَتَنَحَّى عَنِّي هَذِهِ الْعَجُوزُ وَتَتَأَخَّرُ خَشْيَةَ أَنْ أَنْزِلَ عَلَيْهَا ضَيْفًا .

وَالْحَيِّزُ مَا انْضَمَّ إلَى الدَّارِ مِنْ مَرَافِقِهَا وَكُلُّ نَاحِيَةٍ حَيِّزٌ وَأَصْلُهُ مِنْ الْوَاوِ وَالْحَيِّزُ تَخْفِيفُ الْحَيِّزِ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٌ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَالْجَمْعُ أحياز وَالْحَوْزَةُ النَّاحِيَةُ وَانْحَازَ عَنْهُ انعدل وَانْحَازَ الْقَوْمُ تَرَكُوا مَرْكَزَهُمْ إلَى آخَرَ يُقَالُ لِلْأَوْلِيَاءِ انْحَازُوا عَنْ الْعَدُوِّ وَحَاصُوا وَالْأَعْدَاءُ انْهَزَمُوا وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَتَحَاوَزَ الْفَرِيقَانِ فِي الْحَرْبِ انْحَازَ كُلُّ فَرِيقٍ عَنْ الْآخَرِ . فَهَذَا الْمَذْكُورُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَمَادَّتِهِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّحَيُّزَ وَالِانْحِيَازَ وَالتَّحَوُّزَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ عُدُولًا مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ كَوْنِهِ يَحُوزُهُ أَمْرٌ مَوْجُودٌ فَهُمْ يُرَاعُونَ فِي مَعْنَى الْحَوْزِ ذَهَابَهُ مِنْ جِهَةٍ إلَى جِهَةٍ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : حُزْت الْمَالَ وَحُزْت الْإِبِلَ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ نَقْلَهُ مِنْ جِهَةٍ إلَى جِهَةٍ فَالشَّيْءُ الْمُسْتَقِرُّ فِي مَوْضِعِهِ كَالْجَبَلِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَا يُسَمُّونَهُ مُتَحَيِّزًا وَأَعَمُّ مِنْ هَذَا أَنْ يُرَادَ بِالْمُتَحَيِّزِ مَا يُحِيطُ بِهِ حَيِّزٌ مَوْجُودٌ فَيُسَمَّى كُلُّ مَا أَحَاطَ بِهِ غَيْرُهُ أَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ وَعَلَى هَذَا فَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُتَحَيِّزٌ ؛ بَلْ مَا فِي الْعَالَمِ مُتَحَيِّزٌ إلَّا سَطْحَ الْعَالَمِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَكَذَلِكَ الْعَالَمُ جُمْلَةً لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي عَالَمٍ آخَرَ أَحَاطَ بِهِ والمتكلمون يُرِيدُونَ بِالْمُتَحَيِّزِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَالْحَيِّزُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْ الْمَكَانِ فَالْعَالَمُ كُلُّهُ فِي حَيِّزٍ وَلَيْسَ هُوَ فِي مَكَانٍ

وَالْمُتَحَيِّزُ عِنْدَهُمْ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَنَّهُ يَحُوزُهُ غَيْرُهُ وَلَا يَكُونُ لَهُ حَيِّزٌ وُجُودِيٌّ بَلْ كُلَّمَا أُشِيرَ إلَيْهِ وَامْتَازَ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ مُتَحَيِّزٌ عِنْدَهُمْ . ثُمَّ هُمْ مُخْتَلِفُونَ بَعْدَ هَذَا فِي الْمُتَحَيِّزِ : هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ؟ أَوْ هُوَ غَيْرُ مُرَكَّبٍ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا ؟ كَمَا تَقَدَّمَ نِزَاعُهُمْ فِي الْجِسْمِ . فَالْجِسْمُ عِنْدَهُمْ مُتَحَيِّزٌ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ إلَّا الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهُ وَهَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ أَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ أَيْ يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ إلَى جُزْءٍ لَا يَتَجَزَّأُ بَلْ يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ الْمُتَحَيِّزَاتُ مُتَمَاثِلَةً فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ وَمَنْ كَانَ مَعْنَى الْمُتَحَيِّزِ عِنْدَهُ هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُنَزِّهَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِذَا قَالَ : الْمَلَائِكَةُ مُتَحَيِّزُونَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَوْ الرُّوحُ مُتَحَيِّزَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ ؛ بَلْ لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا يَقُولُ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ مُتَحَيِّزَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَلَا قَالُوا لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ رُوحُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهَا مُتَحَيِّزَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَلَا قَالَ فِيهَا لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ هَذَا التَّحَيُّزِ لِلْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ بِدْعَةً فِي الشَّرْعِ وَبَاطِلًا فِي الْعَقْلِ فَلَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدْعَةً وَبَاطِلًا فِي رَبِّ

الْعَالِمَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يَقُولُهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمَةُ فِي نُفُوسِ بَنِي آدَمَ وَفِي الْمَلَائِكَةِ بَاطِلٌ فَكَيْفَ بِمَا يَقُولُونَهُ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلِهَذَا تُوجَدُ الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا مَقَالَاتُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ وَفِي مَلَائِكَتِهِ وَفِي أَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ وَفِي الْمَعَادِ وَفِي النُّبُوَّاتِ لَيْسَ فِيهَا قَوْلٌ يُطَابِقُ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَلَا يَعْرِفُونَ مَا قَالَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَلِهَذَا يَغْلِبُ عَلَى فُضَلَائِهِمْ الْحَيْرَةُ فَإِنَّهُمْ إذَا أَنْهَوْا النَّظَرَ لَمْ يَصِلُوا إلَى عِلْمٍ . لِأَنَّ مَا نَظَرُوا فِيهِ مِنْ كَلَامِ الطَّائِفَتَيْنِ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَاطِلٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي فِي آخِرِ عُمْرِهِ : لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي . وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُتَحَيِّزَ هُوَ مَا بَايَنَ غَيْرَهُ فَانْحَازَ عَنْهُ وَلَيْسَ

مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُنْفَرِدَةِ وَلَا أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ وَالتَّقْسِيمَ . فَإِذَا قَالَ : إنَّ الرَّبَّ مُتَحَيِّزٌ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ أَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَقَدْ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا لَكِنَّ إطْلَاقَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ بِدْعَةٌ وَفِيهَا تَلْبِيسٌ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي أَرَادَهُ لَيْسَ مَعْنَى الْمُتَحَيِّزِ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ اصْطِلَاحٌ لَهُ وَلِطَائِفَتِهِ وَفِي الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فَصَارَ يَحْتَمِلُ مَعْنًى فَاسِدًا يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظًا يَدُلُّ عِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ وَيُفْهَمَ ذَلِكَ الْغَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ مِنْ غَيْرِ بَيَان مُرَادِهِ ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ الَّذِينَ أَرَادُوا بِالْمُتَحَيِّزِ مَا كَانَ مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ لَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَهُوَ مَا كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ إذَا قَالُوا إنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ أَوْ كُلَّ مُحْدَثٍ أَوْ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ : إمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِمُتَحَيِّزٍ كَانَ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَا سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ فَكَيْفَ إذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : كُلُّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِمُتَحَيِّزِ وَأَرَادَ بِالْمُتَحَيِّزِ مَا أَرَادَهُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ قَوْلَهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ وَلِهَذَا طَالَبَهُمْ مُتَأَخِّرُوهُمْ بِالدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ . وَلَيْسَ خَطَأُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ مَا أَثْبَتَهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ تِلْكَ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهَا بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَيْضًا .

وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ فِي النَّفْسِ النَّاطِقَةِ مِنْ أَنَّهَا لَا يُشَارُ إلَيْهَا وَلَا تُوصَفُ بِحَرَكَةِ وَلَا سُكُونٍ وَلَا صُعُودٍ وَلَا نُزُولٍ وَلَيْسَتْ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ هُوَ أَيْضًا كَلَامٌ أَبْطَلُ مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ - كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ - إنَّهَا لَا تَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ وَإِنَّمَا تَعْرِفُ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهَا تَعْرِفُ بَدَنَهَا وَتَعْرِفُ كُلَّ مَا تَرَاهُ بِالْبَدَنِ وَتَشُمُّهُ وَتَسْمَعُهُ وَتَذُوقُهُ وَتَقْصِدُهُ وَتَأْمُرُ بِهِ وَتُحِبُّهُ وَتَكْرَهُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَصَرَّفُ فِيهِ بِعِلْمِهَا وَعَمَلِهَا فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهَا لَا تَعْرِفُ الْأُمُورَ الْمُعَيَّنَةَ وَإِنَّمَا تَعْرِفُ أُمُورًا كُلِّيَّةً وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ إنَّ تَعَلُّقَهَا بِالْبَدَنِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ كَتَدْبِيرِ الْمَلِكِ لِمَمْلَكَتِهِ مِنْ أَفْسَدِ الْكَلَامِ فَإِنَّ الْمَلِكَ يُدَبِّرُ أَمْرَ مَمْلَكَتِهِ فَيَأْمُرُ وَيُنْهِي وَلَكِنْ لَا يَصْرِفُهُمْ هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إنْ لَمْ يَتَحَرَّكُوا هُمْ بِإِرَادَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَالْمَلِكُ لَا يَلْتَذُّ بِلَذَّةِ أَحَدِهِمْ وَلَا يَتَأَلَّمُ بِتَأَلُّمِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرُّوحَ وَالْبَدَنَ بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ الِاتِّحَادِ والائتلاف مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ بِهِ وَلَكِنَّ دُخُولَ الرُّوحِ فِيهِ لَيْسَ هُوَ مُمَاثِلًا لِدُخُولِ شَيْءٍ مِنْ الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ فَلَيْسَ دُخُولُهَا فِيهِ كَدُخُولِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَإِنَّ هَذِهِ إنَّمَا تَلَاقِي السَّطْحَ الدَّاخِلَ مِنْ الْأَوْعِيَةِ لَا بُطُونَهَا وَلَا ظُهُورَهَا وَإِنَّمَا يُلَاقِي

الْأَوْعِيَةَ مِنْهَا أَطْرَافَهَا دُونَ أَوْسَاطِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرُّوحَ وَالْبَدَنَ بَلْ الرُّوحُ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَكَذَلِكَ دُخُولُهَا فِيهَا لَيْسَ كَدُخُولِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي بَدَنِ الْآكِلِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ مَجَارٍ مَعْرُوفَةٌ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ . - إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ - وَلَا جَرَيَانُهَا فِي الْبَدَنِ كَجَرَيَانِ الدَّمِ فَإِنَّ الدَّمَ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْبَدَنِ دُونَ بَعْضٍ . فَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا يُذْكَرُ مِنْ النَّظَائِرِ لَا يَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ مُتَعَلِّقًا بِالْآخَرِ ؛ بِخِلَافِ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ لَكِنْ هِيَ مَعَ هَذَا فِي الْبَدَنِ قَدْ وَلَجَتْ فِيهِ وَتَخْرُجُ مِنْهُ وَقْتَ الْمَوْتِ وَتُسَلُّ مِنْهُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ شَيْئًا فَشَيْئًا لَا تُفَارِقُهُ كَمَا يُفَارِقُ الْمَلِكُ مَدِينَتَهُ الَّتِي يُدَبِّرُهَا وَالنَّاسُ لَمَّا لَمْ يَشْهَدُوا لَهَا نَظِيرًا عَسُرَ عَلَيْهِمْ التَّعْبِيرُ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَهَذَا تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ وَلَا تَصَوَّرُوا كَيْفِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّ مَا يُضَافُ إلَيْهِ مِنْ صِفَاتِهِ هُوَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ جَلَالُهُ . فَإِنَّ الرُّوحَ الَّتِي هِيَ بَعْضُ عَبِيدِهِ تُوصَفُ بِأَنَّهَا تَعْرُجُ إذَا نَامَ الْإِنْسَانُ وَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهِيَ مَعَ هَذَا فِي بَدَنِ صَاحِبِهَا لَمْ تُفَارِقْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْإِنْسَانُ فِي نَوْمِهِ يُحِسُّ بِتَصَرُّفَاتِ رُوحِهِ تَصَرُّفَاتٍ تُؤَثِّرُ فِي بَدَنِهِ فَهَذَا الصُّعُودُ الَّذِي تُوصَفُ بِهِ الرُّوحُ لَا يُمَاثِلُ صُعُودَ الْمَشْهُودَاتِ فَإِنَّهَا إذَا صَعِدَتْ إلَى مَكَانٍ فَارَقَتْ الْأَوَّلَ بِالْكُلِّيَّةِ وَحَرَكَتِهَا

إلَى الْعُلُوِّ حَرَكَةَ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ وَحَرَكَةُ الرَّوْحِ بِعُرُوجِهَا وَسُجُودِهَا لَيْسَ كَذَلِكَ . فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ إذَا وَصَفَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ وَأَنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى الْحُجَّاجِ " وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى فِي الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَأَنَّهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ : لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مِنْ جِنْسِ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الْمَشْهُودَةِ حَتَّى يُقَالَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَفْرِيغَ مَكَانٍ وَشَغْلَ آخَرَ . فَإِنَّ نُزُولَ الرُّوحِ وَصُعُودَهَا لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ صُعُودٌ وَنُزُولٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مَا أَثْبَتّه اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَلَا يَجُوزُ تَمْثِيلُ ذَلِكَ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا سِيَّمَا مَا لَا نُشَاهِدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ مَا ثَبَتَ لِمَا لَا نُشَاهِدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِمَا نُشَاهِدُهُ مِنْهَا فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ مُمَاثَلَةِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقِ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَخْلُوقِ الَّذِي لَا يُمَاثِلُهُ مِنْ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .

وَهَذَا الَّذِي نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِمَّا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ صَاحِبُ " الْمُحَصِّلِ " وَأَمْثَالُهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى رَأْيِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ كُلُّهُ تَقْسِيمٌ غَيْرُ حَاصِرٍ وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مُقَصِّرٌ عَنْ سَلَفِهِ . أَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَلَمْ يَسْلُكُوا مِنْ التَّقْسِيمِ الْمَسْلَكَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ أَتْبَاعُ أَرِسْطُو لَمْ يَسْلُكُوا مَسْلَكَ الْفَلَاسِفَةِ الْأَسَاطِينِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَقُولُونَ بِحُدُوثِ هَذَا الْعَالَمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ فَوْقَ هَذَا الْعَالَمِ عَالَمًا آخَرَ يَصِفُونَهُ بِبَعْضِ مَا وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ الْجَنَّةَ وَكَانُوا يُثْبِتُونَ مَعَادَ الْأَبْدَانِ كَمَا يُوجَدُ هَذَا فِي كَلَامِ سُقْرَاطَ وتاليس وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَرِسْطُو .
فَصْلٌ :
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمُحْدَثَةُ الْمُجْمَلَةُ النَّافِيَةُ مِثْلَ لَفْظِ " الْمُرَكَّبِ " و " الْمُؤَلَّفِ " و " الْمُنْقَسِمِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ صَارَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ نَفْيَ شَيْءٍ مِمَّا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَبَّرَ بِهَا عَنْ مَقْصُودِهِ فَيَتَوَهَّمُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مُرَادَهُ أَنَّ الْمُرَادَ تَنْزِيهُ الرَّبِّ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ إثْبَاتُ أَحَدِّيَّتِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ وَيَكُونُ قَدْ أَدْخَلَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَا رَآهُ هُوَ مَنْفِيًّا

وَعَبَّرَ عَنْهُ بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ وَضْعًا لَهُ وَاصْطِلَاحًا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ هُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَلَا مِنْ لُغَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ ثُمَّ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ مُسَمَّى الْأَحَدِ وَالصَّمَدِ وَالْوَاحِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَجْعَلُ مَا نَفَاهُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي أَثْبَتّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ . وَاسْمُ " التَّوْحِيدِ " اسْمٌ مُعَظَّمٌ جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ " وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ فَإِذَا جَعَلَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي نَفَاهَا مِنْ التَّوْحِيدِ ظَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مُخَالَفَةَ مُرَادِهِ لِمُرَادِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُولُ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيُسَمِّي طَائِفَتَهُ الْمُوَحِّدِينَ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى نَفْيِ شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ تَوْحِيدًا . وَطَائِفَتُهُمْ الْمُوَحِّدِينَ وَيُسَمُّونَ عِلْمَهُمْ عِلْمَ التَّوْحِيدِ كَمَا تُسَمِّي الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ نَفْيَ الْقَدَرِ عَدْلًا وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ العدلية وَأَهْلَ الْعَدْلِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْبِدَعِ كَثِيرٌ جِدًّا يُعَبَّرُ بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ مَعَانٍ مُخَالِفَةٍ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَلَا يَكُونُ أَصْحَابُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ تَلَقَّوْهَا ابْتِدَاءً عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَنْ شُبَهٍ حَصَلَتْ لَهُمْ وَأَئِمَّةٍ لَهُمْ وَجَعَلُوا التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةً لَهُمْ وَعُمْدَةً لَهُمْ لِيَظْهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مُتَابِعُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مُخَالِفُونَ لَهُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُونَ

أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَلِهَذَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَعْرِفَةُ مَا أَرَادَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ يَعْرِفُوا لُغَةَ الْقُرْآنِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ وَمَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَانِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَمَّا خَاطَبَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَرَّفَهُمْ مَا أَرَادَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَكَانَتْ مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ أَكْمَلَ مِنْ حِفْظِهِمْ لِحُرُوفِهِ وَقَدْ بَلَّغُوا تِلْكَ الْمَعَانِيَ إلَى التَّابِعِينَ أَعْظَمَ مِمَّا بَلَّغُوا حُرُوفَهُ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ يَعْرِفُونَ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَلَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنُ يَحْفَظُهُ مِنْهُمْ أَهْلُ التَّوَاتُرِ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ وَصْفِ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَحَدٌ وَوَاحِدٌ وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ إلَهَكُمْ وَاحِدٌ وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ أَصْلُ الدِّينِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا دَعَا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْخَلْقَ وَهُوَ أَوَّلُ

مَا يُقَاتِلُهُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا أَمَرَ رُسُلَهُ أَنْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِهِ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا دَعَا الْخَلْقَ إلَى أَنْ يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَمَّا أَمَرَ بِالْجِهَادِ بَعْد الْهِجْرَةِ قَالَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : إنَّك تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } . فَقَالَ لِمُعَاذِ : لِيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَمَعَ هَذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا يَهُودًا فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا كَثِيرِينَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ مُعَاذًا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } . وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } .
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا أَرَادَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ هُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ ثُمَّ مَعْرِفَةُ مَا قَالَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ لِيَنْظُرَ الْمَعَانِيَ الْمُوَافِقَةَ لِلرَّسُولِ وَالْمَعَانِيَ الْمُخَالِفَةَ لَهَا . وَالْأَلْفَاظُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَوْعٌ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَيَعْرِفَ مَعْنَى الْأَوَّلِ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَصْلَ وَيَعْرِفُ مَا يَعْنِيهِ النَّاسُ بِالثَّانِي وَيُرَدَّ إلَى الْأَوَّلِ . هَذَا طَرِيقُ أَهْلِ الْهُدَى وَالسُّنَّةِ وَطَرِيقُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ بِالْعَكْسِ يَجْعَلُونَ الْأَلْفَاظَ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَمَعَانِيهَا هِيَ الْأَصْلَ وَيَجْعَلُونَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَبَعًا لَهُمْ فَيَرُدُّونَهَا بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ إلَى مَعَانِيهِمْ وَيَقُولُونَ : نَحْنُ نُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ يَعْنُونَ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ مَعْنًى بِعَقْلِهِمْ وَرَأْيِهِمْ ثُمَّ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ بِمَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ . وَقَالَ : يَجْتَنِبُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْمُجْمَلِ وَالْقِيَاسِ وَهَذِهِ الطَّرِيقُ يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ أَهْلُ الْبِدَعِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ

فَهِيَ طَرِيقُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ دَخَلَ فِي التَّأْوِيلِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ .
وَأَمَّا حُذَّاقُ الْفَلَاسِفَةِ فَيَقُولُونَ : إنَّ الْمُرَادَ بِخِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ أَنْ يُخَيَّلَ إلَى الْجُمْهُورِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَصَالِحَ دُنْيَاهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِلْحَقِّ . قَالُوا : وَلَيْسَ مَقْصُودُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ الْحَقِّ وَتَعْرِيفَهُ بَلْ مَقْصُودُهُ أَنْ يُخَيَّلَ إلَيْهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَهُ . وَيَجْعَلُونَ خَاصَّةَ النُّبُوَّةِ قُوَّةَ التَّخْيِيلِ . فَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَيِّنْ وَلَمْ يُفَهِّمْ ؛ بَلْ وَلَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ . وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ هَلْ كَانَ يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : كَانَ يَعْلَمُهَا ؛ لَكِنْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ بَيَانُهَا . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَجْعَلُونَ الرَّسُولَ أَفْضَلَ مِنْ الْفَيْلَسُوفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ مَا كَانَ يَعْرِفُهَا أَوْ مَا كَانَ حَاذِقًا فِي مَعْرِفَتِهَا وَإِنَّمَا كَانَ يَعْرِفُ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْفَيْلَسُوفَ أَكْمَلَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ أَكْمَلُ مِنْ الْعِلْمِيَّةِ فَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ خَبَرَ اللَّهِ وَخَبَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا فِيهِ التَّخْيِيلُ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّخْيِيلَ وَلَكِنْ قَصَدَ مَعْنًى يُعْرَفُ بِالتَّأْوِيلِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْل الْكَلَامِ الْجَهْمِيَّة يُوَافِقُ أُولَئِكَ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبُوحَ بِالْحَقِّ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ فَخَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِمَا يُخَيَّلُ لَهُمْ كَمَا يَقُولُونَ : إنَّهُ لَوْ قَالَ :

إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ وَلَا يُشَارُ إلَيْهِ وَلَا هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا لَنَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْهُ وَقَالُوا هَذَا لَا يُعْرَفُ قَالُوا فَخَاطَبَهُمْ بِالتَّجْسِيمِ حَتَّى يُثْبِتَ لَهُمْ رَبًّا يَعْبُدُونَهُ وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ التَّجْسِيمَ بَاطِلٌ وَهَذَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَشْهُورِينَ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ مَذْهَبَ الْنُّفَاةِ هُوَ الصَّحِيحُ وَاحْتَاجُوا أَنْ يَعْتَذِرُوا عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِثْبَاتِ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ . وَتَارَةً يَقُولُونَ . إنَّمَا عَدَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ لِيَجْتَهِدُوا فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفِهِ وَيَجْتَهِدُوا فِي تَأْوِيلِ أَلْفَاظِهِ فَتَعْظُمَ أُجُورُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ اجْتِهَادُهُمْ فِي عَقْلِيَّاتِهِمْ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ . وَلَا يَقُولُونَ إنَّهُ قَصَدَ بِهِ إفْهَامَ الْعَامَّةِ الْبَاطِلَ كَمَا يَقُولُ أُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ . وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْنُّفَاةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ حَتَّى ابْنُ عَقِيلٍ وَأَمْثَالُهُ . وَأَبُو حَامِدٍ وَابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ وَأَمْثَالُهُمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ . وَأَبُو حَامِدٍ إنَّمَا ذَمَّ التَّأْوِيلَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَصَنَّفَ " إلْجَامَ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ " مُحَافَظَةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّهُ رَأَى مَصْلَحَةَ الْجُمْهُورِ لَا تَقُومُ إلَّا بِإِبْقَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ يَرَى مَا ذَكَرَهُ فِي كُتُبِهِ " الْمُضْنُونَ بِهَا " أَنَّ النَّفْيَ هُوَ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .

فَلَمْ يَجْعَلُوا مَقْصُودَهُ بِالْخِطَابِ الْبَيَانَ وَالْهُدَى كَمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ وَنَبِيَّهُ حَيْثُ قَالَ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } وَقَالَ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَقَالَ : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَالَ : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ : { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ : { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَثُمَّ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ كَثُرَتْ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ يَقُولُونَ : مَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعَانِيَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ كَآيَاتِ الصِّفَاتِ ؛ بَلْ لَازِمُ قَوْلِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَلَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهَا وَهَؤُلَاءِ مَسَاكِينُ لَمَّا رَأَوْا الْمَشْهُورَ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ

وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ عِنْدَ قَوْلِهِ . { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَافَقُوا السَّلَفَ وَأَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الْمُوَافَقَةِ ؛ لَكِنْ ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ هُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَتَفْسِيرِهِ أَوْ هُوَ التَّأْوِيلُ الِاصْطِلَاحِيُّ الَّذِي يَجْرِي فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ فَهُمْ قَدْ سَمِعُوا كَلَامَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَصَارَ لَفْظُ التَّأْوِيلِ عِنْدَهُمْ هَذَا مَعْنَاهُ . وَلَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } ظَنُّوا أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ فِي الْقُرْآنِ مَعْنَاهُ هُوَ مَعْنَى لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَى هَذِهِ النُّصُوصِ إلَّا اللَّهُ لَا جِبْرِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا غَيْرُهُمَا ؛ بَلْ كُلٌّ مِنْ الرَّسُولَيْنِ عَلَى قَوْلِهِمْ يَتْلُو أَشْرَفَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى ذَلِكَ أَصْلًا ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَذُمُّونَ وَيُبْطِلُونَ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا جَيِّدٌ ؛ لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ عَنَوْا بِظَوَاهِرِهَا مَا يَظْهَرُ مِنْهَا مِنْ الْمَعَانِي كَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِمْ إنَّ لَهَا تَأْوِيلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَإِنْ عَنَوْا بِظَوَاهِرِهَا مُجَرَّدَ الْأَلْفَاظِ : كَانَ مَعْنَى كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلَهَا بَاطِنٌ يُخَالِفُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَهُوَ التَّأْوِيلُ وَذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَفِيهِمْ مَنْ يُرِيدُ بِإِجْرَائِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا هَذَا الْمَعْنَى وَفِيهِمْ مِنْ

يُرِيدُ الْأَوَّلَ وَعَامَّتُهُمْ يُرِيدُونَ بِالتَّأْوِيلِ الْمَعْنَى الثَّالِثَ وَقَدْ يُرِيدُونَ بِهِ الثَّانِيَ فَإِنَّهُ أَحْيَانًا قَدْ يُفَسَّرُ النَّصُّ بِمَا يُوَافِقُ ظَاهِرَهُ وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التَّأْوِيلِ الثَّالِثِ فَيَأْبَوْنَ ذَلِكَ وَيَكْرَهُونَ تَدَبُّرَ النُّصُوصِ وَالنَّظَرَ فِي مَعَانِيهَا أَعْنِي النُّصُوصَ الَّتِي يَقُولُونَ إنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ تَأْوِيلَهَا إلَّا اللَّهُ . ثُمَّ هُمْ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ بِحَسَبِ عَقَائِدِهِمْ فَإِنْ كَانُوا مِنْ الْقَدَرِيَّةِ قَالُوا : النُّصُوصُ الْمُثْبِتَةُ لِكَوْنِ الْعَبْدِ فَاعِلًا مُحْكَمَةٌ وَالنُّصُوصُ الْمُثْبِتَةُ لِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ مُرِيدًا لِكُلِّ مَا وَقَعَ نُصُوصٌ مُتَشَابِهَةٌ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إلَّا اللَّهُ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَتَأَوَّلُهَا فَإِنَّ عَامَّةَ الطَّوَائِفِ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ مَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَتَأَوَّلُهُ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الصفاتية الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهَا بِالْعَقْلِ دُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْكُلَّابِيَة كَأَبِي الْمَعَالِي فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِ قَالُوا عَنْ النُّصُوصِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلصِّفَاتِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ عِنْدَهُمْ بِالْعَقْلِ هَذِهِ نُصُوصٌ مُتَشَابِهَةٌ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إلَّا اللَّهُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ وَحَالَانِ : تَارَةً يَتَأَوَّلُ وَيُوجِبُ التَّأْوِيلَ أَوْ يُجَوِّزُهُ وَتَارَةً يُحَرِّمُهُ كَمَا يُوجَدُ لِأَبِي الْمَعَالِي وَلِابْنِ عَقِيلٍ وَلِأَمْثَالِهِمَا مِنْ اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ .
وَمَنْ أَثْبَتَ الْعُلُوَّ بِالْعَقْلِ وَجَعَلَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ : كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ بْن الزَّاغُونِي وَمَنْ وَافَقَهُ وَكَالْقَاضِي أَبِي

يَعْلَى فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ : أَثْبَتُوا الْعُلُوَّ وَجَعَلُوا الِاسْتِوَاءَ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي يَقُولُونَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا إلَّا اللَّهُ " وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَرَى أَنَّ الْفَوْقِيَّةَ وَالْعُلُوَّ أَيْضًا مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ كَقَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَقَوْلِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي أَوَّلِ قَوْلَيْهِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِ وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي وَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ أُولَئِكَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا . ( وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَعْتَقِدُ مِنْ الْآرَاءِ مَا يُنَاقِضُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ يَجْعَلُونَ تِلْكَ النُّصُوصَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ ثُمَّ إنْ كَانُوا مِمَّنْ يَرَى الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } قَالُوا لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا إلَّا اللَّهُ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ مُحَمَّدٌ وَجِبْرِيلُ وَلَا أَحَدٌ عَلِمَ مَعَانِيَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَإِنْ رَأَوْا أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } جَعَلُوا الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَا يُسَمُّونَهُ هُمْ تَأْوِيلًا وَيَقُولُونَ إنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا لَمْ يُبَيِّنْ الْحَقَّ بِخِطَابِهِ لِيَجْتَهِدَ النَّاسُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ بِعُقُولِهِمْ وَأَذْهَانِهِمْ وَيَجْتَهِدُونَ فِي تَخْرِيجِ أَلْفَاظِهِ عَلَى اللُّغَاتِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَجْتَهِدُونَ فِي مَعْرِفَةِ غَرَائِبِ اللُّغَاتِ الَّتِي يَتَمَكَّنُونَ بِهَا مِنْ التَّأْوِيلِ وَهَذَا إنْ قَالُوا إنَّهُ قَصَدَ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَعْنًى حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ قَالُوا بِقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ التَّأْوِيلَ . قَالُوا : لَمْ يَقْصِدْ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا مَا يَفْهَمُهُ الْعَامَّةُ

وَالْجُمْهُورُ وَهُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُخَيِّلَ لَهُمْ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ " وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ الْحَقَّ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْفِرُونَ عَنْهُ وَلَا يَقْبَلُونَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ الْبَاطِنِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ وَفَلَاسِفَتِهِمْ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّهُ يَتَأَوَّلُ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلَ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ثُمَّ يُؤَوِّلُونَ الْعِبَارَاتِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ . وَأَبُو حَامِدٍ فِي " الْإِحْيَاءِ " ذَكَرَ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَقَالَ إنَّهُمْ أَسْرَفُوا فِي التَّأْوِيلِ وَأَسْرَفَتْ الْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمُودِ وَذَكَرَ عَنْ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَلَامًا لَمْ يَقُلْهُ أَحْمَد فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَا قَالَهُ أَحْمَد وَلَا مَا قَالَهُ غَيْرُهُ . مِنْ السَّلَفِ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ وَقَدْ سُمِعَ مُضَافًا إلَى الْحَنَابِلَةِ مَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ . وَبَعْضِ الصِّفَاتِ : مِثْلَ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَإِنَّ الْحُرُوفَ الْمُتَعَاقِبَةَ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ وَإِنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَيَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ حَتَّى يَبْقَى بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهُ وَبَعْضُهَا تَحْتَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ . فَإِنَّهُ مَا مِنْ طَائِفَةٍ إلَّا وَفِي بَعْضِهِمْ مَنْ يَقُولُ أَقْوَالًا ظَاهِرُهَا الْفَسَادُ وَهِيَ الَّتِي يَحْفَظُهَا مَنْ يَنْفِرُ عَنْهُمْ وَيُشَنِّعُ بِهَا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ يُنْكِرُهَا وَيَدْفَعُهَا كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي يَقُولُهَا بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَإِنَّ جَمَاهِيرَ هَذِهِ الطَّوَائِفِ

يُنْكِرُهَا وَأَحْمَد وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ مُنْكِرُونَ لَهَا . وَكَلَامُهُمْ فِي إنْكَارِهَا وَرَدِّهَا كَثِيرٌ جِدًّا لَكِنْ يُوجَدُ فِي أَهْل الْحَدِيثِ مُطْلَقًا مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْغَلَطِ فِي الْإِثْبَاتِ أَكْثَرُ مِمَّا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَيُوجَدُ فِي أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْغَلَطِ فِي النَّفْيِ أَكْثَرُ مِمَّا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا جَاءَ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ النَّفْيِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ أَهْلُ الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ الْمَأْخُوذُ عَنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّفْيِ الْمُنَاقِضِ لِصَرَائِحِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ؛ بَلْ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ أَيْضًا ؛ لَكِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى النَّفْيِ وَقَدْ نَاقَضَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَزَادُوا فِي الْإِثْبَاتِ كالهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ لَكِنَّ النَّفْيَ فِي جِنْسِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ أَكْثَرُ .
وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ جَعَلُوا لَفْظَ التَّأْوِيلِ يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ يَتَمَسَّكُونَ بِمَا يَجِدُونَهُ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي الْمُتَشَابِهِ مِثْلَ قَوْلِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَلَا كَيْفَ وَلَا مَعْنَى ظَنُّوا أَنَّ مُرَادَهُ . أَنَّا لَا نَعْرِفُ مَعْنَاهَا . وَكَلَامُ أَحْمَد صَرِيحٌ بِخِلَافِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يُنْكِرُ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَصَنَّفَ كِتَابَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " فِيمَا أَنْكَرَتْهُ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ

عَلَى غَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ إذَا تَأَوَّلُوهُ يَقُولُونَ : مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا وَالْمُكَيِّفُونَ يُثْبِتُونَ كَيْفِيَّةً . يَقُولُونَ : إنَّهُمْ عَلِمُوا كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ . فَنَفَى أَحْمَد قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ هَؤُلَاءِ : قَوْلَ الْمُكَيِّفَةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْكَيْفِيَّةَ وَقَوْلَ الْمُحَرِّفَةِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ مَعْنَاهُ كَذَا وَكَذَا . وَقَدْ كَتَبْت كَلَامَ أَحْمَد بِأَلْفَاظِهِ - كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَاب السُّنَّةِ وَكَمَا ذَكَرَهُ مَنْ نَقَلَ كَلَامَ أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي ذَلِكَ - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ التَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ } تَصْدِيقُ مَا وَعَدَ فِي الْقُرْآنِ وَعَنْ قتادة تَأْوِيلُهُ ثَوَابُهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ جَزَاؤُهُ وَعَنْ السدي عَاقِبَتُهُ وَعَنْ ابْنِ زَيْدٍ حَقِيقَتُهُ . قَالَ بَعْضُهُمْ تَأْوِيلُهُ مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنْ الْعَذَابِ وَوُرُودِ النَّارِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ،

قَالَ بَعْضُهُمْ تَصْدِيقُ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّأْوِيلُ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ وَعَنْ الضَّحَّاكِ يَعْنِي عَاقِبَةَ مَا وَعَدَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّأْوِيلُ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ . وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ : تَفْسِيرُهُ . وَلَيْسَ بِشَيْءِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ . وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } فَجَعَلَ نَفْسَ سُجُودِ أَبَوَيْهِ لَهُ تَأْوِيلَ رُؤْيَاهُ . وَقَالَ قَبْلَ هَذَا : { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } أَيْ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا التَّأْوِيلُ . وَالْمَعْنَى لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ فِي الْمَنَامِ لَمَّا قَالَ أَحَدُهُمَا : { إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا } . { إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } فِي الْيَقَظَةِ { قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } الطَّعَامُ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الصَّوَابُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ تُطْعَمَانِهِ . وَتَأْكُلَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ بِتَفْسِيرِهِ وَأَلْوَانِهِ أَيَّ طَعَامٍ أَكَلْتُمْ وَكَمْ أَكَلْتُمْ وَمَتَى أَكَلْتُمْ ؟ فَقَالُوا : هَذَا فِعْلُ الْعَرَّافِينَ وَالْكَهَنَةِ فَقَالَ مَا أَنَا بِكَاهِنِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْعِلْمُ مِمَّا يُعَلِّمُنِي رَبِّي . وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ قَالَ : { إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } وَقَدْ قَالَ أَحَدُهُمَا : { إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } فَطَلَبَا مِنْهُ تَأْوِيلَ مَا رَأَيَاهُ وَأَخْبَرَهُمَا بِتَأْوِيلِ ذَاكَ وَلَمْ يَكُنْ تَأْوِيلُ الطَّعَامِ فِي

الْيَقَظَةِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمَا بِمَا يُرْزَقَانِهِ فِي الْيَقَظَةِ فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْلًا عَامًّا : { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } وَهَذَا الْإِخْبَارُ الْعَامُّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَالْأَنْبِيَاءُ يُخْبِرُونَ بِبَعْضِ ذَلِكَ لَا يُخْبِرُونَ بِكُلِّ هَذَا . وَأَيْضًا فَصِفَةُ الطَّعَامِ وَقَدْرُهُ لَيْسَ تَأْوِيلًا لَهُ . وَأَيْضًا فَاَللَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } وَقَالَ : { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } وَلَمَّا رَأَى الْمَلِكُ الرُّؤْيَا قَالَ لَهُ الَّذِي ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ : { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي } وَالْمَلِكُ قَالَ : { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } { قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } . فَهَذَا لَفْظُ التَّأْوِيلِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة : جَزَاءً وَثَوَابًا وَقَالَ السدي وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ : عَاقِبَةً . وَعَنْ ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا : تَصْدِيقًا . كَقَوْلِهِ : { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحَةٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا تَفْسِيرُ

السَّلَفِ أَجْمَعِينَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُ مَا ذَكَرَ قَالَ : { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } . وَهَذَا تَأْوِيلُ فِعْلِهِ لَيْسَ هُوَ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ عَاقِبَةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ مَا فَعَلْته : مِنْ مَصْلَحَةِ أَهْلِ السَّفِينَةِ وَمَصْلَحَةِ أَبَوَيْ الْغُلَامِ وَمَصْلَحَةِ أَهْلِ الْجِدَارِ . وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ : رَدُّكُمْ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أَحْسَنُ مِنْ تَأْوِيلِكُمْ فَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ عَنْ بَعْضِهِمْ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فِي لَفْظِ التَّأْوِيلِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ بِالِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ لَا بِلُغَةِ الْقُرْآنِ فَأَمَّا قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فَلَفْظُ التَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ : الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ . أَيْ فِي تَفْسِيرِهَا . وَلَمَّا كَانَ هَذَا مَعْنَى التَّأْوِيلِ عِنْدَ مُجَاهِدٍ وَهُوَ إمَامُ التَّفْسِيرِ جَعَلَ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } فَإِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَهُ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْل السُّنَّةِ . وَكَانَ ابْنُ قُتَيْبَةَ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِي " الْمُشْكِلِ " وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا مُتَأَخِّرُو الْمُفَسِّرِينَ كَالثَّعْلَبِيِّ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ . قَالَ : فَمَعْنَى التَّفْسِيرِ هُوَ التَّنْوِيرُ وَكَشْفُ الْمُغْلَقِ مِنْ الْمُرَادِ بِلَفْظِهِ

وَالتَّأْوِيلُ : صَرْفُ الْآيَةِ إلَى مَعْنًى تَحْتَمِلُهُ يُوَافِقُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَتَكَلَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ إلَّا أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ . هُوَ الْمَعْنَى الثَّالِثُ الْمُتَأَخِّرُ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ يَقُولُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ؟ أَمْ يَخْتَلِفَانِ ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إلَى الْعَرَبِيَّةِ : إلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إلَى الْفِقْهِ : إلَى اخْتِلَافِهِمَا فَقَالُوا : التَّفْسِيرُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ عَنْ مَقَامِ الْخَفَاءِ إلَى مَقَامِ التَّجَلِّي وَالتَّأْوِيلُ : نَقْلُ الْكَلَامِ عَنْ وَضْعِهِ إلَى مَا يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِهِ إلَى دَلِيلٍ لَوْلَاهُ مَا تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِك آلَ الشَّيْءُ إلَى كَذَا . أَيْ صَارَ إلَيْهِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَذْكُرُونَ لِلتَّأْوِيلِ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ فَلَا يَذْكُرُونَهُ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي يَئُولُ إلَيْهِ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا الْمَعْنَى الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ اللَّفْظِ بَلْ لَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ التَّأْوِيلِ مُخَالِفًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ خِلَافَ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ : إنْشَاءٌ وَإِخْبَارٌ . فَالْإِنْشَاءُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِبَاحَةُ وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ نَفْسُ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَنَفْسُ تَرْكِ الْمَحْظُورِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } . قَالَ ابْن عُيَيْنَة : السُّنَّةُ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ لَمَّا ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ فِي { نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ } قَالَ : وَالْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ . يَقُولُ : هُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ؛ وَمَا نَهَى عَنْهُ فَيَعْرِفُونَ أَعْيَانَ الْأَفْعَالِ الْمَوْجُودَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا وَأَعْيَانَ الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا . وَتَفْسِيرُ كَلَامِهِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ ؛ بَلْ هُوَ بَيَانُهُ وَشَرْحُهُ وَكَشْفُ مَعْنَاهُ . فَالتَّفْسِيرُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ : يُفَسَّرُ الْكَلَامُ بِكَلَامٍ يُوَضِّحُهُ . وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَهُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الْخَبَرُ كَإِخْبَارِ الرَّبِّ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِخْبَارِهِ عَمَّا ذِكْرِهِ لِعِبَادِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ : { يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { انْطَلِقُوا إلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { قُلْ إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }

{ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } فَإِنَّ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ لَمَّا يَأْتِهِمْ بَعْدُ وَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ . فَالتَّفْسِيرُ هُوَ الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِهِ وَالتَّأْوِيلُ هُوَ نَفْسُ مَا وُعِدُوا بِهِ إذَا أَتَاهُمْ فَهُمْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ؛ وَقَدْ يُحِيطُ النَّاسُ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِيطُ بِعِلْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ وَفِي الْحَدِيثِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } الْآيَةُ : قَالَ : إنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ } قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } قَالَ بَعْضُهُمْ : مَوْضِعُ قَرَارٍ وَحَقِيقَةٌ وَمُنْتَهًى يَنْتَهِي إلَيْهِ فَيُبَيِّنُ حَقَّهُ مِنْ بَاطِلِهِ وَصِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : لِكُلِّ خَبَرٍ يُخْبِرُ بِهِ اللَّهُ وَقْتٌ وَمَكَانٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرٍ خَلْفٍ وَلَا تَأْخِيرٍ . وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ : لِكُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ حَقِيقَةٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَسَتَعْرِفُونَهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ فَسَوْفَ

يَبْدُو لَكُمْ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ . وَقَالَ الْحَسَنُ : لِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ ؛ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ الْخَيْرِ جُوزِيَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ سُوءٍ جُوزِيَ بِهِ فِي النَّارِ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ . وَمَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ : أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهَا هُوَ النَّبَأُ الَّذِي لَهُ الْمُسْتَقَرُّ فَبَيَّنَ الْمَعْنَى وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ نَفْسَ الْجَزَاءِ هُوَ نَفْسُ النَّبَأِ . وَعَنْ السدي قَالَ : { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } أَيْ مِيعَادٌ وَعَدَتْكُمُوهُ فَسَيَأْتِيكُمْ حَتَّى تَعْرِفُونَهُ وَعَنْ عَطَاءٍ : { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } تُؤَخَّرُ عُقُوبَتُهُ لِيَعْمَلَ ذَنْبَهُ " فَإِذَا عَمِلَ ذَنْبَهُ عَاقَبَهُ أَيْ لَا يُعَاقِبُ بِالْوَعِيدِ حَتَّى يَفْعَلَ الذَّنْبَ الَّذِي تَوَعَّدَهُ عَلَيْهِ . وَمِنْهُ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ فِي آيَاتٍ : هَذِهِ ذَهَبَ تَأْوِيلُهَا وَهَذِهِ لَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا مِثْلَ مَا رَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قُرِئَتْ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةُ . فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِهَا قُولُوهَا مَا قُبِلَتْ مِنْكُمْ فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ حَيْثُ نَزَلَ فَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ . فَمَا

دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأْمُرُوا وَانْهَوْا فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤُ وَنَفْسُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ . فَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَتَأْوِيلَ الْخَبَرِ فَهَذِهِ الْآيَةُ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْحِسَابِ وَالْقِيَامَةِ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْخَبَرِ هُوَ وُجُودُ الْمُخْبَرِ بِهِ وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالْآيَةُ الَّتِي مَضَى تَأْوِيلُهَا قَبْلَ نُزُولِهَا هِيَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ : يَقَعُ الشَّيْءُ فَيَذْكُرُهُ اللَّهُ كَمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ وَهِيَ وَإِنَّ مَضَى تَأْوِيلُهَا فَهِيَ عِبْرَةٌ وَمَعْنَاهَا ثَابِتٌ فِي نَظِيرِهَا وَمِنْ هَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ : خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } . وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ ؛ فَالْمُتَشَابِهُ مِنْ الْأَمْرِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ تَأْوِيلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي الْأَمْرِ مُتَشَابِهًا فَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } قَدْ يُرَادُ بِهِ مِنْ الْخَبَرِ فَالْمُتَشَابِهُ مِنْ الْخَبَرِ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْمَاءِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّ بَيْنَ

هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي الدُّنْيَا تَشَابُهٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَمَعَ هَذَا فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ مُخَالِفَةٌ لِحَقِيقَةِ هَذَا وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ لَا نَعْلَمُهَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } فَهَذَا الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَعْلَمُهُ نَفْسٌ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَكَذَلِكَ وَقْتُ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَشْرَاطُهَا وَكَذَلِكَ كَيْفِيَّاتُ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْحِسَابِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ حَتَّى تَعْلَمَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَا لَهُ نَظِيرٌ مُطَابِقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى يُعْلَمَ بِهِ فَهُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ عَنْ نَفْسِهِ مِثْلَ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَكَلَامِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ كَيْفِيَّاتِ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ : تَلَقَّوْا هَذَا الْكَلَامَ عَنْهُمَا بِالْقَبُولِ لَمَّا قِيلَ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَقَالَ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ . هَذَا لَفْظُ مَالِكٍ . فَأَخْبَرَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَهَذَا تَفْسِيرُ اللَّفْظِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَيْفَ مَجْهُولٌ وَهَذَا هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا .

وَكَذَلِكَ سَائِرُ السَّلَفِ كَابْنِ الماجشون وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا يُبَيِّنُونَ أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَالْكَيْفُ هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَأَمَّا نَفْسُ الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فَيَعْلَمُهُ النَّاسُ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مَعْنَى السَّمْعِ وَمَعْنَى الْبَصَرِ " وَأَنَّ مَفْهُومَ هَذَا لَيْسَ هُوَ مَفْهُومَ هَذَا وَيَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بَلْ الرُّوحُ الَّتِي فِيهِمْ يَعْرِفُونَهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّتَهَا كَذَلِكَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ . وَأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى عَرْشِهِ وَارْتِفَاعَهُ عَلَيْهِ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ السَّلَفُ قَبْلَهُمْ وَهَذَا مَعْنًى مَعْرُوفٌ مِنْ اللَّفْظِ لَا يُحْتَمَلُ فِي اللُّغَةِ غَيْرُهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ . وَمَنْ قَالَ : الِاسْتِوَاءُ لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ فَقَدْ أَجْمَلَ كَلَامَهُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : اسْتَوَى فَقَطْ . وَلَا يَصِلُونَهُ بِحَرْفِ وَهَذَا لَهُ مَعْنًى . وَيَقُولُونَ : اسْتَوَى عَلَى كَذَا وَلَهُ مَعْنًى وَاسْتَوَى إلَى كَذَا وَلَهُ مَعْنًى وَاسْتَوَى مَعَ كَذَا وَلَهُ مَعْنًى فَتَتَنَوَّعُ مَعَانِيهِ بِحَسَبِ صِلَاتِهِ . وَأَمَّا اسْتَوَى عَلَى كَذَا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلُغَةِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ إلَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ . قَالَ تَعَالَى : { فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } وَقَالَ { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } وَقَالَ : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } وَقَالَ : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ

وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } وَقَدْ { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ } { وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ لَمَّا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ } وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ : عُلُوَّهُ عَلَى مَا اسْتَوَى عَلَيْهِ وَاعْتِدَالَهُ أَيْضًا . فَلَا يُسَمُّونَ الْمَائِلَ عَلَى الشَّيْءِ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَمِنْهُ حَدِيثُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَد لَمَّا قَالَ : اسْتَوُوا . وَقَوْلُهُ : ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مهراق هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى كُرْسِيِّ مُلْكِهَا لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ الِاسْتِيلَاءِ ؛ بَلْ اسْتِوَاءٌ مِنْهُ عَلَيْهَا ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ الَّذِي هُوَ الْخَلِيفَةُ قَدْ اسْتَوَى أَيْضًا عَلَى الْعِرَاقِ وَعَلَى سَائِرِ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ وَلَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ اسْتَوَى عَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَسَائِرِ مَا فَتَحَهُ وَلَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَوَى عَلَى الْيَمَنِ وَغَيْرهَا مِمَّا فَتَحَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي كَلَامِهِمْ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِوَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا قِيلَ فِيمَنْ اسْتَوَى بِنَفْسِهِ عَلَى بَلَدٍ ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ كَمَا يُقَالُ جَلَسَ فُلَانٌ عَلَى السَّرِيرِ وَقَعَدَ عَلَى التَّخْتِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ . { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } وَقَوْلُهُ : { إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } .

وَقَوْلُ الزمخشري وَغَيْرِهِ : اسْتَوَى عَلَى كَذَا بِمَعْنَى مَلَكَ " دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ . فَلَيْسَ لَهَا شَاهِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى بَاطِلًا فِي اسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْل خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مِنْ حِينِ خَلَقَ الْعَرْشَ مَالِكٌ لَهُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الِاسْتِوَاءُ عَلَيْهِ مُؤَخَّرًا عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَأَيْضًا فَهُوَ مَالِكٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَلَا يُخَصُّ الْعَرْشُ بِالِاسْتِوَاءِ وَلَيْسَ هَذَا كَتَخْصِيصِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } فَإِنَّهُ قَدْ يُخَصُّ لِعَظَمَتِهِ وَلَكِنْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيُقَالُ : رَبِّ الْعَرْشِ وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ فَمُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ فَلَا يُقَالُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَا اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُوجَدُ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ كَمَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْعَرْشِ خَاصَّةً وَفِي كُلِّ شَيْءٍ عَامَّةً وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخَلْقِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَخُصُّ وَتَعُمُّ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } فَالِاسْتِوَاءُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعَرْشِ لَا تُضَافُ إلَى غَيْرِهِ لَا خُصُوصًا وَلَا عُمُومًا وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ صَوَابِ كَلَامِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِمْ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ

بِخِلَافِ مَنْ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ لَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى . كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ المعافري . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ قُدُومَ نَصَارَى نَجْرَانَ وَمُنَاظَرَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَأَهْلُ السِّيرَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَشْهُورِ بَلْ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَأَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَلِمَ يُبَاهِلُوهُ وَصَدْرُ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَ بِسَبَبِ مَا جَرَى ؛ وَلِهَذَا عَامَّتُهَا فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظِ ( أَنَّا ) و ( نَحْنُ ) وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ فَاتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ وَتَرَكُوا الْمُحْكَمَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْفِتْنَةَ وَهِيَ فِتْنَةُ الْقُلُوبِ بِالْكُفْرِ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِ لَفْظِ ( إنَّا ) و ( نَحْنُ ) وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا اللَّهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إنَّمَا تُقَالُ لِلْوَاحِدِ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ إمَّا أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مَمَالِيكَ لَهُ . وَلِهَذَا صَارَتْ مُتَشَابِهَةً فَإِنَّ الَّذِي مَعَهُ شُرَكَاءُ يَقُولُ : فَعَلْنَا نَحْنُ كَذَا وَإِنَّا نَفْعَلُ نَحْنُ كَذَا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَاَلَّذِي لَهُ مَمَالِيكُ وَمُطِيعُونَ يُطِيعُونَهُ - كَالْمَلِكِ - يَقُولُ : فَعَلْنَا كَذَا . أَيْ أَنَا

فَعَلْت بِأَهْلِ مُلْكِي وَمِلْكِي وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَهُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُدَبِّرُ أَمْرَ الْعَالَمِ بِنَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ الَّتِي هِيَ رُسُلُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ مَنْ قَالَ : إنَّا وَنَحْنُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ لَهُ مُلْكٌ تَامٌّ وَلَا أَمْرٌ مُطَاعٌ طَاعَةً تَامَّةً فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يَقُولَ : ( إنَّا و ( نَحْنُ وَالْمُلُوكُ لَهُمْ شَبَهٌ بِهَذَا فَصَارَ فِيهِ أَيْضًا مِنْ الْمُتَشَابِهِ مَعْنًى آخَرُ وَلَكِنَّ الَّذِي يُنْسَبُ لِلَّهِ مِنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ مَلَائِكَتِهِ وَصِفَاتِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ وَكَيْفَ يُدَبِّرُ بِهِمْ أَمْرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } فَهَذَا التَّأْوِيلُ لِهَذَا الْمُتَشَابِهِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ عَلِمْنَا تَفْسِيرَهُ وَمَعْنَاهُ ؛ لَكِنْ لَمْ نَعْلَمْ تَأْوِيلَهُ الْوَاقِعَ فِي الْخَارِجِ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ } فَإِنَّهَا آيَةٌ مُحْكَمَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَشَابُهٌ فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ لَيْسَ مِثْلَ ( إنَّا و ( نَحْنُ الَّتِي تُقَالُ لِمَنْ لَهُ شُرَكَاءُ وَلِمَنْ لَهُ أَعْوَانٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَهَذَا . كَمَا قَالَ : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } وَقَالَ : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } فَالْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ بِهِ هَذَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَظِيرُهُ ثَابِتًا لِلَّهِ ؛ فَلِهَذَا صَارَ مُتَشَابِهًا .

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } وَقَالَ : { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } وَقَالَ : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } وَقَالَ : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } فَهَذَا الِاسْتِوَاءُ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُ حَاجَةَ الْمُسْتَوِي إلَى الْمُسْتَوَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْ عَدِمَ مَنْ تَحْتَهُ لَخَرَّ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ الْعَرْشِ وَعَنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ بِقُدْرَتِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَةُ الْعَرْشُ وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّهُمْ إنَّمَا أَطَاقُوا حَمْلَ الْعَرْشِ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . فَصَارَ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ مُتَشَابِهًا يَلْزَمُهُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ مَعَانِي يُنَزَّهُ . اللَّهُ عَنْهَا . فَنَحْنُ نَعْلَمُ مَعْنَاهُ وَأَنَّهُ الْعُلُوُّ وَالِاعْتِدَالُ ؛ لَكِنْ لَا نَعْلَمُ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا الرَّبُّ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ مِنْهُ إلَى الْعَرْشِ بَلْ مَعَ حَاجَةِ الْعَرْشِ وَكُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَنَّا لَمْ نَعْهَدْ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا يَسْتَوِي عَلَى غَيْرِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ وَحَاجَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَوَى عَلَيْهِ إلَى الْمُسْتَوِي فَصَارَ مُتَشَابِهًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ وَالْمَعْنَيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَبَيْنَهُمَا قَدْرًا فَارِقًا هُوَ مُرَادٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ الْفَارِقَ الَّذِي امْتَازَ الرَّبُّ بِهِ فَصِرْنَا نَعْرِفُهُ مِنْ وَجْهٍ وَنَجْهَلُهُ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ هُوَ تَأْوِيلُهُ وَالْأَوَّلُ هُوَ تَفْسِيرُهُ . وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ : كَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ لَبَنًا إلَّا مَخْلُوقًا مِنْ مَاشِيَةٍ

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَإِذَا بَقِيَ أَيَّامًا يَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ وَلَا نَعْرِفُ عَسَلًا إلَّا مِنْ نَحْلٍ تَصْنَعُهُ فِي بُيُوتِ الشَّمْعِ الْمُسَدَّسَةِ فَلَيْسَ هُوَ عَسَلًا مُصَفًّى وَلَا نَعْرِفُ حَرِيرًا إلَّا مِنْ دُودِ الْقَزِّ وَهُوَ يَبْلَى وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِهَذِهِ لَا فِي الْمَادَّةِ وَلَا فِي الصُّورَةِ وَالْحَقِيقَةِ بَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ تُخَالِفُ حَقِيقَةَ هَذِهِ وَذَلِكَ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ . لَكِنْ يُقَالُ : فَالْمَلَائِكَةُ قَدْ تَعْلَمُ هَذَا . فَيُقَالُ : هِيَ لَا تَعْلَمُ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَا تَعْلَمُ كُلَّ مَا فِي الْجَنَّةِ وَأَيْضًا فَمِنْ النِّعَمِ مَا لَا تَعْرِفُهُ الْمَلَائِكَةُ وَالتَّأْوِيلُ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ . وَإِذَا قَدَّرْنَا أَنَّهَا تَعْرِفُ مَا لَا نَعْرِفُهُ فَذَاكَ لَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَهَا وَيَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلْآيَةِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ . مُتَشَابِهًا عِنْدَ هَذَا مَا لَا يَكُونُ مُتَشَابِهًا عِنْدَ هَذَا .
وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ هَذَا فَإِنَّ أَحْمَد ذَكَرَ فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة : أَنَّهَا احْتَجَّتْ بِثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ الْمُتَشَابِهِ : قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } وَقَوْلُهُ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وَقَوْلُهُ : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } وَقَدْ فَسَّرَ أَحْمَد قَوْلَهُ :

{ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } . فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِمَّا عَلِمْنَا مَعْنَاهَا لَمْ تَكُنْ مُتَشَابِهَةً عِنْدَنَا وَهِيَ مُتَشَابِهَةٌ عِنْدَ مَنْ احْتَجَّ بِهَا وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا هُوَ إلَى مَا يَعْرِفُهُ مِنْ الْمُحْكَمِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد فِي تَرْجَمَةِ كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الْحَبْسِ وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ ثُمَّ فَسَّرَ أَحْمَد تِلْكَ الْآيَاتِ آيَةً آيَةً فَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَشَابِهَةً عِنْدَهُ بَلْ قَدْ عَرَّفَ مَعْنَاهَا . وَعَلَى هَذَا فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ هَذَا الْمُتَشَابِهِ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُهُ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ فَتِلْكَ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ هَذَا الْمُتَشَابِهُ الْإِضَافِيُّ لَيْسَ هُوَ الْمُتَشَابِهَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ آيَاتٌ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ النَّاسِ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يُجَابُ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ قِرَاءَةُ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَقِرَاءَةُ مَنْ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ حَقٌّ وَيُرَادُ بِالْأُولَى الْمُتَشَابِهُ فِي نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ وَيُرَادُ بِالثَّانِيَةِ الْمُتَشَابِهُ الْإِضَافِيُّ الَّذِي يَعْرِفُ الرَّاسِخُونَ تَفْسِيرَهُ وَهُوَ تَأْوِيلُهُ وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ

لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } و ( لِتَزُولَ ) فِيهِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَكُلُّ قِرَاءَةٍ لَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ . وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } وَقَرَأَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : لَتُصِيبَن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ حَقٌّ فَإِنَّ الَّذِي يَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ هُوَ الظَّالِمُ وَتَارِكُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ قَدْ يُجْعَلُ غَيْرَ ظَالِمٍ لِكَوْنِهِ لَمْ يُشَارِكْهُ وَقَدْ يُجْعَلُ ظَالِمًا بِاعْتِبَارِ مَا تُرِكَ مِنْ الْإِنْكَارِ الْوَاجِبِ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } فَأَنْجَى اللَّهُ النَّاهِينَ . وَأَمَّا أُولَئِكَ الْكَارِهُونَ لِلذَّنْبِ الَّذِينَ قَالُوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا } فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ نَجَوْا لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَارِهِينَ فَأَنْكَرُوا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ . وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ مُطْلَقًا فَهُوَ ظَالِمٌ يُعَذَّبُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ } وَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِلْآيَةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ يَصِحُّ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِاعْتِبَارَيْنِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : { لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } أَيْ لَا تَخْتَصُّ بِالْمُعْتَدِينَ بَلْ تَتَنَاوَلُ مَنْ رَأَى الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرْهُ وَمَنْ قَرَأَ لَتُصِيبَن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ

خَاصَّةً أَدْخَلَ فِي ذَلِكَ مَنْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَقَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا وَيُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ كَالْجَيْشِ الَّذِينَ يَغْزُونَ الْبَيْتَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ كُلِّهِمْ وَيُحْشَرُ الْمُكْرَهُ عَلَى نِيَّتِهِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ تَشَابُهُهَا فِي نَفْسِهَا اللَّازِمِ لَهَا وَذَاكَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَأَمَّا الْإِضَافِيُّ الْمَوْجُودُ فِي كَلَامِ مَنْ أَرَادَ بِهِ التَّشَابُهَ الْإِضَافِيَّ فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ وَأَشْكَلَ مَعْنَاهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ وَأَنَّ الْجَهْمِيَّة اسْتَدَلُّوا بِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وَأَشْكَلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ عَلَى الرَّجُلِ مَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إلَّا الْمُتَشَابِهَ فِي نَفْسِهِ الَّذِي يَلْزَمُهُ التَّشَابُهُ لَمْ يُرِدْ بِشَيْءٍ مِنْهُ التَّشَابُهَ الْإِضَافِيَّ وَقَالَ تَأَوَّلْته عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَيْ غَيْرِ تَأْوِيلِهِ الَّذِي هُوَ تَأْوِيلُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ فَلَا يَبْقَى مُشْكِلًا عِنْدَهُمْ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَشَابِهُ فِي الْخَبَرِيَّاتِ إمَّا عَنْ اللَّهِ وَإِمَّا عَنْ الْآخِرَةِ وَتَأْوِيلُ هَذَا كُلِّهِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ بَلْ الْمُحْكَمُ مِنْ الْقُرْآنِ قَدْ يُقَالُ لَهُ تَأْوِيلٌ كَمَا لِلْمُتَشَابِهِ تَأْوِيلٌ . كَمَا قَالَ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ } وَمَعَ هَذَا فَذَلِكَ التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ إلَّا اللَّهُ وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ التَّأْوِيلُ لِلْمُتَشَابِهِ لِأَنَّهُ فِي الْوَعْدِ

وَالْوَعِيدِ وَكُلُّهُ مُتَشَابِهٌ وَأَيْضًا فَلَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ آيَةٍ ظَنَّهَا بَعْضُ النَّاسِ مُتَشَابِهًا أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ . فَقَوْلُ أَحْمَد احْتَجُّوا بِثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَقَوْلُهُ مَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ قَدْ يُقَالُ إنَّ هَؤُلَاءِ أَوْ إنَّ أَحْمَد جَعَلَ بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَلَيْسَ مِنْهُ فَإِنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } لَمْ يُرِدْ بِهِ هُنَا الْإِحْكَامَ الْعَامَّ وَالتَّشَابُهَ الْعَامَّ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } وَفِي قَوْلِهِ : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } فَوَصَفَهُ هُنَا كُلَّهُ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ أَيْ مُتَّفِقٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ عَكْسُ الْمُتَضَادِّ الْمُخْتَلِفِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَقَوْلِهِ : { إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ } { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } فَإِنَّ هَذَا التَّشَابُهَ يَعُمُّ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّ إحْكَامَ آيَاتِهِ تَعُمُّهُ كُلَّهُ وَهُنَا قَدْ قَالَ : { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فَجَعَلَ بَعْضَهُ مُحْكَمًا وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهًا فَصَارَ التَّشَابُهُ لَهُ مَعْنَيَانِ وَلَهُ مَعْنًى ثَالِثٌ وَهُوَ الْإِضَافِيُّ يُقَالُ قَدْ اشْتَبَهَ عَلَيْنَا هَذَا كَقَوْلِ بَنِي إسْرَائِيلَ : { إنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُتَمَيِّزًا مُنْفَصِلًا بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ . وَهَذَا مِنْ بَابِ اشْتِبَاهِ الْحَقِّ

بِالْبَاطِلِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ . وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْرِفُهَا فَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ بَلْ عَلَى بَعْضِهِمْ بِخِلَافِ مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِهِ وَمِنْ هَذَا مَا { يُرْوَى عَنْ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ : الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ : أَمْرٌ تَبَيَّنَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعُوهُ وَأَمْرٌ تَبَيَّنَ غَيُّهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَأَمْرٌ اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ فَكِلُوهُ إلَى عَالَمِهِ } . فَهَذَا الْمُشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ يُمْكِنُ الْآخَرِينَ أَنْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ فِيهِ وَيُبَيِّنُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَيْنِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ مَنْ جَعَلَ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمُشْتَبِهَاتِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ الَّذِي يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفُرُوقِ الْمَانِعَةِ لِلتَّشَابُهِ مَا يَعْرِفُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا يُنْكَرُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ مَا اشْتَبَهَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا قِرَاءَةً فِي الْآيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ فِيهَا قِرَاءَتَانِ ؛ لَكِنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ كَمَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ فَيَعْرِفُونَ الْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالصِّرَاطَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مَعْرِفَةً مُجْمَلَةً فَيَكُونُونَ عَالِمِينَ بِالتَّأْوِيلِ وَهُوَ مَا يَقَعُ فِي الْخَارِجِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ

وَلَا يَعْلَمُونَهُ مُفَصَّلًا إذْ هُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّتَهُ وَحَقِيقَتَهُ إذْ ذَلِكَ لَيْسَ مِثْلَ الَّذِي عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا وَشَاهَدُوهُ وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلِمُوا تَأْوِيلَهُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَهُ وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ حَقٌّ .
وَعَلَى قِرَاءَةِ النَّفْيِ هَلْ يُقَالُ أَيْضًا : إنَّ الْمُحْكَمَ لَهُ تَأْوِيلٌ لَا يَعْلَمُونَ تَفْصِيلَهُ ؟ فَإِنَّ قَوْلَهُ : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ إلَّا اللَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ بَلْ قَدْ يُقَالُ : إنَّ مِنْ الْمُحْكَمِ أَيْضًا مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُتَشَابِهَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أُولَئِكَ طَلَبُوا عِلْمَ تَأْوِيلِهِ أَوْ يُقَالُ بَلْ الْمُحْكَمُ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ لَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وَقْتَ تَأْوِيلِهِ وَمَكَانَهُ وَصِفَتَهُ . وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الْمُحْكَمَ مَا يُعْمَلُ بِهِ وَالْمُتَشَابِهَ مَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ كَمَا يَجِيءُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآثَارِ وَنَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ ، وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ وَكَمَا جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } قَالَ يُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ . وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّشَابُهَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ فَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى هَذَا مَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى هَذَا فَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا اسْتَبَانَ لَهُ وَيَكِلَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إلَى اللَّهِ . كَقَوْلِ أبي بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ

الثَّوْرِيُّ عَنْ مُغِيرَةَ - وَلَيْسَ بِشَيْءِ - عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ : قِيلَ لأبي بْنِ كَعْبٍ أَوْصِنِي فَقَالَ : اتَّخِذْ كِتَابَ اللَّهِ إمَامًا ارْضَ بِهِ قَاضِيًا وَحَاكِمًا هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَ فِيكُمْ رَسُولُهُ شَفِيعٌ مُطَاعٌ وَشَاهِدٌ لَا يُتَّهَمُ فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَيْنَكُمْ وَذِكْرُ مَا قَبْلَكُمْ وَذِكْرُ مَا فِيكُمْ . وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ . عَنْ ابْنِ أَبْزَى عَنْ أبي قَالَ : فَمَا اسْتَبَانَ لَك فَاعْمَلْ بِهِ وَمَا شُبِّهَ عَلَيْك فَآمِنْ بِهِ وَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُتَشَابِهُ هُوَ الْمَنْسُوخُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ الْخَبَرِيَّاتُ مُطْلَقًا فَعَنْ قتادة وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ والسدي : الْمُحْكَمُ النَّاسِخُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ : وَالْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ وَكَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَأَمَّا تَفْسِيرُ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ : مُحْكَمَاتُ : الْقُرْآنِ نَاسِخُهُ وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ وَحُدُودُهُ وَفَرَائِضُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ . والمتشابهات : مَنْسُوخُهُ وَمُقَدَّمُهُ وَمُؤَخَّرُهُ وَأَمْثَالُهُ وَأَقْسَامُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ . أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } فَقَابَلَ بَيْنَ الْمَنْسُوخِ وَبَيْنَ الْمُحْكَمِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَرَادَ نَسْخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ ؛ لَمْ يُرِدْ نَسْخَ مَا أَنْزَلَهُ لَكِنْ هُمْ جَعَلُوا جِنْسَ الْمَنْسُوخِ مُتَشَابِهًا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ غَيْرَهُ فِي التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ

وَأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَقُرْآنٌ وَمُعْجِزٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي مَعَ أَنَّ مَعْنَاهُ قَدْ نُسِخَ . وَمَنْ جَعَلَ الْمُتَشَابِهَ كُلَّ مَا لَا يُعْمَلُ بِهِ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَالْأَقْسَامِ وَالْأَمْثَالِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ مُتَشَابِهٌ وَلَمْ يُؤْمَرْ النَّاسُ بِتَفْصِيلِهِ بَلْ يَكْفِيهِمْ الْإِيمَانُ الْمُجْمَلُ بِهِ بِخِلَافِ الْمَعْمُولِ بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ الْمُفَصَّلِ . وَهَذَا بَيَانٌ لِمَا يَلْزَمُ كُلَّ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ مَعْرِفَةُ مَا يُعْمَلُ بِهِ تَفْصِيلًا لِيَعْمَلُوا بِهِ . وَمَا أَخْبَرُوا بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ حَسَنًا أَوْ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَيْسَ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ ؛ بِخِلَافِ مَا يُعْمَلُ بِهِ . فَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ مَعْرِفَةُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعَمَلِ مُفَصَّلًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِيَّاتِ مُفَصَّلًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ : الْمُحْكَمُ مَا فِيهِ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مُتَشَابِهٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمُتَشَابِهُ هُوَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ : { كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } . وَالْحَلَالُ مُخَالِفٌ لِلْحَرَامِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ : إنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ ؛ لَكِنَّ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ بِهَذَا مَعَ أَنَّ كُلَّ الْقُرْآنِ مُتَشَابِهٌ وَهُنَا خَصَّ الْبَعْضَ بِهِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْقَوْلِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } لَوْ أُرِيدَ بِالْمُتَشَابِهِ

تَصْدِيقُ بَعْضِهِ بَعْضًا لَكَانَ اتِّبَاعُ ذَلِكَ غَيْرَ مَحْذُورٍ وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ يُصَدِّقُ بَعْضَهُ بَعْضًا مَا يَمْنَعُ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَقَدْ يُحْتَجُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ مُتَشَابِهَاتٍ فَجَعَلَهَا أَنْفُسَهَا مُتَشَابِهَاتٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضًا لَيْسَتْ مُتَشَابِهَةً لِغَيْرِهَا . وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَيَيْنِ صَارَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ كَقَوْلِهِ : ( إنَّا ) و ( نَحْنُ )الْمَذْكُورُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ أَهْلِ نَجْرَانَ وَنُزُولِ الْآيَةِ قَالَ : الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنْ التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ فِي التَّأْوِيلِ أَوْجُهًا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ الْمُحْكَمَ لَا يَكُونُ تَأْوِيلُهُ فِي الْخَارِجِ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَيَكُونُ لَهُ تَأْوِيلَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَكِنْ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ إلَّا وَاحِدًا مِنْهَا وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ وَحِينَئِذٍ فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا كَمَا يَعْلَمُونَ الْمُرَادَ مِنْ الْمُحْكَمِ ؛ لَكِنَّ نَفْسَ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ وَوَقْتَ الْحَوَادِثِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُونَهُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { بِكَلِمَةُ مِنَ اللَّهِ }وَرُوحٌ مِنْهُ وَلَفْظُ كَلِمَةِ اللَّهِ : يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَخْلُوقُ بِالْكَلَامِ وَرُوحٌ مِنْهُ : يُرَادُ بِهِ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ وَيُرَادُ بِهِ التَّبْعِيضُ فَعَلَى هَذَا إذَا قِيلَ تَأْوِيلُهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفَ خَلَقَ

عِيسَى بِالْكَلِمَةِ وَلَا كَيْفَ أَرْسَلَ إلَيْهَا رُوحَهُ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ كَلَامًا لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ هَذَا تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ لَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ أَوْ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ مَعْنَيَانِ : يَعْلَمُونَ أَحَدَهُمَا وَلَا يَعْلَمُونَ الْآخَرَ وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ كَانَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ : الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ كَانَ هَذَا الْإِثْبَاتُ خَيْرًا مِنْ مِنْ ذَلِكَ النَّفْيِ فَإِنَّ مَعْنَى الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَفَهْمُهُ وَتَدَبُّرُهُ وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ قَاطِعًا عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّ السَّلَفَ قَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ - مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ - وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّهُ قَالَ : أَنَا مِنْ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ .=29=

ج29. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

وَقَوْلُ أَحْمَد فِيمَا كَتَبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شُكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَقَوْلُهُ عَنْ الْجَهْمِيَّة إنَّهَا تَأَوَّلَتْ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ الْمُتَشَابِهِ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى مَعْنَاهَا ؛ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ عِنْدَهُ تَعْرِفُ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ وَأَنَّ الْمَذْمُومَ تَأْوِيلُهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ فَأَمَّا تَفْسِيرُهُ الْمُطَابِقُ لِمَعْنَاهُ فَهَذَا مَحْمُودٌ لَيْسَ بِمَذْمُومِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ لِلْمُتَشَابِهِ عِنْدَهُ وَهُوَ التَّفْسِيرُ فِي لُغَةِ السَّلَفِ . وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ إنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ لَا يَعْرِفُ الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ مَعْنَاهَا بَلْ يَتْلُونَ لَفْظًا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمَا . وَابْنُ قُتَيْبَةَ هُوَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَالْمُنْتَصِرِينَ لِمَذَاهِبِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ . قَالَ فِيهِ صَاحِبُ " كِتَابِ التَّحْدِيثِ بِمَنَاقِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ " : وَهُوَ أَحَدُ أَعْلَامِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ أَجْوَدُهُمْ تَصْنِيفًا وَأَحْسَنُهُمْ تَرْصِيفًا لَهُ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةِ مُصَنَّفٍ وَكَانَ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَكَانَ مُعَاصِرًا لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَكَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَقُولُونَ : مَنْ اسْتَجَازَ الْوَقِيعَةَ فِي ابْنِ قُتَيْبَةَ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ وَيَقُولُونَ : كُلُّ بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تَصْنِيفِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ قُلْت :

وَيُقَالُ هُوَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِثْلَ الْجَاحِظِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ خَطِيبُ السُّنَّةِ كَمَا أَنَّ الْجَاحِظَ خَطِيبُ الْمُعْتَزِلَةِ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا الْقَوْلُ الْآخَرُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَطَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ نَصًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَتْ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ فَتُرَدُّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَأُولَئِكَ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ قَرَنَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ بِابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَمَّ مُبْتَغِي الْمُتَشَابِهِ وَقَالَ : { إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَاحْذَرُوهُمْ } . وَلِهَذَا ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صبيغ بْنَ عَسَلٍ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ الْمُتَشَابِهِ وَلِأَنَّهُ قَالَ : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ } وَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ وَاوَ عَطْفِ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ لَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ الَّتِي تَعْطِفُ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ لَقَالَ : وَيَقُولُونَ . فَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } ثُمَّ قَالَ : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ } الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } قَالُوا فَهَذَا عَطْفُ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ وَالْفِعْلُ حَالٌ مِنْ الْمَعْطُوفِ فَقَطْ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { وَالرَّاسِخُونَ فِي

الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْوَصْفِ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَخُصَّ الرَّاسِخِينَ بَلْ قَالَ : وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فَإِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ فَلَمَّا خَصَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ عَلِمَ أَنَّهُمْ امْتَازُوا بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ فَعَلِمُوهُ لِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ وَآمَنُوا بِهِ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ " وَكَانَ إيمَانُهُمْ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَكْمَلَ فِي الْوَصْفِ وَقَدْ قَالَ عقيب ذَلِكَ : { وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَا تَذَكُّرًا يَخْتَصُّ بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ فَإِنْ كَانَ مَا ثَمَّ إلَّا الْإِيمَانُ بِأَلْفَاظٍ فَلَا يُذَكِّرُ لِمَا يَدُلُّهُمْ عَلَى مَا أُرِيدَ بِالْمُتَشَابِهِ . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } فَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ قَرَنَ بِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ فَلَوْ أُرِيدَ هُنَا مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ لَقَالَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كَمَا قَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ لَمَّا كَانَ مُرَادُهُ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ بِالْإِيمَانِ جَمَعَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ . قَالُوا : وَأَمَّا الذَّمُّ فَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَنْ يَتَّبِعُ الْمُتَشَابِهَ لِابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ وَهُوَ حَالُ أَهْلِ الْقَصْدِ الْفَاسِدِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْقَدْحَ فِي الْقُرْآنِ فَلَا يَطْلُبُونَ إلَّا الْمُتَشَابِهَ لِإِفْسَادِ الْقُلُوبِ وَهِيَ فِتْنَتُهَا بِهِ وَيَطْلُبُونَ تَأْوِيلَهُ وَلَيْسَ طَلَبُهُمْ لِتَأْوِيلِهِ لِأَجْلِ الْعِلْمِ وَالِاهْتِدَاءِ بَلْ هَذَا

لِأَجْلِ الْفِتْنَةِ وَكَذَلِكَ صبيغ بْنُ عَسَلٍ ضَرَبَهُ عُمَرُ ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِالسُّؤَالِ عَنْ الْمُتَشَابِهِ كَانَ لِابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَهَذَا كَمَنْ يُورِدُ أَسْئِلَةً وَإِشْكَالَاتٍ عَلَى كَلَامِ الْغَيْرِ وَيَقُولُ مَاذَا أُرِيدَ بِكَذَا وَغَرَضُهُ التَّشْكِيكُ وَالطَّعْنُ فِيهِ لَيْسَ غَرَضُهُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ عَنَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } وَلِهَذَا يَتَّبِعُونَ أَيْ يَطْلُبُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَقْصِدُونَهُ دُونَ الْمُحْكَمِ مِثْلَ الْمُتَّبِعِ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَحَرَّاهُ وَيَقْصِدُهُ وَهَذَا فِعْلُ مَنْ قَصْدُهُ الْفِتْنَةُ . وَأَمَّا مَنْ سَأَلَ عَنْ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ لِيَعْرِفَهُ وَيُزِيلَ مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الشُّبَهِ . وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمُحْكَمِ مُتَّبِعٌ لَهُ مُؤْمِنٌ بِالْمُتَشَابِهِ لَا يَقْصِدُ فِتْنَةً فَهَذَا لَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَقُولُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلَ الْأَثَرِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي رَوَاهُ . إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجوزجاني وَقَدْ ذَكَرَهُ الطلمنكي - حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ ثَنَا بَقِيَّةُ ثَنَا عتبة بْنُ أَبِي حَكِيمٍ ثَنِيّ عِمَارَةُ بْنُ رَاشِدٍ الْكِنَانِيُّ عَنْ زِيَادٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ لَهُ فِيهِ هَوًى وَنِيَّةٌ يُفَلِّيهِ فَلْيَ الرَّأْسِ يَلْتَمِسُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ أَمْرًا يَخْرُجُ بِهِ عَلَى النَّاسِ أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِهِمْ أُولَئِكَ يُعْمِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ سُبُلَ الْهُدَى وَرَجُلٌ يَقْرَؤُهُ لَيْسَ فِيهِ هَوًى وَلَا نِيَّةٌ يُفَلِّيهِ فَلْيَ الرَّأْسِ فَمَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْهُ عُمِلَ بِهِ ؟ وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَكَلَهُ إلَى اللَّهِ لِيَتَفَقَّهُنَّ فِيهِ فِقْهًا مَا فَقِهَهُ قَوْمٌ قَطُّ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ مَكَثَ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُبَيِّنُ لَهُ الْآيَةَ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ أَوْ يُفَهِّمُهُ إيَّاهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ .

قَالَ بَقِيَّةُ أَشْهَدَنِي ابْنُ عُيَيْنَة حَدِيثَ عتبة هَذَا . فَهَذَا مُعَاذٌ يَذُمُّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ لِقَصْدِ الْفِتْنَةِ وَأَمَّا مَنْ قَصْدُهُ . الْفِقْهَ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ لَا بُدَّ أَنْ يُفَقِّهَهُ بِفَهْمِهِ الْمُتَشَابِهَ فِقْهًا مَا فَقِهَهُ قَوْمٌ قَطُّ قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا إذَا عَرَضَ لِأَحَدِهِمْ شُبْهَةٌ فِي آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ فَقَالَ : أَلَمْ يَكُنْ تَحَدَّثْنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ وَسَأَلَهُ أَيْضًا عُمَرُ : مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَقَدْ آمَنَّا ؟ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلَهُ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } شَقَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ وَلَمَّا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ قَالَتْ عَائِشَةُ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } ؟ قَالَ : إنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ } . قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ إجْمَاعُ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا جَمِيعَ الْقُرْآنِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَتَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى

يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا وَكَلَامُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا قَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَيَقِفُ فِيهِ لَا لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ لَا يَعْلَمُهُ لَكِنْ لِأَنَّهُ هُوَ لَمْ يَعْلَمْهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا لَا يُتَدَبَّرُ وَلَا قَالَ : لَا تَدَبَّرُوا الْمُتَشَابِهَ وَالتَّدَبُّرُ بِدُونِ الْفَهْمِ مُمْتَنِعٌ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا لَا يُتَدَبَّرُ لَمْ يُعْرَفْ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُمَيِّزْ الْمُتَشَابِهَ بِحَدٍّ ظَاهِرٍ حَتَّى يُجْتَنَبَ تَدَبُّرُهُ . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ الْمُتَشَابِهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ فَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى هَذَا مَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ قَالُوا ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ وَنُورٌ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا عَنْ هَذَا الْوَصْفِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ بِدُونِ فَهْمِ الْمَعْنَى قَالُوا : وَلِأَنَّ مِنْ الْعَظِيمِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَا هُوَ وَلَا جِبْرِيلُ بَلْ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَظِيرُ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِأَقَلِّ النَّاسِ .

وَأَيْضًا فَالْكَلَامُ إنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِفْهَامُ فَإِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ كَانَ عَبَثًا وَبَاطِلًا وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ فَكَيْفَ يَقُولُ الْبَاطِلَ وَالْعَبَثَ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ يُنَزِّلُهُ عَلَى خَلْقِهِ لَا يُرِيدُ بِهِ إفْهَامَهُمْ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِ الْمُلْحِدِينَ . وَأَيْضًا فَمَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي مَعْنَاهَا وَبَيَّنُوا ذَلِكَ وَإِذَا قِيلَ فَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ قِيلَ كَمَا قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَآيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ مَعْنَاهَا وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ قَدْ يَكُونُ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا يَكُونُ فِي آيَاتِ الْخَبَرِ وَتِلْكَ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَعْرِفَةِ الرَّاسِخِينَ لِمَعْنَاهَا فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْنُّفَاةِ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَى الْمُتَشَابِهُ إلَّا اللَّهُ لَا مَلَكٌ وَلَا رَسُولٌ وَلَا عَالِمٌ وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُتَشَابِهِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَأَيْضًا فَلَفْظُ التَّأْوِيلِ يَكُونُ لِلْمُحْكَمِ كَمَا يَكُونُ لِلْمُتَشَابِهِ كَمَا دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُحْكَمِ فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ وَأَيُّ فَضِيلَةٍ فِي الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَنْفَرِدَ اللَّهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ وَالْمُحْكَمُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَاهُ لِعِبَادِهِ فَأَيُّ فَضِيلَةٍ فِي الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَسْتَأْثِرَ اللَّهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ وَمَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَوَقْتِ السَّاعَةِ لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ

خِطَابًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً تَدُلُّ عَلَى وَقْتِ السَّاعَةِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُطْلِعْ عِبَادَهُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَلَامٍ أَنْزَلَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ هُدًى وَبَيَانٌ وَشِفَاءٌ وَأَمَرَ بِتَدَبُّرِهِ ثُمَّ يُقَالُ إنَّ مِنْهُ مَا لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ وَلِهَذَا صَارَ كُلُّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ آيَاتٍ لَا يُؤْمِنُ بِمَعْنَاهَا يَجْعَلُهَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ثُمَّ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ قِصَّةُ أَهْلِ نَجْرَانَ وَقَدْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ( إنَّا ) و ( نَحْنُ ) وَبِقَوْلِهِ : ( كَلِمَةٌ ) مِنْهُ و ( رُوحٌ ) مِنْهُ وَهَذَا قَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَيْنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَدَبَّرَهُ وَنَعْقِلَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ وَنُورٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا مَعَانِيهِ وَلَوْلَا الْمَعْنَى لَمْ يَجُزْ التَّكَلُّمُ بِلَفْظٍ لَا مَعْنَى لَهُ . وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِي مَاذَا أُنْزِلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا . وَمَنْ قَالَ : إنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ سُؤَالُ الْيَهُودِ عَنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي ( الم ) بِحِسَابِ الْجُمَلِ فَهَذَا نَقْلٌ بَاطِلٌ . أَمَّا أَوَّلًا : فَلِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ .

وَأَمَّا ثَانِيًا : فَهَذَا قَدْ قِيلَ إنَّهُمْ قَالُوهُ فِي أَوَّلِ مَقْدِمٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ إنَّمَا نَزَلَ صَدْرُهَا مُتَأَخِّرًا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ وَفِيهَا فُرِضَ الْحَجُّ وَإِنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ لَمْ يُفْرَضْ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا ثَالِثًا : فَلِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ وَدِلَالَةَ الْحَرْفِ عَلَى بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيْسَ هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَيْسَ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ بِكَلَامِهِ فَلَا يُقَالُ إنَّهُ انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ بَلْ دَعْوَى دِلَالَةِ الْحُرُوفِ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ عَلِمَ بَعْضُ النَّاسِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَحِينَئِذٍ فَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ ذَلِكَ أَمَّا دَعْوَى دِلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُهُ فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ لَا يَعْرِفُهَا الرَّسُولُ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ قَدْحِ الْمَلَاحِدَةِ فِيهِ وَكَانَ حُجَّةً لِمَا يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْأُمُورَ الْعِلْمِيَّةَ أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا بَلْ هَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا فَإِنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ لَا يَعْلَمُهُ النَّبِيُّ وَلَا غَيْرُهُ . وَبِالْجُمْلَةِ : فَالدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ تُوجِبُ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ .

نَعَمْ قَدْ يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ قَدْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا يَعْرِفُهُ هَذَا وَذَلِكَ تَارَةً يَكُونُ لِغَرَابَةِ اللَّفْظِ وَتَارَةً لِاشْتِبَاهِ الْمَعْنَى بِغَيْرِهِ وَتَارَةً لِشُبْهَةٍ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ تَمْنَعُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَتَارَةً لِعَدَمِ التَّدَبُّرِ التَّامِّ وَتَارَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ قَوْلَهُ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } . أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْطُوفًا وَيَجْعَلُ الْوَاوَ لِعَطْفِ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ أَوْ يَكُونُ كِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقًّا وَهِيَ قِرَاءَتَانِ وَالتَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ غَيْرُ التَّأْوِيلِ الْمُثْبَتِ وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ هُوَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُهَا وَاوَ اسْتِئْنَافٍ فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ عِلْمُهُ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ هُوَ الْكَيْفِيَّاتُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَنَا مِنْ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ . وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا " وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْقَوْلَيْنِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ مِنْ تَفْسِيرِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ وَأَنَّ فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الصَّوَابَ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَجَعَلَ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ فَهَذَا خَطَأٌ قَطْعًا .

وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فَهَذَا الِاصْطِلَاحُ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ عُرِفَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ بَلْ وَلَا التَّابِعِينَ بَلْ وَلَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ وَلَا كَانَ التَّكَلُّمُ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ مَعْرُوفًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بَلْ وَلَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْهُمْ خَصَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ بِهَذَا وَلَكِنْ لَمَّا صَارَ تَخْصِيصُ لَفْظِ التَّأْوِيلِ بِهَذَا شَائِعًا فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَظَنُّوا أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي الْآيَةِ هَذَا مَعْنَاهُ صَارُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ مَعَانِيَ تُخَالِفُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَفَرَّقُوا دَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارُوا شِيَعًا وَالْمُتَشَابِهُ الْمَذْكُورُ الَّذِي كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ وَإِنَّمَا الْخَطَأُ فِي فَهْمِ السَّامِعِ . نَعَمْ قَدْ يُقَالُ : إنَّ مُجَرَّدَ هَذَا الْخِطَابِ لَا يُبَيِّنُ كَمَالَ الْمَطْلُوبِ وَلَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ دِلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَبَيْنَ دِلَالَتِهِ عَلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ . فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَنْفِيُّ ؛ بَلْ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَاطِلِ أَلْبَتَّةَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّ لِظَاهِرِ الْآيَةِ مَعْنًى إمَّا مَعْنًى يَعْتَقِدُهُ وَإِمَّا مَعْنًى بَاطِلًا فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِهِ وَيَكُونُ مَا قَالَهُ بَاطِلًا لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى مُعْتَقَدِهِ وَلَا عَلَى الْمَعْنَى الْبَاطِلِ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَحْتَاجُ إلَى التَّأْوِيلِ الْمُحْدَثِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ إلَى خِلَافِ مَدْلُولِهِ .

وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ قَالَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ : مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ - { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ وَقَالَ : اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ } فَقَدْ دَعَا لَهُ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا وَابْنُ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ قَالَ مُجَاهِدٌ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَكَانَ يَقُولُ : أَنَا مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ . وَأَيْضًا فَالنُّقُولُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ فَلَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَصَصِ وَمِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ . وَأَيْضًا قَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا مِنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِي مَاذَا أُنْزِلَتْ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ يُعْلَمُ تَأْوِيلُهَا وَهِيَ نَحْوُ خَمْسمِائَةِ آيَةٍ وَسَائِرُ الْقُرْآنِ خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَوْ عَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَوْ عَنْ الْقَصَصِ وَعَاقِبَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَعَاقِبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُتَشَابِهَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ

فَجُمْهُورُ الْقُرْآنِ لَا يَعْرِف أَحَدَ مَعْنَاهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ . وَأَيْضًا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلْمَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا أَصْعَبُ مِنْ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ الَّذِي يُخْبَرُ بِهِ فَإِنَّ دِلَالَةَ الرُّؤْيَا عَلَى تَأْوِيلِهَا دِلَالَةٌ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا يَهْتَدِي لَهَا جُمْهُورُ النَّاسِ ؛ بِخِلَافِ دِلَالَةِ لَفْظِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلَّمَ عِبَادَهُ تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرَوْنَهَا فِي الْمَنَامِ فَلِأَنْ يُعَلِّمَهُمْ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ الَّذِي يُنَزِّلُهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى قَالَ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } وَقَالَ يُوسُفُ : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } وَقَالَ : { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } . وَأَيْضًا فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } وَقَالَ : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ } { حَتَّى إذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وَهَذَا ذَمٌّ لِمَنْ كَذَّبَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِعِلْمِهِ .

فَمَا قَالَهُ النَّاسُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ بِقَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُكَذِّبَ بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا أَنْ يُحِيطَ بِعِلْمِهِ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ إلَّا إذَا عَرَفَ الْحَقَّ الَّذِي أُرِيدَ بِالْآيَةِ فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ فَيُكَذِّبَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي أَحَاطَ بِعِلْمِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا وَلَمْ يُحِطْ بِشَيْءٍ مِنْهَا عِلْمًا . فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْذِيبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا مَعَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُتَنَاقِضَةَ بَعْضُهَا بَاطِلٌ قَطْعًا وَيَكُونُ حِينَئِذٍ الْمُكَذِّبُ بِالْقُرْآنِ كَالْمُكَذِّبِ بِالْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ وَالْمُكَذِّبُ بِالْحَقِّ كَالْمُكَذِّبِ بِالْبَاطِلِ وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إنْ بُنِيَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَعَانِيَ الْآيَاتِ الْخَبَرِيَّةِ إلَّا اللَّهُ لَزِمَهُ أَنْ يُكَذِّبَ كُلَّ مَنْ احْتَجَّ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ خَبَرِيَّةٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ قَالَ : الْمُتَشَابِهُ هُوَ بَعْضُ الْخَبَرِيَّاتِ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ فَصْلًا يَتَبَيَّنُ بِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ مَعْنَاهُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ لَا مَلِكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا غَيْرُهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا ذِكْرُ حَدٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ بَعْضُ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ أَحَدٌ . وَلَوْ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ انْتَقَضَ عَلَيْهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَيْسَ هُوَ

الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ } { أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا } ذَمٌّ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِحَاطَةِ مَعَ التَّكْذِيبِ وَلَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي عَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِ الْمُتَشَابِهِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَمِّهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ فَائِدَةٌ وَلَكَانَ الذَّمُّ عَلَى مُجَرَّدِ التَّكْذِيبِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِمَا لَمْ تُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا وَلَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمًا إلَّا اللَّهُ ؟ وَمَنْ كَذَّبَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْعُذْرِ مِنْ أَنْ يُكَذِّبَ بِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ فَلَوْ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا الرَّاسِخُونَ كَانَ تَرْكُ هَذَا الْوَصْفِ أَقْوَى فِي ذَمِّهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ . وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِوَجْهٍ آخَرَ هُوَ دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ : وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الزَّائِغِينَ بِالْجَهْلِ وَسُوءِ الْقَصْدِ فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْمُتَشَابِهَ يَبْتَغُونَ تَأْوِيلَهُ وَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ وَهُمْ يَقْصِدُونَ الْفِتْنَةَ لَا يَقْصِدُونَ الْعِلْمَ وَالْحَقَّ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } فَإِنَّ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ ( لَأَسْمَعَهُمْ فَهْمُ الْقُرْآنِ ) . يَقُولُ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ حُسْنَ قَصْدٍ وَقَبُولًا لِلْحَقِّ لَأَفْهَمَهُمْ الْقُرْآنَ لَكِنْ لَوْ أَفْهَمَهُمْ لَتَوَلَّوْا عَنْ الْإِيمَانِ وَقَبُولِ الْحَقِّ لِسُوءِ قَصْدِهِمْ فَهُمْ جَاهِلُونَ ظَالِمُونَ كَذَلِكَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هُمْ

مَذْمُومُونَ بِسُوءِ الْقَصْدِ مَعَ طَلَبِ عِلْمِ مَا لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ وَلَيْسَ إذَا عِيبَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْعِلْمِ وَمَنَعُوهُ يُعَابُ مَنْ حَسُنَ قَصْدُهُ وَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَرْوِي هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنُ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةَ وقتادة وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٍ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ : إنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَفِي قِرَاءَةِ أبي وَابْنِ عَبَّاسٍ : وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قَالَ : وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَشْيَاءَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } فَأَنْزَلَ الْمُحْكَمَ لِيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ فَيَسْعَدَ وَيَكْفُرَ بِهِ الْكَافِرُ فَيَشْقَى قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَاَلَّذِي رَوَى الْقَوْلَ الْآخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَلَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ التَّفْسِيرَ عَنْ مُجَاهِدٍ . فَيُقَالُ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ عَلَى هَذَا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ وَعَنْ ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ " كَانَ رُسُوخُهُمْ فِي الْعِلْمِ أَنْ آمَنُوا بِمُحْكَمِهِ وَبِمُتَشَابِهِهِ وَلَا يَعْلَمُونَهُ "

فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي هَذَا وَلَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ الْقَاسِمِ بَلْ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ كَمَا تَقَدَّمَ حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِمْ وَمَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ يُعْرَفُ حَتَّى يَحْتَجَّ بِهَا وَالْمَعْرُوفُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِي مَاذَا أُنْزِلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَلَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَتِهِمَا وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَنَا مِنْ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَعَا لَهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ التَّأْوِيلَ مَعَ أَنَّ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ إنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ لَا تُنَاقِضُ هَذَا الْقَوْلَ فَإِنَّ نَفْسَ التَّأْوِيلِ لَا يَأْتِي بِهِ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } وَقَالَ : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } .

وَقَدْ اشْتَهَرَ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ أَنَّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ هُوَ مَجِيءُ الْمَوْعُودِ بِهِ وَذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَأْتِي بِهِ إلَّا هُوَ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ : إنْ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي السَّاعَةِ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى : { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } { قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى } . فَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَقْتَضِي نَفْيَ الْعِلْمِ عَنْ الرَّاسِخِينَ لَكَانَتْ : إنْ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ لَمْ يُقْرَأْ إنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى الْمَرْوِيَّةُ عَنْ أبي وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُنَاقِضُهُ وَأَخَصُّ أَصْحَابِهِ بِالتَّفْسِيرِ مُجَاهَدٌ وَعَلَى تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ يَعْتَمِدُ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ كَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ . قَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ . وَالشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ أَكْثَر الَّذِي يَنْقُلُهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ يَعْتَمِدُ عَلَى هَذَا

التَّفْسِيرِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ لَا تَصِحُّ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ جَوَابُهُ : أَنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَصَحِّ التَّفَاسِيرِ بَلْ لَيْسَ بِأَيْدِي أَهْلِ التَّفْسِيرِ كِتَابٌ فِي التَّفْسِيرِ أَصَحَّ مِنْ تَفْسِيرِ ابْن أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَظِيرَهُ فِي الصِّحَّةِ ثُمَّ مَعَهُ مَا يُصَدِّقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا . وَأَيْضًا فأبي بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُفَسِّرُ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ : { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا } وَفَسَّرَ قَوْلَهُ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَوْلَهُ : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } وَغَيْرَ ذَلِكَ وَنَقْلُ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ أَثْبَتُ مِنْ نَقْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ لَهَا إسْنَادٌ وَقَدْ كَانَ يُسْأَلُ عَنْ الْمُتَشَابِهِ مِنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ فَيُجِيبُ عَنْهُ كَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ وَسُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْمُجْمَلَ لِيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ . فَيُقَالُ هَذَا حَقٌّ لَكِنْ هَلْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالصَّحَابَةَ لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْمُجْمَلَ ؟ أَمْ الْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُجْمَلَ فِي الْقُرْآنِ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَيُعْرَفُ مَا فِيهِ مِنْ الْإِجْمَالِ كَمَا مُثِّلَ بِهِ مِنْ وَقْتِ السَّاعَةِ فَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه بِهِ عَنْ السَّاعَةِ وَأَنَّهَا آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ اللَّهَ انْفَرَدَ بِعِلْمِ وَقْتِهَا فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَمَّا سَأَلَهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ : أَعْرَابِيٌّ لَا يَعْرِفُ قَالَ لَهُ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ } وَلَمْ يَقُلْ : إنَّ الْكَلَامَ الَّذِي نَزَلَ فِي ذِكْرِهَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ بَلْ هَذَا خِلَافٌ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَالْعُقَلَاءِ ؛ فَإِنَّ إخْبَارَ اللَّهِ عَنْ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا كَلَامٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } قَدْ عُلِمَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُرُونًا كَثِيرَةً لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ أَحَدٌ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ عُرْوَةَ فَعُرْوَةُ قَدْ عُرِفَ مِنْ طَرِيقِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُفَسِّرُ عَامَّةَ آيِ الْقُرْآنِ إلَّا آيَاتٌ قَلِيلَةٌ رَوَاهَا عَنْ عَائِشَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ عُرْوَةُ التَّفْسِيرَ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ ؛ كَابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا اللُّغَوِيُّونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنْ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ فَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ وَيَتَوَسَّعُونَ فِي الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهَا وَهِيَ خَطَأٌ . وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الَّذِي

بَالَغَ فِي نَصْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ هُوَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا فِي مَعَانِي الْآيِ الْمُتَشَابِهَاتِ يَذْكُرُ فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ مَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَيَحْتَجُّ لِمَا يَقُولُهُ فِي الْقُرْآنِ بِالشَّاذِّ مِنْ اللُّغَةِ وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ الْإِنْكَارُ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ وَلَيْسَ هُوَ أَعْلَمَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَأَتْبَعَ لِلسُّنَّةِ مِنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَلَا أَفْقَهَ فِي ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ لِلُّغَةِ ؛ لَكِنَّ بَابَ فِقْهِ النُّصُوصِ غَيْرُ بَابِ حِفْظِ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ . وَقَدْ نَقَمَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ كَوْنَهُ رَدَّ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ أَشْيَاءَ مِنْ تَفْسِيرِهِ غَرِيبَ الْحَدِيثِ وَابْنُ قُتَيْبَةَ قَدْ اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ وَسَلَكَ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ وَأَمْثَالُهُ يُصِيبُونَ تَارَةً وَيُخْطِئُونَ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ الْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ فَهُمْ كُلُّهُمْ يَجْتَرِئُونَ عَلَى اللَّهِ يَتَكَلَّمُونَ فِي شَيْءٍ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَإِنْ كَانَ مَا بَيَّنُوهُ مِنْ مَعَانِي الْمُتَشَابِهِ قَدْ أَصَابُوا فِيهِ - وَلَوْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ - ظَهَرَ خَطَؤُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ فَلْيَخْتَرْ مَنْ يَنْصُرُ قَوْلَهُمْ هَذَا أَوْ هَذَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَصَابُوا فِي شَيْءٍ كَثِيرٍ مِمَّا يُفَسِّرُونَ بِهِ الْمُتَشَابِهَ وَأَخْطَئُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَيَكُونُ تَفْسِيرُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ مِمَّا أَخْطَئُوا فِيهِ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ فَإِنَّهُمْ أَصَابُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُتَشَابِهِ وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ قتادة مِنْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَكِتَابُهُ

فِي التَّفْسِيرِ مِنْ أَشْهَرِ الْكُتُبِ وَنَقْلُهُ ثَابِتٌ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْهُ وَرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْهُ وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ فِي التَّفْسِيرِ عَامَّتُهُمْ يَذْكُرُونَ قَوْلَهُ لِصِحَّةِ النَّقْلِ عَنْهُ وَمَعَ هَذَا يُفَسَّرُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمُهُ وَمُتَشَابِهُهُ . وَاَلَّذِي اقْتَضَى شُهْرَةَ الْقَوْلِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ ظُهُورُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كالْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَصَارَ أُولَئِكَ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ وَهَذَا أَصْلٌ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ الْعَقْلِيِّ وَتَأْوِيلِهِمْ اللُّغَوِيِّ فَتَفَاسِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ مَمْلُوءَةٌ بِتَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ عَلَى غَيْرِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَإِنْكَارُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ هُوَ لِهَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مَا كَتَبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شُكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ التَّأْوِيلِ . فَجَاءَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ انْتَسَبُوا إلَى السُّنَّةِ بِغَيْرِ خِبْرَةٍ تَامَّةٍ بِهَا وَبِمَا يُخَالِفُهَا ظَنُّوا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ فَظَنُّوا أَنَّ مَعْنَى التَّأْوِيلِ هُوَ مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الْمَرْجُوحِ فَصَارُوا فِي مَوْضِعٍ يَقُولُونَ وَيَنْصُرُونَ إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ

مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ يَتَنَاقَضُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ النُّصُوصُ تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى الْمَعْنَى الظَّاهِرِ مِنْهَا وَلِهَذَا يُبْطِلُونَ كُلَّ تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَيُقِرُّونَ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ وَيَقُولُونَ مَعَ هَذَا إنَّ لَهُ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ مَا يُنَاقِضُ الظَّاهِرَ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَقَدْ قَرَّرَ مَعْنَاهُ الظَّاهِرَ وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُنَاظِرُوهُمْ حَتَّى أَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَمِنْهَا أَنَّا وَجْدُنَا هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ لَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِنَصٍّ يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ لَا فِي مَسْأَلَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَلَا فَرْعِيَّةٍ إلَّا تَأَوَّلُوا ذَلِكَ النَّصَّ بِتَأْوِيلَاتٍ مُتَكَلَّفَةٍ مُسْتَخْرَجَةٍ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ لِلنُّصُوصِ الَّتِي تُخَالِفُهُمْ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ : لَا يَعْلَمُ مَعَانِيَ النُّصُوصِ الْمُتَشَابِهَةِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَاعْتُبِرَ هَذَا بِمَا تَجِدُهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ مُنَاظَرَتِهِمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنِ وَالْقَدَرِ إذَا احْتَجَّتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي تُنَاقِضُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مِثْلُ أَنْ يَحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ } وَنَحْوَ ذَلِكَ كَيْفَ تَجِدُهُمْ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ النُّصُوصَ بِتَأْوِيلَاتٍ غَالِبُهَا فَاسِدٌ

وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا حَقٌّ فَإِنْ كَانَ مَا تَأَوَّلُوهُ حَقًّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُمْ . وَهَذَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ الصَّابِرُ فِي الْمِحْنَةِ الَّذِي قَدْ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِعْيَارًا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ لَمَّا صَنَّفَ كِتَابَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " فِيمَا شُكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ تَكَلَّمَ عَلَى مَعَانِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اتَّبَعَهُ الزَّائِغُونَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ آيَةً آيَةً وَبَيَّنَ مَعْنَاهَا وَفَسَّرَهَا لِيُبَيِّنَ فَسَادَ تَأْوِيلِ الزَّائِغِينَ وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرَى وَأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ ؛ بِالْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ وَرَدَّ مَا احْتَجَّ بِهِ الْنُّفَاةِ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ وَبَيَّنَ مَعَانِيَ الْآيَاتِ الَّتِي سَمَّاهَا هُوَ مُتَشَابِهَةً وَفَسَّرَهَا آيَةً آيَةً وَكَذَلِكَ لَمَّا نَاظَرُوهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالنُّصُوصِ جَعَلَ يُفَسِّرُهَا آيَةً آيَةً وَحَدِيثًا حَدِيثًا وَيُبَيِّنُ فَسَادَ مَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ الزَّائِغُونَ وَيُبَيِّنُ هُوَ مَعْنَاهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثُ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهَا إلَّا اللَّهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ لَهُ ذَلِكَ بَلْ الطَّوَائِفُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةٌ عَلَى إمْكَانِ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهَا لَكِنْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْمُرَادِ كَمَا يَتَنَازَعُونَ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكَذَلِكَ كَانَ أَحْمَد يُفَسِّرُ الْمُتَشَابِهَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الزَّائِغُونَ مِنْ الْخَوَارِجِ

وَغَيْرُهُمْ كَقَوْلِهِ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَيُبْطِلُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَقَوْلَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَكُلُّ هَذِهِ الطَّوَائِفِ تَحْتَجُّ بِنُصُوصِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى قَوْلِهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ لَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ لِمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ هُوَ أَوْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَيْهِ مُنَازِعُهُ : هَذِهِ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا أَحَدٌ مِنْ الْبَشَرِ فَأَمْسَكُوا عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا . وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد يُنْكِرُ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ بَلَّغَهُمْ الصَّحَابَةُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَلَّغُوهُمْ أَلْفَاظَهُ وَنَقَلُوا هَذَا كَمَا نَقَلُوا هَذَا لَكِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ يَتَأَوَّلُونَ النُّصُوصَ بِتَأْوِيلَاتِ تُخَالِفُ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَهُمْ مُبْطِلُونَ فِي ذَلِكَ لَا سِيَّمَا تَأْوِيلَاتُ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ أَنْ يَقُولُوا : ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مُرَادٍ وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ كَذَا وَأَنْ يُرَادَ كَذَا وَلَوْ تَأَوَّلَهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِتَأْوِيلٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ

مُرَادُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ كَالتَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ كَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي قَوْلِهِ : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَيَنْزِلُ رَبُّنَا و { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } و { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ فَإِنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَذَا وَيَجُوزُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا عِلْمًا بِالتَّأْوِيلِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ ذَكَرَ فِي نَصٍّ أَقْوَالًا وَاحْتِمَالَاتٍ وَلَمْ يَعْرِفْ الْمُرَادَ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ تَفْسِيرَ ذَلِكَ وَتَأْوِيلَهُ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ عَرَفَ الْمُرَادَ .
وَمَنْ زَعَمَ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ فَمَضْمُونُ مَدْلُولَاتِهِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَفْسِيرَ الْمُحْكَمِ وَلَا تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ وَلَا تَأْوِيلَ ذَلِكَ . وَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَضْلًا عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحْكَمِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ فِيهِ مِنْ السَّفْسَطَةِ وَالتَّلْبِيسِ مَا لَا يَكُونُ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا مَعْرِفَةٌ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَلَا بِالْعَقْلِيَّاتِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَمَدَحَ الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِهِ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَاَلَّذِينَ يَفْقَهُونَ وَيَعْقِلُونَ وَذَمَّ الَّذِينَ

لَا يَفْقُهُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَأَهْلَ الْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدَّعُونَ الْعِلْمَ وَالْعِرْفَانَ وَالتَّحْقِيقَ وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ أَلْفَاظًا لَهُمْ مُجْمَلَةً مُتَشَابِهَةً تَتَضَمَّنُ حَقًّا وَبَاطِلًا يَجْعَلُونَهَا هِيَ الْأُصُولَ الْمَحْكَمَةَ وَيَجْعَلُونَ مَا عَارَضَهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ إلَّا اللَّهُ وَمَا يَتَأَوَّلُونَهُ بِالِاحْتِمَالَاتِ لَا يُفِيدُ فَيَجْعَلُونَ الْبَرَاهِينَ شُبُهَاتٍ وَالشُّبُهَاتِ بَرَاهِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : الْمُحْكَمُ مَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيَانٍ وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَاجَ إلَى بَيَانٍ وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ : الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنْ التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ مِنْ التَّأْوِيلِ وُجُوهًا وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الْمُحْكَمُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنْ التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ الَّذِي تَعْتَوِرُهُ التَّأْوِيلَاتُ فَيُقَالُ حِينَئِذٍ فَجَمِيعُ الْأُمَّةِ سَلَفُهَا وَخَلَفُهَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَاتِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْصُرُونَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ هُمْ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا فِيهِ .

وَالْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُمْ كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ وَيُرَجِّحُونَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْأَدِلَّةِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْأُصُولِيَّةِ والفروعية لَا يُعْرَفُ عَنْ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَالَ عَنْ نَصٍّ احْتَجَّ بِهِ مُحْتَجٌّ فِي مَسْأَلَةٍ : أَنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ ذَلِكَ لَقِيلَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَإِذَا ادَّعَى فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ نَصَّهُ مُحْكَمٌ يَعْلَمُ مَعْنَاهُ وَأَنَّ النَّصَّ الْآخَرَ مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ قُوبِلَ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى . وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِنَا : إنَّ مِنْ النُّصُوصِ مَا مَعْنَاهُ جَلِيٌّ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا لَا يَقَعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وَمِنْهَا مَا فِيهِ خَفَاءٌ وَاشْتِبَاهٌ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَحِينَئِذٍ فَالْخِلَافُ فِي الْمُتَشَابِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ يُبَيِّنُ حُجَّتَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي الْمُتَشَابِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ . فَمَنْ قَالَ : إنْ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْمَنْسُوخُ فَمَعْنَى الْمَنْسُوخِ مَعْرُوفٌ وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة . والسدي وَغَيْرِهِمْ . وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة هُمْ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمَنْسُوخِ ؛ وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَكَانَ هَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ يُنَاقِضُ ذَلِكَ النَّقْلَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ إنْ كَانَ هَذَا صِدْقًا وَإِلَّا تَعَارَضَ النَّقْلَانِ

عَنْهُمْ وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي مَأْثُورٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : الْمُحْكَمُ مَا عَلِمَ الْعُلَمَاءُ تَأْوِيلَهُ وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْعُلَمَاءِ إلَى مَعْرِفَتِهِ سَبِيلٌ كَقِيَامِ السَّاعَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا أُرِيدَ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ هَذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ تَأْوِيلِهِ إلَّا اللَّهُ وَهَذَا حَقٌّ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى الْخِطَابِ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ حَقَائِقُ مَا يُوجَدُ وَقِيل لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا قَدْ قَدَّمْنَاهُ وَذُكِرَ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَوْلِهِ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ . وَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ التَّفْسِيرُ وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى وَيُوقَفَ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا خَطَأٌ قَطْعًا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَقُولُ مَا يُنَاقِضُهُ . وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَيُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الرِّسَالَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ لَمْ يَتَدَبَّرُوا لَوَازِمَهُ وَحَقِيقَتَهُ بَلْ أَطْلَقُوهُ وَكَانَ أَكْبَرُ قَصْدِهِمْ دَفْعَ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ لِلْمُتَشَابِهِ . وَهَذَا الَّذِي قَصَدُوهُ حَقٌّ وَكُلُّ مُسْلِمٍ يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ لَا نَدْفَعُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ آخَرَ وَلَا نَرُدُّ بِدْعَةً بِبِدْعَةِ وَلَا يُرَدُّ تَفْسِيرُ

أَهْلِ الْبَاطِلِ لِلْقُرْآنِ بِأَنْ يُقَالَ : الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ تَفْسِيرَ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْقُرْآنِ فَفِي هَذَا مِنْ الطَّعْنِ فِي الرَّسُولِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ مَا قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ خَطَأِ طَائِفَةٍ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْعَاقِلُ لَا يَبْنِي قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ يُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ لَيْسَتْ كَلَامًا تَامًّا مِنْ الْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ مَوْقُوفَةٌ وَلِهَذَا لَمْ تُعْرَبْ فَإِنَّ الْإِعْرَابَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْد الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ وَإِنَّمَا نُطِقَ بِهَا مَوْقُوفَةً كَمَا يُقَالُ : ا ب ت ث وَلِهَذَا تُكْتَبُ بِصُورَةِ الْحَرْفِ لَا بِصُورَةِ الِاسْمِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ فَإِنَّهَا فِي النُّطْقِ أَسْمَاءٌ وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ عَنْ النُّطْقِ بِالزَّايِ مِنْ زَيْدٍ قَالُوا : زا قَالَ : نَطَقْتُمْ بِالِاسْمِ وَإِنَّمَا النُّطْقُ بِالْحَرْفِ زَهِّ فَهِيَ فِي اللَّفْظِ أَسْمَاءٌ وَفِي الْخَطِّ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ ( الم ) لَا تُكْتَبُ أَلِفٌ لَامٌ مِيمٌ كَمَا يُكْتَبُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ - الم - حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ و لَامٌ حَرْفٌ و مِيمٌ حَرْفٌ } . وَالْحَرْفُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ يَتَنَاوَلُ الَّذِي يُسَمِّيهِ النُّحَاةُ اسْمًا وَفِعْلًا وَحَرْفًا وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَقْسِيمِ الْكَلَامِ :

اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ . فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ اللُّغَةِ أَنَّ الِاسْمَ حُرِّفَ وَالْفِعْلَ حُرِّفَ خُصَّ هَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يُطْلِقُ النُّحَاةُ عَلَيْهِ الْحَرْفَ أَنَّهُ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ وَهَذِهِ حُرُوفُ الْمَعَانِي الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْكَلَامُ . وَأَمَّا حُرُوفُ الْهِجَاءِ فَتِلْكَ إنَّمَا تُكْتَبُ عَلَى صُورَةِ الْحَرْفِ الْمُجَرَّدِ وَيُنْطَقُ بِهَا غَيْرَ مُعْرَبَةً وَلَا يُقَالُ فِيهَا مُعْرَبٌ وَلَا مَبْنِيٌّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُقَالُ فِي الْمُؤَلِّفِ فَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَا سِوَى هَذِهِ مُحْكَمٌ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا مَعْرِفَةَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُقَالُ : هَذِهِ الْحُرُوفُ قَدْ تَكَلَّمَ فِي مَعْنَاهَا أَكْثَرُ النَّاسِ فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا مَعْرُوفًا فَقَدْ عُرِفَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا وَهِيَ الْمُتَشَابِهِ كَانَ مَا سِوَاهَا مَعْلُومُ الْمَعْنَى . وَهَذَا الْمَطْلُوبُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ آيَاتٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا يُعِدُّهَا آيَاتٍ الْكُوفِيُّونَ . وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الصَّحِيحُ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا أَيْضًا مُتَشَابِهٌ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوَافِقُ مَا نُقِلَ عَنْ الْيَهُودِ مِنْ طَلَبِ عِلْمِ الْمُدَدِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ .

وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا اشْتَبَهَتْ مَعَانِيهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَكُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمُتَشَابِهِ وَيُبَيِّنُ مَعْنَاهُ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ الْمُحْكَمُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فَفَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ فِي قَصَصِهِمْ عِنْدَ التَّكْرِيرِ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ : { احْمِلْ فِيهَا } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { فَاسْلُكْ فِيهَا } وَقَالَ فِي عَصَا مُوسَى : { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ . { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ جَعَلَ الْمُتَشَابِهَ اخْتِلَافَ اللَّفْظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَمَا يَشْتَبِهُ عَلَى حَافِظِ الْقُرْآنِ هَذَا اللَّفْظُ بِذَاكَ اللَّفْظِ وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمُتَشَابِهِ لِأَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ يَتَشَابَهُ مَعْنَاهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَاشْتَبَهَ عَلَى الْقَارِئِ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ بِالْآخَرِ وَهَذَا التَّشَابُهُ لَا يَنْفِي مَعْرِفَةَ الْمَعَانِي بِلَا رَيْبٍ وَلَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَخْتَصُّونَ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ فَهَذَا الْقَوْلُ إنْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ حُجَّةً لَنَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَمْ يَضُرَّنَا . وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ مَا احْتَاجَ إلَى بَيَانٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَد . وَالسَّابِعُ : أَنَّهُ مَا احْتَمَلَ وُجُوهًا كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّك لَا تَفْقَهُ كُلَّ

الْفِقْهِ حَتَّى تَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ " كُتُبَ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ " فَالنَّظَائِرُ اللَّفْظُ الَّذِي اتَّفَقَ مَعْنَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرُ . وَالْوُجُوهِ : الَّذِي اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ كَمَا يُقَالُ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ وَالْمُشْتَرِكَةُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَلِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَقَدْ قِيلَ : هِيَ نَظَائِرُ فِي اللَّفْظِ وَمَعَانِيهَا مُخْتَلِفَةٌ فَتَكُونُ كَالْمُشْتَرِكَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ هُوَ الْأَوَّل : وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ سَلَفُهُمْ وَخَلَفُهُمْ فِي مَعَانِي الْوُجُوهِ وَفِيمَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ وَمَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا فَعُلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُمْكِنُ الْعُلَمَاءَ مَعْرِفَةُ مَعَانِيهِ وَعُلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ مِنْ الْقُرْآنِ مَا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالثَّامِنُ : أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ وَهَذَا أَيْضًا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ . وَالتَّاسِعُ : أَنَّهُ مَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ . وَالْعَاشِرُ : قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّ الْمُتَشَابِهَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ اتَّفَقَ

الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا وَالْبَعْضُ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاس فِي مَعْنَاهُ إنَّمَا ذَمَّ السَّلَفُ مِنْهُ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّة وَنَفَوْا عِلْمَ النَّاسِ بِكَيْفِيَّتِهِ : كَقَوْلِ مَالِكٍ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ سَائِرُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ . وَحِينَئِذٍ فَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ وَبَيْنَ الْكَيْفِ الْمَجْهُولِ فَإِنْ سُمِّيَ الْكَيْفُ تَأْوِيلًا سَاغَ أَنْ يُقَالَ : هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا . وَأَمَّا إذَا جَعَلَ مَعْرِفَةَ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرَهُ تَأْوِيلًا كَمَا يَجْعَلُ مَعْرِفَةَ سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَأْوِيلًا وَقِيلَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَلَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَلَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } بَلْ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ كَانَ عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وَقَوْلُهُ : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } وَقَوْلُهُ : { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَقَوْلُهُ : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَقَوْلُهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } وَقَوْلُهُ : { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَقَوْلُهُ :

{ إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } وَقَوْلُهُ : { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } وَقَوْلُهُ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ } وَقَوْلُهُ : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَقَوْلُهُ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وَقَوْلُهُ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } وَقَوْلُهُ { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ . فَمَنْ قَالَ عَنْ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا وَعَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْجَمَاعَةِ : أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَلْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهَا كَمَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ وَقْتِ السَّاعَةِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ أَلْفَاظًا لَا يَفْهَمُونَ لَهَا مَعْنًى كَمَا يَقْرَأُ الْإِنْسَانُ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الْقَوْمِ وَالنُّقُولُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُمْ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ هَذَا كَمَا يَفْهَمُونَ غَيْرَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ كُنْهُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِيطُ بِهِ الْعِبَادُ وَلَا يُحْصُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ فَذَاكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْلَمُوا مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا عَلَّمَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا أَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَإِذَا عَرَفُوا أَنَّهُ حَقٌّ مَوْجُودٌ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ .

وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْكَيْفِيَّةِ لَا يَنْفِي الْعِلْمَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ ؛ بَلْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الرَّبِّ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ وَبَيْنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ وَتَصَوُّرَ ذَلِكَ فِي الْقَلْبِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ الْمُرَادَةِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ . فَالْكَلَامُ لَفْظٌ لَهُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ وَيُكْتَبُ ذَلِكَ اللَّفْظُ بِالْخَطِّ فَإِذَا عُرِفَ الْكَلَامُ وَتُصُوِّرَ مَعْنَاهُ فِي الْقَلْبِ وَعُبِّرَ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَهَذَا غَيْرُ الْحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَرَفَ الْأَوَّلَ عَرَفَ عَيْنَ الثَّانِي . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَبَرِهِ وَنَعْتِهِ وَهَذَا مَعْرِفَةُ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ وَتَفْسِيرُهُ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ فَالْمَعْرِفَةُ بِعَيْنِهِ مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِ

ذَلِكَ الْكَلَامِ وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَجَّ وَالْمَشَاعِرَ كَالْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ وَمِنًى وَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَيَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفُ أَعْيَانَ الْأَمْكِنَةِ حَتَّى يُشَاهِدَهَا فَيَعْرِفُ أَنَّ الْكَعْبَةَ الْمُشَاهَدَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } وَكَذَلِكَ أَرْضُ عَرَفَاتٍ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } وَكَذَلِكَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ الَّتِي بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ وَوَادِي مُحَسِّرٍ يُعْرَفُ أَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } . وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا قَدْ يَرَاهَا الرَّجُلُ وَيَذْكُرُ لَهُ الْعَابِرُ تَأْوِيلَهَا فَيَفْهَمُهُ وَيَتَصَوَّرُهُ : مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَا وَيَكُونُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ إذَا كَانَ ذَلِكَ فَهُوَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا لَيْسَ تَأْوِيلُهَا نَفْسَ عِلْمِهِ وَتَصَوُّرِهِ وَكَلَامِهِ وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ : { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } وَقَالَ : { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } فَقَدْ أَنْبَأَهُمَا بِالتَّأْوِيلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ التَّأْوِيلُ وَالْإِنْبَاءُ لَيْسَ هُوَ التَّأْوِيلُ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمٌ بِالتَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ مَتَى يَقَعُ فَنَحْنُ نَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ مَتَى يَقَعُ هَذَا التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } الْآيَةُ . وَقَالَ تَعَالَى : { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ }

فَنَحْنُ نَعْلَمُ مُسْتَقَرَّ نَبَإِ اللَّهِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا . وَلَا نَعْلَمُ مَتَى يَكُونُ وَقَدْ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهَا وَقَدْرَهَا وَسَوَاءٌ فِي هَذَا تَأْوِيلِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ فَقَدْ عُرِفَ تَأْوِيلُهَا وَهُوَ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مَتَى يَقَعُ وَقَدْ لَا يَعْرِفُ صِفَتَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ فَإِذَا وَقَعَ عَرَفَ الْعَارِفُ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهُ قَدْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَوْ يَنْسَاهُ بَعْدَ مَا كَانَ عَرَفَهُ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } قَالَ الزُّبَيْرُ : لَقَدْ قَرَأْنَا هَذِهِ الْآيَةَ زَمَانًا وَمَا أَرَانَا مِنْ أَهْلِهَا وَإِذَا نَحْنُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ فِي كِتَابِهِ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَلَا يَفْقَهُ مَعْنَاهُ وَذَمَّ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ وَمَدَحَ مَنْ يَسْمَعُهُ وَيَفْقَهُهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ } الْآيَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ : مَاذَا قَالَ الرَّسُولُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُتَقَدِّمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ

الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ مُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَالِمِينَ يَعْقِلُونَهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْقِلُهَا . وَالْأَمْثَالُ : هِيَ الْمُتَشَابِهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَهِيَ إلَى الْمُتَشَابِهِ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهَا لِمَا بَيْنَ الْمُمَثِّلِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ مِنْ التَّشَابُهِ وَعَقْلُ مَعْنَاهَا هُوَ مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِهَا الَّذِي يَعْرِفُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } فَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَرَفُوا مَعْنَى مَا أُنْزِلَ كَيْفَ عَرَفُوا أَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ وَهَلْ يُحْكَمُ عَلَى كَلَامٍ لَمْ يُتَصَوَّرْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وَقَالَ : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَبَشِّرْ عِبَادِي } { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } وَقَالَ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَقَالَ : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } وَقَالَ : { كِتَابٌ

فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } { بَشِيرًا وَنَذِيرًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } . فَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنُ أَوْ أَكْثَرُهُ مِمَّا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ الْمُتَدَبَّرُ الْمَعْقُولُ إلَّا بَعْضَهُ وَهَذَا خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا سِيَّمَا عَامَّةُ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَهُ كَالْآيَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَوْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَعَنْ نَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ عَنْ اللَّهِ وَتَسْمِيَتِهِ بِالرَّحْمَنِ فَكَانَ عَامَّةُ إنْكَارِهِمْ لِمَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَمَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ عَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ لَا يَعْقِلُ ذَلِكَ وَلَا يَفْقَهُهُ وَلَا يَتَدَبَّرُهُ . فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِعَقْلِ ذَلِكَ وَتَدَبُّرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } وَقَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } الْآيَةُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } الْآيَةُ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْفِ عَنْ غَيْرِهِ عِلْمَ شَيْءٍ

إلَّا كَانَ مُنْفَرِدًا بِهِ كَقَوْلِهِ : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ } وَقَوْلِهِ : { لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } . فَيُقَالُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هَذَا بِحَسَبِ الْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ فَإِنْ كَانَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ قِيلَ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا عَلَّمَهُ بَعْضَ عِبَادِهِ ذَكَرَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } وَقَوْلِهِ : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا } إلَى قَوْلِهِ : { رَصَدًا } وَقَوْلِهِ : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } وَقَوْلِهِ : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } وَقَوْلِهِ : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { شَهِيدًا } وَقَوْلِهِ : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ } وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : { لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : { أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَأَوَّلُ النِّزَاعِ النِّزَاعُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ عَالِمًا بِمَعَانِيهِ

امْتَنَعَ الرَّدُّ إلَيْهِ وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْ مُجْمَلِهِ وَأَنَّهَا تُفَسِّرُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ . وَقَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } . وَمِنْ أَعْظَمِ الِاخْتِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ مُمْكِنًا وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا فِي نَفْسِهِ لَا يَحْكُمُ بِشَيْءِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ هُوَ الْحَاكِمُ بِالْكِتَابِ فَإِنَّ حُكْمَهُ فَصْلٌ يَفْصِلُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْبَيَانِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : { إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } أَيْ فَاصِلٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَكَيْفَ يَكُونُ فَصْلًا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ سَبِيلٌ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } فَذَمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ كَمَا ذَمَّ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ مَعْنَاهُ وَيُكَذِّبُونَ فَقَالَ تَعَالَى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ

عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } فَهَذَا أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } أَيْ تِلَاوَةً { وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } ثُمَّ ذَمَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ كُتُبًا يَقُولُونَ هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَالَ : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { يَكْسِبُونَ } .
وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تَسْتَوْعِبُ أَهْلَ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : عَالِمٌ بِالْحَقِّ يَتَعَمَّدُ خِلَافَهُ .
وَالثَّانِي : جَاهِلٌ مُتَّبِعٌ لِغَيْرِهِ .
فَالْأَوَّلُونَ : يَبْتَدِعُونَ مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إمَّا أَحَادِيثُ مُفْتَرِيَاتٌ وَإِمَّا تَفْسِيرٌ وَتَأْوِيلٌ لِلنُّصُوصِ بَاطِلٌ وَيُعَضِّدُونَ ذَلِكَ بِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ الرِّيَاسَةُ وَالْمَأْكَلُ فَهَؤُلَاءِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهمْ مِنْ الْبَاطِلِ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ مِنْ الْمَالِ عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ إذَا عُورِضُوا بِنُصُوصِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَقِيلَ لَهُمْ هَذِهِ تُخَالِفُكُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي : الْجُهَّالُ . فَهَؤُلَاءِ الْأُمِّيُّونَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ . فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أَيْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِمَعَانِي الْكِتَابِ يَعْلَمُونَهَا حِفْظًا وَقِرَاءَةً بِلَا فَهْمٍ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ وَقَوْلُهُ : { إلَّا أَمَانِيَّ } أَيْ تِلَاوَةً فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فِقْهَ الْكِتَابِ إنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَسْمَعُونَهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ السَّائِبِ لَا يُحْسِنُونَ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ وَلَا كِتَابَتَهُ إلَّا أَمَانِيَّ إلَّا مَا يُحَدِّثُهُمْ بِهِ عُلَمَاؤُهُمْ . وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَيْ تِلَاوَةً وَقِرَاءَةً عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ وَلَا يَقْرَءُونَهَا فِي الْكُتُبِ فَفِي هَذَا الْقَوْلِ جَعْلُ الْأَمَانِيِّ الَّتِي هِيَ التِّلَاوَةُ تِلَاوَةَ الْأُمِّيِّينَ أَنْفُسِهِمْ وَفِي ذَلِكَ جَعْلُهُ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ تِلَاوَةِ عُلَمَائِهِمْ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ وَالْآيَةُ تَعُمُّهُمَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } لَمْ يَقُلْ لَا يَقْرَءُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ ثُمَّ قَالَ : { إلَّا أَمَانِيَّ } وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ . لَكِنْ يَعْلَمُونَ أَمَانِيَّ إمَّا بِقِرَاءَتِهِمْ لَهَا وَإِمَّا بِسَمَاعِهِمْ قِرَاءَةَ غَيْرِهِمْ وَإِنْ جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا كَانَ التَّقْدِيرُ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا عِلْمَ أَمَانِيَّ لَا عِلْمَ تِلَاوَةٍ فَقَطْ بِلَا فَهْمٍ وَالْأَمَانِيُّ جَمْعُ أَمْنِيَّةٍ وَهِيَ التِّلَاوَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } قَالَ الشَّاعِرُ :

تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ * * * وَآخِرَهَا لَاقَى حَمَامَ المقادر
وَالْأُمِّيُّونَ نِسْبَةً إلَى الْأُمَّة قَالَ بَعْضُهُمْ إلَى الْأُمَّةِ وَمَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ فَمَعْنَى الْأُمِّيِّ الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَقَدْ قَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ عَلَى خُلُقِ الْأُمَّةِ الَّتِي لَمْ تَتَعَلَّمْ فَهُوَ عَلَى جِبِلَّتِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ نِسْبَةً إلَى الْأُمَّةِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَلِأَنَّهُ عَلَى مَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ . وَالصَّوَابُ : أَنَّهُ نِسْبَةً إلَى الْأُمَّةِ كَمَا يُقَالُ عَامِّيٌّ نِسْبَةً إلَى الْعَامَّةِ الَّتِي لَمْ تَتَمَيَّزْ عَنْ الْعَامَّةِ بِمَا تَمْتَازُ بِهِ الْخَاصَّةُ وَكَذَلِكَ هَذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ الْأُمَّةِ بِمَا يَمْتَازُ بِهِ الْخَاصَّةُ مِنْ الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَيُقَالُ الْأُمِّيُّ لِمَنْ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ كِتَابًا ثُمَّ يُقَالُ لِمَنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ يَقْرَءُونَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ مَا لَمْ يُنَزَّلْ ؛ وَبِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْعَرَبُ كُلُّهُمْ أُمِّيِّينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } وَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ الْمَكْتُوبَ وَكُلُّهُمْ أُمِّيُّونَ . فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَوْا أُمِّيِّينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا مِنْ حِفْظِهِمْ بَلْ هُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْ حِفْظِهِمْ وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ لَكِنْ بَقُوا أُمِّيِّينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى كِتَابَةِ دِينِهِمْ بَلْ قُرْآنُهُمْ مَحْفُوظٌ فِي قُلُوبِهِمْ

كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ المجاشعي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَلَقْت عِبَادِي يَوْمَ خَلَقْتهمْ حُنَفَاءَ - وَقَالَ فِيهِ - إنِّي مُبْتَلِيك وَمُبْتَلٍ بِك وَأَنْزَلْت عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا ويقظانا } . فَأُمَّتُنَا لَيْسَتْ مِثْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَ كُتُبَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ بَلْ لَوْ عَدِمَتْ الْمَصَاحِفُ كُلُّهَا كَانَ الْقُرْآنُ مَحْفُوظًا فِي قُلُوبِ الْأُمَّةِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالْمُسْلِمُونَ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا } . فَلَمْ يَقُلْ إنَّا لَا نَقْرَأُ كِتَابًا وَلَا نَحْفَظُ بَلْ قَالَ : لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ فَدِينُنَا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُكْتَبَ وَيُحْسَبَ كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَوَاقِيتَ صَوْمِهِمْ وَفِطْرِهِمْ بِكِتَابِ وَحِسَابٍ وَدِينُهُمْ مُعَلَّقٌ بِالْكُتُبِ لَوْ عَدِمَتْ لَمْ يَعْرِفُوا دِينَهُمْ وَلِهَذَا يُوجَدُ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ أَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ فِيهِمْ شَبَهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَقَوْلُهُ : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ } هُوَ أُمِّيٌّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . لِأَنَّهُ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ مَا فِي الْكُتُبِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ مِنْ حِفْظِهِ بَلْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ أَحْسَنَ حِفْظٍ وَالْأُمِّيُّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ خِلَافُ الْقَارِئِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ خِلَافَ الْكَاتِبِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَيَعْنُونَ

بِهِ فِي الْغَالِبِ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا تِلَاوَةً لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهَا وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَا الْقِرَاءَةَ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ أَمَانِيَّ عِلْمًا كَمَا قَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ يَقْرَؤُهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ وَلَا يَقْرَؤُهُ مِنْ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ أَبُو رَوْقٍ . وَأَبُو عُبَيْدَةَ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ قَوْلَهُ : { لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } أَيْ الْخَطَّ أَيْ لَا يُحْسِنُونَ الْخَطَّ وَإِنَّمَا يُحْسِنُونَ التِّلَاوَةَ وَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا مِنْ يُحْسِنُ الْخَطَّ وَالتِّلَاوَةَ وَلَا يَفْهَمُ مَا يَقْرَأهُ وَيَكْتُبُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة غَيْرَ عَارِفِينَ مَعَانِي الْكِتَابِ يَعْلَمُونَهَا حِفْظًا وَقِرَاءَةً بِلَا فَهْمٍ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ وَالْكِتَابُ هُنَا الْمُرَادُ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْخَطَّ فَإِنَّهُ قَالَ : { وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَفَى عَنْهُمْ الْعِلْمَ بِمَعَانِي الْكِتَابِ وَإِلَّا فَكَوْنُ الرَّجُلِ لَا يَكْتُبُ بِيَدِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ بَلْ يَظُنُّ ظَنًّا ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَكْتُبُ بِيَدِهِ لَا يَفْهَمُ مَا يَكْتُبُ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يَكْتُبُ يَكُونُ عَالِمًا بِمَعَانِي مَا يَكْتُبُهُ غَيْرُهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ الذَّمِّ لَهُمْ وَلَيْسَ فِي كَوْنِ الرَّجُلِ لَا يَخُطُّ ذَمٌّ إذَا قَامَ بِالْوَاجِبِ وَإِنَّمَا الذَّمُّ عَلَى كَوْنِهِ لَا يَعْقِلُ

الْكِتَابَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَتَبَهُ وَقَرَأَهُ أَوْ لَمْ يَكْتُبْهُ وَلَمْ يَقْرَأْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَذَا أَوَانُ يُرْفَعُ الْعِلْمُ . فَقَالَ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ : كَيْفَ يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَوَاَللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا فَقَالَ لَهُ : إنْ كُنْت لَأَحْسَبُك مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوَلَيْسَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ } وَهُوَ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ . وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى قَبْلَ هَذَا : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فَأُولَئِكَ عَقَلُوهُ ثُمَّ حَرَّفُوهُ وَهُمْ مَذْمُومُونَ سَوَاءٌ كَانُوا يَحْفَظُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ وَيَقْرَءُونَهُ حِفْظًا وَكِتَابَةً أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ فَكَانَ مِنْ الْمُنَاسِبِ أَنْ يَذْكُرَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَهُ وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَهُ إلَّا أَمَانِيَّ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ وَيَذْكُرُ فِيهِ الْأَقْسَامَ وَالْأَمْثَالَ فَيَسْتَوْعِبُ الْأَقْسَامَ فَيَكُونُ مَثَانِيَ وَيَذْكُرُ الْأَمْثَالَ فَيَكُونُ مُتَشَابِهًا وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا يَكْتُبُونَ وَيَقْرَءُونَ فَهُمْ أُمِّيُّونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا نَقُولُ نَحْنُ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ هُوَ أُمِّيٌّ وَسَاذِجٌ وَعَامِّيٌّ وَإِنْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَيَقْرَأُ الْمَكْتُوبَ إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ ذَمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ إلَّا تِلَاوَةً دُونَ فَهْمِ مَعَانِيهِ كَمَا ذَمَّ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ دَلَّ عَلَى أَنَّ كِلَا النَّوْعَيْنِ مَذْمُومٌ : الْجَاهِلُ الَّذِي

لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَ النُّصُوصِ وَالْكَاذِبُ الَّذِي يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّهُمْ أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا رَجُلٌ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِرَأْيِهِ وَيُؤَوِّلُهُ بِمَا يُضِيفُهُ إلَى اللَّهِ فَهَؤُلَاءِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَجْعَلُونَ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا هِيَ مَقَالَةَ الْحَقِّ وَهِيَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ وَاَلَّتِي كَانَ عَلَيْهَا السَّلَفُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ يُحَرِّفُونَ النُّصُوصَ الَّتِي تُعَارِضُهَا . فَهَؤُلَاءِ إذَا تَعَمَّدُوا ذَلِكَ وَعَلِمُوا أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ فَهُمْ مِنْ جِنْسِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَهَذَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِهِمْ . وَأَمَّا الَّذِينَ قَصْدُهُمْ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَغَلِطُوا فِيمَا كَتَبُوهُ وَتَأَوَّلُوهُ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ جِنْسِهِمْ ؛ لَكِنْ قَدْ وَقَعَ بِسَبَبِ غَلَطِهِمْ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْبَاطِلِ كَمَا قِيلَ : إذَا زَلَّ الْعَالِمُ زَلَّ بِزَلَّتِهِ عَالِمٌ وَهَذَا حَالُ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَإِمَّا رَجُلٌ مُقَلِّدٌ أُمِّيٌّ لَا يَعْرِفُ مِنْ الْكِتَابِ إلَّا مَا يَسْمَعُهُ مِنْهُمْ أَوْ مَا يَتْلُوهُ هُوَ وَلَا يَعْرِفُ إلَّا أَمَانِيَّ وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ كَمَا صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِذَمِّهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَيَمْتَنِعُ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَالَ : إنَّ أَكْثَرَ الْقُرْآنِ أَوْ كَثِيرًا مِنْهُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ إلَّا أَمَانِيَّ لَا جِبْرِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا الصَّحَابَةُ وَلَا أَحَدٌ

مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ لَهُمْ بِهَؤُلَاءِ فِيمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مَعْرِفَةُ مَعْنَى كُلِّ آيَةٍ ؟ قِيلَ : نَعَمْ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ مَعَانِي الْجَمِيعِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مَعْرِفَةُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَهَؤُلَاءِ ذَمَّهُمْ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَعَانِيَ الْكِتَابِ إلَّا تِلَاوَةً وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ إلَّا الظَّنُّ وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَهُ : { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : { إلَّا أَمَانِيَّ } إلَّا مَا يَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا وَبَاطِلًا وَرُوِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ . وَقَالَ : الْأَمَانِيُّ الْأَكَاذِيبُ الْمُفْتَعَلَةُ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ لِابْنِ دَأْبٍ - وَهُوَ يُحَدِّثُ - أَهَذَا شَيْءٌ رَوَيْته أَمْ تَمَنَّيْته أَيْ افْتَعَلْته فَأَرَادَ بِالْأَمَانِيِّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي كَتَبَهَا عُلَمَاؤُهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ أَضَافُوهَا إلَى اللَّهِ مِنْ تَغْيِيرِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَمَانِيُّ يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ كَقَوْلِهِمْ : { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } وَقَوْلِهِمْ : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } وَقَوْلِهِمْ : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } وَهَذَا أَيْضًا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ . قِيلَ : كِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ :

{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا لَمْ يَجُزْ اسْتِثْنَاءُ الْكَذِبِ وَلَا أَمَانِيِّ الْقَلْبِ مِنْ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا كَانَ نَظِيرَ الْمَذْكُورِ وَشَبِيهًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِي اللَّفْظِ ؛ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَذْكُورِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَصْلُحُ الْمُنْقَطِعُ حَيْثُ يَصْلُحُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ } ثُمَّ قَالَ : { إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } فَهَذَا مُنْقَطِعٌ ؛ لِأَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : ( لَا يَذُوقُونَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } لِأَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً وَقَوْلُهُ : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ وَمَا لَهُمْ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ فَهُنَا لَمَّا قَالَ : { لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَا يَعْلَمُونَهُ إلَّا أَمَانِيَّ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ تِلَاوَةً يَقْرَءُونَهَا وَيَسْمَعُونَهَا وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَا يَعْلَمُونَ إلَّا مَا تَتَمَنَّاهُ قُلُوبُهُمْ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ إلَّا الْكَذِبَ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ صِدْقٌ أَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ مَا عَلِمُوهُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ كَانَ كَذِبًا بِخِلَافِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَعْنَى الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ إلَّا تِلَاوَةً . وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَمَانِيُّ الْبَاطِلَةُ الَّتِي تَمَنَّوْهَا بِقُلُوبِهِمْ وَقَالُوهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ .

كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } قَدْ اشْتَرَكُوا فِيهَا كُلُّهُمْ فَلَا يُخَصُّ بِالذَّمِّ الْأُمِّيُّونَ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لِكَوْنِهِمْ أُمِّيِّينَ مَدْخَلٌ فِي الذَّمِّ بِهَذِهِ وَلَا لِنَفْيِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ مَدْخَلٌ فِي الذَّمِّ بِهَذِهِ ؛ بَلْ الذَّمُّ بِهَذِهِ مِمَّا يُعْلِمُ أَنَّهَا بَاطِلٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَمِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا بَاطِلٌ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ بِهَا عَمَّمَ وَلَمْ يَخُصَّ فَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } الْآيَةُ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : { وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا الظَّنُّ وَهَذَا حَالُ الْجَاهِلِ بِمَعَانِي الْكِتَابِ لَا حَالُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْذِبُ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَيْسَ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ الْكَذِبَ وَالْبَاطِلَ وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ لَا يَقُولُونَ إلَّا أَمَانِيَّ لَمْ يَقُلْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ بَلْ ذَلِكَ الصِّنْفُ هُمْ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَهُمْ يُحَرِّفُونَ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَهُمْ يُحَرِّفُونَ لَفْظَهُ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَيَكْذِبُونَ فِي لَفْظِهِمْ وَخَطِّهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ

ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ فَمَنْ ؟ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَآخِذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسُ وَالرُّومُ ؟ قَالَ وَمَنْ النَّاسُ إلَّا أُولَئِكَ } . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يُشْبِهُهُمْ فِيهِ وَهَذَا حَقٌّ قَدْ شُوهِدَ قَالَ تَعَالَى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فَمَنْ تَدَبَّرَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ رَأَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ ؛ بَلْ أَكْثَرُ الْأُمُورِ وَدَلَّهُ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِ الْبَاقِي .
فَصْلٌ :
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ طَلَبُ عِلْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَمَعْرِفَةِ مَا أَرَادَ بِذَلِكَ كَمَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فَكُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا فَكَيْفَ بِأُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ ثُمَّ إذَا عُرِفَ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ نُظِرَ فِي أَقْوَالِ

النَّاسِ وَمَا أَرَادُوهُ بِهَا فَعُرِضَتْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ دَائِمًا مُوَافِقٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخَالِفُهُ قَطُّ فَإِنَّ الْمِيزَانَ مَعَ الْكِتَابِ وَاَللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ ؛ لَكِنْ قَدْ تَقْصُرُ عُقُولُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ مَا جَاءَ بِهِ فَيَأْتِيهِمْ الرَّسُولُ بِمَا عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَحَارُوا فِيهِ لَا بِمَا يَعْلَمُونَ بِعُقُولِهِمْ بُطْلَانَهُ فَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ تُخْبِرُ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا تُخْبِرُ بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ فَهَذَا سَبِيلُ الْهُدَى وَالسُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَأَمَّا سَبِيلُ الضَّلَالِ وَالْبِدْعَةِ وَالْجَهْلِ فَعَكْسُ ذَلِكَ : أَنْ يَبْتَدِعَ بِدْعَةٌ بِرَأْيِ رِجَالٍ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَبَعًا لَهَا وَيُحَرَّفَ أَلْفَاظَهُ وَيَتَأَوَّلُ عَلَى وَفْقٍ مَا أَصَّلُوهُ . وَهَؤُلَاءِ تَجِدُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا يَتَلَقَّوْنَ الْهُدَى مِنْهُ وَلَكِنْ مَا وَافَقَهُمْ مِنْهُ قَبِلُوهُ وَجَعَلُوهُ حُجَّةً لَا عُمْدَةً وَمَا خَالَفَهُمْ تَأَوَّلُوهُ كَاَلَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ أَوْ فَوَّضُوهُ كَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْرِفُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ : إمَّا عَجْزًا وَإِمَّا تَفْرِيطًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ كَذَا وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَذَا أَمَّا الْأُولَى فَعَامَّتُهُمْ لَا يَرْتَابُونَ فِي أَنَّهُ جَاءَ بِالْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غُلَاةِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْ يَرْتَابُ فِي بَعْضِهِ لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ عَامَّةٌ أَهْلُ الْبِدَعِ جُهَّالٌ بِهَا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ رَوَاهَا آحَادٌ يُجَوِّزُونَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ وَالْخَطَأَ وَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ كَثْرَةِ

طُرُقِهَا وَصِفَاتِ رِجَالِهَا وَالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصْدِيقِ بِهَا مَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقْطَعُونَ قَطْعًا يَقِينًا بِعَامَّةِ الْمُتُونِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ : فَإِنَّهُمْ قَدْ لَا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْأَدِلَّةُ اللَّفْظِيَّةُ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّمَا يَنْظُرُ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِيمَا يَقُولُهُ مُوَافِقُوهُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَيَتَأَوَّلُ تَأْوِيلَاتِهِمْ فَالنُّصُوصُ الَّتِي تُوَافِقُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهَا وَاَلَّتِي تُخَالِفُهُمْ يَتَأَوَّلُونَهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عُمْدَتُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اتِّبَاعَ نَصٍّ أَصْلًا وَهَذَا فِي الْبِدَعِ الْكِبَارِ مِثْلَ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة فَإِنَّ الَّذِي وَضَعَ الرَّفْضَ كَانَ زِنْدِيقًا ابْتَدَأَ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ الصَّرِيحِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ كَاَلَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ثُمَّ جَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ مَنْ ظَنَّ صِدْقَ مَا افْتَرَاهُ أُولَئِكَ وَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } وَكَذَلِكَ الْجَهْمِيَّة لَيْسَ مَعَهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ وَعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ نَصٌّ أَصْلًا لَا آيَةٌ وَلَا حَدِيثٌ وَلَا أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ ،

بَلْ الَّذِي ابْتَدَأَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ وَضَعَ ذَلِكَ كَمَا وُضِعَتْ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَدْيَانِ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلرُّسُلِ كَمَا ذُكِرَ عَنْ مُبَدِّلَةِ الْيَهُودِ ثُمَّ فَشَا ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَعْرِفُوا أَصْلَ ذَلِكَ . وَهَذَا بِخِلَافِ بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا مَا فَهِمُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ فَغَلِطُوا فِي فَهْمِهِ وَمَقْصُودُهُمْ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَيْسُوا زَنَادِقَةً . وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلَ وَيَتَّبِعُونَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ . فَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَأَمْثَالُهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ مُعَانَدَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاَلَّذِي ابْتَدَعَ الرَّفْضَ . وَكَذَلِكَ الْإِرْجَاءُ إنَّمَا أَحْدَثَهُ قَوْمٌ قَصْدُهُمْ جَعْلُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنِينَ لَيْسُوا كُفَّارًا قَابَلُوا الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ فَصَارُوا فِي طَرَفٍ آخَرَ . وَكَذَلِكَ التَّشَيُّع الْمُتَوَسِّطُ - الَّذِي مَضْمُونُهُ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ إحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ بِخِلَافِ دَعْوَى النَّصِّ فِيهِ وَالْعِصْمَةِ فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ ذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا

وَلِهَذَا قَالَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَغَيْرُهُمَا : أُصُولُ الْبِدَعِ أَرْبَعَةٌ : الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ . قَالُوا : وَالْجَهْمِيَّة لَيْسُوا مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا . وَهَذَا أَرَادُوا بِهِ التَّجَهُّمَ الْمَحْضَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَهْمٌ نَفْسُهُ وَمُتَّبِعُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ نَفْيُ الْأَسْمَاءِ مَعَ نَفْيِ الصِّفَاتِ بِحَيْثُ لَا يُسَمَّى اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَلَا يُسَمِّيهِ شَيْئًا وَلَا مَوْجُودًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّيهِ قَادِرًا - لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ يُسَمَّى بِهَا الْخَلْقُ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهَا التَّشْبِيهُ بِخِلَافِ الْقَادِرِ - فَإِنَّهُ كَانَ رَأْسَ الْجَبْرِيَّةِ وَعِنْدَهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا يُسَمَّى غَيْرُ اللَّهِ قَادِرًا ؛ فَلِهَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سَمَّى اللَّهَ قَادِرًا . وَشَرٌّ مِنْهُ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَهُمْ الْمَلَاحِدَةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ قَاطِبَةً مَلَاحِدَةً مُنَافِقِينَ بَلْ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ الْبَاطِنِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهَؤُلَاءِ لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَغَايَتُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولَئِكَ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَلْتَزِمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ وَهَؤُلَاءِ قَدْ

يَقُولُونَ بِرَفْعِهَا فَلَا صَوْمَ وَلَا صَلَاةَ وَلَا حَجَّ وَلَا زَكَاةَ ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إنَّ أُولَئِكَ كَانُوا قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِالرِّسَالَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ بِبَعْضِ التَّجَهُّمِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَتَدَيَّنُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا رَيْبٍ . وَكَذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ كَالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة . وَكَذَلِكَ الشِّيعَةُ الْمُفَضِّلِينَ لِعَلِيِّ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَقُولُ بِالنَّصِّ وَالْعِصْمَةِ مَعَ اعْتِقَادِهِ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَظَنِّهِ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ ضَلَالٍ وَجَهْلٍ لَيْسُوا خَارِجِينَ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُمْ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا . وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَتَّبِعُ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْقُرْآنِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ كَمَا أَنَّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : كَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ : هُمْ النَّصَارَى كَنَصَارَى نَجْرَانَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَالْكَلْبِيِّ : هُمْ الْيَهُودُ : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَابْنِ جريج : هُمْ الْمُنَافِقُونَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَالْحَسَنِ هُمْ الْخَوَارِجُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كقتادة : هُمْ الْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ . وَكَانَ قتادة إذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { فَأَمَّا الَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } يَقُولُ إنْ لَمْ يَكُونُوا الحرورية وَالسَّبَئِيَّةَ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ . وَالسَّبَئِيَّةُ نِسْبَةً إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ رَأْسِ الرَّافِضَةِ .
فَصْلٌ :
وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ الَّذِي هُوَ نَفْيُ الْمِثْلِ وَالشَّرِيكِ وَالنِّدِّ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { أَحَدٍ } وَقَوْلُهُ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَقَوْلُهُ : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : الْأَحَدُ أَوْ الصَّمَدُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَفَرَّقُ أَوْ لَيْسَ بِمُرَكَّبِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . هَذِهِ الْعِبَارَاتُ إذَا عُنِيَ بِهَا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّفَرُّقَ وَالِانْقِسَامَ فَهَذَا حَقٌّ وَأَمَّا إنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِحَالٍ أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْنُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ شَيْءٍ فَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ وَإِنَّمَا يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ تَقْدِيرًا وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْعَرَبَ حَيْثُ أَطْلَقَتْ لَفْظَ " الْوَاحِدِ " و " الْأَحَدِ " نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَمْ تُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ الْوَاحِدَ وَالْأَحَدَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً

فَلَهَا النِّصْفُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَإِنَّ الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ الْآحَادِ كُفُوًا لَهُ فَإِنْ كَانَ الْأَحَدُ عِبَارَةً عَمَّا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يُشَارُ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ شَيْءٍ فَلَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا هُوَ أَحَدٌ إلَّا مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَمِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَدْ نَفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ أَنْ يَكُونَ كُفُوًا لِلرَّبِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مُسَمَّى أَحَدٍ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا بَسْطًا كَثِيرًا فِي الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَأَتْبَاعِهِمْ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى ( بَيَانُ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّة فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ ) . وَلِهَذَا لَمَّا احْتَجَّتْ الْجَهْمِيَّة عَلَى السَّلَفِ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ بِاسْمِ الْوَاحِدِ قَالَ أَحْمَد : قَالُوا لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولُوا قَدْ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ قُلْنَا نَحْنُ نَقُولُ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا وَضَرَبْنَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلًا : فَقُلْنَا : أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جِذْعٌ وَكَرْبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَسُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا ؟ فَكَذَلِكَ اللَّهُ - وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَه وَاحِدٌ لَا نَقُولُ : إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَعْلَمُ حَتَّى

خَلَقَ لَهُ عِلْمًا وَلَكِنْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا قَادِرًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا . أَحَدُهَا : مَا تَقَدَّمَ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْسُبْ لَنَا رَبَّك فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ . وَالثَّانِي : { أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَامَ تَدْعُونَا إلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ : إلَى اللَّهِ قَالَ : فَصِفْهُ لِي أَمِنْ ذَهَبٍ هُوَ أَمْ مِنْ فِضَّةٍ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ } وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ظبيان وَأَبِي صَالِحٍ عَنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ قَالَ ذَلِكَ قَالُوا : مِنْ أَيِّ جِنْسٍ هُوَ . وَمِمَّنْ وَرِثَ الدُّنْيَا . وَلِمَنْ يُورِثُهَا ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قَالَهُ قتادة وَالضَّحَّاكُ قَالَ الضَّحَّاكُ وقتادة وَمُقَاتِلٌ : { جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ : صِفْ لَنَا رَبَّك ؛ لَعَلَّنَا نُؤْمِنُ بِك فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ فَأَخْبِرْنَا بِهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ ؟ وَمِنْ أَيِّ جِنْسٍ هُوَ : أَمِنْ ذَهَبٍ ؟ أَمْ مِنْ نُحَاسٍ هُوَ ؟ أَمْ مِنْ صُفْرٍ ؟ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ ؟ أَمْ مِنْ فِضَّةٍ ؟ وَهَلْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ؟ وَمِمَّنْ وَرِثَ الدُّنْيَا ؟ وَلِمَنْ يُورِثُهَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ } وَهِيَ نِسْبَةُ اللَّهِ خَاصَّةً .

وَالرَّابِع : مَا رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعَةِ أَسَاقِفَةٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ : مِنْهُمْ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِفْ لَنَا رَبَّك مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ رَبِّي لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ بَائِنٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } } فَهَؤُلَاءِ سَأَلُوا هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ وَهَلْ هُوَ مِنْ مَادَّةٍ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَحَدٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ صَمَدٌ لَيْسَ مِنْ مَادَّةٍ بَلْ هُوَ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَإِذَا نَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا مِنْ مَادَّةِ الْوَالِدِ ؛ فَلَأَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَائِرِ الْمَوَادِّ أَوْلَى وَأَحْرَى فَإِنَّ الْمَوْلُودَ مِنْ نَظِيرِ مَادَّتِهِ أَكْمَلُ مِنْ مَادَّةِ مَا خُلِقَ مِنْ مَادَّةٍ أُخْرَى كَمَا خُلِقَ آدَمَ مِنْ الطِّينِ فَالْمَادَّةُ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا أَوْلَادُهُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَادَّةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا هُوَ وَلِهَذَا كَانَ خَلْقُهُ أَعْجَبَ . فَإِذَا نَزَّهَ الرَّبَّ عَنْ الْمَادَّةِ الْعُلْيَا فَهُوَ عَنْ الْمَادَّةِ السُّفْلَى أَعْظَمُ تَنْزِيهًا وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ كُفُوًا لَهُ فَلَأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَفْضَلُ مِنْهُ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَلِهَذَا كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ . فَالصَّمَدِيَّةُ تُثْبِتُ الْكَمَالَ الْمُنَافِيَ لِلنَّقَائِصِ . والأحدية تُثْبِتُ الِانْفِرَادَ بِذَلِكَ ،

وَكَذَلِكَ إذَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَلِدَ فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَادَّةُ الْوَلَدِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْمَوَادِّ فَلَأَنْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مَادَّةٌ غَيْرُ الْوَلَدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَإِذَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مَوَادُّ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَلَأَنْ يُنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ فَضَلَاتٌ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَادَّةً بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَالْإِنْسَانُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَادَّةُ الْوَلَدِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَادَّةُ غَيْرِ الْوَلَدِ كَمَا يُخْلَقُ مِنْ عَرَقِهِ وَرُطُوبَتِهِ الْقَمْلُ وَالدُّودُ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمُخَاطُ وَالْبُصَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُمْ مِثْلُ رَشْحِ الْمِسْكِ وَأَنَّهُمْ يُجَامِعُونَ بِذَكَرِ لَا يَخْفَى وَشَهْوَةٍ لَا تَنْقَطِعُ وَلَا مَنِيٍّ وَلَا مَنِيَّةٍ وَإِذَا اشْتَهَى أَحَدُهُمْ الْوَلَدَ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ . فَقَدْ تَضَمَّنَ تَنْزِيهَ نَفْسِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ تَمَامِ مَعْنَى الصَّمَدِ كَمَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ تَنْزِيهُ نَفْسِهِ عَنْ أَنْ يُولَدَ - فَلَا يَكُونُ مِنْ مِثْلِهِ - تَنْزِيهٌ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَائِرِ الْمَوَادِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إلَّا سَيَمُوتُ

وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلَّا يُورَثُ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْيَهُودِ : مِمَّنْ وَرِثَ الدُّنْيَا وَلِمَنْ يُورِثُهَا ؟ وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ مِنْ { سُؤَالِ النَّصَارَى : صِفْ لَنَا رَبَّك : مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ رَبِّي لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ بَائِنٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ } وَكَذَلِكَ سُؤَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ : أَمِنْ فِضَّةٍ هُوَ ؟ أَمْ مِنْ ذَهَبٍ هُوَ ؟ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ عَهِدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ يَكُونُ لَهَا مَوَادُّ صَارَتْ مِنْهَا فَعُبَّادُ الْأَوْثَانِ تَكُونُ أَصْنَامُهُمْ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَحَدِيدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَعُبَّادُ الْبَشَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَشَرُ لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ أَوْ أَمَرُوهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ كَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرَ وَكَقَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } و { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } وَقَالَ لِمُوسَى : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } وَكَاَلَّذِي آتَاهُ اللَّهُ نَصِيبًا مِنْ الْمُلْكِ الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ : رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ وَكَالدَّجَّالِ الَّذِي يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَمَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٌ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَكَاَلَّذِينَ قَالُوا : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِيهِمْ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ

عَبَدُوهُمْ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا عُبِدَتْ الْأَصْنَامُ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَارَتْ الْأَوْثَانُ الَّتِي فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ . أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبِ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لهذيل وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غطيف بِالْجَرْفِ عِنْد سَبَإِ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لهمدان وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكُلَاعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ . وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَامَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَكِلَا الْمُرْسَلِينَ بُعِثَ إلَى مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي صُوِّرَتْ عَلَى صُوَرِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْبَشَرِ وَالْمَقْصُودُ بِعِبَادَتِهَا عِبَادَةُ أُولَئِكَ الصَّالِحِينَ . وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ مُبْتَدَعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَضُلَّالِهَا هَذَا غَايَةُ شِرْكِهِمْ فَإِنَّ النَّصَارَى يُصَوِّرُونَ فِي الْكَنَائِسِ صُوَرَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْإِنْسِ غَيْرِ عِيسَى وَأُمِّهِ : مِثْلَ مَارّ جرجس وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَدَادِيسِ وَيَعْبُدُونَ تِلْكَ الصُّوَرَ وَيَسْأَلُونَهَا وَيَدْعُونَهَا وَيُقَرِّبُونَ

لَهَا الْقَرَابِينَ وَيَنْذِرُونَ لَهَا النُّذُورَ وَيَقُولُونَ هَذِهِ تُذَكِّرُنَا بِأُولَئِكَ الصَّالِحِينَ . وَالشَّيَاطِينُ تُضِلُّهُمْ كَمَا كَانَتْ تُضِلُّ الْمُشْرِكِينَ : تَارَةً بِأَنْ يَتَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي يُدْعَى وَيُعْبَدُ فَيَظُنُّ دَاعِيهِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى أَوْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ صَوَّرَ مَلَكًا عَلَى صُورَتِهِ فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ مَثَلًا يَدْعُو فِي الْأَسْرِ وَغَيْرِهِ مَارّ جرجس أَوْ غَيْرَهُ فَيَرَاهُ قَدْ أَتَاهُ فِي الْهَوَاءِ وَكَذَلِكَ أُخَرُ غَيْرُهُ وَقَدْ سَأَلُوا بَعْضَ بَطَارِقَتِهِمْ عَنْ هَذَا كَيْفَ يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ فَقَالَ : هَذِهِ مَلَائِكَةٌ يَخْلُقُهُمْ اللَّهُ عَلَى صُورَتِهِ تُغِيثُ مَنْ يَدْعُوهُ وَإِنَّمَا تِلْكَ شَيَاطِينُ أَضَلَّتْ الْمُشْرِكِينَ . وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالشِّرْكِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَدْعُو وَيَسْتَغِيثُ بِشَيْخِهِ الَّذِي يُعَظِّمُهُ وَهُوَ مَيِّتٌ أَوْ يَسْتَغِيثُ بِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَسْأَلُهُ وَقَدْ يَنْذِرُ لَهُ نَذْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيَرَى ذَلِكَ الشَّخْصَ قَدْ أَتَاهُ فِي الْهَوَاءِ وَدَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ أَوْ كَلَّمَهُ بِبَعْضِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَظُنُّهُ الشَّيْخُ نَفْسَهُ أَتَى إنْ كَانَ حَيًّا حَتَّى أَنِّي أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ جَمَاعَاتٍ يَأْتُونَ إلَى الشَّيْخِ نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ وَقَدْ رَأَوْهُ أَتَاهُمْ فِي الْهَوَاءِ فَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ لَهُ . هَؤُلَاءِ يَأْتُونَ إلَى هَذَا الشَّيْخِ وَهَؤُلَاءِ يَأْتُونَ إلَى هَذَا الشَّيْخِ فَتَارَةً يَكُونُ الشَّيْخُ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الرِّيَاسَةَ سَكَتَ وَأَوْهَمَ أَنَّهُ نَفْسَهُ أَتَاهُمْ وَأَغَاثَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ صِدْقٌ مَعَ جَهْلٍ وَضَلَالٍ قَالَ : هَذَا مَلَكٌ صَوَّرَهُ اللَّهُ عَلَى

صُورَتِي . وَجَعَلَ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَجَعَلَهُ عُمْدَةً لِمَنْ يَسْتَغِيثُ بِالصَّالِحِينَ وَيَتَّخِذُهُمْ أَرْبَابًا وَأَنَّهُمْ إذَا اسْتَغَاثُوا بِهِمْ بَعَثَ اللَّهُ مَلَائِكَةً عَلَى صُوَرِهِمْ تُغِيثُ الْمُسْتَغِيثَ بِهِمْ . وَلِهَذَا أَعْرِفُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الشُّيُوخِ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ فِيهِمْ صِدْقٌ وَزُهْدٌ وَعِبَادَةٌ لَمَّا ظَنُّوا هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ صَارَ أَحَدُهُمْ يُوصِي مُرِيدِيهِ يَقُولُ : إذَا كَانَتْ لِأَحَدِكُمْ حَاجَةٌ فَلْيَسْتَغِثْ بِي وليستنجدني وَلْيَسْتَوْصِنِي وَيَقُولَ : أَنَا أَفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِي مَا كُنْت أَفْعَلُ فِي حَيَاتِي وَهُوَ لَا يَعْرِف أَنَّ تِلْكَ شَيَاطِينُ تَصَوَّرَتْ عَلَى صُورَتِهِ لِتُضِلَّهُ وَتُضِلَّ أَتْبَاعَهُ فَتُحَسِّنُ لَهُمْ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَدُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَأَنَّهَا قَدْ تُلْقِي فِي قَلْبِهِ أَنَّا نَفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِك بِأَصْحَابِك مَا كُنَّا نَفْعَلُ بِهِمْ فِي حَيَاتِك فَيَظُنُّ هَذَا مِنْ خِطَابٍ إلَهِيٍّ أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ فَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ لَهُ شَيَاطِينُ تَخْدِمُهُ فِي حَيَاتِهِ بِأَنْوَاعِ الْخَدَمِ مِثْلَ خِطَابِ أَصْحَابِهِ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ وَإِعَانَتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمَّا مَاتَ صَارُوا يَأْتُونَ أَحَدَهُمْ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ وَيُشْعِرُونَهُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَيُرْسِلُونَ إلَى أَصْحَابِهِ رَسَائِلَ بِخِطَابِ وَقَدْ كَانَ يَجْتَمِعُ بِي بَعْضُ أَتْبَاعِ هَذَا الشَّيْخِ وَكَانَ فِيهِ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ وَكَانَ يُحِبُّنِي وَيُحِبُّ هَذَا الشَّيْخَ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَرَامَاتِ وَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَمُتْ وَذَكَرَ لِي الْكَلَامَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَرَأَهُ فَإِذَا هُوَ كَلَامُ الشَّيَاطِينِ

بِعَيْنِهِ وَقَدْ ذَكَرَ لِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي فَرَأَوْنِي فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ أَتَيْتهمْ وَخَلَّصْتهمْ مِنْ تِلْكَ الشَّدَائِدِ مِثْلَ مَنْ أَحَاطَ بِهِ النَّصَارَى الْأَرْمَنُ لِيَأْخُذُوهُ وَآخَرُ قَدْ أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ وَمَعَهُ كُتُبٌ مُلَطِّفَاتٌ مِنْ مناصحين لَوْ اطَّلَعُوا عَلَى مَا مَعَهُ لَقَتَلُوهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَذَكَرْت لَهُمْ أَنِّي مَا دَرَيْت بِمَا جَرَى أَصْلًا وَحَلَفْت لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَظُنُّوا أَنِّي كَتَمْت ذَلِكَ كَمَا تُكْتَمُ الْكَرَامَاتُ وَأَنَا قَدْ عَلِمْت أَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ بَلْ هُوَ شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ لِي فِيمَا بَعْدُ وَبَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ شَيَاطِينُ تَتَصَوَّرُ عَلَى صُورَةِ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ . وَحَكَى لِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ جَرَى لِمَنْ اسْتَغَاثَ بِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ وَحَكَى خَلْقٌ كَثِيرٌ أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِأَحْيَاءِ وَأَمْوَاتٍ فَرَأَوْا مِثْلَ ذَلِكَ وَاسْتَفَاضَ هَذَا حَتَّى عُرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيَاطِينِ وَالشَّيَاطِينُ تُغْوِي الْإِنْسَانَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْقَعَتْهُ فِي الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْكُفْرِ الْمَحْضِ فَأَمَرَتْهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ اللَّهَ وَأَنْ يَسْجُدَ لِلشَّيْطَانِ وَيَذْبَحَ لَهُ وَأَمَرَتْهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَالدَّم وَيَفْعَلَ الْفَوَاحِشَ وَهَذَا يَجْرِي كَثِيرًا فِي بِلَادِ الْكُفْرِ الْمَحْضِ وَبِلَادٍ فِيهَا كُفْرٌ وَإِسْلَامٌ ضَعِيفٌ وَيَجْرِي فِي بَعْضِ مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَضْعُفُ إيمَانُ أَصْحَابِهَا حَتَّى قَدْ جَرَى ذَلِكَ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ عَلَى أَنْوَاعٍ يَطُولُ وَصْفُهَا وَهُوَ فِي أَرْضِ الشَّرْقِ قَبْلَ ظُهُورِ

الْإِسْلَامِ فِي التَّتَارِ كَثِيرٌ جِدًّا وَكُلَّمَا ظَهَرَ فِيهِمْ الْإِسْلَامُ وَعَرَفُوا حَقِيقَتَهُ قَلَّتْ آثَارُ الشَّيَاطِينِ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا يَخْتَارُ الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ أَعَانَتْهُ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا أَكْثَرُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فِي أَهْلِهَا إسْلَامٌ وَجَاهِلِيَّةٌ وَبِرٌّ وَفُجُورٌ وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ فِيهِ إسْلَامٌ وَدِيَانَةٌ وَلَكِنْ عِنْدَهُ قِلَّةٌ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَرَفَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَرَامَاتٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَمَالَ الْوِلَايَةِ وَأَنَّهَا الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَاتِّبَاعُ الرُّسُلِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا أَوْ يَعْرِفُ ذَلِكَ مُجْمَلًا وَلَا يَعْرِفُ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَبَيْنَ النَّفْسَانِيَّةِ والشيطانية كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ . رُؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَا مِنْ الشَّيْطَانِ . فَكَذَلِكَ الْأَحْوَالُ . فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ قِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ بِأَمْرٍ لَا يُنْكِرُهُ فَتَارَةً يَحْمِلُونَ أَحَدَهُمْ فِي الْهَوَاءِ وَيَقِفُونَ بِهِ بِعَرَفَاتِ ثُمَّ يُعِيدُونَهُ إلَى بَلَدِهِ وَهُوَ لَابِسٌ ثِيَابَهُ لَمْ يَحْرُمْ حِينَ حَاذَى الْمَوَاقِيتِ وَلَا كَشَفَ رَأْسَهُ وَلَا تَجَرَّدَ عَمَّا يَتَجَرَّدُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ وَلَا يَدْعُونَهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ يَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَيَرْمِي الْجِمَارَ وَيُكْمِلُ حَجَّهُ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ مُجَرَّدَ الْوُقُوفِ - كَمَا فَعَلَ -

عِبَادَةٌ وَهَذَا مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ عَلِمَ دِينَ الْإِسْلَامِ لَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ لَيْسَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَأَنَّهُ مَنْ اسْتَحَلَّ هَذَا فَهُوَ مُرْتَدٌّ يَجِبُ قَتْلُهُ بَلْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ الْمُحْرِمِ اللُّبْسُ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَأَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِالْوُقُوفِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيضَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَيَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَهَذَا مِمَّا تُنُوزِعَ فِيهِ هَلْ هُوَ رُكْنٌ أَوْ وَاجِبٌ يَجْبُرُهُ دَمٌ ؟ وَعَلَيْهِ أَيْضًا رَمْيُ الْجِمَارِ أَيَّامَ مِنًى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَحْمِلُ أَحَدَهُمْ الْجِنُّ فَتُزَوِّرُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَغَيْرَهُ وَتَطِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ وَتَمْشِي بِهِ فِي الْمَاءِ وَقَدْ تُرِيهِ أَنَّهُ قَدْ ذُهِبَ بِهِ إلَى مَدِينَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَرُبَّمَا أَرَتْهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَيَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا . وَهَذَا كُلُّهُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّا أَعْرِفُهُ قَدْ وَقَعَ لِمَنْ أَعْرِفُهُ ؛ لَكِنَّ هَذَا بَابٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ أَصْلَ الشِّرْكِ فِي الْعَالَمِ كَانَ مِنْ عِبَادَةِ الْبَشَرِ الصَّالِحِينَ وَعِبَادَةِ تَمَاثِيلِهِمْ وَهُمْ الْمَقْصُودُونَ . وَمِنْ الشِّرْكِ مَا كَانَ أَصْلُهُ عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ إمَّا الشَّمْسُ وَإِمَّا الْقَمَرُ وَإِمَّا غَيْرُهُمَا وَصَوَّرَتْ الْأَصْنَامُ طَلَاسِمَ لِتِلْكَ الْكَوَاكِبِ وَشِرْكُ قَوْمِ إبْرَاهِيمَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - كَانَ مِنْ هَذَا أَوْ كَانَ بَعْضُهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ الشِّرْكِ مَا كَانَ أَصْلُهُ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْجِنِّ وُضِعَتْ الْأَصْنَامُ لِأَجْلِهِمْ وَإِلَّا فَنَفْسُ الْأَصْنَامِ

الْجَمَادِيَّةِ لَمْ تُعْبَدْ لِذَاتِهَا بَلْ لِأَسْبَابٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَشِرْكُ الْعَرَبِ كَانَ أَعْظَمُهُ الْأَوَّلَ وَكَانَ فِيهِ مِنْ الْجَمِيعِ . فَإِنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ هُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَ قَدْ أَتَى الشَّامَ وَرَآهُمْ بِالْبَلْقَاءِ لَهُمْ أَصْنَامٌ يَسْتَجْلِبُونَ بِهَا الْمَنَافِعَ وَيَدْفَعُونَ بِهَا الْمَضَارَّ فَصُنْعُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ لَمَّا كَانَتْ خُزَاعَةُ وُلَاةَ الْبَيْتِ قَبْلَ قُرَيْشٍ وَكَانَ هُوَ سَيِّدَ خُزَاعَةَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لحي بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خندف يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ - أَيْ أَمْعَاءَهُ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ وبحر الْبَحِيرَةَ } . وَكَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - شِرْكُ قَوْمِ نُوحٍ وَإِنْ كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنْ عِبَادَةِ الصَّالِحِينَ فَالشَّيْطَانُ يَجُرُّ النَّاسَ مِنْ هَذَا إلَى غَيْرِهِ لَكِنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ وَبَرَكَتَهُ وَدُعَاءَهُ فَيَعْكُفُونَ عَلَى قَبْرِهِ وَيَقْصِدُونَ ذَلِكَ مِنْهُ فَتَارَةً يَسْأَلُونَهُ وَتَارَةً يَسْأَلُونَ اللَّهَ بِهِ وَتَارَةً يُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ عِنْدَ قَبْرِهِ ظَانِّينَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ . وَلَمَّا كَانَ هَذَا مَبْدَأَ الشِّرْكِ سَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْبَابَ كَمَا سَدَّ بَابَ الشِّرْكِ بِالْكَوَاكِبِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي

الصَّحِيحَيْنِ { عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَذُكِرَ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرُ فِيهَا فَقَالَ : إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ هُمْ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَد وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ { عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ { عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ أَبِي الهياج الأسدي قَالَ : قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته وَلَا تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته } فَأَمَرَهُ بِمَحْوِ التِّمْثَالَيْنِ : الصُّورَةِ الْمُمَثِّلَةِ عَلَى صُورَةِ الْمَيِّتِ وَالتِّمْثَالِ الشَّاخِصِ الْمُشْرِفِ فَوْقَ قَبْرِهِ . فَإِنَّ الشِّرْكَ يَحْصُلُ بِهَذَا وَبِهَذَا .

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا يَنْتَابُونَ مَكَانًا لِلصَّلَاةِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذَا مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ وَبَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا يَذْهَبُونَ إلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ تَحْتَهَا فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا وَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى يَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ ظَهَرَ بتستر قَبْرُ دَانْيَالَ وَعِنْدَهُ مُصْحَفٌ فِيهِ أَخْبَارُ مَا سَيَكُونُ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ أَخْبَارُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ إذَا أَجْدَبُوا كَشَفُوا عَنْ الْقَبْرِ فَمُطِرُوا فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْفِرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا وَيَدْفِنُهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لِئَلَّا يَعْرِفَهُ النَّاسُ ؛ لِئَلَّا يُفْتَنُوا بِهِ . فَاِتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا مَسْجِدًا كَانَ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا أَعْظَمَ . كَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَحْرُمُ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَيَجِبُ هَدْمُ كُلِّ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ قُبِرَ فِي مَسْجِدٍ وَقَدْ طَالَ مُكْثُهُ سَوَّى الْقَبْرَ حَتَّى لَا تَظْهَرَ صُورَتُهُ فَإِنَّ الشِّرْكَ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا ظَهَرَتْ صُورَتُهُ وَلِهَذَا كَانَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا مَقْبَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ وَفِيهَا نَخْلٌ وَخَرِبٌ فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ وَبِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ فَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْبَرَةً فَصَارَ مَسْجِدًا .

وَلَمَّا كَانَ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَبِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا مُحَرَّمًا وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ قَطُّ مَسْجِدٌ عَلَى قَبْرٍ وَكَانَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَغَارَةِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا وَهِيَ مَسْدُودَةٌ لَا أَحَدَ يَدْخُلُ إلَيْهَا وَلَا تَشُدُّ الصَّحَابَةُ الرِّحَالَ لَا إلَيْهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَقَابِرِ ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } . فَكَانَ يَأْتِي مَنْ يَأْتِي مِنْهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ لَا يَأْتُونَ مَغَارَةَ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرَهَا وَكَانَتْ مَغَارَةُ الْخَلِيلِ مَسْدُودَةً حَتَّى اسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى الشَّامِ فِي أَوَاخِرَ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ فَفَتَحُوا الْبَابَ وَجَعَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ كَنِيسَةً ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ اتَّخَذَهُ بَعْضُ النَّاسِ مَسْجِدًا وَأَهْلُ الْعِلْمِ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَاَلَّذِي يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ { فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ طِيبَةُ انْزِلْ فَصَلِّ فَنَزَلَ فَصَلَّى هَذَا مَكَانُ أَبِيك انْزِلْ فَصَلِّ } . كَذِبٌ مَوْضُوعٌ لَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى خَاصَّةً كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ وَلَا نَزَلَ إلَّا فِيهِ . وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ

وَقَدِمَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَعْدَ فَتْحِ الشَّامِ لَمَّا صَالَحَ النَّصَارَى عَلَى الْجِزْيَةِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ الشُّرُوطَ الْمَعْرُوفَةَ وَقَدِمَهَا مَرَّةً ثَالِثَةً حَتَّى وَصَلَ إلَى سرغ وَمَعَهُ أَكَابِرُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَلَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى مَغَارَةِ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بِالشَّامِ لَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَا بِدِمَشْقَ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِثْلَ الْآثَارِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بِجَبَلِ قاسيون فِي غَرْبِيِّهِ الرَّبْوَةُ الْمُضَافَةُ إلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي شَرْقِيِّهِ الْمَقَامُ الْمُضَافُ إلَى الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي وَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ مَغَارَةُ الدَّمِ الْمُضَافَةُ إلَى هَابِيلَ لَمَّا قَتَلَهُ قَابِيلُ فَهَذِهِ الْبِقَاعُ وَأَمْثَالُهَا لَمْ يَكُنْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ يَقْصِدُونَهَا وَلَا يَزُورُونَهَا وَلَا يَرْجُونَ مِنْهَا بَرَكَةً فَإِنَّهَا مَحَلُّ الشِّرْكِ . وَلِهَذَا تُوجَدُ فِيهَا الشَّيَاطِينُ كَثِيرًا وَقَدْ رَآهُمْ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسِ وَيَقُولُونَ لَهُمْ رِجَالُ الْغَيْبِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ رِجَالٌ مِنْ الْإِنْسِ غَائِبِينَ عَنْ الْأَبْصَارِ وَإِنَّمَا هُمْ جِنُّ وَالْجِنُّ يُسَمَّوْنَ رِجَالًا . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } وَالْإِنْسُ سُمُّوا إنْسًا لِأَنَّهُمْ يُؤْنَسُونَ أَيْ يُرَوْنَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنِّي آنَسْتُ نَارًا } أَيْ رَأَيْتهَا وَالْجِنُّ سُمُّوا جِنًّا لِاجْتِنَانِهِمْ يَجْتَنُّونَ عَنْ الْأَبْصَارِ أَيْ يَسْتَتِرُونَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } أَيْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ فَغَطَّاهُ وَسَتَرَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْإِنْسِ يَسْتَتِرُ دَائِمًا عَنْ

أَبْصَارِ الْإِنْسِ وَإِنَّمَا يَقَعُ هَذَا لِبَعْضِ الْإِنْسِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ : تَارَةً عَلَى وَجْهِ الْكَرَامَةِ لَهُ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ بَابِ السِّحْرِ وَعَمَلِ الشَّيَاطِينِ وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ لَمْ يَبْنُوا قَطُّ عَلَى قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا رَجُلٍ صَالِحٍ مَسْجِدًا وَلَا جَعَلُوهُ مَشْهَدًا وَمَزَارًا وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ مَكَانٍ نَزَلَ فِيهِ أَوْ صَلَّى فِيهِ أَوْ فَعَلَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ بِنَاءَ مَسْجِدٍ لِأَجْلِ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَمْ يَكُنْ جُمْهُورُهُمْ يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَقْصِدْ الرَّسُولُ الصَّلَاةَ فِيهِ بَلْ نَزَلَ فِيهِ أَوْ صَلَّى فِيهِ اتِّفَاقًا بَلْ كَانَ أَئِمَّتُهُمْ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ يَنْهَى عَنْ قَصْدِ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ خَاصَّةً أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى أَنْ يَسِيرَ حَيْثُ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْزِلَ حَيْثُ نَزَلَ وَيُصَلِّيَ حَيْثُ صَلَّى وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ تِلْكَ الْبُقْعَةَ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بَلْ حَصَلَ اتِّفَاقًا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَجُلًا صَالِحًا شَدِيدَ الِاتِّبَاعِ فَرَأَى هَذَا مِنْ الِاتِّبَاعِ . وَأَمَّا أَبُوهُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَائِرِ الْعَشْرَةِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ فَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحّ .

وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَابَعَةَ أَنْ يُفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ لِأَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَ . فَإِذَا قَصَدَ الصَّلَاةَ وَالْعِبَادَةَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ كَانَ قَصْدُ الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مُتَابَعَةً لَهُ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ فَإِنَّ قَصْدَهَا يَكُونُ مُخَالَفَةً لَا مُتَابَعَةً لَهُ . مِثَالُ الْأَوَّلِ لَمَّا قَصَدَ الْوُقُوفَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَبَيْنَ الْجَمْرَتَيْنِ كَانَ قَصْدُ تِلْكَ الْبِقَاعِ مُتَابَعَةً لَهُ وَكَذَلِكَ لَمَّا طَافَ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ مُتَابَعَةً لَهُ وَكَذَلِكَ لَمَّا صَعِدَ عَلَى الصَّفَا والمروة لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ كَانَ قَصْدُ ذَلِكَ مُتَابَعَةً لَهُ وَقَدْ كَانَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ قَالَ لِأَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا فَلَمَّا رَآهُ يَقْصِدُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ كَانَ ذَلِكَ الْقَصْدُ لِلصَّلَاةِ مُتَابَعَةً وَكَذَلِكَ { لَمَّا أَرَادَ عتبان بْنُ مَالِكٍ أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا لَمَّا عَمِيَ فَأَرْسَلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ إنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي تُصَلِّي فِي مَنْزِلِي فَاتَّخِذْهُ مُصَلًّى وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ تَعَالَ فَحَطَّ لِي مَسْجِدًا فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَتْ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ فَقَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِك ؟ فَأَشَرْت لَهُ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْنَا وَرَاءَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ } . الْحَدِيثُ .

فَإِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مِنْ يُصَلِّي فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَبْنِيَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ فَالْمَقْصُودُ كَانَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَبْنِيهِ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ مَقْصُودَةً لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ مَقْصُودًا لِأَجْلِ كَوْنِهِ صَلَّى فِيهِ اتِّفَاقًا وَهَذَا الْمَكَانُ مَكَانٌ قَصَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ فِيهِ لِيَكُونَ مَسْجِدًا فَصَارَ قَصْدُ الصَّلَاةِ فِيهِ مُتَابَعَةً لَهُ بِخِلَافِ مَا اتَّفَقَ أَنَّهُ صَلَّى فِيهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَكَذَلِكَ قَصْدُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ بِالصَّوْمِ مُتَابَعَةً لِأَنَّهُ قَصَدَ صَوْمَ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إنَّهُ تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا } . وَكَذَلِكَ قَصْدُ إتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاء مُتَابَعَةً لَهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ } وَكَانَ مَسْجِدُهُ هُوَ الْأَحَقَّ بِهَذَا الْوَصْفِ وَقَدْ ثَبَتَ { فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى التَّقْوَى فَقَالَ : هُوَ مَسْجِدِي هَذَا } يُرِيدُ أَنَّهُ أَكْمَلُ فِي هَذَا الْوَصْفِ مِنْ مَسْجِدِ قُبَاء وَمَسْجِدُ قُبَاء أَيْضًا أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَبِسَبَبِهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ

أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } وَكَانَ أَهْلُ قُبَاء مَعَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ . تَعَلَّمُوا ذَلِكَ مِنْ جِيرَانِهِمْ الْيَهُودِ وَلَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَاكَ هُوَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى دُونَ مَسْجِدِهِ فَذَكَرَ أَنَّ مَسْجِدَهُ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُؤَسَّسَ عَلَى التَّقْوَى فَقَوْلُهُ : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } يَتَنَاوَلُ مَسْجِدَهُ وَمَسْجِدَ قُبَاء وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَسْجِدٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى بِخِلَافِ مَسَاجِدِ الضِّرَارِ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الصَّلَاةَ فِيمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ وَيَرَوْنَ الْعَتِيقَ أَفْضَلَ مِنْ الْجَدِيدِ ؛ لِأَنَّ الْعَتِيقَ أَبْعَدُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بُنِيَ ضِرَارًا مِنْ الْجَدِيدِ الَّذِي يَخَافُ ذَلِكَ فِيهِ وَعِتْقُ الْمَسْجِدِ مِمَّا يُحْمَدُ بِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَقَالَ : { إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فَإِنَّ قِدَمَهُ يَقْتَضِي كَثْرَةَ الْعِبَادَةِ فِيهِ أَيْضًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي زِيَادَةَ فَضْلِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ عُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا قَصْدُ شَيْءٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَالْمَزَارَاتِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا بَعْدَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَسْجِدَ قُبَاء ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ مَسْجِدًا بِعَيْنِهِ يَذْهَبُ إلَيْهِ إلَّا هُوَ . وَقَدْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مَسَاجِدُ كَثِيرَةٌ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مَسْجِدٌ لَكِنْ لَيْسَ فِي قَصْدِهِ دُونَ أَمْثَالِهِ فَضِيلَةٌ بِخِلَافِ مَسْجِدِ قُبَاء فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ بِالْمَدِينَةِ

عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَدْ قَصَدَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاء لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ كَعُمْرَةِ } . وَمَعَ هَذَا فَلَا يُسَافَرُ إلَيْهِ لَكِنْ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ بِالْمَدِينَةِ أَتَاهُ وَلَا يَقْصِدُ إنْشَاءَ السَّفَرِ إلَيْهِ بَلْ يَقْصِدُ إنْشَاءَ السَّفَرِ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء لَمْ يُوَفِّ بِنَذْرِهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ وَغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ إلَيْهِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَكَذَلِكَ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَفِي الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّهُ جَائِزٌ وَمُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ يَجِبُ بِالنَّذْرِ كُلُّ مَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا زِيَارَةُ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ ؛ لِلدُّعَاءِ لَهُمْ وَالِاسْتِغْفَارِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصِدُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ

هَذَا مَشْرُوعٌ لِجَمِيعِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُسْتَحَبُّ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءُ لَهُمْ وَالِاسْتِغْفَارُ . وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ بِهَذَا الْقَصْدِ مُسْتَحَبَّةٌ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قُبُورُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ .
وَأَمَّا زِيَارَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِأَجْلِ طَلَبِ الْحَاجَاتِ مِنْهُمْ أَوْ دُعَائِهِمْ وَالْإِقْسَامِ بِهِمْ عَلَى اللَّهِ أَوْ ظَنِّ أَنَّ الدُّعَاءَ أَوْ الصَّلَاةَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ فَهَذَا ضَلَالٌ وَشِرْكٌ وَبِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا كَانُوا إذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُونَ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِهَذَا كَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا إنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا السَّلَفُ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ الْأَرْبِعَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَقْبِلُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا : يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ أَيْضًا وَيَكُونُ الْقَبْرُ عَنْ يَسَارِهِ وَقِيلَ : بَلْ يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا الْأَصْلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ ذَهَبَا إلَى الْغَارِ الَّذِي بِجَبَلِ ثَوْرٍ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقِهِمَا

بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ مِنْ نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَالْمَدِينَةُ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ وَلَكِنْ اخْتَبَآ فِيهِ ثَلَاثًا لِيَنْقَطِعَ خَبَرُهُمَا عَنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَا يُعْرَفُونَ أَيْنَ ذَهَبَا فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا طَالِبِينَ لَهُمَا وَقَدْ بَذَلُوا فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَتَهُ لِمَنْ يَأْتِي بِهِ وَكَانُوا يَقْصِدُونَ مَنْعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصِلَ إلَى أَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ وَأَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ بَلْ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ قَتْلِهِ أَرَادُوا حَبْسَهُ بِمَكَّةَ فَلَوْ سَلَكَ الطَّرِيقَ ابْتِدَاءً لَأَدْرَكُوهُ فَأَقَامَ بِالْغَارِ ثَلَاثًا لِأَجْلِ ذَلِكَ فَلَوْ أَرَادَ الْمُسَافِرُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَارِ ثُمَّ يَرْجِعُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا بَلْ مَكْرُوهًا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ سَلَكَ طَرِيقَ السَّاحِلِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ وَفِيهَا دَوْرَةٌ وَأَمَّا فِي عُمَرِهِ وَحَجَّتِهِ فَكَانَ يَسْلُكُ الْوَسَطَ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مَكَّةَ فَسَلَكَ فِي الْهِجْرَةِ طَرِيقَ السَّاحِلِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَبْعَدَ عَنْ قَصْدِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى كَانَتْ أَقْرَبَ إلَى الْمَدِينَةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ سَلَكَهَا كَمَا كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةَ وَرَّى بِغَيْرِهَا . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَسَّمَ غَنَائِمَ حنين بِالْجِعْرَانَةِ اعْتَمَرَ مِنْهَا وَلَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ مَكَّةَ حَلَّ بالحديبية وَكَانَ قَدْ أَنْشَأَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ الْمَدِينَةِ ذِي الحليفة وَلَمَّا اعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ اعْتَمَرَ مِنْ ذِي الحليفة وَلَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ فِي عُمَرِهِ وَلَا حَجَّتِهِ وَإِنَّمَا دَخَلَهَا عَامَ الْفَتْحِ وَكَانَ بِهَا صُوَرٌ مُصَوَّرَةٌ فَلَمْ يَدْخُلْهَا حَتَّى

مُحِيَتْ تِلْكَ الصُّوَرُ وَصَلَّى بِهَا رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ وَقْتَ الضُّحَى كَمَا رَوَتْ ذَلِكَ أُمُّ هَانِئٍ وَلَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الصَّلَاةَ وَقْتَ الضُّحَى إلَّا لِسَبَبٍ مِثْلُ أَنْ يَقْدَمَ مِنْ سَفَرٍ فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَمِثْلُ أَنْ يَشْغَلَهُ نَوْمٌ أَوْ مَرَضٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي بِالنَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَكَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً فَصَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً شَفْعًا لِفَوَاتِ وَقْتِ الْوِتْرِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمَغْرِبُ وِتْرُ صَلَاةِ النَّهَارِ فَأَوْتِرُوا صَلَاةَ اللَّيْلِ } وَقَالَ : { اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا } وَقَالَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنًى مَثْنًى فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةِ } . وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ إذَا نَامُوا عَنْ الْوِتْرِ كَانُوا يُوتِرُونَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَلَا يُؤَخِّرُونَهُ إلَى مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا وَإِنْ كَانَ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ { فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَوْصَى بِرَكْعَتَيْ الضُّحَى لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَلِأَبِي الدَّرْدَاءِ } وَفِيهَا أَحَادِيثُ لَكِنَّ صَلَاتَهُ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ يَوْمَ الْفَتْحِ جَعَلَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ صَلَاةَ الضُّحَى . وَقَالَ آخَرُونَ : لَمْ يُصَلِّهَا إلَّا يَوْمَ الْفَتْحِ فَعُلِمَ أَنَّهُ صَلَّاهَا لِأَجْلِ

الْفَتْحِ وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ عِنْدَ فَتْحِ مَدِينَةٍ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ شُكْرًا لِلَّهِ وَيُسَمُّونَهَا صَلَاةَ الْفَتْحِ قَالُوا : لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَصْدُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ وَلَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَصَلَّى كُلَّ يَوْمٍ أَوْ غَالِبَ الْأَيَّامِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ كُلَّ يَوْمٍ وَكَذَلِكَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَهَا رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا وَلَمَّا فَاتَتْهُ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ قَضَاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَصَلَّوْا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ سُنَّةٌ دَائِمًا ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا صَلَّوْهَا قَضَاءً لِكَوْنِهِمْ نَامُوا عَنْ الصَّلَاةِ وَلَمَّا فَاتَتْهُ الْعَصْرُ فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْخَنْدَقِ فَصْلَاهَا بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَرُوِيَ أَنَّ الظُّهْرَ فَاتَتْهُ أَيْضًا فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلَّى بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَضَاءً بَلْ وَلَا نَقَلَ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ خَصَّ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ بِصَلَاةِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ هُوَ إذَا قَامَ الرَّجُلُ بَعْدَ نَوْمٍ لَيْسَ هُوَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُ كَانَ يَقُومُ بَعْدَ النَّوْمِ لَمْ يَكُنْ يَقُومُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ .

وَكَذَلِكَ أَكْلُهُ مَا كَانَ يَجِدُ مِنْ الطَّعَامِ وَلُبْسُهُ الَّذِي يُوجَدُ بِمَدِينَتِهِ طَيْبَةَ مَخْلُوقًا فِيهَا وَمَجْلُوبًا إلَيْهَا مِنْ الْيَمَنِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسَّرَهُ اللَّهُ لَهُ فَأَكْلُهُ التَّمْرُ وَخُبْزُهُ الشَّعِيرُ وَفَاكِهَتُهُ الرُّطَبُ وَالْبِطِّيخُ الْأَخْضَرُ وَالْقِثَّاءُ وَلُبْسُ ثِيَابِ الْيَمَنِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ كَانَ أَيْسَرَ فِي بَلَدِهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ لَا لِخُصُوصِ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ بِبَلَدٍ آخَرَ وَقُوتُهُمْ الْبُرُّ وَالذُّرَةُ وَفَاكِهَتُهُمْ الْعِنَبُ وَالرُّمَّانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَثِيَابُهُمْ مِمَّا يُنْسَجُ بِغَيْرِ الْيَمَنِ الْقَزُّ لَمْ يَكُنْ إذَا قَصَدَ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ وَاللِّبَاسِ مَا لَيْسَ فِي بَلَدِهِ - بَلْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِمْ - مُتَّبِعًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي يَتَكَلَّفُهُ تَمْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ خُبْزًا شَعِيرًا . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُتَابَعَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اعْتِبَارِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ : { فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرُهُمْ هُوَ الصَّحِيحُ وَمَعَ هَذَا فَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا فِي مَكَانٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الصَّلَاةَ فِي مَوْضِعِ نُزُولِهِ وَمُقَامِهِ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَذْهَبُ إلَى الْغَارِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ لِلزِّيَارَةِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ - وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ أَقَامَا بِهِ ثَلَاثًا يُصَلُّونَ فِيهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ - وَلَا كَانُوا أَيْضًا يَذْهَبُونَ إلَى حِرَاءَ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَ يَتَعَبَّدُ فِيهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ

وَفِيهِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَوَّلًا وَكَانَ هَذَا مَكَانٌ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ حِرَاءَ أَعْلَى جَبَلٍ كَانَ هُنَاكَ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلَى مَكَّةَ مَرَّاتٍ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ بِهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِضْعَ عَشْرَةَ سُنَّةً وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ يَذْهَبُونَ إلَى حِرَاءَ . وَلَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ وَلَمْ يَسْتَلِمْ الشَّامِيَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُبْنَيَا عَلَى قَوَاعِدَ إبْرَاهِيمَ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَجَرِ مِنْ الْبَيْتِ وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ وَالْيَمَانِيُّ اسْتَلَمَهُ وَلَمْ يُقَبِّلْهُ وَصَلَّى بِمَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَسْتَلِمْهُ وَلَمْ يُقَبِّلْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّحَ بِحِيطَانِ الْكَعْبَةِ غَيْرِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ وَتَقْبِيلَ شَيْءٍ مِنْهَا غَيْرَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ لَيْسَ بِسُنَّةِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِلَامَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَتَقْبِيلَهُ لَيْسَ بِسُنَّةِ وَإِذَا كَانَ هَذَا نَفْسَ الْكَعْبَةِ وَنَفْسَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ بِهَا فَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْمَسَاجِدِ حُرْمَتُهَا دُونَ الْكَعْبَةِ وَأَنَّ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا وَسَائِرَ مَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ الْمَقَامِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فَعُلِمَ أَنَّ سَائِرَ الْمَقَامَاتِ لَا تُقْصَدُ لِلصَّلَاةِ فِيهَا كَمَا لَا يُحَجُّ إلَى سَائِرِ الْمَشَاهِدِ وَلَا يُتَمَسَّحُ بِهَا وَلَا يُقَبَّلُ شَيْءٌ مِنْ مَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الْمَسَاجِدُ وَلَا الصَّخْرَةُ وَلَا غَيْرُهَا وَلَا يُقَبَّلُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ .

وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ بِمَسْجِدِ بِمَكَّةَ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَمْ يَأْتِ لِلْعِبَادَاتِ إلَّا الْمَشَاعِرَ : مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ فَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْصِدَ مَسْجِدًا بِمَكَّةَ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَا تُقْصَدُ بُقْعَةٌ لِلزِّيَارَةِ غَيْرَ الْمَشَاعِرِ الَّتِي قَصَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي آثَارِهِمْ فَكَيْفَ بِالْمَقَابِرِ الَّتِي لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اتَّخَذَهَا مَسَاجِدَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَدِينُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا تُقْصَدُ بُقْعَةٌ لِلصَّلَاةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَسْجِدًا فَقَطْ وَلِهَذَا مَشَاعِرُ الْحَجِّ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تُقْصَدُ لِلنُّسُكِ لَا لِلصَّلَاةِ فَلَا صَلَاةَ بِعَرَفَةَ وَإِنَّمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ بعرنة خَطَبَ بِهَا ثُمَّ صَلَّى ثُمَّ بَعْدَ الصَّلَاةِ ذَهَبَ إلَى عَرَفَاتٍ فَوَقَفَ بِهَا وَكَذَلِكَ يُذْكَرُ اللَّهُ وَيُدْعَى بِعَرَفَاتِ وبمزدلفة عَلَى قُزَحَ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَبَيْنَ الْجَمَرَاتِ وَعِنْدَ الرَّمْيِ وَلَا تُقْصَدُ هَذِهِ الْبِقَاعُ لِلصَّلَاةِ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمَسَاجِدِ وَمَشَاعِرِ الْحَجِّ فَلَا تُقْصَدُ بُقْعَةٌ لَا لِلصَّلَاةِ وَلَا لِلذِّكْرِ وَلَا لِلدُّعَاءِ بَلْ يُصَلِّي الْمُسْلِمُ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ إلَّا حَيْثُ نُهِيَ وَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَدْعُوهُ حَيْثُ تَيَسَّرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ تَخْصِيصِ بُقْعَةٍ بِذَلِكَ وَإِذَا اتَّخَذَ بُقْعَةً لِذَلِكَ كَالْمَشَاهِدِ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ إلَّا مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ

الدُّعَاءِ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَإِنَّ زِيَارَةَ قَبْرِ الْمُؤْمِنِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ يَفْعَلُ فِي هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُ فِي هَذَا وَيَقْصِدُ بِالدُّعَاءِ هُنَا مَا يَقْصِدُ بِالدُّعَاءِ هُنَا . وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا أَنَّ الْأَنْصَارَ بَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ بِالْوَادِي الَّذِي وَرَاءَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَكَانٌ مُنْخَفِضٌ قَرِيبٌ مِنْ مِنًى يَسْتُرُ مَنْ فِيهِ فَإِنَّ السَّبْعِينَ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَدْ حَجُّوا مَعَ قَوْمِهِمْ الْمُشْرِكِينَ وَمَا زَالَ النَّاسُ يَحُجُّونَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ فَجَاءُوا مَعَ قَوْمِهِمْ إلَى مِنًى ؛ لِأَجْلِ الْحَجِّ ثُمَّ ذَهَبُوا بِاللَّيْلِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ لِقُرْبِهِ وَسَتْرِهِ لَا لِفَضِيلَةٍ فِيهِ وَلَمْ يَقْصِدُوهُ لِفَضِيلَةٍ تَخُصُّهُ بِعَيْنِهِ . وَلِهَذَا لَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَمْ يَذْهَبُوا إلَيْهِ وَلَا زَارُوهُ وَقَدْ بَنَى هُنَاكَ مَسْجِدًا وَهُوَ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مَسْجِدٍ بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا غَيْرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَمِنًى نَفْسُهَا لَمْ يَكُنْ بِهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدٌ مَبْنِيٌّ وَلَكِنْ قَالَ { مِنًى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ } فَنَزَلَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ وَكَانَ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ بِمِنًى وَغَيْرِ مِنًى وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَاجْتِمَاعُ الْحُجَّاجِ بِمِنًى أَكْثَرُ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ بِغَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ يُقِيمُونَ بِهَا أَرْبَعًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ بِمِنًى وَغَيْرِ مِنًى وَكَانُوا يَقْصُرُونَ

الصَّلَاةَ بِمِنًى وَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بمزدلفة وَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِمْ جَمِيعُ الْحُجَّاجِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ وَكُلُّهُمْ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ بِالْمَشَاعِرِ وَكُلُّهُمْ يَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَنَحْوِهِمْ هَلْ يَقْصُرُونَ أَوْ يَجْمَعُونَ فَقِيلَ : لَا يَقْصُرُونَ وَلَا يَجْمَعُونَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقِيلَ يَجْمَعُونَ وَلَا يَقْصُرُونَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ : يَجْمَعُونَ وَيَقْصُرُونَ كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَابْن عُيَيْنَة وَإِسْحَاقُ بْن رَاهَوَيْه وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّهُ الَّذِي فَعَلَهُ أَهْلُ مَكَّةَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا رَيْبٍ وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ بِمِنًى وَلَا عَرَفَةَ وَلَا مُزْدَلِفَةَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ وَلَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ فِي جَوْفِ مَكَّةَ وَكَذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي جَوْفِ مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ مَشْرُوعٌ لِكُلِّ مُسَافِرٍ وَلَوْ كَانَ سَفَرُهُ بَرِيدًا فَإِنَّ عَرَفَةَ مِنْ مَكَّةَ بَرِيدٌ : أَرْبَعُ فَرَاسِخَ وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ بِمَكَّةَ صَلَاةَ عِيدٍ ؛ بَلْ وَلَا صَلَّى فِي أَسْفَارِهِ قَطُّ صَلَاةَ

الْعِيدِ وَلَا صَلَّى بِهِمْ فِي أَسْفَارِهِ صَلَاةَ جُمْعَةٍ يَخْطُبُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَلْ كَانَ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمْعَةِ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَةَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاتِهِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فِي السَّفَرِ لَا بِعَرَفَةَ وَلَا بِغَيْرِهَا وَلَا أَنَّهُ خَطَبَ بِغَيْرِ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فِي السَّفَرِ فَعُلِمَ أَنَّ الصَّوَابَ مَا عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَجَمَاهِيرُهَا مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يُصَلِّي جُمْعَةً وَلَا غَيْرَهَا وَجُمْهُورُهُمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عِيدًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ أَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ الْعِيدَ إلَّا فِي الْمُقَامِ لَا فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ إلَّا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مَعَ الْإِمَامِ يَخْرُجُ بِهِمْ إلَى الصَّحْرَاءِ فَيُصَلِّي هُنَاكَ فَيُصَلِّي الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ خَلْفَهُ صَلَاةَ الْعِيدِ كَمَا يُصَلُّونَ الْجُمْعَةَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُصَلِّي صَلَاةَ عِيدٍ فِي مَسْجِدِ قَبِيلَتِهِ وَلَا بَيْتِهِ كَمَا لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ جُمْعَةً فِي مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ يُصَلِّي صَلَاةَ عِيدٍ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ بَلْ عِيدُهُمْ بِمِنًى بَعْدَ إفَاضَتِهِمْ مِنْ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لَهُمْ كَصَلَاةِ الْعِيدِ لِسَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ يَرْمُونَ ثُمَّ يَنْحَرُونَ وَسَائِرُ أَهْلِ

الْأَمْصَارِ يُصَلُّونَ ثُمَّ يَنْحَرُونَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَفَاضَ مِنْ مِنًى نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ التَّحْصِيبُ سُنَّةٌ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي قَصْدِهِ هَلْ قَصَدَ النُّزُولَ بِهِ أَوْ نَزَلَ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَقَاصِدَ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً عِنْدَهُمْ فِي الْمُتَابَعَةِ . وَلَمَّا اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَكَانَتْ مَكَّةُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ تُفْتَحْ بَعْدُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ قَالُوا : يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ وَقَعَدَ الْمُشْرِكُونَ خَلْفَ قعيقعان وَهُوَ جَبَلُ الْمَرْوَةِ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُرْمِلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ الطَّوَافِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَرُوِيَ أَنَّهُ دَعَا لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُرْمِلُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ بِالرَّمَلِ إذْ ذَاكَ مِنْ جِنْسِ الْمَقْصُودِ بِالْجِهَادِ . فَظَنَّ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ لِأَنَّهُ فُعِلَ لِقَصْدٍ وَزَالَ ؛ لَكِنْ ثَبَتَ { فِي الصَّحِيح أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا حَجُّوا رَمَلُوا مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَكَمَّلُوا الرَّمَلَ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ } وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَفِعْلُ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ الْأَمْنِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَحُجَّ مَعَهُ إلَّا مُؤْمِنٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّمَلَ صَارَ مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ فُعِلَ أَوَّلًا لِمَقْصُودِ الْجِهَادِ ثُمَّ شُرِعَ نُسُكًا كَمَا رُوِيَ فِي سَعْيِ هَاجَرَ وَفِي رَمْيِ الْجِمَارِ وَفِي ذَبْحِ الْكَبْشِ :

أَنَّهُ فُعِلَ أَوَّلًا لِمَقْصُودِ ثُمَّ شَرَعَهُ اللَّهُ نُسُكًا وَعِبَادَةً لَكِنَّ هَذَا يَكُونُ إذَا شَرَعَ اللَّهُ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْرَعَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ : أَنَا أَسْتَحِبُّ الطَّوَافَ بِالصَّخْرَةِ سَبْعًا كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ أَوْ أَسْتَحِبُّ أَنْ أَتَّخِذَ مِنْ مَقَامِ مُوسَى وَعِيسَى مُصَلًّى كَمَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْتَصُّ مَا يَخْتَصُّهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَال بِأَحْكَامٍ تَخُصُّهُ يَمْتَنِعُ مَعَهَا قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ إمَّا لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُوجَدُ بِغَيْرِهِ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِمَّا لِمَحْضِ تَخْصِيصِ الْمَشِيئَةِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ كَمَا خَصَّ الْكَعْبَةَ بِأَنْ يُحَجَّ إلَيْهَا وَيُطَافَ بِهَا وَكَمَا خَصَّ عَرَفَاتٍ بِالْوُقُوفِ بِهَا وَكَمَا خَصَّ مِنًى بِرَمْيِ الْجِمَارِ بِهَا وَكَمَا خَصَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ بِتَحْرِيمِهَا وَكَمَا خَصَّ شَهْرَ رَمَضَانَ بِصِيَامِهِ وَقِيَامِهِ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ . وَإِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ كُلٌّ مِنْهُمَا خَلِيلُ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ قَالَ : ذَاكَ إبْرَاهِيمُ } . فَإِبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَوْلُهُ : " ذَاكَ إبْرَاهِيمُ " تَوَاضُعٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ } إلَى غَيْرِ

ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الْمُبَيِّنَةِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ الْإِمَامُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا } وَهُوَ الْأُمَّةُ أَيْ الْقُدْوَةُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } وَهُوَ الَّذِي بَوَّأَهُ اللَّهُ مَكَانَ الْبَيْتِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ إلَيْهِ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْحَرَمَ عَلَى لِسَانِهِ وَإِسْمَاعِيلُ نَبَّأَهُ مَعَهُ وَهُوَ الذَّبِيحُ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَصَبَرَ عَلَى الْمِحْنَةِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأُمُّهُ هَاجَرُ هِيَ الَّتِي أَطَاعَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إبْرَاهِيمَ فِي مُقَامِهَا مَعَ ابْنِهَا فِي ذَلِكَ الْوَادِي الَّذِي لَمْ يَكُنْ بِهِ أَنِيسٌ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ : { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } . وَكَانَ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِآلِ إبْرَاهِيمَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ فَخَصَّهُمْ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَ لِبَيْتِهِ الَّذِي بَنَوْهُ لَهُ خَصَائِصَ لَا تُوجَدُ لِغَيْرِهِ وَجَعَلَ مَا جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ قُدْوَةً لِلنَّاسِ وَعِبَادَةً يَتَّبِعُونَهُمْ فِيهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِإِبْرَاهِيمَ السَّعْيَ وَرَمْيَ الْجِمَارِ وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَاتِ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ وَقِصَّةِ الذَّبْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا كَانَ كَمَا شَرَعَ لِمُحَمَّدِ الرَّمَلَ فِي الطَّوَافِ حَيْثُ أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِحَجِّ الْبَيْتِ وَالْحَجُّ مَبْنَاهُ عَلَى الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ وَلِهَذَا خُصَّ بِاسْمِ النُّسُكِ و " النُّسُكُ " فِي اللُّغَةِ الْعِبَادَةُ .

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : النُّسُكُ الْعِبَادَةُ وَالنَّاسِكُ الْعَابِدُ وَقَدْ نَسَكَ وَتَنَسَّكَ أَيْ تَعَبَّدَ وَنَسُكَ بِالضَّمِّ أَيْ صَارَ نَاسِكًا ثُمَّ خُصَّ الْحَجُّ بِاسْمِ النُّسُكِ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الْعِبَادَةِ وَالذُّلِّ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلِهَذَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا لَا يُقْصَدُ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ الذُّلِّ لِلَّهِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ كَالسَّعْيِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا والمروة لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَخَصَّ بِذَلِكَ الذَّبْحِ الْفِدَاءَ أَيْضًا دُونَ مُطْلَقِ الذَّبْحِ ؛ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لِلَّهِ أَبْلَغُ فِي الْخُضُوعِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا لَا يَأْكُلُونَ الْقُرْبَانَ ؛ بَلْ تَأْتِي نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ عَهِدَ إلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . وَكَذَلِكَ كَانُوا إذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً جَمَعُوهَا ثُمَّ جَاءَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا لِيَكُونَ قِتَالُهُمْ مَحْضًا لِلَّهِ لَا لِلْمَغْنَمِ وَيَكُونَ ذَبْحُهُمْ عِبَادَةً مَحْضَةً لِلَّهِ لَا لِأَجْلِ أَكْلِهِمْ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِكَمَالِ يَقِينِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِلَّهِ وَلَوْ أَكَلُوا الْمَغْنَمَ وَيَذْبَحُونَ لِلَّهِ وَلَوْ أَكَلُوا الْقُرْبَانَ وَلِهَذَا كَانَ عُبَّادُ الشَّيَاطِينِ وَالْأَصْنَامِ يَذْبَحُونَ لَهَا الذَّبَائِحَ أَيْضًا فَالذَّبْحُ لِلْمَعْبُودِ غَايَةُ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ لَهُ . وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا أَنْ يُسَمَّى غَيْرُ اللَّهِ عَلَى الذَّبَائِحِ

وَحَرَّمَ سُبْحَانَهُ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَهُوَ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَمَا سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ اللَّحْمُ لَا الْقُرْبَانُ وَلَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَنَهَى عَنْ ذَبَائِحَ الْجِنِّ وَكَانُوا يَذْبَحُونَ لِلْجِنِّ بَلْ حَرَّمَ اللَّهُ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أَيْ انْحَرْ لِرَبِّك كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ : { إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَدْ قَالَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ إذْ يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } فَالْمَنَاسِكُ هُنَا مَشَاعِرُ الْحَجِّ كُلُّهَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وَقَالَ : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } . فَالْمَقْصُودُ تَقْوَى الْقُلُوبِ لِلَّهِ وَهُوَ عِبَادَتُهَا لَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ . بِغَايَةِ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةُ فِيهَا غَايَةُ الْمَحَبَّةِ وَغَايَةُ الذُّلِّ وَالْإِخْلَاصِ وَهَذِهِ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ . وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ عِبَادَةَ الْقُلُوبِ هِيَ الْأَصْلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ }

وَالنِّيَّةُ وَالْقَصْدُ هُمَا عَمَلُ الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ فِي الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا احْتَجَمَ وَأَمَرَ بِالْحِجَامَةِ . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { شِفَاءُ أُمَّتِي فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ كَيَّةٍ بِنَارِ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ } كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحِجَامَةِ إخْرَاجُ الدَّمِ الزَّائِدِ الَّذِي يَضُرُّ الْبَدَنَ فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَخَصَّ الْحِجَامَةَ لِأَنَّ الْبِلَادَ الْحَارَّةَ يَخْرُجُ الدَّمُ فِيهَا إلَى سَطْحِ الْبَدَنِ فَيَخْرُجُ بِالْحِجَامَةِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْحِجَامَةُ فِي الْحِجَازِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُ اسْتِفْرَاغِ الدَّمِ وَأَمَّا الْبِلَادُ الْبَارِدَةُ فَالدَّمُ يَغُورُ فِيهَا إلَى الْعُرُوقِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى قَطْعِ الْعُرُوقِ بِالْفِصَادِ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بِالْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ فَإِنَّهُ فِي زَمَانِ الْبَرْدِ تَسْخَنُ الْأَجْوَافُ وَتَبْرُدُ الظَّوَاهِرُ لِأَنَّ شَبِيهَ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ فَإِذَا بَرَدَ الْهَوَاءُ بَرَدَ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ الْأَبْدَانِ وَالْأَرْضِ فَيَهْرُبُ الْحَرُّ الَّذِي فِيهَا مِنْ الْبَرْدِ الْمُضَادِّ لَهُ إلَى الْأَجْوَافِ فَيَسْخَنُ بَاطِنُ الْأَرْضِ . وَأَجْوَافُ الْحَيَوَانِ وَيَأْوِي الْحَيَوَانُ إلَى الْأَكْنَانِ الدَّافِئَةِ . وَلِقُوَّةِ الْحَرَارَةِ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ يَأْكُلُ فِي الشِّتَاءِ وَفِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْكُلُ فِي الصَّيْفِ وَفِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ تَطْبُخُ الطَّعَامَ وَتُصَرِّفُهُ وَيَكُونُ الْمَاءُ النَّابِعُ فِي الشِّتَاءِ سُخْنًا لِسُخُونَةِ جَوْفِ الْأَرْضِ وَالدَّمُ سُخْنٌ فَيَكُونُ فِي جَوْفِ الْعُرُوقِ لَا فِي سَطْحِ الْجِلْدِ فَلَوْ احْتَجَمَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَضُرُّهُ وَفِي الصَّيْفِ

وَالْبِلَادِ الْحَارَّةِ تَسْخَنُ الظَّوَاهِرُ فَتَكُونُ الْبَوَاطِنُ بَارِدَةً فَلَا يَنْهَضِمُ الطَّعَامُ فِيهَا كَمَا يَنْهَضِمُ فِي الشِّتَاءِ وَيَكُونُ الْمَاءُ النَّابِعُ بَارِدًا لِبُرُودَةِ بَاطِنِ الْأَرْضِ وَتَظْهَرُ الْحَيَوَانَاتُ إلَى الْبَرَارِي لِسُخُونَةِ الْهَوَاءِ فَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَنْفَعُهُمْ الْفِصَادُ بَلْ قَدْ يَضُرُّهُمْ وَالْحِجَامَةُ أَنْفَعُ لَهُمْ . وَقَوْلُهُ : " شِفَاءُ أُمَّتِي " إشَارَةٌ إلَى مَنْ كَانَ حِينَئِذٍ مِنْ أُمَّتِهِ وَهُمْ كَانُوا بِالْحِجَازِ كَمَا قَالَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ قِبْلَةَ أُمَّتِهِ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ أَنْ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ سَنَةَ عَشْرٍ وَقَّتَ ثَلَاثَ مَوَاقِيتَ لِلْمَدِينَةِ وَلِنَجْدٍ وَلِلشَّامِ وَلَمَّا فَتَحَ الْيَمَنَ وَقَّتَ لَهُمْ يلملم ثُمَّ وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ذِكْرًا وَأُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ هَذَا هُوَ الْفَرْضَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ كَانَ قُوتَهُمْ وَلِهَذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ اقْتَاتَ الْأُرْزَ وَالذُّرَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يُخْرِجُ مِنْ قُوتِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهَلْ يَجْزِيهِ أَنْ يُخْرِجَ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ إذَا لَمْ يَكُنْ يَقْتَاتُهُ . فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَرْمُونَ بِالْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي تُشْبِهُ قَوْسَ النَّدْفِ وَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ بِهَا الْبِلَادَ وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ فِي كَرَاهَةِ الرَّمْيِ بِالْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ لِكَوْنِهَا كَانَتْ شِعَارَ الْكُفَّارِ فَأَمَّا بَعْدَ

أَنْ اعْتَادَهَا الْمُسْلِمُونَ وَكَثُرَتْ فِيهِمْ وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا أَنْفَعُ فِي الْجِهَادِ مِنْ تِلْكَ الْقَوْسِ . فَلَا تُكْرَهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَوْ قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } . وَالْقُوَّةُ فِي هَذَا أَبْلَغُ بِلَا رَيْبٍ وَالصَّحَابَةُ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ عِنْدَهُمْ فَعَدَلُوا عَنْهَا إلَى تِلْكَ ؛ بَلْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُهَا فَيُنْظَرُ فِي قَصْدِهِمْ بِالرَّمْيِ أَكَانَ لِحَاجَةِ إلَيْهَا إذْ لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُهَا ؟ أَمْ كَانَ لِمَعْنًى فِيهَا ؟ وَمَنْ كَرِهَ الرَّمْيَ بِهَا كَرِهَهُ لِمَعْنًى لَازِمٍ كَمَا يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَمَا يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ أَمْ كَرِهَهَا لِكَوْنِهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْكُفَّارِ فَكَرِهَ التَّشَبُّهَ بِهِمْ ؟ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْكُفَّارَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إذَا لَبِسُوا ثَوْبَ الْغِيَارِ مِنْ أَصْفَرَ وَأَزْرَقَ نُهِيَ عَنْ لِبَاسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَوْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُكْرَهْ وَفِي بِلَادٍ لَا يَلْبَسُ هَذِهِ الْمَلَابِسَ عِنْدَهُمْ إلَّا الْكُفَّارُ فَنُهِيَ عَنْ لُبْسِهَا وَاَلَّذِينَ اعْتَادُوا ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا مَفْسَدَةَ عِنْدِهِمْ فِي لُبْسِهَا .
وَلِهَذَا كَرِهَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ لِبَاسَ السَّوَادِ لِمَا كَانَ فِي لِبَاسِهِ تَشَبُّهٌ بِمَنْ يَظْلِمُ أَوْ يُعِينُ عَلَى الظُّلْمِ وَكَرِهَ بَيْعَهُ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِلُبْسِهِ عَلَى الظُّلْمِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ . وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَيْعَ الْأَرْضِ الخراجية لِأَنَّ

الْمُسْلِمَ الْمُشْتَرِيَ لَهَا إذَا أَدَّى الْخَرَاجَ عَنْهَا أَشْبَهَ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ فَإِنَّ الْخَرَاجَ جِزْيَةُ الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا ظَلَمَ الْمُسْلِمِينَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِمْ مِنْ الْأَرْضِ لَمْ يَكْرَهُوا بَيْعَهَا لِكَوْنِهَا وَقْفًا فَإِنَّ الْوَقْفَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْوَقْفَ وَلِهَذَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَالْأَرْضُ الخراجية تَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَتَجُوزُ هِبَتُهَا وَالْمُتَّهِبُ الْمُشْتَرِي يَقُومُ فِيهَا مَقَامَ الْبَائِعِ فَيُؤَدِّي مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَرَاجِ وَلَيْسَ فِي بَيْعِهَا مَضَرَّةٌ لِمُسْتَحِقِّي الْخَرَاجِ كَمَا فِي بَيْعِ الْوَقْفِ . وَقَدْ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ كَرِهُوا بَيْعَهَا لِكَوْنِهَا وَقْفًا وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرُ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا الْآثَارَ مَرْوِيَّةً فِي كَرَاهَةِ بَيْعِهَا وَقَدْ عَرَفُوا أَنَّ عُمَرَ جَعَلَهَا فَيْئًا لَمْ يُقَسِّمْهَا قَطُّ وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْوَقْفِ فَظَنُّوا أَنَّ بَيْعَهَا مَكْرُوهٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا حَقَّ التَّأَمُّلِ فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْبَيْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْوَقْفِ فَإِنَّ هَذِهِ يُصْرَفُ مَغْلُهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَهُ وَعَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَيْسَتْ كَالدَّارِ الَّتِي إذَا بِيعَتْ تَعَطَّلَ نَفْعُهَا عَنْ أَهْلِ الْوَقْفِ وَصَارَتْ لِلْمُشْتَرِي . وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا : مَكَّةُ إنَّمَا كُرِهَ بَيْعُ رِبَاعِهَا لِكَوْنِهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَلَمْ تُقَسَّمْ أَيْضًا وَهُمْ قَدْ قَالُوا مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ إنَّ الْأَرْضَ الْعَنْوَةَ الَّتِي جُعِلَتْ أَرْضُهَا فَيْئًا يَجُوزُ بَيْعُ مَسَاكِنِهَا وَالْخَرَاجُ إنَّمَا جُعِلَ عَلَى الْمَزَارِعِ لَا عَلَى الْمَسَاكِنِ فَلَوْ كَانَتْ

مَكَّةُ قَدْ جُعِلَتْ أَرْضُهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَجُعِلَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ لَمْ يَمْتَنِعْ بَيْعُ مَسَاكِنِهَا لِذَلِكَ فَكَيْفَ وَمَكَّةُ أَقَرَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ أَهْلِهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَسَاكِنُهَا وَمَزَارِعُهَا وَلَمْ يُقَسِّمْهَا وَلَمْ يَضْرِبْ عَلَيْهَا خَرَاجًا ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ أَهْلَهَا جَمِيعَهُمْ فَلَمْ يَقْتُلْ إلَّا مَنْ قَاتَلَهُ وَلَمْ يَسْبِ لَهُمْ ذُرِّيَّةً وَلَا غَنِمَ لَهُمْ مَالًا وَلِهَذَا سُمُّوا الطُّلَقَاءَ . وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ إنَّمَا عَلَّلُوا ذَلِكَ بِكَوْنِهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً مَعَ كَوْنِهَا مُشْتَرِكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي } وَهَذِهِ هِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي اخْتَصَّتْ بِهَا مَكَّةُ دُونَ سَائِرِ الْأَمْصَارِ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ حَجَّهَا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَشَرَعَ اعْتِمَارَهَا دَائِمًا فَجَعَلَهَا مُشْتَرِكَةً بَيْنَ جَمِيعِ عِبَادِهِ . كَمَا قَالَ : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي } وَلِهَذَا كَانَتْ مِنًى وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَشَاعِرِ مَنْ سَبَقَ إلَى مَكَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَنْتَقِلَ عَنْهُ كَالْمَسَاجِدِ وَمَكَّةُ نَفْسُهَا مَنْ سَبَقَ إلَى مَكَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَالْإِنْسَانُ أَحَقُّ بِمَسْكَنِهِ مَا دَامَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ الْمَنَافِعِ فَعَلَيْهِ بَذْلُهُ بِلَا عِوَضٍ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحَجِيجِ وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَقْوَالُ فِي إجَارَةِ دُورِهَا وَبَيْعِ رِبَاعِهَا ثَلَاثَةً . قِيلَ : لَا يَجُوزُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا . وَقِيلَ : يَجُوزُ الْأَمْرَانِ .

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا يَجُوزُ إجَارَتُهَا وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ الْآثَارُ الْمَنْقُولَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ دُورَهَا وَالدُّورُ تُورَثُ وَتُوهَبُ وَإِذَا كَانَتْ تُورَثُ وَتُوهَبُ جَازَ أَنْ تُبَاعَ بِخِلَافِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ . وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهَا لَمْ يُجَوِّزْ هِبَتَهَا وَلَا أَنْ تُوَرَّثَ وَأَمَّا إجَارَتُهَا فَقَدْ كَانَتْ تُدْعَى السَّوَائِبُ - عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ وَمَنْ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى الْمَنَافِعِ فَصَارَتْ كَمَنَافِعِ الْأَسْوَاقِ وَالْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَمَنْ سَبَقَ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ أَخَذَهُ غَيْرُهُ بِلَا عِوَضٍ وَكَذَلِكَ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي لَهَا اسْتَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ مَا دَامَ مُحْتَاجًا وَإِذَا بَاعَهَا الْإِنْسَانُ قَطَعَ اخْتِصَاصَهُ بِهَا وَتَوْرِيثَهُ إيَّاهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ وَلِهَذَا لَهُ أَنْ لَا يَبْذُلَهُ إلَّا بِعِوَضِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّ الْأَسِيرَ يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِ لِلْمَصْلَحَةِ وَأَعْطَاهُمْ مَعَ ذَلِكَ ذَرَارِيَّهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ كَمَا مَنَّ عَلَى هَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا مُسْلِمِينَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ : السَّبْيُ أَوْ الْمَالُ فَاخْتَارُوا السَّبْيَ فَأَعْطَاهُمْ السَّبْيَ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ

فَعَوَّضَ عَنْ نَصِيبِهِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِأَخْذِهِ مِنْهُمْ وَكَانَ قَدْ قَسَّمَ الْمَالَ فَلَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ وَقُرَيْشٌ لَمْ تُحَارِبْهُ كَمَا حَارَبَتْهُ هَوَازِنُ وَهُوَ إنَّمَا مَنَّ عَلَى مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ : { مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ } . فَلَمَّا كَفَّ جُمْهُورُهُمْ عَنْ قِتَالِهِ وَعَرَفَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ أَطْلَقَهُمْ وَلَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا حَرِيمَهُمْ وَلَمْ يَضْرِبْ الرِّقَّ لَا عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى أَوْلَادِهِمْ بَلْ سَمَّاهُمْ الطُّلَقَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ بِخِلَافِ ثَقِيفٍ فَإِنَّهُمْ سُمُّوا الْعُتَقَاءَ فَإِنَّهُ أَعْتَقَ أَوْلَادَهُمْ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْقِسْمَةِ وَكَانَ فِي هَذَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ بِالْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ وَالْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ مَا هُوَ أَصْلَحُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ خَيْبَرَ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَسَبَى بَعْضَ نِسَائِهَا وَأَقَرَّ سَائِرَهُمْ مَعَ ذَرَارِيِّهِمْ حَتَّى أَجْلَوْا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَرِقَّهُمْ وَمَكَّةُ فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يُقَسِّمْهَا لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ .
وقد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَرْضِ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً هَلْ يَجِبُ قَسْمُهَا كَخَيْبَرِ لِأَنَّهَا مَغْنَمٌ أَوْ تَصِيرُ فَيْئًا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْحَشْرِ وَلَيْسَتْ الْأَرْضُ مِنْ الْمَغْنَمِ أَوْ يُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيمَا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى التَّخْيِيرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا .

وَلَوْ فَتَحَ الْإِمَامُ بَلَدًا وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ أَهْلَهُ يُسْلِمُونَ وَيُجَاهِدُونَ جَازَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ أَهْلِ خَيْبَرَ فَإِنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَأُولَئِكَ قَسَمَ أَرْضَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ وَهَؤُلَاءِ تَرَكَهَا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَارُوا مُسْلِمِينَ وَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ لَا يَتَأَلَّفُهُمْ بِإِبْقَاءِ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ . وَهُمْ لَمَّا حَضَرُوا مَعَهُ حنينا أَعْطَاهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حنين مَا تَأْلَفُهُمْ بِهِ حَتَّى عَتَبَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : { أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ قَالُوا يَوْمَ حنين حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنْ الْإِبِلِ . فَقَالُوا : يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ - قَالَ أَنَسٌ : فَحُدِّثَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أُدْمٍ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ : أَمَّا ذَوُو رَأْينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ

أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا : يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهِدَ بِكُفْرِ أتألفهم أَفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ فَوَاَللَّهِ لِمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا قَالَ : فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ قَالُوا : سَنَصْبِرُ } - وَفِي رِوَايَةٍ { لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شَعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شَعْبًا لَسَلَكْت وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشَعْبَهُمْ النَّاسُ دِثَارٌ وَالْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَحَدَّثَهُمْ حَتَّى بَكَوْا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ } . فَهَذَا كُلُّهُ بَذْلٌ وَعَطَاءٌ لِأَجْلِ إسْلَامِ النَّاسِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ قِسْمَةُ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ مُطْلَقًا فَقَوْلُهُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمَنْقُولَةِ بِالتَّوَاتُرِ وَلَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ تُوجِبُ ذَلِكَ فَإِنَّ قِسْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَا فَعَلَ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ إذْ الْفِعْلُ لَا يَدُلُّ بِنَفْسِهِ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ لَمْ يُقَسِّمْ مَكَّةَ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَهَذَا يَعْلَمُهُ ضَرُورَةً مَنْ تَدَبَّرَ الْأَحَادِيثَ وَكَذَلِكَ الْمَنْقُولُ : مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَجِبُ قَسْمُهُ كُلَّهُ بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فِي كُلِّ غَزَاةٍ فَقَوْلُهُ

ضَعِيفٌ بَلْ يَجُوزُ فِيهِ التَّفْضِيلُ لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَضِّلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُغَازِي . وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ الَّذِينَ أَعْطَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَنَائِمَ خَيْبَرَ فِيمَا أَعْطَاهُمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْخُمُسِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ وَهَذَا أَظْهَرُ . فَإِنَّ الَّذِي أَعْطَاهُمْ إيَّاهُ هُوَ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا يَحْتَمِلُهُ الْخُمُسُ وَمَنْ قَالَ الْعَطَاءُ كَانَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ فَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ وَقَعَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ : { لَيْسَ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ } وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ كَانُوا مِنْ الْعَسْكَرِ فَفَضَّلَهُمْ فِي الْعَطَاءِ لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا كَانَ يُفَضِّلُهُمْ فِيمَا يَقْسِمُهُ مِنْ الْفَيْءِ لِلْمَصْلَحَةِ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَهَا بِاجْتِهَادِهِ كَمَا يَقْسِمُ الْفَيْءَ بِاجْتِهَادِهِ إذَا كَانَ إمَامَ عَدْلٍ قَسَمَهَا بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ لَيْسَ قِسْمَتُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَقِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الصَّدَقَاتِ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِيهَا بِقِسْمَةِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ وَلَكِنْ جَعَلَهَا ثَمَانِيَةَ أَصْنَافٍ فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ أَعْطَيْتُك } فَعُلِمَ أَنَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ مِنْ الْكُفَّارِ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرَ وَلَمْ يَقْسِمْ لِأَحَدِ غَابَ عَنْهَا غَيْرُهُمْ وَقَسَمَ مِنْ غَنَائِمَ بَدْرٍ لِطَلْحَةِ وَالزُّبَيْرِ وَلِعُثْمَانِ

وَكَانَ قَدْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُرِيدُونَ الْقِتَالَ وَكَانُوا مَشْغُولِينَ بِبَعْضِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ فِيهَا فِي جِهَادٍ . وَأَيْضًا أَهْلُ السَّفِينَةِ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ لَمْ يَكُونُوا كَغَيْرِهِمْ وَالْقِتَالُ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْغَنِيمَةِ فَلَيْسَتْ الْغَنِيمَةُ كَمُبَاحٍ اشْتَرَكَ فِيهِ نَاسٌ مِثْلَ الِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَقْصُودُهُ هُوَ اكْتِسَابُ الْمَالِ بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ بَلْ مَنْ قَاتَلَ فِيهَا لِأَجْلِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِهَذَا لَمْ تُبَحْ الْغَنَائِمُ لِمَنْ قَبْلَنَا وَأُبِيحَتْ لَنَا مَعُونَةً عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ . فَالْغَنَائِمُ أُبِيحَتْ لِمَصْلَحَةِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ فَمَنْ كَانَ قَدْ نَفَعَ الْمُجَاهِدِينَ بِنَفْعٍ اسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى تَمَامِ جِهَادِهِمْ جُعِلَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ يَدٌ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيَرُدُّ مُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ } . فَإِنَّ الْمُتَسَرِّيَ إنَّمَا تَسَرَّى بِقُوَّةِ الْقَاعِدِ فَالْمُعَاوِنُونَ لِلْمُجَاهِدِينَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : ذِكْرُ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ مُتَابَعَتُهُ فِي قَصْدِهِ فَإِذَا قَصَدَ مَكَانًا لِلْعِبَادَةِ فِيهِ كَانَ قَصْدُهُ لِتِلْكَ

الْعِبَادَةِ سُنَّةً وَأَمَّا إذَا صَلَّى فِيهِ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ لِلْعِبَادَةِ سُنَّةً وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ يَقْصِدُونَ مُشَابَهَتَهُ فِي ذَلِكَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُشَابَهَتَهُ فِي ظَاهِرِ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الصَّلَاةَ إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ لَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ نَزَلَ بِهِ وَلِهَذَا رَخَّصَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَنَهَى عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا كَثُرَ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ وَهِيَ اتِّخَاذُ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْمَشَاهِدُ وَمَا أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَالْآثَارِ فَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَسَدِّ أَبْوَابِ الشِّرْكِ الَّتِي يَفْتَحُهَا الشَّيْطَانُ لِبَنِي آدَمَ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ هُمْ أَكْثَرُ تَعْظِيمًا لِمَوَاضِعِ الشِّرْكِ فَالْعَارِفُونَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدِيثِهِ أَوْلَى بِالتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَأَهْلُ الْجَهْلِ بِذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ . وَلِهَذَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الرَّافِضَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْهَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَكْثَرُ شِرْكًا وَبِدَعًا وَلِهَذَا يُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدُ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَيُخَرِّبُونَ الْمَسَاجِدَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَالْمَسَاجِدُ لَا يُصَلُّونَ فِيهَا

جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً وَلَا يُصَلُّونَ فِيهَا إنْ صَلَّوْا إلَّا أَفْرَادًا وَأَمَّا الْمَشَاهِدُ فَيُعَظِّمُونَهَا أَكْثَرَ مِنْ الْمَسَاجِدِ حَتَّى قَدْ يَرَوْنَ أَنَّ زِيَارَتَهَا أَوْلَى مِنْ حَجِّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَيُسَمُّونَهَا الْحَجَّ الْأَكْبَرَ وَصَنَّفَ ابْنُ الْمُفِيدِ مِنْهُمْ كِتَابًا سَمَّاهُ " مَنَاسِكَ حَجِّ الْمَشَاهِدِ " وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَقْوَالِ مَا لَا يُوجَدُ فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِمْ أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالْبِدَعِ ؛ لَكِنْ هُوَ فِيهِمْ أَكْثَرُ وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَتْبَعَ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَعْظَمَ تَوْحِيدًا لِلَّهِ وَإِخْلَاصًا لَهُ فِي الدِّينِ وَإِذَا بَعُدَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ نَقَصَ مِنْ دِينِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَإِذَا كَثُرَ بَعْدَهُ عَنْهُ ظَهَرَ فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ مَا لَا يَظْهَرُ فِيمَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ . وَاَللَّهُ إنَّمَا أَمَرَ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بِالْعِبَادَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْعِبَادَةِ فِيهَا هِيَ عِمَارَتُهَا . قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } وَلَمْ يَقُلْ مَشَاهِدُ اللَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَلَمْ يَقُلْ عِنْدَ كُلِّ مَشْهَدٍ فَإِنَّ أَهْلَ الْمُشَاهِدِ لَيْسَ فِيهِمْ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ بَلْ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

وَأَقَامَ الصَّلَاةَ } الْآيَاتِ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ . ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ } فَإِنَّ الْمُرَادَ بِعِمَارَتِهَا عِمَارَتُهَا بِالْعِبَادَةِ فِيهَا كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ يُقَالُ مَدِينَةٌ عَامِرَةٌ إذَا كَانَتْ مَسْكُونَةً وَمَدِينَةٌ خَرَابٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } . وَأَمَّا نَفْسُ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَذَلِكَ يُسَمَّى بِنَاءً كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانَ لَهُمْ عِمَارَةُ مَسَاجِدِ اللَّهِ مَعَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَبَيَّنَ أَنَّمَا يَعْمُرُهَا مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ وَهَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ الَّذِينَ لَا يَخْشَوْنَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَرْجُونَ سِوَاهُ وَلَا يَسْتَعِينُونَ إلَّا بِهِ وَلَا يَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ وَعُمَّارُ الْمَشَاهِدِ يَخَافُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَرْجُونَ غَيْرَهُ وَيَدْعُونَ غَيْرَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ إنَّمَا يَعْمُرُ مَشَاهِدَ اللَّهِ فَإِنَّ الْمَشَاهِدَ لَيْسَتْ بُيُوتَ اللَّهِ إنَّمَا هِيَ بُيُوتُ الشِّرْكِ وَلِهَذَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ فِيهَا مَدْحُ الْمَشَاهِدِ وَلَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي

ذَلِكَ حَدِيثٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَنَا أَنَّهُمْ بَنَوْا مَسْجِدًا عَلَى قَبْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ذَمَّ أَهْلَ الْمَشَاهِدِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } وَقَالَ : { أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ثُمَّ أَهْلُ الْمَشَاهِدِ كَثِيرٌ مِنْ مَشَاهِدِهِمْ أَوْ أَكْثَرُهَا كَذِبٌ فَإِنَّ الشِّرْكَ مَقْرُونٌ بِالْكَذِبِ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَثِيرًا . قَالَ تَعَالَى : { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ قَالَهَا ثَلَاثًا } . وَذَلِكَ كَالْمَشْهَدِ الَّذِي بُنِيَ بِالْقَاهِرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحُسَيْنِ وَهُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَرَأْسُ الْحُسَيْنِ لَمْ يُحْمَلْ إلَى هُنَاكَ أَصْلًا وَأَصْلُهُ مِنْ عَسْقَلَانَ . وَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ كَانَ رَأْسُ رَاهِبٍ وَرَأْسُ الْحُسَيْنِ لَمْ يَكُنْ بِعَسْقَلَانَ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ هَذَا فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ الْمَلَاحِدَةِ بَنِي عُبَيْدٍ . وَكَذَلِكَ مَشْهَدُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا أُحْدِثَ فِي دَوْلَةِ بَنِي

بَوَّيْهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مُطَيَّن الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ : إنَّمَا هُوَ قَبْرُ الْمُغِيرَةِ ابْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا دُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ وَدُفِنَ مُعَاوِيَةُ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِدِمَشْقَ وَدُفِنَ عَمْرُو بْنُ العاص بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِمِصْرِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ إذَا دُفِنُوا فِي الْمَقَابِرِ الْبَارِزَةِ أَنْ ينبشهم الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ كَانُوا تَعَاهَدُوا عَلَى قَتْلِ الثَّلَاثَةِ فَقَتَلَ ابْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا وَجَرَحَ صَاحِبُهُ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرًا كَانَ اسْتَخْلَفَ رَجُلًا اسْمُهُ خَارِجَةَ فَقَتَلَهُ الْخَارِجِيُّ . وَقَالَ : أَرَدْت عَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ خَارِجَةَ . فَسَارَتْ مَثَلًا . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ إنَّمَا أُحْدِثَ فِي دَوْلَةِ الْمَلَاحِدَةِ دَوْلَةِ بَنِي عُبَيْدٍ . وَكَانَ فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَمُعَاضَدَةِ الْمَلَاحِدَةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَلِهَذَا كَانَ فِي زَمَنِهِمْ قَدْ تَضَعْضَعَ الْإِسْلَامُ تَضَعْضُعًا كَثِيرًا وَدَخَلَتْ النَّصَارَى إلَى الشَّامِ فَإِنَّ بَنِي عُبَيْدٍ مَلَاحِدَةٌ مُنَافِقُونَ لَيْسَ لَهُمْ غَرَضٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلْ فِي الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَمُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَأَتْبَاعُهُمْ كُلُّهُمْ أَهْلُ بِدَعٍ وَضَلَالٍ فَاسْتَوْلَتْ النَّصَارَى فِي دَوْلَتِهِمْ عَلَى أَكْثَرِ الشَّامِ ثُمَّ قَيَّضَ اللَّهُ مِنْ مُلُوكِ السُّنَّةِ مِثْلَ : نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ وَإِخْوَتِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ فَفَتَحُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَجَاهَدُوا الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ .

وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ حِينَئِذٍ وَالشَّيْطَانُ يُقَارِنُهَا وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْمُصَلِّي لَا يُقْصَدُ السُّجُودَ لَهَا لَكِنَّ سَدَّ الذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَتَشَبَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّونَ بِهَا فَيُفْضِي إلَى مَا هُوَ شِرْكٌ ؛ وَلِهَذَا نَهَى عَنْ تَحَرِّي الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ هَذَا لَفْظُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَقَصْدُ الصَّلَاةِ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَأَمَّا إذَا حَدَثَ سَبَبٌ تُشْرَعُ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ : مِثْلَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابُهُ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَا شَرَّ فِيهِ وَهُوَ يَفُوتُ إذَا تُرِكَ وَإِنَّمَا نَهْيٌ عَنْ قَصْدِ الصَّلَاةِ وَتَحَرِّيهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ بِقَصْدِ السُّجُودِ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَمَا لَا سَبَبَ لَهُ قَدْ قَصَدَ فِعْلَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْوَقْتَ بِخِلَافِ ذِي السَّبَبِ فَإِنَّهُ فَعَلَ لِأَجْلِ السَّبَبِ فَلَا تَأْثِيرَ فِيهِ لِلْوَقْتِ بِحَالِ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ عُمُومًا فَقَالَ : { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا وَقَدْ صَحَّحَ الْحِفَاظُ أَنَّهُ مُسْنَدٌ فَإِنَّ الْحَمَّامَ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ وَالْمَقَابِرُ نَهَى عَنْهَا

لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُتَّخِذِينَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي قَدْ لَا يَقْصِدُ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ فَضِيلَةِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ بَلْ اتَّفَقَ لَهُ ذَلِكَ . لَكِنَّ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِمَنْ يُقْصَدُ ذَلِكَ فَنَهَى عَنْهُ كَمَا يَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ فَضِيلَةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِمَنْ يَقْصِدُ فَضِيلَةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَنَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ كَنَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ الَّذِي أَضَلَّ أَكْثَرَ بَنِي آدَمَ أَصْلُهُ وَأَعْظَمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْبَشَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمُصَوَّرَةِ عَلَى صُوَرِهِمْ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ اعْتَادُوا آلِهَةً يَلِدُونَ وَيُولَدُونَ وَيَرِثُونَ وَيُورَثُونَ وَيَكُونُونَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إلَهِهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ : مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ ؟ أَمِنْ كَذَا أَمْ مِنْ كَذَا ؟ وَمِمَّنْ وَرِثَ الدُّنْيَا ؟ وَلِمَنْ يُوَرِّثُهَا ؟ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } . وَفِي حَدِيثِ أبي بْنِ كَعْبٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُولَدُ إلَّا يَمُوتُ وَلَا أَحَدٌ يَرِثُ إلَّا يُورَثُ يَقُولُ : كُلُّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَدْ وُلِدَ مِثْلُ الْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّالِحِينَ وَتَمَاثِيلِهِمْ وَمَثَلُ الْفَرَاعِنَةِ الْمُدَّعِينَ الْإِلَهِيَّةَ فَهَذَا مَوْلُودٌ يَمُوتُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَرِثَ مِنْ غَيْرِهِ مَا هُوَ فِيهِ فَإِذَا مَاتَ وَرِثَهُ غَيْرُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .

سُورَةُ الْفَلَقِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ نَاصِرُ السُّنَّةِ قَامِعُ الْبِدْعَةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة نَفَعَنَا الْمَوْلَى بِعُلُومِهِ - وَهُوَ مِمَّا كَتَبَهُ فِي الْقَلْعَةِ - :
فَصْلٌ : فِي { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } .
قَالَ تَعَالَى : { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } وَقَالَ تَعَالَى : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا } وَالْفَلَقُ : فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَبْضِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ فَكُلُّ مَا فَلَقَهُ الرَّبُّ فَهُوَ فَلَقٌ قَالَ الْحَسَنُ : الْفَلَقُ كُلُّ مَا انْفَلَقَ عَنْ شَيْءٍ : كَالصُّبْحِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَإِذَا تَأَمَّلْت الْخَلْقَ بَانَ لَك أَنَّ أَكْثَرَهُ عَنْ انْفِلَاقٍ

كَالْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ وَالسَّحَابِ بِالْمَطَرِ . وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : الْفَلَقُ الصُّبْحُ فَإِنَّهُ يُقَالُ هَذَا أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ وَفَرَقِ الصُّبْحِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْفَلَقُ الْخَلْقُ كُلُّهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أَوْ شَجَرَةٌ فِي جَهَنَّمَ أَوْ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ فَهَذَا أَمْرٌ لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ لَا بِدَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَيْهِ وَلَا بِنَقْلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي تَخْصِيصِ رُبُوبِيَّتِهِ بِذَلِكَ حِكْمَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ رَبُّ الْخَلْقِ أَوْ رَبُّ كُلِّ مَا انْفَلَقَ أَوْ رَبُّ النُّورِ الَّذِي يُظْهِرُهُ عَلَى الْعِبَادِ بِالنَّهَارِ فَإِنَّ فِي تَخْصِيصِ هَذَا بِالذِّكْرِ مَا يَظْهَرُ بِهِ عَظَمَةُ الرَّبِّ الْمُسْتَعَاذِ بِهِ وَإِذَا قِيلَ : الْفَلَقُ يَعُمُّ وَيَخُصُّ فَبِعُمُومِهِ لِلْخَلْقِ أَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَبِخُصُوصِهِ لِلنُّورِ النَّهَارِيِّ أَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ . فَإِنَّ الْغَاسِقَ قَدْ فُسِّرَ بِاللَّيْلِ كَقَوْلَةِ : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ . قَالُوا : وَمَعْنَى { وَقَبَ } دَخَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ . قَالَ الزَّجَّاجُ : الْغَاسِقُ الْبَارِدُ وَقِيلَ اللَّيْلُ غَاسِقٌ لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنْ النَّهَارِ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ تَعَوَّذِي بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ فَإِنَّهُ الْغَاسِقُ إذَا وَقَبَ } وَرَوَى

مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { أَنَّ الْغَاسِقَ النَّجْمُ } وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ الثُّرَيَّا وَكَانَتْ الْأَسْقَامُ وَالطَّوَاعِينُ تَكْثُرُ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَتَرْتَفِعُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَهَذَا الْمَرْفُوعُ قَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ مُنَافَاتَهُ لِمَنْ فَسَّرَهُ بِاللَّيْلِ فَجَعَلُوهُ قَوْلًا آخَرَ ثُمَّ فَسَّرُوا وُقُوبَهُ بِسُكُونِهِ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : وَيُقَالُ الْغَاسِقُ الْقَمَرُ إذَا كَسَفَ وَاسْوَدَّ . وَمَعْنَى وَقَبَ دَخَلَ فِي الْكُسُوفِ وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعَارَضُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ عَائِشَةَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ عِنْدَ كُسُوفِهِ بَلْ مَعَ ظُهُورِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } فَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ . وَكَذَلِكَ النُّجُومُ إنَّمَا تَطْلُعُ فَتُرَى بِاللَّيْلِ فَأَمْرُهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ آيَةِ اللَّيْلِ وَدَلِيلُهُ وَعَلَامَتُهُ وَالدَّلِيلُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ فَإِذَا كَانَ شَرُّ الْقَمَرِ مَوْجُودًا فَشَرُّ اللَّيْلِ مَوْجُودٌ وَلِلْقَمَرِ مِنْ التَّأْثِيرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَتَكُونُ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ الشَّرِّ الْحَاصِلِ عَنْهُ أَقْوَى وَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى التَّقْوَى : " هُوَ مَسْجِدِي هَذَا " مَعَ أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ مَسْجِدَ قُبَاء قَطْعًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ الْكِسَاءِ : " هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي " مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ يَتَنَاوَلُ نِسَاءَهُ فَالتَّخْصِيصُ لِكَوْنِ الْمَخْصُوصِ أَوْلَى بِالْوَصْفِ فَالْقَمَرُ أَحَقُّ مَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَاللَّيْلُ مُظْلِمٌ تَنْتَشِرُ فِيهِ شَيَاطِينُ

الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَا لَا تَنْتَشِرُ بِالنَّهَارِ وَيَجْرِي فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ مَا لَا يَجْرِي بِالنَّهَارِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَالسِّحْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفَوَاحِشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالشَّرُّ دَائِمًا مَقْرُونٌ بِالظُّلْمَةِ وَلِهَذَا إنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِسُكُونِ الْآدَمِيِّينَ وَرَاحَتِهِمْ لَكِنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ تَفْعَلُ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ مَا لَا يُمْكِنُهَا فِعْلُهُ بِالنَّهَارِ وَيَتَوَسَّلُونَ بِالْقَمَرِ وَبِدَعْوَتِهِ وَالْقَمَرِ وَعِبَادَتِهِ وَأَبُو مَعْشَرٍ البلخي لَهُ " مُصْحَفُ الْقَمَرِ " يَذْكُرُ فِيهِ مِنْ الكفريات وَالسِّحْرِيَّاتِ مَا يُنَاسِبُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْهُ . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ عُمُومًا ثُمَّ خَصَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ الْغَاسِقِ إذَا وَقَبَ وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَعُمُّ شَرُّهُ ثُمَّ خَصَّ بِالذِّكْرِ السِّحْرَ وَالْحَسَدَ . فَالسِّحْرُ يَكُونُ مِنْ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ لَكِنْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْأَشْيَاءِ كَالنَّفْثِ فِي الْعُقَدِ . وَالْحَسَدُ يَكُونُ مِنْ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ أَيْضًا إمَّا بِالْعَيْنِ وَإِمَّا بِالظُّلْمِ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَخَصَّ مِنْ السِّحْرِ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَهُنَّ النِّسَاءُ . وَالْحَاسِدُ الرِّجَالُ فِي الْعَادَةِ وَيَكُونُ مِنْ الرِّجَالِ وَمِنْ النِّسَاءِ . وَالشَّرُّ الَّذِي يَكُونُ مِنْ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ : هُوَ شَرٌّ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْإِنْسَانِ لَيْسَ هُوَ فِي قَلْبِهِ كَالْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . وَفِي سُورَةِ النَّاسِ ذَكَرَ { الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } فَإِنَّهُ مَبْدَأُ الْأَفْعَالِ

الْمَذْمُومَةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَفِيهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ مَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ . وَسُورَةُ الْفَلَقِ فِيهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَلِهَذَا قِيلَ فِيهَا بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقِيلَ فِي هَذِهِ بِرَبِّ النَّاسِ فَإِنَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ بِالنُّورِ يُزِيلُ بِمَا فِي نُورِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا فِي الظُّلْمَةِ مِنْ الشَّرِّ وَفَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى بَعْدَ انْعِقَادِهِمَا يُزِيلُ مَا فِي عُقَدِ النَّفَّاثَاتِ فَإِنَّ فَلْقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى أَعْظَمُ مِنْ حَلَّ عُقَدِ النَّفَّاثَاتِ وَكَذَلِكَ الْحَسَدُ هُوَ مِنْ ضِيقِ الْإِنْسَانِ وَشُحِّهِ لَا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَرَبُّ الْفَلَقِ يُزِيلُ مَا يَحْصُلُ بِضِيقِ الْحَاسِدِ وَشُحِّهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَفْلِقُ شَيْئًا إلَّا بِخَيْرِ فَهُوَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ بِالنُّورِ الْهَادِي وَالسِّرَاجِ الْوَهَّاجِ الَّذِي بِهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَفَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَالْأَقْوَاتِ الَّتِي هِيَ رِزْقُ النَّاسِ وَدَوَابِّهِمْ وَالْإِنْسَانُ مُحْتَاجٌ إلَى جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْهُدَى وَالرِّزْقِ وَهَذَا حَاصِلٌ بِالْفَلْقِ وَالرَّبُّ الَّذِي فَلَقَ لِلنَّاسِ مَا تَحْصُلُ بِهِ مَنَافِعُهُمْ يُسْتَعَاذُ بِهِ مِمَّا يَضُرُّ النَّاسَ فَيُطْلَبُ مِنْهُ تَمَامُ نِعْمَتِهِ بِصَرْفِ الْمُؤْذِيَاتِ عَنْ عَبْدِهِ الَّذِي ابْتَدَأَ بِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ وَفَلْقُ الشَّيْءِ عَنْ الشَّيْءِ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَمَامِ الْقُدْرَةِ وَإِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنْ ضِدِّهِ كَمَا يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْفَلَقِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِ الضِّدِّ الْمُؤْذِي بِالضِّدِّ النَّافِعِ .

سُورَةُ النَّاسِ
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } إلَى آخِرِهَا . قَوْلُهُ : { مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } { الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } فِيهَا أَقْوَالٌ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إلَّا قَوْلَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّالِثَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ لِبَيَانِ الْوَسْوَاسِ أَيْ الَّذِي يُوَسْوِسُ مِنْ الْجِنَّةِ وَمِنْ النَّاسِ فِي صُدُورِ النَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَإِيحَاؤُهُمْ هُوَ وَسْوَسَتُهُمْ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُوَسْوَسِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَتِرًا عَنْ الْبَصَرِ ؛ بَلْ قَدْ يُشَاهِدُ قَالَ تَعَالَى : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } { وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } وَهَذَا كَلَامُ مَنْ يَعْرِفُ قَائِلَهُ لَيْسَ شَيْئًا يُلْقَى فِي الْقَلْبِ لَا يَدْرِي مِمَّنْ هُوَ وَإِبْلِيسُ قَدْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ آدَمَ وَهُوَ وَنَسْلُهُ يَرَوْنَ بَنِي آدَمَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ وَأَمَّا آدَمَ فَقَدْ رَآهُ .

وَقَدْ يَرَى الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ كَثِيرٌ مِنْ الْإِنْسِ لَكِنَّ لَهُمْ مِنْ الِاجْتِنَانِ وَالِاسْتِتَارِ مَا لَيْسَ لِلْإِنْسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ } وَفِي التَّفْسِيرِ وَالسِّيرَةِ : أَنَّ الشَّيْطَانَ جَاءَهُمْ فِي صُورَةِ بَعْضِ النَّاسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } . وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ قُلْت : أو لِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ ؟ قَالَ : نَعَمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ } . وَأَيْضًا فَالنَّفْسُ لَهَا وَسْوَسَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } فَهَذَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ لِنَفْسِهِ كَمَا يُقَالُ حَدِيثُ النَّفْسِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَاَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ نُفُوسُهُمْ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ وَشَيَاطِينُ الْإِنْسِ . وَالْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ يَتَنَاوَلُ وَسْوَسَةَ الْجِنَّةِ وَوَسْوَسَةَ الْإِنْسِ وَإِلَّا

أَيُّ مَعْنًى لِلِاسْتِعَاذَةِ مِنْ وَسْوَسَةِ الْجِنِّ فَقَطْ مَعَ أَنَّ وَسْوَسَةَ نَفْسِهِ وَشَيَاطِينِ الْإِنْسِ هِيَ مِمَّا تَضُرُّهُ وَقَدْ تَكُونُ أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ وَسْوَسَةِ الْجِنِّ . وَأَمَّا قَوْلُ الْفَرَّاءِ : أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ : الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَأَنَّهُ سَمَّى الْجِنَّ نَاسًا كَمَا سَمَّاهُمْ رِجَالًا وَسَمَّاهُمْ نَفَرًا فَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ لَفْظَ النَّاسِ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ وَأَعْرَفُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تَنْوِيعِهِ إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَفْظَ النَّاسِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الطَّائِفَتَيْنِ صِفَةُ تَوْضِيحٍ وَبَيَانٍ وَلَيْسَ وَسْوَسَةُ الْجِنِّ مَعْرُوفَةً عِنْدَ النَّاسِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا بِخَبَرِ وَلَا خَبَرَ هُنَا ثُمَّ قَدْ قَالَ : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } فَكَيْفَ يَكُونُ لَفْظُ النَّاسِ عَامًّا لِلْجِنَّةِ وَالنَّاسِ وَكَيْفَ يَكُونُ قَسِيمُ الشَّيْءِ قِسْمًا مِنْهُ فَهُوَ يَجْعَلُ النَّاسَ قَسِيمَ الْجِنِّ وَيَجْعَلُ الْجِنَّ نَوْعًا مِنْ النَّاسِ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ : أَكْرَمُ الْعَرَبِ مِنْ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ فَهَلْ يَقُولُ هَذَا أَحَدٌ وَإِذَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى رِجَالًا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ نَاسًا وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُقَالُ جَاءَ نَاسٌ مِنْ الْجِنِّ فَذَاكَ مَعَ التَّقْيِيدِ كَمَا يُقَالُ إنْسَانٌ مِنْ طِينٍ وَمَاءٍ دَافِقٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَدْخُلُوا فِي لَفْظِ النَّاسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ

وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُخَاطِبُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ . وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إلَى الْجِنْسَيْنِ لَكِنَّ لَفْظَ النَّاسِ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِنَّ وَلَكِنْ يَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ : أَنَّ الْمَعْنَى { مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ } الَّذِي هُوَ الْجِنَّةُ وَمِنْ شَرِّ النَّاسِ فِيهِ ضَعْفٌ وَإِنْ كَانَ أَرْجَحَ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ شَرَّ الْجِنِّ أَعْظَمُ مِنْ شَرِّ الْإِنْسِ فَكَيْفَ يُطْلِقُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ وَلَا يَسْتَعِيذُ إلَّا مِنْ بَعْضِ الْجِنِّ . وَأَيْضًا فَالْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ إنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مِنْ الْجِنَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ { مِنَ الْجَنَّةِ } وَمِنْ { النَّاسِ } فَلِمَاذَا يَخُصُّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ وَسْوَاسِ الْجِنَّةِ دُونَ وَسْوَاسِ النَّاسِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ الْمَعْطُوفُ اسْمًا كَانَ عَطْفُهُ عَلَى الْقَرِيبِ أَوْلَى كَمَا أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي الْعَطْفَ عَلَى الْبَعِيدِ فَعَطْفُ النَّاسِ هُنَا عَلَى الْجِنَّةِ الْمُقِرُّونَ بِهِ أَوْلَى مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الْوَسْوَاسِ .

وَيَكْفِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ يَقْرَءُونَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ زَمَنِ نَبِيِّهِمْ وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَانِ الْقَوْلَانِ إلَّا عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ وَالْأَقْوَالُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَلْ إنَّمَا فِيهَا الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْنَاهُ كَمَا فِي تَفْسِيرِ مَعْمَرٍ عَنْ قتادة { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } قَالَ : إنَّ فِي الْجِنِّ شَيَاطِينَ وَإِنَّ فِي الْإِنْسِ شَيَاطِينَ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ؛ فَبَيَّنَ قتادة أَنَّ الْمَعْنَى الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ { الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } قَالَ : الْخَنَّاسُ الَّذِي يُوَسْوِسُ مَرَّةً وَيَخْنَسُ مَرَّةً مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَبَيَّنَ ابْنُ زَيْدٍ أَنَّ الْوَسْوَاسَ الْخَنَّاسَ مِنْ الصِّنْفَيْنِ وَكَانَ يُقَالُ : شَيَاطِينُ الْإِنْسِ أَشَدّ عَلَى النَّاسِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ : شَيْطَانُ الْجِنِّ يُوَسْوِسُ وَلَا تَرَاهُ وَهَذَا يُعَايِنُك مُعَايَنَةً . وَعَنْ ابْنِ جريج : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } قَالَ : إنَّمَا وَسْوَاسَانِ فَوَسْوَاسٌ مِنْ الْجِنَّةِ فَهُوَ { الْخَنَّاسِ } وَوَسْوَاسُ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ قَوْلُهُ : { وَالنَّاسِ } وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ قَوْلَ الزَّجَّاجِ فَهَذَا أَحْسَنُ مِنْهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ مِنْ النَّاسِ الْوَسْوَاسَ الَّذِي مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ فَمَعْنَاهُ أَحْسَنُ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ .

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ { بِرَبِّ النَّاسِ } { مَلِكِ النَّاسِ } { إلَهِ النَّاسِ } فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَسْتَعِيذَ النَّاسُ بِرَبِّهِمْ وَمَلِكِهِمْ وَإِلَهِهِمْ مِنْ شَرِّ مَا يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِهِمْ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْهُ الْخَيْرُ الَّذِي يَنْفَعُهُمْ وَيُطْلَبُ مِنْهُ دَفْعُ الشَّرِّ الَّذِي يَضُرُّهُمْ وَالْوَسْوَاسُ أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ يَضُرُّهُمْ ؛ لِأَنَّهُ مَبْدَأٌ لِلْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَعُقُوبَاتُ الرَّبِّ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمْ ذَنْبٌ فَكُلُّ مَا يُصِيبُهُ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهِ وَإِذَا اُبْتُلِيَ بِمَا يُؤْلِمُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ دَرَجَتَهُ وَيَأْجُرُهُ إذَا قُدِّرَ عَدَمُ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ مِنْهُمْ فَإِنَّ كُلَّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَاطِئِينَ التَّوَّابُونَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . فَغَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْأَنْبِيَاءِ فَمِنْ دُونِهِمْ هِيَ التَّوْبَةُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ : نُوحٌ { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ مُوسَى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } وَدُعَاءُ نَبِيِّنَا بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ .

فَكَانَ الْوَسْوَاسُ مَبْدَأَ كُلِّ شَرٍّ فَإِنْ كَانُوا قَدْ اسْتَعَاذُوا بِرَبِّهِمْ وَمَلِكِهِمْ وَإِلَهِهِمْ مِنْ شَرِّهِ فَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ وَسْوَاسُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَسَائِرُ شَرِّ الْإِنْسِ إنَّمَا يَقَعُ بِذُنُوبِهِمْ فَهُوَ جَزَاءٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ كَالشَّرِّ الَّذِي يَقَعُ مِنْ الْجِنِّ بِغَيْرِ الْوَسْوَاسِ وَكَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَهُمْ لَمْ يَسْتَعِيذُوا هُنَا مِنْ شَرِّ الْمَخْلُوقَاتِ مُطْلَقًا كَمَا اسْتَعَاذُوا فِي سُورَةِ الْفَلَقِ بَلْ مِنْ الشَّرِّ الَّذِي يَكُونُ مَبْدَؤُهُ فِي نُفُوسِهِمْ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ رَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إلَهِ النَّاسِ يَسْتَعِيذُونَ بِهِ لِيُعِيذَهُمْ وَلِيُعِيذَ مِنْهُمْ وَهَذَا أَعَمُّ الْمَعْنَيَيْنِ فَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِعَاذَتِهِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْمُوَسْوِسِ فِي صُدُورِ النَّاسِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُوَسْوِسُ بِظُلْمِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَبِإِغْوَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَبِإِعَانَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . فَمَا حَصَلَ لِإِنْسِيِّ شَرٌّ مِنْ إنْسِيٍّ إلَّا كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنْ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وَإِلَّا فَمَا يَحْصُلُ مِنْ أَذَى بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوَسْوَاسِ بَلْ كَانَ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ كَانَ عَدْلًا كَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالِاقْتِصَاصِ مِنْ الظَّالِمِينَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ فِيهَا ضَرَرٌ وَأَذًى لِلظَّالِمِينَ مِنْ الْإِنْسِ لَكِنَّ هِيَ بِوَحْيِ اللَّهِ لَا مِنْ الْوَسْوَاسِ وَهِيَ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ فِي حَقِّ عِبَادِهِ حَتَّى فِي حَقِّ الْمُعَاقَبِ فَإِنَّهُ إذَا عُوقِبَ كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَإِلَّا كَانَ تَخْفِيفًا لِعَذَابِهِ فِي الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَذَابِ مَنْ لَمْ يُعَاقَبْ فِي الدُّنْيَا .

وَلِهَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحْمَةً فِي حَقِّ الْعَالَمِينَ بِاعْتِبَارِ مَا حَصَلَ مِنْ الْخَيْرِ الْعَامِّ بِهِ وَمَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ رَحْمَةٌ فَمِنْ قَبْلِهَا وَإِلَّا كَانَ هُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَمَعَ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فَنَقَصَ شَرَّهُمْ وَعَجَزُوا عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِدُونِهِ وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَكَانَ تَعْجِيلُ مَوْتِهِمْ خَيْرًا مِنْ طُولِ عُمْرِهِمْ فِي الْكُفْرِ لَهُمْ وَلِلنَّاسِ فَكَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ فَلَا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ وَمِنْ أَمْثَالِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ مِنْ النَّاسِ وَإِنْ كَانُوا يَفْعَلُونَ بِأَعْدَائِهِمْ مَا هُوَ أَذًى وَعُقُوبَةٌ وَأَلَمٌ لَهُمْ فَلَمْ تَبْقَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ النَّاسِ إلَّا مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْوَسْوَاسُ إلَيْهِمْ فَيُسْتَعَاذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إلَهِ النَّاسِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ لِلْمُسْتَعِيذِ وَمِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ لِسَائِرِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَحْصُلَ مِنْهُمْ شَرٌّ لِلْمُسْتَعِيذِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ شَرٌّ إلَّا مِنْ الْوَسْوَاسِ كَانَتْ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ الَّذِي يُوَسْوِسُ لَهُمْ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ وَكَانَ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ وَأَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ وَكَانَ مَخْرَجًا لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْ شَرِّهِمْ وَأَنْ يُقْرَنُوا بِالْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْضِيلًا لِلْجِنِّ عَلَى الْإِنْسِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَ أَصْلُ الشَّرِّ كُلِّهِ مِنْ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ فَلَا حَاجَةَ

إلَى ذِكْرِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ وَسْوَاسِ النَّاسِ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِوَسْوَاسِ الْجِنِّ . قِيلَ : بَلْ الْوَسْوَسَةُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ مِنْ الْجِنِّ وَنَوْعٌ مِنْ نُفُوسِ الْإِنْسِ . كَمَا قَالَ : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } فَالشَّرُّ مِنْ الْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا وَالْإِنْسُ لَهُمْ شَيَاطِينُ كَمَا لِلْجِنِّ شَيَاطِينُ وَالْوَسْوَسَةُ مِنْ جِنْسِ الْوَشْوَشَةِ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ يُقَالُ فُلَانٌ يُوَشْوِشُ فُلَانًا وَقَدْ وَشْوَشَهُ إذَا حَدَّثَهُ سِرًّا فِي أُذُنِهِ وَكَذَلِكَ الْوَسْوَسَةُ وَمِنْهُ وَسْوَسَةُ الْحُلِيِّ لَكِنْ هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَخَصُّ . و رَبُّ النَّاسِ : الَّذِي يُرَبِّيهِمْ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ - وَتَدْبِيرِهِ وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ فَهُوَ الْخَالِقُ لِلْجَمِيعِ وَلِأَعْمَالِهِمْ . { مَلِكِ النَّاسِ } الَّذِي يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فَإِنَّ الْمَلِكَ يَتَصَرَّفُ بِالْكَلَامِ وَالْجَمَادُ لَا مَلِكَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ لَكِنْ لَهُ مَالِكٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَلِكُ لِمَنْ يَفْهَمُ عَنْهُ وَالْحَيَوَانُ يَفْهَمُ بَعْضَهُ عَنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ } . فَلِهَذَا كَانَ لَهُ مَلِكٌ مِنْ جِنْسِهِ وَمِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا كَانَ سُلَيْمَانُ مَلِكَهُمْ . وَالْإِلَهُ : هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ كُلِّهَا كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّمَا خَصَّ النَّاسَ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَعِيذُونَ أَوْ لِأَنَّهُمْ

الْمُسْتَعَاذُ مِنْ شَرِّهِمْ ذَكَرَهُمَا أَبُو الْفَرَجِ وَلَيْسَ لَهُمَا وَجْهٌ فَإِنَّ وَسْوَاسَ الْجِنِّ أَعْظَمُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بَلْ ذَكَرَ النَّاسّ لِأَنَّهُمْ الْمُسْتَعِيذُونَ فَيَسْتَعِيذُونَ بِرَبِّهِمْ الَّذِي يَصُونُهُمْ وَبِمَلِكِهِمْ الَّذِي أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَبِإِلَهِهِمْ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ مِنْ شَرِّ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَعِيذُونَ أَيْضًا مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْهُمْ وَمِنْ الْجِنَّةِ فَإِنَّهُ أَصْلُ الشَّرِّ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُمْ وَاَلَّذِي يَرُدُّ عَلَيْهِمْ .
فَصْلٌ :
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ بَعْضُ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ وَاَلَّتِي قَبِلَهَا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعِذْ الْمُسْتَعِيذُونَ بِمِثْلِهِمَا فَإِنَّ الْوَسْوَاسَ أَصْلُ كُلِّ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ فَهُوَ أَصْلُ الشَّرِّ كُلِّهِ فَمَتَى وُقِيَ الْإِنْسَانُ شَرَّهُ وَقَى عَذَابَ جَهَنَّمَ وَعَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَةَ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِطَرِيقِ الْوَسْوَاسِ وَوُقِيَ عَذَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعَذَّبُ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَصْلُهَا مِنْ الْوَسْوَاسِ ثُمَّ إنْ دَخَلَ فِي الْآيَةِ وَسْوَاسٌ غَيْرُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ قَوْلُهُ { مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ } اسْتِعَاذَةً مِنْ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ وَاَلَّذِي يَعْرِضُ لِلنَّاسِ بِسَبَبِهِ فَقَدْ وَقَى ظُلْمَهُمْ وَإِنْ كَانَ

إنَّمَا يُرِيدُ وَسْوَاسَهُ فَهُمْ إنَّمَا يُسَلِّطُونَ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ وَهِيَ مِنْ وَسْوَاسِهِ قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وَقَالَ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } . وَالْوَسْوَاسُ مِنْ جِنْسِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ { مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } قَالُوا : مَا تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسُهُ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } . وَهُوَ نَوْعَانِ : خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ . فَالْخَبَرُ : إمَّا عَنْ مَاضٍ وَإِمَّا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ . فَالْمَاضِي يُذَكِّرُهُ بِهِ وَالْمُسْتَقْبَلُ يُحَدِّثُهُ بِأَنْ يَفْعَلَ هُوَ أُمُورًا أَوْ أَنَّ أُمُورًا سَتَكُونُ بِقَدَرِ اللَّهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ فَهَذِهِ الْأَمَانِيُّ وَالْمَوَاعِيدُ الْكَاذِبَةُ وَالْإِنْشَاءُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِبَاحَةٌ . وَالشَّيْطَانُ تَارَةً يُحَدِّثُ وَسْوَاسَ الشَّرِّ وَتَارَةً يَنْسَى الْخَيْرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَا يَشْغَلُهُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ . قَالَ تَعَالَى فِي النِّسْيَانِ :

{ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ فَتَى مُوسَى : { فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إلَّا الشَّيْطَانُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ فَيَقُولُ : اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى } فَالشَّيْطَانُ ذَكَرَهُ بِأُمُورٍ مَاضِيَةٍ حَدَّثَ بِهَا نَفْسَهُ مِمَّا كَانَتْ فِي نَفْسِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمِنْ غَيْرِ أَفْعَالِهِ فَبِتِلْكَ الْأُمُورِ نَسِيَ الْمُصَلِّي كَمْ صَلَّى وَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى فَإِنَّ النِّسْيَانَ أَزَالَ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ الذِّكْرِ وَشَغَلَهَا بِأَمْرٍ آخَرَ حَتَّى نَسْي الْأَوَّلَ . وَأَمَّا إخْبَارُهُ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْمَوَاعِيدِ وَالْأَمَانِيِّ فَكَقَوْلِهِ : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمْرُهُ وَوَعْدُهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا } { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا } { أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ

وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا } وَقَالَ تَعَالَى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فَفِي هَذِهِ أَيْضًا أَمْرُهُ وَوَعْدُهُ . وَقَالَ مُوسَى لَمَّا قَتَلَ الْقِبْطِيَّ : { هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا يَقُولُونَهُ بِاجْتِهَادِهِمْ : إنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ . فَجَعَلُوا مَا يُلْقَى فِي النَّفْسِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَابِقَةً مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا آثِمًا لِأَنَّهُ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ كَمَا لَا يَأْثَمُ بِالْوَسْوَاسِ الَّذِي يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَا بِمَا يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ وَقَدْ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْت . وَالنِّسْيَانُ لِلْحَقِّ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالْخَطَأُ مِنْ الشَّيْطَانِ . قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } وَلَمَّا نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ قَالَ : لِأَصْحَابِهِ : { ارْتَحِلُوا فَإِنَّ هَذَا مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ شَيْطَانٌ } وَقَالَ : { إنَّ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا فَجَعَلَ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدِّئُ الصَّبِيَّ حَتَّى نَامَ }

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ بِلَالًا أَنْ يُوقِظَهُمْ عِنْدَ الْفَجْرِ وَالنَّوْمِ الَّذِي يَشْغَلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ وَالنُّعَاسُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : النُّعَاسُ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَذَلِكَ الِاحْتِلَامُ فِي الْمَنَامِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنَّائِمُ لَا قَلَمَ عَلَيْهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ : رُؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَرُؤْيَا مَا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ فَيَرَاهُ فِي النَّوْمِ } وَقَدْ قِيلَ : إنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِيرِين لَكِنَّ تَقْسِيمَ الرُّؤْيَا إلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ مِنْ اللَّهِ وَنَوْعٌ مِنْ الشَّيْطَانِ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا رَيْبٍ . فَهَذَانِ النَّوْعَانِ : مِنْ وَسْوَاسِ النَّفْسِ وَمِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ وَكِلَاهُمَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ فَإِنَّ النَّائِمَ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ وَوَسْوَاسُ الشَّيْطَانِ يَغْشَى الْقَلْبَ كَطَيْفِ الْخَيَالِ فَيُنْسِيهِ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْمَى عَنْ الْحَقِّ فَيَقَعُ فِي الْبَاطِلِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ كَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَسَّهُمْ بِطَيْفٍ مِنْهُ يَغْشَى الْقَلْبَ وَقَدْ يَكُونُ لَطِيفًا وَقَدْ يَكُونُ كَثِيفًا إلَّا أَنَّهُ غِشَاوَةٌ عَلَى الْقَلْبِ تَمْنَعُهُ إبْصَارُ الْحَقِّ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ . فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ

الران الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } } . لَكِنَّ طَيْفَ الشَّيْطَانِ غَيْرُ رَيْنِ الذُّنُوبِ هَذَا جَزَاءٌ عَلَى الذَّنَبِ وَالْغَيْنِ أَلْطَفُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً } فَالشَّيْطَانُ يُلْقِي فِي النَّفْسِ الشَّرَّ وَالْمَلَكُ يُلْقِي الْخَيْرَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَقَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ . قَالُوا : وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : وَإِيَّايَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرِ } أَيْ اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ . وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَة يَرْوِيه فَأَسْلَمَ بِالضَّمِّ وَيَقُولُ : إنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُسْلِمُ لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ يَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَهَذَا إسْلَامُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ خُضُوعِهِ وَذِلَّتِهِ لَا عَنْ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ كَمَا يَقْهَرُ الرَّجُلُ عَدُوَّهُ الظَّاهِرَ وَيَأْسِرُهُ وَقَدْ عَرَفَ الْعَدُوَّ الْمَقْهُورَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَاهِرَ يَعْرِفُ مَا يُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ . فَلَا يَقْبَلُهُ بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ لِانْقِهَارِهِ مَعَهُ إلَى أَنَّهُ لَا يُشِيرُ عَلَيْهِ إلَّا بِخَيْرٍ لِذِلَّتِهِ وَعَجْزِهِ لَا لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرِ } وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ

وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ . وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبُ بِالْحَقِّ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاؤُهُ بِمَا يَقْذِفُ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الْمُرْعِبَةِ كَشَيْطَانِ الْإِنْسِ الَّذِي يُخَوِّفُ مِنْ الْعَدُوِّ فَيَرْجُفُ وَيَخْذُلُ . وَعَكْسُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } وَالتَّثَبُّتُ جَعَلَ الْإِنْسَانَ ثَابِتًا لِأَمْرِ تَابَا وَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ مَا يُثْبِتُهُ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ وَالْوَعْدِ بِالْخَيْرِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَمَّةُ الْمَلَكِ وَعْدٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فمتى عَلِمَ الْقَلْبُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ صَدَّقَهُ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَهُ بِالتَّصْدِيقِ وَثِقَ بِوَعْدِ اللَّهِ فَثَبَتَ فَهَذَا يَثْبُتُ بِالْكَلَامِ كَمَا يُثَبِّتُ الْإِنْسَانُ الْإِنْسَانَ فِي أَمْرٍ قَدْ اضْطَرَبَ فِيهِ بِأَنْ يُخْبِرَهُ بِصِدْقِهِ وَيُخْبِرَهُ . بِمَا يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ مَنْصُورٌ فَيَثْبُتُ وَقَدْ يَكُونُ التَّثَبُّتُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يُمْسِكَ الْقَلْبَ حَتَّى يَثْبُتَ كَمَا يَمْسِكُ الْإِنْسَانُ الْإِنْسَانَ حَتَّى يَثْبُتَ . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } فَهَذَا الْمَلَكُ يَجْعَلُهُ سَدِيدَ الْقَوْلِ بِمَا يُلْقِي

فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ وَالْوَعْدِ بِالْخَيْرِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ سَبَبٌ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَقَدْ ذَكَرَ إخْرَاجَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ فِي غَيْرِ آيَةٍ . كَقَوْلِهِ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ } وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ } وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا بِتَعْلِيمِهِ الْخَيْرَ يُخْرِجُ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَلِهَذَا كَانَ الرَّسُولُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكَمَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } . وَالصَّلَاةُ هِيَ الدُّعَاءُ إمَّا بِخَيْرٍ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ وَإِمَّا بِصِيغَةِ الدُّعَاءِ فَالْمَلَائِكَةُ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَالْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ } فَبَيَّنَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ قَوْلُهُمْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ . وَفِي الْأَثَرِ { إنَّ الرَّبَّ يُصَلِّي فَيَقُولُ : سَبَقَتْ - أَوْ غَلَبَتْ - رَحْمَتِي غَضَبِي }

وَهَذَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الرَّحْمَةَ تَسْبِقُ الْغَضَبَ وَتَغْلِبُهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَدْعُو غَيْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا يَدْعُوهُ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْخَلْقِ بَلْ طَلَبَهُ بِأَمْرِهِ وَقَوْلُهُ وَقَسَمِهِ كَقَوْلِهِ : لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . وَقَوْلُهُ : كُنْ فَيَكُونُ ؛ وَقَوْلِهِ : لَأَفْعَلَنَّ كَذَا قَسَمٌ مِنْهُ كَقَوْلِهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ } وَقَوْلِهِ : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } وَقَوْلِهِ : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَهَذَا وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فَإِنَّ هَذَا وَعْدٌ وَخَبَرٌ لَيْسَ فِيهِ قَسَمٌ لَكِنَّهُ مُؤَكَّدٌ بِاللَّامِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ جَوَابَ قَسَمٍ وَقَوْلِهِ : { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَعْدٌ مُجَرَّدٌ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُوحِي إلَى الْبَشَرِ تَارَةً وَحْيًا مِنْهُ وَتَارَةً يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِي إلَى الرَّسُولِ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ .

وَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ . وَلَفْظُ الْمَلَكِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ فَإِنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مَلْأَك عَلَى وَزْنِ مفعل لَكِنْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ خُفِّفَتْ . بِأَنْ أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَحُذِفَتْ الْهَمْزَةُ وَمَلَاك مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَأْلُك وَالْمَلْأَك بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ وَاللَّامِ عَلَى الْهَمْزَةِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَكَذَلِكَ الْأَلُوكَةُ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ قَالَ الشَّاعِرُ :
أَبْلِغْ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكًا * * * أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي
وَهَذَا بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ . لَكِنَّ الْمَلَكَ هُوَ بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْهَمْزَةِ وَهَذَا أَجْوَدُ فَإِنَّ نَظِيرَهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ لَاكَ يَلُوكُ إذَا لَاكَ الْكَلَامَ وَاللِّجَامَ وَالْهَمْزُ أَقْوَى مِنْ الْوَاوِ وَيَلِيهِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ : أَكَلَ يَأْكُلُ فَإِنَّ الْآكِلَ يَلُوكُ مِمَّا يَدْخُلُهُ فِي جَوْفِهِ مِنْ الْغِذَاءِ وَالْكَلَامِ وَالْعِلْمِ مَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِنِ وَيُغَذِّي بِهِ صَاحِبَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَإِنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ الْقُرْآنُ . وَالْآدِبُ الْمُضِيفُ وَالْمَأْدُبَةُ الضِّيَافَةُ وَهُوَ مَا يُجْعَلُ مِنْ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ . فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ ضَيَّفَ عِبَادَهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ فَهُوَ غِذَاءُ قُلُوبِهِمْ وَقُوتِهَا وَهُوَ أَشَدُّ انْتِفَاعًا بِهِ وَاحْتِيَاجًا إلَيْهِ مِنْ الْجَسَدِ بِغِذَائِهِ . وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرَّبَّانِيُّونَ هُمْ الَّذِينَ يُغَذُّونَ النَّاسَ بِالْحِكْمَةِ

وَيُرَبُّونَهُمْ عَلَيْهَا وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي أَبِيت عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَالنَّاسُ إلَى الْغِذَاءِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إلَى الشِّفَاءِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَشَرِبَ النَّاسُ وَسَقُوا وَزَرَعُوا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً . فَذَلِكَ مِثْلُ مِنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَمَثَلُ مِنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا بُعِثَ بِهِ لِلْقُلُوبِ كَالْمَاءِ لِلْأَرْضِ تَارَةً تَشْرَبُهُ فَتَنْبُتُ وَتَارَةً تَحْفَظُهُ وَتَارَةً لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَالْأَرْضُ تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتُغْتَذَى بِهِ حَتَّى يَحْصُلَ الْخَيْرُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ رُوحٌ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ فَقَالَ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَإِذَا كَانَ مَا يُوحِيهِ إلَى عِبَادِهِ تَارَةً يَكُونُ بِوَسَاطَةِ مَلَكٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ وَسَاطَةٍ فَهَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ مُطْلَقًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ . قَالَ

تَعَالَى : { وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } وَإِذَا كَانَ قَدْ قَالَ : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ } الْآيَةَ . فَذَكَرَ أَنَّهُ يُوحِي إلَيْهِمْ فَإِلَى الْإِنْسَانِ أَوْلَى وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى لِلنَّفْسِ وَالْفُجُورُ يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ إلْهَامُ وَسْوَاسٍ وَالتَّقْوَى بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ وَهُوَ إلْهَامُ وَحْيٍ هَذَا أَمْرٌ بِالْفُجُورِ وَهَذَا أَمْرٌ بِالتَّقْوَى وَالْأَمْرُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ خَبَرٌ .
وَقَدْ صَارَ فِي الْعُرْفِ لَفْظُ الْإِلْهَامِ إذَا أُطْلِقَ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَسْوَسَةُ . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ إلْهَامِ الْوَحْي وَبَيْنَ الْوَسْوَسَةِ . فَالْمَأْمُورُ بِهِ إنْ كَانَ تَقْوَى اللَّهِ فَهُوَ مِنْ إلْهَامِ الْوَحْيِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُجُورِ فَهُوَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ . فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِلْهَامِ الْمَحْمُودِ وَبَيْنَ الْوَسْوَسَةِ الْمَذْمُومَةِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا أُلْقِيَ فِي النَّفْسِ مِمَّا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَقْوَى لِلَّهِ فَهُوَ مِنْ الْإِلْهَامِ الْمَحْمُودِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ فُجُورٌ فَهُوَ مِنْ الْوَسْوَاسِ الْمَذْمُومِ وَهَذَا الْفَرْقُ مُطَّرِدٌ لَا يَنْتَقِضُ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَازِمٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ وَسْوَسَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ فَقَالَ : مَا كَرِهَتْهُ

نَفْسُك لِنَفْسِك فَهُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَمَا أَحَبَّتْهُ نَفْسُك لِنَفْسِك فَهُوَ مِنْ نَفْسِك فَانْهَهَا عَنْهُ .
وَقَدْ تَكَلَّمَ النُّظَّارُ فِي الْعِلْمِ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ عَقِبَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ - فِي مُسْتَصْفَاهُ - وَغَيْرُهُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَقَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ وَقَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَا يَذْكُرُ إلَّا الْقَوْلَيْنِ : قَوْلَ الْجَهْمِيَّة وَقَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ يَعْرِفُونَهُ تَكَلَّمَ فِي هَذَا وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا هَؤُلَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ فُرُوعِ الْقَدَرِ فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِي نَفْسٍ حَادِثٍ فِيهَا فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْأَقْوَالِ فِي أَمْثَالِهِ . وَمَذْهَبُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُثَبِّتَةِ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَكِنَّهُ لَا يَثْبُتُ سَبَبًا وَلَا قُدْرَةً مُؤَثِّرَةً وَلَا حِكْمَةً لِفِعْلِ الرَّبِّ فَأَنْكَرَ الطَّبَائِعَ وَالْقُوَى الَّتِي فِي الْأَعْيَانِ وَأَنْكَرَ الْأَسْبَابَ وَالْحُكْمَ فَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ لِشَيْءِ سَبَبًا . بَلْ يَقُولُ هَذَا حَاصِلٌ بِخَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُ سَبَبًا وَهُمْ صَادِقُونَ فِي

إضَافَتِهِ إلَى قَدَرِهِ وَأَنَّهُ خَالِقُهُ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ لَكِنَّ مِنْ تَمَامِ الْمَعْرِفَةِ إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَمَعْرِفَتُهَا . وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ : فَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا تَوَلَّدَ عَنْ فِعْلِ الْعَبْدِ فَهُوَ فِعْلُهُ لَا يُضَافُ إلَى غَيْرِهِ كَالشِّبَعِ وَالرِّيِّ وَزَهُوقِ الرُّوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالُوا : هَذَا الْعِلْمُ مُتَوَلَّدٌ عَنْ نَظَرِ الْعَبْدِ أَوْ تَذَكُّرِ النَّظَرِ . والمتفلسفة بَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ : فِي أَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الصُّوَرِ هُوَ مِنْ فَيْضِ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عِنْدَ اسْتِعْدَادِ الْمَوَادِّ الْقَابِلَةِ فَقَالُوا : يَحْصُلُ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ مِنْ فَيْضِ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عِنْدَ اسْتِعْدَادِ النَّفْسِ بِاسْتِحْضَارِ الْمُقْدِمَتَيْنِ وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَقْرَبُ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَحْقِيقُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ . وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالْإِنْسِ مَلَائِكَةً وَشَيَاطِينَ يُلْقُونَ فِي قُلُوبِهِمْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَالْعِلْمُ الصَّادِقُ مِنْ الْخَيْرِ وَالْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ مِنْ الشَّرِّ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَمَّةُ الْمَلَكِ تَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ تَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَكَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَاضِي : أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } وَكَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُوحِي إلَى الْبَشَرِ مَا تُوحِيهِ وَإِنْ كَانَ الْبَشَرُ لَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ مِنْ الْمَلَكِ كَمَا لَا يَشْعُرُ بِالشَّيْطَانِ الْمُوَسْوِسِ

لَكِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُكَلِّمُ الْبَشَرَ وَحْيًا وَيُكَلِّمُهُ بِمَلَكِ يُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ وَالثَّالِثُ التَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : الْمُرَادُ بِالْوَحْيِ هُنَا الْوَحْيُ فِي الْمَنَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو الْفَرَجِ غَيْرَهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَإِنَّ الْمَنَامَ تَارَةً يَكُونُ مِنْ اللَّهِ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ النَّفْسِ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهَكَذَا مَا يُلْقَى فِي الْيَقَظَةِ . وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ . وَلِهَذَا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيًا كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَقَرَأَ قَوْلَهُ : { إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَأَى رُؤْيَا كَانَتْ وَحْيًا فَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَلْقِي فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ يَكُونُ وَحْيًا وَالْإِنْسَانُ قَدْ تَكُونُ نَفْسُهُ فِي يَقَظَتِهِ أَكْمَلَ مِنْهَا فِي نَوْمِهِ كَالْمُصَلِّي الَّذِي يُنَاجِي رَبَّهُ فَإِذَا جَازَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ فِي حَالِ النَّوْمِ فَلِمَاذَا لَا يُوحَى إلَيْهِ فِي حَالِ الْيَقَظَةِ كَمَا أَوْحَى إلَى أُمِّ مُوسَى وَالْحَوَارِيِّينَ وَإِلَى النَّحْلِ لَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطْلِقَ الْقَوْلَ عَلَى مَا يَقَعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ وَحْيٌ لَا فِي يَقَظَةٍ وَلَا فِي الْمَنَامِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَسْوَاسَ غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامُ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ : فِي ( سُورَةِ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ )
فِي ( الْفَلَقِ ) أَقْوَالٌ تَرْجِعُ إلَى تَعْمِيمٍ وَتَخْصِيصٍ فَإِنَّهُ فُسِّرَ بِالْخَلْقِ عُمُومًا وَفُسِّرَ بِكُلِّ مَا يُفْلَقُ مِنْهُ كَالْفَجْرِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى وَهُوَ غَالِبُ الْخَلْقِ وَفُسِّرَ بِالْفَجْرِ . وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِالنَّارِ أَوْ بِجُبِّ أَوْ شَجَرَةٍ فِيهَا فَهَذَا مَرْجِعُهُ إلَى التَّوْقِيفِ . ( وَالْغَاسِقُ ) قَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ عَائِشَةَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِي { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ وَقَالَ لَهَا : يَا عَائِشَةُ تَعَوَّذِي بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا فَهَذَا الْغَاسِقُ إذَا وَقَبَ } قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ ( الْغَاسِقُ ) : الْقَمَرُ إذَا كَسَفَتْ فَاسْوَدَّ وَمَعْنَى وَقَبَ دَخَلَ فِي الْكُسُوفِ . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ أَنَّ ( الْغَاسِقَ ) اللَّيْلُ ، ( وَقَبَ ) : دَخَلَ

فِي كُلِّ شَيْءٍ فَأَظْلَمَ وَ " الْغَسَقُ " الظُّلْمَةُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ . ( الْغَاسِقُ الْبَارِدُ فَقِيلَ لِلَّيْلِ غَاسِقٌ ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنْ النَّهَارِ أَوْ يُقَالُ الْغَسَقُ السَّيَلَانُ وَالْإِحَاطَةُ وَغَسَقُ اللَّيْلِ سَيَلَانُهُ وَإِحَاطَتُهُ بِالْأَرْضِ وَإِذَا فُسِّرَ بِالْقَمَرِ فَقَدْ يُقَالُ وُقُوبُهُ أَيْ دُخُولُهُ وَهُوَ دُخُولُهُ فِي الْكُسُوفِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ تَفْسِيرِهِ بِاللَّيْلِ وَبِالْقَمَرِ فَإِنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ فَهُنَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ : اللَّيْلُ مُطْلَقًا ثُمَّ الْقَمَرُ مُطْلَقًا ثُمَّ الْقَمَرُ حَالَ كُسُوفِهِ . وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْمُسْتَعَاذِ بِهِ فَإِنَّ عُمُومَ الْفَلَقِ لِلْخَلْقِ بِإِزَاءِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَخُصُوصُهُ بِالْفَجْرِ الَّذِي هُوَ ظُهُورُ النُّورِ بِإِزَاءِ الْغَاسِقِ إذَا وَقَبَ الَّذِي هُوَ دُخُولُ الظَّلَامِ . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الْغَاسِقُ : الثُّرَيَّا إذَا سَقَطَتْ وَكَانَتْ الْأَسْقَامُ وَالطَّوَاعِينُ تَكْثُرُ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَقَدْ تَقَعُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ النُّورَ هُوَ جِنْسُ الْخَيْرِ وَالظُّلْمَةُ جِنْسُ الشَّرِّ وَفِي اللَّيْلِ يَقَعُ مِنْ الشُّرُورِ النَّفْسَانِيَّةِ مَا لَا يَقَعُ فِي النَّهَارِ وَالْقَمَرُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَرْضِ لَا سِيَّمَا حَالَ كُسُوفِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّهُمَا آيَتَانِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ } وَالتَّخْوِيفُ إنَّمَا يَكُونُ بِانْعِقَادِ سَبَبِ الْخَوْفِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ سَبَبِ الْعَذَابِ أَوْ مَظِنَّتِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْكُسُوفَ مَظِنَّةُ حُدُوثِ عَذَابٍ بِأَهْلِ الْأَرْضِ ؛

وَلِهَذَا شَرَعَ عِنْدَ الْكُسُوفِ الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْعَتَاقَةَ وَالدُّعَاءَ لِدَفْعِ الْعَذَابِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ إنْشَاءُ الْعَذَابِ كَالزَّلْزَلَةِ وَظُهُورِ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهُوَ أَقْرَبُ الْكَوَاكِبِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْأَرْضِ بِالتَّرْطِيبِ وَالْيُبْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ الطَّالِبُونَ لِلْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ مِنْ الْكَوَاكِبِ إنَّمَا يَأْخُذُونَ الْأَحْدَاثَ بِحَسَبِ سَيْرِ الْقَمَرِ فَإِذَا كَانَ فِي شَرَفِهِ كَالسَّرَطَانِ كَانَ الْوَقْتُ عِنْدَهُمْ سَعِيدًا وَإِذَا كَانَ فِي الْعَقْرَبِ وَهُوَ هُبُوطُهُ كَانَ نَحْسًا فَهَذَا فِي عِلْمِهِمْ وَكَذَلِكَ فِي عَمَلِهِمْ مِنْ السِّحْرِ وَغَيْرِهِ : الْقَمَرُ أَقْرَبُ الْمُؤَثِّرَاتِ حَتَّى صَنَّفُوا " مُصْحَفَ الْقَمَرِ " لِعِبَادَتِهِ وَتَسْبِيحِهِ فَوَقَعَ تَرْتِيبُ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى كَمَالِ التَّرْتِيبِ انْتِقَالًا مِنْ الْأَعَمِّ الْأَعْلَى الْأَبْعَدِ إلَى الْأَخَصِّ الْأَقْرَبِ الْأَسْفَلِ فَجُعِلَتْ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ . الْأَوَّلُ : مِنْ شَرِّ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَقَوْلُ الْحَسَنِ : إنَّهُ إبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّهُ جَهَنَّمُ : ذُكِرَ لِلشَّرِّ الَّذِي هُوَ لَنَا شَرٌّ مَحْضٌ مِنْ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ . وَالثَّانِي : شَرُّ الْغَاسِقِ إذَا وَقَبَ فَدَخَلَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ مِنْ الْعَلَوِيَّاتِ فِي السُّفْلَيَاتِ مِنْ اللَّيْلِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْكَوَاكِبِ كَالثُّرَيَّا وَسُلْطَانِهِ الَّذِي هُوَ الْقَمَرُ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ سِحْرُ التمرسحات (1) الَّذِي هُوَ أَعْلَى السِّحْرِ وَأَرْفَعُهُ .

الثَّالِثُ : شَرُّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَهُنَّ السَّوَاحِرُ اللَّوَاتِي يَتَصَوَّرْنَ بِأَفْعَالٍ فِي أَجْسَامٍ . وَالرَّابِعُ : الْحَاسِدُ وَهِيَ النُّفُوسُ الْمُضِرَّةُ سَفَهًا فَانْتَظَمَ بِذَلِكَ جَمِيعُ أَسْبَابِ الشُّرُورِ ثُمَّ خَصَّ فِي " سُورَةِ النَّاسِ " الشَّرَّ الصَّادِرَ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَهُمْ الْأَرْوَاحُ الْمُضِرَّةُ .
فَصْلٌ :
وَتَظْهَرُ الْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ هُوَ الشَّرُّ كَمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْخَيْرُ : إمَّا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ وَمَبْدَأُ فِعْلِهِ لِلشَّرِّ هُوَ الْوَسْوَاسُ الَّذِي يَكُونُ تَارَةً مِنْ الْجِنِّ وَتَارَةً مِنْ الْإِنْسِ وَحَسْمُ الشَّرِّ بِحَسْمِ أَصْلِهِ وَمَادَّتِهِ أَجْوَدُ مِنْ دَفْعِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَإِذَا أُعِيذَ الْعَبْدُ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي الصُّدُورِ فَقَدْ أُعِيذَ مِنْ شَرِّ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَهَذَا فِي فِعْلِ نَفْسِهِ وَتَعُمُّ الْآيَةُ أَيْضًا فِعْلَ غَيْرِهِ لِسُوءِ مَعَهُ فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ لِلشَّرِّ الصَّادِرِ مِنْ الْعَبْدِ وَأَمَّا الشَّرُّ الصَّادِرُ مِنْ غَيْرِهِ فَسُورَةُ ( الْفَلَقِ ) فَإِنَّ فِيهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَخُصُوصًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْسَابِعِ عَشْرَ

الْجُزْءُ الْثَّامِنِ عَشَرَ
كِتَابُ الْحَدِيثِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .
سُؤَالٌ وَرَدَ عَلَى الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ السَّائِلُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
يَا مُتْقِنًا عِلْمَ الْحَدِيثِ وَمَنْ رَوَى * * * سُنَنَ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ
أَصْبَحْت فِي الْإِسْلَامِ طَوْدًا رَاسِخًا * * * يَهْدِي بِهِ وَعُدِدْت فِي الْأَحْبَارِ
هذي مَسَائِلُ أُشْكِلَتْ فَتَصَدَّقُوا * * * بِبَيَانِهَا يَا نَاقِلِي الْأَخْبَارِ
فَالْمُسْتَعَانُ عَلَى الْأُمُورِ بِأَهْلِهَا * * * إنْ أُشْكِلَتْ قَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ
[ وَلَكُمْ كَأَجْرِ الْعَامِلِينَ بِسُنَّتِهِ * * * حِينَ سُئِلْتُمُو يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ] (*)

الْأُولَى : مَا حَدُّ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ ؟ أَهُوَ مَا قَالَهُ فِي عُمْرِهِ أَوْ بَعْدَ الْبَعْثَةِ أَوْ تَشْرِيعًا ؟ . الثَّانِيَةُ : مَا حَدُّ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ ؟ وَهَلْ هُوَ كَالسُّورَةِ أَوْ كَالْآيَةِ أَوْ كَالْجُمْلَةِ ؟ . الثَّالِثَةُ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ هَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَمْ لَا ؟ . الرَّابِعَةُ : تَقْسِيمُ الْحَدِيثِ إلَى صَحِيحٍ وَحَسَنٍ وَضَعِيفٍ تَسْمِيَةً صَحِيحَةً أَوْ مُتَدَاخِلَةً ؟ . الْخَامِسَةُ : مَا الْحَدِيثُ الْمُكَرَّرُ الْمُعَادُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ ؟ وَهَلْ هُوَ كَالْقِصَصِ الْمُكَرَّرَةِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ؟ . السَّادِسَةُ : كَمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ حَدِيثٌ بِالْمُكَرَّرِ ؟ وَكَمْ دُونَهُ ؟ وَكَمْ فِي مُسْلِمٍ حَدِيثٌ بِهِ وَدُونَهُ ؟ وَعَلَى كَمْ حَدِيثٍ اتَّفَقَا ؟ وَبِكَمْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ ؟ .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ هُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ

إلَى مَا حُدِّثَ بِهِ عَنْهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ : مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ ؛ فَإِنَّ سُنَّتَهُ ثَبَتَتْ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ . فَمَا قَالَهُ إنْ كَانَ خَبَرًا وَجَبَ تَصْدِيقُهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ تَشْرِيعًا إيجَابًا أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ إبَاحَةً وَجَبَ اتِّبَاعُهُ فِيهِ ؛ فَإِنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ إلَّا حَقًّا وَهَذَا مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ اللَّهَ يُنَبِّئُهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّهُ يُنَبِّئُ النَّاسَ بِالْغَيْبِ وَالرَّسُولُ مَأْمُورٌ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ وَتَبْلِيغِهِمْ رِسَالَاتِ رَبِّهِ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ رَسُولٍ نَبِيًّا وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوصَفُ بِالْإِرْسَالِ الْمُقَيَّدِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ فِيمَا بَلَغَهُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ هَذَا الْإِلْقَاءِ مَا يَنْسَخُهُ اللَّهُ أَوْ قِيلَ : إنَّهُ جَرَى مَا يَنْسَخُهُ اللَّهُ فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ قَدْ نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَا يَقُولُهُ فَهُوَ حَقٌّ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَكْتُبُ مَا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ النَّاسِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ فَلَا تَكْتُبُ كُلَّمَا تَسْمَعُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمَا إلَّا حَقٌّ - يَعْنِي شَفَتَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ - } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْفَظُ مِنِّي إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ وَيَعِي بِقَلْبِهِ وَكُنْت أَعِي بِقَلْبِي وَلَا أَكْتُبُ بِيَدِي وَكَانَ عِنْدَ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص نُسْخَةٌ كَتَبَهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَذَا طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ شُعَيْبٍ عَنْ جَدِّهِ وَقَالُوا : هِيَ نُسْخَةٌ . - وَشُعَيْبٌ هُوَ : شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص - وَقَالُوا عَنْ جَدِّهِ الْأَدْنَى مُحَمَّدٍ : فَهُوَ مُرْسَلٌ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ عَنَى جَدَّهُ الْأَعْلَى فَهُوَ مُنْقَطِعٌ ؛ فَإِنَّ شُعَيْبًا لَمْ يُدْرِكْهُ . وَأَمَّا أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَيَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ إذَا صَحَّ النَّقْلُ إلَيْهِ مِثْلَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَنَحْوِهِمَا وَمِثْلَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمْ قَالُوا : الْجَدُّ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ يَجِيءُ مُسَمًّى وَمُحَمَّدٌ أَدْرَكَهُ قَالُوا : وَإِذَا كَانَتْ نُسْخَةٌ مَكْتُوبَةٌ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هَذَا أَوْكَدَ لَهَا وَأَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ فِي نُسْخَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ

مِنْ الْأَحَادِيثِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي فِيهَا مُقَدَّرَاتُ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ حَدِيثَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَطُلِقَ دَخَلَ فِيهِ ذِكْرُ مَا قَالَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَذِكْرُ مَا فَعَلَهُ ؛ فَإِنَّ أَفْعَالَهُ الَّتِي أَقَرَّ عَلَيْهَا حُجَّةٌ لَا سِيَّمَا إذَا أَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَهَا كَقَوْلِهِ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَقَوْلِهِ : لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَكَذَلِكَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ فَهُوَ حَلَالٌ لِلْأُمَّةِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } وَلَمَّا أَحَلَّ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ قَالَ : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سُئِلَ عَنْ الْفِعْلِ يَذْكُرُ لِلسَّائِلِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَكَانَ إذَا قِيلَ لَهُ : قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ : { إنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ } وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى حَدِيثِهِ : مَا كَانَ يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ مِثْلَ : إقْرَارِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَادُونَهَا وَإِقْرَارِهِ لِعَائِشَةَ عَلَى اللَّعِبِ بِالْبَنَاتِ وَإِقْرَارِهِ فِي الْأَعْيَادِ عَلَى مِثْلِ غِنَاءِ الْجَارِيَتَيْنِ وَمِثْلَ لَعِبِ الْحَبَشَةِ بِالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِقْرَارِهِ لَهُمْ عَلَى أَكْلِ الضَّبِّ عَلَى مَائِدَتِهِ وَإِنْ

كَانَ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ . إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَطْلُبُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الدِّينِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ أَوْ إقْرَارِهِ . وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهَا بَعْضُ أَخْبَارِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْضُ سِيرَتِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِثْلَ : تَحَنُّثِهِ بِغَارِ حِرَاءٍ وَمِثْلَ : حُسْنِ سِيرَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ : مِنْ كَرَائِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ كَقَوْلِ خَدِيجَةَ لَهُ : كَلَّا وَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا : إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُعِينَ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ وَمِثْلُ الْمَعْرِفَةِ فَإِنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ وَأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ مُتَعَلِّمٌ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَحْوَالِهِ الَّتِي تَنْفَعُ فِي الْمَعْرِفَةِ بِنُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ فَهَذِهِ الْأُمُورُ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ كَثِيرًا ؛ وَلِهَذَا يُذْكَرُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ سِيرَتِهِ كَمَا يُذْكَرُ فِيهَا نَسَبُهُ وَأَقَارِبُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ بِمَا يُعْلَمُ أَحْوَالُهُ وَهَذَا أَيْضًا قَدْ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْحَدِيثِ . وَالْكُتُبُ الَّتِي فِيهَا أَخْبَارُهُ مِنْهَا كُتُب التَّفْسِيرِ وَمِنْهَا كُتُبُ السِّيرَةِ وَالْمَغَازِي وَمِنْهَا كُتُبُ الْحَدِيثِ . وَكُتُبُ الْحَدِيثِ هِيَ مَا كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَخَصُّ وَإِنْ كَانَ فِيهَا أُمُورٌ جَرَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ لَا تُذْكَرُ لِتُؤْخَذَ وَتَشْرَعَ فِعْلَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بَلْ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي

فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ الْإِيمَانَ بِهِ وَالْعَمَلَ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ . وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَهُمْ مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَتَخَلَّى فِي الْغِيرَانِ وَالْجِبَالِ حَيْثُ لَا جُمُعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَقْتَدِي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ كَانَ مُتَحَنِّثًا فِي غَارِ حِرَاءٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فِي تَرْكِ مَا شُرِعَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ وَاقْتَدَى بِمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ كَانَ مُخْطِئًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُ اللَّه بِالنُّبُوَّةِ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ مَا فَعَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ التَّحَنُّثِ فِي غَارِ حِرَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَتَاهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَفِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَفِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ وَلَمْ يَقْصِدْ غَارَ حِرَاءٍ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَأْتِي غَارَ حِرَاءٍ وَلَا يَتَخَلَّوْنَ عَنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُنْقَطِعَةِ وَلَا عَمَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَلْوَةً أَرْبَعِينِيَّةً كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْإِيمَانَ بِهِ وَاتِّبَاعَهُ ؛ مِثْلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الصَّلَوَاتِ وَمِثْلَ الصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ وَمِثْلَ أَنْوَاعِ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَمِثْلَ الْجِهَادِ .
وَقَوْلُ السَّائِلِ : مَا قَالَهُ فِي عُمُرِهِ أَوْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَوْ تَشْرِيعًا فَكُلُّ مَا قَالَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْسَخْ فَهُوَ تَشْرِيعٌ لَكِنَّ التَّشْرِيعَ

يَتَضَمَّنُ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنَافِعِ فِي الطِّبِّ . فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبَاحَةَ ذَلِكَ الدَّوَاءِ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ فَهُوَ شَرْعٌ لِإِبَاحَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ شَرْعًا لِاسْتِحْبَابِهِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي التَّدَاوِي هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ ؟ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ ؛ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَهُوَ : مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ بَقَاءُ النَّفْسِ لَا بِغَيْرِهِ كَمَا يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْد الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ . مَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ فَقَدْ يَحْصُلُ أَحْيَانًا لِلْإِنْسَانِ إذَا اسْتَحَرَّ الْمَرَضَ مَا إنْ لَمْ يَتَعَالَجْ مَعَهُ مَاتَ وَالْعِلَاجُ الْمُعْتَادُ تَحْصُلُ مَعَهُ الْحَيَاةُ كَالتَّغْذِيَةِ لِلضَّعِيفِ وَكَاسْتِخْرَاجِ الدَّمِ أَحْيَانًا . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ جَمِيعَ أَقْوَالِهِ يُسْتَفَادُ مِنْهَا شَرْعٌ وَهُوَ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَآهُمْ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ قَالَ لَهُمْ : مَا أَرَى هَذَا - يَعْنِي شَيْئًا - ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } وَقَالَ : { أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ فَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ } وَهُوَ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ التَّلْقِيحِ لَكِنْ هُمْ غَلِطُوا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُ نَهَاهُمْ كَمَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ ( الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ ) و ( الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ ) هُوََ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ فَيُرَادُ بِهِ مَا رَوَاهُ الصَّاحِبُ مَنْ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَلَوْ كَانَ جُمَلًا كَثِيرَةً مِثْلَ حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَحَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ وَحَدِيثِ الْإِفْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَنْ الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا يُسَمَّى حَدِيثًا وَمَا رَوَاهُ الصَّاحِبُ أَيْضًا مَنْ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ جُمْلَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مَنْ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى حَدِيثًا كَقَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } { الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقْبِهِ } { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } إلَى آخِرِهِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى حَدِيثًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } وَقَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } وَقَدّ أُكْمِلَ مَنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ لَكِنْ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ تَكُونُ مُشْتَرِكَةً فِي مَعْنًى عَامٍّ كَقَوْلِهِ : { لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا

تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي صَحْفَتِهَا وَلِتُنْكَحَ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا } فَإِنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ مُزَاحَمَةِ الْمُسْلِمِ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَفِي الْبَيْعِ لَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِهِ وَلَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِهِ وَإِذَا نَهَاهُ عَنْ السَّوْمِ فَنَهْيُهُ الْمُشْتَرِي عَلَى شِرَائِهِ عَلَيْهِ حَرَامٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَنَهَاهُ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ . وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ إخْرَاجِ امْرَأَتِهِ مَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَنَهْيُ الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْأَلَ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَنْفَرِدَ هِيَ بِالزَّوْجِ فَهَذِهِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَقَدْ اشْتَرَكَتْ فِي مَعْنًى عَامٍّ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ } فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ اشْتَرَكُوا فِي هَذَا الْوَعِيدِ وَاشْتَرَكُوا فِي فِعْلِ هَذِهِ الذُّنُوبِ مَعَ ضَعْفِ دَوَاعِيهِمْ ؛ فَإِنَّ دَاعِيَةَ الزِّنَا فِي الشَّيْخِ ضَعِيفَةٌ وَكَذَلِكَ دَاعِيَةُ الْكَذِبِ فِي الْمَلِكِ ضَعِيفَةٌ ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ دَاعِيَةُ الْكِبْرِ فِي الْفَقِيرِ فَإِذَا أَتَوْا بِهَذِهِ الذُّنُوبِ مَعَ ضَعْفِ الدَّاعِي دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الشَّرِّ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَنْ الْوَعِيدِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمْ . وَقَلَّ أَنْ يَشْتَمِلَ الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ عَلَى جُمَلٍ إلَّا لِتَنَاسُبِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ قَدْ يَخْفَى التَّنَاسُبُ فِي بَعْضِهَا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَالْكَلَامُ الْمُتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضِ يُسَمَّى حَدِيثًا وَاحِدًا .

وَأَمَّا إذَا رَوَى الصَّاحِبُ كَلَامًا فَرَغَ مِنْهُ ثُمَّ رَوَى كَلَامًا آخَرَ وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا : بِأَنْ قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِأَنْ طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا فَهَذَانِ حَدِيثَانِ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَتَّصِلُ بِالْكَلَامِ فِي الْإِنْسَانِ وَالْإِقْرَارَاتِ وَالشَّهَادَاتِ كَمَا يَتَّصِلُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَالْوَقْفِ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الِاتِّصَالَ الْمُعْتَادَ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا يَرْتَبِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَانْقَضَى كَلَامُهُ ثُمَّ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ أَنْشَأَ كَلَامًا آخَرَ بِغَيْرِ حُكْمِ الْأَوَّلِ كَانَ كَلَامًا ثَانِيًا فَالْحَدِيثُ الْوَاحِدُ لَيْسَ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ جُمُلًا وَلَا كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّ السُّورَةَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا نَزَلَ قَبْلَ بَعْضٍ أَوْ بَعْدَ بَعْضٍ وَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ بَلْ يُشْبِهُ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ أَوْ الْآيَاتِ الْمُتَّصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضِ كَمَا أَنْزِلُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ ؛ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } فَإِنَّ هَذَا يَتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَهُوَ نَزَلَ بِسَبَبِ قِصَّةِ بَنِي أبيرق إلَى تَمَامِ الْكَلَامِ . وَقَدْ يُسَمَّى الْحَدِيثُ وَاحِدًا وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى قِصَصٍ مُتَعَدِّدَةٍ إذَا حَدَّثَ بِهِ الصَّحَابِيُّ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضِ فَيَكُونُ وَاحِدًا بِاعْتِبَارِ اتِّصَالِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابِيِّ مِثْلَ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ : " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَذَكَرَ فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمُعْجِزَاتِهِ وَمَا

يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا يُسَمَّى حَدِيثًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَقَدْ يَكُونُ الْحَدِيثُ طَوِيلًا وَأَخَذَ يُفَرِّقُهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَجَعَلَهُ أَحَادِيثَ كَمَا فَعَلَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ فِي الصَّدَقَةِ وَهَذَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمَعْنَى.
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ هَلْ يَكُونُ صِدْقًا ؟ .
فَجَوَابُهُ : أَنَّ الصَّحِيحَ أَنْوَاعٌ وَكَوْنُهُ صِدْقًا يَعْنِي بِهِ شَيْئَانِ . فَمِنْ الصَّحِيحِ مَا تَوَاتَرَ لَفْظُهُ كَقَوْلِهِ : { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مَنْ النَّارِ } . وَمِنْهُ مَا تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ : كَأَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَأَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ . وَأَحَادِيثِ الْحَوْضِ وَأَحَادِيثِ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَيَجْزِمُ بِأَنَّهُ صِدْقٌ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ إمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى وَمِنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا تَلَقَّاهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْقَبُولِ فَعَمِلُوا بِهِ كَمَا عَمِلُوا بِحَدِيثِ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ وَكَمَا عَمِلُوا بِأَحَادِيثِ الشُّفْعَةِ وَأَحَادِيثِ سُجُودِ السَّهْوِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَيَجْزِمُ بِأَنَّهُ صِدْقٌ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا بِمُوجِبِهِ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ ؛ فَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبًا لَكَانَتْ الْأُمَّةُ قَدْ اتَّفَقَتْ عَلَى تَصْدِيقِ الْكَذِبِ وَالْعَمَلِ

بِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا . وَمِنْ الصَّحِيحِ مَا تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ كَجُمْهُورِ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَجْزِمُونَ بِصِحَّةِ جُمْهُورِ أَحَادِيثِ الْكِتَابَيْنِ وَسَائِرِ النَّاسِ تَبَعٌ لَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ صِدْقٌ كَإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ وَإِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ فَسَائِرُ الْأُمَّةِ تَبَعٌ لَهُمْ ؛ فَإِجْمَاعُهُمْ مَعْصُومٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى خَطَأٍ . وَمِمَّا قَدْ يُسَمَّى صَحِيحًا مَا يُصَحِّحُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَآخَرُونَ يُخَالِفُونَهُمْ فِي تَصْحِيحِهِ فَيَقُولُونَ : هُوَ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِصَحِيحِ مِثْلَ أَلْفَاظٍ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَنَازَعَهُ فِي صِحَّتِهَا غَيْرُهُ مَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إمَّا مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ فَهَذَا لَا يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ إلَّا بِدَلِيلِ مِثْلَ : حَدِيثِ ابْنِ وَعْلَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } فَإِنَّ هَذَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمِثْلَ مَا رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْكُسُوفَ ثَلَاثَ ركوعات وَأَرْبَعَ ركوعات } انْفَرَدَ بِذَلِكَ عَنْ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّ هَذَا ضَعَّفَهُ حُذَّاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالُوا : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ الْكُسُوفَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ وَفِي نَفْسِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الصَّلَاةُ بِثَلَاثِ ركوعات

وَأَرْبَعِ ركوعات أَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى ذَلِكَ يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَمُتْ مَرَّتَيْنِ وَلَا كَانَ لَهُ إبْرَاهِيمَانِ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى الْكُسُوفَ يَوْمَئِذٍ رُكُوعَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَمَا رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُمْ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ إلَّا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَهَذَا حَذْفٌ مِنْ مُسْلِمٍ ؛ وَلِهَذَا ضَعَّفَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ أَحَادِيثَ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ وَلَمْ يَسْتَحِبُّوا ذَلِكَ وَهَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ ضَعْفُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ . وَمِثْلُهُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ : { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } فَإِنَّ هَذَا طَعْنٌ فِيهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ مُسْلِمٍ مِثْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَمِثْلَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَطَائِفَةٌ اعْتَبَرَتْ صِحَّتَهُ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرُهُ وَافَقُوا الَّذِينَ ضَعَّفُوهُ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَثَبَتَ أَنَّ آخِرَ الْخَلْقِ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْخَلْقِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَى ذَلِكَ تَدُلُّ أَسْمَاءُ الْأَيَّامِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ الثَّابِتُ فِي أَحَادِيثَ وَآثَارٍ أُخَرَ ؛

وَلَوْ كَانَ أَوَّلُ الْخَلْقِ يَوْمَ السَّبْتِ وَآخِرُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَكَانَ قَدْ خُلِقَ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَهُوَ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مَعَ أَنَّ حُذَّاقَ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُثْبِتُونَ عِلَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ وَأَنَّ رِوَايَةَ فُلَانٍ غَلَطٌ فِيهِ لِأُمُورِ يَذْكُرُونَهَا وَهَذَا الَّذِي يُسَمَّى مَعْرِفَةَ عِلَلِ الْحَدِيثِ بِكَوْنِ الْحَدِيثِ إسْنَادُهُ فِي الظَّاهِرِ جَيِّدًا وَلَكِنْ عُرِفَ مَنْ طَرِيقٍ آخَرَ : أَنَّ رَاوِيَهُ غَلِطَ فَرَفَعَهُ وَهُوَ مَوْقُوفٌ أَوْ أَسْنَدَهُ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ وَهَذَا فَنٌّ شَرِيفٌ وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ صَاحِبُهُ عَلِيُّ بْنِ الْمَدِينِيّ ثُمَّ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو حَاتِمٍ وَكَذَلِكَ النَّسَائِي وَالدَّارَقُطْنِي وَغَيْرُهُمْ . وَفِيهِ مُصَنَّفَاتٌ مَعْرُوفَةٌ . وَفِي الْبُخَارِيِّ نَفْسِهِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ نَازَعَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي صِحَّتِهَا مِثْلَ : حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الْحَسَنِ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَقَدْ نَازَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْوَلِيدِ الباجي وَزَعَمُوا أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ لَكِنْ الصَّوَابُ مَعَ الْبُخَارِيِّ وَأَنَّ الْحَسَنَ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَاكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْبُخَارِيُّ أَحْذَقُ وَأَخْبَرُ بِهَذَا الْفَنِّ مِنْ مُسْلِمٍ ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَّفِقَانِ عَلَى

حَدِيثٍ إلَّا يَكُونُ صَحِيحًا لَا رَيْبَ فِيهِ قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ ثُمَّ يَنْفَرِدُ مُسْلِمٌ فِيهِ بِأَلْفَاظِ يُعْرِضُ عَنْهَا الْبُخَارِيُّ وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ . إنَّهَا ضَعِيفَةٌ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ ضَعَّفَهَا : كَمِثْلِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعٍ وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ مُسْلِمٍ وَهَذَا أَكْثَرُ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ صَحَّحَهَا مُسْلِمٌ وَقَبِلَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ وَضَعَّفَهَا الْبُخَارِيُّ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مُطَابِقَةٌ لِلْقُرْآنِ فَلَوْ لَمْ يُرَدْ بِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ مُرَادَةٌ مِنْ هَذَا النَّصِّ . وَلِهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ أَنَّ الْمَأْمُومَ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ يَسْتَمِعُ لَهَا وَيُنْصِتُ لَا يَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ بِهَا يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَمَا زَادَ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَأَمَّا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ

لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا لَا فِي السِّرِّ وَلَا فِي الْجَهْرِ ؛ فَهَذَا يُقَابِلُهُ قَوْلَ مَنْ أَوْجَبَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَلَوْ كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ كَالْقَوْلِ الْآخَرِ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْجَدِيدُ وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا . وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ : أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ بِالْفَاتِحَةِ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِي وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ . وَلَكِنْ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عَلَى الْمَأْمُومِ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَقَدْ تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا قَرَأَ الْمَأْمُومُ وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ : هَلْ تُبْطِلُ صَلَاتَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ كَوْنُهُ مُسْتَمِعًا لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْقَارِئِ مَعَ الْإِمَامِ وَعَلَى هَذَا فَاسْتِمَاعُهُ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ بِالْفَاتِحَةِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ وَزِيَادَةٌ تُغْنِي عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَهُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا وَهَذَا خِلَافُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ فَإِنَّ كَوْنَهُ تَالِيًا لِكِتَابِ اللَّهِ يُثَابُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ خَيْرًا مِنْ كَوْنِهِ سَاكِتًا بِلَا فَائِدَةٍ ؛ بَلْ يَكُونُ عُرْضَةً لِلْوَسْوَاسِ وَحَدِيثِ النَّفْسِ الَّذِي لَا ثَوَابَ فِيهِ فَقِرَاءَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا خَيْرًا مِنْ حَدِيثِ نَفْسٍ لَا ثَوَابَ عَلَيْهِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا : التَّمْثِيلُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي يُرْوَى فِي الصَّحِيحِ وَيُنَازِعُ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الرَّاجِحُ تَارَةً وَتَارَةً الْمَرْجُوحُ وَمِثْلُ هَذَا مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ فِي تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ كَمَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ فِي فِي الْأَحْكَامِ وَأَمَّا مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ فَهُوَ مِثْلُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَحْكَامِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا صِدْقًا وَجُمْهُورُ مُتُونِ الصَّحِيحِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ وَعَامَّةُ هَذِهِ الْمُتُونِ تَكُونُ مَرْوِيَّةً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ رَوَاهَا هَذَا الصَّاحِبُ وَهَذَا الصَّاحِبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَاطَآ وَمِثْلُ هَذَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ ؛ فَإِنَّ الْمُحَدِّثَ إذَا رَوَى حَدِيثًا طَوِيلًا سَمِعَهُ وَرَوَاهُ آخَرُ ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى وَضْعِهِ عُلِمَ أَنَّهُ صِدْقٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صِدْقًا لَكَانَ كَذِبًا إمَّا عَمْدًا وَإِمَّا خَطَأً ؛ فَإِنَّ الْمُحَدِّثَ إذَا حَدَّثَ بِخِلَافِ الصِّدْقِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا غالطا . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ وَلَمْ يَغْلَطْ لَمْ يَكُنْ حَدِيثُهُ إلَّا صِدْقًا وَالْقِصَّةُ الطَّوِيلَةُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَتَّفِقَ الِاثْنَانِ عَلَى وَضْعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةِ مِنْهُمَا وَهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي الْحَدِيثِ يَرْوِيه أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ أَوْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْ الْآخَرِ مِثْلَ حَدِيثِ التَّجَلِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الطَّوِيلِ : حَدَّثَ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ سَاكِتٌ لَا يُنْكِرُ مِنْهُ حَرْفًا بَلْ وَافَقَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ جَمِيعِهِ إلَّا عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ فِي آخِرِهِ .

وَقَدْ يَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ بِهِ فِي مَجْلِسٍ وَسَمِعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ هَذَا مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي مَجْلِسٍ وَهَذَا مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي الْآخَرِ وَجَمِيعُهُ فِي حَدِيثِ الزِّيَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قِسْمَةُ الْحَدِيثِ إلَى صَحِيحٍ وَحَسَنٍ وَضَعِيفٍ فَهَذَا أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَسَمَهُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ وَلَمْ تُعْرَفْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو عِيسَى مُرَادَهُ بِذَلِكَ . فَذَكَرَ : أَنَّ الْحَسَنَ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ وَلَمْ يَكُنْ شَاذًّا وَهُوَ دُونَ الصَّحِيحِ الَّذِي عُرِفَتْ عَدَالَةُ نَاقِلِيهِ وَضَبْطُهُمْ . وَقَالَ : الضَّعِيفُ الَّذِي عُرِفَ أَنَّ نَاقِلَهُ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ رَدِيءُ الْحِفْظِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا رَوَاهُ الْمَجْهُولُ خِيفَ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا أَوْ سَيِّئَ الْحِفْظِ فَإِذَا وَافَقَهُ آخَرُ لَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ عُرِفَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِبَهُ وَاتِّفَاقُ الِاثْنَيْنِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ طَوِيلٍ قَدْ يَكُونُ مُمْتَنِعًا وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدًا وَلَمَّا كَانَ تَجْوِيزُ اتِّفَاقِهِمَا فِي ذَلِكَ مُمْكِنًا نَزَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ . وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ وَقَالُوا : إنَّهُ يَقُولُ : حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَالْغَرِيبُ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْحَدِيثُ قَدْ

يَكُونُ صَحِيحًا غَرِيبًا كَحَدِيثِ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَحَدِيثِ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ } وَحَدِيثِ { دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ } فَإِنَّ هَذِهِ صَحِيحَةٌ مُتَلَقَّاةٌ بِالْقَبُولِ وَالْأَوَّلُ : لَا يُعْرَفُ ثَابِتًا عَنْ غَيْرِ عُمَرَ وَالثَّانِي : لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرَ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَالثَّالِثُ : لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ طَعَنُوا عَلَى التِّرْمِذِيِّ لَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَهُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا قَالَهُ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ قَدْ يَقُولُونَ : هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ أَيْ : مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ : غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ صَحِيحًا مَعْرُوفًا مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ فَإِذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَانَ غَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ الْمَتْنُ صَحِيحًا مَعْرُوفًا فَالتِّرْمِذِيُّ إذَا قَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ قَدْ يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ غَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ ؛ وَلَكِنَّ الْمَتْنَ لَهُ شَوَاهِدُ صَارَ بِهَا مِنْ جُمْلَةِ الْحُسْنِ . وَبَعْضُ مَا يُصَحِّحُهُ التِّرْمِذِيُّ يُنَازِعُهُ غَيْرُهُ فِيهِ كَمَا قَدْ يُنَازِعُونَهُ فِي بَعْضِ مَا يُضَعِّفُهُ وَيُحَسِّنُهُ فَقَدْ يُضَعِّفُ حَدِيثًا وَيُصَحِّحُهُ الْبُخَارِيُّ ؛ { كَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْغِنِي أَحْجَارًا أستنفض بِهِنَّ قَالَ : فَأَتَيْته بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ قَالَ : فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَتَرَكَ الرَّوْثَةَ وَقَالَ : إنَّهَا رِجْسٌ } فَإِنَّ هَذَا قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي إسْحَاقَ السبيعي فَجَعَلَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الِاخْتِلَافَ

عِلَّةً وَرَجَّحَ رِوَايَتَهُ لَهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ أَبَا إسْحَاقَ كَانَ الْحَدِيثُ يَكُونُ عِنْدَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ يَرْوِيه عَنْ هَذَا تَارَةً وَعَنْ هَذَا تَارَةً كَمَا كَانَ الزُّهْرِيُّ يَرْوِي الْحَدِيثَ تَارَةً عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَتَارَةً عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَتَارَةً يَجْمَعُهُمَا فَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَيُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ . وَأَمَّا مَنْ قِبَلَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَمَا عُرِفَ عَنْهُمْ هَذَا التَّقْسِيمُ الثُّلَاثِيُّ لَكِنْ كَانُوا يُقَسِّمُونَهُ إلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَالضَّعِيفُ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ : ضَعِيفٌ ضَعْفًا لَا يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْحَسَنَ فِي اصْطِلَاحِ التِّرْمِذِيِّ . وَضَعِيفٌ ضَعْفًا يُوجِبُ تَرْكَهُ وَهُوَ الْوَاهِي وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَرَضِ الْمَرِيضِ قَدْ يَكُونُ قَاطِعًا بِصَاحِبِهِ فَيَجْعَلُ التَّبَرُّعَ مِنْ الثُّلُثِ وَقَدْ لَا يَكُونُ قَاطِعًا بِصَاحِبِهِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : هَذَا فِيهِ لِينٌ ، فِيهِ ضَعْفٌ ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مَوْجُودٌ فِي الْحَدِيثِ .

وَمِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُحَدِّثِينَ أَهْلَ الْإِتْقَانَ : مِثْلُ شُعْبَةُ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ هُمْ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ دُونَ هَؤُلَاءِ وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عِنْدَهُمْ ضَعِيفًا لِكَثْرَةِ الْغَلَطِ فِي حَدِيثِهِ وَيَكُونُ حَدِيثُهُ إذَا الْغَالِبُ عَلَيْهِ الصِّحَّةُ لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ بِهِ وَالِاعْتِضَادِ بِهِ ؛ فَإِنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَكَثْرَتَهَا يُقَوِّي بَعْضَهَا بَعْضًا حَتَّى قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهَا وَلَوْ كَانَ النَّاقِلُونَ فُجَّارًا فُسَّاقًا فَكَيْفَ إذَا كَانُوا عُلَمَاءَ عُدُولًا وَلَكِنْ كَثُرَ فِي حَدِيثِهِمْ الْغَلَطُ . وَمِثْلُ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ فَإِنَّهُ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ قَاضِيًا بِمِصْرِ كَثِيرَ الْحَدِيثِ لَكِنْ احْتَرَقَتْ كُتُبُهُ فَصَارَ يُحَدِّثُ مَنْ حَفِظَهُ فَوَقَعَ فِي حَدِيثِهِ غَلَطٌ كَثِيرٌ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى حَدِيثِهِ الصِّحَّةُ قَالَ أَحْمَد : قَدْ أَكْتُبُ حَدِيثَ الرَّجُلِ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ : مِثْلَ ابْنِ لَهِيعَةَ . وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ مِنْهُ أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرْوِي عَنْ هَذَا شَيْئًا وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ لَمْ يَرْوِ فِي مُسْنَدِهِ عَمَّنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ ؛ لَكِنْ يَرْوِي عَمَّنْ عَرَفَ مِنْهُ الْغَلَطَ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ وَالِاعْتِضَادِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ كَانَ يَسْمَعُ حَدِيثَ مَنْ يُكَذِّبُ وَيَقُولُ : إنَّهُ

يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يُكَذِّبُهُ وَبَيْنَ مَا لَا يُكَذِّبُهُ وَيُذْكَرُ عَنْ الثَّوْرِيّ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَنْ الْكَلْبِيِّ وَيَنْهَى عَنْ الْأَخْذِ عَنْهُ وَيُذْكَرُ أَنَّهُ يَعْرِفُ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَقَعُ لِمَنْ كَانَ خَبِيرًا بِشَخْصِ إذَا حَدَّثَهُ بِأَشْيَاءَ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا صَدَقَ فِيهِ وَمَا كَذَبَ فِيهِ بِقَرَائِنَ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا . وَخَبَرُ الْوَاحِدِ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَدَقَ أَوْ تَقْتَرِنُ بِهِ الْقَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَذَبَ (1) .

وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي أَنْوَاعِ الرِّوَايَةِ وَأَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ مِثْلَ : حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْت وَقَرَأْت وَالْمُشَافَهَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْإِجَازَةِ وَالْوِجَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَنَقُولُ : الْكَلَامُ فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِمَّا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِهِ وَيَثْبُتُ بِهِ الِاتِّصَالُ . وَالثَّانِي : فِي التَّعْبِيرِ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهَا أَنْ يَسْمَعَ مِنْ لَفْظِ الْمُحَدِّثِ سَوَاءٌ رَآهُ أَوْ لَمْ يَرَهُ كَمَا سَمِعَ الصَّحَابَةُ الْقُرْآنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَدِيثَ أَيْضًا وَكَمَا كَانَ يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِمْ وَقَرَأَ عَلَى أُبَيْ ( سُورَةَ لَمْ يَكُنْ ) فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُفَرِّقْ النَّاسُ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الشَّهَادَةِ ثُمَّ ذَلِكَ

الْقَائِلُ تَارَةً يَقْصِدُ التَّحْدِيثَ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَحْدَهُ أَوْ لِأَقْوَامِ مُعَيَّنِينَ هُوَ أَحَدُهُمْ ؛ وَتَارَةً يَقْصِدُ التَّحْدِيثَ الْمُطْلَقَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ فَيَكُونُ هُوَ أَحَدَ السَّامِعِينَ ؛ وَتَارَةً يَقْصِدُ تَحْدِيثَ غَيْرِهِ فَيَسْمَعُ هُوَ ؛ فَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إذَا قَالَ ؛ سَمِعْت فُلَانًا يَقُولُ فَقَدْ أَصَابَ وَإِنْ قَالَ : حَدَّثَنَا أَوْ حَدَّثَنِي - وَكَانَ الْمُحَدِّثُ قَدْ قَصَدَ التَّحْدِيثَ لَهُ مُعَيَّنًا أَوْ مُطْلَقًا - فَقَدْ أَصَابَ كَمَا يَقُولُ الشَّاهِدُ فِيمَا أُشْهِدَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ وَالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَاتِ : أَشْهَدَنِي وَأَشْهَدَنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ قَصَدَ تَحْدِيثَ غَيْرِهِ فَسَمِعَ هُوَ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَرْعَى الشَّهَادَةَ غَيْرُهُ فَسَمِعَهَا فَإِنَّهُ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ لَكِنْ لَفْظُ أَشْهَدَنِي وَحَدَّثَنَا فِيهِ نَظَرٌ بَلْ لَوْ قَالَ : حَدَّثَ وَأَنَا أَسْمَعُ كَانَ حَسَنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُحَدِّثُ أَحَدًا وَإِنَّمَا سَمِعَهُ يَتَكَلَّمُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ يُشْبِهُ الشَّهَادَةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِرْعَاءٍ وَيُشْبِهُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْحُكْمِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِثْبَاتِ كَالسَّمْعِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِدُونِ التَّحْمِيلِ بِالِاتِّفَاقِ . وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الإخبارات كَالشَّهَادَاتِ وَالْإِقْرَارَاتِ فَفِيهَا نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَبَابُ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ لَكِنْ لَيْسَ مَنْ قَصَدَ تَحْدِيثَ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَكَلَّمَ لِنَفْسِهِ . فَإِنَّ الرَّجُلَ يَتَكَلَّمُ مَعَ نَفْسِهِ بِأَشْيَاءَ وَيَسْتَرْسِلُ فِي الْحَدِيثِ فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الْغَيْرَ يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ تَحَفَّظَ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا لَا يَرْوُونَ أَحَادِيثَ الْمُذَاكَرَةِ بِذَاكَ .

وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد يُذَاكِرُ بِأَشْيَاءَ مِنْ حِفْظِهِ فَإِذَا طَلَبَ الْمُسْتَمِعُ الرِّوَايَةَ أَخْرَجَ كِتَابَهُ فَحَدَّثَ مِنْ الْكِتَابِ . فَهُنَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ : أَنْ يَقْصِدَ اسْتِرْعَاءَهُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِيلَهُ لِيَرْوِيَهُ عَنْهُ وَأَنْ يَقْصِدَ مُحَادَثَتَهُ بِهِ لَا لِيَرْوِيَهُ عَنْهُ وَأَنْ لَا يَقْصِدَ إلَّا التَّكَلُّمَ بِهِ مَعَ نَفْسِهِ .
( وَالنَّوْعُ الثَّانِي ) أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَيُقِرُّ بِهِ كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلِّمُ الْقُرْآنَ عَلَى الْمُعَلِّمِ وَيُسَمِّيه الْحِجَازِيُّونَ الْعَرْضَ ؛ لِأَنَّ الْمُتَحَمِّلَ يَعْرِضُ الْحَدِيثَ عَلَى الْمُحَمِّلِ كَعَرْضِ الْقِرَاءَةِ وَعَرْضِ مَا يَشْهَدُ بِهِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْحُكْمِ وَالْعُقُودِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ : مِنْ الْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ وَالْمُقِرِّ وَالْعَاقِدِ وَعَرَضَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ فَيَقُولُ نَعَمْ وَهَذَا عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ كَاللَّفْظِ . وَلِهَذَا قُلْنَا : إذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ : أَزَوَّجْت ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَلِلزَّوْجِ أَقَبِلْت ؟ فَقَالَ : نَعَمْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ وَكَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا ؛ فَإِنَّ نَعَمْ تَقُومُ مَقَامَ التَّكَلُّمِ بِالْجُمْلَةِ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهَا ؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُمْ : هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ وَاَللَّهُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ ؟ وأحدثك فُلَانٌ بِكَذَا ؟ وأزوجت فُلَانًا بِكَذَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي وَاَللَّهُ أَمَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا وَحَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا وَزَوَّجْت فُلَانًا كَذَا لَكِنْ هَذَا جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ وَذَاكَ خَبَرُ مُبْتَدَإِ وَنَعَمْ كَلِمَةٌ مُخْتَصَرَةٌ تُغْنِي عَنْ التَّفْصِيلِ .

وَقَدْ يَقُولُ الْعَارِضُ : حَدَّثَك بِلَا اسْتِفْهَامٍ بَلْ إخْبَارٍ فَيَقُولُ : نَعَمْ ثُمَّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُرَجِّحُ هَذَا الْعَرْضَ لِمَا فِيهِ مِنْ كَوْنِ الْمُتَحَمِّلِ ضَبَطَ الْحَدِيثَ وَأَنَّ الْمُحَمِّلَ يَرُدُّ عَلَيْهِ وَيُصَحِّحُهُ لَهُ وَيُذْكَرُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ السَّمَاعَ وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُ فِيهِ أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا كَقَوْلِ الْحِجَازِيِّينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ فِيهِ إلَّا أَخْبَرَنَا كَقَوْلِ جَمَاعَاتٍ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا فَرْقَ فِي اللُّغَةِ وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ اصْطِلَاحًا ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الشَّهَادَةِ الْمَعْرُوضَةِ مِنْ الْحُكْمِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعُقُودِ أَشْهَدَنِي بِكَذَا وَقَدْ يُقَالُ : الْخَبَرُ فِي الْأَصْلِ عَنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَمِنْهُ الْخِبْرَةُ بِالْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِبَوَاطِنِهَا وَفُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِكَذَا وَالْخَبِيرُ بِالْأُمُورِ الْمُطَّلِعُ عَلَى بَوَاطِنِهَا وَمِنْهُ الْخَبِيرُ . وَهُوَ الْفَلَاحُ الَّذِي يَجْعَلُ بَاطِنَ الْأَرْضِ ظَاهِرًا وَالْأَرْضَ الْخَبَارَ اللَّيِّنَةَ الَّتِي تَتَقَلَّبُ وَالْمُخَابَرَةَ مِنْ ذَلِكَ . فَقَوْلُ الْمُبَلِّغِ : نَعَمْ لَمْ يَدُلَّ بِمُجَرَّدِ ظَاهِرِ لَفْظِهِ عَلَى الْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا دَلَّ بِبَاطِنِ مَعْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَهَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ السَّائِلِ وَالْمُخْبِرِ فَإِذَا قَالَ : أَحَدَّثَك ؟ وأنكحت ؟ فَقَالَ : نَعَمْ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ حَدَّثَنِي وَأَنْكَحْت وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ حَصَلَتْ مِنْ مَجْمُوعِ لَفْظِ نَعَمْ وَسُؤَالِ السَّائِلِ كَمَا أَنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ وَالْمُضْمَرَاتِ إنَّمَا تُعَيِّنُ الْمُشَارَ إلَيْهِ وَالظَّاهِرَ

بِلَفْظِهَا وَلَمَّا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ وَالظَّاهِرِ الْمُفَسَّرِ لِلْمُضْمَرِ . وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : حَدَّثَنِي أَنَّ فُلَانًا قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ فُلَانًا قَالَ فِي الْعَرْضِ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَقُولَ : أَخْبَرَنَا فُلَانٌ قَالَ : أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فُلَانٌ قَالَ : حَدَّثَنَا كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ فِي الشَّهَادَةِ فَيَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ وَأَنَّهُ حَكَمَ وَأَنَّهُ وَقَفَ كَمَا فَرَّقَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَغَيْرِهَا فَيَقُولُونَ فِيهَا : أنا فُلَانٌ أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُمْ ؛ بِخِلَافِ السَّمَاعِ . وَقَدْ اعْتَقَدَ طَائِفَةٌ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بَلْ رُبَّمَا رَجَّحُوا " أَنَّ " ؛ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا فِيهَا تَوْكِيدًا وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمُوا ؛ فَإِنَّ " أَنَّ " الْمَفْتُوحَةَ وَمَا فِي خَبَرِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ فَإِذَا قَالَ : حَدَّثَنِي أَنَّهُ قَالَ فَهُوَ فِي التَّقْدِيرِ حَدَّثَنِي بِقَوْلِهِ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّ " إنَّ " الْمَكْسُورَةُ تَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْجُمَلِ وَالْمَفْتُوحَةُ فِي مَوْضِعِ الْمُفْرَدَاتِ فَقَوْلُهُ : { فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ - فِي تَقْدِيرِ قَوْلِهِ : فَنَادَتْهُ بِبِشَارَتِهِ وَهُوَ ذِكْرٌ لِمَعْنَى مَا نَادَتْهُ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّفْظِ . وَمَنْ قَرَأَ ( إنَّ اللَّهَ ) فَقَدْ حَكَى لَفْظَهُ وَكَذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ أَوَّلُ مَا أَقُولُ : أَحْمَدُ اللَّهَ وَأَوَّلُ مَا أَقُولُ : إنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ .

وَإِذَا كَانَ مَعَ الْفَتْحِ هُوَ مَصْدَرٌ فَقَوْلُك : حَدَّثَنِي بِقَوْلِهِ وَبِخَبَرِهِ لَمْ تَذْكُرْ فِيهِ لَفْظَ الْقَوْلِ وَالْخَبَرِ وَإِنَّمَا عَبَّرْت عَنْ جُمْلَةِ لَفْظِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَوْلٌ وَخَبَرٌ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِك : سَمِعْت كَلَامَ فُلَانٍ وَخُطْبَةَ فُلَانٍ لَمْ تَحْكِ لَفْظَهَا . وَأَمَّا إذَا قُلْت : قَالَ : كَذَا فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ عَيْنِ قَوْلِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ اللَّفْظَ فِي هَذَا أَحَدٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسُوغُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى فَإِذَا سَمِعْت لَفْظَهُ وَقُلْت : حَدَّثَنِي فُلَانٌ قَالَ : حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا فَقَدْ أَتَيْت بِاللَّفْظِ ؛ فَإِنَّك سَمِعْته يَقُولُ : حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا وَإِذَا عَرَضْت عَلَيْهِ فَقُلْت : حَدَّثَك فُلَانٌ بِكَذَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَقُلْت : حَدَّثَنِي أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُ بِكَذَا فَأَنْتَ صَادِقٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ ؛ لِأَنَّك ذَكَرْت أَنَّهُ حَدَّثَك بِتَحْدِيثِ فُلَانٍ إيَّاهُ بِكَذَا وَالتَّحْدِيثُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَنْتَظِمُ لِذَلِكَ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : نَعَمْ لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَنْتَظِمُ لِذَلِكَ فَقَوْلُهُ : نَعَمْ تَحْدِيثٌ لَك بِأَنَّهُ حَدَّثَهُ . وَأَمَّا إذَا قُلْت : حَدَّثَنِي قَالَ : حَدَّثَنِي فَأَنْتَ لَمْ تَسْمَعْهُ يَقُولُ : حَدَّثَنِي وَإِنَّمَا سَمِعْته يَقُولُ : نَعَمْ وَهِيَ مَعْنَاهَا لَكِنْ هَذَا مِنْ الْمَعَانِي الْمُتَدَاوَلَةِ وَهَذَا الْعَرْضُ إذَا كَانَ الْمُحَمِّلُ يَدْرِي مَا يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ الْعَارِضُ كَمَا يَدْرِي الْمُقْرِئُ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَدْرِي فَالسَّمَاعُ أَجْوَدُ بِلَا رَيْبٍ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ ؛ لِغَلَبَةِ الْفِعْلِ عَلَى الْقَارِئِ لِلْحَدِيثِ دُونَ الْمَقْرُوءِ عَلَيْهِ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْعَرْضِ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُحَمِّلُ الْإِخْبَارَ أَوْ لَا يَقْصِدُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّحْدِيثِ وَالسَّمَاعِ .

(النَّوْعُ الثَّالِثُ ) " الْمُنَاوَلَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ " : وَكِلَاهُمَا إنَّمَا أَعْطَاهُ كِتَابًا لَا خِطَابًا لَكِنْ الْمُنَاوَلَةُ مُبَاشِرَةٌ وَالْمُكَاتَبَةُ بِوَاسِطَةِ . فَالْمُنَاوَلَةُ أَرْجَحُ إذَا اتَّفَقَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ مِثْلَ أَنْ يُنَاوِلَهُ أَحَادِيثَ مُعَيَّنَةً يَعْرِفُهَا الْمُنَاوِلُ أَوْ يَكْتُبُ إلَيْهِ بِهَا وَالْمُنَاوَلَةُ عَرْضُ الْعَرْضِ فَإِنَّ قَوْلَهُ لِمَا مَعَهُ (1) .
فَأَمَّا إذَا كَتَبَ إلَيْهِ بِأَحَادِيثَ مُعَيَّنَةٍ وَنَاوَلَهُ كِتَابًا مُجْمَلًا تَرَجَّحَتْ الْمُكَاتَبَةُ . ثُمَّ الْمُكَاتَبَةُ يَكْفِي فِيهَا الْعِلْمُ بِأَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يُنَازِعْ فِي هَذَا مَنْ نَازَعَ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةِ بِالْكِتَابَةِ ؛ فَإِنَّهُ هُنَاكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْكِتَابِ ؟ وَإِذَا افْتَقَرَ فَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِ مَا فِي الْكِتَابِ ؟ أَوْ تَكْفِي الشَّهَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ ؟ وَمَنْ اشْتَرَطَ الشَّهَادَةَ جَعَلَ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّهُودِ الشَّاهِدِينَ عَلَى الْحَاكِمِ الْكَاتِبِ حَتَّى يَعْمَلَ بِالْكِتَابِ غَيْرُ الْحَاكِمِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ . ثُمَّ " الْمُكَاتَبَةُ " هِيَ مَعَ قَصْدِ الْإِخْبَارِ بِمَا فِي الْكِتَابِ ثُمَّ إنْ كَانَ لِلْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ كَتَبَ إلَيَّ أَوْ أَرَانِي كِتَابَهُ وَإِنْ كَتَبَ إلَى غَيْرِهِ فَقَرَأَ هُوَ الْكِتَابَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُحَدِّثَ غَيْرَهُ فَيَسْمَعُ

الْخِطَابَ وَلَوْ لَمْ يُكَاتِبْ أَحَدًا بَلْ كَتَبَ بِخَطِّهِ فَقِرَاءَةُ الْخَطِّ كَسَمَاعِ اللَّفْظِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ " وِجَادَةً " . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ لَمْ يُحَدِّثْ بِهَذَا وَلَمْ يَرُدَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ وَكَتَبَهُ ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مَا يَقُولُهُ الْمَرْءُ وَيَكْتُبُهُ يَرَى أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ وَيُخْبِرَ بِهِ غَيْرَهُ أَوْ أَنَّهُ يُؤْخَذُ عَنْهُ .
( الرَّابِعُ ) الْإِجَازَةُ : فَإِذَا كَانَتْ لِشَيْءِ مُعَيَّنٍ قَدْ عَرَفَهُ الْمُجِيزُ فَهِيَ كَالْمُنَاوَلَةِ وَهِيَ : عَرْضُ الْعَرْضِ ؛ فَإِنَّ الْعَارِضَ تَكَلَّمَ بِالْمَعْرُوضِ مُفَصَّلًا فَقَالَ الشَّيْخُ : نَعَمْ وَالْمُسْتَجِيزُ قَالَ : أَجَزْت لِي أَنْ أُحَدِّثَ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ فَقَالَ الْمُجِيزُ : نَعَمْ ؛ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فِي الْعَرْضِ سَمِعَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ وَهُنَا سَمِعَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقَدْ عَلِمَ مَضْمُونَ اللَّفْظِ بِرُؤْيَةِ مَا فِي الْكِتَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْإِجَازَةُ تَحْدِيثٌ وَإِخْبَارٌ وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الْمَدَنِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : الْإِجَازَةُ كَالسَّمَاعِ وَأَنَّهُمْ قَالُوا : حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْت وَاحِدًا فَإِنَّمَا أَرَادُوا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - هَذِهِ الْإِجَازَةَ مِثْلُ مَنْ جَاءَ إلَى مَالِكٍ فَقَالَ : هَذَا الْمُوَطَّأُ أَجِزْهُ لِي فَأَجَازَهُ لَهُ . فَأَمَّا الْمُطْلَقَةُ فِي الْمُجَازِ فَهِيَ شِبْهُ الْمُطْلَقَةِ فِي الْمُجَازِ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : أَجَزْت لَك مَا صَحَّ عِنْدَك مِنْ أَحَادِيثِي صَارَتْ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ مَوْقُوفَةً عَلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِهِ فَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ اسْتَغْنَى عَنْ الْإِجَازَةِ وَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ عَنْهُ

وَالْإِجَازَةُ لَمْ تَعْرِفْهُ الْحَدِيثُ وَتُفِيدُهُ عِلْمُهُ كَمَا عَرَّفَهُ ذَلِكَ السَّمَاعُ مِنْهُ وَالْعَرْضُ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذِهِ فِي الشَّهَادَاتِ . وَأَمَّا نَظِيرُ الْمُكَاتَبَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهَا فِي الشَّهَادَاتِ لَكِنْ قَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الرِّوَايَةَ لَهَا مَقْصُودَانِ : الْعِلْمُ وَالسِّلْسِلَةُ فَأَمَّا الْعِلْمُ فَلَا يَحْصُلُ بِالْإِجَازَةِ وَأَمَّا السِّلْسِلَةُ فَتَحْصُلُ بِهَا كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ الْيَوْمَ عَلَى شَيْخٍ فَهُوَ فِي الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَرَأَهُ مِنْ خَمْسمِائَةِ سَنَةً وَأَمَّا فِي السِّلْسِلَةِ فَقِرَاءَتُهُ عَلَى الْمُقْرِئِ الْقَرِيبِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى فِي السِّلْسِلَةِ وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيّ وَابْنِ عُلَيَّةَ كَتَوَاتُرِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ لَا فَرْقَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ فَأَمَّا السِّلْسِلَةُ فَالْعُلُوّ أَشْرَفُ مِنْ النُّزُولِ فَفَائِدَةُ الْإِجَازَةِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ جِنْسِ فَائِدَةِ الْإِسْنَادِ الْعَالِي بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّازِلِ إذَا لَمْ يَفِدْ زِيَادَةً فِي الْعِلْمِ . وَهَلْ هَذَا الْمَقْصُودُ دِينٌ مُسْتَحَبٌّ ؟ هَذَا يُتَلَقَّى مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَدْ قَالَ أَحْمَد : طَلَبُ الْإِسْنَادِ الْعَالِي سُنَّةٌ عَمَّنْ مَضَى كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يَرْحَلُونَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُشَافِهُوا الصَّحَابَةَ فَنَقُولُ : كُلَّمَا قَرُبَ الْإِسْنَادُ كَانَ أَيْسَرَ مَئُونَةً وَأَقَلَّ كُلْفَةً وَأَسْهَلَ فِي الرِّوَايَةِ وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ قَدْ عُلِمَتْ صِحَّتُهُ وَأَنَّ

فُلَانًا رَوَاهُ وَأَنَّ مَا يُرْوَى عَنْهُ لِاتِّصَالِ الرِّوَايَةِ فَالْقُرْبُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْبُعْدِ فَهَذَا فَائِدَةُ الْإِجَازَةِ . وَمَنَاطُ الْأَمْرِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْإِسْنَادِ الْمُفِيدِ لِلصِّحَّةِ وَالرِّوَايَةِ الْمُحَصِّلَةِ لِلْعِلْمِ وَبَيْنَ الْإِسْنَادِ الْمُفِيدِ لِلرِّوَايَةِ وَالرِّوَايَةِ الْمُفِيدَةِ لِلْإِسْنَادِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : حَدِيثٌ حَسَنٌ أَوْ مُرْسَلٌ أَوْ غَرِيبٌ وَجَمْعِ التِّرْمِذِيِّ بَيْنَ الْغَرِيبِ وَالصَّحِيحِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ ؟ وَهَلْ فِي الْحَدِيثِ مُتَوَاتِرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى ؟ وَهَلْ جُمْهُورُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تُفِيدُ الْيَقِينَ أَوْ الظَّنَّ ؟ وَمَا هُوَ شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ؛ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فَقَالُوا : عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ؟
فَأَجَابَ : أَمَّا الْمُرْسَلُ مِنْ الْحَدِيثِ : أَنْ يَرْوِيَهُ مِنْ دُونِ الصَّحَابَةِ وَلَا يَذْكُرُ عَمَّنْ أَخَذَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ . ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُسَمِّي مُرْسَلًا إلَّا مَا أَرْسَلَهُ التَّابِعِيَّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُدُّ مَا أَرْسَلَهُ غَيْرُ التَّابِعِيِّ مُرْسَلًا . وَكَذَلِكَ مَا يَسْقُطُ مِنْ إسْنَادِهِ رَجُلٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهُ بِاسْمِ الْمُنْقَطِعِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُدْرِجُهُ فِي اسْمِ الْمُرْسَلِ كَمَا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُرْسَلٍ مُنْقَطِعًا وَهَذَا كُلُّهُ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ .

وَأَمَّا الْغَرِيبُ : فَهُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا كَحَدِيثِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } { و نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ } وَحَدِيثِ { أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ } فَهَذِهِ صِحَاحٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَهِيَ غَرِيبَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَالْأَوَّلُ إنَّمَا ثَبَتَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التيمي عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ الليثي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالثَّانِي إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالثَّالِثُ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْغَرَائِبِ ضَعِيفَةٌ .
وَأَمَّا الْحَسَنُ فِي اصْطِلَاحِ التِّرْمِذِيِّ فَهُوَ : مَا رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ وَلَيْسَ فِي رُوَاتِهِ مَنْ هُوَ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ وَلَا هُوَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . فَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ الَّتِي شَرَطَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَسَنِ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : قَدْ سُمِّيَ حَسَنًا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِثْلَ حَدِيثٍ يَقُولُ فِيهِ : حَسَنٌ غَرِيبٌ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ إلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَقَدْ سَمَّاهُ حَسَنًا وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَرِيبًا . لَمْ يُرْوَ إلَّا عَنْ تَابِعِيٍّ وَاحِدٍ لَكِنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَصَارَ حَسَنًا لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ عَنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَهُوَ فِي أَصْلِهِ غَرِيبٌ . وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ الْحَسَنُ الْغَرِيبُ قَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ رُوِيَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ غَرِيبٍ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الرَّاوِي الْأَصْلِيِّ بِطْرِيقٍ صَحِيحٍ وَطَرِيقٍ آخَرَ

فَيَصِيرُ بِذَلِكَ حَسَنًا مَعَ أَنَّهُ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَيْسَ فِيهَا مُتَّهَمٌ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فَهَذَا صَحِيحٌ مَحْضٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ فَهَذَا حَسَنٌ وَقَدْ يَكُونُ غَرِيبَ الْإِسْنَادِ فَلَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ إلَّا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَهُوَ حَسَنُ الْمَتْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَتْنَ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ : وَفِي الْبَابِ عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَيَكُونُ لِمَعْنَاهُ شَوَاهِدُ تُبَيِّنُ أَنَّ مَتْنَهُ حَسَنٌ وَإِنْ كَانَ إسْنَادُهُ غَرِيبًا . وَإِذَا قَالَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّهُ صَحِيحٌ ؛ فَيَكُونُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ حَسَنٍ فَاجْتَمَعَ فِيهِ الصِّحَّةُ وَالْحُسْنُ وَقَدْ يَكُونُ غَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ إلَّا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ . وَإِنْ كَانَ هُوَ صَحِيحًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ فَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا غَرِيبًا وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي اجْتِمَاعِ الْحَسَنِ وَالْغَرِيبِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَرِيبًا حَسَنًا ثُمَّ صَارَ حَسَنًا وَقَدْ يَكُونُ حَسَنًا غَرِيبًا كَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ . وَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ : أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ لَهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ بَلْ إذَا حَصَلَ الْعِلْمُ عَنْ إخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا وَكَذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْعِلْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ . فَرُبَّ عَدَدٌ قَلِيلٌ أَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ بِمَا يُوجِبُ صِدْقَهُمْ وَأَضْعَافُهُمْ لَا يُفِيدُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يُفِيدُ الْعِلْمَ إذَا احْتَفَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُفِيدُ الْعِلْمَ .

وَعَلَى هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مُتَوَاتِرُ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا يَعْلَمُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ تَارَةً لِتَوَاتُرِهِ عِنْدَهُمْ وَتَارَةً لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ . وَخَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ كالإسفراييني وَابْنِ فورك ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ ؛ لَكِنْ لَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى تَلَقِّيهِ بِالتَّصْدِيقِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْفِقْهِ عَلَى حُكْمٍ مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إلَى ظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ خَبَرِ وَاحِدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَصِيرُ قَطْعِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنْ كَانَ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِقَطْعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَجْمَعُونَ عَلَى تَحْلِيلِ حَرَامٍ وَلَا تَحْرِيمِ حَلَالٍ كَذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى التَّصْدِيقِ بِكَذِبِ وَلَا التَّكْذِيبِ بِصِدْقِ . وَتَارَةً يَكُونُ عِلْمُ أَحَدِهِمْ لِقَرَائِنَ تَحْتَفِ بِالْأَخْبَارِ تُوجِبُ لَهُمْ الْعِلْمَ وَمَنْ عَلِمَ مَا عَلِمُوهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا حَصَلَ لَهُمْ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا " شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ " فَلِهَذَا رِجَالٌ يُرْوَى عَنْهُمْ يَخْتَصُّ بِهِمْ وَلِهَذَا رِجَالٌ يُرْوَى عَنْهُمْ يَخْتَصُّ بِهِمْ وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي رِجَالٍ آخَرِينَ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّفَقَا عَلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ مَدَارُ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ . وَقَدْ يَرْوِي أَحَدُهُمْ عَنْ رَجُلٍ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ دُونَ الْأَصْلِ وَقَدْ يَرْوِي عَنْهُ مَا عَرَفَهُ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ وَلَا يَرْوِي مَا انْفَرَدَ بِهِ وَقَدْ يَتْرُكُ مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ مَا عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا رَوَاهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ عِلَلِ الْحَدِيثِ عِلْمٌ شَرِيفٌ يَعْرِفُهُ أَئِمَّةُ الْفَنِّ : كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَالدَّارَقُطْنِي وَغَيْرِهِمْ . وَهَذِهِ عُلُومٌ يَعْرِفُهَا أَصْحَابُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
مَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ : هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحِ ؟ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ وَجْهَانِ فَهَلْ يُبَاحُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدَهُمَا ؟ أَمْ كَيْفَ الِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْعَالِمُ قَدْ يَقُولُ : لَيْسَ بِصَحِيحِ أَيْ : هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ فِي الدَّلِيلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ مِثْلُ الَّذِي رَوَاهُ مَنْ لَيْسَ بِثِقَةِ : إمَّا لِسُوءِ حِفْظِهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ عَدَالَتِهِ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَظْهَرُ لَهُ رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَإِلَّا قَلَّدَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِمْ فِي بَيَانِ أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْخَبَرُ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُهُ أَوْ كَذِبُهُ أَوَّلًا :
الْأَوَّلُ : مَا عَلِمَ صِدْقُهُ وَهُوَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ بِانْضِمَامِ الْقَرَائِنِ إلَيْهِ : إمَّا رِوَايَةُ مَنْ لَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ تَعَمُّدَهُمْ وَتَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ أَوْ احْتِفَافُ قَرَائِنَ بِهِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ضَرُورِيٌّ لَيْسَ لِلنَّفْسِ فِي حُصُولِهِ كَسْبٌ وَ . . . (1) وَمِنْهُ مَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَأَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ أَوْ اسْتَنَدُوا إلَيْهِ فِي الْعَمَلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاطِلًا [ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ لِامْتِنَاعِ ] (2) اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ وَهُوَ . . .(3) وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ بِنَفْسِهِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ كَالْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمُسْتَنِدِ إلَى قِيَاسٍ وَاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ و . . . (4) الْمُخْتَلَفُ هُوَ فِي نَفْسِهِ ظَنِّيٌّ فَكَيْفَ يَنْقَلِبُ قَطْعِيًّا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الظَّنَّ وَالْقَطْعَ مِنْ عَوَارِضِ اعْتِقَادِ النَّاظِرِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْخَبَرُ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَكْتَسِبْ صِفَةً . الثَّانِي : مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ أَوْ بِتَكْذِيبِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ أَوْ الْكِتَابِ أَوْ

السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَ أَقْسَامِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ وَهُوَ كَثِيرٌ أَوْ بِقَرَائِنَ وَالْقَرَائِنُ فِي الْبَابَيْنِ لَا تَحْصُلُ مُحَقَّقَةً إلَّا لِذِي دِرَايَةٍ بِهَذَا الشَّأْنِ وَإِلَّا فَغَيْرُهُمْ جَهَلَةٌ بِهِ . الثَّالِثُ : الْمُحْتَمَلُ وَيَنْقَسِمُ إلَى مُسْتَفِيضٍ وَغَيْرِهِ وَلَهُ دَرَجَاتٌ فَالْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ لَا يُسَاوِي مَا رَوَاهُ غَيْرُهُمَا مِنْ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ وَقَلِيلِ الصُّحْبَةِ .
فَصْلٌ :
الْخَطَأُ فِي الْخَبَرِ يَقَعُ مِنْ الرَّاوِي إمَّا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا ؛ وَلِهَذَا اُشْتُرِطَ فِي الرَّاوِي الْعَدَالَةُ لِنَأْمَنَ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَالْحِفْظِ وَالتَّيَقُّظِ لِنَأْمَنَ مِنْ السَّهْوِ . وَالسُّهُولَةُ أَسْبَابٌ : أَحَدُهَا : الِاشْتِغَالُ عَنْ هَذَا الشَّأْنِ بِغَيْرِهِ فَلَا يَنْضَبِطُ لَهُ كَكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ . وَثَانِيهَا : الْخُلُوُّ عَنْ مَعْرِفَةِ هَذَا الشَّأْنِ .

وَثَالِثُهَا : التَّحْدِيثُ مِنْ الْحِفْظِ ؛ فَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَضْبِطُ ذَلِكَ . وَرَابِعُهَا : أَنْ يُدْخِلَ فِي حَدِيثِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَيُزَوِّرَ عَلَيْهِ . وَخَامِسُهَا : أَنْ يَرْكَنَ إلَى الطَّلَبَةِ فَيُحَدِّثُ بِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِهِ . وَسَادِسُهَا : الْإِرْسَالُ وَرُبَّمَا كَانَ الرَّاوِي لَهُ غَيْرِ مَرْضِيٍّ . وَسَابِعُهَا : التَّحْدِيثُ مِنْ كِتَابٍ ؛ لِإِمْكَانِ اخْتِلَافِهِ . فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا اُشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي حَافِظًا ضَابِطًا مَعَهُ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا يُؤْمَنُ مَعَهُ كَذِبُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ وَرُبَّمَا كَانَ لَا يَسْهُو ثُمَّ وَقَعَ لَهُ السَّهْوُ فِي الْآخَرِ مِنْ حَدِيثِهِ فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَزِلُّ وَلَا يَسْهُو وَذَلِكَ يَعْرِفُهُ أَرْبَابُ هَذَا الشَّأْنِ بِرِوَايَةِ النُّظَرَاءِ وَالْأَقْرَانِ وَرُبَّمَا كَانَ مُغَفَّلًا وَاقْتَرَنَ بِحَدِيثِهِ مَا يُصَحِّحُهُ كَقَرَائِنَ تُبَيِّنُ أَنَّهُ حَفِظَ مَا حَدَّثَ بِهِ وَإِنَّهُ لَمْ يَخْلِطْ فِي الْجَمِيعِ . وَتَعَمُّدُ الْكَذِبِ لَهُ أَسْبَابٌ : أَحَدُهَا : الزَّنْدَقَةُ وَالْإِلْحَادُ فِي دِينِ اللَّهِ { وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } . وَثَانِيهَا : نُصْرَةُ الْمَذَاهِبِ وَالْأَهْوَاءِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعُ وَالْوَسَائِطِ .

وَثَالِثُهَا : التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ لِمَنْ يَظُنُّ جَوَازَ ذَلِكَ . وَرَابِعُهَا : الْأَغْرَاضُ الدُّنْيَوِيَّةُ لِجَمْعِ الْحُطَامِ . وَخَامِسُهَا : حُبُّ الرِّيَاسَةِ بِالْحَدِيثِ الْغَرِيبِ .
فَصْلٌ :
الرَّاوِي إمَّا أَنْ تُقْبَلَ رِوَايَتُهُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا فَأَمَّا الْمَقْبُولُ إطْلَاقًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَأْمُونَ الْكَذِبِ بِالْمَظِنَّةِ وَشَرْطُ ذَلِكَ الْعَدَالَةُ وَخُلُوُّهُ عَنْ الْأَغْرَاضِ وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يُظَنُّ مَعَهَا جَوَازُ الْوَضْعِ وَأَنْ يَكُونَ مَأْمُونَ السَّهْوِ بِالْحِفْظِ وَالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ وَلِكُلِّ حَدِيثٍ ذَوْقٌ وَيَخْتَصُّ بِنَظَرِ لَيْسَ لِلْآخَرِ .
فَصْلٌ :
كَمْ مِنْ حَدِيثٍ صَحِيحِ الِاتِّصَالِ ثُمَّ يَقَعُ فِي أَثْنَائِهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فَرُبَّ زِيَادَةِ لَفْظَةٍ تُحِيلُ الْمَعْنَى وَنَقْصِ أُخْرَى كَذَلِكَ وَمَنْ مَارَسَ هَذَا الْفَنَّ لَمْ يَكَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَوَاقِعُ ذَلِكَ وَلِتَصْحِيحِ الْحَدِيثِ وَتَضْعِيفِهِ أَبْوَابَ تَدْخُلُ وَطُرُقٌ تُسْلَكُ وَمَسَالِكُ تُطْرَقُ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فَلَفْظُ الْمُتَوَاتِرِ : يُرَادُ بِهِ مَعَانٍ ؛ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُسَمِّي مُتَوَاتِرًا إلَّا مَا رَوَاهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ يَكُونُ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ فَقَطْ وَيَقُولُونَ : إنَّ كُلَّ عَدَدٍ أَفَادَ الْعِلْمَ فِي قَضِيَّةٍ أَفَادَ مِثْلُ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْعِلْمَ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ : أَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ بِكَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ تَارَةً وَقَدْ يَحْصُلُ بِصِفَاتِهِمْ لِدِينِهِمْ وَضَبْطِهِمْ وَقَدْ يَحْصُلُ بِقَرَائِنَ تَحْتَفُّ بِالْخَبَرِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ وَقَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِطَائِفَةِ دُونَ طَائِفَةٍ . وَأَيْضًا فَالْخَبَرُ الَّذِي تَلَقَّاهُ الْأَئِمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِمُوجَبِهِ يُفِيدُ الْعِلْمَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ وَهَذَا فِي مَعْنَى الْمُتَوَاتِرِ ؛ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّيه الْمَشْهُورَ وَالْمُسْتَفِيضَ وَيُقَسِّمُونَ الْخَبَرَ إلَى مُتَوَاتِرٍ

وَمَشْهُورٍ وَخَبَرٍ وَاحِدٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَكْثَرُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مَعْلُومَةٌ مُتْقَنَةٌ تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَأَجْمَعُوا عَلَى صِحَّتِهَا وَإِجْمَاعُهُمْ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَأِ كَمَا أَنَّ إجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْأَحْكَامِ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَأِ وَلَوْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُكْمٍ كَانَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُ أَحَدِهِمْ خَبَرَ وَاحِدٍ أَوْ قِيَاسًا أَوْ عُمُومًا فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ خَبَرٍ أَفَادَ الْعِلْمَ وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ ؛ لَكِنَّ إجْمَاعَهُمْ مَعْصُومُ عَنْ الْخَطَأِ . ثُمَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّتِهَا قَدْ تَتَوَاتَرُ وَتَسْتَفِيضُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ وَقَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِصِدْقِهَا لِبَعْضِهِمْ لِعِلْمِهِ بِصِفَاتِ الْمُخْبِرِينَ وَمَا اقْتَرَنَ بِالْخَبَرِ مِنْهُ الْقَرَائِنُ الَّتِي تُفِيدُ الْعِلْمَ كَمَنْ سَمِعَ خَبَرًا مِنْ الصِّدِّيقِ أَوْ الْفَارُوقِ يَرْوِيه بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَدْ كَانُوا شَهِدُوا مِنْهُ مَا شَهِدَ وَهُمْ مُصَدِّقُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَهُمْ مُقِرُّونَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } هُوَ مِمَّا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَيْسَ هُوَ فِي أَصْلِهِ مُتَوَاتِرًا ؛ بَلْ هُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ لَكِنْ لَمَّا تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ صَارَ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ . وَفِي السُّنَنِ أَحَادِيثُ تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ } فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ وَهُوَ فِي السُّنَنِ لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ .

وَأَمَّا عَدَدُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّوَاتُرُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ لَهُ عَدَدًا مَحْصُورًا ثُمَّ يُفَرِّقُ هَؤُلَاءِ فَقِيلَ : أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَقِيلَ : اثْنَا عَشَرَ وَقِيلَ : أَرْبَعُونَ وَقِيلَ : سَبْعُونَ وَقِيلَ : ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَاطِلَةٌ لِتَكَافُئِهَا فِي الدَّعْوَى . وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ : أَنَّ التَّوَاتُرَ لَيْسَ لَهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِخَبَرِ مِنْ الْأَخْبَارِ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ ضَرُورَةً كَمَا يَحْصُلُ الشِّبَعُ عَقِيبَ الْأَكْلِ وَالرِّيِّ عِنْدَ الشُّرْبِ وَلَيْسَ لَمَّا يَشْبَعُ كُلُّ وَاحِدٍ وَيَرْوِيه قَدْرٌ مُعَيَّنٌ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ الشِّبَعُ لِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَقَدْ يَكُونُ لِجَوْدَتِهِ كَاللَّحْمِ وَقَدْ يَكُونُ لِاسْتِغْنَاءِ الْآكِلِ بِقَلِيلِهِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ لِاشْتِغَالِ نَفْسِهِ بِفَرَحِ أَوْ غَضَبٍ ؛ أَوْ حُزْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَذَلِكَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِيبَ الْخَبَرِ تَارَةً يَكُونُ لِكَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ وَإِذَا كَثُرُوا فَقَدْ يُفِيدُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا . وَتَارَةً يَكُونُ لِدِينِهِمْ وَضَبْطِهِمْ . فَرُبَّ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ يَحْصُلُ مِنْ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ مَا لَا يَحْصُلُ بِعَشَرَةِ وَعِشْرِينَ لَا يُوثَقُ بِدِينِهِمْ وَضَبْطِهِمْ وَتَارَةً قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِكَوْنِ كُلٍّ مِنْ الْمُخْبِرِينَ أَخْبَرَ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْآخَرُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاطَآ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ الِاتِّفَاقُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِثْلَ مَنْ يَرْوِي حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ فُصُولٌ وَيَرْوِيه آخَرُ لَمْ يَلْقَهُ . وَتَارَةً يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْخَبَرِ لِمَنْ عِنْدُهُ الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ وَالْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ وَبِمَا أَخْبَرُوا بِهِ

مَا لَيْسَ لِمَنْ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ . وَتَارَةً يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْخَبَرِ لِكَوْنِهِ رُوِيَ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ شَارَكُوا الْمُخْبِرَ فِي الْعِلْمِ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ الْكَثِيرَةَ قَدْ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ كَمَا يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ لَهُ أَسْبَابٌ غَيْرَ مُجَرَّدِ الْعَدَدِ عُلِمَ أَنَّ مَنْ قَيَّدَ الْعِلْمَ بِعَدَدِ مُعَيَّنٍ وَسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّوَاتُرُ يَنْقَسِمُ إلَى : عَامٍّ ؛ وَخَاصٍّ فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ قَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ السُّنَّةِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَ الْعَامَّةِ كَسُجُودِ السَّهْوِ وَوُجُوبِ الشُّفْعَةِ وَحَمْلِ الْعَاقِلَةِ الْعَقْلَ وَرَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ؛ وَأَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ ؛ وَالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ ؛ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ قَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ وَقَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِصِدْقِهِ لِقَوْمِ دُونَ قَوْمٍ فَمَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ وَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ الَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّتِهِ كَمَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يُسَلِّمُوا الْأَحْكَامَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا إلَى مَنْ أَجْمَعَ عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَصَمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ إجْمَاعُهَا بِأَنْ يُسَلِّمَ غَيْرُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ ؛ إذْ غَيْرُ الْعَالِمِ لَا يَكُونُ لَهُ قَوْلٌ وَإِنَّمَا الْقَوْلُ لِلْعَالِمِ فَكَمَا أَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ أَدِلَّةَ الْأَحْكَامِ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فَمَنْ لَا يَعْرِفُ طُرُقَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمِ أَنْ يَتْبَعَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَقَالَ أَيْضًا : (*)
فِي الرَّدِّ عَلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْكَلَامِ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَذَمُّوهُمْ بِقِلَّةِ الْفَهْمِ وَأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَ الْحَدِيثِ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ صَحِيحِهِ مِنْ ضَعِيفِهِ وَيَفْتَخِرُونَ عَلَيْهِمْ بِحِذْقِهِمْ وَدِقَّةِ عُلُومِهِمْ فِيهَا فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي بَعْضِهِمْ يَحْتَجُّونَ بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ وَآثَارٍ مُفْتَعَلَةٍ وَحِكَايَاتٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَيَذْكُرُونَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَا لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ وَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذَا عَجَائِبَ ؛ لَكِنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَقِيَّةِ الْمِلَلِ فَكُلُّ شَرٍّ فِي بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ وَكُلُّ خَيْرٍ يَكُونُ فِي غَيْرِهِمْ فَهُوَ فِيهِمْ أَعْظَمُ وَهَكَذَا أَهْلُ الْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ وَبِإِزَاءِ تَكَلُّمِ أُولَئِكَ بِأَحَادِيثَ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهَا تَكَلَّفَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَد : ضَعِيفُ الْحَدِيثِ خَيْرٌ مِنْ الرَّأْيِ وَقَدْ أَمَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو ابْنُ الصَّلَاحِ بِانْتِزَاعِ مَدْرَسَةٍ مَعْرُوفَةٍ

مِنْ أَبِي الْحَسَنِ الْآمِدِيَّ وَقَالَ : أَخْذُهَا مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ أَخْذِ عَكَّا . مَعَ أَنَّ الْآمِدِيَّ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِهِ أَكْثَرَ تَبَحُّرًا فِي الْفُنُونِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ مِنْهُ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ إسْلَامًا وَأَمْثَلِهِمْ اعْتِقَادًا وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأُمُورَ الدَّقِيقَةَ - سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا ؛ إيمَانًا أَوْ كُفْرًا - لَا تُدْرَكُ إلَّا بِذَكَاءِ وَفِطْنَةٍ ؛ فَلِذَلِكَ يستجهلون مَنْ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي عِلْمِهِمْ وَإِنْ كَانَ إيمَانُهُ أَحْسَنَ مِنْ إيمَانِهِمْ ؛ إذَا كَانَ مِنْهُ قُصُورٌ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَيَانِ وَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ } { وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } الْآيَاتِ . فَإِذَا تَقَلَّدُوا عَنْ طَوَاغِيتِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْقِيَاسِيَّةِ لَيْسَ بِعِلْمِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لِكَثِيرِ مِنْهُمْ مِنْهَا مَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ فَيَكُونُ كَافِرًا زِنْدِيقًا ؛ مُنَافِقًا جَاهِلًا ؛ ضَالًّا مُضِلًّا ظَلُومًا كَفُورًا وَيَكُونُ مِنْ أَكَابِرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ وَمُنَافِقِي الْمِلَّةِ مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } وَقَدْ يَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَيَكُونُ مُرْتَدًّا : إمَّا عَنْ أَصْلِ الدِّينِ أَوْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ إمَّا رِدَّةَ نِفَاقٍ وَإِمَّا رِدَّةَ كُفْرٍ وَهَذَا كَثِيرٌ غَالِبٌ ؛ لَا سِيَّمَا فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ فَهَؤُلَاءِ مِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالضَّلَالِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِذِكْرِهِ الْمَقَالُ .

وَإِذَا كَانَ فِي الْمَقَالَاتِ الْخَفِيَّةِ فَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ فِيهَا مُخْطِئٌ ضَالٌّ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ صَاحِبُهَا لَكِنْ ذَلِكَ يَقَعُ فِي طَوَائِفَ مِنْهُمْ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَعْلَمُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِهَا وَكَفَرَ مَنْ خَالَفَهَا مِثْلَ أَمْرِهِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ : مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ هَذَا أَظْهَرُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَمِثْلَ مُعَادَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَمِثْلَ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَالرِّبَا وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . ثُمَّ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ رُءُوسِهِمْ وَقَعُوا فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَكَانُوا مُرْتَدِّينَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتُوبُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيَعُودُونَ كَرُءُوسِ الْقَبَائِل مِثْلَ : الْأَقْرَعِ وعُيَيْنَة وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ فَفِيهِمْ مَنْ كَانَ يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقَلْبِ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَكَثِيرٌ مِنْ رُءُوسِ هَؤُلَاءِ هَكَذَا تَجِدُهُ تَارَةً يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ رِدَّةً صَرِيحَةً وَتَارَةً يَعُودُ إلَيْهَا وَلَكِنْ مَعَ مَرَضٍ فِي قَلْبِهِ وَنِفَاقٍ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَالٌ ثَالِثَةٌ يَغْلِبُ الْإِيمَانُ فِيهَا النِّفَاقَ لَكِنْ قَلَّ أَنْ يَسْلَمُوا مِنْ نَوْعِ نِفَاقٍ وَالْحِكَايَاتُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ ذَلِكَ طَرَفًا فِي أَوَّلِ " مُخْتَلَفِ الْحَدِيثِ " وَقَدْ حَكَى أَهْلُ الْمَقَالَاتِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا كَمَا يَذْكُرُهُ

أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَانِي وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرَستَانِي وَغَيْرُهُمْ . وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُصَنِّفُ فِي دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَالرِّدَّةِ عَنْ الْإِسْلَامِ كَمَا صَنَّفَ الرَّازِي كِتَابَهُ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَأَقَامَ الْأَدِلَّةَ عَلَى حُسْنٍ ذَلِكَ وَمَنْفَعَتِهِ وَرَغَّبَ فِيهِ وَهَذِهِ رِدَّةٌ عَنْ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ وَجَمِيعُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ لَا يَكْفِي فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ مُوَصِّلًا لِنَعِيمِ الْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ } الْآيَتَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَأَخْبَرَ هُنَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَ اللَّهِ وَحَّدُوا اللَّهَ وَتَرَكُوا الشِّرْكَ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ . وَهُوَ كَافِرٌ بِالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ : أَنَّهُ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ : { قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ } الْآيَةُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ } الْآيَتَيْنِ . وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ يُبَيِّنُ أَنَّ الرُّسُلَ أُمِرُوا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنُهُوا عَنْ عِبَادَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ سِوَاهُ وَأَنَّ

أَهْل السَّعَادَةِ هُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هَمّ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرُّسُلِ مُشْرِكُونَ فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ مُتَلَازِمَانِ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَالثَّلَاثَةُ مُتَلَازِمَةٌ ؛ وَلِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } . وَأَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الرِّسَالَةَ عَمَّتْ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ ؛ فَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ : تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ - سُبْحَانَهُ - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ لَهُمْ أَعْدَاءٌ وَهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ الْمُزَخْرَفَ وَهُوَ : الْمُزَيَّنُ الْمُحَسَّنُ يُغْرُونَ بِهِ وَالْغُرُورُ : التَّلْبِيسُ وَالتَّمْوِيهُ وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ كَلَامٍ وَكُلِّ عَمَلٍ يُخَالِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَمْرِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين ثُمَّ قَالَ : { وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } فَعَلِمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الرُّسُلِ وَتَرْكَ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ مُتَلَازِمَانِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْآخِرَةِ أَصْغَى إلَى زُخْرُفِ أَعْدَائِهِمْ فَخَالَفَ الرُّسُلَ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي أَصْنَافِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ } إلَى قَوْلِهِ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ

يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا الْكِتَابَ وَهُوَ الرِّسَالَةُ يَقُولُونَ إذَا جَاءَ تَأْوِيلُهُ - وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ - جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ . وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } . . الْآيَتَيْنِ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا اتِّبَاعَ آيَاتِهِ يُصِيبُهُمْ مَا ذَكَرَ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ أَصْلَ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ؛ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ فِي حِكْمَتِهِمْ لَيْسَ فِيهَا الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالنَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ كُلُّ شِرْكٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا حَدَثَ بِرَأْيِ جِنْسِهِمْ فَهُمْ الْآمِرُونَ بِالشِّرْكِ وَالْفَاعِلُونَ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالشِّرْكِ مِنْهُمْ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ بَلْ يُقِرُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ رَجَّحَ الْمُوَحِّدِينَ تَرْجِيحًا مَا فَقَدْ يُرَجِّحُ غَيْرُهُ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ يُعْرِضُ عَنْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ جِدًّا . وَقَدْ رَأَيْت مِنْ مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَةِ الْأَنْفُسِ الْمُفَارِقَةِ : أَنْفُسِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَا هُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَهُمْ إذَا ادَّعَوْا التَّوْحِيدَ فَإِنَّمَا تَوْحِيدُهُمْ بِالْقَوْلِ لَا بِالْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ وَالتَّوْحِيدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّوْحِيدِ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؛ وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَعْرِفُونَهُ .

وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي يَدَّعُونَهُ إنَّمَا هُوَ تَعْطِيلُ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَفِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْإِشْرَاكِ ؛ فَلَوْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ بِالْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَهُوَ : أَنْ يَصِفُوا اللَّهَ بِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ لَكَانَ مَعَهُمْ التَّوْحِيدُ دُونَ الْعَمَلِ وَذَلِكَ لَا يَكْفِي فِي السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَتَّخِذُوهُ إلَهًا دُونَ مَا سِوَاهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَكَيْفَ وَهُمْ فِي الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ مُعَطِّلُونَ جَاحِدُونَ لَا مُوَحِّدُونَ وَلَا مُخْلِصُونَ فَإِذَا كَانَ مَا تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَةُ وَالنَّجَاةُ مِنْ الشَّقَاوَةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَصْلًا كَانَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالسِّيَاسَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا . وَالْقَوْمُ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ ذَكَاءٌ وَفِطْنَةٌ وَفِيهِمْ زُهْدٌ وَأَخْلَاقٌ فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُوجِبُ السَّعَادَةَ وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ إلَّا بِالْأُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنَّمَا قُوَّةُ الذَّكَاءِ بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَدَنِ وَالْإِرَادَةِ فَاَلَّذِي يُؤْتَى فَضَائِلَ عِلْمِيَّةٍ وَإِرَادِيَّةٍ بِدُونِ هَذِهِ الْأُصُولِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤْتَى قُوَّةً فِي جِسْمِهِ وَبَدَنِهِ بِدُونِ هَذِهِ الْأُصُولِ وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيُؤْمِنُ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْعِلْمِ قَدْ يُعَارِضُونَ الرُّسُلَ ،

وَقَدْ يُتَابِعُونَهُمْ ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَذَكَرَ فِرْعَوْنَ ؛ وَاَلَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ لَمَّا آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ؛ وَالْمَلَأَ مِنْ قَوْمٍ نُوحٍ وَعَادٍ وَغَيْرَهُمْ وَذَكَرَ قَوْلَ عُلَمَائِهِمْ كَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } وَقَالَ : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } إلَى قَوْلِهِ : { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } إلَى قَوْلِهِ : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَالسُّلْطَانُ : هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : " حم غَافِرُ " مِنْ حَالِ مُخَالِفِي الرُّسُلِ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْعُلَمَاءِ وَمُجَادَلَتِهِمْ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ مِثْلَ قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } وَمِثْلَ قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَعَامَّةِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَطَائِفَةٍ مِنْ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ ؛ فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى خِطَابِ هَؤُلَاءِ وَضَرْبِ الْمَقَايِيسِ وَالْأَمْثَالِ لَهُمْ وَذِكْرِ قَصَصِهِمْ وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مَعَهُمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ - سُبْحَانَهُ - : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } . . الْآيَةَ . فَأَخْبَرَ بِمَا مُكِّنُوا فِيهِ مِنْ أَصْنَافِ

الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا حَيْثُ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَالرِّسَالَةِ ؛ وَلِهَذَا حَدَّثَنِي ابْنُ الشَّيْخِ الْفَقِيه الْخُضَرِيّ (*) عَنْ وَالِدِهِ شَيْخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَنِهِ قَالَ : كَانَ فُقَهَاءُ بخارى يَقُولُونَ فِي ابْنِ سِينَا : { كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } الْآيَةَ وَالْقُوَّةُ تَعُمُّ قُوَّةَ الْإِدْرَاكِ النَّظَرِيَّةِ وَقُوَّةَ الْحَرَكَةِ الْعَمَلِيَّةِ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } فَأَخْبَرَ بِفَضْلِهِمْ فِي الْكُمِّ وَالْكَيْفِ وَأَنَّهُمْ أَشَدَّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي آثَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ . وَقَدْ قَالَ - سُبْحَانَهُ - عَنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْعِلْمِ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يُذْكَرُ فِيهِ قَوْلُ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ وَأَفْعَالُهُمْ وَمَا أُوتُوهُ مِنْ قُوَى الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الَّتِي لَمْ تَنْفَعْهُمْ لَمَّا خَالَفُوا الرُّسُلَ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَالْمُلُوكِ مِنْ النِّفَاقِ وَالضَّلَالِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } الْآيَةَ و ( يَصُدُّونَ ) يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا ؛ يُقَالُ : صَدَّ صُدُودًا

أَعْرَضَ كَقَوْلِهِ : { رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } وَيُقَالُ : صَدَّ غَيْرَهُ يَصُدُّهُ وَالْوَصْفَانِ يَجْتَمِعَانِ فِيهِمْ . وَمِثْلَ قَوْله تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } الْآيَةَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ : رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا } فَبَيَّنَ أَنَّ فِي الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مُؤْمِنِينَ وَمُنَافِقِينَ وَإِذَا كَانَ سَعَادَةُ الْأَوَّلِينَ والآخرين هِيَ اتِّبَاعُ الْمُرْسَلِينَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِذَلِكَ أَعْلَمُهُمْ بِآثَارِ الْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَعُهُمْ لِذَلِكَ فَالْعَالِمُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ الْمُتَّبِعُونَ لَهَا هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَهُمْ الطَّائِفَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالرُّسُلُ عَلَيْهِمْ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَقَدْ بَلَّغُوا الْبَلَاغَ الْمُبِينَ . وَخَاتَمُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَزَلَ إلَيْهِ [ الْلَّهُ ] (1) كِتَابًا مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْأَمِينُ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ وَقَدْ

بَلَّغَ أَبْيَنَ الْبَلَاغِ وَأَتَمَّهُ وَأَكْمَلَهُ وَكَانَ أَنْصَحَ الْخَلْقِ لِعِبَادِ اللَّهِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ فَأَسْعَدُ الْخَلْقِ وَأَعْظَمُهُمْ نَعِيمًا وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً أَعْظَمُهُمْ اتِّبَاعًا لَهُ وَمُوَافَقَةً عِلْمًا وَعَمَلًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي أَحَادِيثَ يَحْتَجُّ بِهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَشْيَاءَ وَهِيَ بَاطِلَةٌ :
مِنْهَا : قَوْلُهُمْ : إنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } فَإِنَّ هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يُرْوَى فِي حِكَايَةٍ مُنْقَطِعَةٍ . وَمِنْهَا : قَوْلُهُمْ : { نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ } وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ . وَمِنْهَا : حَدِيثُ مُحَلِّلِ السِّبَاقِ إذَا أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ فَإِنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ قَوْلِهِ : هَكَذَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَغَلِطَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ فَرَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُد السجستاني وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ حُسَيْنٍ هَذَا يَغْلَطُ فِيمَا يَرْوِيه عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَمُحَلِّلُ السِّبَاق لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ بِمُحَلِّلِ السِّبَاقِ وَقَدْ رَوَى عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَغَيْرِهِ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَابَقُونَ بِجُعْلِ وَلَا يُدْخِلُونَ بَيْنَهُمْ مُحَلِّلًا وَاَلَّذِينَ قَالُوا : هَذَا مِنْ الْفُقَهَاءِ ظَنُّوا أَنَّهُ يَكُونُ قِمَارًا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْمُحَلِّلِ يَخْرُجُ عَنْ شَبَهِ الْقِمَارِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ بَلْ بِالْمُحَلِّلِ مِنْ . . . (1) الْمُخَاطَرَةِ وَفِي الْمُحَلِّلِ ظُلْمٌ لِأَنَّهُ إذَا سَبَقَ أَخَذَ ؛ وَإِذَا سَبَقَ لَمْ يُعْطَ وَغَيْرُهُ إذَا سَبَقَ أُعْطِيَ فَدُخُولُ الْمُحَلِّلِ ظُلْمٌ لَا تَأْتِي بِهِ الشَّرِيعَةُ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَاَللَّهِ أَعْلَمُ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ : إذَا جَاءَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ شَدَّدْنَا فِي الْأَسَانِيدِ ؛ وَإِذَا جَاءَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ تَسَاهَلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ ؛ وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ : لَيْسَ مَعْنَاهُ إثْبَاتُ الِاسْتِحْبَابِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُحْتَجُّ بِهِ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِحْبَابَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ اللَّهِ أَنَّهُ يُحِبُّ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَقَدْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَمَا لَوْ أَثْبَتَ الْإِيجَابَ أَوْ التَّحْرِيمَ ؛ وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَمَا يَخْتَلِفُونَ فِي غَيْرِهِ بَلْ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الْمَشْرُوعِ . وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ أَوْ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ؛ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ ؛ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ ؛ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ ؛ وَكَرَاهَةِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِذَا رُوِيَ حَدِيثٌ فِي فَضْلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ

الْمُسْتَحَبَّةِ وَثَوَابِهَا وَكَرَاهَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَعِقَابِهَا : فَمَقَادِيرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَأَنْوَاعُهُ إذَا رُوِيَ فِيهَا حَدِيثٌ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ جَازَتْ رِوَايَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ بِمَعْنَى : أَنَّ النَّفْسَ تَرْجُو ذَلِكَ الثَّوَابَ أَوْ تَخَافُ ذَلِكَ الْعِقَابَ كَرَجُلِ يَعْلَمُ أَنَّ التِّجَارَةَ تَرْبَحُ لَكِنْ بَلَغَهُ أَنَّهَا تَرْبَحُ رِبْحًا كَثِيرًا فَهَذَا إنْ صَدَقَ نَفَعَهُ وَإِنْ كَذَبَ لَمْ يَضُرَّهُ ؛ وَمِثَالُ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ بالإسرائيليات ؛ وَالْمَنَامَاتِ وَكَلِمَاتِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ ؛ وَوَقَائِعِ الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِهِ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ؛ لَا اسْتِحْبَابٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ ؛ وَالتَّرْجِيَةِ وَالتَّخْوِيفِ . فَمَا عُلِمَ حُسْنُهُ أَوْ قُبْحُهُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا فَمَا عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ مَوْضُوعٌ لَمْ يُجَزْ الِالْتِفَاتُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَحِيحٌ أُثْبِتَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ وَإِذَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ رُوِيَ لِإِمْكَانِ صِدْقِهِ وَلِعَدَمِ الْمَضَرَّةِ فِي كَذِبِهِ وَأَحْمَد إنَّمَا قَالَ : إذَا جَاءَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ تَسَاهَلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ . وَمَعْنَاهُ : أَنَّا نَرْوِي فِي ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثُوهَا مِنْ الثِّقَاتِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِهِمْ . فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُعْمَلُ بِهَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ إنَّمَا الْعَمَلُ بِهَا الْعَمَلُ بِمَا فِيهَا مِنْ

الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِثْلَ التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَالِاجْتِنَابِ لِمَا كُرِهَ فِيهَا مِنْ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ } فَإِنَّهُ رَخَّصَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمْ وَمَعَ هَذَا نَهَى عَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْدِيثِ الْمُطْلَقِ عَنْهُمْ فَائِدَةٌ لِمَا رَخَّصَ فِيهِ وَأَمَرَ بِهِ وَلَوْ جَازَ تَصْدِيقُهُمْ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ لَمَا نَهَى عَنْ تَصْدِيقِهِمْ ؛ فَالنُّفُوسُ تَنْتَفِعُ بِمَا تَظُنُّ صِدْقَهُ فِي مَوَاضِعَ . فَإِذَا تَضَمَّنَتْ أَحَادِيثُ الْفَضَائِلِ الضَّعِيفَةِ تَقْدِيرًا وَتَحْدِيدًا مِثْلَ صَلَاةٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِقِرَاءَةِ مُعَيَّنَةٍ أَوْ عَلَى صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْبَابَ هَذَا الْوَصْفِ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ بِخِلَافِ مَا لَوْ رُوِيَ فِيهِ مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَانَ لَهُ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ فِي السُّوقِ مُسْتَحَبٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بَيْنَ الْغَافِلِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : { ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ كَالشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ بَيْنَ الشَّجَرِ الْيَابِسِ } .

فَأَمَّا تَقْدِيرُ الثَّوَابِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ فَلَا يَضُرُّ ثُبُوتُهُ وَلَا عَدَمُ ثُبُوتِهِ وَفِي مِثْلِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ : { مَنْ بَلَغَهُ عَنْ اللَّهِ شَيْءٌ فِيهِ فَضْلٌ فَعَمِلَ بِهِ رَجَاءَ ذَلِكَ الْفَضْلِ أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ } . فَالْحَاصِلُ : أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُرْوَى وَيُعْمَلُ بِهِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَا فِي الِاسْتِحْبَابِ ثُمَّ اعْتِقَادُ مُوجِبِهِ وَهُوَ مَقَادِيرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ .

وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أُمُورٍ مُتَنَوِّعَةٍ فِي الْفَسَادِ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ بِالتَّوَاتُرِ ؛ إذْ التَّوَاتُرُ نَقْلُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ عَنْ الْجَمِّ الْغَفِيرِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَنْ أَنْكَرَ تَوَاتُرَ حَدِيثٍ وَاحِدٍ فَيُقَالُ لَهُ : التَّوَاتُرُ نَوْعَانِ : تَوَاتُرٌ عَنْ الْعَامَّةِ ؛ وَتَوَاتُرٌ عَنْ الْخَاصَّةِ وَهُمْ أَهْلُ عِلْمِ الْحَدِيثِ . وَهُوَ أَيْضًا قِسْمَانِ : مَا تَوَاتَرَ لَفْظُهُ ؛ وَمَا تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ . فَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالرُّؤْيَةِ وَفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَتَوَاتَرْ لَفْظٌ بِعَيْنِهِ وَكَذَلِكَ مُعْجِزَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَارِجَةُ عَنْ الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرَةٌ أَيْضًا وَكَذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ مُتَوَاتِرٌ أَيْضًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ بِالشُّفْعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ مَا لَا يَتَوَاتَرُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ ؛ لِكَوْنِهِمْ

سَمِعُوا مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُمْ وَعَلِمُوا مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ غَيْرُهُمْ وَالتَّوَاتُرُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ ؛ بَلْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ ادَّعَى أَنَّ لَهُ عَدَدًا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْعِلْمُ مِنْ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ كُلُّ مُخْبِرٍ وَنَفَوْا ذَلِكَ عَنْ الْأَرْبَعَةِ وَتَوَقَّفُوا فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا وَهَذَا غَلَطٌ فَالْعِلْمُ يَحْصُلُ تَارَةً بِالْكَثْرَةِ ؛ وَتَارَةً بِصِفَاتِ الْمُخْبِرِينَ ؛ وَتَارَةً بِقَرَائِنَ تَقْتَرِنُ بِأَخْبَارِهِمْ وَبِأُمُورِ أُخَرَ . وَأَيْضًا فَالْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ الْوَاحِدُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالِاثْنَانِ : إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ أَفَادَ الْعَلَمَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا : الْمُسْتَفِيضَ . وَالْعِلْمُ هُنَا حَصَلَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ عَلَى خَطَإِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ : مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ رَجُلٍ سَمِعَ كُتُبَ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ " كِتَابُ الْحِلْيَةِ " لَمْ يَسْمَعْهُ فَقِيلَ لَهُ : لِمَ لَا تَسْمَعُ أَخْبَارَ السَّلَفِ ؟ فَقَالَ : لَا أَسْمَعُ مِنْ كِتَابِ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْئًا . فَقِيلَ : هُوَ إمَامٌ ثِقَةٌ شَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ فِي وَقْتِهِ فَلِمَ لَا تَسْمَعُ وَلَا تَثِقُ بِنَقْلِهِ ؟ فَقِيلَ لَهُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَك عَالِمُ الزَّمَانِ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة فِي حَالِ أَبِي نُعَيْمٍ ؟ فَقَالَ : أَنَا أَسْمَعُ مَا يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَأَرْجِعُ إلَيْهِ . فَأَرْسَلَ هَذَا السُّؤَالَ مِنْ دِمَشْقَ
فَأَجَابَ فِيهِ الشَّيْخُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأصبهاني صَاحِبُ كِتَابِ " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ " " وَتَارِيخِ أصبهان " " وَالْمُسْتَخْرَجِ عَلَى الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ " و " كِتَابِ الطِّبِّ " " وَعَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ " و " فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ " و " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " و " صِفَةِ الْجَنَّةِ " و " مَحَجَّةِ الْوَاثِقِينَ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ : مِنْ أَكْبَرِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَمِنْ أَكْثَرِهِمْ تَصْنِيفَاتٍ وَمِمَّنْ انْتَفَعَ النَّاسُ بِتَصَانِيفِهِ وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ : ثِقَةٌ ؛ فَإِنَّ دَرَجَتَهُ فَوْقَ ذَلِكَ وَكِتَابَهُ " كِتَابُ الْحِلْيَةِ " مِنْ أَجْوَدِ

الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي أَخْبَارِ الزُّهَّادِ وَالْمَنْقُولُ فِيهِ أَصَحُّ مِنْ الْمَنْقُولِ فِي رِسَالَةِ القشيري وَمُصَنَّفَاتِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي شَيْخِهِ وَمَنَاقِبِ الْأَبْرَارِ لِابْنِ خَمِيسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ أَبَا نُعَيْمٍ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَأَكْثَرُ حَدِيثًا وَأَثْبَتُ رِوَايَةً وَنَقْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَكِنْ كِتَابُ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَد وَالزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِمَا أَصَحُّ نَقْلًا مِنْ الْحِلْيَةِ . وَهَذِهِ الْكُتُبُ وَغَيْرُهَا لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ وَحِكَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ بَلْ بَاطِلَةٍ وَفِي الْحِلْيَةِ مِنْ ذَلِكَ قَطْعٌ وَلَكِنَّ الَّذِي فِي غَيْرِهَا مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ أَكْثَرُ مِمَّا فِيهَا ؛ فَإِنَّ فِي مُصَنَّفَاتِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي ؛ وَرِسَالَةِ القشيري ؛ وَمَنَاقِبِ الْأَبْرَارِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْبَاطِلَةِ بَلْ وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ : مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي مُصَنَّفَاتِ أَبِي نُعَيْمٍ وَلَكِنْ " صَفْوَةُ الصَّفْوَةِ " لِأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ نَقَلَهَا مِنْ جِنْسِ نَقْلِ الْحِلْيَةِ وَالْغَالِبُ عَلَى الْكِتَابَيْنِ الصِّحَّةُ وَمَعَ هَذَا فَفِيهِمَا أَحَادِيثُ وَحِكَايَاتٌ بَاطِلَةٌ وَأَمَّا الزُّهْدُ لِلْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوَهُ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْحِكَايَاتِ الْمَوْضُوعَةِ مِثْلُ مَا فِي هَذِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَذْكُرُ فِي مُصَنَّفَاتِهِ عَمَّنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْوَضْعِ بَلْ قَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ بِسُوءِ حِفْظِ نَاقِلِهِ وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ قُصِدَ الْكَذِبُ فِيهِ كَمَا لَيْسَ ذَلِكَ فِي مُسْنَدِهِ لَكِنْ فِيهِ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ غَلَطٌ غَلِطَ فِيهِ رُوَاتُهُ وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ فِي غَالِبِ كُتُبِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَسْلَمُ كِتَابٌ مِنْ الْغَلَطِ إلَّا الْقُرْآنُ .

وَأَجَلُّ مَا يُوجَدُ فِي الصِّحَّةِ " كِتَابُ الْبُخَارِيِّ " وَمَا فِيهِ مَتْنٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ غَلَطٌ عَلَى الصَّاحِبِ لَكِنْ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ مَا هُوَ غَلَطٌ وَقَدْ بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ فِي نَفْسِ صَحِيحِهِ مَا بَيَّنَ غَلَطَ ذَلِكَ الرَّاوِي كَمَا بَيَّنَ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي ثَمَنِ بَعِيرِ جَابِرٍ وَفِيهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَا يُقَالُ : إنَّهُ غَلَطٌ كَمَا فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا . وَفِيهِ عَنْ أُسَامَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي الْبَيْتِ } . وَفِيهِ عَنْ بِلَالٍ : أَنَّهُ صَلَّى فِيهِ وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَفِيهِ أَلْفَاظٌ عُرِفَ أَنَّهَا غَلَطٌ كَمَا فِيهِ : { خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ } وَقَدْ بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ وَأَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ كَعْبٍ وَفِيهِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْكُسُوفَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ } وَالصَّوَابُ : أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْكُسُوفَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَفِيهِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ سَأَلَهُ التَّزَوُّجَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ وَهَذَا غَلَطٌ . وَهَذَا مِنْ أَجَلِّ فُنُونِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يُسَمَّى : عِلْمَ " عِلَلِ الْحَدِيثِ " وَأَمَّا كِتَابُ حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ فَمِنْ أَجْوَدِ مُصَنَّفَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَخْبَارِ الزُّهَّادِ وَفِيهِ مِنْ الْحِكَايَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ وَالْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ فِي أَوَائِلِهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ نَسَخَ بِيَدِهِ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالْقُرْآنَ وَهُوَ نَاوٍ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَسَخَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْبَيْعِ هَلْ يُؤْجَرُ ؟ إلَخْ .
فَأَجَابَ : وَأَمَّا كُتُبُ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفَةُ : مِثْلَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ . فَلَيْسَ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا : مِثْلَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَمِيدِيِّ وَلِعَبْدِ الْحَقِّ الإشبيلي وَبَعْدَ ذَلِكَ كُتُبُ السُّنَنِ : كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد ؛ وَالنَّسَائِي ؛ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ ؛ وَالْمَسَانِدِ : كَمُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ ؛ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ فِيهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْكُتُبِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ أَصَحُّ مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ يَعْنِي بِذَلِكَ مَا صُنِّفَ عَلَى طَرِيقَتِهِ ؛ فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يَجْمَعُونَ فِي الْبَابِ بَيْن الْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَمْ تَكُنْ وَضِعَتْ كُتُبُ الرَّأْيِ الَّتِي تُسَمَّى " كُتُبَ

الْفِقْهِ " وَبَعْدَ هَذَا جُمِعَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ فِي جَمْعِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالْكُتُب الَّتِي تُحَبُّ وَيُؤْجَرُ الْإِنْسَانُ عَلَى كِتَابَتِهَا سَوَاءٌ كَتَبَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ كَتَبَهَا لِيَبِيعَهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّه يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ الْجَنَّةَ ثَلَاثَةً : صَانِعَهُ ؛ وَالرَّامِيَ بِهِ ؛ وَالْمُمِدَّ بِهِ } فَالْكِتَابَةُ كَذَلِكَ ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَوْ لِيَنْفَعَ بِهِ غَيْرَهُ . كِلَاهُمَا يُثَابُ عَلَيْهِ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رَبِّ أَعِنْ أَخْبَرَنَا الزَّيْنُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعِمَادِ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ زُرَيْقٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي كِتَابِهِ إلَيَّ غَيْرَ مَرَّةٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَحْمَد ابْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ المقدسي سَمَاعًا فِي يَوْمِ السَّبْتِ 24 صَفَرَ سَنَةَ 797 ( ح ) وَكَتَبَ إلَيَّ الْأَشْيَاخُ الثَّلَاثَةُ : أَبُو إسْحَاقَ الحرملي وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْبَقَرِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الرسلاني قَالُوا : أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْنِ عُثْمَانَ الذَّهَبِيُّ إذْنًا مُطْلَقًا قَالَا : أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الْبَارِعُ الْأَوْحَدُ الْقُدْوَةُ الْحَافِظُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة قَالَ الذَّهَبِيُّ : بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ 721 . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيه وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ

شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضَلِّلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ :
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ بْنِ نِعْمَةَ ابْنِ أَحْمَد المقدسي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 667 أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ سَعْدِ بْنِ كُلَيْبٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَيَانٍ الرَّزَّازُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مخلد الْبَزَّازُ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ بْنِ يَزِيدَ العبدي حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ السبيعي عَنْ الْبَرَاءِ ابْنِ عَازِبٍ قَالَ : { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَأَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ.

قَالَ : فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ : اجْعَلُوا حَجَّكُمْ عُمْرَةً قَالَ : فَقَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ فَكَيْفَ نَجْعَلُهَا عُمْرَةً ؟ . قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْظُرُوا الَّذِي آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا قَالَ : فَرَدُّوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ فَغَضِبَ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا غَضْبَانَ فَرَأَتْ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَتْ : مَنْ أَغْضَبَك أَغْضَبَهُ اللَّهُ قَالَ : وَمَالِي لَا أَغْضَبُ وَأَنَا آمِرٌ بِالْأَمْرِ وَلَا أُتْبَعُ } . رَوَاهُ النَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرِ ابْنِ عَيَّاشٍ مَوْلِدُهُ فِي صَفَرَ سَنَةَ 575 . وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ رَجَبٍ سَنَةَ 668 .
الْحَدِيثُ الثَّانِي :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْمُسْنَدُ كَمَالُ الدِّينِ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ ابْنِ الْخَضِرِ بْنِ شِبْلِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِيِّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسَ شَعْبَانَ سَنَةَ 669 بِجَامِعِ دِمَشْقَ أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَسَاكِرَ

قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي رَبِيعِ الْآخِرِ سَنَةَ 596 أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضَائِلِ نَاصِرُ بْنُ مَحْمُودِ ابْنِ عَلِيٍّ الْقُدْسِيِّ الصَّائِغُ وَأَبُو الْقَاسِمِ نَصْرُ بْنُ أَحْمَد بْنِ مُقَاتِلٍ السوسي ؛ قِرَاءَةً عَلَيْهِمَا قَالَا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَد بْنِ زُهَيْرٍ الْمَالِكِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الربعي الْمَالِكِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا خيثمة حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي رَأَيْت عَمُودَ الْكِتَابِ اُنْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي فَنَظَرْت فَإِذَا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ عَمَدَ بِهِ إلَى الشَّامِ أَلَا إنَّ الْإِيمَانَ - إذَا وَقَعَتْ الْفِتَنُ - بِالشَّامِ } . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 589 . وَتُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 672 .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ :
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْيُسْرِ التنوخي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي سَنَةِ 669 أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ بَرَكَاتُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الخشوعي قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ

الْخَضِرِ السُّلَمِي أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ طَاهِرُ بْنُ أَحْمَد بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَحْمُودٍ الْمَحْمُودِيِّ الْعَانِي أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مَنْصُورُ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ بِنْتِ الكاغدي حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْعَطَّارُ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ بكير بْنِ الْحَارِثِ الْقَيْسِيُّ حَدَّثَنَا وَكِيعُ ابْنُ الْجَرَّاحِ بْنِ مُلَيْحٍ الرواسي عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْت ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ فَيُقَالُ لِنُوحِ : مَنْ يَشْهَدُ لَك ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ } فَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } . قَالَ : الْوَسَطُ الْعَدْلُ " . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 589 . تُوُفِّيَ فِي صَفَرَ سَنَةَ 672 .
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ :
أَخْبَرَنَا الْفَقِيهُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَجْمِ ابْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَنْبَلِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا

أَسْمَعُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَاشِرَ شَوَّالٍ سَنَةَ 669 وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ الْقَوَّاسِ وَالْمُؤَمِّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ البالسي وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ فِي التَّارِيخِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ شيبان وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ الهروي وَأَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى ابْنُ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ وَالشَّمْسُ بْنُ الزَّيْنِ وَالْكَمَالُ عَبْدُ الرَّحِيمِ وَابْنُ الْعَسْقَلَانِيِّ وَزَيْنَبُ بِنْتُ مَكِّيٍّ وَسِتُّ الْعَرَبِ . قَالَ الْأَوَّلُ وَابْنُ شيبان وَزَيْنَبُ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ طبرزذ . وَقَالَ الْبَاقُونَ وَابْنُ شيبان : أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكِنْدِيُّ زَادَ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ فَقَالَ : وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَعَالِي بْنِ غُنَيْمَةَ بْنِ مَنِيّنَا قِرَاءَةً عَلَيْهِ قَالُوا : أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَد الْبَرْمَكِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ مَاسِيّ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الكجي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنِي حميد عَنْ { أَنَسٍ : أَنَّ الربيع بِنْتَ النَّضِرِ عَمَّتَهُ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ سِنَّهَا

فَعَرَضُوا عَلَيْهِمْ الْأَرْشَ فَأَبَوْا فَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضِرِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكَسَرَ سِنُّ الربيع ؟ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ سِنُّهَا - قَالَ : - يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَعَفَا الْقَوْمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّه مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لَأَبَرَّهُ . } . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ الْأَنْصَارِيِّ . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 592 . وَتُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ 672 .
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ :
أَخْبَرَنَا الْحَاجُّ الْمُسْنَدُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاسِعِ الهروي فِي رَابِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ 668 وَالْمَذْكُورُونَ بِسَنَدِهِمْ إلَى الْأَنْصَارِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي حميد عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّه أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ . ظَالِمًا ؟ قَالَ : تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَذَاكَ نَصْرُك إيَّاهُ } . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْن أَبِي شَيْبَةَ عَنْ هشيم . وَأَخْرَجَهُ

التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ الْأَنْصَارِيِّ - كَمَا أَخْرَجْنَاهُ - وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَأَخْبَرَنَا بِهِ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ أَبِي عُمَرَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَنِ الْكِنْدِيُّ ( فَذَكَرَهُ . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 594 . وَتُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ 673 .
الْحَدِيثُ السَّادِسُ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْمُسْنَدُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُؤَمِّلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُؤَمِّلِ البالسي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 669 وَالْمَذْكُورُونَ بِسَنَدِهِمْ إلَى الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ التيمي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ . } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صهيب عَنْ أَنَسٍ . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 602 وَقِيلَ ثَلَاثٍ . وَتُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ 677 .

الْحَدِيثُ السَّابِعُ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْعَدْلُ رَشِيدُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْعَامِرِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 669 وَالْمَذْكُورُونَ بِسَنَدِهِمْ إلَى الْأَنْصَارِيِّ حَدَّثَنِي التيمي حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : { عَطَسَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَشَمَّتَ - أَوْ فَشَمَّتَ - أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ - أَوْ فَشَمَّتَهُ وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ - فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَطَسَ عِنْدَك رَجُلَانِ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ تُشَمِّتْ الْآخَرَ - أَوْ فَشَمَّتَهُ وَلَمْ تُشَمِّتْ الْآخَرَ - فَقَالَ : إنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ فَشَمَّتّه وَأَنَّ هَذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ فَلَمْ أُشَمِّتْهُ . } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيّ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاث . كِلَاهُمَا عَنْ التيمي . تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 682 .

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ :
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ كَمَالُ الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ رَافِعِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَرَّانِي ابْنِ الصَّيْرَفِيِّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ 668 أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ يَحْيَى بْنِ بَرَكَةَ ابْنِ الديبقي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْحَسَنِ الْقَزَّازُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي حَادِيَ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ 534 أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ ابْنِ الْمُسْلِمِ الْمُعَدِّلُ إمْلَاءً مِنْ لَفْظِهِ بِاسْتِمْلَاءِ شَيْخِنَا أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ فِي صَفَرَ سَنَةَ 463 أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ الفريابي حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثَةٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } .

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْبَارِعُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 668 أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَبَدٍ الْكِنْدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَد بْنِ الْمُقْرِي أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَد بْنِ النقور أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمُخْلِصُ سَنَةَ 390 حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا يُونُسُ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَعَنْ لُبْسَتَيْنِ : أَنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ الثَّوْبَ الْوَاحِدَ وَيَشْتَمِلَ بِهِ وَيَطْرَحَ أَحَدَ جَانِبَيْهِ عَلَى مَنْكِبِهِ وَيَحْتَبِي فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ . وَأَنْ يَقُولَ : انْبِذْ إلَيَّ ثَوْبَك وَأَنْبِذُ إلَيْك ثَوْبِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَلِّبَا } . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 585 بِحَرَّانَ . وَتُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 670 بِدِمَشْقَ .

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ :
أَخْبَرَنَا شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غدير بْنِ الْقَوَّاسِ الطَّائِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 675 وَأَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْبُخَارِيِّ قَالَا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْخَضِرُ بْنُ كَامِلِ ابْنِ سَالِمٍ السروجي قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ أَحْمَد الْمُقْرِي . وَقَالَ الْفَخْرُ الْبُخَارِيُّ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَنِ الْكِنْدِيُّ أَيْضًا أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَد بْنِ عُمَرَ السَّمَرْقَنْدِيُّ قَالَا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النقور أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَارُونَ ابْنِ أَخِي مِيمِيِّي الدَّقَّاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا دَاوُد حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مرجانة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ

مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ دَاوُد بْنِ رَشِيدٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ دَاوُد نَفْسِهِ . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ ابْنِ الْهَادِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مرجانة . وُلِدَ سَنَةَ 602 وَتُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ 682 .
الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ :
أَخْبَرَنَا الْمَشَايِخُ الصُّلَحَاءُ الْمُسْنِدُونَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَدْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعِيشَ الْجَزْرِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ شيبان وَأَبُو الْفَضْلِ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَسْقَلَانِيُّ وَزَيْنَبُ بِنْتُ أَحْمَد بْنِ كَامِلٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 675 بقاسيون قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طبرزذ الْبَغْدَادِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَسْمَعُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ يُوسُفَ وَأَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْقَزَّازُ وَأَبُو الْفَتْحِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَيْضَاوِيُّ ؛ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْلِمِ الْمُعَدِّلُ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ

عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمُخْلِصُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ البغوي حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ جَعْفَرٍ . قَالَ البغوي : وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ مَالِكٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ البغوي : وَحَدَّثَنِي جَدِّي حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ . كُلُّهُمْ عَنْ حميد . عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { دَخَلْت الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِقَصْرِ مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْت : لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِشَابِّ مِنْ قُرَيْشٍ فَظَنَنْت أَنِّي أَنَا هُوَ فَقُلْت : وَمَنْ هُوَ ؟ قَالُوا : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ } . وَاللَّفْظُ لِابْنِ مُطِيعٍ . تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 675 .
الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ :
أَخْبَرَنَا الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَد بْنِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ أَبِي طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ عُرِفَ بِابْنِ السَّدِيدِ

الْأَنْصَارِيِّ الْحَنَفِيِّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ 675 أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَنِ زَيْدُ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْكِنْدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَخْبَرَتْنَا زَيْنَبُ بِنْتُ مَكِّيٍّ قَالَتْ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصِ ابْنُ طبرزذ . قَالَا : أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَنْصَارِيِّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عِيسَى الْبَاقِلَانِي حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ القطيعي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ عِمَارَةَ حَدَّثَنَا حميد الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّائِمُ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ } . تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ 677 وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً
الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُقْرِئُ الرَّئِيسُ الْفَاضِلُ كَمَالُ الدِّينِ أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَد بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ فَارِسً التَّمِيمِيُّ السَّعْدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ 674 أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ

الْكِنْدِيُّ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَسَنُونَ النرسي سَنَةَ 455 أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُخْلِصُ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ البغوي حَدَّثَنَا شريح بْنُ يُونُسَ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْآدَمِيُّ وَابْنُ الْبَزَّارِ وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالُوا : حَدَّثَنَا مَعْنٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ بَحِيرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ معدان عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجهني قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ وَالْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ } . أَخْبَرَنَاهُ عَالِيًا بِدَرَجَةِ وَيُوَافِقُهُ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ أَخْبَرَنَا ابْنُ كُلَيْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ بَيَانٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مخلد أَخْبَرَنَا الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا ابْنُ عَرَفَةَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ بَحِيرٍ ( فَذَكَرَهُ . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 596 . وَتُوُفِّيَ فِي صَفَرَ سَنَةَ 676 .
الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ :
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ الْمُسْنِدُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ أَبِي الْخَيْرِ سَلَامَةُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ الْحَدَّادِ الدِّمَشْقِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَأَنَا

أَسْمَعُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ 675 قُلْت لَهُ : أَخْبَرَك أَبُو سَعِيدٍ خَلِيلُ ابْنُ أَبِي الرَّجَاءِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ الراراني إجَازَةً وَقُرِئَ عَلَى وَالِدِي وَأَنَا أَسْمَعُ بِحَرَّانَ سَنَةَ 666 أَخْبَرَك يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا الراراني أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ الْحَدَّادُ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ إسْحَاقَ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ يُوسُفَ بْنِ خلاد حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ حَدَّثَنَا حميد عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبْلًا مَمْدُودًا بَيْن سَارِيَتَيْنِ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ . قَالَ : مَا هَذَا الْحَبْلُ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فُلَانَةُ تُصَلِّي مَا عَقَلَتْ ؛ فَإِذَا غَلَبَتْ أَخَذَتْ بِهِ قَالَ : فَلْتُصَلِّ مَا عَقَلَتْ ؛ فَإِذَا غَلَبَتْ فَلْتَنَمْ } . مَوْلِدُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ 609 وَتُوُفِّيَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ سَنَةَ 678
الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ :
أَخْبَرَنَا الْعَدْلُ الْمُسْنَدُ أَمِينُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَكْرِ ابْنِ قَاسِمِ بْنِ غُنَيْمَةَ الإربلي وَأَبُو بَكْرِ ابْنُ عُمَرَ بْنِ يُونُسَ الْمَزِيّ الْحَنَفِيُّ

وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْعَامِرِيُّ ؛ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 677 . قَالَ الْأَوَّلُ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُؤَيَّدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَد الفراوي . وَقَالَ الْآخَرَانِ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الحرستاني قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا الفراوي إجَازَةً أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَبْدُ الْغَافِرِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَد مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى ابْنِ عمرويه الجلودي أَخْبَرَنَا أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ القشيري حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ وَأَبُو الرَّبِيعِ الزهراني وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ كُلُّهُمْ عَنْ حَمَّادٍ . قَالَ خَلَفٌ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ } وُلِدَ الإربلي فِي سَنَةِ 595 أَوْ قَبْلَهَا بإربل وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ 680 وَوُلِدَ الْمَزِيّ سَنَةَ 593 وَتُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 680.

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ حَسَنٍ الْحَنَفِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي سَنَةِ 667 وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ علان وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ شيبان قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ الرصافي قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْحُصَيْنِ الشيباني أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَذْهَبِ التَّمِيمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ القطيعي حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ الشيباني رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنِي أَبِي أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا - إلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ قَنْصٍ - نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ } .

مَوْلِدُهُ سَنَةَ 595 . وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ 673 .
الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الزَّاهِدُ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قدامة المقدسي الْحَنْبَلِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 667 بقاسيون وَابْنُ شيبان وَابْنُ الْعَسْقَلَانِيِّ وَابْنُ الحموي قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طبرزذ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ ابْنِ الْحُصَيْنِ أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ غَيْلَانَ الْبَزَّازُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْوَاسِطِيَّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التيمي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النهدي عَنْ { أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْقَوْمُ يَصْعَدُونَ عَقَبَةً أَوْ ثَنْيَةً فَإِذَا صَعِدَ الرَّجُلُ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ - قَالَ : أَحْسَبُهُ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ - وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ يَعْرِضُهَا فِي الْجَبَلِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا مُوسَى

إنَّكُمْ لَا تُنَادُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا . ثُمَّ قَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ - أَوْ يَا أَبَا مُوسَى - أَلَا أَدُلَّك عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ . قَالَ قُلْت : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : قُلْ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } مَوْلِدُهُ سَنَةَ 597 . وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ 682 .
الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ :
أَخْبَرَنَا الْمُسْنَدُ الْأَصِيلُ الْعَدْلُ مَجْدُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 667 أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيِّ ابْنِ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَسَاكِرَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الدُّرِّ يَاقُوتُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرُّومِيُّ التَّاجِرُ مَوْلَى ابْنِ الْبُخَارِيِّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ . وَأَخْبَرَتْنَا زَيْنَبُ بِنْتُ مَكِّيٍّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَسْقَلَانِيِّ قَالَا : أَخْبَرَنَا ابْنُ طبرزذ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ الْأَشْقَرِ الدَّلَّالُ وَأَبُو غَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْنِ قُرَيْشٍ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ دحروج . قَالُوا جَمِيعُهُمْ : أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

هزار مرد الصريفيني قِرَاءَةً عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمُخْلِصُ إمْلَاءً فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 393 حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ البغوي حَدَّثَنَا شيبان بْنُ فَرُّوخٍ حَدَّثَنَا مُبَارَكُ ابْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَى جَانِبِ خَشَبَةٍ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَيْهَا . فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ قَالَ : ابْنُوا لِي مِنْبَرًا لَهُ عَتَبَتَانِ فَلَمَّا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ حَنَّتْ الْخَشَبَةُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ أَنَسٌ : وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعْت الْخَشَبَةَ تَحِنُّ حَنِينَ الْوَالِهِ فَمَا زَالَتْ تَحِنُّ حَتَّى نَزَلَ إلَيْهَا فَاحْتَضَنَهَا فَسَكَتَتْ وَكَانَ الْحَسَنُ إذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَكَى ثُمَّ قَالَ : يَا عِبَادَ اللَّهِ الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ شَوْقًا إلَيْهِ لِمَكَانِهِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إلَى لِقَائِهِ } . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 587 . وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ 699 .
الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الصَّدْرُ الرَّئِيسُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْغَنَائِمِ الْمُسْلِمُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْلِمِ بْنِ علان الْقَيْسِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي سَنَةِ

680 ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبُخَارِيِّ قَالَا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْكِنْدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْجَوْهَرِيُّ إمْلَاءً أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ القطيعي حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ وَلِلصَّائِمِ فرحتان : فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } . وُلِدَ سَنَةَ 594 . وَتُوُفِّيَ فِي سَادِسِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 680 .
الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ :
أَخْبَرَنَا الرَّئِيسُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الصُّعْرِ بْنِ السَّيِّدِ بْنِ الصَّانِعِ الْأَنْصَارِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي سَنَةِ 676

وَأَبُو الْعِزِّ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ الْمُجَاوِرِ وَالْمُسْلِمُ بْنُ علان قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْكِنْدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زُرَيْقٍ الْقَزَّازُ الشيباني قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ إسْمَاعِيلَ المحاملي حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَة عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ إلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي عَنْ أَبِي مُوسَى . تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ 679 .
الْحَدِيثُ الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ :
أَخْبَرَنَا أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُلْوِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الدرجي الْقُرَشِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ 680

أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْنِ نَصْرِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ الصَّيْدَلَانِيُّ إجَازَةً أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ الْحَدَّادُ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ إسْحَاقَ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بْنِ أَحْمَد بْنِ فَارِسٍ قَالَ سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَة يَقُولُ : حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ { زِرٍّ قَالَ : أَتَيْت صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ فَقَالَ لِي : مَا جَاءَ بِك ؟ قُلْت : جِئْت ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ . قَالَ : فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ . قُلْت : حَكَّ فِي نَفْسِي - أَوْ صَدْرِي - الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَهَلْ سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ؟ قَالَ : نَعَمْ كَانَ يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا سَفَرًا - أَوْ مُسَافِرِينَ - أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ ؛ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ . قُلْت : هَلْ سَمِعْته يَذْكُرُ الْهُدَى ؟ قَالَ : نَعَمْ بينا نَحْنُ مَعَهُ فِي مَسِيرٍ إذْ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتِ لَهُ جَهْوَرِيٍّ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ فَأَجَابَهُ عَلَى نَحْوٍ مِنْ كَلَامِهِ : هَاؤُمُ قَالَ : أَرَأَيْت رَجُلًا يُحِبُّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ ؟ قَالَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ . ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُحَدِّثُنَا أَنَّ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ بَابًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلتَّوْبَةِ مَسِيرَةَ عَرْضِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَلَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا } } . . الْآيَةَ . وُلِدَ سَنَةَ 599 . وَتُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ 671 .

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ :
أَخْبَرَنَا نَجِيبُ الدِّينِ أَبُو الْمُرْهَفِ الْمِقْدَادُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ ابْنُ الْمِقْدَادِ بْنِ عَلِيٍّ الْقَيْسِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ الْمُبَارَكِ بْنِ الْأَخْضَرِ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَاسِيّ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الكجي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ التيمي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا هِجْرَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ - أَوْ قَالَ ثَلَاثَ لَيَالٍ } - .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ :
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الغسولي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ فِي سَنَةِ 682 أَخْبَرَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ دَاوُد بْنُ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُلَاعِبٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ

الأرموي قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْغَنَائِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَأْمُونِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَد بْنِ مَهْدِيٍّ الدارقطني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ البغوي حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ { عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَفُلَانًا وَمَنَعْت فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ . قَالَ : أَوْ مُسْلِمٌ } . تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ 684 وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ .
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الْبُخَارِيِّ المقدسي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 681 وَالشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عُمَرَ سَنَةَ 667 أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَحَاسِنِ مُحَمَّدُ بْنُ كَامِلِ بْنِ أَحْمَد التنوخي قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ طَاهِرُ بْنُ سَهْلِ بْنِ بِشْرٍ الإسفراييني أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الحنائي

حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مُوسَى بْنِ رَاشِدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الكلابي مِنْ لَفْظِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ خَرِيمِ بْنِ مَرْوَانَ العقيلي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ نُصَيْرِ بْنِ مَيْسَرَةَ السُّلَمِي حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ القعنبي عَنْ مَالِكٍ . وُلِدَ فِي سَلْخٍ سَنَةَ 595 . وَتُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ 690 .
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ :
أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ شيبان بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حيدرة الشيباني قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 684 أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طبرزذ الْبَغْدَادِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو غَالِبٍ أَحْمَد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَنَّاءِ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَسْمَعُ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْهَرِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ

فِي رَمَضَانَ سَنَةَ 452 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ القطيعي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا حَاضِرٌ أَسْمَعُ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ صَالِحٍ الأسدي حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ : قَالَ { عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ دُونَ عِبَادِ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وميكائيل السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَعَلَى فُلَانٍ . فَالْتَفَتَ إلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اللَّهُ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ . السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ } . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ الْمُثَنَّى عَنْ غُنْدُرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ كِلَاهُمَا عَنْ شَقِيقٍ . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 599 . وَتُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ 685 .

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ :
أَخْبَرَنَا أَبُو يَحْيَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْعَسْقَلَانِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ فِي سَنَةِ 681 وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شيبان وَالْجَمَّالُ أَحْمَد بْنُ أَبِي بَكْرٍ الحموي وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبُخَارِيِّ وَعَلِيُّ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ شِهَابٍ قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طبرزذ الْبَغْدَادِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ الشيباني أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ غَيْلَانَ الْبَزَّارُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عبدويه الْجَرَّارُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ حَدَّثَنَا حميد عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ وَمَعَهُ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِي إلَيْك حَاجَةٌ فَقَالَ : يَا أُمَّ فُلَانٍ ؛ اجْلِسِي فِي أَدْنَى نَوَاحِي السِّكَك حَتَّى أَجْلِسَ إلَيْك فَفَعَلَتْ ؛ فَجَلَسَ إلَيْهَا حَتَّى قَصَّتْ حَاجَتَهَا } . رَوَاهُ أَحْمَد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ .

سَمِعَ ابْنَ الْعَسْقَلَانِيِّ فِي الرَّابِعَةِ سَنَةَ 599 . وَتُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ 682 وَمَوْلِدُ ابْنِ شِهَابٍ فِي سَنَةِ 595 وَتُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ 680 .
الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْجَلِيلُ الصَّالِحُ كَمَالُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ قدامة المقدسي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي صَفَرٍ سَنَةَ 680 وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شيبان أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طبرزذ الْبَغْدَادِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَزَّارُ وَأَبُو الْمَوَاهِبِ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُلُوكٍ الْوَرَّاقُ قَالَا : أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطبري أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْنِ الْغِطْرِيفِ حَدَّثَنَا أَبُو خَلِيفَةَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ هِشَامٍ وَشُعْبَةَ عَنْ قتادة عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وُلِدَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 598 . وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ 680 .

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الثِّقَةُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُحْسِنِ الأنماطي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ 668 وَأَبُو حَامِدٍ ابْنُ الصَّابُونِيِّ وَالرَّشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَامِرِيُّ قَالُوا أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الحرستاني أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ طَاهِرُ بْنُ سَهْلِ بْنِ بِشْرٍ الإسفراييني أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ عُثْمَانَ الأزدي أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْقٍ بِانْتِقَاءِ خَلَفٍ الْحَافِظِ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنُ بْنُ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ رشدين الْمَهْدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ . أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اُقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ . فَإِنَّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ وَيُسْقِطَانِ الْحَبَلَ } . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ كُلَّ حَيَّةٍ فَرَآهُ أَبُو لَبَابَةَ - أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ - وَهُوَ يُطَارِدُ حَيَّةً فَقَالَ لَهُ : قَدْ نُهِيَ عَنْ دَوَابِّ الْبُيُوتِ .

أَخْبَرَنَا بِهِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ وَالشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ أَبِي عُمَرَ وَأَحْمَد بْنُ شيبان قَالُوا : أَخْبَرَنَا ابْنُ مُلَاعِبٍ أَخْبَرَنَا الأرموي أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ البسري أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَد الْفَرْضِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَطِيرِيَّ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ مَطَرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ فَذَكَرَهُ . وُلِدَ سَنَةَ 609 وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 684 بِالْقَاهِرَةِ .
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ :
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ المقدسي سَنَةَ 681 وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شيبان وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَسْقَلَانِيِّ قَالَ الْأَوَّلَانِ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْكِنْدِيُّ وَقَالَ الْآخَرَانِ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ ابْن طبرزذ . قَالَا : أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَفَّافُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 447 أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي سَنَةِ 373 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ

بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يُقِيمُ إلَّا مَنْ أَذَّنَ } . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 606 . وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ 689 .
الْحَدِيثُ الثَّلَاثُونَ :
أَخْبَرَنَا الْأَصِيلُ الْمُسْنَدُ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْعِزِّ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُجَاوِرُ الشيباني قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 680 وَالْمُسْلِمُ بْنُ علان قَالَا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْكِنْدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زُرَيْقٍ الْقَزَّازُ الشيباني أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمُؤَدَّبُ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْمُثَنَّى الْعَنْبَرِيُّ بأستراباد حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ الْبَغْدَادِيُّ بأرجان حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ . قَالَ الْخَطِيبُ . وَأَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ وَجَمَاعَةٌ قَالُوا : أَخْبَرَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ

عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ وَلَا الْحَائِضُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ } . لَفْظُ حَدِيثِ الْجَوْهَرِيِّ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ وَابْنِ حَجَرٍ . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ . كُلُّهُمْ عَنْ إسْمَاعِيلَ . وَأَخْبَرَنَا عَالِيَا أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ كُلَيْبٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بَيَانٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مخلد أَخْبَرَنَا الصَّفَّارُ ( فَذَكَرَهُ ) . مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ 601 . وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ 690
الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ أَحْمَد بْنِ عَلِيِّ بْنِ الصَّابُونِيِّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ 668 أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ

الحرستاني قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُسْلِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ السُّلَمِي سَنَةَ 526 أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْحَدِيدِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ الْحُسَيْنِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الصَّعْبِ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الأوزاعي قَالَ : سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنْ الَّتِي اسْتَعَاذَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى بِابْنَةِ الْجَوْنِ فَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك قَالَ : الْحَقِي بِأَهْلِك تَطْلِيقَةٌ } . قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : لَمْ يَرْوِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ الأوزاعي . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 604 . وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ 680 .
الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ :
أَخْبَرَنَا الْجَمَّالُ أَحْمَد بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاعِظُ بْنِ الحموي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ 680 وَقِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي سَنَةِ 681 أَيْضًا

أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ أَبِي غَالِبِ بْنِ أَبِي الْمَعَالِي بْنِ مندويه قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي سَنَةِ 610 أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَحَاسِنِ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النقور الْبَزَّارُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ حَبَّابَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ البغوي فِي سَنَةِ 315 حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ طَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ كِتَابِهِ حَدَّثَنَا فضال بْنُ جُبَيْرٍ سَمِعْت أَبَا أمامة الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اُكْفُلُوا لِي بِسِتِّ أَكْفُلُ لَكُمْ بِالْجَنَّةِ : إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ . غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ } . وُلِدَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سِتِّمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 687 .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو غَالِبٍ الْمُظَفَّرُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ خَلِيلٍ الْأَنْصَارِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ 684 وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَد بْنِ عَبَّاسٍ الفاقوسي وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْعَامِرِيُّ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ

عَبْدُ الصَّمَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ ابْنِ الحرستاني أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ طَاهِرُ بْنُ سَهْلِ بْنِ بِشْرِ بْنِ أَحْمَد الإسفراييني أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيِّ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأزدي الْمِصْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْنِ الْعَبَّاسِ الأخميمي بِانْتِقَاءِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ سَعِيدًا المقبري حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إيمَانًا بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِ اللَّهِ كَانَ شِبَعُهُ وَرِيُّهُ وَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ حَسَنَاتٍ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ 688 وَعُمُرُهُ اثْنَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً . وَتُوُفِّيَ الفاقوسي فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 682 وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً .
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عصرون التَّمِيمِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 682

وَأَبُو حَامِدٍ الصَّابُونِيُّ . قَالَا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الحرستاني أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ طَاهِرُ بْنُ سَهْلٍ الإسفراييني أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ الأزدي أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ يَزِيدَ الْحَلَبِيُّ سَنَةَ 390 حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ
بْنُ سَعِيدٍ الْقَاضِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ الكلاعي حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الوحاظي حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ . فَإِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّو } وَأَخْبَرْنَاهُ عَالِيَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبُخَارِيِّ أَخْبَرَنَا ابْنُ طبرزذ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْبَاقِلَانِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْوَرَّاقُ إمْلَاءً حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيَّ حَدَّثَنَا سويد بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَحَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ( فَذَكَرَهُ ) .

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ . مَوْلِدُهُ سَنَةَ 599 . وَتُوُفِّيَ فِي ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ 682 .
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ :
أَخْبَرَنَا أَقْضَى الْقُضَاةِ نَفِيسُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَرِيرٍ الْحَارِثِيُّ الشَّافِعِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي سَنَةِ 679 وَالشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَرَ وَأَحْمَد بْنُ شيبان . قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ دَاوُد بْنُ أَحْمَد بْنِ مُلَاعِبٍ الْبَغْدَادِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ الأرموي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 546 أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ البسري سَنَةَ 465 أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَد عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَد بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْفَرْضِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَد الْمَطِيرِيَّ سَنَةَ 333 أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَد بِشْرُ بْنُ مَطَرٍ الْوَاسِطِيَّ بِسِرِّ مَنْ رَأَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ :

عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُل آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فِي حَقِّهِ } . تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ 680 وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً .
الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ :
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْكَمَالِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَشَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّيْنِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ المقدسيان ؛ قِرَاءَةً عَلَيْهِمَا وَأَنَا أَسْمَعُ فِي سَنَةِ 681 . قَالَا : أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْفُتُوحِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عمرون الْبَكْرِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَسْعَدِ هِبَةُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ القشيري أَخْبَرَنَا جَدِّي أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْخَفَّافُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

{ إنَّ الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ } . وُلِدَ فِي سَنَةِ 607 . وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ 688 .
الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ :
أَخْبَرَتْنَا الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ أُمُّ الْخَيْرِ سِتُّ الْعَرَبِ بِنْتُ يَحْيَى بْنِ قايماز بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّاجِيَّةُ الْكِنْدِيَّةُ قِرَاءَةً عَلَيْهَا وَأَنَا أَسْمَعُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ 681 وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شيبان وَابْنُ الْعَسْقَلَانِيِّ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبُخَارِيِّ . قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طبرزذ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَسْمَعُ أَخْبَرَنَا أَبُو غَالِبٍ أَحْمَد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَنَّاءُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 524 أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْجَوْهَرِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ القطيعي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ فَيَأْخُذُ

حَفْنَةً لِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَأْخُذُ حَفْنَةً لِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْسَرِ } . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ أَبِي مُوسَى الزَّمِنِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ . وُلِدَتْ فِي سَنَةِ 599 . وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ 684 .
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ :
أَخْبَرَتْنَا الشَّيْخَةُ الْجَلِيلَةُ الْأَصِيلَةُ أُمُّ الْعَرَبِ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُحَمَّدِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَسَاكِرَ قِرَاءَةً عَلَيْهَا وَأَنَا أَسْمَعُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ 681 وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شيبان وَسِتُّ الْعَرَبِ بِنْتُ يَحْيَى بْنُ قايماز . قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طبرزذ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَسْمَعُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَحْمَد بْنِ الْحُصَيْنِ الشيباني قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ غَيْلَانَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْمُزَكِّي النَّيْسَابُورِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي سَنَةِ 354 أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ

إسْحَاقَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ { أَنَسٍ قَالَ : مُطِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسَرَ عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى أَصَابَهُ الْمَطَرُ فَقُلْت لَهُ : لِمَ صَنَعْت هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ } وُلِدَتْ سَنَةَ 598 . وَتُوُفِّيَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 683 .
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ :
أَخْبَرَتْنَا الصَّالِحَةُ الْعَابِدَةُ الْمُجْتَهِدَةُ أُمُّ أَحْمَد زَيْنَبُ بِنْتُ مَكِّيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ كَامِلٍ الْحَرَّانِي وَأَحْمَد بْنُ شيبان وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَسْقَلَانِيِّ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ عَسَاكِرَ ؛ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ . قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طبرزذ الْبَغْدَادِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو غَالِبٍ أَحْمَد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَد بْنِ الْبَنَّاءُ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ القطيعي قِرَاءَةً عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

مُسْلِمٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعْت { الْبَرَاءَ قَالَ : لَمَّا مَاتَ إبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مُرضِعٌ فِي الْجَنَّةِ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ حَرْبٍ . وُلِدَتْ فِي سَنَةِ 598 . وَتُوُفِّيَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ 688 .
الْحَدِيثُ الْأَرْبَعُونَ :
أَخْبَرَتْنَا الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ أُمُّ مُحَمَّدٍ زَيْنَبُ بِنْتُ أَحْمَد بْنِ عُمَرَ بْنِ كَامِلٍ المقدسية قِرَاءَةً عَلَيْهَا وَأَنَا أَسْمَعُ سَنَةَ 684 وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَدْرٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شيبان وَابْنُ الْعَسْقَلَانِيِّ . قَالُوا أَخْبَرَنَا ابْنُ طبرزذ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْبَيْضَاوِيِّ وَالْقَزَّازُ وَابْنُ يُوسُفَ قَالُوا أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُسْلِمَةِ أَخْبَرَنَا الْمُخَلِّصُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إسْرَائِيلَ النهرتيرى حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ

سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ } . وُلِدَتْ سَنَةَ 601 وَتُوُفِّيَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ 687 .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : { مَا وَسِعَنِي لَا سَمَائِي وَلَا أَرْضِي وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ }
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا مَا ذَكَرُوهُ فِي الإسرائيليات لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ (*) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ : وَسِعَ قَلْبُهُ مَحَبَّتِي وَمَعْرِفَتِي . وَمَا يُرْوَى : { الْقَلْبُ بَيْتُ الرَّبِّ } هَذَا مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْقَلْبَ بَيْتُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ . وَمَا يَرْوُونَهُ { كُنْت كَنْزًا لَا أُعْرَفَ فَأَحْبَبْت أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْت خَلْقًا فَعَرَّفْتهمْ بِي فَبِي عَرَفُونِي } هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَعْرِفُ لَهُ إسْنَادًا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَقْلَ فَقَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ فَقَالَ : وَعِزَّتِي

وَجَلَالِي مَا خَلَقْت خَلْقًا أَشْرَفَ مِنْك فَبِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي } هذا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . وَمَا يَرْوُونَهُ { حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ } هَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي وَأَمَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ . وَمَا يَرْوُونَهُ : { الدُّنْيَا خُطْوَةُ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ } هَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا . وَمَا يَرْوُونَهُ { مَنْ بُورِكَ لَهُ فِي شَيْءٍ فَلْيَلْزَمْهُ وَمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ شَيْئًا لَزِمَهُ } الْأَوَّلُ يُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَإِنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ شَيْئًا قَدْ يَلْزَمُهُ وَقَدْ لَا يَلْزَمُهُ بِحَسَبِ مَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَمَا يَرْوُوهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتَّخِذُوا مَعَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِي فَإِنَّ لَهُمْ فِي غَد دَوْلَةً وَأَيُّ دَوْلَةٍ } { الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ افْتَخَرَ } كِلَاهُمَا كَذِبٌ لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفَةِ . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا } هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ

وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَرَفَعَ هَذَا وَهُوَ كَذِبٌ . وَمَا يَرْوُوهُ : { أَنَّهُ يَقْعُدُ الْفُقَرَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقُولُ : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا زَوَيْت الدُّنْيَا عَنْكُمْ لِهَوَانِكُمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ أَرَدْت أَنْ أَرْفَعَ قَدْرَكُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ انْطَلِقُوا إلَى الْمَوْقِفِ فَمَنْ أَحْسَنَ إلَيْكُمْ بِكِسْرَةٍ أَوْ سَقَاكُمْ شَرْبَةَ مَاءٍ أَوْ كَسَاكُمْ خِرْقَةً انْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْجَنَّةِ } قَالَ الشَّيْخُ : الثَّانِي كَذِبٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ بَاطِلٌ خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا قَدِمَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجْنَ بَنَاتُ النَّجَّارِ بِالدُّفُوفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ : طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّاتٍ الْوَدَاعِ إلَى آخِرِ الشِّعْرِ فَقَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُزُّوا غَرَابِيلَكُمْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ } حَدِيثُ النِّسْوَةِ وَضَرْبِ الدُّفِّ فِي الْأَفْرَاحِ صَحِيحٌ ؛ فَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { هُزُّوا غَرَابِيلَكُمْ } هَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْهُ .
وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ إنَّك أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيْك } هَذَا

حَدِيثٌ بَاطِلٌ كَذِبٌ وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ بَلْ إنَّهُ { قَالَ لِمَكَّةَ : إنَّك أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إلَيَّ } وَقَالَ { إنَّك لَأَحَبُّ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ } . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ } هَذَا كَذِبٌ مَوْضُوعٌ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا صَلَّى وَنَقَرَ صَلَاتَهُ فَقَالَ عَلِيٌّ : لَا تَنْقُرُ صَلَاتَك فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ يَا عَلِيُّ لَوْ نَقَرَهَا أَبُوك مَا دَخَلَ النَّارَ . هَذَا كَذِبٌ . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ هَذَا كَذِبٌ ؛ فَإِنَّ أَبَاهُ مَاتَ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ } . { وَكُنْت وَآدَمُ لَا مَاءَ وَلَا طِينَ } هَذَا اللَّفْظُ كَذِبٌ بَاطِلٌ . وَمَا يَرْوُونَهُ : { الْعَازِبُ فِرَاشُهُ مِنْ نَارٍ مِسْكِينٌ رَجُلٌ بِلَا امْرَأَةٍ وَمِسْكِينَةٌ امْرَأَةٌ بِلَا رَجُلٍ } هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ { إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ صَلَّى فِي كُلِّ رُكْنٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ : يَا إبْرَاهِيمُ مَا هَذَا سَدُّ جَوْعَةٍ أَوْ سَتْرُ عَوْرَةٍ } هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَا يَرْوُونَهُ : { لَا تَكْرَهُوا الْفِتْنَةَ ؛ فَإِنَّ فِيهَا حَصَادَ الْمُنَافِقِينَ } هَذَا لَيْسَ مَعْرُوفًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَا يَرْوُونَهُ : { مَنْ عَلَّمَ أَخَاهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَلَكَ رِقَّهُ } هَذَا كَذِبٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اطَّلَعْت عَلَى ذُنُوبِ أُمَّتِي فَلَمْ أَجِدْ أَعْظَمَ ذَنْبًا مِمَّنْ تَعَلَّمَ آيَةً ثُمَّ نَسِيَهَا } . إذَا صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَهَذَا عَنِيَ بِالنِّسْيَانِ التِّلَاوَةَ . وَلَفْظُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : { يُوجَدُ مِنْ سَيِّئَاتِ أُمَّتِي الرَّجُلُ يُؤْتِيهِ اللَّهُ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَيَنَامُ عَنْهَا حَتَّى يَنْسَاهَا } وَالنِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الْقُرْآنِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَأَمَّا إهْمَالُ دَرْسِهِ حَتَّى يُنْسَى فَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ .
وَمَا يَرْوُونَهُ : { أَنَّ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَلَا يُشَبَّهُ بِغَيْرِهِ } اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مَأْثُورٍ .

وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ عَلِمَ عِلْمًا نَافِعًا وَأَخْفَاهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ } هَذَا مَعْنَاهُ مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ } وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا وَصَلْتُمْ إلَى مَا شَجَرَ بَيْنَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا وَإِذَا وَصَلْتُمْ إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَأَمْسِكُوا } هَذَا مَأْثُورٌ بِأَسَانِيدَ مُنْقَطِعَةٍ . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ { النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - وَهُوَ يَأْكُلُ الْعِنَبَ - دَوٍ دَوٍ يَعْنِي : عِنَبَتَيْنِ عِنَبَتَيْنِ } هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَاطِلٌ . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَجَاءَتْ مِنْهُ بِبِنْتٍ فَلِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ بِابْنَتِهِ مِنْ الزِّنَا } هَذَا يَقُولُهُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُهُمْ يَنْقُلُهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ وَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَحْلِيلِ ذَلِكَ وَلَكِنْ صَرَّحَ بِحِلِّ ذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعَةِ إذَا رَضَعَ مِنْ لَبَنِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا . وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا مُتَّفِقُونَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ .

وَمَا يَرْوُونَهُ : { أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أُجْرَةً كِتَابُ اللَّهِ } نَعَمْ ثَبَتَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أُجْرَةً كِتَابُ اللَّهِ } لَكِنَّهُ فِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ وَكَانَ الْجُعْلُ عَلَى عَافِيَةِ مَرِيضِ الْقَوْمِ لَا عَلَى التِّلَاوَةِ . وَهَلْ يَحْرُمُ اتِّخَاذُ أَبْرَاجِ الْحَمَامِ إذَا طَارَتْ مِنْ الْأَبْرَاجِ تَحُطُّ عَلَى زِرَاعَاتِ النَّاسِ وَتَأْكُلُ الْحَبَّ . فَهَلْ يَحْرُمُ اتِّخَاذُ أَبْرَاجِ الْحَمَامِ فِي الْقُرَى وَالْبُلْدَانِ لِهَذَا السَّبَبِ ؟ نَعَمْ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ مُنِعَ مِنْهُ . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ ظَلَمَ ذِمِّيًّا كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ كُنْت خَصْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } هَذَا ضَعِيفٌ لَكِنْ الْمَعْرُوفُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يُرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ } . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْهُ : { مَنْ أَسْرَجَ سِرَاجًا فِي مَسْجِدٍ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ ضَوْءُ ذَلِكَ السِّرَاجِ } هَذَا لَا أَعْرِفُ لَهُ إسْنَادًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ } " مَا مَعْنَى تَرَدُّدِ اللَّهِ ؟
فَأَجَابَ : هَذَا حَدِيثٌ شَرِيفٌ قَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي صِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَقَدْ رَدَّ هَذَا الْكَلَامَ طَائِفَةٌ وَقَالُوا : إنَّ اللَّهَ لَا يُوصَفُ بِالتَّرَدُّدِ وَإِنَّمَا يَتَرَدَّدُ مَنْ لَا يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْعَوَاقِبِ . وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ اللَّهَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُتَرَدِّدِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ كَلَامَ رَسُولِهِ حَقٌّ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ رَسُولِهِ وَلَا أَنْصَحَ لِلْأُمَّةِ مِنْهُ وَلَا أَفْصَحَ وَلَا أَحْسَنَ بَيَانًا مِنْهُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُتَحَذْلِقُ وَالْمُنْكِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ ؛ وَأَجْهَلِهِمْ وَأَسْوَئِهِمْ أَدَبًا بَلْ يَجِبُ تَأْدِيبُهُ وَتَعْزِيرُهُ وَيَجِبُ أَنْ يُصَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

عَنْ الظُّنُونِ الْبَاطِلَةِ ؛ وَالِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَلَكِنَّ الْمُتَرَدِّدَ مِنَّا وَإِنْ كَانَ تَرَدُّدُهُ فِي الْأَمْرِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَا يَعْلَمُ عَاقِبَةَ الْأُمُورِ لَا يَكُونُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنَّا فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ ثُمَّ هَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَتَرَدَّدُ تَارَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْعَوَاقِبِ وَتَارَةً لِمَا فِي الْفِعْلَيْنِ مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فَيُرِيدُ الْفِعْلَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَيَكْرَهُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ لَا لِجَهْلِهِ مِنْهُ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُحِبُّ مِنْ وَجْهٍ وَيَكْرَهُ مِنْ وَجْهٍ كَمَا قِيلَ : الشَّيْبُ كُرْهٌ وَكُرْهٌ أَنْ أُفَارِقَهُ فَاعْجَبْ لِشَيْءِ عَلَى الْبَغْضَاءِ مَحْبُوبُ وَهَذَا مِثْلُ إرَادَةِ الْمَرِيضِ لِدَوَائِهِ الْكَرِيهِ بَلْ جَمِيعُ مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَكْرَهُهَا النَّفْسُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَفِي الصَّحِيحِ { حُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَحُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } الْآيَةَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ يَظْهَرُ مَعْنَى التَّرَدُّدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَالَ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } . فَإِنَّ الْعَبْدَ الَّذِي هَذَا حَالُهُ صَارَ مَحْبُوبًا لِلْحَقِّ مُحِبًّا لَهُ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ أَوَّلًا بِالْفَرَائِضِ وَهُوَ

يُحِبُّهَا ثُمَّ اجْتَهَدَ فِي النَّوَافِلِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيُحِبُّ فَاعِلَهَا فَأَتَى بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مَحْبُوبِ الْحَقِّ ؛ فَأَحَبَّهُ الْحَقُّ لِفِعْلِ مَحْبُوبِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِقَصْدِ اتِّفَاقِ الْإِرَادَةِ بِحَيْثُ يُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ مَحْبُوبُهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ مَحْبُوبُهُ وَالرَّبُّ يَكْرَهُ أَنْ يَسُوءَ عَبْدَهُ وَمَحْبُوبَهُ فَلَزِمَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكْرَهَ الْمَوْتَ لِيَزْدَادَ مِنْ محاب مَحْبُوبِهِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ قَضَى بِالْمَوْتِ فَكُلُّ مَا قَضَى بِهِ فَهُوَ يُرِيدُهُ وَلَا بُدَّ مِنْهُ فَالرَّبُّ مُرِيدٌ لِمَوْتِهِ لِمَا سَبَقَ بِهِ قَضَاؤُهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَارِهٌ لِمُسَاءَةِ عَبْدِهِ ؛ وَهِيَ الْمُسَاءَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ بِالْمَوْتِ فَصَارَ الْمَوْتُ مُرَادًا لِلْحَقِّ مِنْ وَجْهٍ مَكْرُوهًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّرَدُّدِ وَهُوَ : أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مُرَادًا مِنْ وَجْهٍ مَكْرُوهًا مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَرَجُّحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَمَا تَرَجَّحَ إرَادَةُ الْمَوْتِ ؛ لَكِنْ مَعَ وُجُودِ كَرَاهَةِ مُسَاءَةِ عَبْدِهِ وَلَيْسَ إرَادَتُهُ لِمَوْتِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ كَإِرَادَتِهِ لِمَوْتِ الْكَافِرِ الَّذِي يُبْغِضُهُ وَيُرِيدُ مُسَاءَتَهُ . ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ ذِكْرَهُ : وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْغَضُ ذَلِكَ وَيَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَشَاءَهُ بِإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ بِإِرَادَةِ دِينِيَّةٍ هَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِيمَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ : مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَلْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُهُ .

فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُهُ وَقَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ : إنَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا يُرِيدُهُ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْإِرَادَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَانِ : إرَادَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِرَادَةٌ كَوْنِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ : فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وقَوْله تَعَالَى { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } فَإِنَّ الْإِرَادَةَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَى وَهِيَ الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ . وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } . وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } وَمِثْلُ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ : مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . فَجَمِيعُ الْكَائِنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا خَيْرٌ وَلَا شَرٌّ وَلَا عُرْفٌ وَلَا نُكْرٌ وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ تَتَنَاوَلُ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ فَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ لَا يَخْتَلِفَانِ وَهَذَا التَّقْسِيمُ الْوَارِدُ فِي اسْمِ الْإِرَادَةِ يُرَدُّ مِثْلُهُ فِي اسْمِ الْأَمْرِ وَالْكَلِمَاتِ ؛ وَالْحُكْمِ

وَالْقَضَاءِ وَالْكِتَابِ وَالْبَعْثِ وَالْإِرْسَالِ وَنَحْوِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى كَوْنِيٍّ قَدَرِيٍّ وَإِلَى دِينِيٍّ شَرْعِيٍّ . وَالْكَلِمَاتُ الْكَوْنِيَّةُ هِيَ : الَّتِي لَا يَخْرُجُ عَنْهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَهِيَ الَّتِي اسْتَعَانَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَأَمَّا الدِّينِيَّةُ فَهِيَ : الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } . وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الدِّينِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } وَالْكَوْنِيَّةُ : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا } . وَالْبَعْثُ الدِّينِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } وَالْبَعْثُ الْكَوْنِيُّ : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا } وَالْإِرْسَالُ الدِّينِيُّ كَقَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } . وَالْكَوْنِيُّ : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } .

وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَمَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ هِيَ مُرَادَةٌ لِلَّهِ إرَادَةً كَوْنِيَّةً دَاخِلَةً فِي كَلِمَاتِهِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُرِدْهَا إرَادَةً دِينِيَّةً وَلَا هِيَ مُوَافِقَةٌ لِكَلِمَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ فَصَارَتْ لَهُ مِنْ وَجْهٍ مَكْرُوهَةً . وَلَكِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْرَهُهُ ؛ وَالْكَرَاهَةُ مُسَاءَةُ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ يُرِيدُهُ لِمَا سَبَقَ فِي قَضَائِهِ لَهُ بِالْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَإِرَادَتُهُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ لَهُ وَرَحْمَةٌ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } . وَأَمَّا الْمُنْكَرَاتُ فَإِنَّهُ يُبْغِضُهَا وَيَكْرَهُهَا ؛ فَلَيْسَ لَهَا عَاقِبَةٌ مَحْمُودَةٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إلَّا أَنْ يَتُوبُوا مِنْهَا فَيُرْحَمُوا بِالتَّوْبَةِ وَإِنْ كَانَتْ التَّوْبَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَسْبُوقَةً بِمَعْصِيَةِ ؛ وَلِهَذَا يُجَابُ عَنْ قَضَاءِ الْمَعَاصِي عَلَى الْمُؤْمِنِ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا وَإِنَّمَا تَنَاوَلَ الْمَصَائِبَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إذَا تَابَ مِنْهَا كَانَ مَا تَعْقُبُهُ التَّوْبَةُ خَيْرًا فَإِنَّ التَّوْبَةَ حَسَنَةٌ وَهِيَ مِنْ أَحَبِّ الْحَسَنَاتِ إلَى اللَّهِ وَاَللَّهُ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ إذَا تَابَ إلَيْهِ أَشَدُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْفَرَحِ وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَا يُتَابَا مِنْهَا فَهِيَ شَرٌّ . عَلَى صَاحِبِهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَضَاهُ ؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ

الْحِكْمَةِ كَمَا قَالَ : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ إلَّا وَلِلَّهِ فِيهِ حِكْمَةٌ . وَلَكِنَّ هَذَا بَحْرٌ وَاسِعٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ وَالْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ . الْمُعَيَّنَ يَكُونُ مَحْبُوبًا مِنْ وَجْهٍ مَكْرُوهًا مِنْ وَجْهٍ وَأَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ التَّرَدُّدِ وَكَمَا أَنَّ هَذَا فِي الْأَفْعَالِ فَهُوَ فِي الْأَشْخَاصِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي : لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمَخِيطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ

إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ، أَمَّا قَوْله تَعَالَى " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي } " فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ كَبِيرَتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَاتُ شُعَبٍ وَفُرُوعٍ : ( إحْدَاهُمَا : فِي الظُّلْمِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَنَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } وَقَوْلِهِ : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } وَقَوْلِهِ : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } . وَنَفَى إرَادَتَهُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } . وَنَفَى خَوْفَ الْعِبَادِ لَهُ بِقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } فَإِنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي مَعْنَى هَذَا الظُّلْمِ تَنَازُعًا صَارُوا فِيهِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ وَوَسَطٍ بَيْنَهُمَا وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْبَحْثِ فِي الْقَدَرِ وَمُجَامَعَتِهِ لِلشَّرْعِ ؛ إذْ الْخَوْضُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ تَامٍّ أَوْجَبَ ضَلَالَ عَامَّةِ الْأُمَمِ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَنْ التَّنَازُعِ فِيهِ .

فَذَهَبَ الْمُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ الْقَائِلُونَ : بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ إلَّا مَا أَمَرَ بِأَنْ يَكُونَ . وَغُلَاتُهُمْ الْمُكَذِّبُونَ بِتَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّ الظُّلْمَ مِنْهُ هُوَ نَظِيرُ الظُّلْمِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ وَشَبَّهُوهُ وَمَثَّلُوهُ فِي الْأَفْعَالِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ حَتَّى كَانُوا هُمْ مُمَثِّلَةَ الْأَفْعَالِ وَضَرَبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ وَحَرَّمُوا مَا رَأَوْا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعِبَادِ وَيَحْرُمُ بِقِيَاسِهِ عَلَى الْعِبَادِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِالرَّأْيِ وَقَالُوا عَنْ هَذَا : إذَا أَمَرَ الْعَبْدَ وَلَمْ يَعْنِهِ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعَانَةِ كَانَ ظَالِمًا لَهُ وَالْتَزَمُوا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَهْدِيَ ضَالًّا كَمَا قَالُوا : إنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَضِلَّ مُهْتَدِيًا وَقَالُوا مِنْ هَذَا : إذَا أَمَرَ اثْنَيْنِ بِأَمْرِ وَاحِدٍ وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِإِعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ ظَالِمًا إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ جَعَلُوا تَرْكَهُ لَهَا ظُلْمًا . وَكَذَلِكَ ظَنُّوا أَنَّ التَّعْذِيبَ لِمَنْ كَانَ فِعْلُهُ مُقَدَّرًا ظُلْمٌ لَهُ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْذِيبِ لِمَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَقُمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ أُخْرَى عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ فَقَالُوا : لَيْسَ لِلظُّلْمِ مِنْهُ حَقِيقَةٌ

يُمْكِنُ وُجُودُهَا بَلْ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْتَنِعَةِ لِذَاتِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَلَا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ هُوَ تَارِكٌ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَجَعْلِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ وَقَلْبِ الْقَدِيمِ مُحْدَثًا وَالْمُحْدَثِ قَدِيمًا وَإِلَّا فَمَهْمَا قُدِّرَ فِي الذِّهْنِ وَكَانَ وُجُودُهُ مُمْكِنًا وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِظُلْمِ مِنْهُ ؛ سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ . وَتَلَقَّى هَذَا الْقَوْلَ عَنْ هَؤُلَاءِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَمِنْ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمْ وَفَسَّرُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِمَا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا بِظَاهِرِ مِنْ أَقْوَالٍ مَأْثُورَةٍ كَمَا رَوَيْنَا عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ : مَا نَاظَرْت بِعَقْلِي كُلِّهِ أَحَدًا إلَّا الْقَدَرِيَّةُ قُلْت لَهُمْ : مَا الظُّلْمُ ؟ قَالُوا : أَنْ تَأْخُذَ مَا لَيْسَ لَك أَوْ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِيمَا لَيْسَ لَك . قُلْت : فَلِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إيَاسٍ إلَّا لِيُبَيِّنَ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْوَاقِعَةَ هِيَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ ظُلْمًا بِمُوجِبِ حَدِّهِمْ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ فَهُوَ عَدْلٌ . وَفِي حَدِيثِ الْكُرَبِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أُمَّتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك

مَاضٍ فِيَّ حُكْمُك عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ ؟ قَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ } " فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ قَضَائِهِ فِي عَبْدِهِ عَدْلٌ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةِ مِنْهُ عَدْلٌ . وَيُقَالُ : أَطَعْتُك بِفَضْلِك وَالْمِنَّةُ لَك وَعَصَيْتُك بِعِلْمِك - أَوْ بِعَدْلِك - وَالْحُجَّةُ لَك فَأَسْأَلُك بِوُجُوبِ حُجَّتِك عَلَيَّ وَانْقِطَاعِ حُجَّتِي إلَّا مَا غَفَرْت لِي . وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ مِنْ إيَاسٍ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِغَيْلَان حِينَ قَالَ لَهُ غَيْلَانُ : نَشَدْتُك اللَّهَ أَتَرَى اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْصَى ؟ فَقَالَ : نَشَدْتُك اللَّهَ أَتَرَى اللَّهَ يُعْصَى قَسْرًا ؟ يَعْنِي : قَهْرًا . فَكَأَنَّمَا أَلْقَمَهُ حَجَرًا ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : يُحِبُّ أَنْ يُعْصَى لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ وَقَدْ لَا يَتَأَتَّى فِي الْمُنَاظَرَةِ تَفْسِيرُ الْمُجْمَلَاتِ خَوْفًا مِنْ لَدَدِ الْخَصْمِ فَيُؤْتَى بِالْوَاضِحَاتِ فَقَالَ : أَفَتَرَاهُ يُعْصَى قَسْرًا ؟ فَإِنَّ هَذَا إلْزَامٌ لَهُ بِالْعَجْزِ الَّذِي هُوَ لَازِمٌ لِلْقَدَرِيَّةِ وَلِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُمْ مِنْ الدَّهْرِيَّةِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ إيَاسُ رَأَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ الْمُطَابِقَ لِحَدِّهِمْ خَاصِمٌ لَهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يَطُولُ .

وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ مِنْ السَّلَفِ : لَا يَخَافُ أَنْ يُظْلَمَ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ وَلَا يُهْضَمَ فَيُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظُّلْمُ هُوَ شَيْءٌ مُمْتَنِعٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لَا يَخَافُ مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ خَارِجٌ عَنْ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمَقْدُورَاتِ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مُمْكِنًا حَتَّى يَقُولُوا : أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ وَلَوْ أَرَادَهُ كَخَلْقِ الْمِثْلِ لَهُ فَكَيْفَ يُعْقَلُ وُجُودُهُ ؟ فَضْلًا أَنْ يُتَصَوَّرَ خَوْفُهُ حَتَّى يَنْفِيَ خَوْفَهُ ثُمَّ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي نَفْيِ خَوْفِ هَذَا ؟ وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْعَامِلَ الْمُحْسِنَ لَا يُجْزَى عَلَى إحْسَانِهِ بِالظُّلْمِ وَالْهَضْمِ . فَعُلِمَ أَنَّ الظُّلْمَ وَالْهَضْمَ الْمَنْفِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْجَزَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَجْزِيهِ إلَّا بِعَمَلِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ : أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا مَنْ أَذْنَبَ ؛ كَمَا قَالَ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } فَلَوْ دَخَلَهَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَتْبَاعِهِ لَمْ تَمْتَلِئْ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ تَحَاجِّ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ : " { إنَّ النَّارَ لَا تَمْتَلِئُ مِمَّنْ كَانَ أُلْقِيَ فِيهَا حَتَّى يَنْزَوِيَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَتَقُولَ قَطْ قَطْ بَعْدَ قَوْلِهَا : { هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَيَبْقَى فِيهَا فَضْلٌ عَمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ } " .

وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِيمَنْ لَمْ يُكَلَّفْ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ مَا صَحَّ بِهِ الْحَدِيثُ وَهُوَ : أَنَّ اللَّه أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ فَلَا نَحْكُمُ لِكُلِّ مِنْهُمْ بِالْجَنَّةِ وَلَا لِكُلِّ مِنْهُمْ بِالنَّارِ بَلْ هُمْ يَنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْعِلْمِ إذَا كُلِّفُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَرَصَاتِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ مُحْسِنًا فَيُنْقِصُهُ مِنْ إحْسَانِهِ أَوْ يَجْعَلُهُ لِغَيْرِهِ وَلَا يَظْلِمُ مُسِيئًا فَيَجْعَلُ عَلَيْهِ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ بَلْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ وِزْرِ غَيْرِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مَا سَعَاهُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ تَعْذِيبَ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ يُنَافِي الْأَوَّلَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ إذْ ذَلِكَ النَّائِحُ يُعَذَّبُ بِنَوْحِهِ لَا يُحَمَّلُ الْمَيِّتُ وِزْرَهُ وَلَكِنَّ الْمَيِّتَ يَنَالُهُ أَلَمٌ مِنْ فِعْلِ هَذَا كَمَا يَتَأَلَّمُ الْإِنْسَانُ مِنْ أُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْ كَسْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَزَاءَ الْكَسْبِ . وَالْعَذَابُ أَعَمُّ مِنْ الْعِقَابِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ } " .

وَكَذَلِكَ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الْحَيِّ يُنَافِي قَوْلَهُ : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الْحَيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآيَةِ كَانْتِفَاعِهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْآيَةَ تُخَالِفُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ بَلْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآيَةِ كَانْتِفَاعِهِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالشَّفَاعَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا يُبَيِّنُ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِسَعْيِ غَيْرِهِ ؛ إذْ الْآيَةُ إنَّمَا نَفَتْ اسْتِحْقَاقَ السَّعْيِ وَمِلْكَهُ ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يَمْلِكُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِ مَالِكُهُ وَمُسْتَحِقُّهُ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْهُ فَهَذَا نَوْعٌ وَهَذَا نَوْعٌ وَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ مَنْفَعَةٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ . وَهَذِهِ النُّصُوصُ النَّافِيَةُ لِلظُّلْمِ تُثْبِتُ الْعَدْلَ فِي الْجَزَاءِ ؛ وَأَنَّهُ لَا يُبْخَسُ عَامِلٌ عَمَلَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِيمَنْ عَاقَبَهُمْ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } وَقَوْلُهُ { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } بَيَّنَ أَنَّ عِقَابَ الْمُجْرِمِينَ عَدْلًا لِذُنُوبِهِمْ لَا لِأَنَّا ظَلَمْنَاهُمْ فَعَاقَبْنَاهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ : " { لَوْ عَذَّبَ اللَّهُ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ } " يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَذَابَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ ؛ لَا لِكَوْنِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ

الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ عُقُوبَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ } { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا ؛ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ ؛ وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَمْدَحَ الْمَمْدُوحَ بِعَدَمِ إرَادَتِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَدْحُ بِتَرْكِ الْأَفْعَالِ إذَا كَانَ الْمَمْدُوحُ قَادِرًا عَلَيْهَا فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ مِنْ الظُّلْمِ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَبِذَلِكَ يَصِحُّ قَوْلُهُ : " { إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي } " وَأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْمَنْعُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ : حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي أَوْ مَنَعْت نَفْسِي مِنْ خَلْقِ مِثْلِي ؛ أَوْ جَعْلِ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِقَةً ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَالَاتِ . وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ : إنِّي أَخْبَرْت عَنْ نَفْسِي بِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَا يَكُونُ مِنِّي . وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَتَيَقَّنُ الْمُؤْمِنُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادَ الرَّبِّ ؛ وَأَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ إرَادَة مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَلِيقُ الْخِطَابُ بِمِثْلِهِ إذْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ شِبْهَ التَّكْرِيرِ وَإِيضَاحَ الْوَاضِحِ : لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا ثَنَاءٌ وَلَا مَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُسْتَمِعُ فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ أَمْرٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِهِ مُقَدَّسٌ عَنْهُ .

يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ النَّاسُ فِي حُدُودِ الظُّلْمِ يَتَنَاوَلُ هَذَا دُونَ ذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَقَوْلِهِمْ : مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ . أَيْ : فَمَا وَضَعَ الشَّبَهَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمٌ عَدْلٌ لَا يَضَعُ الْأَشْيَاءَ إلَّا مَوَاضِعَهَا وَوَضْعُهَا غَيْرَ مَوَاضِعِهَا لَيْسَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ ؛ بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ؛ بَلْ يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ ؛ إذْ قَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : الظُّلْمُ إضْرَارٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِغَيْرِ حَقٍّ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : هُوَ نَقْصُ الْحَقِّ ؛ وَذَكَرَ أَنَّ أَصْلَهُ النَّقْصُ كَقَوْلِهِ : { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : هُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَهَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدِ وَلَا مُنْعَكِسٍ فَقَدْ يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِحَقِّ وَلَا يَكُونُ ظَالِمًا وَقَدْ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ ظَالِمًا وَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : فِعْلُ الْمَأْمُورِ خِلَافُ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ إنْ سَلِمَ صِحَّةُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ فَهُوَ لَا يَفْعَلُ خِلَافَ مَا كَتَبَ وَلَا يَفْعَلُ مَا حَرَّمَ . وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي نَبَّهْنَا عَلَيْهَا فِيهِ

وَإِنَّمَا نُشِيرُ إلَى النُّكَتِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْقَوْلُ الْمُتَوَسِّطُ وَهُوَ : أَنَّ الظُّلْمَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ : أَنْ يَتْرُكَ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِ فَلَا يَجْزِيهِ بِهَا ؛ وَيُعَاقِبَ الْبَرِيءَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ السَّيِّئَاتِ ؛ وَيُعَاقِبَ هَذَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ ؛ أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ الْقِسْطِ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهَا لِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ لِأَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الظُّلْمَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ فَهُوَ أَيْضًا مُنَزَّهٌ عَنْ أَفْعَالِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ . وَعَلَى قَوْلِ الْفَرِيقِ الثَّانِي مَا ثَمَّ فَعَلَ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ أَصْلًا وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلَكِنَّ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لَمَّا نَاظَرُوا مُتَكَلِّمَةَ النَّفْيِ أَلْزَمُوهُمْ لَوَازِمَ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنْهَا إلَّا بِمُقَابَلَةِ الْبَاطِلِ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا مِمَّا عَابَهُ الْأَئِمَّةُ وَذَمُّوهُ كَمَا عَابَ الأوزاعي وَالزُّبَيْدِيُّ وَالثَّوْرِيّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ مُقَابَلَةَ الْقَدَرِيَّةِ بِالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ وَأَمَرُوا بِالِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَمَا عَابُوا أَيْضًا عَلَى مَنْ قَابَلَ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ بِالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ حَتَّى دَخَلَ فِي تَمْثِيلِ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَهَذَا وَذَكَرْنَا كَلَامَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى " مَسْأَلَةِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ " فَمَنْ قَالَ : الْعَقْلُ يُعْلَمُ بِهِ حُسْنُ الْأَفْعَالِ وَقُبْحُهَا فَإِنَّهُ يُنَزِّهُ الرَّبَّ عَنْ بَعْضِ

الْأَفْعَالِ وَمَنْ قَالَ : لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّمْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّهْيِ فِي حَقِّهِ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ بِنَاءُ هَذِهِ عَلَى تِلْكَ بِلَازِمِ وَبِتَقْدِيرِ لُزُومِهَا فَفِي تِلْكَ تَفْصِيلٌ وَتَحْقِيقٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَذَلِكَ أَنَّا فَرَضْنَا أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ حُسْنَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا ؛ لَكِنَّ الْعَقْلَ لَا يَقُولُ : إنَّ الْخَالِقَ كَالْمَخْلُوقِ ؛ حَتَّى يَكُونَ مَا جَعَلَهُ حَسَنًا لِهَذَا أَوْ قَبِيحًا لَهُ جَعَلَهُ حَسَنًا لِلْآخَرِ أَوْ قَبِيحًا لَهُ ؛ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ ؛ لِمَا بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ مِنْ الْفُرُوقِ الْكَثِيرَةِ . وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ حُسْنَ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَالشَّرْعُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَفْعَالٍ وَأَحْكَامٍ - فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهَا - تَارَةً بِخَبَرِهِ مُثْنِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا ؛ وَتَارَةً بِخَبَرِهِ أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ . فَنَقُولُ : النَّاسُ لَهُمْ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ مَا يَصْلُحُ مِنْهُ وَيَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : طَرَفَانِ وَوَسَطٌ . فَالطَّرَفُ الْوَاحِدُ : طَرَفُ الْقَدَرِيَّةِ وَهُمْ الَّذِينَ حَجَرُوا عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا ظَنُّوا بِعَقْلِهِمْ أَنَّهُ الْجَائِزُ لَهُ حَتَّى وَضَعُوا لَهُ شَرِيعَةَ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ بِعَقْلِهِمْ أُمُورًا كَثِيرَةً وَحَرَّمُوا عَلَيْهِ بِعَقْلِهِمْ أُمُورًا كَثِيرَةً ؛ لَا بِمَعْنَى : أَنَّ الْعَقْلَ آمِرٌ لَهُ وَنَاهٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ بَلْ بِمَعْنَى : أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ مِمَّا

عُلِمَ بِالْعَقْلِ وُجُوبُهَا وَتَحْرِيمُهَا وَلَكِنْ أَدْخَلُوا فِي ذَلِكَ [ مِنْ ] (1) الْمُنْكَرَاتِ مَا بَنَوْهُ عَلَى بِدْعَتِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ . وَالطَّرَفُ الثَّانِي : طَرَفُ الْغُلَاةِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا : لَا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْ فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ وَلَا نَعْلَمُ وَجْهَ امْتِنَاعِ الْفِعْلِ مِنْهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ خَبَرِهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ الْمُطَابِقِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ . وَهَؤُلَاءِ مَنَعُوا حَقِيقَةَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي } " وَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُجَرَّدَ الْمُطَابِقَ لِلْعِلْمِ لَا يُبَيِّنُ وَجْهَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ ؛ إذْ الْعِلْمُ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ ؛ فَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِأَنَّهُ كَتَبَ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ كَائِنٍ مَنْ كَانَ أَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا وَلَا يَفْعَلُ كَذَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا بَيَانٌ لِكَوْنِهِ مَحْمُودًا مَمْدُوحًا عَلَى فِعْلِ هَذَا وَتَرْكِ هَذَا ؛ وَلَا فِي ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ قِيَامَ الْمُقْتَضِي لِهَذَا وَالْمَانِعِ مِنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ الْمَحْضَ كَاشِفٌ عَنْ الْمُخْبِرِ عَنْهُ ؛ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَا يَدْعُو إلَى الْفِعْلِ وَلَا إلَى التَّرْكِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { كَتَبَ

عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } { وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ } فَإِنَّ التَّحْرِيمَ مَانِعٌ مِنْ الْفِعْلِ وَكِتَابَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ دَاعِيَةٌ إلَى الْفِعْلِ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ ؛ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ كِتَابَتِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ وَهُوَ كِتَابَةُ التَّقْدِيرِ كَمَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : " { أَنَّهُ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } " ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَلَوْ أُرِيدَ كِتَابَةُ التَّقْدِيرِ لَكَانَ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْغَضَبَ كَمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ؛ إذْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْخَبَرِ عَمَّا سَيَكُونُ وَلَكَانَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ كُلَّ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ الْإِحْسَانِ كَمَا حَرَّمَ الظُّلْمَ . وَكَمَا أَنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ فِي حَقِّنَا بَيْنَ قَوْله [ تَعَالَى ] (1) : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } وَبَيْنَ قَوْلِهِ : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } وَقَوْلِهِ : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } وَقَوْلِهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] (2) : " { فَيُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ لَهُ : اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ } " . فَهَكَذَا الْفَرْقُ أَيْضًا ثَابِتٌ فِي حَقِّ اللَّهِ . وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كِتَابَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ قُلْت : اللَّهُ

وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ قُلْت ؟ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ : " كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَذَا " . فَهَذَا الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ هُوَ أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ . وَنَظِيرُ تَحْرِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَسَمِهِ لَيَفْعَلَن وَكَلِمَتُهُ السَّابِقَةُ كَقَوْلِهِ : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ } وَقَوْلِهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ } { لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } ؟ { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْقَسَمِ الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْمَعْنَى بِخِلَافِ الْقَسَمِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْخَبَرِ الْمَحْضِ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : الْيَمِينُ إمَّا أَنْ تُوجِبَ حَقًّا ؛ أَوْ مَنْعًا ؛ أَوْ تَصْدِيقًا ؛ أَوْ تَكْذِيبًا . وَإِذَا كَانَ مَعْقُولًا فِي الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَكُونُ آمِرًا مَأْمُورًا كَقَوْلِهِ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } وَقَوْلِهِ : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ آمِرٌ وَنَاهٍ فَوْقَهُ وَالرَّبُّ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ لَأَنْ يَتَصَوَّرَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ الْكَاتِبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَالنَّاهِي الْمُحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ أَوْلَى

وَأَحْرَى وَكِتَابَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ تَسْتَلْزِمُ إرَادَتَهُ لِذَلِكَ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ وَرِضَاهُ بِذَلِكَ وَتَحْرِيمُهُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَلْزِمُ بُغْضَهُ لِذَلِكَ وَكَرَاهَتَهُ لَهُ وَإِرَادَتَهُ وَمَحَبَّتُهُ لِلْفِعْلِ تُوجِبُ وُقُوعَهُ مِنْهُ وَبُغْضَهُ لَهُ وَكَرَاهَتَهُ لِأَنْ يَفْعَلَهُ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ مِنْهُ . فَأَمَّا مَا يُحِبُّهُ وَيُبْغِضُهُ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ فَذَلِكَ نَوْعٌ آخَرُ فَفَرْقٌ بَيْنَ فِعْلِهِ هُوَ وَبَيْنَ مَا هُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ لَهُ وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقِهِ مَا هُوَ ظُلْمٌ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَاعِلِهِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ هُوَ ظُلْمٌ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَ الْإِنْسَانِ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَكُونُ سَرِقَةً وَزِنًا وَصَلَاةً وَصَوْمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُهَا بِمَشِيئَتِهِ وَلَيْسَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَذَلِكَ إذْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ هِيَ لِلْفَاعِلِ الَّذِي قَامَ بِهِ هَذَا الْفِعْلُ كَمَا أَنَّ الصِّفَاتِ هِيَ صِفَاتٌ لِلْمَوْصُوفِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ لَا لِلْخَالِقِ الَّذِي خَلَقَهَا وَجَعَلَهَا صِفَاتٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ مَوْصُوفٍ وَصِفَتَهُ . ثُمَّ صِفَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَتْ صِفَاتٍ لَهُ : كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ لِعَدَمِ قِيَامِ ذَلِكَ بِهِ . وَكَذَلِكَ حَرَكَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَتْ حَرَكَاتٍ لَهُ وَلَا أَفْعَالًا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ؛ لِكَوْنِهَا مَفْعُولَاتٍ هُوَ خَلَقَهَا . وَبِهَذَا الْفَرْقُ تَزُولُ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ وَالْأَمْرُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ تَرْكِ هَذَا الَّذِي لَوْ تُرِكَ لَكَانَ تَرْكُهُ نَقْصًا وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ فِعْلِهِ الَّذِي لَوْ كَانَ لَأَوْجَبَ نَقْصًا .

وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عِنْدَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَهُوَ أَيْضًا مُسْتَقِرٌّ فِي قُلُوبِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْقَدَرِيَّةَ شَبَّهُوا عَلَى النَّاسِ بِشُبَهِهِمْ فَقَابَلَهُمْ مَنْ قَابَلَهُمْ بِنَوْعِ مِنْ الْبَاطِلِ كَالْكَلَامِ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَذُمُّونَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا : قَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَالِمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ كَمَا أَنَّ الْعَادِلَ مَنْ فَعَلَ الْعَدْلَ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ سَمْعًا وَعَقْلًا قَالُوا : وَلَوْ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الَّتِي هِيَ الظُّلْمُ لَكَانَ ظَالِمًا . فَعَارَضَهُمْ هَؤُلَاءِ بِأَنْ قَالُوا : لَيْسَ الظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ بَلْ الظَّالِمُ مَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الظَّالِمُ مَنْ اكْتَسَبَ الظُّلْمَ وَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَوْ مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ لِنَفْسِهِ . وَهَؤُلَاءِ يَعْنُونَ : أَنْ يَكُونَ النَّاهِي لَهُ وَالْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَصَوُّرُ الظُّلْمِ مِنْهُ مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ لِذَاتِهِ ؛ كَامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ آمِرٌ لَهُ وَنَاهٍ . وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ يَعُودَ إلَى الرَّبِّ مِنْ أَفْعَالِهِ حُكْمٌ لِنَفْسِهِ . وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُنَازِعُوا أُولَئِكَ فِي أَنَّ الْعَادِلَ مَنْ فَعَلَ الْعَدْلَ بَلْ سَلَّمُوا ذَلِكَ لَهُمْ وَإِنْ نَازَعَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ مُنَازَعَةً عنادية .

وَاَلَّذِي يَكْشِفُ تَلْبِيسَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ : الظَّالِمُ وَالْعَادِلُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لِلظُّلْمِ وَالْعَدْلِ فَذَلِكَ يَأْثَمُ بِهِ أَيْضًا وَلَا يَعْرِفُ النَّاسُ مَنْ يُسَمَّى ظَالِمًا وَلَمْ يَقُمْ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي بِهِ صَارَ ظَالِمًا بَلْ لَا يَعْرِفُونَ ظَالِمًا إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلَهُ وَبِهِ صَارَ ظَالِمًا ؛ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ وَلَهُ مَفْعُولٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ . لَكِنْ لَا يَعْرِفُونَ الظَّالِمَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ بِهِ ذَلِكَ فَكَوْنُكُمْ أَخَذْتُمْ فِي حَدِّ الظَّالِمِ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ وَعَنَيْتُمْ بِذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ . فَهَذَا تَلْبِيسٌ وَإِفْسَادٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ كَمَا فَعَلْتُمْ فِي مُسَمَّى الْمُتَكَلِّمِ حَيْثُ قُلْتُمْ : هُوَ مِنْ فِعْلِ الْكَلَامِ وَلَوْ فِي غَيْرِهِ . وَجَعَلْتُمْ مَنْ أَحْدَثَ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ قَائِمًا بِغَيْرِهِ مُتَكَلِّمًا وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ هُوَ كَلَامٌ أَصْلًا . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبُهْتَانِ وَالْقَرْمَطَةِ وَالسَّفْسَطَةِ . وَلِهَذَا أَلْزَمَهُمْ السَّلَفُ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْجَمَادَاتِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَلَا يُفَرِّقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ نَطَقَ وَأَنْطَقَ وَإِنَّمَا قَالَتْ الْجُلُودُ : { أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } وَلَمْ تَقُلْ نَطَقَ اللَّهُ بِذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ كَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ وَغَيْرِهِ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّهُ عَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ الَّذِي خُلِقَ فِي فِرْعَوْنَ حَتَّى قَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } كَالْكَلَامِ الَّذِي خُلِقَ فِي الشَّجَرَةِ حَتَّى قَالَتْ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ مُحِقًّا أَوْ

تَكُونُ الشَّجَرَةُ كَفِرْعَوْنَ . وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوِ الِاتِّحَادِيَّةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَيُنْشِدُونَ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَهَذَا يَسْتَوْعِبُ أَنْوَاعَ الْكُفْرِ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْأَمْرِ الْبَيِّنِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ : الْمُتَكَلِّمُ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ أَصْلًا . فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمِ ؛ إذْ لَيْسَ الْمُتَكَلِّمُ إلَّا هَذَا وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُوهُمْ يَقُولُونَ : لَيْسَ بِمُتَكَلِّمِ . ثُمَّ قَالُوا : هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَذَلِكَ لِمَا اسْتَقَرَّ فِي الْفِطَرِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ فَاعِلًا لَهُ كَمَا يَقُومُ بِالْإِنْسَانِ كَلَامُهُ وَهُوَ كَاسِبٌ لَهُ . أَمَّا أَنْ يَجْعَلَ مُجَرَّدَ إحْدَاثِ الْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا لَهُ : فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الظُّلْمِ فَهَبْ أَنَّ الظَّالِمَ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ فَلَيْسَ هُوَ مَنْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلٌ أَصْلًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ بِهِ فِعْلٌ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَى غَيْرِهِ فَهَذَا جَوَابٌ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : الظُّلْمُ فِيهِ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ فَهُوَ ظُلْمٌ مِنْ الظَّالِمِ بِمَعْنَى : أَنَّهُ عُدْوَانٌ وَبَغْيٌ مِنْهُ وَهُوَ ظُلْمٌ لِلْمَظْلُومِ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَغْيٌ وَاعْتِدَاءٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدًّى عَلَيْهِ بِهِ وَلَا هُوَ مِنْهُ عُدْوَانٌ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ فِي حَقِّهِ لَيْسَ بِظُلْمِ لَا مِنْهُ وَلَا لَهُ .

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ خَلْقِهِ لِصِفَاتِهِمْ فَهُمْ الْمَوْصُوفُونَ بِذَلِكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَسْوَدَ وَبَعْضَهَا أَبْيَضَ أَوْ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا أَوْ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا أَوْ عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ قَادِرًا أَوْ عَاجِزًا أَوْ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا أَوْ سَعِيدًا أَوْ شَقِيًّا أَوْ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا : كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ وَالْحَيُّ وَالْمَيِّتُ وَالظَّالِمُ وَالْمَظْلُومُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا إحْدَاثُهُ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ مِنْ شَخْصٍ وَظُلْمٌ لِآخَرَ بِمَنْزِلَةِ إحْدَاثِهِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ الَّذِي هُوَ أَكْلٌ مِنْ شَخْصٍ وَأَكْلٌ لِآخَرَ وَلَيْسَ هُوَ بِذَلِكَ آكِلًا وَلَا مَأْكُولًا . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . وَإِنْ كَانَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَازِمِهَا وَمُتَعَدِّيهَا حِكَمٌ بَالِغَةٌ كَمَا لَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فِي خَلْقِ صِفَاتِهِمْ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ . وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ تَدْلِيسُ الْقَدَرِيَّةِ . وَأَمَّا تِلْكَ الْحُدُودُ الَّتِي عُورِضُوا بِهَا فَهِيَ دَعَاوٍ وَمُخَالِفَةٌ أَيْضًا لِلْمَعْلُومِ مِنْ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَالْعَقْلِ أَوْ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْإِجْمَالِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : الظَّالِمُ مَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَهُ آمِرًا لَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لَهُ

مَعَ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى تَفْسِيرِ الظَّالِمِ بِمَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ كَاقْتِصَارِ أُولَئِكَ عَلَى تَفْسِيرِ الظَّالِمِ فِي فِعْلِ الظُّلْمِ وَاَلَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ عَامُّهُمْ وَخَاصُّهُمْ أَنَّ الظَّالِمَ فَاعِلٌ لِلظُّلْمِ وَظُلْمُهُ فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ جَحَدَ بَعْضَ الْحَقِّ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْإِطْلَاقُ صَحِيحٌ . لَكِنْ يُقَالُ : قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِ نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَجْزِيَ الْمُطِيعِينَ وَأَنَّهُ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي حَرَّمَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَتَبَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَوْ مُوجِبًا عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِعَقْلِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الظُّلْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ ظُلْمٌ بِلَا رَيْبٍ وَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتْرُكُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ لِأَنَّهُ عَادِلٌ لَيْسَ بِظَالِمِ كَمَا يَتْرُكُ عُقُوبَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَمَا يَتْرُكُ أَنْ يَحْمِلَ الْبَرِيءُ ذُنُوبَ الْمُعْتَدِينَ .
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ : " { وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا } " يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ شَرِيفُ الْقَدْرِ عَظِيمُ الْمَنْزِلَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد

يَقُولُ : هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ لِأَهْلِ الشَّامِ وَكَانَ أَبُو إدْرِيسَ الخولاني إذَا حَدَّثَ بِهِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ . وَرَاوِيهِ أَبُو ذَرٍّ الَّذِي مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْهُ وَهُوَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي رَوَاهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذَا الْبَابِ زَاهِرٌ الشحامي وَعَبْدُ الْغَنِيِّ المقدسي وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي وَغَيْرُهُمْ . وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ تَضَمَّنَ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ الْعَظِيمَةِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ : " { حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي } " يَتَضَمَّنُ جُلَّ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ إذَا أُعْطِيَتْ حَقَّهَا مِنْ التَّفْسِيرِ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا فِيهَا مَا لَا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ مِنْ أَوَائِلِ النُّكَتِ الْجَامِعَةِ . وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ : " { وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا } " فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الدِّينَ كُلَّهُ ؛ فَإِنَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ رَاجِعٌ إلَى الظُّلْمِ وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْعَدْلِ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِأَجْلِ قِيَامِ النَّاسِ بِالْقِسْطِ . وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ الَّذِي بِهِ يَنْصُرُ هَذَا الْحَقَّ

فَالْكِتَابُ يَهْدِي وَالسَّيْفُ يَنْصُرُ وَكَفَى بِرَبِّك هَادِيًا وَنَصِيرًا . وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ النَّاسِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْحَدِيدِ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : صِنْفَانِ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ : الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ . وَقَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } أَقْوَالًا تَجْمَعُ الْعُلَمَاءَ وَالْأُمَرَاءَ وَلِهَذَا نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى دُخُولِ الصِّنْفَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؟ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَكَانَ نُوَّابُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ كَعَلِيِّ وَمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى وَعَتَّابِ بْنِ أسيد وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي العاص وَأَمْثَالِهِمْ يَجْمَعُونَ الصِّنْفَيْنِ . وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَنُوَّابِهِمْ . وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَاحِبُ الْكِتَابِ وَاَلَّذِي يَقُومُ بِالْجِهَادِ صَاحِبُ الْحَدِيدِ . إلَى أَنْ تَفَرَّقَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا تَفَرَّقَ صَارَ كُلُّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَعُقُوبَاتِ الْفُجَّارِ يَجِبُ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ وَقَسْمِهَا يَجِبُ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ بِالْكِتَابِ بِتَبْلِيغِ أَخْبَارِهِ وَأَوَامِرِهِ وَبَيَانِهَا يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ وَيُطَاعَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الصِّدْقِ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَيَأْمُرُونَ بِأَشْيَاءَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَغَيْرِهِمَا يَذُمُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَذَكَرَ مَا أَمَرَ بِهِ هُوَ وَمَا حَرَّمَهُ هُوَ فَقَالَ : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَهَذِهِ الْآيَةُ تَجْمَعُ أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَتِلْكَ الْآيَةُ تَجْمَعُ أَنْوَاعَ الْوَاجِبَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ أَيْضًا وَقَوْلُهُ : { أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أَمَرَ مَعَ الْقِسْطِ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهَذَا أَصْلُ الدِّينِ وَضِدُّهُ هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَأَرْسَلَهُمْ بِهِ إلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ

أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } . وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ " بَابَ مَا جَاءَ فِي أَنَّ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ النَّبِيِّينَ . قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ : { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . وَقَالَ فِي قِصَّة بلقيس : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } .

وَهَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ هُوَ أَعْظَمُ الْعَدْلِ وَضِدُّهُ وَهُوَ الشِّرْكُ أَعْظَمُ الظُّلْمِ كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ : أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } " ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارك فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } الْآيَةَ } . وَقَدْ جَاءَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَرُوِيَ مَرْفُوعًا { الظُّلْمُ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ : فَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا . فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ الشِّرْكُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ . وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ ظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا بُدَّ أَنْ يُنْصِفَ الْمَظْلُومَ مِنْ الظَّالِمِ . وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ

رَبِّهِ } أَيْ : مَغْفِرَةُ هَذَا الضَّرْبِ مُمْكِنَةٌ بِدُونِ رِضَى الْخَلْقِ ؛ فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ هَذَا الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ الشَّرِيفَةِ وَالْأُصُولِ الْجَامِعَةِ فِي الْقَوَاعِدِ وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَ الظُّلْمِ وَبَيَّنَّا كَيْفَ كَانَ الشِّرْكُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَمُسَمَّى الشِّرْكِ جَلِيلِهِ وَدَقِيقِهِ ؟ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ } " . وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّيَاءِ { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَكَانَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ يَقُولُ : يَا بَقَايَا الْعَرَبِ يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ . قَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني صَاحِبُ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ : الْخَفِيَّةُ حُبُّ الرِّيَاسَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ حُبَّ الرِّيَاسَةِ هُوَ أَصْلُ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ كَمَا أَنَّ الرِّيَاءَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ أَوْ مَبْدَأُ الشِّرْكِ . وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ الْفَسَادِ كَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ أَعْظَمُ الصَّلَاحِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } إلَى أَنْ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } وَقَالَ : { وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا } وَقَالَ :

{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } . فَأَصْلُ الصَّلَاحِ : التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ وَأَصْلُ الْفَسَادِ : الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ . كَمَا قَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } { أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ وَبِهِ الْمَقْصُودُ الَّذِي يُرَادُ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : الْعَقْدُ الصَّحِيحُ مِمَّا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ . وَالْفَاسِدُ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودٌ وَالصَّحِيحُ الْمُقَابِلُ لِلْفَاسِدِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ هُوَ الصَّالِحُ . وَكَانَ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ : هَذَا لَا يَصْلُحُ أَوْ يَصْلُحُ كَمَا كَثُرَ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِعِبَادَتِهِ وَبَدَنُهُ تَبَعٌ لِقَلْبِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ . وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } " وَصَلَاحُ الْقَلْبِ : فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ وَبِهِ الْمَقْصُودُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ مِنْ

مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَفَسَادِهِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ . فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ بِدُونِ ذَلِكَ قَطُّ . وَالْقَلْبُ لَهُ قُوَّتَانِ : الْعِلْمُ ؛ وَالْقَصْدُ كَمَا أَنَّ لِلْبَدَنِ الْحِسَّ ؛ وَالْحَرَكَةَ الْإِرَادِيَّةَ فَكَمَا أَنَّهُ مَتَى خَرَجَتْ قُوَى الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ عَنْ الْحَالِ الْفِطْرِيِّ الطَّبِيعِيِّ فَسَدَتْ . فَإِذَا خَرَجَ الْقَلْبُ عَنْ الْحَالِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي يُولَدُ عَلَيْهَا كُلُّ مَوْلُودٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا لِرَبِّهِ مُرِيدًا لَهُ فَيَكُونُ هُوَ مُنْتَهَى قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ . وَذَلِكَ هِيَ الْعِبَادَةُ ؛ إذْ الْعِبَادَةُ : كَمَالُ الْحُبِّ بِكَمَالِ الذُّلِّ فَمَتَى لَمْ تَكُنْ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَوَجْهُهُ وَإِرَادَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ فَاسِدًا ؛ إمَّا بِأَنْ يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْ اللَّهِ وَعَنْ ذَكَرَهُ غَافِلًا عَنْ ذَلِكَ مَعَ تَكْذِيبٍ أَوْ بِدُونِ تَكْذِيبٍ أَوْ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ ذِكْرٌ وَشُعُورٌ وَلَكِنْ قَصْدُهُ وَإِرَادَتُهُ غَيْرَهُ لِكَوْنِ الذِّكْرِ ضَعِيفًا لَمْ يَجْتَذِبْ الْقَلْبَ إلَى إرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ . وَإِلَّا فَمَتَى قَوِيَ عِلْمُ الْقَلْبِ وَذِكْرُهُ أَوْجَبَ قَصْدَهُ وَعِلْمَهُ قَالَ تَعَالَى : { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } فَأَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يُعْرِضَ عَمَّنْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُرَادٌ إلَّا مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا . وَهَذِهِ حَالُ مَنْ فَسَدَ قَلْبُهُ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ رَبَّهُ ؛ وَلَمْ يُنِبْ إلَيْهِ فَيُرِيدُ وَجْهَهُ وَيُخْلِصُ لَهُ الدِّينَ . ثُمَّ قَالَ : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ

لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ عِلْمٌ فَوْقَ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا ؛ فَهِيَ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِمْ . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَأَكْبَرُ هَمِّهِ هُوَ اللَّهُ وَإِلَيْهِ انْتَهَى عِلْمُهُ وَذِكْرُهُ . وَهَذَا الْآنُ بَابٌ وَاسِعٌ عَظِيمٌ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ . وَإِذَا كَانَ التَّوْحِيدُ أَصْلَ صَلَاحِ النَّاسِ وَالْإِشْرَاكُ أَصْلَ فَسَادِهِمْ وَالْقِسْطُ مَقْرُونٌ بِالتَّوْحِيدِ ؛ إذْ التَّوْحِيدُ أَصْلُ الْعَدْلِ ؛ وَإِرَادَةُ الْعُلُوِّ مَقْرُونَةٌ بِالْفَسَادِ ؛ إذْ هُوَ أَصْلُ الظُّلْمِ فَهَذَا مَعَ هَذَا وَهَذَا مَعَ هَذَا كَالْمَلْزُوزِينَ فِي قَرْنٍ فَالتَّوْحِيدُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ هُوَ صَلَاحٌ وَعَدْلٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمَ بِالْوَاجِبَاتِ ؛ وَهُوَ الْبِرُّ ؛ وَهُوَ الْعَدْلُ . وَالذُّنُوبُ الَّتِي فِيهَا تَفْرِيطٌ أَوْ عُدْوَانٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ هِيَ فَسَادٌ وَظُلْمٌ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مُفْسِدِينَ وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِاجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ وَاَلَّذِي يُرِيدُ الْعُلُوَّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ هُوَ ظَالِمٌ لَهُ بَاغٍ ؛ إذْ لَيْسَ كَوْنُك عَالِيًا عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ عَالِيًا عَلَيْك وَكِلَاكُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَالْقِسْطُ وَالْعَدْلُ أَنْ يَكُونُوا إخْوَةً كَمَا وَصَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ . وَالتَّوْحِيدُ وَإِنْ كَانَ أَصْلَ الصَّلَاحِ فَهُوَ أَعْظَمُ الْعَدْلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَلِهَذَا كَانَ تَخْصِيصُهُ

بِالذِّكْرِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْقِسْطِ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بَعْدَ الْإِيمَانِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } و { مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ } هَذَا إذَا قِيلَ : إنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُهُ . سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْأَوَّلِ فَيَكُونُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ أَوْ قِيلَ : بَلْ عَطْفُهُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ هُنَا وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ مُنْفَرِدًا كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَنَوَّعُ دَلَالَتُهُ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ : أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ وَكُلَّ شَرٍّ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الظُّلْمِ . وَلِهَذَا كَانَ الْعَدْلُ أَمْرًا وَاجِبًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَالظُّلْمُ مُحَرَّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِكُلِّ أَحَدٍ فَلَا يَحِلُّ ظُلْمُ أَحَدٍ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا أَوْ كَانَ ظَالِمًا بَلْ الظُّلْمُ إنَّمَا يُبَاحُ أَوْ يَجِبُ فِيهِ الْعَدْلُ عَلَيْهِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ } أَيْ : لَا يَحْمِلَنكُمْ شَنَآنُ أَيْ : بُغْضُ قَوْمٍ - وَهُمْ الْكُفَّارُ - عَلَى عَدَمِ الْعَدْلِ ؛ { قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ

مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } . وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ : " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا } " فَإِنَّ هَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْعِبَادِ أَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدٌ أَحَدًا وَأَمْرُ الْعَالِمِ فِي الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا وَهُوَ الْعَدْلُ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ ؛ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَنْسَابِ ؛ وَالْأَعْرَاضِ . وَلِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ وَمُقَابَلَةِ الْعَادِي بِمِثْلِ فِعْلِهِ . لَكِنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ يَكُونُ عِلْمُهَا أَوْ عَمَلُهَا مُتَعَذِّرًا أَوْ مُتَعَسِّرًا ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ الْوَاجِبُ مَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَيْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَيُقَالُ : هَذَا أَمْثَلُ ؛ وَهَذَا أَشْبَهُ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِمَا كَانَ أَمْثَلَ بِمَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ إذْ ذَاكَ مَعْجُوزٌ عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا حِينَ أَمَرَ بِتَوْفِيَةِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ بِالْقِسْطِ ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَ الْمَكِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَلَوْ بِحَبَّةِ أَوْ حَبَّاتٍ وَكَذَلِكَ التَّفَاضُلُ فِي الْمِيزَانِ قَدْ يَحْصُلُ بِشَيْءِ يَسِيرٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى : { لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . وَلِهَذَا كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا إذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جَنَفٍ كَالِاقْتِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ . وَفِي الْأَعْضَاءِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ فَإِذَا كَانَ الْجَنَفُ وَاقِعًا فِي الِاسْتِيفَاءِ عُدِلَ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ

الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ مِنْ إتْلَافِ زِيَادَةٍ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ رَأَى مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ قَالَ : لِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَفِي غَيْرِ الْعُنُقِ لَا نَعْلَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةَ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّحْرِيقُ وَالتَّغْرِيقُ وَالتَّوْسِيطُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَشَدَّ إيلَامًا ؛ لَكِنْ الَّذِينَ قَالُوا : يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ قَوْلُهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ ؛ فَإِنَّهُ مَعَ تَحَرِّي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدْلِ وَمَا حَصَلَ مِنْ تَفَاوُتِ الْأَلَمِ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ . وَأَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ وَسَطَهُ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ ؛ أَوْ رَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَضُرِبَ بِالسَّيْفِ فَهُنَا قَدْ تَيَقَّنَّا عَدَمَ الْمُعَادَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ . وَكُنَّا قَدْ فَعَلْنَا مَا تَيَقَّنَّا انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ وُجُودُهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ تَقَعُ ؛ إذْ التَّفَاوُتُ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ . وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبَةِ وَاللَّطْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَدَلَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى التَّعْزِيرِ ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد : مَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْمُمَاثَلَةِ . فَإِنَّا إذَا تَحَرَّيْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِهِ مِنْ جِنْسِ فِعْلِهِ وَنُقَرِّبَ

الْقَدْرَ مِنْ الْقَدْرِ كَانَ هَذَا أَمْثَلَ مِنْ أَنْ نَأْتِيَ بِجِنْسِ مِنْ الْعُقُوبَةِ تُخَالِفُ عُقُوبَتُهُ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً . وَهَذَا النَّظَرُ أَيْضًا فِي ضَمَانِ الْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِمِثْلِهِ تَقْرِيبًا أَوْ بِالْقِيمَةِ كَمَا نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِ ضَمَانِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ . وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ خَرَّبَ حَائِطَ غَيْرِهِ : أَنَّهُ يَبْنِيهِ كَمَا كَانَ . وَبِهَذَا قَضَى سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حُكُومَةِ الْحَرْثِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا هُوَ وَأَبُوهُ ؛ كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ . فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَبْوَابِ الْمَقْصُودُ لِلشَّرِيعَةِ فِيهَا تَحَرِّي الْعَدْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ مَقْصُودُ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ أَفْهَمُهُمْ مَنْ قَالَ بِمَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ وَضِدُّهُ الظُّلْمُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا } " . وَلَمَّا كَانَ الْعَدْلُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ عِلْمٌ - إذْ مَنْ لَا يَعْلَمُ لَا يَدْرِي مَا الْعَدْلُ ؟ وَالْإِنْسَانُ ظَالِمٌ جَاهِلٌ إلَّا مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَصَارَ عَالِمًا عَادِلًا - صَارَ النَّاسُ مِنْ الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ : الْعَالِمُ الْجَائِرُ وَالْجَاهِلُ الظَّالِمُ ؛ فَهَذَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

" { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ : رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ ؛ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ ؛ وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ } " فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ كَمَا قَالَ : " { مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَخْطَأَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } " . وَكُلُّ مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَهُوَ قَاضٍ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ حَرْبٍ أَوْ مُتَوَلِّي دِيوَانٍ أَوْ مُنْتَصِبًا لِلِاحْتِسَابِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْخُطُوطِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ الْحُكَّامِ . وَلَمَّا كَانَ الْحُكَّامُ مَأْمُورِينَ بِالْعَدْلِ وَالْعِلْمِ وَكَانَ الْمَفْرُوضُ إنَّمَا هُوَ بِمَا يَبْلُغُهُ جُهْدُ الرَّجُلِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } " .
فَصْلٌ :
فَلَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْعَدْلِ وَحَرَّمَهُ مِنْ الظُّلْمِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِبَادِهِ : ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ إحْسَانَهُ إلَى عِبَادِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَفَقْرِهِمْ إلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُيَسِّرَ لِذَلِكَ . وَأَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يَسْأَلُوهُ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ

أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِهِ وَلَا ضَرِّهِ مَعَ عِظَمِ مَا يُوصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ النَّعْمَاءِ ؛ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مِنْ الْبَلَاءِ . وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا ؛ فَصَارَتْ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : الْهِدَايَةُ : وَالْمَغْفِرَةُ ؛ وَهُمَا : جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ فِي الدِّينِ وَالطَّعَامِ ؛ وَالْكُسْوَةِ وَهُمَا : جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ فِي الدُّنْيَا . وَإِنْ شِئْت قُلْت : الْهِدَايَةُ وَالْمَغْفِرَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْبَدَنِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ الْإِرَادِيَّةِ . وَالطَّعَامُ وَالْكُسْوَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْبَدَنِ : الطَّعَامُ لِجَلْبِ مَنْفَعَتِهِ وَاللِّبَاسُ لِدَفْعِ مَضَرَّتِهِ . وَفَتْحُ الْأَمْرِ بِالْهِدَايَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ الْهِدَايَةُ النَّافِعَةُ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالدِّينِ فَكُلُّ أَعْمَالِ النَّاسِ تَابِعَةٌ لِهُدَى اللَّهِ إيَّاهُمْ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } وَقَالَ مُوسَى : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } وَقَالَ : { إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } . وَلِهَذَا قِيلَ : الْهُدَى أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : الْهِدَايَةُ إلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا ؛ فَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَالْأَعْجَمِ ؛ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ .

وَالثَّانِي الْهُدَى بِمَعْنَى دُعَاءِ الْخَلْقِ إلَى مَا يَنْفَعُهُمْ وَأَمْرِهِمْ بِذَلِكَ وَهُوَ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ فَهَذَا أَيْضًا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ كَفَرُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَهَذَا مَعَ قَوْلِهِ : { إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى الَّذِي أَثْبَتَهُ هُوَ الْبَيَانُ وَالدُّعَاءُ ؛ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ؛ وَالتَّعْلِيمُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْهُدَى الَّذِي نَفَاهُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : الْهُدَى الَّذِي هُوَ جَعْلُ الْهُدَى فِي الْقُلُوبِ . وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ بِالْإِلْهَامِ وَالْإِرْشَادِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : هُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ ؛ كَالتَّوْفِيقِ عِنْدَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ جَعَلَ التَّوْفِيقَ وَالْهُدَى وَنَحْوَ ذَلِكَ خَلْقَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُمَا اسْتِطَاعَتَانِ : إحْدَاهُمَا : قَبْلَ الْفِعْلِ وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي التَّكْلِيفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا }

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ : " { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } " وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ يَقْتَرِنُ بِهَا الْفِعْلُ تَارَةً وَالتَّرْكُ أُخْرَى وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي لَمْ تَعْرِفْ الْقَدَرِيَّةُ غَيْرَهَا كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لَمْ يَعْرِفُوا إلَّا الْمُقَارَنَةَ . وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ فَإِثْبَاتُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ تُثْبِتُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا . وَالثَّانِيَةُ : الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ ؛ وَهِيَ الْمُوجِبَةُ لَهُ وَهِيَ الْمَنْفِيَّةُ عَمَّنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } وَفِي قَوْلِهِ : { لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } وَهَذَا الْهُدَى الَّذِي يَكْثُرُ ذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } وَفِي قَوْلِهِ : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي تُنْكِرُ الْقَدَرِيَّةُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْفَاعِلَ لَهُ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يَهْدِي نَفْسَهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَأَمْثَالُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ؛ حَيْثُ قَالَ : " { يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ } فَأَمَرَ الْعِبَادَ بِأَنْ يَسْأَلُوهُ الْهِدَايَةَ كَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فِي أُمِّ

الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَعِنْدَ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّرُ مِنْ الْهُدَى إلَّا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ : إرْسَالِ الرُّسُلِ وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَّةِ وَلَا مِزْيَةَ عِنْدَهُمْ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ فِي هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا نِعْمَةَ لَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى الْكَافِرِ فِي بَابِ الْهُدَى . وَقَدْ بَيَّنَ الِاخْتِصَاصَ فِي هَذِهِ بَعْدَ عُمُومِ الدَّعْوَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَقَدْ جَمَعَ الْحَدِيثَ : تَنْزِيهُهُ عَنْ الظُّلْمِ الَّذِي يُجَوِّزُهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُثْبِتَةِ وَبَيَانُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي عِبَادَهُ رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ . فَأَخْبَرَ هُنَاكَ بِعَدْلِهِ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُثْبِتَةِ وَأَخْبَرَ هُنَا بِإِحْسَانِهِ وَقُدْرَتِهِ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْقَدَرِيَّةُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَصَدَهُ تَعْظِيمًا لَا يَعْرِفُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : الْهُدَى فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } { وَهُدُوا إلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } فَقَوْلُهُ : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } كَقَوْلِهِ :

{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ . وَهَذَا الْهُدَى ثَوَابُ الِاهْتِدَاءِ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَنَّ ضَلَالَ الْآخِرَةِ جَزَاءُ ضَلَالِ الدُّنْيَا ؛ وَكَمَا أَنَّ قَصْدَ الشَّرِّ فِي الدُّنْيَا جَزَاؤُهُ الْهُدَى إلَى طَرِيقِ النَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } { مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } . وَقَالَ : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } وَقَالَ : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَقَالَ : { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } الْآيَةَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الضَّالِّينَ فِي الدُّنْيَا يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا فَإِنَّ الْجَزَاءَ أَبَدًا مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } " وَقَالَ : " { مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا

وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } " . وَقَالَ : " { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ } " . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } وَقَالَ : { إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلِهَذَا أَيْضًا يَجْزِي الرَّجُلَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرِ الْهُدَى بِمَا يَفْتَحُ عَلَيْهِ مِنْ هُدًى آخَرَ وَلِهَذَا قِيلَ : مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } إلَى قَوْلِهِ : { مُسْتَقِيمًا } وَقَالَ : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } . وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } . وَقَالَ : { إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } فَسَّرُوهُ بِالنَّصْرِ وَالنَّجَاةِ كَقَوْلِهِ : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } . وَقَدْ قِيلَ : نُورٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وَعَدَ الْمُتَّقِينَ بِالْمَخَارِجِ مِنْ الضِّيقِ وَبِرِزْقِ الْمَنَافِعِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ

تَقْوَاهُمْ } وَقَوْلُهُ : { إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } { وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } . وَبِإِزَاءِ ذَلِكَ أَنَّ الضَّلَالَ وَالْمَعَاصِيَ تَكُونُ بِسَبَبِ الذُّنُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } وَقَالَ : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } . وَقَالَ : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { لَا يُؤْمِنُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { يَعْمَهُونَ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : أَنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا وَأَنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا . وَقَدْ شَاعَ فِي لِسَانِ الْعَامَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } مِنْ الْبَابِ الْأَوَّلِ ؛ حَيْثُ يَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى سَبَبُ تَعْلِيمِ اللَّهِ وَأَكْثَرُ الْفُضَلَاءِ يَطْعَنُونَ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْبُطْ الْفِعْلَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ رَبْطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ فَلَمْ يَقُلْ ؛ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ وَلَا قَالَ فَيُعَلِّمُكُمْ . وَإِنَّمَا أَتَى بِوَاوِ الْعَطْفِ وَلَيْسَ مِنْ الْعَطْفِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبُ الثَّانِي وَقَدْ يُقَالُ الْعَطْفُ قَدْ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاقْتِرَانِ وَالتَّلَازُمِ كَمَا يُقَالُ : زُرْنِي وَأَزُورُك ؛ وَسَلِّمْ عَلَيْنَا وَنُسَلِّمُ

عَلَيْك وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي اقْتِرَانَ الْفِعْلَيْنِ وَالتَّعَاوُضَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ لِسَيِّدِهِ : أَعْتِقْنِي وَلَك عَلَيَّ أَلْفٌ ؛ أَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي وَلَك أَلْفٌ ؛ أَوْ اخْلَعْنِي وَلَك أَلْفٌ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا بِأَلْفِ أَوْ عَلَيَّ أَلْفٌ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ ؛ فَإِنَّهُ كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ بِأَلْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَوْلٌ شَاذٌّ وَيَقُولُ أَحَدُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ لِلْآخَرِ : أُعْطِيك هَذَا وَآخُذُ هَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَيَقُولُ الْآخَرُ : نَعَمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا هُوَ السَّبَبَ لِلْآخَرِ دُونَ الْعَكْسِ . فَقَوْلُهُ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَكُلٌّ مِنْ تَعْلِيمِ الرَّبِّ وَتَقْوَى الْعَبْدِ يُقَارِبُ الْآخَرَ وَيُلَازِمُهُ وَيَقْتَضِيهِ فَمَتَى عَلَّمَهُ اللَّهُ الْعِلْمَ النَّافِعَ اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِحَسَبِ ذَلِكَ وَمَتَى اتَّقَاهُ زَادَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَهَلُمَّ جَرَّا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " { يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ وَكُلّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ } " فَيَقْتَضِي أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي الرِّزْقِ الْمُتَضَمِّنِ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ كَالطَّعَامِ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ كَاللِّبَاسِ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ غَيْرُ اللَّهِ عَلَى الْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ قُدْرَةً مُطْلَقَةً . وَإِنَّمَا الْقُدْرَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِبَعْضِ الْعِبَادِ تَكُونُ عَلَى بَعْضِ أَسْبَابِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } فَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْمَقْدُورُ لِلْعِبَادِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } { يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ } { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } وَقَوْلُهُ : { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } وَقَوْلُهُ : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } وَقَالَ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } فَذَمَّ مَنْ يَتْرُكُ الْمَأْمُورَ بِهِ اكْتِفَاءً بِمَا يَجْرِي بِهِ الْقَدَرُ . وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّ السَّبَبَ الْمَأْمُورَ بِهِ أَوْ الْمُبَاحَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي وُجُودِ السَّبَبِ ؛ بَلْ الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ إلَى اللَّهِ ثَابِتَةٌ مَعَ فِعْلِ السَّبَبِ ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ وَحْدَهُ سَبَبٌ تَامٌّ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ أَنْ تَقْتَرِنَ الْحَوَادِثُ بِمَا قَدْ يُجْعَلُ سَبَبًا إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . فَمَنْ ظَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ بِالسَّبَبِ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَدْ تَرَكَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ التَّوَكُّلِ ؛ وَأَخَلَّ بِوَاجِبِ التَّوْحِيدِ وَلِهَذَا يُخْذَلُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ

إذَا اعْتَمَدُوا عَلَى الْأَسْبَابِ . فَمَنْ رَجَا نَصْرًا أَوْ رِزْقًا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ خَذَلَهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرْجُوَن عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ وَلَا يَخَافَن إلَّا ذَنْبَهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وَقَالَ : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } .
وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ أَخَذَ يَدْخُلُ فِي التَّوَكُّلِ تَارِكًا لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ أَيْضًا جَاهِلٌ ظَالِمٌ ؛ عَاصٍ لِلَّهِ بِتَرْكِ مَا أَمَرَهُ ؛ فَإِنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَالَ : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } وَقَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَالَ : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . وَقَالَ : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ

وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَلَيْسَ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ التَّوَكُّلِ بِأَعْظَمَ ذَنْبًا مِمَّنْ فَعَلَ تَوَكُّلًا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ السَّبَبِ ؛ إذْ كِلَاهُمَا مُخِلٌّ بِبَعْضِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَهُمَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي جِنْسِ الذَّنْبِ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا ألوم وَقَدْ يَكُونُ الْآخَرَ مَعَ أَنَّ التَّوَكُّلَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ . فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِنْ غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ فَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } " فَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ } " أَمْرٌ بِالتَّسَبُّبِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى الْمَنَافِعِ . وَأَمَرَ مَعَ

ذَلِكَ بِالتَّوَكُّلِ وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ فَمَنْ اكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا فَقَدْ عَصَى أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَنَهَى عَنْ الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكَيْسِ . كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " { إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ } " وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الشَّامِيِّ : " { الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ اتَّبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ } " فَالْعَاجِزُ فِي الْحَدِيثِ مُقَابِلُ الْكَيْسِ وَمَنْ قَالَ : الْعَاجِزُ هُوَ مُقَابِلُ الْبَرِّ فَقَدْ حَرَّفَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ . وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : " { كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرِ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ } " . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ يَقُولُونَ : نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ فَإِذَا قَدِمُوا سَأَلُوا النَّاسَ ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } فَمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ التَّزَوُّدِ فَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّه وَأَحْسَنَ مِنْهُ إلَى مَنْ يَكُونُ مُحْتَاجًا كَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ مُلْتَفِتًا إلَى أَزْوَادِ الْحَجِيجِ كَلًّا عَلَى النَّاسِ ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَ هَذَا قَلْبُهُ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إلَى مُعَيَّنٍ فَهُوَ مُلْتَفِتٌ إلَى الْجُمْلَةِ لَكِنْ إنْ كَانَ الْمُتَزَوِّدُ غَيْرَ قَائِمٍ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَمُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِ فَقَدْ يَكُونُ فِي تَرْكِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ جِنْسِ هَذَا التَّارِكِ لِلتَّزَوُّدِ الْمَأْمُورِ بِهِ .

وَفِي هَذِهِ النُّصُوصِ بَيَانُ غَلَطِ طَوَائِفَ : طَائِفَةٌ تُضْعِفُ أَمْرَ السَّبَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَتَعُدُّهُ نَقْصًا أَوْ قَدْحًا فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ وَإِنَّ تَرْكَهُ مِنْ كَمَالِ التَّوَكُّلِ وَالتَّوْحِيدِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِمْ وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالْغَلَطِ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي إخْلَادِ النَّفْسِ إلَى الْبِطَالَةِ وَلِهَذَا تَجِدُ عَامَّةَ هَذَا الضَّرْبِ التَّارِكِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ يَتَعَلَّقُونَ بِأَسْبَابِ دُونَ ذَلِكَ ؛ فَإِمَّا أَنْ يُعَلِّقُوا قُلُوبَهُمْ بِالْخَلْقِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا لِأَجْلِ مَا تَبَتَّلُوا لَهُ مِنْ الْغُلُوِّ فِي التَّوَكُّلِ وَاجِبَاتٍ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَمَنْ يَصْرِفُ هِمَّتَهُ فِي تَوَكُّلِهِ إلَى شِفَاءِ مَرَضِهِ بِلَا دَوَاءٍ أَوْ نَيْلِ رِزْقِهِ بِلَا سَعْيٍ فَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لَكِنْ كَانَ مُبَاشَرَةُ الدَّوَاءِ الْخَفِيفِ وَالسَّعْيُ الْيَسِيرُ وَصَرْفُ تِلْكَ الْهِمَّةِ وَالتَّوَجُّهُ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ : أَنْفَعَ لَهُ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ تَبَتُّلِهِ لِهَذَا الْأَمْرِ الْيَسِيرِ الَّذِي قَدْرُهُ دِرْهَمٌ أَوْ نَحْوُهُ . وَفَوْقَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ أَيْضًا نَقْصًا وَانْقِطَاعًا عَنْ الْخَاصَّةِ ظَنًّا أَنَّ مُلَاحَظَةَ مَا فَرَغَ مِنْهُ فِي الْقَدْرِ هُوَ حَالُ الْخَاصَّةِ . وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : " { كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ } " وَقَالَ : " { فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ } " وَفِي الطَّبَرَانِي أَوْ غَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : " { لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ } " . وَهَذَا قَدْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ أَيْضًا اسْتِهْدَاءَ اللَّهِ وَعَمَلَهُ بِطَاعَتِهِ مِنْ ذَلِكَ

وَقَوْلُهُمْ يُوجِبُ دَفْعَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ دَفْعُ الْمَخْلُوقِ وَالْمَأْمُورِ وَإِنَّمَا غَلِطُوا مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ سَبْقَ التَّقْدِيرِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بِالسَّبَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَنْ يَتَزَنْدَقُ فَيَتْرُكُ الْأَعْمَالَ الْوَاجِبَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ قَدْ سَبَقَهُ بِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَدَرَ سَبَقَ بِالْأُمُورِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَمَنْ قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ كَانَ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَيْسِيرُهُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ قَدَّرَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ كَانَ مِمَّا قَدَّرَهُ أَنْ يُيَسِّرَهُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ كَمَا قَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَسُرَاقَةَ بْنِ جَعْشَمَ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْهُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ { أَبِي خِزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ . قَالَ : سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } " . وَطَائِفَةٌ تَظُنُّ أَنَّ التَّوَكُّلَ إنَّمَا هُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْخَاصَّةِ الْمُتَقَرِّبِينَ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَتَوَابِعهَا كَالْحُبِّ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا ضَلَالٌ مُبِينٌ بَلْ جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ فُرُوضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَنْ تَرَكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ

فَهُوَ : إمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا مُنَافِقٌ لَكِنَّ النَّاسَ هُمْ فِيهَا كَمَا هُمْ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ؛ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ طَافِحَةٌ بِذَلِكَ وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِأَقَلَّ لَوْمًا مِنْ التَّارِكِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ أَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بَلْ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ يَتَوَجَّهُ إلَى مَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ مُبْتَدَأَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ وَأُصُولَهَا وَالْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ كَمَالَهَا وَفُرُوعَهَا الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِهَا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " { يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } " وَفِي رِوَايَةٍ : " { وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ } " فَالْمَغْفِرَةُ الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْمَغْفِرَةُ لِمَنْ تَابَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } فَهَذَا السِّيَاقُ مَعَ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَيْأَسُ مُذْنِبٌ مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّه وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ مَا كَانَتْ فَإِنَّ اللَّهَ

سُبْحَانَهُ لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ لِعَبْدِهِ التَّائِبِ . وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعُمُومِ الشِّرْكُ وَغَيْرُهُ مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ ذَلِكَ لِمَنْ تَابَ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } وَقَالَ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } إلَى قَوْلِهِ { أَفَلَا يَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَهَذَا الْقَوْلُ الْجَامِعُ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ ذَنْبٍ لِلتَّائِبِ مِنْهُ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ - هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَثْنِي بَعْضَ الذُّنُوبِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَنَّ تَوْبَةَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ لَا تُقْبَلُ بَاطِنًا لِلْحَدِيثِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي فِيهِ : " { فَكَيْفَ مَنْ أَضْلَلْت } " . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّهُ يَتُوبُ عَلَى أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْكَرَمِ عَذَّبُوا أَوْلِيَاءَهُ وَفَتَنُوهُمْ ثُمَّ هُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى التَّوْبَةِ .

وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَنَحْوِهِ وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الَّذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ وَلَا نُصُوصَ الْوَعِيدِ - فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ - بِمُنَافِيَةٍ لِنُصُوصِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فَلَيْسَتْ آيَةُ الْفُرْقَانِ بِمَنْسُوخَةٍ بِآيَةِ النِّسَاءِ ؛ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فِيهِ وَعِيدٌ فَإِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ ؛ إذْ نُصُوصُ التَّوْبَةِ مُبَيِّنَةٌ لِتِلْكَ النُّصُوصِ كَالْوَعِيدِ فِي الشِّرْكِ وَأَكْلِ الرِّبَا وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالسِّحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : تَوْبَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ . فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ الَّتِي تُلَائِمُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّوْبَةَ الْمُجَرَّدَةَ تُسْقِطُ حَقَّ اللَّهِ مِنْ الْعِقَابِ . وَأَمَّا حَقُّ الْمَظْلُومِ فَلَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ وَهَذَا حَقٌّ . وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَسَائِرِ الظَّالِمِينَ . فَمَنْ تَابَ مِنْ ظُلْمٍ لَمْ يَسْقُطْ بِتَوْبَتِهِ حَقُّ الْمَظْلُومِ لَكِنْ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ أَنْ يُعَوِّضَهُ بِمِثْلِ مَظْلِمَتِهِ . وَإِنْ لَمْ يُعَوِّضْهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْعِوَضِ فِي الْآخِرَةِ فَيَنْبَغِي لِلظَّالِمِ التَّائِبِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الْحَسَنَاتِ حَتَّى إذَا اسْتَوْفَى الْمَظْلُومُونَ حُقُوقَهُمْ لَمْ يَبْقَ مُفْلِسًا . وَمَعَ هَذَا فَإِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَوِّضَ الْمَظْلُومَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ كَمَا إذَا شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ . وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ الْقِصَاصِ الَّذِي رَكِبَ فِيهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

أنيس شَهْرًا حَتَّى شَافَهَهُ بِهِ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ؛ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ صِحَاحِهِ أَوْ حِسَانِهِ ؛ قَالَ فِيهِ : " { إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْخَلَائِقَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ؛ يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِيَ وينفذهم الْبَصَرَ . ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مِنْ بَعْدُ كَمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ : أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلَا لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قِبَلَهُ مَظْلِمَةٌ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَا لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ } " . فَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الْعَدْلَ وَالْقِصَاصَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ : " { أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إذَا عَبَرُوا الصِّرَاطَ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ } " وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ : { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } - وَالِاغْتِيَابُ مِنْ ظُلْمِ الْأَعْرَاضِ - قَالَ : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } . فَقَدْ نَبَّهَهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ الِاغْتِيَابِ وَهُوَ مِنْ الظُّلْمِ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { مَنْ كَانَ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلِمَةٌ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عَرَضٍ فَلْيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ

وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ . فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ } " أَوْ كَمَا قَالَ . وَهَذَا فِيمَا عَلِمَهُ الْمَظْلُومُ مِنْ الْعِوَضِ فَأَمَّا إذَا اغْتَابَهُ أَوْ قَذَفَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَقَدْ قِيلَ : مِنْ شَرْطِ تَوْبَتِهِ إعْلَامُهُ وَقِيلَ : لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . لَكِنَّ قَوْلَهُ مِثْلَ هَذَا أَنْ يَفْعَلَ مَعَ الْمَظْلُومِ حَسَنَاتٍ كَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَمَلٍ صَالِحٍ يَهْدِي إلَيْهِ يَقُومُ مَقَامَ اغْتِيَابِهِ وَقَذْفِهِ . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : كَفَّارَةُ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته . وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا نَفْيَ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِثْلَ قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ : لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ وَقَوْلُهُمْ : إذَا تَابَ الْمُحَارِبُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَسْقُطُ عَنْهُ حُدُودُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فِي سَائِرِ الْجَرَائِمِ كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ : إذَا تَابُوا بَعْدَ الرَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ . فَهَذَا إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ رَفْعَ الْعُقُوبَةِ الْمَشْرُوعَةِ عَنْهُمْ أَيْ : لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ بِحَيْثُ يُخَلَّى بِلَا عُقُوبَةٍ بَلْ يُعَاقَبُ : إمَّا لِأَنَّ تَوْبَتَهُ غَيْرُ مَعْلُومَةِ الصِّحَّةِ بَلْ يُظَنُّ بِهِ الْكَذِبُ فِيهَا وَأَمَّا لِأَنَّ رَفْعَ الْعُقُوبَةِ بِذَلِكَ يُفْضِي إلَى انْتِهَاكِ الْمَحَارِم وَسَدِّ بَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجَرَائِمِ وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْ هَؤُلَاءِ تَوْبَةً صَحِيحَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فِي الْبَاطِنِ ؛ إذْ

لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ بَلْ هَذِهِ التَّوْبَةُ لَا تُمْنَعُ إلَّا إذَا عَايَنَ أَمْرَ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } الْآيَةَ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا لِي : كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ . وَأَمَّا مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ فَهَذَا كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ : أَنَا اللَّهُ { حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قَالَ اللَّهُ : { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ بَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ لَيْسَتْ هِيَ التَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا ؛ فَإِنَّ اسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِ : إمَّا بِمَعْنَى النَّفْيِ إذَا قَابَلَ الْإِخْبَارَ وَإِمَّا بِمَعْنَى الذَّمِّ وَالنَّهْيِ إذَا قَابَلَ الْإِنْشَاءَ وَهَذَا مِنْ هَذَا . وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا

رَأَوْا بَأْسَنَا } الْآيَةَ . بَيَّنَ أَنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْبَأْسِ لَا تَنْفَعُ وَأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ؛ كَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ وَفِي الْحَدِيثِ : " { أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ } " وَرُوِيَ : " { مَا لَمْ يُعَايِنْ } " . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَى عَمِّهِ التَّوْحِيدَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ } وَقَدْ { عَادَ يَهُودِيًّا كَانَ يَخْدِمُهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : آوُوا أَخَاكُمْ } " . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ الْعَامَّةَ فِي الزُّمَرِ هِيَ لِلتَّائِبِينَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَقَيَّدَ الْمَغْفِرَةَ بِمَا دُونَ الشِّرْكِ وَعَلَّقَهَا عَلَى الْمَشِيئَةِ وَهُنَاكَ أَطْلَقَ وَعَمَّمَ فَدَلَّ هَذَا التَّقْيِيدُ وَالتَّعْلِيقُ عَلَى أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ التَّائِبِ ؛ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ أَهْلُ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ نُفُوذَ الْوَعِيدِ بِهِمْ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ قَدْ أَسْرَفَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ حَتَّى تَوَقَّفُوا فِي لُحُوقِ الْوَعِيدِ بِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ غَلَّاتِهِمْ أَنَّهُمْ نَفَوْهُ مُطْلَقًا وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ اتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مُتَطَابِقَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ

مَنْ يُعَذَّبُ وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ . النَّوْعُ الثَّانِي : مِنْ الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ : { يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } الْمَغْفِرَةُ بِمَعْنَى تَخْفِيفِ الْعَذَابِ ؛ أَوْ بِمَعْنَى تَأْخِيرِهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهَذَا عَامٌّ مُطْلَقًا ؛ وَلِهَذَا شَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي طَالِبٍ مَعَ مَوْتِهِ عَلَى الشِّرْكِ فَنُقِلَ مِنْ غَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى جُعِلَ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ فِي قَدَمَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ . قَالَ : " { وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ } " وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى دَلَّ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ } { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : " { يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي } " فَإِنَّهُ هُوَ بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِيمَا يُحْسِنُ بِهِ إلَيْهِمْ مِنْ إجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَغُفْرَانِ الزَّلَّاتِ بِالْمُسْتَعِيضِ

بِذَلِكَ مِنْهُمْ جَلْبَ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يُعْطِي غَيْرَهُ نَفْعًا لِيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ بِنَفْعِ أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا لِيَتَّقِيَ بِذَلِكَ ضَرَرَهُ فَقَالَ : " { إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي } " فَلَسْت إذَا أَخُصُّكُمْ بِهِدَايَةِ الْمُسْتَهْدِي وَكِفَايَةِ الْمُسْتَكْفِي الْمُسْتَطْعِمِ وَالْمُسْتَكْسِي بِاَلَّذِي أَطْلُبُ أَنْ تَنْفَعُونِي وَلَا أَنَا إذَا غَفَرْت خَطَايَاكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَتَّقِي بِذَلِكَ أَنْ تَضُرُّونِي ؛ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي ؛ إذْ هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ بَلْ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ إلَّا بِتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ فَكَيْفَ بِمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ؟ فَكَيْفَ بِالْغَنِيِّ الصَّمَدِ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحِقَّ مِنْ غَيْرِهِ نَفْعًا أَوْ ضُرًّا ؟ وَهَذَا الْكَلَامُ كَمَا بُيِّنَ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بِهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَبْلُغُوا أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ وَمَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ اسْتِجْلَابَ نَفْعِهِمْ كَأَمْرِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ ؛ أَوْ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ؛ وَالْأَمِيرِ لِرَعِيَّتِهِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا دَفْعِ مَضَرَّتِهِمْ : كَنَهْيِ هَؤُلَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ لِبَعْضِ النَّاسِ عَنْ مَضَرَّتِهِمْ . فَإِنَّ الْمَخْلُوقِينَ يَبْلُغُ بَعْضُهُمْ نَفْعَ بَعْضٍ وَمَضَرَّةَ بَعْضٍ وَكَانُوا فِي أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ قَدْ يَكُونُونَ كَذَلِكَ وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ فَبَيَّنَ تَنْزِيهَهُ عَنْ لُحُوقِ نَفْعِهِمْ وَضُرِّهِمْ فِي إحْسَانِهِ إلَيْهِمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ

أَفْعَالِهِ بِهِمْ وَأَوَامِرِهِ لَهُمْ قَالَ قتادة : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ وَلَا نَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا بِهِ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَمَرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ .
فَصْلٌ :
وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ بَعْدَ هَذَا فَذَكَرَ أَنَّ بِرَّهُمْ وَفُجُورَهُمْ الَّذِي هُوَ طَاعَتُهُمْ وَمَعْصِيَتُهُمْ لَا يَزِيدُ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَنْقُصُ وَأَنَّ إعْطَاءَهُ إيَّاهُمْ غَايَةُ مَا يَسْأَلُونَهُ نِسْبَتَهُ إلَى مَا عِنْدَهُ أَدْنَى نِسْبَةٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَزْدَادُ مِلْكُهُ بِطَاعَةِ الرَّعِيَّةِ وَيَنْقُصُ مِلْكُهُ بِالْمَعْصِيَةِ . وَإِذَا أَعْطَى النَّاسَ مَا يَسْأَلُونَهُ أَنْفَدَ مَا عِنْدَهُ وَلَمْ يُغْنِهِمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَبْلُغُونَ مَضَرَّتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ وَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ إحْسَانٍ وَعَفْوٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ لِرَجَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَخَوْفِ الْمَضَرَّةِ . فَقَالَ : " { يَا عِبَادِي ؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا } " إذْ مُلْكُهُ هُوَ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ . فَلَا تَزْدَادُ بِطَاعَتِهِمْ وَلَا تَنْقُصُ بِمَعْصِيَتِهِمْ كَمَا تَزْدَادُ قُدْرَةُ الْمُلُوكِ بِكَثْرَةِ الْمُطِيعِينَ لَهُمْ وَتَنْقُصُ بِقِلَّةِ الْمُطِيعِينَ لَهُمْ ؛ فَإِنَّ مُلْكَهُ مُتَعَلِّقٌ

بِنَفْسِهِ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَهُوَ الَّذِي يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُ الْمُلْك مِمَّنْ يَشَاءُ . وَالْمُلْكُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ التَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّفِ وَيُرَادُ بِهِ الْمَمْلُوكُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ التَّدْبِيرِ وَيُرَادُ بِهِ ذَلِكَ كُلُّهُ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ بِرُّ الْأَبْرَارِ وَفُجُورُ الْفُجَّارِ مُوجِبًا لِزِيَادَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا نَقْصِهِ ؛ بَلْ هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فَلَوْ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ مَعَ فُجُورِ الْفُجَّارِ مَا شَاءَ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ كَمَا يَمْنَعُ الْمُلُوكَ فُجُورُ رَعَايَاهُمْ الَّتِي تُعَارِضُ أَوَامِرَهُمْ عَمَّا يَخْتَارُونَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَخْلُقَ مَعَ بِرِّ الْأَبْرَارِ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَهُ لَمْ يَكُنْ بِرُّهُمْ مُحْوِجًا لَهُ إلَى ذَلِكَ وَلَا مُعِينًا لَهُ كَمَا يَحْتَاجُ الْمُلُوكُ وَيَسْتَعِينُونَ بِكَثْرَةِ الرَّعَايَا الْمُطِيعِينَ .
فَصْلٌ :
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي النَّوْعَيْنِ سُؤَالَ بِرِّهِ وَطَاعَةِ أَمْرِهِ . الَّلَذَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي الْحَدِيثِ حَيْثُ ذَكَرَ الِاسْتِهْدَاءَ وَالِاسْتِطْعَامَ وَالِاسْتِكْسَاءَ وَذَكَرَ الْغُفْرَانَ وَالْبِرَّ وَالْفُجُورَ فَقَالَ : " { لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ

مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمَخِيطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ } " وَالْخَيَّاطُ وَالْمَخِيطُ : مَا يُخَاطُ بِهِ إذْ الْفَعَّالُ وَالْمُفْعِل والمفعال مِنْ صِيَغِ الْآلَاتِ الَّتِي يَفْعَلُ بِهَا كَالْمُسَعَّرِ والمخلاب وَالْمِنْشَارُ . فَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ إذَا سَأَلُوا وَهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَزَمَانٍ وَاحِدٍ فَأُعْطِيَ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ لَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْخَيَّاطُ " وَهِيَ الْإِبْرَةُ " إذَا غُمِسَ فِي الْبَحْرِ . وَقَوْلُهُ : " { لَمْ يَنْقُصْ مِمَّا عِنْدِي } " فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ أُمُورًا مَوْجُودَةً يُعْطِيهِمْ مِنْهَا مَا سَأَلُوهُ إيَّاهُ وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ : لَفْظُ النَّقْصِ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ الْكَثِيرِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْقِصَهُ شَيْئًا مَا . وَمَنْ رَوَاهُ : " { لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مُلْكِي } " يُحْمَلُ عَلَى مَا عِنْدَهُ كَمَا فِي هَذَا اللَّفْظِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : " مِمَّا عِنْدِي " فِيهِ تَخْصِيصٌ لَيْسَ هُوَ فِي قَوْلِهِ : " مِنْ مُلْكِي " . وَقَدْ يُقَالُ : الْمُعْطَى : إمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْيَانًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا ؛ أَوْ صِفَاتٍ قَائِمَةً بِغَيْرِهَا . فَأَمَّا الْأَعْيَانُ فَقَدْ تُنْقَلُ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ فَيَظْهَرُ النَّقْصُ فِي الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ . وَأَمَّا الصِّفَاتُ فَلَا تُنْقَلُ مِنْ مَحَلِّهَا وَإِنْ وُجِدَ نَظِيرُهَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ كَمَا يُوجَدُ نَظِيرُ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ فِي قَلْبِ الْمُتَعَلِّمِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ وَكَمَا يَتَكَلَّمُ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ الْأَوَّلِ إلَى

الثَّانِي . وَعَلَى هَذَا فَالصِّفَاتُ لَا تُنْقِصُ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْئًا وَهِيَ مِنْ الْمَسْئُولِ كَالْهُدَى . وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ الْمُمْكِنِ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَلَّا يَثْبُتَ مِثْلُهَا فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي حَتَّى تَزُولَ عَنْ الْأَوَّلِ : كَاللَّوْنِ الَّذِي يَنْقُصُ وَكَالرَّوَائِحِ الَّتِي تَعْبَقُ بِمَكَانِ وَتَزُولُ ؛ كَمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُمَّى الْمَدِينَةِ أَنْ تُنْقَلَ إلَى مهيعة وَهِيَ الْجُحْفَةُ وَهَلْ مِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ بِانْتِقَالِ عَيْنِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ أَوْ بِوُجُودِ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ عَيْنِهِ ؟ فِيهِ لِلنَّاسِ قَوْلَانِ : إذْ مِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ انْتِقَالَ الْأَعْرَاضِ بَلْ مَنْ يُجَوِّزُ أَنْ تُجْعَلَ الْأَعْرَاضُ أَعْيَانًا ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ ضِرَارٍ وَالنَّجَّارِ وَأَصْحَابِهِمَا كَبُرْغُوثِ وَحَفْصٍ الْفَرْدِ ؛ لَكِنْ إنْ قِيلَ : هُوَ بِوُجُودِ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ عَيْنِهِ فَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ اسْتِحَالَةِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ وَفَنَائِهِ فَيُعْدَمُ عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلُّ وَيُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ لَفْظَ النَّقْصِ هُنَا كَلَفْظِ النَّقْصِ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ : " { أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى لَمَّا وَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى قَارِبِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ : يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ } " وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ نَفْسَ عِلْمِ اللَّهِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ لَا يَزُولُ مِنْهُ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفتن

  ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر منذ 8 ساعات ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بيْنَكُمْ وبيْنَ بَنِي الأصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْ...