ج48. مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد
الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إلَيَّ أَصْدَقُهُ . فَاخْتَارُوا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ : إمَّا الْمَالُ وَإِمَّا السَّبْيُ وَقَدْ كُنْت اسْتَأْنَيْت بِكُمْ وَكَانَ انْتَظَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إلَيْهِمْ إلَّا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا : فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ ؛ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي رَأَيْت أَنْ أَرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَطِيبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ ؛ وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ : طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ؛ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا ؛ وَأَذِنُوا . } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ سَبَى نِسَاءَ هَوَازِنَ ؛ وَهُمْ عَرَبٌ وَقَسَّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ . فَصَارُوا رَقِيقًا لَهُمْ ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَلَبَ أَخْذَهُمْ مِنْهُمْ : إمَّا تَبَرُّعًا وَإِمَّا مُعَاوَضَةً وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ لَمَّا اعْتَكَفَ وَبَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ السَّبْيَ فَأَعْتَقَ جَارِيَةً كَانَتْ عِنْدَهُ وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَطَئُونَ ذَلِكَ السَّبْيَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَمَا فِي سَبْيِ أوطاس وَهُوَ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } .
وَفِي الْمُسْنَدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ { قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَوَقَعَتْ جويرية بِنْتُ الْحَارِثِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَوْ لَابْنِ عَمٍّ لَهُ كَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلَاحَةً فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَنَا جويرية بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَعِيدِ قَوْمِهِ ؛ وَقَدْ أَصَابَنِي مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك وَجِئْتُك أَسَتُعِينُك عَلَى كِتَابَتِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لَك فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ : وَمَا هُوَ يَا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ أَقْضِي كِتَابَتَك ؛ وَأَتَزَوَّجُك قَالَتْ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : قَدْ فَعَلْت قَالَتْ : وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ جويرية بِنْتَ الْحَارِثِ فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ قَالَتْ : فَقَدْ عَتَقَ بِتَزَوُّجِهِ إيَّاهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا } وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَنَحْوُهَا مَشْهُورَةٌ ؛ بَلْ مُتَوَاتِرَةٌ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْبِي الْعَرَبَ } وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ : { سَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَرَبَ } وَسَبَى أَبُو بَكْرٍ بَنِي نَاجِيَةَ وَكَانَ يُطَارِدُ الْعَرَبَ بِذَلِكَ الِاسْتِرْقَاقِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَسْبِيَّاتِ أَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ .
وَإِذَا سُبِيَتْ وَاسْتُرِقَّتْ بِدُونِ زَوْجِهَا جَازَ وَطْؤُهَا بِلَا رَيْبٍ وَإِنَّمَا فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَحُكِيَ الْخِلَافُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مِلْكٍ وَلَهَا زَوْجٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنَّ نِكَاحَ زَوْجِهَا قَدْ انْفَسَخَ وَحَلَّ لِمَالِكِهَا وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَأَمَّا إذَا سُبِيَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ السَّبْيِ الَّذِي كَانَ يَسْبِيه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي " الْحَرْبِ " وَقَدْ قَاتَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ ؛ فَإِنَّهُ خَرَجَ لِقِتَالِ النَّصَارَى عَامَ تَبُوكَ وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَقَدْ بَعَثَ إلَيْهِمْ السِّرِّيَّةَ الَّتِي أُمِّرَ عَلَيْهَا زَيْدٌ ؛ ثُمَّ جَعْفَرٌ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ . وَمَعَ هَذَا فَكَانَ فِي النَّصَارَى : الْعَرَبُ وَالرُّومُ . وَكَذَلِكَ قَاتَلَ الْيَهُودَ بِخَيْبَرِ وَالنَّضِيرِ وَقَيْنُقَاعَ ؛ وَكَانَ فِي يَهُودِ الْعَرَبِ بَنُو إسْرَائِيلَ . وَكَذَلِكَ يَهُودُ الْيَمَنِ : كَانَ فِيهِمْ الْعَرَبُ وَبَنُو إسْرَائِيلَ . وَأَيْضًا فَسَبَبُ الِاسْتِرْقَاقِ هُوَ " الْكُفْرُ " بِشَرْطِ " الْحَرْبِ " فَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ بِحَالِ ؛ وَالْمُعَاهَدُ لَا يُسْتَرَقُّ ؛ وَالْكُفْرُ مَعَ الْمُحَارَبَةِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ كَمَا يَجُوزُ قِتَالُهُ ؛ فَكُلُّ مَا أَبَاحَ قَتْلَ الْمُقَاتِلَةِ أَبَاحَ سَبْيَ الذُّرِّيَّةِ ؛ وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ مِنْ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُجَوِّزُ اسْتِرْقَاقَ الْعَرَبِ ؛ كَمَا لَا يُجَوِّزُ ضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْعَرَبَ اُخْتُصُّوا بِشَرَفِ النَّسَبِ ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ
وَاخْتُصَّ كُفَّارُهُمْ بِفَرْطِ عُدْوَانِهِ ؛ فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ كَمَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ؛ لِلتَّغْلِيظِ ؛ وَلِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الشَّرَفِ بِالْإِسْلَامِ السَّابِقِ . وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ عَلَى عَرَبِيٍّ مِلْكٌ . وَاَلَّذِينَ نَازَعُوهُ لَهُمْ قَوْلَانِ فِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ مَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . " إحْدَاهُمَا " أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ كَأَخْذِ الْجِزْيَةِ ؛ فَمَنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ لَا يُسْتَرَقُّ ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الخرقي ؛ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ الإصطخري مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ ؛ إلَّا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . فِعْلُ هَذَا لَا يُجَوِّزُ اسْتِرْقَاقَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ؛ لِكَوْنِ الْجِزْيَةِ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ ؛ وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ : إنَّ الْعَرَبَ لَا يَسْتَرِقُّونَ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ وَالْمَجُوسِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ أَحَدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ لَا مِنْ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ . كَاخْتِيَارِ الخرقي وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد لَا يُمْنَعُ فِيهِ الرِّقُّ ؛ لِأَجْلِ النَّسَبِ لَكِنْ لِأَجْلِ الدَّيْنِ فَإِذَا سَبَى عَرَبِيَّةً فَأَسْلَمَتْ
اسْتَرَقَّهَا وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ أَجْبَرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ . وَعَلَى هَذَا يَحْمِلُونَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ . وَأَمَّا الرَّقِيقُ الْوَثَنِيُّ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عِنْدَهُمْ بِرِقِّ ؛ كَمَا يَجُوزُ بِجِزْيَةِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ سَبَوْا الْعَرَبِيَّاتِ وَالْوَثَنِيَّاتِ وَوَطِئُوهُمْ ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } . ثُمَّ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ وَطْءَ الْوَثَنِيَّةِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " : أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقِ مَنْ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَرَقُّوهُمْ ؛ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْبَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِمْ وَالرِّقُّ فِيهِ مِنْ الْغَلِّ مَا لَيْسَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ . أَمَّا " الْأَثَرُ " الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ إذَا كَانَ صَحِيحًا صَرِيحًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٍّ ؛ فَإِنَّهُمْ سَبَوْا الْعَرَبَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُمَرَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يُسْتَرَقَّ رِجَالُهُمْ فَلَا ضُرِبَ عَلَيْهِمْ رِقٌّ كَمَا أَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ فَلَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهِمْ رِقٌّ ؛ لِأَجْلِ إسْلَامِهِمْ لَا لِأَجْلِ النَّسَبِ ؛ وَلَمْ تَتَمَكَّنْ الصَّحَابَةُ مِنْ سَبْيِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ ؛ كَمَا تَمَكَّنُوا
مِنْ
سَبْيِ نِسَاءِ طَوَائِفَ مِنْ الْعَرَبِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُسْتَرَقَّ مِنْهُمْ
أَحَدٌ ؛ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
النَّهْيِ عَنْ سَبْيِهِمْ شَيْءٌ .
وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ الْعَرَبِيُّ مَمْلُوكَةً فَنِكَاحُ الْحُرِّ
لِلْمَمْلُوكَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطَيْنِ : خَوْفُ الْعَنَتِ وَعَدَمُ
الطَّوْلِ إلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ تَزَوُّجَهُ يُفْضِي إلَى اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ فَلَا
يَجُوزُ لِلْحُرِّ الْعَرَبِيِّ وَلَا الْعَجَمِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَمْلُوكَةً
إلَّا لِضَرُورَةِ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا لِلضَّرُورَةِ كَانَ وَلَدُهُ مَمْلُوكًا
. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالْمَانِعُ عِنْدَهُ أَنْ تَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ
وَهُوَ يُفَرِّقُ فِي الِاسْتِرْقَاقِ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا
إذَا وَطِئَ الْأَمَةَ بِزِنَا فَإِنَّ وَلَدَهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا
بِالِاتِّفَاقِ ؛ وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ عَرَبِيًّا ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ غَيْرُ
لَاحِقٍ . وَأَمَّا إذَا وَطِئَهَا بِنِكَاحِ وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا حُرَّةً أَوْ
اسْتَبْرَأَهَا فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا مَمْلُوكَتَهُ : فَهُنَا وَلَدُهُ حُرٌّ
سَوَاءٌ كَانَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا . وَهَذَا يُسَمَّى " الْمَغْرُورُ
" فَوَلَدُ الْمَغْرُورِ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ الْبَيْعِ حُرٌّ ؛
لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَةً حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَتَهُ . وَعَلَيْهِ
الْفِدَاءُ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ كَمَا قَضَتْ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ ؛ لِأَنَّهُ
فَوَّتَ سَيِّدَ الْأُمَّةِ مِلْكَهُمْ فَكَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ . وَفِي ذَلِكَ
تَفْرِيعٌ وَنِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ هَرَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمَّا رَجَعَ أَخْفَى
سِكِّينَتَهُ : وَقَتَلَ نَفْسَهُ : فَهَلْ يَأْثَمُ سَيِّدُهُ ؟ وَهَلْ تَجُوزُ
عَلَيْهِ صَلَاةٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ
سَيِّدُهُ قَدْ ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ ؛ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ
يُمْكِنْهُ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يُفَرِّجَ
اللَّهُ فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ ظَلَمَهُ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ : مِثْلَ أَنْ
يُقَتِّرَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ أَوْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ
أَوْ يَضْرِبَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ يُرِيدَ بِهِ فَاحِشَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛
فَإِنَّ عَلَى سَيِّدِهِ مِنْ الْوِزْرِ بِقَدْرِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ
الْمَعْصِيَةِ { وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : صَلُّوا عَلَيْهِ } فَيَجُوزُ
لِعُمُومِ النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ . وَأَمَّا أَئِمَّةُ الدِّينِ
الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فَإِذَا تَرَكُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ زَجْرًا
لِغَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا
حَقٌّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ مَمَالِيكَ ضَمِنُوا رَجُلًا وَكَانُوا مَمَالِيكَ إنْسَانٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ
نَجِسٌ بِبِلَادِ التتر . وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
يَطْلُبُونَ الْحَجَّ وَيُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُوَ غَلَبَ
عَلَيْهِ الْعِصْيَانُ يَمْنَعُهُمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَلَمْ
تَطِبْ لَهُمْ مُخَالَفَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَهُوَ قَاطِعُ طَرِيقٍ
وَشَارِبُ خَمْرٍ وَزَانٍ وَتَارِكٌ لِلصَّلَاةِ وَقَاتِلٌ النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ الْبَيْعَ ؛ فَلَمْ يَبِعْهُمْ
وَيَطْلُبُونَ الْعِتْقَ فَلَمْ يُعْتِقْهُمْ وَكُلَّمَا تَلَفَّظُوا لَهُ
بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ ضَرَبَهُمْ وَيَسْجُنُهُمْ فَيَمُوتُوا جُوعًا فَاتَّفَقُوا
وَهَرَبُوا إلَى مِصْرَ طَالِبِينَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَمِنْهُمْ
الْيَوْمُ حُجَّاجٌ . فَهَلْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ نَصٌّ لِأَجَلِ
أَبْقِهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانُوا كَمَا ذَكَرُوا يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ فِعْلِ مَا
أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُكْرِهُهُمْ عَلَى فِعْلِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ
وَرَسُولُهُ : كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ جَائِزًا ؛ بَلْ وَاجِبًا
وَقَدْ أَحْسَنُوا فِيمَا فَعَلُوا فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَنْ يَكُونُ
كَذَلِكَ ؛ إذْ لَوْ كَانَ فِي طَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي
طَاعَةِ التتر ؟ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ . وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا .
وَهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ فَرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ قَدْ أَحْسَنُوا
فِي ذَلِكَ وَالْعَبْدُ إذَا هَاجَرَ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ حُرٌّ ؛
وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِ لِأَحَدِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ نَائِبٍ أَخَذَ مِنْ مَالِ مَخْدُومِهِ مَبْلَغًا ؛ وَاشْتَرَى بِهِ
مَمَالِيكَ ؛ فَقِيلَ لَهُ : لِأَيِّ شَيْءٍ تَأْخُذُ مَالَ أُسْتَاذِك
وَتَشْتَرِي بِهِ مَمَالِيكَ ؟ وَقَالَ : أَشْتَرِيهَا لَهُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ
عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ أُعْتِقُهَا جَمِيعَهَا . وَادَّعَى فِي الْعِتْقِ أَنَّهَا
مَمَالِيكُهُ وَهُوَ الْيَوْمُ مُعْسِرٌ عَنْ قِيمَةِ ثَمَنِهِمْ . فَهَلْ يَصِحُّ
الْعِتْقُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَى مَمَالِيكَ لِلرَّجُلِ بِإِذْنِهِ فَهُمْ كَذَلِكَ لِلرَّجُلِ ؛
وَإِذَا أَعْتَقَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ . وَإِنْ اشْتَرَاهُمْ
بِمَالِ الرَّجُلِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ
وَلَهُ أَنْ يُغَرِّمَ هَذَا الْغَاصِبَ مَالَهُ . وَإِذَا أَعْتَقَهُمْ هَذَا
الْمُشْتَرِي فَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَكُونُ الْعِتْقُ
بَاطِلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخر الْمُجَلَّدِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ
الْجُزْءُ
الْثَّانِي وَالْثَّلَاثُونَ
كِتَابُ النِكَاحِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ
بَعْدَهُ
سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَمَّنْ أَصَابَهُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ الْمَسْمُومَةِ ؟
فَأَجَابَ :
مَنْ أَصَابَهُ جُرْحٌ مَسْمُومٌ فَعَلَيْهِ بِمَا يُخْرِجُ السُّمَّ وَيُبْرِئُ
الْجُرْحَ بِالتِّرْيَاقِ وَالْمَرْهَمِ وَذَلِكَ بِأُمُورِ : " مِنْهَا
" : أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يَتَسَرَّى ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ
فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ؛ فَإِنَّمَا مَعَهَا مِثْلُ مَا مَعَهَا } وَهَذَا مِمَّا
يُنْقِصُ الشَّهْوَةَ وَيُضْعِفُ الْعِشْقَ . " الثَّانِي " : أَنْ
يُدَاوِمَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَقْتَ
السَّحَرِ . وَتَكُونُ صَلَاتُهُ بِحُضُورِ قَلْبٍ وَخُشُوعٍ . وَلْيُكْثِرْ مِنْ
الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ : { يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك
يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي إلَى طَاعَتِك وَطَاعَةِ رَسُولِك }
فَإِنَّهُ مَتَى أَدْمَنَ الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ لِلَّهِ صَرَفَ قَلْبُهُ عَنْ
ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } .
"
الثَّالِثُ " : أَنْ يَبْعُدَ عَنْ مَسْكَنِ هَذَا الشَّخْصِ وَالِاجْتِمَاعِ
بِمَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ ؛ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ لَهُ خَبَرًا وَلَا يَقَعُ لَهُ
عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ ؛ فَإِنَّ الْبُعْدَ جَفَا وَمَتَى قَلَّ الذِّكْرُ
ضَعُفَ الْأَثَرُ فِي الْقَلْبِ . فَلْيَفْعَلْ هَذِهِ الْأُمُورَ وَلْيُطَالِعْ
بِمَا تَجَدَّدَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ عَازِبٍ وَنَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى الزَّوَاجِ ؛ غَيْرَ أَنَّهُ يَخَافُ
أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ الْمَرْأَةِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَقَدْ عَاهَدَ
اللَّهَ أَنْ لَا يَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا فِيهِ مِنَّةٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ
كَثِيرُ التَّطَلُّعِ إلَى الزَّوَاجِ : فَهَلْ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الزَّوَاجِ ؟
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ
فَلْيَتَزَوَّجْ ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ . وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } . وَ "
اسْتِطَاعَةُ النِّكَاحِ " هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُؤْنَةِ ؛ لَيْسَ هُوَ
الْقُدْرَةَ عَلَى الْوَطْءِ ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ
لِلْقَادِرِ عَلَى فِعْلِ الْوَطْءِ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ
يَصُومَ ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ . وَمَنْ لَا مَالَ لَهُ : هَلْ يُسْتَحَبُّ
أَنْ يَقْتَرِضَ وَيَتَزَوَّجَ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ
نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } . وَأَمَّا "
الرَّجُلُ الصَّالِحُ " فَهُوَ الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ
حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ عَلَى خِطْبَتِهِ رَجُلٌ آخَرُ : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى
خِطْبَةِ أَخِيهِ : وَلَا يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ } وَلِهَذَا اتَّفَقَ
الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ مِنْ
الْأَئِمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي صِحَّةِ نِكَاحِ
الثَّانِي ؟ فِي قَوْلَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " : أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛
كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . " وَالْآخَرُ
" : أَنَّهُ صَحِيحٌ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ مَا
تَقَدَّمَ عَلَى الْعَقْدِ وَهُوَ الْخِطْبَةُ . وَمَنْ أَبْطَلَهُ قَالَ : إنَّ
ذَلِكَ تَحْرِيمٌ لِلْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِي
أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَإِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ
بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ . وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا
يَقْدَحُ فِي دِينِ الرَّجُلِ وَعَدَالَتِهِ وَوِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ فَارَقَتْ زَوْجَهَا وَخَطَبَهَا رَجُلٌ فِي عِدَّتِهَا وَهُوَ
يُنْفِقُ عَلَيْهَا : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ ؛ وَلَوْ
كَانَتْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ
فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي
تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ ذَلِكَ فَيُعَاقَبُ الْخَاطِبُ وَالْمَخْطُوبَةُ
جَمِيعًا وَيُزْجَرُ عَنْ التَّزْوِيجِ بِهَا ؛ مُعَاقَبَةً لَهُ بِنَقِيضِ
قَصْدِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَأَوْفَتْ الْعِدَّةَ عِنْدَهُ
وَخَرَجَتْ وَبَعْدَ وَفَاءِ الْعِدَّةِ تَزَوَّجَتْ وَطَلُقَتْ فِي يَوْمِهَا
وَلَمْ يَعْلَمْ مُطَلِّقُهَا إلَّا ثَانِيَ يَوْمٍ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَتَّفِقَ مَعَهَا إذَا أَوْفَتْ عِدَّتَهَا أَنْ يُرَاجِعَهَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَخْطُبَهَا وَلَا يُنْفِقَ
عَلَيْهَا لِيَتَزَوَّجَهَا وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ
التَّعْرِيضُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ بَائِنًا فَفِي جَوَازِ التَّعْرِيضِ نِزَاعٌ .
هَذَا إذَا كَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ
قَدْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحِ مُحَلِّلٍ فَقَدْ { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ ابْنَةَ رَجُلٍ مِنْ الْعُدُولِ وَاتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى
الْمَهْرِ : مِنْهُ عَاجِلٌ وَمِنْهُ آجِلٌ . وَأَوْصَلَ إلَى وَالِدِهَا
الْمُعَجَّلَ مِنْ مُدَّةِ أَرْبَعِ سِنِينَ ؛ وَهُوَ يُوَاصِلُهُمْ بِالنَّفَقَةِ
؛ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مُكَاتَبَةٌ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا جَاءَ رَجُلٌ
فَخَطَبَهَا ؛ وَزَادَ عَلَيْهِ فِي الْمَهْرِ وَمَنَعَ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إذَا أُجِيبَ إلَى
النِّكَاحِ وَرَكَنُوا إلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ كَمَا ثَبَتَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ
لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ } . وَتَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ وَأَعَانَ عَلَيْهِ : عُقُوبَةٌ تَمْنَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ
ذَلِكَ . وَهَلْ يَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا ؛ أَوْ فَاسِدًا ؟ فِيهِ
قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيهِ ؛ وَبَنَاتِ عَمِّهِ ؛ وَبَنَاتِ
خَالِهِ : هَلْ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِإِحْدَاهُنَّ ؛ وَلَكِنْ إذَا دَخَلَ مَعَ
غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ وَلَا رِيبَةٍ جَازَ لَهُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أُمْلِكَ عَلَى بِنْتٍ ؛ وَلَهُ مُدَّةُ سِنِينَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا
وَدَفَعَ لَهَا وَعَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ : فَوَجَدَ وَالِدَهَا قَدْ زَوَّجَهَا
غَيْرَهُ ؟
فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى
خِطْبَةِ أَخِيهِ ؛ وَلَا يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ ؛ وَلَا يَبِيعَ عَلَى
بَيْعِ أَخِيهِ } . فَالرَّجُلُ إذَا خَطَبَ امْرَأَةً ؛ وَرَكَنَ إلَيْهِ مَنْ
إلَيْهِ نِكَاحُهَا - كَالْأَبِ الْمُجْبِرِ - فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ
أَنْ يَخْطُبَهَا . فَكَيْفَ إذَا كَانُوا قَدْ رَكَنُوا إلَيْهِ وَأَشْهَدُوا
بِالْإِمْلَاكِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْعَقْدِ وَقَبَضُوا مِنْهُ الْهَدَايَا
وَطَالَتْ الْمُدَّةُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فَعَلُوا مُحَرَّمًا يَسْتَحِقُّونَ
الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ ؛ وَلَكِنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ هَلْ يَقَعُ
صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ " أَحَدُهُمَا
" - وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد - أَنَّ
عَقْدَ الثَّانِي بَاطِلٌ ؛ فَتُنْزَعُ مِنْهُ وَتُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ . "
وَالثَّانِي " أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ ؛ فَيُعَاقَبُ مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ وَيُرَدُّ إلَى
الْأَوَّلِ جَمِيعُ مَا أُخِذَ مِنْهُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِمَا فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَلَهُمَا وَلَدَانِ وَهِيَ مُقِيمَةٌ
عِنْدَ الزَّوْجِ فِي بَيْتِهِ مُدَّةَ سِنِينَ وَيُبْصِرُهَا وَتُبْصِرُهُ :
فَهَلْ يَحِلُّ لَهَا الْأَكْلُ الَّذِي تَأْكُلُ مِنْ عِنْدِهِ ؟ أَمْ لَا ؟
وَهَلْ لَهُ عَلَيْهَا حُكْمٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا هِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ الرَّجُلِ ؛ بِمَنْزِلَةِ
سَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ ؛ فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا ؛ كَمَا
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ
إلَيْهَا إلَى مَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ ؛ وَلَيْسَ لَهُ
عَلَيْهَا حُكْمٌ أَصْلًا . وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَاطِئَهَا عَلَى أَنْ
تُزَوَّجَ غَيْرَهُ ثُمَّ تُطَلِّقُهُ وَتَرْجِعُ إلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يُعْطِيَهَا مَا تُنْفِقُهُ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا
غَيْرَهُ بِالنِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ
ثُمَّ مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْأَوَّلِ
أَنْ يَخْطُبَهَا فِي الْعِدَّةِ صَرِيحًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } وَنَهَاهُ أَنْ
يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ . أَيْ حَتَّى
تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ . فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَاهُ عَنْ هَذِهِ الْمُوَاعَدَةِ
وَالْعَزْمِ فِي الْعِدَّةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا
فَكَيْفَ إذَا كَانَ الرَّجُلُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بَعْدَ : تَوَاعُدٍ
عَلَى
أَنْ تَتَزَوَّجَهُ ثُمَّ تُطَلِّقُهُ وَتَزَوَّجَ بِهَا الْمُوَاعِدُ . فَهَذَا
حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُ
الْمُحَلِّلِ أَوْ قِيلَ : لَا . فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ التَّصْرِيحَ
بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مُتَزَوِّجَةٍ بِغَيْرِهِ أَوْ
بِخِطْبَةِ مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ يَتَكَلَّمُ شِبْهَ كَلَامِ النِّسَاءِ ؛ وَهُوَ " طنجير "
هَلْ يَحِلُّ دُخُولُهُ عَلَى النِّسَاءِ ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِيهِ ؟
فَأَجَابَ .
بَلْ مِثْلُ هَذَا يَجِبُ نَفْيُهُ ؛ وَإِخْرَاجُهُ : فَلَا يَسْكُنُ بَيْنَ
الرِّجَالِ وَلَا بَيْنَ النِّسَاءِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَفَى الْمُخَنَّثَ وَأَمَرَ بِنَفْيِ الْمُخَنَّثِينَ وَقَالَ : {
أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ } وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ طنجيرا ؛ فَكَيْفَ
الطنجير وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ وَبَيْنَ الْعِبَادِ :
الْخِلْقِيَّةُ والكسبية . الشَّرْعِيَّةُ ؛ وَالشَّرْطِيَّةُ . قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ خَلْقِ
الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَأَنَّ زَوْجَهَا مَخْلُوقٌ
مِنْهَا وَأَنَّهُ بَثَّ مِنْهُمَا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ : أَكْمَلُ
الْأَسْبَابِ وَأَجَلُّهَا ثُمَّ
ذَكَرَ مَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَخْلُوقَةِ الشَّرْعِيَّةِ : كَالْوِلَادَةِ وَمِنْ الكسبية الشَّرْطِيَّةِ : كَالنِّكَاحِ ثُمَّ قَالَ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ السَّلَفِ : { تَسَاءَلُونَ بِهِ } تَتَعَاهَدُونَ بِهِ وَتَتَعَاقَدُونَ . وَهُوَ كَمَا قَالُوا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَقْدَ الْبَيْعِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْهُدْنَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَسْأَلُ الْآخَرَ مَطْلُوبَهُ : هَذَا يَطْلُبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ . وَهَذَا تَسْلِيمَ الثَّمَنِ : وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ مَطْلُوبَ الْآخَرِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا طَالِبٌ مِنْ الْآخَرِ مُوجِبٌ لِمَطْلُوبِ الْآخَرِ . ثُمَّ قَالَ : { وَالْأَرْحَامَ } . و " الْعُهُودُ " و " الْأَرْحَامُ " : هُمَا جِمَاعُ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ بَنِي آدَمَ ؛ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي بَيْنَهُمْ : إمَّا أَنْ تَكُونَ بِفِعْلِ اللَّهِ أَوْ بِفِعْلِهِمْ . فَالْأَوَّلُ " الْأَرْحَامُ " و الثَّانِي " الْعُهُودُ " وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ ؛ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً } فَالْإِلُّ : الْقَرَابَةُ وَالرَّحِمُ . وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وَقَالَ : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } . وَاعْلَمْ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ دَاخِلٌ فِي الْحَقَّيْنِ . وَمُقَدَّمٌ عَلَيْهِمَا ؛ وَلِهَذَا قَدَّمَهُ فِي قَوْلِهِ { اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ وَخَلَقَ أَبَوَيْهِ وَخَلَقَهُ مِنْ أَبَوَيْهِ . فَالسَّبَبُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ هُوَ الْخِلْقِيُّ التَّامُّ ؛ بِخِلَافِ سَبَبِ الْأَبَوَيْنِ ؛ فَإِنَّ أَصْلَ مَادَّتِهِ مِنْهُمَا وَلَهُ مَادَّةٌ مِنْ غَيْرِهِمَا ؛ ثُمَّ إنَّهُمَا لَمْ يُصَوِّرَاهُ فِي الْأَرْحَامِ . وَالْعَبْدُ لَيْسَ لَهُ مَادَّةٌ إلَّا
مِنْ أَبَوَيْهِ وَاَللَّهُ هُوَ خَالِقُهُ وَبَارِئُهُ وَمُصَوِّرُهُ وَرَازِقُهُ وَنَاصِرُهُ وَهَادِيهِ ؛ وَإِنَّمَا حَقُّ الْأَبَوَيْنِ فِيهِ بَعْضُ الْمُنَاسَبَةِ لِذَلِكَ ؛ فَلِذَلِكَ قَرَنَ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ بِحَقِّهِ فِي قَوْلِهِ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَفِي قَوْلِهِ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَرُّؤَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ كُفْرًا ؛ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلتَّبَرُّؤِ مِنْ الرَّبِّ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَوْلِهِ : { كَفَرَ بِاَللَّهِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ } . فَحَقُّ النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ تَقَدَّمَهُ حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ وَحَقُّ الْقَرِيبِ الْمُجِيبِ الرَّحْمَنِ ؛ فَإِنَّ غَايَةَ تِلْكَ أَنْ تَتَّصِلَ بِهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ ؛ { أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ } وَقَالَ : { الرَّحِمُ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ } وَقَالَ { لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الرَّحِمَ تَعَلَّقَتْ بِحِقْوِ الرَّحْمَنِ فَقَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِك مِنْ الْقَطِيعَةِ } . وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا } إنَّ " الْإِلَّ " الرَّبُّ كَقَوْلِ الصِّدِّيقِ لَمَّا سَمِعَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ : إنَّ هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلٍّ . وَأَمَّا دُخُولُ حَقِّ الرَّبِّ فِي الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ . فَكَدُخُولِ الْعَبْدِ فِي السَّلَامِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا عَهْدُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْعُهُودِ وَأَوْكَدُهَا وَأَعَمُّهَا وَأَكْمَلُهَا
بَابُ
أَرْكَانِ النِّكَاحِ وَشُرُوطِهِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
عُمْدَةُ مَنْ قَالَ : لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ إلَّا بِلَفْظِ " الْإِنْكَاحِ
" و " التَّزْوِيجِ " - وَهُمْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَابْنُ
حَامِدٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا كَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْقَاضِي
وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ - إلَّا فِي لَفْظِ " أَعْتَقْتُك وَجُعِلَ
عِتْقُك صَدَاقَك " أَنَّهُمْ قَالُوا : مَا سِوَى هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ
" كِنَايَةٌ " وَالْكِنَايَةُ لَا تَقْتَضِي الْحُكْمَ إلَّا
بِالنِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ فِي الْقَلْبِ لَا تُعْلَمُ فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ
النِّكَاحِ بِالْكِنَايَةِ لِأَنَّ صِحَّتَهُ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الشَّهَادَةِ
عَلَيْهِ وَالنِّيَّةُ لَا يُشْهَدُ عَلَيْهَا ؛ بِخِلَافِ مَا يَصِحُّ
بِالْكِنَايَةِ : مِنْ طَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَبَيْعٍ ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا
تُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ تَعَبُّدًا ؛
لِمَا فِيهِ مِنْ ثُبُوتِ الْعِبَادَاتِ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يُصَحِّحُهُ
إلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ .
" أَحَدُهَا " لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا سِوَى هَذَيْنِ كِنَايَةٌ ؛ بَلْ
ثَمَّ أَلْفَاظٌ هِيَ حَقَائِقُ عُرْفِيَّةٌ فِي الْعَقْدِ أَبْلَغُ مِنْ لَفْظِ
" أَنْكَحْت " فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَطْءِ
وَالْعَقْدِ وَلَفْظَ " الْإِمْلَاكِ " خَاصٌّ بِالْعَقْدِ لَا يُفْهَمُ
إذَا قَالَ الْقَائِلُ : أُمْلِكُ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةٍ . إلَّا الْعَقْدُ
كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَمْلَكْتُكهَا عَلَى مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ }
سَوَاءٌ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْمَعْنَى .
" الثَّانِي " أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكِنَايَةَ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ إذَا قُرِنَ بِهَا لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الصَّرِيحِ أَوْ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ كَانَتْ صَرِيحَةً كَمَا قَالُوا فِي " الْوَقْفِ " إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ : كتصدقت وَحَرَّمْت وَأَبَّدْت . إذَا قُرِنَ بِهَا لَفْظٌ أَوْ حُكْمٌ . فَإِذَا قَالَ : أَمْلَكْتُكهَا فَقَالَ : قَبِلْت هَذَا التَّزْوِيجَ . أَوْ أَعْطَيْتُكهَا زَوْجَةً فَقَالَ : قَبِلْت . أَوْ أَمْلَكْتُكهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفِ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانِ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَقَدْ قَرَنَ بِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْكَامِ مَا يَجْعَلُهُ صَرِيحًا . " الثَّالِثُ " أَنَّ إضَافَةَ ذَلِكَ إلَى الْحُرَّةِ يُبَيِّنُ الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ فِي ابْنَتِهِ : مَلَّكْتُكهَا أَوْ أَعْطَيْتُكهَا أَوْ زَوَّجْتُكهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَالْمَحَلُّ يَنْفِي الْإِجْمَالَ وَالِاشْتِرَاكَ . " الرَّابِعُ " أَنَّ هَذَا مَنْقُوضٌ عَلَيْهِمْ بِالشَّهَادَةِ فِي الرَّجْعَةِ ؛ فَإِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ إمَّا وَاجِبَةً وَإِمَّا مُسْتَحَبَّةً . وَهِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ عَلَى قَوْلٍ وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ بِصَرِيحِ أَوْ كِنَايَةٍ مُفَسِّرَةٍ . " الْخَامِسُ " : أَنَّ الشَّهَادَةَ تَصِحُّ عَلَى الْعَقْدِ . وَيَثْبُتُ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى أَيِّ صُورَةٍ انْعَقَدَتْ . فَعُلِمَ أَنَّ اعْتِبَارَ الشَّهَادَةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ . " السَّادِسُ " أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ يُمْكِنُهُمَا تَفْسِيرُ مُرَادِهِمَا وَيَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَى مَا فَسَّرُوهُ .
"
السَّابِعُ " أَنَّ الْكِنَايَةَ عِنْدَنَا إذَا اقْتَرَنَ بِهَا دَلَالَةُ
الْحَالِ كَانَتْ صَرِيحَةً فِي الظَّاهِرِ بِلَا نِزَاعٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ
اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَتَقْدِيمَ الْخُطْبَةِ وَذِكْرَ الْمَهْرِ وَالْمُفَاوَضَةَ
فِيهِ وَالتَّحَدُّثَ بِأَمْرِ النِّكَاحِ : قَاطِعٌ فِي إرَادَةِ النِّكَاحِ ؛
وَأَمَّا التَّعَبُّدُ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ . ثُمَّ الْعَقْدُ
جِنْسٌ لَا يُشْرَعُ فِيهِ التَّعَبُّدُ بِالْأَلْفَاظِ ؛ لِأَنَّهَا لَا
يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِيمَانُ ؛ بَلْ تَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَمَا يَصِحُّ مِنْ
الْكَافِرِ لَا تَعَبُّدَ فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ وَكَّلَ ذِمِّيًّا فِي قَبُولِ نِكَاحِ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ : هَلْ
يَصِحُّ النِّكَاحُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ ؛
فَإِنَّ الْوَكِيلَ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ
يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُهُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ فِي الْجُمْلَةِ . فَلَوْ وَكَّلَ
امْرَأَةً أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا غَيْرَ مُمَيِّزٍ لَمْ يَجُزْ ؛ وَلَكِنْ
إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ النِّكَاحِ بِإِذْنِ
وَلَيِّهِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَبُولُ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ : فَوُكِّلَ
فِي ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُوَكِّلَ عَبْدًا فِي قَبُولِ النِّكَاحِ بِلَا إذْنِ
سَيِّدِهِ أَوْ يُوَكِّلَ سَفِيهًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ
أَوْ يُوَكِّلَ صَبِيًّا مُمَيِّزًا بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ : فَهَذَا فِيهِ
قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ
مِنْهُ قَبُولُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ إذْنٍ ؛ لَكِنْ فِي الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ
لَا يَجُوزُ لِمَانِعِ فِيهِ : مِثْلَ أَنْ يُوَكِّلَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مَنْ
لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا صَحَّتْ الْوَكَالَةُ .
وَأَمَّا " تَوَكُّلُ الذِّمِّيِّ " فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ فَهُوَ يُشْبِهُ تَزْوِيجَ الذِّمِّيِّ ابْنَتَهُ الذِّمِّيَّةَ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَوْ زَوَّجَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ جَازَ ؛ وَلَكِنْ إذَا زَوَّجَهَا مِنْ مُسْلِمٍ : فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَجُوزُ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ ؛ بَلْ يُوَكِّلُ مُسْلِمًا . وَقِيلَ : لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا الْحَاكِمُ بِإِذْنِهِ . وَكَوْنُهُ وَلِيًّا فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ مِثْلَ كَوْنِهِ وَكِيلًا فِي تَزْوِيجِ الْمَسْأَلَةِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ قَالَ : إنَّ الْمِلْكَ فِي النِّكَاحِ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ ؛ لَا لِلْوَكِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بِخِلَافِ الْمِلْكِ فِي غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ . تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ وَالْمِلْكُ يَحْصُلُ لَهُ : فَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ لَمْ يَجُزْ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ لِلْمُسْلِمِ : فَتَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ تَوَكُّلِهِ فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ بَعْضَ مَحَارِمِهَا كَخَالِهَا ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَوَكُّلُهُ فِي قَبُولِ نِكَاحِهَا لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا كَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا تَوَكَّلَ فِي نِكَاحِ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمَةِ ؛ لَكِنَّ الْأَحْوَطَ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ شَوْبُ الْعِبَادَاتِ . وَيُسْتَحَبُّ " عَقْدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ " وَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ : " مَنْ شَهِدَ إمْلَاكَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا شَهِدَ فَتْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ " . وَلِهَذَا وَجَبَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنْ يُعْقَدَ بِالْعَرَبِيَّةِ كَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ مُتَوَلِّيًا نِكَاحَ مُسْلِمٍ ؛ وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى بُطْلَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ؛ وَالْكَافِرُ يَصِحُّ مِنْهُ النِّكَاحُ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَرِيضٍ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ : فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ ؟
فَأَجَابَ :
نِكَاحُ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ تَرِثُ الْمَرْأَةُ فِي قَوْلِ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَسْتَحِقُّ إلَّا مَهْرَ
الْمِثْلِ ؛ لَا تَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بِنْتٌ وَهِيَ دُونَ الْبُلُوغِ فَزَوَّجُوهَا فِي غَيْبَةِ
أَبِيهَا . وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ ؛ وَجَعَلُوا أَنَّ أَبَاهَا تُوُفِّيَ
وَهُوَ حَيٌّ وَشَهِدُوا أَنَّ خَالَهَا أَخُوهَا فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ أَمْ
لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا شَهِدُوا أَنَّ خَالَهَا أَخُوهَا فَهَذِهِ شَهَادَةُ زُورٍ وَلَا يَصِيرُ
الْخَالُ وَلِيًّا بِذَلِكَ ؛ بَلْ هَذِهِ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ
فَيَكُونُ نِكَاحُهَا بَاطِلًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ
كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَلِلْأَبِ أَنْ يُجَدِّدَهُ . وَمَنْ
شَهِدَ أَنَّ خَالَهَا أَخُوهَا وَأَنَّ أَبَاهَا مَاتَ فَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ
يَجِبُ تَعْزِيرُهُ وَيُعَزَّرُ الْخَالُ . وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا
الْمَهْرُ وَيَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْأَبُ فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ
عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي
الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ لَهَا أَبٌ وَأَخٌ وَوَكِيلُ أَبِيهَا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ حَاضِرٌ
فَذَهَبَتْ إلَى الشُّهُودِ وَغَيَّرَتْ اسْمَهَا وَاسْمَ أَبِيهَا وَادَّعَتْ
أَنَّ لَهَا مُطَلِّقًا يُرِيدُ تَجْدِيدَ النِّكَاحَ وَأَحْضَرَتْ رَجُلًا
أَجْنَبِيًّا وَذَكَرَتْ أَنَّهُ أَخُوهَا فَكَتَبَتْ الشُّهُودُ كِتَابَهَا عَلَى
ذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ مَا فَعَلَتْهُ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ :
فَهَلْ تُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَجِبُ تَعْزِيرُ الْمُعَرِّفِينَ
وَاَلَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهَا وَاَلَّذِي عَرَّفَ الشُّهُودَ بِمَا ذُكِرَ
؟ وَهَلْ يَخْتَصُّ التَّعْزِيرُ بِالْحَاكِمِ ؟ أَوْ يُعَزِّرُهُمْ وَلِيُّ
الْأَمْرِ مِنْ مُحْتَسِبٍ وَغَيْرِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا ؛ وَلَوْ عَزَّرَهَا وَلِيُّ
الْأَمْرِ مَرَّاتٍ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
يُكَرِّرُ التَّعْزِيرَ فِي الْفِعْلِ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ
الْمُحَرَّمَاتِ فَكَانَ يُعَزِّرُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِائَةً وَفِي
الثَّانِي مِائَةً وَفِي الثَّالِثِ مِائَةً : يُفَرِّقُ التَّعْزِيرَ ؛ لِئَلَّا
يُفْضِي إلَى فَسَادِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ . وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ قَدْ ادَّعَتْ
إلَى غَيْرِ أَبِيهَا وَاسْتَخْلَفَتْ أَخَاهَا وَهَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ فَقَدْ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ؛ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ
مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدٍ
وَأَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ
فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } وَثَبَتَ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُولُ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ إلَّا كَفَرَ وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَمَنْ رَمَى رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا حَارَ عَلَيْهِ } وَهَذَا تَغْلِيظٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً عَظِيمَةً يَسْتَحِقُّ فِيهَا مِائَةَ سَوْطٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَبَّسَتْ عَلَى الشُّهُودِ وَأَوْقَعَتْهُمْ فِي الْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ ؛ وَنَكَحَتْ نِكَاحًا بَاطِلًا ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بَاطِلٌ يُعَزِّرُونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِعُمْرِ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ بَلْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يُقِيمُونَ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ بِالرَّجْمِ وَغَيْرِهِ . وَمَنْ جَوَّزَ النِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ مُطْلَقًا ؛ أَوْ فِي الْمَدِينَةِ : فَلَمْ يُجَوِّزْ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ دَعْوَى النَّسَبِ الْكَاذِبِ وَإِقَامَةِ الْوَلِيِّ الْبَاطِلِ فَكَانَ عُقُوبَةُ هَذِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَتُعَاقَبُ أَيْضًا عَلَى كَذِبِهَا وَكَذَلِكَ الدَّعْوَى أَنَّهُ كَانَ زَوْجَهَا وَطَلَّقَهَا ؛ وَيُعَاقَبُ الزَّوْجُ أَيْضًا . وَكَذَلِكَ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهَا . يُعَاقَبُ عَلَى هَذَيْنِ الرِّيبَتَيْنِ . وَأَمَّا الْمُعَرِّفُونَ بِهِمْ فَيُعَاقَبُونَ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ : بِالنَّسَبِ لَهَا وَالتَّزْوِيجِ وَالتَّطْلِيقِ وَعَدَمِ وَلِيٍّ حَاضِرٍ . وَيَنْبَغِي أَنْ يُبَالَغَ فِي عُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ يُسَوَّدُ وَجْهُهُ ؛ بِمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّدُ وَجْهَهُ . إشَارَةً إلَى سَوَادِ
وَجْهِهِ بِالْكَذِبِ . وَأَنَّهُ كَانَ يُرْكِبُهُ دَابَّةً مَقْلُوبًا إلَى
خَلْفُ . إشَارَةً إلَى أَنَّهُ قَلَبَ الْحَدِيثَ وَيُطَافُ بِهِ يُشَهِّرُهُ
بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ . وَتَعْزِيرُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ يَخْتَصُّ
بِالْحَاكِمِ ؛ بَلْ يُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ وَالْمُحْتَسِبُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ
وُلَاةِ الْأُمُورِ الْقَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ
هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا فَسَادُ كَثِيرٍ فِي النِّسَاءِ ؛
وَشَهَادَةُ الزُّورِ كَثِيرَةٌ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ
أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعُقَابِ مِنْهُ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ إجْبَارِ الْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ الْبَالِغِ عَلَى النِّكَاحِ : هَلْ
يَجُوزُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا إجْبَارُ الْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ :
فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ؛ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . "
أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ يُجْبِرُ الْبِكْرَ الْبَالِغَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الخرقي وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ . و
" الثَّانِي " لَا يُجْبِرُهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ جَعْفَرٍ . وَهَذَا
الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ . وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي " مَنَاطِ
الْإِجْبَارِ " هَلْ
هُوَ الْبَكَارَةُ ؟ أَوْ الصِّغَرُ ؟ أَوْ مَجْمُوعُهَا ؟ أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَنَاطَ الْإِجْبَارِ هُوَ الصِّغَرُ وَأَنَّ الْبِكْرَ الْبَالِغَ لَا يُجْبِرُهَا أَحَدٌ عَلَى النِّكَاحِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي ؟ فَقَالَ : إذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ { الْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا } فَهَذَا نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَبُ وَغَيْرُهُ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ ؛ وَأَنَّ الْأَبَ نَفْسَهُ يَسْتَأْذِنُهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً إلَّا بِإِذْنِهَا وَبُضْعُهَا أَعْظَمُ مِنْ مَالِهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي بُضْعِهَا مَعَ كَرَاهَتِهَا وَرُشْدِهَا وَأَيْضًا : فَإِنَّ الصِّغَرَ سَبَبُ الْحَجْرِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا جَعْلُ الْبَكَارَةِ مُوجِبَةً لِلْحَجْرِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْ الْبَكَارَةَ سَبَبًا لِلْحَجْرِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فَتَعْلِيلُ الْحَجْرِ بِذَلِكَ تَعْلِيلٌ بِوَصْفِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالْإِجْبَارِ اضْطَرَبُوا فِيمَا إذَا عَيَّنَتْ كُفُؤًا وَعَيَّنَ الْأَبُ كُفُؤًا آخَرَ : هَلْ يُؤْخَذُ بِتَعْيِينِهَا ؟ أَوْ بِتَعْيِينِ الْأَبِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . فَمَنْ جَعَلَ الْعِبْرَةَ بِتَعْيِينِهَا نَقَضَ أَصْلَهُ وَمَنْ جَعَلَ
الْعِبْرَةَ بِتَعْيِينِ الْأَبِ كَانَ فِي قَوْلِهِ مِنْ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ وَالشَّرِّ مَا لَا يَخْفَى فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ؛ وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَفِي رِوَايَةٍ : { الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا } . فَلَمَّا جَعَلَ الثَّيِّبَ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِكْرَ لَيْسَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا ؛ بَلْ الْوَلِيُّ أَحَقُّ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلْأَبِ وَالْجَدِّ . هَذِهِ عُمْدَةُ الْمُجْبِرِينَ وَهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ وَظَاهِرِهِ ؛ وَتَمَسَّكُوا بِدَلِيلِ خِطَابِهِ ؛ وَلَمْ يَعْلَمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا } يَعُمُّ كُلَّ وَلِيٍّ وَهُمْ يَخُصُّونَهُ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ . " و الثَّانِي " قَوْلُهُ : { وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ } وَهْم لَا يُوجِبُونَ اسْتِئْذَانَهَا ؛ بَلْ قَالُوا : هُوَ مُسْتَحَبٌّ حَتَّى طَرَدَ بَعْضُهُمْ قِيَاسَهُ ؛ وَقَالُوا لَمَّا كَانَ مُسْتَحَبًّا اكْتَفَى فِيهِ بِالسُّكُوتِ وَادَّعَى أَنَّهُ حَيْثُ يَجِبُ اسْتِئْذَانُ الْبِكْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ . وَهَذَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُمْ ؛ وَلِنُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ ؛ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ قَبْلَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إذَا زَوَّجَ الْبِكْرَ أَخُوهَا أَوْ عَمُّهَا فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِنُهَا ؛ وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا . وَأَمَّا الْمَفْهُومُ : فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ؛ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ } فَذَكَرَ فِي هَذِهِ لَفْظَ " الْإِذْنِ " وَفِي هَذِهِ لَفَظَ " الْأَمْرِ " وَجَعَلَ إذْنَ هَذِهِ الصُّمَاتَ ؛ كَمَا أَنَّ إذَنْ تِلْكَ النُّطْقُ . فَهَذَانِ هُمَا الْفَرْقَانِ اللَّذَانِ فَرَّقَ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْبِكْرِ
وَالثَّيِّبِ ؛ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي الْإِجْبَارِ وَعَدَمِ الْإِجْبَارِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ " الْبِكْرَ " لَمَّا كَانَتْ تَسْتَحِي أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِ نِكَاحِهَا لَمْ تُخْطَبْ إلَى نَفْسِهَا ؛ بَلْ تُخْطَبُ إلَى وَلِيِّهَا وَوَلِيُّهَا يَسْتَأْذِنُهَا فَتَأْذَنُ لَهُ ؛ لَا تَأْمُرُهُ ابْتِدَاءً : بَلْ تَأْذَنُ لَهُ إذَا اسْتَأْذَنَهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا . وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَقَدْ زَالَ عَنْهَا حَيَاءُ الْبِكْرِ فَتَتَكَلَّمُ بِالنِّكَاحِ فَتُخْطَبُ إلَى نَفْسِهَا وَتَأْمُرُ الْوَلِيَّ أَنْ يُزَوِّجَهَا . فَهِيَ آمِرَةٌ لَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهَا فَيُزَوِّجَهَا مِنْ الْكُفْءِ إذَا أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ . فَالْوَلِيُّ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الثَّيِّبِ وَمُسْتَأْذِنٌ لِلْبِكْرِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا تَزْوِيجُهَا مَعَ كَرَاهَتِهَا لِلنِّكَاحِ : فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالْعُقُولِ وَاَللَّهُ لَمْ يُسَوِّغْ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ إلَّا بِإِذْنِهَا وَلَا عَلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ لِبَاسٍ لَا تُرِيدُهُ . فَكَيْفَ يُكْرِهُهَا عَلَى مُبَاضَعَةِ وَمُعَاشَرَةِ مَنْ تَكْرَهُ مُبَاضَعَتَهُ وَمُعَاشَرَةَ مَنْ تَكْرَهُ مُعَاشَرَتَهُ وَاَللَّهُ قَدْ جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فَإِذَا كَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا مَعَ بُغْضِهَا لَهُ وَنُفُورِهَا عَنْهُ . فَأَيُّ مَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ فِي ذَلِكَ ؟ ثُمَّ إنَّهُ إذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِبَعْثِ حَكَمٍ مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمٍ مِنْ أَهْلِهَا . و " وَالْحَكَمَانِ " كَمَا سَمَّاهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : هُمَا حَكَمَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ : هُمَا " وَكِيلَانِ " وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ
لَيْسَ بِحَكَمِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَمْرِ الْأَئِمَّةِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَهْلِ وَلَا يَخْتَصُّ بِحَالِ الشِّقَاقِ وَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى نَصٍّ خَاصٍّ ؛ وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ فَلَا بُدَّ مِنْ وَلِيٍّ لَهُمَا يَتَوَلَّى أَمْرَهُمَا ؛ لِتَعَذُّرِ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالْحُكْمِ عَلَى الْآخَرِ . فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُجْعَلَ أَمْرُهُمَا إلَى اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا فَيَفْعَلَانِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ مِنْ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا وَتَفْرِيقٍ : بِعِوَضِ أَوْ بِغَيْرِهِ . وَهُنَا يَمْلِكُ الْحَكَمُ الْوَاحِدُ مَعَ الْآخَرِ الطَّلَاقَ بِدُونِ إذْنِ الرَّجُلِ وَيَمْلِكُ الْحَكَمُ الْآخَرُ مَعَ الْأَوَّلِ بَذْلَ الْعِوَضِ مِنْ مَالِهَا بِدُونِ إذْنِهَا ؛ لِكَوْنِهِمَا صَارَا وَلِيَّيْنِ لَهُمَا . وَطَرْدُ هَذَا الْقَوْلُ : أَنَّ الْأَبَ يُطَلِّقُ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ : إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ ؛ كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ يُخَالِعُ عَنْ ابْنَتِهِ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ لَهَا . وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلِلْأَبِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ إذَا قِيلَ : هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ . كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ وَلَيْسَ الصَّدَاقُ كَسَائِرِ مَالِهَا ؛ فَإِنَّهُ وَجَبَ فِي الْأَصْلِ نِحْلَةً وَبُضْعُهَا عَادَ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَكَانَ إلْحَاقُ الطَّلَاقِ بالفسوخ فَوَجَبَ أَلَّا يَتَنَصَّفَ ؛ لَكِنَّ الشَّارِعَ جَبَرَهَا بِتَنْصِيفِ الصَّدَاقِ ؛ لِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ الِانْكِسَارِ بِهِ وَلِهَذَا جُعِلَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ الْمُتْعَةِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ فَأَوْجَبُوا الْمُتْعَةَ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ ؛ إلَّا لِمَنْ طَلَقَتْ بَعْدَ الْفَرْضِ وَقَبْلَ
الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ فَحَسْبُهَا مَا فُرِضَ لَهَا . وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ لَا يُوجِبُونَ الْمُتْعَةَ إلَّا لِمَنْ طَلَقَتْ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالدُّخُولِ وَيَجْعَلُونَ الْمُتْعَةَ عِوَضًا عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ وَيَقُولُونَ : كُلُّ مُطَلَّقَةٍ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ صَدَاقًا ؛ إلَّا هَذِهِ . وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : الصَّدَاقُ اسْتَقَرَّ قَبْلَ الطَّلَاقِ بِالْعَقْدِ وَالدُّخُولِ وَالْمُتْعَةُ سَبَبُهَا الطَّلَاقُ فَتَجِبُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ ؛ لَكِنَّ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَ الْفَرْضِ وَقَبْلَ الْمَسِيسِ مُتِّعَتْ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ فَلَا تَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ : فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الطَّلَاقَ سَبَبَ الْمُتْعَةِ فَلَا يُجْعَلُ عِوَضًا عَمَّا سَبَّبَهُ الْعَقْدُ وَالدُّخُولُ ؛ لَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا : فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَصَحُّ ؛ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد : أَنَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ لَهَا مُتْعَةٌ ؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَعُمُومُهُ حَيْثُ قَالَ : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } . فَأَمَرَ بِتَمْتِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِمَنْ لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَعَ أَنَّ غَالِبَ النِّسَاءِ يَطْلُقْنَ بَعْدَ الْفَرْضِ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْمُتْعَةِ هُوَ الطَّلَاقَ فَسَبَبُ الْمَهْرِ هُوَ الْعَقْدُ . فَالْمُفَوَّضَةُ الَّتِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا يَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ وَيَسْتَقِرُّ بِالْمَوْتِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ الَّتِي تَزَوَّجَتْ وَمَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا مَهْرٌ وَقَضَى لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ { لَهَا مَهْرَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ } لَكِنْ هَذِهِ لَوْ طَلَقَتْ قَبْلَ
الْمَسِيسِ
لَمْ يَجِبْ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ؛ لِكَوْنِهَا لَمْ
تَشْتَرِطْ مَهْرًا مُسَمًّى وَالْكَسْرُ الَّذِي حَصَلَ لَهَا بِالطَّلَاقِ
انْجَبَرَ بِالْمُتْعَةِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ .
وَلَكِنَّ " الْمَقْصُودَ " : أَنَّ الشَّارِعَ لَا يُكْرِهُ
الْمَرْأَةَ عَلَى النِّكَاحِ إذَا لَمْ تُرِدْهُ ؛ بَلْ إذَا كَرِهَتْ الزَّوْجَ
وَحَصَلَ بَيْنَهُمَا شِقَاقٌ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ أَمْرَهَا إلَى غَيْرِ الزَّوْجِ
لِمَنْ يَنْظُرُ فِي الْمَصْلَحَةِ مِنْ أَهْلِهَا ؛ مَعَ مَنْ يَنْظُرُ فِي
الْمَصْلَحَةِ مِنْ أَهْلِهِ فَيُخَلِّصُهَا مِنْ الزَّوْجِ بِدُونِ أَمْرِهِ ؛
فَكَيْفَ تُؤْسَرُ مَعَهُ أَبَدًا بِدُونِ أَمْرِهَا . وَالْمَرْأَةُ أَسِيرَةٌ
مَعَ الزَّوْجِ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ؛ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ ؛
أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ
اللَّهِ } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بِنْتٍ بَالِغٍ وَقَدْ خُطِبَتْ لِقَرَابَةٍ لَهَا فَأَبَتْ . وَقَالَ
أَهْلُهَا لِلْعَاقِدِ : اعْقِدْ وَأَبُوهَا حَاضِرٌ : فَهَلْ يَجُوزُ
تَزْوِيجُهَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إنْ كَانَ الزَّوْجُ لَيْسَ كُفُؤًا لَهَا فَلَا تُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِهِ
بِلَا رَيْبٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ كُفُؤًا فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ
مَشْهُورَانِ ؛ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ
أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهَا أَبُوهَا .
وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِكْرًا بِوِلَايَةِ أَبِيهَا ؛ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ حِينَ
الْعَقْدِ ؛ وَكَانَ قَدَّمَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لِزَوْجِ قَبْلَهُ ؛ وَطَلَقَتْ
قَبْلَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إصَابَةٍ ؛ ثُمَّ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي
فَوَجَدَهَا بِنْتًا فَكَتَمَ ذَلِكَ وَحَمَلَتْ الزَّوْجَةُ مِنْهُ وَاسْتَقَرَّ
الْحَالُ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا عَلِمَ الزَّوْجُ أَنَّهَا لَمْ تُسْتَأْذَنْ حِينَ
الْعَقْدِ عَلَيْهَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ : إنَّ الْعَقْدَ مَفْسُوخٌ ؛
لِكَوْنِهَا بِنْتًا وَلَمْ تُسْتَأْذَنْ : فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ مَفْسُوخًا ؟
وَالْوَطْءُ شُبْهَةً ؟ وَيُلْزَمُ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا مِنْ زَوْجٍ وَهِيَ بَالِغٌ فَهَذِهِ لَا تُنْكَحُ
إلَّا بِإِذْنِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ وَلَكِنْ إذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ
إذْنِهَا ثُمَّ أَجَازَتْ الْعَقْدَ جَازَ ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ وَلَمْ يَجُزْ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى . وَإِنْ كَانَتْ
ثَيِّبًا مِنْ زِنًا فَهِيَ كَالثَّيِّبِ مِنْ النِّكَاحِ فِي مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ :
أَنَّهَا كَالْبِكْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَمَالِكٍ .
وَإِنْ كَانَتْ الْبَكَارَةُ زَالَتْ بِوَثْبَةِ أَوْ بِأُصْبُعِ أَوْ نَحْوِ
ذَلِكَ فَهِيَ كَالْبِكْرِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَإِذَا كانت
بِكْرًا فَالْبِكْرُ يُجْبِرُهَا أَبُوهَا عَلَى النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَتْ
بَالِغَةً : فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ . وَفِي الْأُخْرَى وَهِيَ
مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْأَبَ لَا يُجْبِرُهَا إذَا كَانَتْ بَالِغًا
وَهَذَا أَصَحُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَوَاهِدُ الْأُصُولِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : إذَا اخْتَارَتْ هِيَ الْعَقْدَ
جَازَ ؛ وَإِلَّا احْتَاجَ إلَى اسْتِئْنَافٍ . وَقَدْ يُقَالُ : هُوَ الْأَقْوَى
هُنَا ؛ لَا سِيَّمَا وَالْأَبُ إنَّمَا عَقَدَ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا بِكْرٌ
وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانِهَا ؛ فَإِذَا كَانَتْ فِي الْبَاطِنِ
بِخِلَافِ ذَلِكَ كَانَ مَعْذُورًا . فَإِذَا اخْتَارَتْ هِيَ النِّكَاحَ لَمْ
يَكُنْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ . وَوَقْفُ الْعَقْدِ عَلَى
الْإِجَازَةِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَظْهَرُ فِيهِ
التَّفْصِيلُ بَيْن بَعْضِهَا وَبَعْضٍ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
لَيْسَ لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَنْ يُلْزِمَ الْوَلَدَ بِنِكَاحِ مَنْ لَا
يُرِيدُ وَأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ لَا يَكُونُ عَاقًّا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَكْلِ مَا يَنْفِرُ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى
أَكْلِ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ كَانَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ وَأَوْلَى ؛ فَإِنَّ
أَكْلَ الْمَكْرُوهِ مَرَارَةً سَاعَةً وَعِشْرَةَ الْمَكْرُوهِ مِنْ
الزَّوْجَيْنِ عَلَى طُولٍ يُؤْذِي صَاحِبَهُ كَذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ فِرَاقُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ حِجْرِ وَالِدِهِ وَقَدْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِهِ
وَشَهِدَ الْمَعْرُوفُونَ أَنَّ وَالِدَهُ مَاتَ وَهُوَ حَيٌّ : فَهَلْ يَصِحُّ
الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ
إذْنِ وَالِدِهِ حَقٌّ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
إنْ كَانَ سَفِيهًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ : لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ بِدُونِ إذْنِ
أَبِيهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا . وَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ
فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ رَشِيدًا صَحَّ نِكَاحُهُ وَإِنْ لَمْ
يَأْذَنْ لَهُ أَبُوهُ . وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ : هَلْ نَكَحَ وَهُوَ
رَشِيدٌ أَوْ وَهُوَ سَفِيهٌ : فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي صِحَّةَ النِّكَاحِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً وَلَهَا وَلَدٌ وَالْعَاقِدُ مَالِكِيٌّ فَطَلَبَ
الْعَاقِدُ الْوَلَدَ فَتَعَذَّرَ حُضُورُهُ وَجِيءَ بِغَيْرِهِ وَأَجَابَ
الْعَاقِدَ فِي تَزْوِيجِهَا : فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَدَ وَلِيُّهَا وَإِذَا
كَانَ حَاضِرًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ لَمْ تُزَوَّجْ إلَّا بِإِذْنِهِ . فَأَمَّا إنْ
غَابَ غَيْبَةً بَعِيدَةً انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَى الْأَبْعَدِ أَوْ
الْحَاكِمِ . وَلَوْ زَوَّجَهَا شَافِعِيٌّ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْوَلَدَ لَا
وِلَايَةَ لَهُ كَانَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ؛ لَكِنَّ الَّذِي زَوَّجَهَا
مَالِكِيٌّ يَعْتَقِدُ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا إلَّا وَلَدُهَا فَإِذَا لَبَّسَ
عَلَيْهِ وَزَوَّجَهَا مَنْ يَعْتَقِدُهُ وَلَدَهَا وَلَمْ يَكُنْ هَذَا
الْحَاكِمُ قَدْ زَوَّجَهَا بِوِلَايَتِهِ وَلَا زُوِّجَتْ بِوِلَايَةِ وَلِيٍّ
مَنْ نَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ فَتَكُونُ مَنْكُوحَةً بِدُونِ إذْنِ وَلِيٍّ أَصْلًا .
وَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ خَلَّاهَا أَخُوهَا فِي مَكَانٍ لِتُوَفِّيَ عِدَّةَ زَوْجِهَا
فَلَمَّا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ هَرَبَتْ إلَى بَلَدٍ مَسِيرَةَ يَوْمٍ
وَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَخِيهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ غَيْرُهُ :
فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
: إذَا لَمْ يَكُنْ أَخُوهَا عَاضِلًا لَهَا وَكَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ : لَمْ
يَصِحَّ نِكَاحُهَا بِدُونِ إذْنِهِ وَالْحَالُ هَذِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بَالِغَةً مِنْ جَدِّهَا أَبِي أَبِيهَا وَمَا رَشَّدَهَا
وَلَا مَعَهُ وَصِيَّةٌ مِنْ أَبِيهَا فَلَمَّا دَنَتْ وَفَاةُ جَدِّهَا أَوْصَى
عَلَى الْبِنْتِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا : فَهَلْ لِلْجَدِّ الْمَذْكُورِ عَلَى
الزَّوْجَةِ وِلَايَةٌ بَعْدَ أَنْ أَصَابَهَا الزَّوْجُ ؛ وَهَلْ لَهُ أَنْ
يُوصِيَ عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهَا ؛ لَا لِلْجَدِّ وَلَا
غَيْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ
عَلَيْهَا فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ
الْجَدَّ لَهُ وِلَايَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . و " الثَّانِي
" لَا وِلَايَةَ لَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ
عَنْهُ . وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْجَارِيَةُ وَمَضَتْ عَلَيْهَا سَنَةٌ
وَأَوْلَدَهَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ رَشِيدَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ بَرْطَلَ وَلِيَّ امْرَأَةٍ لِيُزَوِّجَهَا إيَّاهُ فَزَوَّجَهَا ثُمَّ
صَالَحَ صَاحِبَ الْمَالِ عَنْهُ : فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ دَرَكٌ ؟
فَأَجَابَ :
آثِمٌ فِيمَا فَعَلَ ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَصَحِيحٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى
الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ ؟
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ وَقَدْ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَ بِهَا وَمَاتَ . ثُمَّ
خَطَبَهَا مَنْ يَصْلُحُ : فَهَلْ لِأَوْلَادِ سَيِّدِهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا خَطَبَهَا مَنْ يَصْلُحُ لَهَا فَعَلَى أَوْلَادِ
سَيِّدِهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ زَوَّجَهَا
الْحَاكِمُ أَوْ عَصَبَةُ الْمُعْتِقِ إنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ غَيْرُ أَوْلَادِهِ
؛ لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُقَدِّمُ الْحَاكِمَ إذَا عَضَلَ الْوَلِيَّ
الْأَقْرَبَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . وَمِنْهُمْ
مَنْ يُقَدِّمُ الْعَصَبَةَ كَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ فَإِذَا
لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ زَوَّجَ الْحَاكِمُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ
امْتَنَعَ الْعَصَبَةُ كُلُّهُمْ زَوَّجَ الْحَاكِمُ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِذَا
أَذِنَ الْعَصَبَةُ لِلْحَاكِمِ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ مُعْتَقَةَ رَجُلٍ ؛ وَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ
وَطَلَّقَهَا ثُمَّ حَضَرَتْ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ
فَأَرَادَ رَدَّهَا وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا بَرَاءَةٌ فَخَافَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ
بَرَاءَةٌ : فَحَضَرَا عِنْدَ قَاضِي الْبَلَدِ وَادَّعَى أَنَّهَا جَارِيَتُهُ
وَأَوْلَدَهَا وَأَنَّهُ يُرِيدُ عِتْقَهَا وَيَكْتُبُ لَهَا كِتَابًا : فَهَلْ
يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا زَوَّجَهَا الْقَاضِي بِحُكْمِ أَنَّهُ وَلِيُّهَا وَكَانَتْ خَلِيَّةً مِنْ
الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ أَوْلَى مِنْ الْحَاكِمِ
: صَحَّ النِّكَاحُ . وَإِنْ ظَنَّ الْقَاضِي أَنَّهَا عَتِيقَةٌ وَكَانَتْ
حُرَّةَ الْأَصْلِ : فَهَذَا الظَّنُّ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ عِنْدَهُ لَا
يَكُونُ وَلِيًّا . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّ الْمُعْتَقَةَ يَكُونُ زَوْجُهَا
الْمُعْتِقُ وَلِيَّهَا وَالْقَاضِي نَائِبَهُ : فَهُنَا إذَا زَوَّجَ الْحَاكِمُ
بِهَذِهِ النِّيَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَبُولُهَا مِنْ جِهَتِهَا وَلَكِنْ مِنْ
كَوْنِهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ : فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَعْرَابٍ نَازِلِينَ عَلَى الْبَحْرِ وَأَهْلِ بَادِيَةٍ وَلَيْسَ
عِنْدَهُمْ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُمْ حَاكِمٌ وَلَا لَهُمْ عَادَةٌ أَنْ يَعْقِدُوا
نِكَاحًا إلَّا فِي الْقُرَى الَّتِي حَوْلَهُمْ عِنْدَ أَئِمَّتِهَا : فَهَلْ
يَصِحُّ عَقْدُ أَئِمَّةِ الْقُرَى لَهُمْ مُطْلَقًا لِمَنْ لَهَا وَلِيٌّ
وَلِمَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ ؛ وَرُبَّمَا كَانَ أَئِمَّةٌ لَيْسَ لَهُمْ إذْنٌ
مِنْ مُتَوَلٍّ : فَهَلْ يَصِحُّ عَقْدُهُمْ فِي الشَّرْعِ مَعَ إشْهَادِ مَنْ
اتَّفَقَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْعُقُودِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ عَلَى
الْأَئِمَّةِ إثْمٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ مَانِعٌ غَيْرَ هَذَا الْحَالِ
الَّذِي هُوَ عَدَمُ إذْنِ الْحَاكِمِ لِلْإِمَامِ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَنْ كَانَ لَهَا وَلِيٌّ مِنْ النَّسَبِ وَهُوَ
الْعَصَبَةُ مِنْ النَّسَبِ أَوْ الْوَلَاءِ : مِثْلَ أَبِيهَا وَجَدِّهَا
وَأَخِيهَا وَعَمِّهَا وَابْنِ أَخِيهَا وَابْنِ عَمِّهَا وَعَمِّ أَبِيهَا
وَابْنِ عَمِّ أَبِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَقَةً فَمُعْتِقُهَا أَوْ عَصَبَةُ
مُعْتِقِهَا : فَهَذِهِ يُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ بِإِذْنِهَا وَالِابْنُ وَلِيٌّ
عِنْدِ الْجُمْهُورَ وَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى حَاكِمٍ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ .
وَإِذَا
كَانَ النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صَحَّ النِّكَاحُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
الشَّاهِدَانِ مُعَدَّلَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنْ كَانَا مَسْتُورَيْنِ -
صَحَّ النِّكَاحُ إذَا أَعْلَنُوهُ وَلَمْ يَكْتُمُوهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَلَوْ كَانَ بِحَضْرَةِ فَاسِقَيْنِ صَحَّ
النِّكَاحُ أَيْضًا عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ بَلْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا وَشَاعَ
ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ صَحَّ النِّكَاحُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ
حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مَازَالُوا يُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ عَلَى
عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ بِالْإِشْهَادِ وَلَيْسَ فِي
اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ حَدِيثٌ ثَابِتٌ ؛ لَا فِي الصِّحَاحِ
وَلَا فِي السُّنَنِ وَلَا فِي الْمَسَانِدِ . وَأَمَّا مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا
فَإِنْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَوْ الْحُلَّةِ نَائِبٌ حَاكِمٌ زَوَّجَهَا هُوَ
وَأَمِيرُ الْأَعْرَابِ وَرَئِيسُ الْقَرْيَةِ . وَإِذَا كَانَ فِيهِمْ إمَامٌ
مُطَاعٌ زَوَّجَهَا أَيْضًا بِإِذْنِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ : هَلْ يَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى أَوْلَادِهِ
الْكِتَابِيِّينَ ؟
فَأَجَابَ :
لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي النِّكَاحِ كَمَا لَا وِلَايَةَ لَهُ
عَلَيْهِمْ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا يُزَوِّجُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَةَ سَوَاءٌ
كَانَتْ بِنْتَه أَوْ غَيْرَهَا وَلَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا وَلَا مُسْلِمٌ
كَافِرًا . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ مِنْ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ .
لَكِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلْأَمَةِ زَوَّجَهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَلِيَّ أَمْرِ زَوَاجِهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ . وَأَمَّا بِالْقَرَابَةِ وَالْعَتَاقَةِ فَلَا يُزَوِّجُهَا ؛ إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي النَّصْرَانِيِّ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَرِثُهَا وَهُمَا قَوْلَانِ شَاذَّانِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ ؛ وَلَا يَتَزَوَّجُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ قَطَعَ الْوِلَايَةَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَوْجَبَ الْبَرَاءَةَ بَيْنَهُمْ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَأَثْبَتَ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَثْبَتَ الْوِلَايَةَ بَيْنَ أُولِي الْأَرْحَامِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ : {
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ : {
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ
مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ مُعْتَقَةٌ وَقَدْ طَلَبَهَا مِنْهُ رَجُلٌ
لِيَتَزَوَّجَهَا فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ مَا أُعْطِيك إيَّاهَا : فَهَلْ
يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِي زَوَاجِهَا لِذَلِكَ الرَّجُلِ ؟
فَأَجَابَ :
مَتَى فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ حَنِثَ ؛ لَكِنْ
إذَا كَانَ الْخَاطِبُ كُفُؤًا فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ :
مِثْلَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ أَوْ يُزَوِّجَهَا الْحَاكِمُ
بِإِذْنِهَا وَدُونَ إذْنِ الْمُعْتَقِ ؛ فَإِنَّهُ عَاضِلٌ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى
إذْنِهِ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ إذَا زُوِّجَتْ كُلَّ هَذَا الْوَجْهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَعْقِدُ عُقُودَ الْأَنْكِحَةِ بِوَلِيِّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ : هَلْ
لِلْحَاكِمِ مَنْعُهُ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَذْكُورَ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِلْوَلِيِّ
فَيَعْقِدُ الْعَقْدَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ ؛ لَكِنْ مَنْ لَا وَلِيَّ
لَهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ وَهُوَ الْحَاكِمُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً حُرَّةً لَهَا وَلِيٌّ غَيْرُ الْحَاكِمِ فَجَاءَ
بِشُهُودِ وَهُوَ يَعْلَمُ فِسْقَ الشُّهُودِ ؛ لَكِنْ لَوْ شَهِدُوا عِنْدَ
الْحَاكِمِ قَبْلَهُمْ : فَهَلْ يَصِحُّ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ بِشَهَادَتِهِمْ ؟
وَإِذَا صَحَّ هَلْ يُكْرَهُ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَالْحَالُ هَذِهِ . و " الْعَدَالَةُ "
الْمُشْتَرَطَةُ فِي شَاهِدَيْ النِّكَاحِ إنَّمَا هِيَ أَنْ يَكُونَا
مَسْتُورَيْنِ غَيْرَ ظَاهِرَيْ الْفِسْقِ وَإِذَا كَانَا فِي الْبَاطِنِ
فَاسِقَيْنِ وَذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ ؛ بَلْ ظَاهِرُهُمَا السَّتْرُ انْعَقَدَ
النِّكَاحُ بِهِمَا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا ؛ إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي شَاهِدَيْ النِّكَاحِ
أَنْ يَكُونَا مُعَدَّلَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمَا صَحَّ نِكَاحُ أَكْثَرِ
النَّاسِ إلَّا بِذَلِكَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَعَلِيٍّ كَانُوا يَعْقِدُونَ الْأَنْكِحَةَ بِمَحْضَرِ مِنْ بَعْضِهِمْ ؛ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ الْحَاضِرُونَ مُعَدَّلَيْنِ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ . وَمِنْ
الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ : يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَا مُبْرِزَيْ الْعَدَالَةِ :
فَهَؤُلَاءِ شُهُودُ الْحُكَّامِ معدلون عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ
هُوَ فَاسِقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ
بِشَهَادَتِهِمْ وَإِنْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ فُسَّاقًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ
وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ
كَيْفَ إذْنُهَا ؟ قَالَ . أَنْ تَسْكُتَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ . { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ
تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَفِي رِوَايَةٍ : {
الْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا وَصَمْتُهَا إقْرَارُهَا }
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الْجَارِيَةِ يَنْكِحُهَا أَهْلُهَا أَتُسْتَأْمَرُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ لَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ . تُسْتَأْمَرُ قَالَتْ
عَائِشَةُ : فَقُلْت لَهُ : فَإِنَّهَا تَسْتَحِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ إذْنُهَا إذَا هِيَ سَكَتَتْ } { وَعَنْ
خَنْسَاءَ ابْنَة خِدَامٍ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتٌ فَكَرِهَتْ
ذَلِكَ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ
نِكَاحَهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
فَأَجَابَ :
الْمَرْأَةُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُزَوِّجَهَا إلَّا بِإِذْنِهَا كَمَا
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَرِهَتْ ذَلِكَ لَمْ
تُجْبَرْ عَلَى النِّكَاحِ ؛ إلَّا الصَّغِيرَةُ الْبِكْرُ فَإِنَّ أَبَاهَا
يُزَوِّجُهَا وَلَا إذْنَ لَهَا . وَأَمَّا الْبَالِغُ الثَّيِّبُ فَلَا يَجُوزُ
تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا
لَا
لِلْأَبِ وَلَا لِغَيْرِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ
الْبَالِغُ لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُهَا بِدُونِ إذْنِهَا
بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا الْأَبُ وَالْجَدُّ فَيَنْبَغِي لَهُمَا
اسْتِئْذَانُهَا . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِئْذَانِهَا : هَلْ هُوَ
وَاجِبٌ ؟ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ . وَيَجِبُ عَلَى
وَلِيِّ الْمَرْأَةِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِيمَنْ يُزَوِّجُهَا بِهِ وَيَنْظُرَ
فِي الزَّوْجِ : هَلْ هُوَ كُفُؤٌ أَوْ غَيْرُ كُفُؤٍ ؟ فَإِنَّهُ إنَّمَا
يُزَوِّجُهَا لِمَصْلَحَتِهَا ؛ لَا لِمَصْلَحَتِهِ ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُزَوِّجَهَا بِزَوْجِ نَاقِصٍ ؛ لِغَرَضِ لَهُ : مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ
مُوَلِّيَةَ ذَلِكَ الزَّوْجِ بَدَلَهَا فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الشِّغَارِ الَّذِي
نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يُزَوِّجَهَا
بِأَقْوَامِ يُحَالِفُهُمْ عَلَى أَغْرَاضٍ لَهُ فَاسِدَةٍ . أَوْ يُزَوِّجَهَا
لِرَجُلِ لِمَالِ يَبْذُلُهُ لَهُ وَقَدْ خَطَبَهَا مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لَهَا مِنْ
ذَلِكَ الزَّوْجِ فَيُقَدِّمُ الْخَاطِبُ الَّذِي بَرْطَلَهُ عَلَى الْخَاطِبِ
الْكُفُؤِ الَّذِي لَمْ وَالْآمِدِيَّ . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَ
الْوَلِيِّ فِي بُضْعِ وَلِيَّتِهِ كَتَصَرُّفِهِ فِي مَالِهَا فَكَمَا لَا
يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهَا إلَّا بِمَا هُوَ أَصْلَحُ كَذَلِكَ لَا يَتَصَرَّفُ فِي
بُضْعِهَا إلَّا بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهَا ؛ إلَّا أَنَّ الْأَبَ لَهُ مِنْ
التَّبَسُّطِ فِي مَالِ وَلَدِهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } بِخِلَافِ غَيْرِ
الْأَبِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ إذْنُهَا فِي الزَّوَاجِ شَرْعًا هَلْ
يُشْتَرَطُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا بِإِذْنِهَا لِوَلِيِّهَا ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا
قَالَ الْوَلِيُّ : إنَّهَا أَذِنَتْ لِي فِي تَزْوِيجِهَا مِنْ هَذَا
الشَّخْصِ
: فَهَلْ لِلْعَاقِدِ أَنْ يَعْقِدَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْوَلِيِّ ؟ أَمْ
قَوْلِهَا ؟ وَكَيْفِيَّةُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْإِشْهَادُ عَلَى إذْنِهَا لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ
الْعَقْدِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِنَّمَا فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ . وَالْمَشْهُورُ فِي
الْمَذْهَبَيْنِ - كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ - أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ . فَلَوْ
قَالَ الْوَلِيُّ : أَذِنَتْ لِي فِي الْعَقْدِ ؛ فَعَقَدَ الْعَقْدَ وَشَهِدَ
الشُّهُودُ عَلَى الْعَقْدِ ثُمَّ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى الْإِذْنِ :
كَانَ النِّكَاحُ ثَابِتًا صَحِيحًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَإِنْ أَنْكَرَتْ
الْإِذْنَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ
النِّكَاحُ . وَدَعْوَاهُ الْإِذْنَ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ ادَّعَى النِّكَاحَ
بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِشُهُودِ
النِّكَاحِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى إذْنِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ لِوُجُوهِ
ثَلَاثَةٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّ ذَلِكَ عَقْدٌ مُتَّفَقٌ عَلَى
صِحَّتِهِ وَمَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ
فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ إلَى مَا فِيهِ خِلَافٌ وَإِنْ كَانَ
مَرْجُوحًا ؛ إلَّا لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ . " الْوَجْهُ الثَّانِي "
أَنَّ ذَلِكَ مَعُونَةٌ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْعَقْدِ وَأَمَانٌ مِنْ
جُحُودِهِ لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ الَّذِي يَكْثُرُ
فِيهِ جَحْدُ النِّسَاءِ وَكِذْبُهُنَّ فَإِنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا
كَثِيرًا مَا يُفْضِي إلَى خِلَافِ ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ
تَكُونَ زَوْجَةً فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ . وَفِي ذَلِكَ مَفَاسِدُ
مُتَعَدِّدَةٌ .
"
وَالْوَجْهِ الثَّالِثِ " : أَنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فِي
دَعْوَى الِاسْتِئْذَانِ ؛ وَأَنْ يَحْتَالَ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ
قَدْ زَوَّجَهَا وَأَنْ يَظُنَّ الْجُهَّالُ أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِدُونِ
ذَلِكَ إذَا كَانَ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّهَا إذَا زُوِّجَتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ
صَارَتْ زَوْجَةً . فَيُفْضِي إلَى قَهْرِهَا وَجَعْلِهَا زَوْجَةً بِدُونِ
رِضَاهَا . وَأَمَّا " الْعَاقِدُ " الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْحَاكِمِ
إذَا كَانَ هُوَ الْمُزَوِّجَ لَهَا بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا ؛ لَا
بِطْرِيقِ الْوَكَالَةِ لِلْوَلِيِّ ؛ فَلَا يُزَوِّجُهَا حَتَّى يَعْلَمَ
أَنَّهَا قَدْ أَذِنَتْ . وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَاهِدًا عَلَى
الْعَقْدِ . وَإِنْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِدُونِ إذْنِهَا فَهُوَ نِكَاحُ
الْفُضُولِيِّ . وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إذْنِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ وَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي
الْمَشْهُورِ عَنْهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بِنْتٍ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِمَكْرُوهِ وَلَمْ يُعْقَدْ عَلَيْهَا عَقْدٌ
قَطُّ وَطَلَبَهَا مَنْ يَتَزَوَّجُهَا ؛ فَذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ فَرَضِيَ : فَهَلْ
يَصِحُّ الْعَقْدُ بِمَا ذُكِرَ إذَا شَهِدَ الْمَعْرُوفُونَ أَنَّهَا بِنْتٌ ؛
لِتَسْهِيلِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا مَا زُوِّجَتْ كَانُوا صَادِقِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِي
ذَلِكَ تَلْبِيسٌ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ . وَيَنْبَغِي
اسْتِنْطَاقُهَا بِالْأَدَبِ ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ : هَلْ
إذْنُهَا إذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِالزِّنَا : الصَّمْتُ أَوْ : النُّطْقُ . و
" الْأَوَّلُ " مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَأَحْمَد كَصَاحِبِي أَبِي
حَنِيفَةَ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ إذْنُهَا الصُّمَاتُ كَاَلَّتِي
لَمْ تَزُلْ عُذْرَتُهَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بِنْتٍ يَتِيمَةٍ وَلَهَا مِنْ الْعُمْرِ عَشْرُ سِنِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا
أَحَدٌ وَهِيَ مُضْطَرَّةٌ إلَى مَنْ يَكْفُلُهَا : فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا بِإِذْنِهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِكُفُؤِ لَهَا عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ
وَالْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ
؛ وَغَيْرِهِمَا . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ
وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ } الْآيَةَ .
وَقَدْ أَخْرَجَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ
وَهُوَ دَلِيلٌ فِي الْيَتِيمَةِ ؛ وَزَوْجُهَا مَنْ يَعْدِلُ عَلَيْهَا فِي
الْمَهْرِ ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ هَؤُلَاءِ : هَلْ تُزَوَّجُ بِإِذْنِهَا أَمْ لَا ؟
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَلَهَا
الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ
أَحْمَد أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِهَا إذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ وَلَا
خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ ؛ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْيَتِيمَةُ تُسْتَأْذَنُ فِي
نَفْسِهَا فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا
} وَفِي لَفْظٍ : { لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ فَإِنْ
سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا } .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَغِيرَةٍ دُونَ الْبُلُوغِ مَاتَ أَبُوهَا : هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَوْ
نَائِبِهِ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ إذَا
بَلَغَتْ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهَا الْأَوْلِيَاءُ - مِنْ
الْعَصَبَاتِ وَالْحَاكِمُ وَنَائِبُهُ - فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي
يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } وَأَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } قَالَتْ ؛ يَا ابْنَ
أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ
فَيُعْجِبُهُ مَالَهَا وَجَمَالَهَا ؛ فَيُرِيدُ وَلَيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا ؛ فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا
غَيْرُهُ فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ
وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ عَلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ وَأُمِرُوا أَنْ
يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ . قَالَ عُرْوَةُ :
قَالَتْ عَائِشَةُ : ثُمَّ إنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } الْآيَةَ . قَالَتْ عَائِشَةُ وَاَلَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ { يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ؛ { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } قَالَتْ عَائِشَةُ : وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حَيْثُ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْحَالِ . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : إذَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا فِي إكْمَالِ الصَّدَاقِ ؛ وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبًا عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ رَغِبُوا عَنْهَا ؛ وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ . قَالَ : فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حَتَّى يَرْغَبُوا عَنْهَا ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إذَا رَغِبُوا فِيهَا ؛ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا مِنْ الصَّدَاقِ . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُمْ أَنَّ يُزَوِّجُوا الْيَتَامَى مِنْ النِّسَاءِ إذَا فَرَضُوا لَهُنَّ صَدَاق مِثْلِهِنَّ ؛ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي تَزْوِيجِهِنَّ بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ ؛ وَدَلَائِلَ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ . ثُمَّ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ جَوَّزُوا إنْكَاحَهَا لَهُمْ قَوْلَانِ : " أَحَدُهُمَا " وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِدُونِ إذْنِهَا ؛ وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ . و " الثَّانِي " وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِهَا ؛ وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تُسْتَأْذَنُ
الْيَتِيمَةُ
فِي نَفْسِهَا ؛ فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا ؛ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ
عَلَيْهَا } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا فَإِنْ
سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ ؛ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا } . فَهَذِهِ
السُّنَّةُ نَصٌّ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ
أَنَّهَا تُزَوَّجُ ؛ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : إنَّهَا لَا تُزَوَّجُ حَتَّى
تَبْلُغَ فَلَا تَصِيرُ " يَتِيمَةً " . وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
صَرِيحٌ فِي دُخُولِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي ذَلِكَ ؛ إذْ
الْبَالِغَةُ الَّتِي لَهَا أَمْرٌ فِي مَالِهَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَرْضَى
بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْلِ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَحَقِيقَتُهُ
وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنَّ سُمِّيَ صَاحِبُهُ يَتِيمًا مَجَازًا
فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ . وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بِالْيَتِيمَةِ الْبَالِغَةَ دُونَ الَّتِي لَمَّ تَبْلُغْ : فَهَذَا
لَا يَسُوغُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ بِحَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بِنْتٍ يَتِيمَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبٌ ؛ وَلَا لَهَا وَلِيٌّ إلَّا أَخُوهَا
وَسِنُّهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ تَبْلُغْ الْحُلُمَ ؛ وَقَدْ عَقَدَ
عَلَيْهَا أَخُوهَا بِإِذْنِهَا : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا الْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ
أَجْوِبَتِهِ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
أَيْضًا . لَكِنَّ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ يَقُولُ : إذَا زُوِّجَتْ
بِإِذْنِهَا وَإِذْنِ أَخِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ إذَا
بَلَغَتْ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ يَقُولُ : تُزَوَّجُ بِلَا إذْنِهَا وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ . وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا . ثُمَّ عَنْهُ رِوَايَةٌ : إنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إلَى نِكَاحِهَا وَمِثْلُهَا يُوطَأُ جَازَ . وَقِيلَ : تُزَوَّجُ وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ . وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ : اتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ . وَالْقَوْلُ " الثَّالِثُ " وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ حَتَّى تَبْلُغَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ وَجَدٌّ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ يَجْبُرُ وَفِي نَفْسِهَا لَا إذْنَ لَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ ؛ فَتَعَذَّرَ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهَا وَإِذْنِ وَلَيِّهَا . و " الْقَوْلُ الْأَوَّلُ " أَصَحُّ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا فَإِنْ كَانَ لَهَا مَالٌ وَجَمَالٌ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُقْسِطْ فِي صَدَاقِهَا ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا فَنُهِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِ عَنْ نِكَاحِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ . وَقَوْلُهُ : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } يُفْتِيكُمْ وَنُفْتِيكُمْ فِي الْمُسْتَضْعَفِينَ . فَقَدْ أَخْبَرَتْ
عَائِشَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُ فِي تَزْوِيجِهَا إذَا أَقْسَطَ فِي صَدَاقِهَا وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهَا فِي حِجْرِهِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَحْجُورٌ عَلَيْهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا } فَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهَا وَمَنْعُهُ بِدُونِ إذْنِهَا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ } وَلَوْ أُرِيدُ " بِالْيَتِيمِ " مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ : فَبِطَرِيقِ الْمَجَازِ ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعُمَّ مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَمَا بَعْدَهُ . أَمَّا تَخْصِيصُ لَفْظِ " الْيَتِيمِ " بِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بِحَالِ ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ الْمُمَيِّزَ يَصِحُّ لَفْظُهُ مَعَ إذْنِ وَلِيِّهِ كَمَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَكَمَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ : عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } الْآيَةَ . فَأَمَرَ بِالِابْتِلَاءِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ؛ وَذَلِكَ قَدْ لَا يَأْتِي إلَّا بِالْبَيْعِ - وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ وَتَدْبِيرُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَكَذَلِكَ إسْلَامُهُ ؛ كَمَا يَصِحُّ صَوْمُهُ وَصَلَاتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ . فَإِذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِإِذْنِهَا مِنْ كُفُؤٍ جَازَ وَكَانَ هَذَا تَصَرُّفًا بِإِذْنِهَا وَهُوَ مَصْلَحَةٌ لَهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مُصَحِّحٌ لِتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بِنْتٍ دُونَ الْبُلُوغِ وَحَضَرَ مَنْ يَرْغَبُ فِي تَزْوِيجِهَا : فَهَلْ
يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ الْخَاطِبُ لَهَا كُفُؤًا جَازَ تَزْوِيجُهَا فِي
أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي
الْمَشْهُورِ عَنْهُ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تُزَوَّجُ بِلَا أَمْرِهَا
وَلَهَا الْخِيَارُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ؛ إذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ زُوِّجَتْ بِإِذْنِهَا
وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى
تُسْتَأْذَنَ فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ
عَلَيْهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَغَيْرُهُمَا . وَتَزْوِيجُ
" الْيَتِيمَةِ " ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ تَعَالَى : {
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الْوِلْدَانِ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي
يَرْغَبُ وَلِيُّهَا أَنْ يَنْكِحَهَا إذَا كَانَ لَهَا مَالٌ وَلَا يَنْكِحَهَا
إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ حَتَّى يُقْسِطُوا
لَهُنَّ فِي الصَّدَاقِ . فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُنْكِحَ
الْيَتِيمَةَ ؛ إذَا أَصْدَقَهَا صَدَاقَ الْمِثْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ يَتِيمَةً صَغِيرَةً وَعَقَدَ عَقْدَهَا الشَّافِعِيُّ
الْمَذْهَبِ وَلَمْ تُدْرِكْ إلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ بِشَهْرَيْنِ : فَهَلْ هَذَا
الْعَقْدُ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا " الْيَتِيمَةُ " الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ قَبْلُ لَا يُجْبِرُهَا
عَلَى تَزْوِيجِهَا غَيْرُ الْأَبِ . وَالْجَدِّ . وَالْأَخِ وَالْعَمِّ
وَالسُّلْطَانِ الَّذِي هُوَ الْحَاكِمُ أَوْ نُوَّابِ الْحَاكِمِ فِي الْعُقُودِ
: لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . " أَحَدُهَا " لَا
يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ ؛ وَالْإِمَامُ أَحْمَد فِي
رِوَايَةٍ . " وَالثَّانِي " يَجُوزُ النِّكَاحُ بِلَا إذْنِهَا وَلَهَا
الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَد . و " الثَّالِثُ " أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِإِذْنِهَا ؛ وَلَا
خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ . وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد .
فَهَذِهِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ يَجُوزُ نِكَاحُهَا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَلَوْ زَوَّجَهَا حَاكِمٌ يَرَى ذَلِكَ : فَهَلْ
يَكُونُ تَزْوِيجَهُ
حُكْمًا
لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ ؟ أَوْ يَفْتَقِرُ إلَى حَاكِمٍ غَيْرِهِ يَحْكُمُ
بِصِحَّةِ ذَلِكَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا : أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ . لَكِنَّ الْحَاكِمَ الْمُزَوِّجَ هنا
شَافِعِيٌّ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَلَّدَ قَوْلَ مَنْ يُصَحِّحُ هَذَا النِّكَاحَ
وَرَاعَى سَائِرَ شُرُوطِهِ وَكَانَ مِمَّنْ لَهُ ذَلِكَ : جَازَ . وَإِنْ كَانَ
قَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ جَائِزٍ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَنَّهَا بَالِغًا فَزَوَّجَهَا فَكَانَتْ غَيْرَ بَالِغٍ لَمْ
يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ قَدْ زَوَّجَهَا ؛ وَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ صَغِيرَةً فَرَبَّاهَا فَلَمَّا بَلَغَتْ زَوَّجَهَا
الْحَاكِمُ لَهُ وَرُزِقَ مِنْهَا أَوْلَادًا ؛ ثُمَّ وُجِدَ لَهَا أَخٌ بَعْدَ
ذَلِكَ : فَهَلْ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحٌ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ لَهَا أَخٌ غَائِبٌ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ
حِينَئِذٍ لَهَا أَخٌ لِكَوْنِهَا ضَاعَتْ مِنْ أَهْلِهَا حِينَ صِغَرِهَا إلَى
مَا بَعْدَ النِّكَاحِ : لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ الْمَذْكُورُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بِنْتٍ يَتِيمَةٍ وَقَدْ طَلَبَهَا رَجُلٌ وَكِيلٌ عَلَى جِهَاتِ
الْمَدِينَةِ وَزَوْجُ أُمِّهَا كَارِهٌ فِي الْوَكِيلِ . فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ
يُزَوِّجَهَا عَمُّهَا وَأَخُوهَا بِلَا إذْنٍ مِنْهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمَرْأَةُ الْبَالِغُ لَا يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأَبِ
وَالْجَدِّ بِغَيْرِ إذْنِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ لَا
يُزَوِّجُهَا الْأَبُ إلَّا بِإِذْنِهَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ
فِي أَصَحِّهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا
تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي ؟ قَالَ : إذْنُهَا
صُمَاتُهَا } وَفِي لَفْظٍ { يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا }
وَأَمَّا الْعَمُّ وَالْأَخُ فَلَا يُزَوِّجَانِهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا رَضِيَتْ رَجُلًا وَكَانَ كُفُؤًا لَهَا وَجَبَ عَلَى
وَلِيِّهَا - كَالْأَخِ ثُمَّ الْعَمِّ - أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ فَإِنْ عَضَلَهَا
وَامْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ مِنْهُ أَوْ
الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ
أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى نِكَاحِ مَنْ لَا تَرْضَاهُ ؛ وَلَا يَعْضُلُهَا عَنْ
نِكَاحِ مَنْ تَرْضَاهُ إذَا كَانَ كُفُؤًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ وَإِنَّمَا
يُجْبِرُهَا وَيَعْضُلُهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَالظَّلَمَةُ الَّذِينَ
يُزَوِّجُونَ نِسَاءَهُمْ لِمَنْ يَخْتَارُونَهُ لِغَرَضِ ؛ لَا لِمَصْلَحَةِ
الْمَرْأَةِ وَيُكْرِهُونَهَا عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُخْجِلُونَهَا حَتَّى تَفْعَلَ .
وَيَعْضُلُونَهَا عَنْ نِكَاحِ مَنْ يَكُونُ كُفُؤًا لَهَا لِعَدَاوَةِ
أَوْ
غَرَضٍ . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَهُوَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
تَحْرِيمِهِ وَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي
مَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ ؛ لَا فِي أَهْوَائِهِمْ كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ
وَالْوُكَلَاءِ مِمَّنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ مَصْلَحَةَ مَنْ
تَصَرَّفَ لَهُ لَا يَقْصِدُ هَوَاهُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأَمَانَةِ الَّتِي
أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُؤَدَّى إلَى أَهْلِهَا فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وَهَذَا مِنْ النَّصِيحَةِ
الْوَاجِبَةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ . قَالُوا
لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ
وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَقَعَدَتْ مَعَهُ أَيَّامًا وَجَاءَ أُنَاسٌ
ادَّعَوْا أَنَّهَا فِي مِلْكِهِمْ وَأَخَذُوهَا مِنْ بَيْتِهِ وَنَهَبُوهُ ؛
وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا : فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا وَهِيَ حَامِلٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَبِنْ لِلزَّوْجِ أَنَّهَا أَمَةٌ ؛ بَلْ
تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا مُطْلَقًا كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ؛ وَظَنَّ أَنَّهَا
حُرَّةٌ ؛ وَقِيلَ لَهُ : إنَّهَا حُرَّةٌ : فَهُوَ مَغْرُورٌ وَوَلَدُهُ مِنْهَا
حُرٌّ ؛ لَا رَقِيقٌ . وَأَمَّا " النِّكَاحُ " فَبَاطِلٌ إذَا لَمْ
يُجِزْهُ السَّيِّدُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ أَجَازَهُ السَّيِّدُ
صَحَّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛
وَلَمْ يَصِحَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
؛ بَلْ يَحْتَاجُ
إلَى
نِكَاحٍ جَدِيدٍ . وَأَمَّا إنْ ظَهَرَتْ حَامِلًا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ :
فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ ؛ وَلَا صَدَاقَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ
بِهَا ؛ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بَلْ كُلُّ مَا
أُخِذَ مِنْ مَالِهِ رُدَّ إلَيْهِ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ تَزْوِيجِ الْمَمَالِيكِ بِالْجَوَارِي مِنْ غَيْرِ عِتْقٍ إذَا كَانُوا
لِمَالِكِ وَاحِدٍ ؟ وَمَنْ يَعْقِدُ طَرَفَيْ النِّكَاحَ فِي الطَّرَفَيْنِ لَهُمَا
؟ وَلِأَوْلَادِهِمَا ؟ وَهَلْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَسَرَّى بِهِنَّ ؟
فَأَجَابَ :
تَزْوِيجُ الْمَمَالِيكِ بِالْإِمَاءِ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانُوا لِمَالِكِ وَاحِدٍ
أَوْ لِمَالِكَيْنِ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الرِّقِّ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ
عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِي يُزَوِّجُ الْأَمَةَ سَيِّدُهَا
أَوْ وَكِيلُهُ . وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَهُوَ يَقْبَلُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ
إذَا كَانَ كَبِيرًا أَوْ يَقْبَلُ لَهُ وَكِيلُهُ . وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا
فَسَيِّدُهُ يَقْبَلُ لَهُ . فَإِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ لَهُ قَالَ بِحَضْرَةِ
شَاهِدَيْنِ : زَوَّجْت مَمْلُوكِي فُلَانٌ بِأَمَتِي فُلَانَةٍ وَيَنْعَقِدُ
النِّكَاحُ بِذَلِكَ . وَأَمَّا الْعَبْدُ الْبَالِغُ : فَهَلْ لِسَيِّدِهِ أَنْ
يُزَوِّجَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَيُكْرِهَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ
لِلْعُلَمَاءِ " أَحَدُهُمَا " لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . " وَالثَّانِي " يُجْبِرُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَالْأَمَةُ فِي الْمَمْلُوكِ الصَّغِيرِ
يُزَوِّجُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِهِمَا بِالِاتِّفَاقِ .
وَأَمَّا
" الْأَوْلَادُ " فَهُمْ تَبَعٌ لِأُمِّهِمْ فِي " الْحُرِّيَّةِ
وَالرِّقِّ " وَهُمْ تَبَعٌ لِأَبِيهِمْ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَمَنْ كَانَ سَيِّدَ الْأُمِّ كَانَ أَوْلَادُهَا
لَهُ سَوَاءً وُلِدُوا مِنْ زَوْجٍ أَوْ مِنْ زِنًا . كَمَا أَنَّ الْبَهَائِمَ
مِنْ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ إذَا نَزَا ذَكَرُهَا عَلَى أُنْثَاهَا
كَانَ الْأَوْلَادُ لِمَالِكِ الْأُمِّ . وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَقَةً أَوْ
حُرَّةَ الْأَصْلِ وَالْأَبُ مَمْلُوكًا كَانَ الْأَوْلَادُ أَحْرَارًا . وَأَمَّا
" النَّسَبُ " فَإِنَّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إلَى أَبِيهِمْ . وَإِذَا
كَانَ الْأَبُ عَتِيقًا وَالْأُمُّ عَتِيقَةً كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى مَوَالِي
الْأَبِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَمْلُوكًا انْتَسَبُوا إلَى مَوَالِي الْأُمِّ
فَإِنْ عَتَقَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ انْجَرَّ الْوَلَاءُ مِنْ مَوَالِي الْأُمِّ
إلَى مَوَالِي الْأَبِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَمَنْ
كَانَ مَالِكًا لِلْأُمِّ مَلَكَ أَوْلَادَهَا وَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى
بِالْبَنَاتِ مِنْ أَوْلَادِ إمَائِهِ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَمْتِعُ بِالْأُمِّ
فَإِنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِبَنَاتِهَا ؛ فَإِنْ اسْتَمْتَعَ بِالْأُمِّ فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِبَنَاتِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ شَرِيفٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغٌ لِرَجُلِ غَيْرِ
شَرِيفٍ مَغْرِبِيٍّ مَعْرُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ بِالصَّلَاحِ بِرِضَا ابْنَتِهِ
وَإِذْنِهَا وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا الْأَبُ بِالرِّضَا : فَهَلْ يَكُونُ
ذَلِكَ قَادِحًا فِي الْعَقْدِ أَمْ لَا ؟ مَعَ اسْتِمْرَارِ الزَّوْجَةِ بِالرِّضَا
وَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَقَدَحَ قَادِحٌ فَأَشْهَدَتْ الزَّوْجَةُ
أَنَّ الرِّضَا وَالْإِذْنَ صَدَرَا مِنْهَا : فَهَلْ يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ
تَجْدِيدُ الْعَقْدِ ؟
فَأَجَابَ
: لَا تَفْتَقِرُ صِحَّةُ النِّكَاحِ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى إذْنِ الْمَرْأَةِ
قَبْلَ النِّكَاحِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا وَجْهًا ضَعِيفًا فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ بَلْ قَالَ : إذَا قَالَ الْوَلِيُّ :
أَذِنَتْ لِي جَازَ عَقْدُ النِّكَاحِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْوَلِيِّ
وَالزَّوْجِ . ثُمَّ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَنْكَرَتْ : فَالنِّكَاحُ
ثَابِتٌ . هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ .
وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إذَا
لَمْ تَأْذَنْ حَتَّى عُقِدَ النِّكَاحُ جَازَ وَتُسَمَّى : " مَسْأَلَةُ
وَقْفِ الْعُقُودِ " كَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِدُونِ إذْنِ
مَوَالِيهِ ؛ فَهُوَ عَلَى هَذَا النِّزَاعِ . أَمَّا " الْكَفَاءَةُ فِي
النَّسَبِ " فَالنَّسَبُ مُعْتَبَرٌ عِنْد مَالِكٍ . أَمَّا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : فَهِيَ
حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ فَإِذَا رَضُوا بِدُونِ كُفْءٍ جَازَ وَعِنْدَ
أَحْمَد هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ مَعَ فِرَاقِهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَةَ أَخِيهِ مِنْ ابْنِهِ وَالزَّوْجُ فَاسِقٌ لَا
يُصَلِّي وَخَوَّفُوهَا حَتَّى أَذِنَتْ فِي النِّكَاحِ وَقَالُوا : إنْ لَمْ
تَأْذَنِي وَإِلَّا زَوَّجَك الشَّرْعُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِك وَهُوَ الْآنَ
يَأْخُذُ مَالَهَا ؛ وَيَمْنَعُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا لِكَشْفِ حَالِهَا :
كَأُمِّهَا وَغَيْرِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِلْعَمِّ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ
يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ بِغَيْرِ كُفْءٍ إذَا لَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً بِذَلِكَ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ
الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ ؛ بَلْ لَوْ
رَضِيَتْ هِيَ بِغَيْرِ كُفْءٍ كَانَ لِوَلِيِّ آخَرَ غَيْرَ الْمُزَوِّجِ أَنْ
يَفْسَخَ النِّكَاحَ ؛ وَلَيْسَ لِلْعَمِّ أَنْ يُكْرِهَ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ
عَلَى النِّكَاحِ بِكُفْءِ . فَكَيْفَ إذَا أَكْرَهَهَا عَلَى التَّزْوِيجِ
بِغَيْرِ كُفْءٍ بَلْ لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا بِمَنْ تَرْضَاهُ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا قَالَ لَهَا : إنْ لَمْ تَأْذَنِي وَإِلَّا زَوَّجَك
الشَّرْعَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِك . فَأَذِنَتْ بِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ هَذَا
الْإِذْنُ وَلَا النِّكَاحُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَا
يُمَكِّنُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ إجْبَارِ الصَّغِيرَةِ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي " الْأَبِ وَالْجَدِّ
" فِي الْكَبِيرَةِ وَفِي الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا . وَإِذَا تَزَوَّجَهَا
بِنِكَاحِ صَحِيحٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِمَا يَجِبُ لَهَا وَلَا
يَتَعَدَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا وَلَا مَالِهَا . وَمَا أَخَذَهُ مِنْ ذَلِكَ
ضَمِنَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَكْشِفُ حَالَهَا إذَا اشْتَكَتْ بَلْ
إمَّا أَنْ يُمَكِّنَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَيَكْشِفُ حَالَهَا : كَالْأُمِّ
وَغَيْرِهَا . وَإِمَّا أَنْ تُسَكَّنَ بِجَنْبِ جِيرَانٍ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ
وَالدِّينُ يَكْشِفُونَ حَالَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَبْدٌ وَقَدْ حَبَسَ نَفْسَهُ وَقَصَدَ الزَّوَاجَ : فَهَلْ
لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ لَهُ التَّزَوُّجُ عَلَى أَصْلِ مَنْ يُجْبِرُ السَّيِّدُ عَلَى
تَزْوِيجِهِ كَمَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛
فَإِنَّ تَزْوِيجَهُ كَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ
مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } فَأَمَرَ بِتَزْوِيجِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ
كَمَا أَمَرَ بِتَزْوِيجِ الْأَيَامَى . وَتَزْوِيجُ الْأَمَةِ إذَا طَلَبَتْ
النِّكَاحَ مِنْ كُفْءٍ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَاَلَّذِي يَأْذَنُ
لَهُ فِي النِّكَاحِ مَالِكُ نِصْفَهُ أَوْ وَكِيلُهُ وَنَاظِرُ النَّصِيبِ
الْمُحْبَسِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ عَتِيقَةَ بَعْضِ بَنَاتِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ
الرَّقِيقَ مِنْ مَالِهِمْ وَمَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إذْنِ مُعْتِقِهَا :
فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا أَعْتَقَهَا مِنْ مَالِهَا عِتْقًا شَرْعِيًّا فَالْوِلَايَةُ لَهَا
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ الَّتِي تَرِثُهَا ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهَا
مِنْ بَعْدِهَا .
وَأَمَّا
تَزْوِيجُ هَذِهِ " الْعَتِيقَةِ " بِدُونِ إذْنِ الْمُعْتِقَةِ ؟
فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ
إذْنَ الْوَلِيِّ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
يَقُولُ بِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ يَصِحُّ عِنْدَهُ ؛ لَكِنْ مَنْ يَشْتَرِطُ
إذْنَ الْوَلِيِّ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَهُمْ قَوْلَانِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد " إحْدَاهُمَا "
أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ الْمُعْتِقَةِ فَإِنَّهَا عَصَبَتُهَا .
وَعَلَى هَذَا : فَهَلْ لِلْمَرْأَةِ نَفْسِهَا أَنْ تُزَوِّجَهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . و " الثَّانِي " أَنَّ
تَزْوِيجَهَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْمُعْتِقَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ
وَلِيَّةً لِنَفْسِهَا فَلَا تَكُونُ وَلِيَّةً لِغَيْرِهَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَا
يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا عِنْدَهُمْ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِهَا فَعَلَى هَذَا
يُزَوِّجُ هَذِهِ الْمُعْتِقَةِ مَنْ يُزَوِّجُ مُعْتَقِهَا بِإِذْنِ الْعَتِيقَةِ
: مِثْلُ أَخ الْمُعْتِقَةِ وَنَحْوِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ
النِّكَاحِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا وَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ جَازَ ؛
وَإِلَّا فَلَا . وَإِنْ كَانُوا أَهْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْوَلَاءُ
لَهُمْ وَالْحَاكِمُ يُزَوِّجُهَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَة فَسُئِلَ عَنْ نَفَقَتِهِ ؟ فَقِيلَ لَهُ : مِنْ
الْجِهَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ شَيْءٌ فَأَبَى الْوَلِيُّ تَزْوِيجَهَا فَذَكَرَ
الْخَاطِبُ أَنَّ فُقَهَاءَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَّزُوا تَنَاوُلَ ذَلِكَ : فَهَلْ
ذَكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي جَوَازِ تَنَاوُلِهِ مِنْ الْجِهَاتِ ؟ وَهَلْ
لِلْوَلِيِّ الْمَذْكُورِ دَفْعُ الْخَاطِبِ بِهَذَا السَّبَبِ مَعَ رِضَاءِ
الْمَخْطُوبَةِ ؟
فَأَجَابَ
: أَمَّا الْفُقَهَاءُ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ فَلَمْ
يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ جَوَازَ ذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ
" السَّلْجُوقِيَّةِ " أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ بِجَوَازِ ذَلِكَ وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي
" كِتَابِهِ " إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَقَدْ
كَانَ " نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الشَّهِيدُ التُّرْكِيُّ " قَدْ
أَبْطَلَ جَمِيعَ الْوَظَائِفِ الْمُحْدَثَةِ بِالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ .
وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَكَانَ أَعْرَفَ النَّاسِ بِالْجِهَادِ . وَهُوَ الَّذِي
أَقَامَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ اسْتِيلَاءِ " الْإِفْرِنْجِ وَالْقَرَامِطَةِ
" عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَمَنْ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُ حُكْمَهُ
مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا سَائِغًا - لَا سِيَّمَا مَعَ حَاجَتِهِ - لَمْ يُجْعَلْ
فَاسِقًا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ فَالْوَلِيُّ لَهُ أَنْ
يَمْنَعَ مُوَلِّيَتَهُ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُ مِثْلَ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي
يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا ؛ لَا سِيَّمَا أَنَّ رِزْقَهَا مِنْهُ فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ
يُطْعِمُهَا مَنْ غَيْرِهِ أَوْ تَأْكُلُ هِيَ مَنْ غَيْرِهِ : فَلَهُ أَنْ
يُزَوِّجَهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُتَأَوِّلًا فِيمَا يَأْكُلُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ لِشَخْصِ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَأَقَامَ
فِي صُحْبَةِ الزَّوْجَةِ سِنِينَ فَعَلِمَ الْوَلِيُّ وَالزَّوْجَةُ مَا
الزَّوْجُ عَلَيْهِ : مِنْ النَّجَسِ وَالْفَسَادِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْكَذِبِ
وَالْأَيْمَانِ الْخَائِنَةِ فَبَانَتْ الزَّوْجَةُ مِنْهُ بِالثَّلَاثِ : فَهَلْ
يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الْإِقْدَامُ عَلَى تَزْوِيجِهِ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ إنَّ
الْوَلِيَّ استتوب الزَّوْجَ مِرَارًا عَدِيدَةً وَنَكَثَ وَلَمْ يَرْجِعْ :
فَهَلْ يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْفِسْقِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ
تَزْوِيجُهَا لَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنَّ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ
فَاجِرٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا . لَكِنْ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَابَ فَتُزَوَّجُ
بِهِ إذَا كَانَ كُفُؤًا لَهَا وَهِيَ رَاضِيَةٌ بِهِ . وَأَمَّا " نِكَاحُ
التَّحْلِيلِ " فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .
وَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ " الرَّافِضَةِ " هَلْ تُزَوَّجُ ؟
فَأَجَابَ :
الرَّافِضَةُ الْمَحْضَةُ هُمْ أَهْلُ أَهْوَاءٍ وَبِدَعٍ وَضَلَالٍ وَلَا
يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ رافضي وَإِنْ تَزَوَّجَ
هُوَ رافضية صَحَّ النِّكَاحُ إنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ تَتُوبَ وَإِلَّا فَتَرْكُ
نِكَاحِهَا أَفْضَلُ لِئَلَّا تُفْسِدَ عَلَيْهِ وَلَدَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرافضي وَمَنْ يَقُولُ لَا تَلْزَمُهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ : هَلْ
يَصِحُّ نِكَاحُهُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؟ فَإِنْ تَابَ مِنْ الرَّفْضِ
وَلَزِمَ الصَّلَاةَ حِينًا ثُمَّ عَادَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ : هَلْ يُقَرُّ
عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ النِّكَاحِ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُنْكِحَ مُوَلِّيَتَهُ رافضيا وَلَا مَنْ يَتْرُكُ
الصَّلَاةَ . وَمَتَى زَوَّجُوهُ عَلَى أَنَّهُ سُنِّيٌّ فَصَلَّى الْخَمْسَ ثُمَّ
ظَهَرَ أَنَّهُ رافضي لَا يُصَلِّي أَوْ عَادَ إلَى الرَّفْضِ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ
: فَإِنَّهُمْ يَفْسَخُونَ النِّكَاحَ .
بَابُ
الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ
قَاعِدَةٌ فِي الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ نَسَبًا وَصِهْرًا
سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : عَنْ بَيَانِهَا مُخْتَصِرًا ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ
" بِالنَّسَبِ " فَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ أَقَارِبِ الرَّجُلِ
مِنْ النَّسَبِ حَرَامٌ عَلَيْهِ ؛ إلَّا بَنَاتَ أَعْمَامِهِ ؛ وَأَخْوَالِهِ
وَعَمَّاتِهِ وَخَالَاتِهِ . وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ هُنَّ اللَّاتِي
أَحَلَّهُنَّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ
أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ
عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي
هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ
أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةَ . فَأَحَلَّ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النِّسَاءِ أَجْنَاسًا أَرْبَعَةً ؛ وَلَمْ يَجْعَلْ
خَالِصًا لَهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا الْمَوْهُوبَةَ ؛ الَّتِي تَهَبُ
نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ؛ فَجَعَلَ هَذِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ : لَهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَ الْمَوْهُوبَةَ بِلَا مَهْرٍ وَلَيْسَ هَذَا لِغَيْرِهِ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ . بَلْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَحِلَّ بُضْعَ امْرَأَةٍ إلَّا
مَعَ وُجُوبِ مَهْرٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُقَدِّرْ
لَهَا مَهْرًا : صَحَّ النِّكَاحُ وَوَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ إذَا دَخَلَ بِهَا ؛
وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ ؛ بَلْ
لَهَا الْمُتْعَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ . وَهِيَ " مَسْأَلَةُ { بروع بِنْتِ وَاشِقٍ الَّتِي اُسْتُفْتِيَ عَنْهَا ابْنُ مَسْعُودٍ شَهْرًا ثُمَّ قَالَ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي ؛ فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ ؛ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ : لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ . فَقَامَ رِجَالٌ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَا قَضَيْت بِهِ فِي هَذِهِ } قَالَ عَلْقَمَةُ : فَمَا رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ فَرِحَ بِشَيْءِ كَفَرَحِهِ بِذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي أَجَابَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ . وَتَنَازَعُوا فِي " النِّكَاحِ إذَا شُرِطَ فِيهِ نَفْيُ الْمَهْرِ " هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : " أَحَدُهُمَا " يَبْطُلُ النِّكَاحُ كَقَوْلِ مَالِكٍ . و " الثَّانِي " يَصِحُّ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ : هُوَ " نِكَاحُ الشَّغَارِ " الَّذِي أَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ نَفَى فِيهِ الْمَهْرَ وَجَعَلَ الْبُضْعَ مَهْرًا لِلْبُضْعِ . وَهَذَا تَعْلِيلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كَلَامِهِ ؛ وَهَذَا تَعْلِيلُ أَكْثَرِ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . وَالْآخَرُونَ : مِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ نِكَاحَ الشِّغَارِ كَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَقَوْلُهُ أَقْيَسُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ؛ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَبْطَلُوا نِكَاحَ الشِّغَارِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُبْطِلُهُ
وَيُعَلِّلُ الْبُطْلَانَ إمَّا بِدَعْوَى التَّشْرِيكِ فِي الْبُضْعِ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِلَلِ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ . " وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ " أَشْبَهُ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ مَعَ الْمَهْرِ بِلَفْظِ " التَّمْلِيكِ " و " الْهِبَةِ " وَغَيْرِهِمَا : فَجَوَّزَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ ؛ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نُصُوصُ أَحْمَد ؛ وَكَلَامُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُمَا ؛ وَلَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا قَالَ هَذَا قَبْلَ ابْنِ حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِنِكَاحِ الْمَوْهُوبَةِ بِقَوْلِهِ : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَ مَا أَحَلَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَالٌ لِأُمَّتِهِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } فَلَمَّا أَحَلَّ امْرَأَةَ الْمُتَبَنِّي لَا سِيَّمَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ ذَلِكَ إحْلَالًا لِلْمُؤْمِنِينَ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِحْلَالَ لَهُ إحْلَالٌ لِأُمَّتِهِ وَقَدْ أَبَاحَ لَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ وَتَخْصِيصُهُنَّ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا سِوَاهُنَّ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } أَيْ مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ
اللَّاتِي أَحْلَلْنَاهُنَّ لَك وَهُنَّ الْمَذْكُورَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ } فَدَخَلَ فِي " الْأُمَّهَاتِ " أُمُّ أَبِيهِ وَأُمُّ أُمِّهِ وَإِنْ عَلَتْ بِلَا نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ دَخَلَ فِي " الْبَنَاتِ " بِنْتُ ابْنِهِ وَبِنْتُ ابْنِ ابْنَتِهِ وَإِنْ سَفَلَتْ بِلَا نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ . وَكَذَلِكَ دَخَلَ فِي " الْأَخَوَاتِ " الْأُخْتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَبُ وَالْأُمِّ . وَدَخَلَ فِي " الْعَمَّاتِ " و " الْخَالَاتِ " عَمَّاتُ الْأَبَوَيْنِ وَخَالَاتُ الْأَبَوَيْنِ . وَفِي " بَنَاتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ " وَلَدُ الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفُلْنَ فَإِذَا حَرُمَ عَلَيْهِ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ وَفُرُوعُ أُصُولِهِ الْبَعِيدَةِ ؛ دُونَ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ . وَأَمَّا " الْمُحَرَّمَاتُ بِالصِّهْرِ " فَيَقُولُ : كُلُّ نِسَاءِ الصِّهْرِ حَلَالٌ لَهُ إلَّا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ بِخِلَافِ الْأَقَارِبِ . فَأَقَارِبُ الْإِنْسَانِ كُلُّهُنَّ حَرَامٌ ؛ إلَّا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ . وَأُقَارِبُ الزَّوْجَيْنِ كُلُّهُنَّ حَلَالٌ ؛ إلَّا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ وَهُنَّ حَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُهُنَّ . فَيَحْرُمُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أُصُولُ الْآخَرِ وَفُرُوعُهُ . وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ امْرَأَتِهِ ؛ وَأُمُّ أُمِّهَا وَأَبِيهَا وَإِنْ عَلَتْ . وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنْتُ امْرَأَتِهِ وَهِيَ الرَّبِيبَةُ وَبِنْتُ بِنْتِهَا وَإِنْ سَفَلَتْ وَبِنْتُ الرَّبِيبِ أَيْضًا حَرَامٌ ؛ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمَشْهُورُونَ : الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا . وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا ؛ وَامْرَأَةِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ . فَهَؤُلَاءِ " الْأَرْبَعَةُ " هُنَّ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ وَكُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ
يَكُونُ أَقَارِبُ الْآخَرِ أَصْهَارًا لَهُ وَأَقَارِبُ الرَّجُلِ أَحْمَاءُ الْمَرْأَةِ ؛ وَأَقَارِبُ الْمَرْأَةِ أَخْتَانُ الرَّجُلِ . وَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ ؛ إلَّا الرَّبِيبَةَ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ حَتَّى يَدْخُلَ بِأُمِّهَا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا الشَّرْطَ إلَّا فِي الرَّبِيبَةِ وَالْبَوَاقِي أَطْلَقَ فِيهِنَّ التَّحْرِيمَ . فَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ : أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ . وَعَلَى هَذَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا بَنَاتُ هَاتَيْنِ وَأُمَّهَاتُهُمَا فَلَا يَحْرُمْنَ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ امْرَأَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ فَإِنَّ " الْحَلِيلَةَ " هِيَ الزَّوْجَةُ . وَبِنْتُ الزَّوْجَةِ وَأُمُّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً ؛ بِخِلَافِ الرَّبِيبَةِ فَإِنَّ وَلَدَ الرَّبِيبِ رَبِيبٌ ؛ كَمَا أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ وَلَدٌ وَكَذَلِكَ أُمُّ أُمِّ الزَّوْجَةِ أُمٌّ لِلزَّوْجَةِ وَبِنْتُ أُمِّ الزَّوْجَةِ لَمْ تَحْرُمْ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ أُمًّا . فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : بَنَاتُ الْمُحَرَّمَاتِ مُحَرَّمَاتٌ ؛ إلَّا بَنَاتُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ . فَجَعَلَ بِنْتَ الرَّبِيبَةِ مُحَرَّمَةً ؛ دُونَ بَنَاتِ الثَّلَاثَةِ . وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا . وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً بِمَا يَعْتَقِدُهُ نِكَاحًا فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَيَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا أَعْلَمُ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا عِنْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : مِثْلُ الْكَافِرِ إذَا تَزَوَّجَ نِكَاحًا مُحَرَّمًا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ هَذَا يَلْحَقُهُ فِيهِ النَّسَبُ وَتَثْبُتُ بِهِ الْمُصَاهَرَةُ . فَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُصُولُ الْآخَرِ وَفُرُوعُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ كُلُّ وَطْءٍ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ حَرَامًا وَهُوَ حَرَامٌ : مِثْلَ
مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا وَطَلَّقَهَا وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ لِخَطَئِهِ أَوْ لِخَطَأِ مَنْ أَفْتَاهُ فَوَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَجَاءَهُ وَلَدٌ : فَهُنَا يَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَتَكُونُ هَذِهِ مَدْخُولًا بِهَا : فَتَحْرُمُ ؛ وَإِنْ كَانَتْ لَهَا أُمٌّ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَالْكُفَّارُ إذَا تَزَوَّجَ أَحَدُهُمْ امْرَأَةً نِكَاحًا يَرَاهُ فِي دِينِهِ وَأَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُهُ - كَمَا جَرَى لِلْعَرَبِ الَّذِينَ أَسْلَمَ أَوْلَادُهُمْ وَكَمَا يَجْرِي فِي هَذَا الزَّمَانِ كَثِيرًا - فَهَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ ابْنِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ نِكَاحُهَا فَاسِدًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَالنَّسَبُ يَتْبَعُ بِاعْتِقَادِ الْوَطْءِ لِلْحِلِّ ؛ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ . وَالْمُصَاهَرَةُ تَتْبَعُ النَّسَبَ . فَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فَالْمُصَاهَرَةُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَكَذَلِكَ " حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ " يَتْبَعُ اعْتِقَادَ أَبِيهِ ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي " النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ " وَيَتْبَعُ أُمَّهُ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَيَتْبَعُ فِي الدِّينِ خَيْرَهُمَا دِينًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . فَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحِ أَوْ زِنًا كَانَ وَلَدُهُ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهَا ؛ وَإِنْ اشْتَرَاهَا مِمَّنْ ظَنَّ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا يَظُنُّهَا حُرَّةً فَهَذَا يُسَمَّى " الْمَغْرُورَ " وَوَلَدُهَا حُرٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَطَأُ مَنْ يَصِيرُ الْوَلَدُ بِوَطْئِهَا حُرًّا فَالنَّسَبُ وَالْحُرِّيَّةُ يَتْبَعُ اعْتِقَادَ الْوَاطِئِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا ؛ فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الزِّنَا الْمَحْضِ هَلْ يَنْشُرُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . التَّحْرِيمُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَالْجَوَازُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ سُرِّيَّةٌ بِكِتَابِ ؛ ثُمَّ تُوُفِّيَ إلَى رَحْمَةِ
اللَّهِ ؛ وَلَهُ ابْنُ ابْنٍ وَقَدْ تَزَوَّجَ سُرِّيَّةَ جَدِّهِ الْمَذْكُورِ :
فَهَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُ سُرِّيَّةِ جَدِّهِ الَّتِي كَانَ يَطَؤُهَا
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ؛ وَلَا
يَحِلُّ إبْقَاؤُهُ مَعَهَا ؛ وَإِنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ ثَلَاثًا
فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا تَحْرِيمُ " الْجَمْعِ " فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
بِنَصِّ الْقُرْآنِ ؛ وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ؛ وَلَا بَيْنَ
الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا . لَا تُنْكَحُ الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى ؛ وَلَا الصُّغْرَى
عَلَى الْكُبْرَى ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ ؛ فَرُوِيَ
أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ بَيْنَ
أَرْحَامِكُمْ } . وَلَوْ رَضِيَتْ إحْدَاهُمَا بِنِكَاحِ الْأُخْرَى عَلَيْهَا
لَمْ يَجُزْ ؛ فَإِنَّ الطَّبْعَ يَتَغَيَّرُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا { عَرَضَتْ أُمُّ
حَبِيبَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ
أُخْتَهَا ؛ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَتْ :
لَسْت
لَك بِمُخَلِّيَةِ وَأَحَقُّ مَنْ شَرِكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي فَقَالَ :
إنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي . فَقِيلَ لَهُ : إنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّك نَاكِحٌ
دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ : لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي
لَمَا حَلَّتْ لِي . فَإِنَّهَا بِنْتُ أَخِي مِنْ الرِّضَاعِ أَرْضَعَتْنِي
وَأَبَاهَا أَبَا سَلَمَةَ ثويبة أَمَةُ أَبِي لَهَبٍ فَلَا تَعْرِضُنَّ عَلَيَّ
بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ } وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ .
و " الضَّابِطُ " فِي هَذَا : أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا
رَحِمٌ مُحَرَّمٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ
إحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّزَوُّجُ بِالْأُخْرَى ؛ لِأَجْلِ
النَّسَبِ . فَإِنَّ الرَّحِمَ الْمُحَرَّمَ لَهَا " أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ
" حُكْمَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا . وَحُكْمَانِ مُتَنَازَعٌ فِيهِمَا فَلَا
يَجُوزُ مِلْكُهُمَا بِالنِّكَاحِ وَلَا وَطْؤُهُمَا . فَلَا يَتَزَوَّجُ
الرَّجُلُ ذَاتَ رَحِمَهُ الْمُحَرَّمِ ؛ وَلَا يَتَسَرَّى بِهَا . وَهَذَا
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ بَلْ هُنَا يَحْرُمُ مِنْ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ
النَّسَبِ ؛ فَلَا تَحِلُّ لَهُ بِنِكَاحِ ؛ وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ ؛ وَلَا يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ النِّكَاحِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ ؛ وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَخَالَتِهَا . وَهَذَا أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَمْلِكَهُمَا ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّاهُمَا . فَمَنْ حَرَّمَ
جَمْعَهُمَا فِي النِّكَاحِ حَرَّمَ جَمْعَهُمَا فِي التَّسَرِّي فَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَتَسَرَّى الْأُخْتَيْنِ وَلَا الْأَمَةَ وَعَمَّتَهَا ؛ وَالْأَمَةَ
وَخَالَتَهَا . وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَكْثَرِ
الصَّحَابَةِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَتَسَرَّى مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبِ أَوْ رَضَاعٍ وَإِنَّمَا
تَنَازَعُوا فِي الْجَمْعِ فَتَوَقَّفَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِيهَا وَقَالَ :
أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ ؛ وَحَرَّمَتْهُمَا
آيَةٌ وَظَنَّ أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ قَدْ يَكُونُ كَتَحْرِيمِ الْعَدَدِ ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى مَا شَاءَ مِنْ الْعَدَدِ وَلَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِأَرْبَعِ . فَهَذَا تَحْرِيمٌ عَارِضٌ وَهَذَا عَارِضٌ بِخِلَافِ تَحْرِيمِ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ فَإِنَّهُ لَازِمٌ ؛ وَلِهَذَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِهَذَا وَلَا تَصِيرُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِذَلِكَ ؛ بَلْ أُخْتُ امْرَأَتِهِ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ لَا يَخْلُو بِهَا وَلَا يُسَافِرُ بِهَا كَمَا لَا يَخْلُو بِمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْ النِّسَاءِ ؛ لِتَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى الْعَدَدِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَطَعُوا بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . قَالُوا : لِأَنَّ كُلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ حَرَّمَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَآيَةُ التَّحْلِيلِ وَهِيَ قَوْلُهُ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إنَّمَا أُبِيحَ فِيهَا جِنْسُ الْمَمْلُوكَاتِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا مَا يُبَاحُ وَيَحْرُمُ مِنْ التَّسَرِّي كَمَا لَمْ يُذْكَرْ مَا يُبَاحُ وَيَحْرُمُ مِنْ الْمَمْهُورَاتِ وَالْمَرْأَةُ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً وَمُحْرِمَةً وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً أَوْ سُرِّيَّةً . وَتَحْرِيمُ الْعَدَدِ كَانَ لِأَجْلِ وُجُوبِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ فِي الْقِسْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } أَيْ : لَا تَجُورُوا فِي الْقَسْمِ هَكَذَا قَالَ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ . وَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ . وَقَالُوا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ . وَغَلِطَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى . أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ يُقَالُ : عَالَ يَعُولُ إذَا جَارَ . وَعَالَ يُعِيلُ إذَا افْتَقَرَ . وَأَعَالَ يُعِيلُ إذَا كَثُرَ عِيَالُهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { تَعُولُوا } لَمْ يَقُلْ : تُعِيلُوا . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّفَقَةِ وَالْعِيَالِ يَحْصُلُ بِالتَّسَرِّي كَمَا يَحْصُلُ بِالزَّوْجَاتِ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ أَبَاحَ
مِمَّا مَلَكَتْ الْيَمِينُ مَا شَاءَ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ عَدَدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَاتِ لَا يَجِبُ لَهُنَّ قَسْمٌ وَلَا يَسْتَحْقِقْنَ عَلَى الرَّجُلِ وَطْئًا ؛ وَلِهَذَا يَمْلِكُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا كَأُمِّ امْرَأَتِهِ وَبِنْتِهَا وَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَوْ كَانَ عِنِّينًا أَوْ مُولِيًا لَمْ يَجِبْ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا . وَالزَّوْجَاتُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ " وَخَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ " فَالْعَدْلُ الَّذِي يُطِيقُهُ عَامَّةُ النَّاسِ يَنْتَهِي إلَى الْأَرْبَعَةِ . وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ قَوَّاهُ عَلَى الْعَدْلِ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ - عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ - وَهُوَ وُجُوبُ الْقَسْمِ عَلَيْهِ وَسُقُوطَ الْقَسْمِ عَنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَحَقَّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَحَلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِلَا مَهْرٍ . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ " تَحْرِيمُ جَمْعِ الْعَدَدِ " إنَّمَا حَرُمَ لِوُجُوبِ الْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْمَمْلُوكَةِ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَسَرَّى بِأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ ؛ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ دَفْعًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ بَيْنَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ كَمَا يُوجَدُ فِي الزَّوْجَتَيْنِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالتَّسَرِّي حَصَلَ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّغَايُرِ مَا يَحْصُلُ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ فَيُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ . وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الشَّرْعِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ بِلَا نَسَبٍ أَوْ نَسَبٌ بِلَا حُرْمَةٍ . فَالْأَوَّلُ مِثْلَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَةِ زَوْجِهَا . كَمَا جَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ لَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيٍّ وَابْنَتِهِ .
وَهَذَا يُبَاحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا تَحْرُمُ عَلَى الْأُخْرَى فَذَاكَ تَحْرِيمٌ بِالْمُصَاهَرَةِ لَا بِالرَّحِمِ ؛ وَالْمَعْنَى إنَّمَا كَانَ بِتَحْرِيمِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ : مِثْلَ بِنْتِ الْعَمِّ وَالْخَالِ : فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ؛ لَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا رَحِمًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ وَأَمَّا " الْحُكْمَانِ الْمُتَنَازَعُ فِيهِمَا " فَهَلْ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ ذَا الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكٍ فَيَبِيعُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ ؟ هَاتَانِ فِيهِمَا نِزَاعٌ وَأَقْوَالٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . " وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ " يَزُولُ بِزَوَالِ النِّكَاحِ فَإِذَا مَاتَتْ إحْدَى الْأَرْبَعِ أَوْ الْأُخْتَيْنِ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا : كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَابِعَةً وَيَتَزَوَّجَ الْأُخْتَ الْأُخْرَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزَوُّجُ الْأُخْرَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ رَوَى عبيدة السلماني قَالَ : لَمْ يَتَّفِقْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْخَامِسَةَ لَا تُنْكَحُ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ وَلَا تُنْكَحُ الْأُخْتُ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرِثُ الْآخَرَ لَكِنَّهَا صَائِرَةٌ إلَى الْبَيْنُونَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا زَوْجَةً كَمَا لَوْ أَحَالَهَا إلَى أَجَلٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فِي رَأْسِ الْحَوْلِ فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَإِنَّ هَذِهِ صَائِرَةٌ إلَى بَيْنُونَةٍ
صُغْرَى ؛ وَمَعَ هَذَا فَهِيَ زَوْجَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا قِيلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْطِيَهُ الْعِوَضَ الْمُعَلَّقَ بِهِ فَيَدُومُ النِّكَاحُ ؟ قِيلَ : وَالرَّجْعِيَّةُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَيَدُومُ النِّكَاحُ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إنْ لَمْ تَلِدِي فِي هَذَا الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَكَانَتْ قَدْ بَقِيَتْ عَلَى وَاحِدَةٍ فَهَاهُنَا هِيَ زَوْجَةٌ لَا يَزُولُ نِكَاحُهَا إلَّا إذَا انْقَضَى الشَّهْرُ وَلَمْ تَلِدْ وَإِنْ كَانَتْ صَائِرَةً إلَى بَيْنُونَةٍ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا كَمَا تَنَازَعُوا فِي وَطْءِ الرَّجْعِيَّةِ ؟ وَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا : فَهَلْ يَتَزَوَّجُ الْخَامِسَةَ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ ؟ وَالْأُخْتَ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْجَوَازُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَالتَّحْرِيمُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْمٍ يَتَزَوَّجُ هَذَا أُخْتَ هَذَا ؛ وَهَذَا أُخْتَ هَذَا أَوْ
ابْنَتَهُ وَكُلَّمَا أَنْفَقَ هَذَا أَنْفَقَ هَذَا ؛ وَإِذَا كَسَا هَذَا كَسَا
هَذَا وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَفِي الْإِرْضَاءِ وَالْغَضَبِ : إذَا
رَضِيَ هَذَا رَضِيَ هَذَا وَإِذَا أَغْضَبَ هَذَا أَغْضَبَ الْآخَرَ : فَهَلْ
يَحِلُّ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يُمْسِكَ زَوْجَتَهُ بِمَعْرُوفِ أَوْ
يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ ؛ وَلَا لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ
الزَّوْجِ الْآخَرِ . فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا ؛
وَحَقُّهَا لَا يَسْقُطُ بِظُلْمِ أَبِيهَا وَأَخِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَظْلِمُ
زَوْجَتَهُ وَجَبَ إقَامَةُ الْحَقِّ عَلَيْهِ ؛ وَلَمْ يَحِلَّ لِلْآخَرِ أَنْ
يَظْلِمَ زَوْجَتَهُ لِكَوْنِهَا بِنْتًا لِلْأَوَّلِ . وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا
يَظْلِمُ زَوْجَتَهُ لِأَجْلِ ظُلْمِ الْآخَرِ فَيَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمَا
الْعُقُوبَةَ ؛ وَكَانَ لِزَوْجَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ تَطْلُبَ حَقَّهَا مِنْ
زَوْجِهَا ؛ وَلَوْ شَرَطَ هَذَا فِي النِّكَاحِ لَكَانَ هَذَا شَرْطًا بَاطِلًا
مِنْ جِنْسِ " نِكَاحِ الشَّغَارِ " وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ
أُخْتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَه
فَكَيْفَ إذَا زَوَّجَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَنْصَفَهَا أَنْصَفَ الْآخَرُ وَإِنْ
ظَلَمَهَا ظَلَمَ الْآخَرُ زَوْجَتَهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَزْجُرُهُ
عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِخَالَةِ إنْسَانٍ وَلَهُ بِنْتٌ فَتَزَوَّجَ بِهَا
فَجَمَعَ بَيْنَ خَالَتِهِ وَابْنَتِهِ : فَهَلْ يَصِحُّ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ خَالَةَ رَجُلٍ وَابْنَتِهِ بِأَنْ يَجْمَعَ
بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ
يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا }
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ
عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُ خَالَةَ الْأَبِ وَخَالَةَ الْأُمِّ
وَالْجَدَّةِ وَيَتَنَاوَلُ عَمَّةَ كُلٍّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَيْضًا فَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَةِ أَبِيهَا وَلَا خَالَةِ أُمِّهَا
عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ جَمَعَ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ بَيْنَ خَالَةِ رَجُلٍ وَابْنَةِ أَخ لَهُ
مِنْ الْأَبَوَيْنِ : فَهَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ الْأُخْرَى هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ
الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ خَالَةِ أَبِيهَا ؛ فَإِنَّ أَبَاهَا إذَا كَانَ أَخًا
لِهَذَا الْآخَرِ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ : كَانَتْ
خَالَةُ هَذَا خَالَةَ هَذَا ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَخَاهُ مِنْ أَبِيهِ فَقَطْ ؛ فَإِنَّهُ لَا تَكُونُ خَالَةُ أَحَدِهِمَا خَالَةَ الْآخَرِ ؛ بَلْ تَكُونُ عَمَّتَهُ . وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَةِ أَبِيهَا وَخَالَةِ أُمِّهَا أَوْ عَمَّةِ أَبِيهَا أَوْ عَمَّةِ أُمِّهَا : كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَإِذَا تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى كَانَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلًا لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ وَلَا يَجِبُ بِعَقْدِهِ مَهْرٌ وَلَا مِيرَاثٌ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ بِهَا وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَارَقَهَا كَمَا تُفَارَقُ الْأَجْنَبِيَّةُ فَإِنْ أَرَادَ نِكَاحَ الثَّانِيَةَ فَارَقَ الْأُولَى فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَ الثَّانِيَةَ ؛ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةِ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَمْ يَجُزْ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَجَازَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيّ . فَإِذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ بِلَا عِوَضٍ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأُولَى بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا فَإِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ وَلَا يَعْقِدُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأُولَى الْمُطَلَّقَةُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَوْطُوءَةَ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : " أَحَدُهُمَا " يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي " لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْقَوْلَانِ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً وَوَطِئَهَا ثُمَّ مَلَّكَهَا لِوَلَدِهِ . فَهَلْ
يَجُوزُ لِوَلَدِهِ وَطْؤُهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ اللَّه ، لَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ وَطْءِ أَبِيهِ
وَالْحَالُ هَذِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ
فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَفِي السُّنَنِ { عَنْ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : رَأَيْت خَالِي أَبَا بُرْدَةَ وَمَعَهُ
رَايَتُهُ فَقُلْت : إلَى أَيْنَ ؟ فَقَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَأَمَرَنِي
أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ } وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ
أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ وَطْئِهَا بِالنِّكَاحِ وَبَيْنَ وَطْئِهَا بِمِلْكِ
الْيَمِينِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنْ مُدَّةٍ سَنَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا
وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْإِصَابَةِ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِالْأُمِّ
بَعْدَ طَلَاقِ الْبِنْتِ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ أُمِّ امْرَأَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُرْضِعَةٌ لِوَلَدِهِ فَلَبِثَتْ
مُطَلَّقَةً ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلِ آخَرَ فَلَبِثَتْ
مَعَهُ دَوْرَةَ شَهْرٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَبِثَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ وَلَمْ تَحِضْ ؛ لَا فِي الثَّمَانِيَةِ الْأُولَى وَلَا فِي مُدَّةِ
عِصْمَتِهَا مَعَ الرَّجُلِ الثَّانِي وَلَا فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ
الْأَخِيرَةِ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ أَبُو الْوَلَدِ :
فَهَلْ يَصِحُّ هَذَانِ الْعَقْدَانِ ؟ أَوْ أَحَدُهُمَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي ؛ بَلْ
عَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ . ثُمَّ تَقْضِي عِدَّةَ الثَّانِي . ثُمَّ
بَعُدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُل تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ رُزِقَ مِنْهَا
وَلَدًا لَهُ مِنْ الْعُمْرِ سَنَتَانِ وَذَكَرَتْ أَنَّهَا لَمَّا تَزَوَّجَتْ
لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ وَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا
ثَانِيًا عَلَى هَذَا الْعَقْدِ الْمَذْكُورِ : فَهَلْ يَجُوزُ الطَّلَاقُ عَلَى
هَذَا الْعَقْدِ الْمَفْسُوخِ ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي كَوْنِهَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الْحَيْضَةِ
الثَّالِثَةِ : فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَهَا وَعَلَيْهَا
أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي . فَإِنْ
كَانَتْ حَاضَتْ الثَّالِثَةَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا الثَّانِي فَقَدْ انْقَضَتْ
عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ إذَا فَارَقَهَا الثَّانِي اعْتَدَّتْ لَهُ ثَلَاثَ
حِيَضٍ ثُمَّ تُزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ بِنِكَاحِ جَدِيدٍ وَوَلَدُهُ وَلَدُ حَلَالٍ
يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ بِوَطْءِ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ لَا
يُعْلَمُ فَسَادُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مُطَلَّقَةٍ ادَّعَتْ وَحَلَفَتْ أَنَّهَا قَضَتْ عِدَّتَهَا فَتَزَوَّجَهَا
زَوْجٌ ثَانٍ ثُمَّ حَضَرَتْ امْرَأَةٌ أُخْرَى وَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ
حَيْضَتَيْنِ وَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ فَالنِّكَاحُ الثَّانِي بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُصَدِّقًا لَهَا وَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا : فَتُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ بِحَيْضَةِ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ
وَطْءِ الثَّانِي عِدَّةً كَامِلَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ الثَّانِي أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا تَزَوَّجَهَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ بَانَتْ فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ شَهْرٍ وَنِصْفٍ بِحَيْضَةِ
وَاحِدَةٍ ؟
فَأَجَابَ :
تُفَارِقُ هَذَا الثَّانِيَ وَتُتِمُّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ بِحَيْضَتَيْنِ ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ تَعْتَدُّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي بِثَلَاثِ حَيْضَاتٍ ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَالِغًا وَلَمْ يَدْخُلْ
بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَقَدَ عَلَيْهَا شَخْصٌ
آخَرُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا :
فَهَلْ يَجُوزُ لِلَّذِي طَلَّقَهَا أَوَّلًا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ
الدُّخُولِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجًا غَيْرَهُ وَيَدْخُلُ بِهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ
تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِنْتًا بِكْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَمْ
يُصِبْهَا : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا عَقْدًا ثَانِيًا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
طَلَاقُ الْبِكْرِ ثَلَاثًا كَطَلَاقِ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا عِنْدَ
أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ
تُبَاحُ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ لِلَّذِي طَلَّقَهَا ثَلَاثًا : فَهَلْ قَالَ هَذَا
الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مَاذَا يَجِبُ
عَلَيْهِ ؟ وَمَنْ اسْتَحَلَّهَا بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ
مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَمَا صِفَةُ النِّكَاحِ الثَّانِي الَّذِي يُبِيحُهَا
لِلْأَوَّلِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ مُثَابِينَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا وَقَعَ بِالْمَرْأَةِ الطَّلَاقُ
الثَّلَاثُ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ
بِدُونِ زَوْجٍ ثَانٍ وَمَنْ نَقَلَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَدْ كَذَبَ .
وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ أَوْ اسْتَحَلَّ وَطْأَهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ
بِدُونِ نِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ - مِثْلَ
أَنْ يَكُونَ نَشَأَ بِمَكَانِ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ شَرَائِعَ
الْإِسْلَامِ أَوْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ -
فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ دِينَ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْقَوْلِ
بِأَنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ أَوْ عَلَى
اسْتِحْلَالِ هَذَا الْفِعْلِ : فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا
قُتِلَ كَأَمْثَالِهِ مِنْ
الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ وُجُوبَ الْوَاجِبَاتِ وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ وَحِلَّ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الْأُمَّةِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ نَبِيِّهَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ . وَظَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَمَنْ يَجْحَدُ وُجُوبَ " مَبَانِي الْإِسْلَامِ " مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحِجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَوْ جَحَدَ " تَحْرِيمَ الظُّلْمِ وَأَنْوَاعِهِ " كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ أَوْ تَحْرِيمَ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيمِ " نِكَاحِ الْأَقَارِبِ " سِوَى بَنَاتِ الْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ وَتَحْرِيمَ " الْمُحَرَّمَاتِ بِالْمُصَاهَرَةِ " وَهُنَّ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُهُنَّ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ حِلَّ الْخُبْزِ . وَاللَّحْمِ وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُلِمَتْ إبَاحَتُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ لَا سُنِّيُّهُمْ وَلَا بِدْعِيُّهُمْ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ " مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ : كَتَنَازُعِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ فِي " الْحَرَامِ " هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ يَمِينٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ " كَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْبَتَّةِ : هَلْ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ ثَلَاثٌ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْمُولِي " : هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَفِ فِيهَا ؟ أَمْ يُوقَفُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ ؟ وَكَتَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ . وَالْمُكْرَهُ وَفِي الطَّلَاقِ بِالْخَطِّ وَطَلَاقِ
الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَطَلَاقِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ وَطَلَاقِ الْحَكَمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ بِدُونِ تَوْكِيلِهِ . كَمَا تَنَازَعُوا فِي بَذْلِ أَجْرِ الْعِوَضِ بِدُونِ تَوْكِيلِهَا . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْعُلَمَاءُ . وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي مَسَائِلِ " تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ " وَمَسَائِلِ " الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ " كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ الصَّدَقَةُ بِأَلْفِ . وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ " مُطْلَقًا فِي مُوجَبِ الْيَمِينِ وَهَذَا كَتَنَازُعِهِمْ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ : هَلْ يَقَعُ أَوْ لَا يَقَعُ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ؟ أَوْ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ فِي نَوْعِ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِ مِلْكٍ ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ بَعْدَ النِّكَاحِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَقِيلَ : يَقَعُ مُطْلَقًا . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ . وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ كَوْنِهِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُهُ . وَعَدَمُ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ . " فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ : إنْ أعطيتيني أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ . " وَالثَّانِي " كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَلَيَّ الْحَجُّ . وَأَمَّا النَّذْرُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ سَلَّمَ مَالِي الْغَائِبَ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ الصَّدَقَةُ بِمِائَةِ : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ ؛ بَلْ مَقْصُودُهُ عَدَمُ الشَّرْطِ وَهُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ كَمَا إذَا قَالَ : لَا أُسَافِرُ وَإِنْ سَافَرْت
فَعَلَيَّ الصَّوْمُ أَوْ الْحَجُّ أَوْ الصَّدَقَةُ أَوْ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَالصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : كَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ أَبِي الْعُمَرِ وَغَيْرِهِمَا . وَهَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ أَمْ يَجْزِيهِ الْوَفَاءُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْوَفَاءُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِهِ . وَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَابْنِ حَزْمٍ . وَهَكَذَا تَنَازَعُوا عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيمَنْ حَلَفَ بِالْعِتَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ . هَلْ يَقَعُ ذَلِكَ إذَا حَنِثَ أَوْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؛ بَلْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً ؛ وَلَكِنْ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخِطَابَيْ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْنَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ . وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ و " الثَّانِي " لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ إذًا عِتْقُ عَبْدِي . فَاتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ ؛ لَكِنْ يَجِبُ
عَلَيْهِ الْعِتْقُ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ
مِنْ التَّابِعِينَ وَقَوْلُ دَاوُد وَابْنُ حَزْمٍ . وَقِيلَ : عَلَيْهِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّكْفِيرِ
وَالْإِعْتَاقِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا . وَقِيلَ : يَجِبُ التَّكْفِيرُ
عَيْنًا ؛ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ
فِيمَا بَلَغَنَا بَعْدَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ وَتَتَبُّعِ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ
والمتأخرين ؛ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ إمَّا ضَعِيفٌ ؛ بَلْ كَذِبٌ مِنْ جِهَةِ
النَّقْلِ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ ؛
فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى عَهْدِهِمْ ؛
وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنْ
يَجْزِيَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي
حُرٌّ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ نَقِيضُ هَذَا الْقَوْلِ . وَأَنَّهُ
يَعْتِقُ . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى أَسَانِيدِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : إنَّهُ لَا
يَقَعُ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَمَا
صَرَّحَ بِذَلِكَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ . وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ
ظَنَّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا نِزَاعَ فِيهِ فَاضْطَرَّهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَكَسَ
مُوجَبَ الدَّلِيلِ فَقَالَ : يَقَعُ الطَّلَاقُ ؛ دُونَ الْعِتَاقِ وَقَدْ بُسِطَ
الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبُيِّنَ مَا فِيهَا مِنْ مَذَاهِبِ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ
بِإِحْسَانِ
وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَحُجَّةِ كُلِّ قَوْم فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ
الظِّهَارِ أَوْ الْحَرَامِ أَوْ النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا
فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ :
فَهَلْ يَحْنَثُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد ؟ أَوَّلًا
يَحْنَثُ بِحَالِ كَقَوْلِ الْمَكِّيِّينَ وَالْقَوْلِ الْآخَرِ لِلشَّافِعِيِّ
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ
بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَغَيْرِهِمَا كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ
أَحْمَد وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي والخرقي وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ
أَحْمَد وَالْقَفَّالِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ
أَنَّ امْرَأَتَهُ بَانَتْ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّهَا لَمْ تَبِنْ ؟ فَقِيه قَوْلَانِ . وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ
أَوْ غَيْرِهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ
بِخِلَافِهِ ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا ذُكِرَ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى
شَيْءٍ يَشُكُّ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ صِدْقُهُ ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ . عِنْدَ
مَالِكٍ يَقَعُ وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا يَقَعُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ
مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ التَّوَقُّفُ فِي
الْمَسْأَلَةِ فَيُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ
الْيَوْمَ كَذَا وَمَضَى الْيَوْمُ أَوْ شَكَّ فِي فِعْلِهِ هَلْ يَحْنَثُ ؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْيَمِينِ إلَى نِيَّةِ
الْحَالِفِ إذَا احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ وَلَمْ يُخَالِفْ الظَّاهِرَ أَوْ
خَالَفَهُ وَكَانَ مَظْلُومًا . وَتَنَازَعُوا هَلْ يَرْجِعُ إلَى سَبَبِ
الْيَمِينِ وَسِيَاقِهَا وَمَا هَيَّجَهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَذْهَبُ الْمَدَنِيِّينَ كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لَكِنْ فِي مَسَائِلِهِمَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ أَعَمَّ مِنْ الْيَمِينِ عُمِلَ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى السَّبَبَ . وَإِنْ كَانَ خَاصًّا : فَهَلْ يُقْصَرُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَعْتَقِدُهُ عَلَى صِفَةٍ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا ؟ فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ . وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِصِفَةِ ؛ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ - بِالْفَتْحِ - أَيْ لِأَجْلِ دُخُولِك الدَّارَ ؛ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْ . فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّك فَعَلْت كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ فَعَلَتْهُ ؟ وَلَوْ قِيلَ لَهُ : امْرَأَتُك فَعَلَتْ كَذَا ؛ فَقَالَ : هِيَ طَالِقٌ . ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَيْهَا ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ : كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ ؛ وَكَجَمْعِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ حَرَامٌ ؛ وَلَكِنَّ الْأَرْبَعَةَ وَجُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : كَوْنُهُ حَرَامًا لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ كَمَا أَنَّ الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ وَإِذَا ظَاهَرَ ثَبَتَ حُكْمُ الظِّهَارِ ؛ وَكَذَلِكَ " النَّذْرُ " قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ } وَمَعَ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَقَعُ : اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ فَاسِدًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَالْجُمْهُورُ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ يَعُمُّهُ لَا يُنَاسِبُ فِعْلَ
الْمُحَرَّمِ : كَحِلِّ الْأَمْوَالِ وَالْإِبْضَاعِ وَإِجْزَاءِ الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً تُنَاسِبُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ كَالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ ؛ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْ شَيْءٍ إذَا فَعَلَهُ قَدْ تَلْزَمُهُ بِفِعْلِهِ كَفَّارَةٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ : فَكَذَلِكَ قَدْ يُنْهَى عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ فَإِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ بِهِ وَاجِبَاتٌ وَمُحَرَّمَاتٌ ؛ وَلَكِنْ لَا يُنْهَى عَنْ شَيْءٍ إذَا فَعَلَهُ أُحِلَّتْ لَهُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ الطَّيِّبَاتُ ؛ فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ " بَابِ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ " وَالْمُحَرَّمَاتُ لَا تَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا لِلْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ ؛ بَلْ هِيَ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَاتِ إذَا لَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } إلَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَتَوَقُّفِهِمْ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِهِ كَانَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْإِيجَابِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } وَلَمَّا { سَأَلُوهُ عَنْ الْحَجِّ : أَفِي كُلِّ عَامٍ ؟ قَالَ : لَا . وَلَوْ قُلْت : نَعَمْ لَوَجَبَ ؛ وَلَوْ وَجَبَ لَمْ تُطِيقُوهُ ؛ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُمْ ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ؛ فَإِذَا نُهِيتُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ . وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَمِنْ هُنَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ حَرُمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ عُقُوبَةً لِلرَّجُلِ حَتَّى لَا يُطَلِّقَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الطَّلَاقَ ؛ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَالسَّحَرَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السِّحْرِ : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وَفِي
الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ ؛ وَيَبْعَثُ جُنُودَهُ فَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ؛ فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا زِلْت بِهِ حَتَّى شَرِبَ الْخَمْرَ . فَيَقُولُ السَّاعَةَ يَتُوبُ وَيَأْتِي الْآخَرُ فَيَقُولُ : مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ . فَيُقَبِّلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ . وَيَقُولُ : أَنْتَ أَنْتَ } . وَقَدْ رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ : أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُطَلِّقُونَ بِغَيْرِ عَدَدٍ ؛ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ضِرَارًا فَقَصَرَهُمْ اللَّه عَلَى الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ . وَلَوْلَا أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الطَّلَاقِ لَكَانَ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَالْأُصُولُ ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهُ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ أَحْيَانًا . وَحَرَّمَهُ فِي مَوَاضِعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . كَمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ وَلَمْ تَكُنْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ ؛ فَإِنَّ هَذَا الطَّلَاقَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ كَمَا قَالَ : { أَحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ } فَأَبَاحَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْوَطْءَ بِالنِّكَاحِ . وَالْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَطَئُونَ إلَّا بِالنِّكَاحِ ؛ لَا يَطَئُونَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . و " أَصْلُ ابْتِدَاءِ الرِّقِّ " إنَّمَا يَقَعُ مِنْ السَّبْيِ . وَالْغَنَائِمُ لَمْ تَحِلَّ إلَّا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { فُضِّلْنَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسِ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ
وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدِ كَانَ قَبْلَنَا وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةَ } فَأَبَاحَ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْكِحُوا وَأَنْ يُطَلِّقُوا وَأَنْ يَتَزَوَّجُوا الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ زَوْجِهَا . " وَالنَّصَارَى " يُحَرِّمُونَ النِّكَاحَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَمَنْ أَبَاحُوا لَهُ النِّكَاحَ لَمْ يُبِيحُوا لَهُ الطَّلَاقَ . " وَالْيَهُودُ " يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ ؛ لَكِنْ إذَا تَزَوَّجَتْ الْمُطَلَّقَةُ بِغَيْرِ زَوْجِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ . وَالنَّصَارَى لَا طَلَاقَ عِنْدَهُمْ . وَالْيَهُودُ لَا مُرَاجَعَةَ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ عِنْدَهُمْ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ هَذَا وَهَذَا . وَلَوْ أُبِيحَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عَدَدٍ - كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ - لَكَانَ النَّاسُ يُطَلِّقُونَ دَائِمًا : إذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ يَزْجُرُهُمْ عَنْ الطَّلَاقِ ؛ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ مَا أَوْجَبَ حُرْمَةَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فَسَادُ الطَّلَاقِ لِمُجَرَّدِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فَقَطْ : كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ حَتَّى يُبَاحَ دَائِمًا بِسُؤَالِهَا ؛ بَلْ نَفْسُ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ : إمَّا نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ . وَمَا كَانَ مُبَاحًا لِلْحَاجَةِ قُدِّرَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ . وَالثَّلَاثُ هِيَ مِقْدَارُ مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ } وَكَمَا قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ ؛ إلَّا عَلَى زَوْجٍ
فَإِنَّهَا
تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَكَمَا رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ
أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا . وَهَذِهِ
الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى
وُقُوعَ الطَّلَاقِ إلَّا مِنْ الْقَصْدِ ؛ وَلَا يَرَى وُقُوعَ طَلَاقِ
الْمُكْرَهِ ؛ كَمَا لَا يَكْفُرُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مُكْرَهًا
بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ؛ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِ
اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَفَرَ ؛ كَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ
هَازِلًا وَقَعَ بِهِ . وَلَوْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ فَقَالَ : إنْ فَعَلَ كَذَا
فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ أَوْ فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ
نَصْرَانِيٌّ . لَمْ يَكْفُرْ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ كَانَ
هَذَا حُكْمًا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ فِي اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَلِفُ
بِهِ بُغْضًا لَهُ وَنُفُورًا عَنْهُ ؛ لَا إرَادَةً لَهُ ؛ بِخِلَافِ مَنْ قَالَ
: إنْ أَعْطَيْتُمُونِي أَلْفًا كَفَرْت فَإِنَّ هَذَا يَكْفُرُ . وَهَكَذَا
يَقُولُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَتَعْلِيقِهِ بِشَرْطِ لَا
يُقْصَدُ كَوْنُهُ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الْمَقْصُودِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ .
وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ
لِلنِّكَاحِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ كَقَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ
افْتَدَتْ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ
الطَّلَاقِ الْمَكْرُوهِ فِي الْأَصْلِ وَلِهَذَا يُبَاحُ فِي الْحَيْضِ ؛
بِخِلَافِ الطَّلَاقِ . وَأَمَّا إذَا عَدَلَ هُوَ عَنْ الْخُلْعِ وَطَلَّقَهَا
إحْدَى الثَّلَّاتِ بِعِوَضِ فَالتَّفْرِيطُ مِنْهُ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ
السَّلَفِ : كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَغَيْرِهِ ؛ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا
مَرْفُوعًا . وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
جَعَلُوهُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فَسْخًا . كَالْإِقَالَةِ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ
مَعَ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا هُوَ مَعَ الْمَرْأَةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ
افْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ كَمَا يُفْدَى
الْأَسِيرُ فَقَدْ يَفْتَدِي الْأَسِيرُ بِمَالِ مِنْهُ وَمَالٍ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَعْتِقُ بِمَالِ يَبْذُلُهُ هُوَ وَمَا يَبْذُلُهُ الْأَجْنَبِيُّ وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ يَصِحُّ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَعَ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ هَذَا جَمِيعَهُ مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِزَالَةِ . وَإِذْ كَانَ الْخُلْعُ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ : فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ . وَتَشْبِيهُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَزُولُ إلَّا بِرِضَى الْمُتَابِعَيْنِ ؛ لَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُهُمَا بِإِزَالَتِهِ ؛ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ إلَيْهَا إزَالَتُهُ ؛ بَلْ الزَّوْجُ يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ افْتِدَاؤُهَا نَفْسَهَا مِنْهُ كَافْتِدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ لَهَا . وَمَسَائِلُ الطَّلَاقِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا إذَا وَقَعَ بِهِ الثَّلَاثُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِنِكَاحِ ثَانٍ وَبِوَطْئِهِ لَهَا عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمَأْمُورَ بِهِ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْعَقْدِ . وَبِالْوَطْءِ بِخِلَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ يُنْهَى فِيهِ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْوَطْءِ مِنْ الْعَقْدِ " وَالنِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ " يَحْرُمُ فِيهِ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ القرظي . لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رِفَاعَةَ بِدُونِ الْوَطْءِ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك } وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ إلَّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهُ - مَعَ أَنَّهُ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ - لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . " وَالنِّكَاحُ الْمُبِيحُ " هُوَ النِّكَاحُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : { حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتك } فَأَمَّا " نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ " فَإِنَّهُ لَا يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : لَا أوتى بِمُحَلِّلِ وَمُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا . وَكَذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ : إنَّهُ لَا يُبِيحُهَا إلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ ؛ لَا نِكَاحِ مُحَلِّلٍ . وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي " نِكَاحِ الْمُتْعَةِ " فَإِنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ . " الثَّانِي " أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ ؛ بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْمَرْأَةِ وَلِلْمَرْأَةِ رَغْبَةٌ فِيهِ إلَى أَجَلٍ ؛ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا رَغْبَةٌ فِيهِ بِحَالِ وَهُوَ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِيهَا بَلْ فِي أَخْذِ مَا يُعْطَاهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ رَغْبَةٌ فَهِيَ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي الْوَطْءِ ؛ لَا فِي اتِّخَاذِهَا زَوْجَةً مِنْ جِنْسِ رَغْبَةِ الزَّانِي ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ ؛ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً . إذْ اللَّهُ عَلِمَ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ . وَلِهَذَا تَعْدَمُ فِيهِ خَصَائِصُ النِّكَاحِ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وَالتَّحْلِيلُ فِيهِ الْبِغْضَة وَالنُّفْرَةُ ؛ وَلِهَذَا لَا يُظْهِرُهُ أَصْحَابُهُ ؛ بَلْ يَكْتُمُونَهُ كَمَا يُكْتَمُ السِّفَاحُ . وَمِنْ شَعَائِرِ النِّكَاحِ إعْلَانُهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ } وَلِهَذَا يَكْفِي فِي إعْلَانِهِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تُوجِبُ الْإِشْهَادَ وَالْإِعْلَانَ ؛ فَإِذَا تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ بَطَلَ . وَمِنْ ذَلِكَ الْوَلِيمَةُ عَلَيْهِ وَالنِّثَارُ وَالطِّيبُ وَالشَّرَابُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَاتُ النَّاسِ فِي النِّكَاحِ . وَأَمَّا " التَّحْلِيلُ " فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ وَلَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ امْرَأَتَهُ ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ اسْتِعَارَتُهُ لِيَنْزُوَ عَلَيْهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ تَسْمِيَتُهُ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؛ وَلِهَذَا شُبِّهَ بِحِمَارِ الْعَشْرِيَّيْنِ الَّذِي يُكْتَرَى للتقفيز عَلَى الْإِنَاثِ ؛ وَلِهَذَا لَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ ؛ بَلْ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا نَوْعٌ مِنْ النُّفْرَةِ . وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْلِيلِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعَ : صَارَ الشَّيْطَانُ يُشَبِّهُ بِهِ أَشْيَاءَ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ فَصَارَ طَائِفَةٌ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّ وِلَادَتَهَا لِذَكَرِ يُحِلُّهَا أَوْ أَنَّ وَطْأَهَا بِالرِّجْلِ عَلَى قَدَمِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ فَوْقَ سَقْفٍ أَوْ سُلَّمٍ هِيَ تَحْتَهُ يُحِلُّهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُمَا إذَا الْتَقَيَا بِعَرَفَاتِ كَمَا الْتَقَى آدَمَ وَامْرَأَتُهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ . وَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا تَزَوَّجَتْ بِالْمُحَلِّلِ بِهِ لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا ؛ بَلْ تُمَكِّنُهُ مِنْ أَمَةٍ لَهَا . وَمِنْهُنَّ مَنْ تُعْطِيهِ شَيْئًا وَتُوصِيه بِأَنْ يُقِرَّ بِوَطْئِهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَلِّلُ الْأُمَّ وَبِنْتَهَا . إلَى أُمُورٍ أُخَرَ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَيَّنَّاهَا
فِي " كِتَابِ بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ خَيْرٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا عَدَدَ لَهُ لَكَانَ هَذَا مُمْكِنًا وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْسُوخًا . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَسْتَكْرِيَ مَنْ يَطَؤُهَا فَهَذَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْلِيلِ يَفْعَلُونَ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ عِدَّةِ طَلَاقٍ أَوْ عِدَّةِ وَفَاةٍ قَالَ تَعَالَى " { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا وَعَنْ عَزْمِ عُقْدَةِ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي عِدَّةِ الْمَوْتِ فَهُوَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَشَدُّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَدْ تَرْجِعُ إلَى زَوْجِهَا ؛ بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا . وَأَمَّا " التَّعْرِيضُ " فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَلَا يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ وَفِيمَا سِوَاهُمَا . فَهَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ ثَانٍ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَحِلَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَذَلِكَ أَشَدُّ وَأَشَدُّ .
وَإِذَا كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدِ أَنْ يَخْطُبَهَا لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا : بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا كَانَتْ لَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدُ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا أَنْ يَخْطُبَهَا ؛ لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا . بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَخِطْبَتُهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَعْظَمُ مِنْ خِطْبَتِهَا بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي . وَهَؤُلَاءِ " أَهْلُ التَّحْلِيلِ " قَدْ يُوَاعِدُ أَحَدُهُمْ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَيَعْزِمَانِ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَقَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ بَعْدَ النِّكَاحِ الثَّانِي نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ وَيُعْطِيهَا مَا تُنْفِقُهُ عَلَى شُهُودِ عَقْدِ التَّحْلِيلِ وَلِلْمُحَلِّلِ وَمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهَا فِي عِدَّةِ التَّحْلِيلِ وَالزَّوْجُ الْمُحَلِّلُ لَا يُعْطِيهَا مَهْرًا وَلَا نَفَقَةَ عِدَّةٍ وَلَا نَفَقَةَ طَلَاقٍ ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ وَقْتَ نِكَاحِهَا بِالثَّانِي أَنْ يَخْطُبَهَا الْأَوَّلُ - لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا - فَكَيْفَ إذَا خَطَبَهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي ؟ أَوْ إذَا كَانَ بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِي لَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ : فَكَيْفَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُطَلِّقَ بَلْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَلْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ فَهَذَا كُلُّهُ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْلِيلِ يَفْعَلُهُ وَلَيْسَ فِي التَّحْلِيلِ صُورَةٌ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حِلِّهَا وَلَا صُورَةٌ أَبَاحَهَا النَّصُّ ؛ بَلْ مِنْ صُوَرِ التَّحْلِيلِ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَمِنْهَا مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ مِنْهُمْ ؛ وَهَذَا وَغَيْرُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ التَّحْلِيلِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِهِ
مِنْ
الْأَنْكِحَةِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ ؛ وَبِكُلِّ حَالٍ
فَالصَّحَابَةُ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَعْدَهُمْ التَّابِعُونَ كَمَا
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } فَنِكَاحٌ تَنَازَعَ السَّلَفُ فِي
جَوَازِهِ أَقْرَبُ مِنْ نِكَاحٍ أَجْمَعَ السَّلَفُ كُلٌّ تَحْرِيمَهُ . وَإِذَا
تَنَازَعَ فِيهِ الْخَلَفُ فَإِنَّ أُولَئِكَ أَعْظَمُ عِلْمًا وَدِينًا ؛ وَمَا
أَجْمَعُوا عَلَى تَعْظِيمِ تَحْرِيمِهِ كَانَ أَمْرُهُ أَحَقَّ مِمَّا اتَّفَقُوا
عَلَى تَحْرِيمِهِ وَإِنْ اشْتَبَهَ تَحْرِيمُهُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِيَتِيمَةٍ وَشَهِدَتْ أُمُّهَا بِبُلُوغِهَا فَمَكَثَتْ
فِي صُحْبَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ بِالثُّلَاثِ ثُمَّ
شَهِدَتْ أَخَوَاتُهَا وَنِسَاءٌ أُخَرُ : أَنَّهَا مَا بَلَغَتْ إلَّا بَعْدَ
دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ وَشَهِدَتْ أُمُّهَا بِهَذِهِ
الصُّورَةِ ؛ وَالْأُمُّ مَاتَتْ وَالزَّوْجُ يُرِيدُ الْمُرَاجَعَةَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا طَلَّقَهَا
ثَلَاثًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ : أَنَّ نِكَاحَ هَذِهِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ
قَبْلَ الْبُلُوغِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ
الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ . وَمِثْلُ
هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَقْبُحُ فَإِنَّهَا
مِنْ
أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ حِين
كَانَ يَطَؤُهَا وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا حَتَّى إذَا طَلَقَتْ ثَلَاثًا أَخَذُوا
يَسْعَوْنَ فِيمَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ حَتَّى لَا يُقَالَ : إنَّ الطَّلَاقَ
وَقَعَ وَهَذَا مِنْ الْمُضَادَّةِ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ فَإِنَّهُ حِينَ كَانَ
الْوَطْءُ حَرَامًا لَمْ يَتَحَرَّ وَلَمْ يَسْأَلْ فَلَمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ
أَخَذَ يَسْأَلُ عَمَّا يُبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ فِي
الْمُحَرَّمِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ فَاسِقٌ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ
الْمَرْأَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهَا الْأَوَّلُ صَحِيحًا . وَإِمَّا أَلَّا
يَكُونَ . فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا : فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَاقِعٌ وَالْوَطْءُ
قَبْلَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ حَرَامٌ . وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ
بَاطِلًا : كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ حَرَامًا وَهَذَا الزَّوْجُ لَمْ يَتُبْ مِنْ
ذَلِكَ الْوَطْءِ . وَإِنَّمَا سَأَلَ حِينَ طَلَّقَ ؛ لِئَلَّا يَقَعَ بِهِ
الطَّلَاقُ فَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَمَّا بِهِ يَحْرُمُ الْوَطْءُ الْأَوَّلُ
لِأَجْلِ اسْتِحْلَالِ الْوَطْءِ الثَّانِي . وَهَذِهِ الْمُضَادَّةُ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ . وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَإِنْ كَانَ هَذَا
الرَّجُلُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَجْتَنِبْهَا ؛
وَلْيَحْفَظْ حُدُودَ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِوِلَايَةِ أَجْنَبِيٍّ وَوَلِيُّهَا فِي
مَسَافَةٍ دُونَ الْقَصْرِ ؛ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ حَاكِمٌ ؛ وَدَخَلَ
بِهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ أَرَادَ
رَدَّهَا
قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ : فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِبُطْلَانِ
النِّكَاحِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ إسْقَاطِ الْحَدِّ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ ؛
وَيَلْحَقُ النَّسَبُ ؛ وَيَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجِبُ فِي هَذَا النِّكَاحِ حَدٌّ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ ؛ بَلْ يَلْحَقُ
بِهِ النَّسَبُ وَيَجِبُ فِيهِ الْمَهْرُ ؛ وَلَا يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ
بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ . وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ
فِيهِ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ . وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُزَوِّجَ لَيْسَ
لَهُ وِلَايَةٌ بِحَالِ فَفَارَقَهَا الزَّوْجُ حِينَ عَلِمَ فَطَلَّقَهَا
ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ وَالْحَالُ هَذِهِ ؛ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ سَنَتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَكَانَ
وَلِيُّ نِكَاحِهَا فَاسِقًا : فَهَلْ يَصِحُّ عَقْدُ الْفَاسِقِ ؛ بِحَيْثُ إذَا
طَلَقَتْ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ نِكَاحِ غَيْرِهِ ؟ أَوْ لَا
يَصِحُّ عَقْدُهُ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ وَوَلِيٍّ مُرْشِدٍ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ وَقَعَ بِهِ
الطَّلَاقُ ؟ وَلَيْسَ لِأَحَدِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ يَنْظُرَ فِي
الْوَلِيِّ : هَلْ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا ؛ لِيَجْعَلَ فِسْقَ الْوَلِيِّ
ذَرِيعَةً إلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ
الْفُقَهَاءِ يُصَحِّحُونَ وِلَايَةَ الْفَاسِقِ وَأَكْثَرَهُمْ يُوقِعُونَ الطَّلَاقَ فِي مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ ؛ بَلْ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ . فَإِذَا فَرَّعَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ ؛ وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِيهِ ؛ فَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِلَّ الْحَلَالَ مَنْ يُحَرِّمُ الْحَرَامَ ؛ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ حَلَالًا حَرَامًا . وَهَذَا الزَّوْجُ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَلَوْ مَاتَتْ لَوَرِثَهَا : فَهُوَ عَامِلٌ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ فَكَيْفَ يَعْمَلُ بَعْدَ الطَّلَاقِ عَلَى فَسَادِهِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا إذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي صِحَّتِهِ فَاسِدًا إذْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي فَسَادِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ الشَّيْءِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَافَقَ غَرَضَهُ أَوْ خَالَفَهُ وَمَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ . وَهَؤُلَاءِ الْمُطَلِّقُونَ لَا يُفَكِّرُونَ فِي فَسَادِ النِّكَاحِ بِفِسْقِ الْوَلِيِّ إلَّا عِنْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَا عِنْدَ الِاسْتِمْتَاعِ وَالتَّوَارُثِ فَيَكُونُونَ فِي وَقْتٍ يُقَلِّدُونَ مَنْ يُفْسِدُهُ وَفِي وَقْتٍ يُقَلِّدُونَ مَنْ يُصَحِّحُهُ بِحَسَبِ الْغَرَضِ وَالْهَوَى وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ . وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَعْتَقِدَ الرَّجُلُ ثُبُوتَ " شُفْعَةِ الْجِوَارِ " إذَا كَانَ طَالِبًا لَهَا وَيَعْتَقِدَ عَدَمَ الثُّبُوتِ إذَا كَانَ مُشْتَرِيًا ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَهَذَا أَمْرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ فِي حَالِ نِكَاحِهِ وَبُنِيَ عَلَى فَسَادِ وِلَايَتِهِ
فِي
حَالِ طَلَاقِهِ : فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ
قَالَ الْمُسْتَفْتِي الْمُعَيَّنُ : أَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ ذَلِكَ وَأَنَا
مِنْ الْيَوْمِ أَلْتَزِمُ ذَلِكَ : لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ
يَفْتَحُ بَابَ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ وَفَتْحٌ لِلذَّرِيعَةِ إلَى أَنْ يَكُونَ
التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلِيُّهَا فَاسِقٌ يَأْكُلُ الْحَرَامَ
وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ ؛ وَالشُّهُودُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَقَدْ وَقَعَ بِهِ
الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ : فَهَلْ لَهُ بِذَلِكَ الرُّخْصَةُ فِي رَجْعَتِهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ . وَمَنْ أَخَذَ يَنْظُرُ بَعْدَ
الطَّلَاقِ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَنْظُرْ فِي صِفَتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ :
فَهُوَ مِنْ الْمُتَعَدِّينَ لِحُدُودِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يَسْتَحِلَّ مَحَارِمَ اللَّهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ . وَالطَّلَاقُ فِي
النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا
مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالنِّكَاحُ بِوِلَايَةِ الْفَاسِقِ : يَصِحُّ عِنْدَ
جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً " مُصَافَحَةً " عَلَى صَدَاقٍ
خَمْسَةُ دَنَانِيرَ كُلُّ سَنَةٍ نِصْفُ دِينَارٍ وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا
وَأَصَابَهَا : فَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إذَا رُزِقَ
بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يَرِثُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا تَزَوَّجَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَكَتَمَا
النِّكَاحَ : فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ الَّذِي
عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيِّ } { وَأَيُّمَا
امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا
بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } . وَكِلَا هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مَأْثُورٌ فِي
السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ . وَهَذَا مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمَالِكٌ يُوجِبُ إعْلَانَ
النِّكَاحِ . " وَنِكَاحُ السِّرِّ " هُوَ مِنْ جِنْسِ نِكَاحِ
الْبَغَايَا ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ
وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } فَنِكَاحُ السِّرِّ مِنْ جِنْسِ ذَوَاتِ
الْأَخْدَانِ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَقَالَ
تَعَالَى : { وَلَا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ
حَتَّى يُؤْمِنُوا } فَخَاطَبَ الرِّجَالَ بِتَزْوِيجِ النِّسَاءِ ؛ وَلِهَذَا
قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكِحُ نَفْسَهَا
وَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا . لَكِنْ إنْ اعْتَقَدَ هَذَا
نِكَاحًا جَائِزًا كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ وَطْءَ شُبْهَةٍ يُلْحَقُ الْوَلَدُ
فِيهِ وَيَرِثُ أَبَاهُ . وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ فَإِنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ الْعُقُوبَةَ
عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ " مُصَافَحَةً " وَقَعَدَتْ مَعَهُ أَيَّامًا
فَطَلَعَ لَهَا زَوْجٌ آخَرُ فَحَمَّلَ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ وَزَوْجَهَا
الْأَوَّلَ فَقَالَ لَهَا : تُرِيدِينَ الْأَوَّلَ أَوْ الثَّانِيَ ؟ فَقَالَتْ :
مَا أُرِيدُ إلَّا الزَّوْجَ الثَّانِيَ فَطَلَّقَهَا الْأَوَّلُ وَرَسَمَ
لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُوُفِّيَ عِدَّتَهُ وَتَمَّ مَعَهَا الزَّوْجُ : فَهَلْ
يَصِحُّ ذَلِكَ لَهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا تَزَوَّجَتْ بِالثَّانِي قَبْلَ أَنْ تُوَفِّيَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَقَدْ
فَارَقَهَا الْأَوَّلُ : إمَّا لِفَسَادِ نِكَاحِهِ ؛ وَإِمَّا لِتَطْلِيقِهِ
لَهَا ؛ وَإِمَّا لِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا : فَنِكَاحُهَا فَاسِدٌ ؛
تَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ : هِيَ ؛ وَهُوَ ؛ وَمَنْ زَوَّجَهَا ؛ بَلْ عَلَيْهَا
أَنْ تُتِمَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ إنْ كَانَ الثَّانِي قَدْ وَطِئَهَا
اعْتَدَّتْ لَهُ عِدَّةً أُخْرَى ؛ فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّتَانِ تَزَوَّجَتْ
حِينَئِذٍ بِمَنْ شَاءَتْ : بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالثَّانِي أَوْ غَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ وَسَافَرَ زَوْجُهَا وَبَاعَهَا سَيِّدُهَا وَشَرَطَ
أَنَّ لَهَا زَوْجًا فَقَعَدَتْ عِنْدَ الَّذِي اشْتَرَاهَا أَيَّامًا ؛
فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَتْ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهَا
زَوْجًا ؛ فَلَمَّا جَاءَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ مِنْ السَّفَرِ أَعْطَى سَيِّدُهَا
الَّذِي بَاعَهَا الْكِتَابَ لِزَوْجِهَا الَّذِي جَاءَ مِنْ السَّفَرِ
وَالْكِتَابُ بِعَقْدِ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ : فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِكِتَابِ
الْأَوَّلِ ؟ أَوْ الثَّانِي ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا شَرْعِيًّا : إمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْحُرِّ بِالْأَمَةِ وَإِمَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بِأَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِلطَّوْلِ خَائِفًا مِنْ
الْعَنَتِ : فَنِكَاحُهُ لَا يَبْطُلُ بِعِتْقِهَا ؛ بَلْ هِيَ زَوْجَتُهُ بَعْدَ
الْعِتْقِ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ لَهَا الْفَسْخُ فَلَهَا
أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتَهُ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ إنْ
شَاءَتْ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا
خِيَارَ لَهَا ؛ بَلْ هِيَ زَوْجَتُهُ ؛ وَمَتَى تَزَوَّجَتْ قَبْلَ أَنْ يُفْسَخَ
النِّكَاحُ : فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ
نِكَاحُهَا الْأَوَّلُ فَاسِدًا فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ وَتَتَزَوَّجُ
مَنْ شَاءَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَقَرَّ عِنْدَ عُدُولٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِنْ مُدَّةٍ
تَزِيدُ عَلَى الْمُدَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ تَزْوِيجُهَا لَهُ
الْآنَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إنْ كَانَ الْمُقِرُّ فَاسِقًا أَوْ مَجْهُولًا لَمْ
يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِ الْعِدَّةِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ اللَّهِ ؛
وَلَيْسَ هَذَا إقْرَارًا مَحْضًا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يُقْبَلَ مِنْ الْفَاسِقِ
بَلْ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ ؛ إذْ فِي الْعِدَّةِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ
. وَإِمَّا إذَا كَانَ عَدْلًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ : مِثْلَ أَنْ يَكُونُ غَائِبًا
فَلَمَّا حَضَرَ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ طَلَّقَ مِنْ مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا فَهَلْ
تَعْتَدُّ مِنْ حِينِ بَلَّغَهَا الْخَبَرَ إذَا لَمْ تَقُمْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ ؟
أَوْ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ؟ فِيهِ خِلَافٌ
مَشْهُورٌ : عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ هُوَ الثَّانِي .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ وَلَا أَصَابَهَا
فَوَلَدَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ : فَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُ
الصَّدَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛
لَكِنْ لِلْعُلَمَاءِ فِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ
بَاطِلٌ ؛ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ
التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ؛ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ ؛ وَلَا
مُتْعَةَ ؛ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ إذَا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ فِيهَا
قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَاكِمٌ يَرَى
فَسَادَ الْعَقْدِ ؛ لِقَطْعِ النِّزَاعِ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي "
أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ ؛ ثُمَّ لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى تَضَعَ
كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ الْوَضْعِ ؛
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ
الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لَكِنْ هَذَا النِّزَاعُ إذَا كَانَتْ
حَامِلًا مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ سَيِّدٍ أَوْ زَوْجٍ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ
بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إذَا فَارَقَ قَبْلَ
الدُّخُولِ . وَأَمَّا الْحَامِلُ مِنْ الزِّنَا فَلَا كَلَامَ فِي صِحَّةِ
نِكَاحِهَا وَالنِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ نَكَحَهَا طَائِعًا وَأَمَّا إذَا
نَكَحَهَا مُكْرَهًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ " رَكَّاضٍ " يَسِيرُ فِي الْبِلَادِ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ
شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ وَيَعْزِلُ عَنْهَا وَيَخَافُ أَنْ يَقَعَ فِي
الْمَعْصِيَةِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي مُدَّةِ إقَامَتِهِ
فِي
تِلْكَ الْبَلْدَةِ ؛ وَإِذَا سَافَرَ طَلَّقَهَا وَأَعْطَاهَا حَقَّهَا ؛ أَوْ
لَا ؟ وَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ؛ لَكِنْ يَنْكِحُ نِكَاحًا مُطْلَقًا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ
تَوْقِيتًا بِحَيْثُ يَكُونُ إنْ شَاءَ مَسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا .
وَإِنْ نَوَى طَلَاقَهَا حَتْمًا عِنْدَ انْقِضَاءِ سَفَرِهِ كُرِهَ فِي مِثْلِ
ذَلِكَ . وَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ نِزَاعٌ وَلَوْ نَوَى أَنَّهُ إذَا سَافَرَ
وَأَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا وَإِلَّا طَلَّقَهَا جَازَ ذَلِكَ . فَأَمَّا أَنْ
يَشْتَرِطَ التَّوْقِيتَ فَهَذَا " نِكَاحُ الْمُتْعَةِ " الَّذِي اتَّفَقَ
الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ
طَائِفَةٌ يُرَخِّصُونَ فِيهِ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِلْمُضْطَرِّ كَمَا
قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعْدَ أَنْ رَخَّصَ لَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ قَالَ : { إنَّ
اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَالْقُرْآنُ قَدْ
حَرَّمَ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ إلَّا زَوْجَةً أَوْ مَمْلُوكَةً بِقَوْلِهِ : {
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } { فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } وَهَذِهِ الْمُسْتَمْتَعُ بِهَا
لَيْسَتْ مِنْ الْأَزْوَاجِ وَلَا مَا مُلِكَتْ الْيَمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ
جَعَلَ لِلْأَزْوَاجِ أَحْكَامًا : مِنْ الْمِيرَاثِ وَالِاعْتِدَادِ بَعْدَ
الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ
قُرُوءٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ
الْمُسْتَمْتَعِ بِهَا فَلَوْ كَانَتْ
زَوْجَةً لَثَبَتَ فِي حَقِّهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ نَسَخَتْ الْمُتْعَةَ . وَبَسْطُ هَذَا طَوِيلٌ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِذَا اشْتَرَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ الْعَقْدِ فَهُوَ كَالشَّرْطِ الْمُقَارِنِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ فِي " نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ " . وَأَمَّا إذَا نَوَى الزَّوْجُ الْأَجَلَ وَلَمْ يُظْهِرْهُ لِلْمَرْأَةِ : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ : يُرَخِّصُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَيَكْرَهُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا كَمَا أَنَّهُ لَوْ نَوَى التَّحْلِيلَ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَجَعَلُوهُ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ ؛ لَكِنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ؛ فَإِنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ لَمْ يُبَحْ قَطُّ إذْ لَيْسَ مَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ أَنْ يَنْكِحَ ؛ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يُعِيدَهَا إلَى الْمُطَلِّقِ قَبْلَهُ فَهُوَ يُثْبِتُ الْعَقْدَ لِيُزِيلَهُ وَهَذَا لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِحَالِ ؛ بِخِلَافِ الْمُسْتَمْتِعِ فَإِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي الِاسْتِمْتَاعِ ؛ لَكِنَّ التَّأْجِيلَ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالسَّكَنِ وَيَجْعَلُ الزَّوْجَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فَلِهَذَا كَانَتْ النِّيَّةُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَخَفَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَهُوَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ وَكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ . وَأَمَّا " الْعَزْلُ " فَقَدْ حَرَّمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ قَالَ : إنَّ الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ إذَا وَطِئَهَا الرَّجُلُ فِي
الدُّبُرِ تَحِلُّ لِزَوْجِهَا : هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا : { لَا . حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ
وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك } وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعُسَيْلَةِ
. وَهَذَا لَا يَكُونُ بِالدُّبُرِ وَلَا يُعْرَفُ فِي هَذَا خِلَافٌ . وَأَمَّا
مَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُمْ يَطْعَنُونَ فِي أَنْ يَكُونَ
هَذَا قَوْلًا - وَمَا يُذْكَرُ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ عَدَمِ
اشْتِرَاطِ الْوَطْءِ فَذَاكَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ وَطْءُ الدُّبُرِ وَهُوَ قَوْلٌ
شَاذٌّ صَحَّتْ السُّنَّةُ بِخِلَافِهِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ قَبْلَهُ
وَبَعْدَهُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
" نِكَاحُ الزَّانِيَةِ " حَرَامٌ حَتَّى تَتُوبَ سَوَاءٌ كَانَ زَنَى
بِهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ . هَذَا هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ وَهُوَ مَذْهَبُ
طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : مِنْهُمْ
أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى جَوَازِهِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّلَاثَةِ ؛ لَكِنْ مَالِكٌ يَشْتَرِطُ الِاسْتِبْرَاءَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ الْعَقْدَ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا ؛ لَكِنْ إذَا كَانَتْ حَامِلًا لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَضَعَ وَالشَّافِعِيُّ يُبِيحُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ مَاءَ الزَّانِي غَيْرُ مُحْتَرَمٍ وَحُكْمُهُ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ . هَذَا مَأْخَذُهُ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَامِلِ وَغَيْرِ الْحَامِلِ ؛ فَإِنَّ الْحَامِلَ إذَا وَطِئَهَا اسْتَلْحَقَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ قَطْعًا ؛ بِخِلَافِ غَيْرِ الْحَامِلِ . وَمَالِكٌ وَأَحْمَد يَشْتَرِطَانِ " الِاسْتِبْرَاءَ " وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ لَكِنْ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ يَشْتَرِطَانِ الِاسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثِ حِيَضٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ فَقَطْ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ زَوْجَةً يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَلَيْسَتْ أَعْظَمَ مِنْ الْمُسْتَبْرَأَةِ الَّتِي يَلْحَقُ وَلَدُهَا سَيِّدَهَا وَتِلْكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ فَهَذِهِ أَوْلَى . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهَا حُرَّةٌ - كَاَلَّتِي أُعْتِقَتْ بَعْدَ وَطْءِ سَيِّدِهَا وَأُرِيدَ تَزْوِيجَهَا إمَّا مِنْ الْمُعْتِقِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ - فَإِنَّ هَذِهِ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا . وَهَذِهِ الزَّانِيَةُ لَيْسَتْ كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةِ الَّتِي يَلْحَقُ وَلَدُهَا بِالْوَاطِئِ ؛ مَعَ أَنَّ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ عَلَى تِلْكَ نِزَاعًا . وَقَدْ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَصَرِيحِ السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ : أَنَّ " الْمُخْتَلِعَةَ " لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةِ ؛ لَا عِدَّةٍ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ . وَذَكَرَ مَكِّيٌّ : أَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ قَوْلُ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ
وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَإِذَا كَانَتْ الْمُخْتَلِعَةُ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مُطَلَّقَةً لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ بَلْ الِاسْتِبْرَاءُ - وَيُسَمَّى الِاسْتِبْرَاءُ عِدَّةً - فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ أَوْلَى وَالزَّانِيَةُ أَوْلَى . وَأَيْضًا " فَالْمُهَاجِرَةُ " مِنْ دَارِ الْكُفْرِ كَالْمُمْتَحَنَةِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } الْآيَةَ . قَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْحَدِيثَ الْمَأْثُورَ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا بِحَيْضَةِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مُزَوَّجَةً ؛ لَكِنْ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِهَا وَاخْتِيَارِهَا فِرَاقَهُ ؛ لَا بِطَلَاقِ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَكَانُوا إذَا سَبَوْا الْمَرْأَةَ أُبِيحَتْ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْمَسْبِيَّةُ لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقَدْ يُسَمَّى ذَلِكَ عِدَّةً . وَفِي السُّنَنِ فِي حَدِيثِ { بَرِيرَةَ لَمَّا أُعْتِقَتْ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ تَعْتَدَّ } فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ كَابْنِ حَزْمٍ : إنَّ مَنْ لَيْسَتْ بِمُطَلَّقَةٍ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ إلَّا هَذِهِ . وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ " تَعْتَدُّ " فِي كَلَامِهِمْ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ كَمَا ذَكَرْنَا سو (1) وَقَدْ رَوَى ابْن مَاجَه عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ } فَقَالَ كَذَا لَكِنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ
أَمَّا " أَوَّلًا " فَإِنَّ عَائِشَةَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ الْعِدَّةَ عِنْدَهَا ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ وَأَنَّهَا إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ حَلَّتْ فَكَيْفَ تَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَالنِّزَاعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إلَى الْيَوْمِ فِي الْعِدَّةِ : هَلْ هِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ أَوْ ثَلَاثُ أَطْهَارٍ ؟ وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَلَوْ كَانَ لِهَذَا أَصْلٌ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ قَاطِبَةً . ثُمَّ هَذِهِ سُنَّةٌ عَظِيمَةٌ تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى مَعْرِفَتِهَا ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْمُعْتَقَةَ تَحْتَ عَبْدٍ تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ . " وَالثَّانِي " أَنَّ الْعِدَّةَ ثَلَاثُ حَيْضٍ . وَأَيْضًا فَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمُعْتَقَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ ذَلِكَ طَلْقَةً بَائِنَةً كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا فَالْعِدَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ طَلَاقٍ ؛ لَكِنَّ هَذَا أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا رَجْعِيًّا وَأَنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ مُبَايِنَةٍ فَلَيْسَتْ مِنْ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ حَتَّى الْخُلْعُ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي " نِكَاحِ الزَّانِيَةِ " وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ " إحْدَاهُمَا " فِي اسْتِبْرَائِهَا وَهُوَ عِدَّتُهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزَّانِي . يُقَالُ لَهُ : الِاسْتِبْرَاءُ لَمْ يَكُنْ لِحُرْمَةِ مَاءِ الْأَوَّلِ ؛ بَلْ لِحُرْمَةِ مَاءِ الثَّانِي ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَلْحِقَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا وَكَانَتْ قَدْ عُلِّقَتْ مِنْ الزَّانِي . وَأَيْضًا فَفِي اسْتِلْحَاقِ الزَّانِي وَلَدَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ
فِرَاشًا قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ ؛ دُونَ الْعَاهِرِ . فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْحَدِيثُ وَعُمَرُ أَلْحَقَ أَوْلَادًا وُلِدُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . " وَالثَّانِيَةُ " أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَتُوبَ ؛ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ ؛ وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ آيَةُ النُّورِ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وَفِي السُّنَنِ حَدِيثُ أَبِي مَرْثَدٍ الغنوي فِي عَنَاقَ . وَاَلَّذِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرُوا لَهَا تَأْوِيلًا وَنَسْخًا . أَمَّا التَّأْوِيلُ : فَقَالُوا الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ فَسَادُهُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ . أَمَّا " أَوَّلًا " فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ نِكَاحٍ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ الْوَطْءُ أَيْضًا . فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مُجَرَّدُ الْوَطْءِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ . " وَثَانِيهَا " أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ اسْتِفْتَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّزَوُّجِ بِزَانِيَةٍ فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبُ النُّزُولِ خَارِجًا مِنْ اللَّفْظِ " الثَّالِثُ " أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : الزَّانِي لَا يَطَأُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ الزَّانِيَةُ لَا يَطَؤُهَا إلَّا زَانٍ ؛ كَقَوْلِهِ : الْآكِلُ لَا يَأْكُلُ إلَّا مَأْكُولًا وَالْمَأْكُولُ لَا يَأْكُلُهُ إلَّا
آكِلٌ وَالزَّوْجُ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِزَوْجَةٍ وَالزَّوْجَةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا إلَّا زَوْجٌ ؛ وَهَذَا كَلَامٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ . " الرَّابِعُ " أَنَّ الزَّانِيَ قَدْ يَسْتَكْرِهُ امْرَأَةً فَيَطَؤُهَا فَيَكُونُ زَانِيًا وَلَا تَكُونُ زَانِيَةً وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ قَدْ تَزْنِي بِنَائِمِ وَمُكْرَهٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلَا يَكُونُ زَانِيًا . " الْخَامِسُ " أَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَا قَدْ عَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ بِآيَاتِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَتَحْرِيمُهُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الْآيَةُ بِتَحْرِيمِهِ . " السَّادِسُ " قَالَ : { لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } فَلَوْ أُرِيدَ الْوَطْءُ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى ذِكْرِ الْمُشْرِكِ فَإِنَّهُ زَانٍ وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكَةُ إذَا زَنَى بِهَا رَجُلٌ فَهِيَ زَانِيَةٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْسِيمِ . " السَّابِع " أَنَّهُ قَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى أَنْ يَذْكُرَ تَحْرِيمَ الزِّنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا " النَّسْخُ " فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَائِفَةٌ : نَسَخَهَا قَوْلُهُ : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَلَمَّا عَلِمَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ جِدًّا وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَنْسَخُهَا فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ قَالُوا : هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا زَعَمَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيَّ وَغَيْرُهُ . أَمَّا
عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَنْسَخُ النُّصُوصَ كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عِيسَى ابْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مَضْمُونُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ يَجُوزُ لَهَا تَبْدِيلُ دِينِهَا بَعْدَ نَبِيِّهَا وَأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى : أُبِيحَ لِعُلَمَائِهِمْ أَنْ يَنْسَخُوا مِنْ شَرِيعَةِ الْمَسِيحِ مَا يَرَوْنَهُ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِمَّنْ يَظُنُّ الْإِجْمَاعَ مَنْ يَقُولُ : الْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى نَصٍّ نَاسِخٍ لَمْ يَبْلُغْنَا ؛ وَلَا حَدِيثُ إجْمَاعٍ فِي خِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ . وَكُلُّ مَنْ عَارَضَ نَصًّا بِإِجْمَاعِ وَادَّعَى نَسْخَهُ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ يُعَارِضُ ذَلِكَ النَّصَّ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبُيِّنَ أَنَّ النُّصُوصَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ إلَّا بِنَصِّ بَاقٍ مَحْفُوظٍ عِنْدَ الْأُمَّةِ . وَعِلْمُهَا بِالنَّاسِخِ الَّذِي الْعَمَلُ بِهِ أَهَمُّ عِنْدَهَا مَنْ عِلْمِهَا بِالْمَنْسُوخِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَحِفْظُ اللَّهِ النُّصُوصَ النَّاسِخَةَ أَوْلَى مِنْ حِفْظِهِ الْمَنْسُوخَةَ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } فِي غَايَةِ الضَّعْفِ ؛ فَإِنَّ كَوْنَهَا زَانِيَةً وَصْفٌ عَارِضٌ لَهَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا عَارِضًا : مِثْلَ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً وَمُعْتَدَّةً وَمَنْكُوحَةً لِلْغَيْرِ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ لَكَانَتْ كَالْوَثَنِيَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا تَحْرُمُ الْمَرْأَةُ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَقَّتًا ؛ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ؛ وَهُوَ أَمْرٌ بِإِنْكَاحِهِنَّ بِالشُّرُوطِ الَّتِي بَيَّنَهَا وَكَمَا أَنَّهَا لَا تُنْكَحُ فِي الْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَتُوبَ .
وَقَدْ احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ : { إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ . فَقَالَ طَلِّقْهَا . فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا . قَالَ : فَاسْتَمْتِعْ بِهَا } الْحَدِيثُ . رَوَاهُ النَّسَائِي وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا ؛ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤَوِّلُ " اللَّامِسَ " بِطَالِبِ الْمَالِ ؛ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ . لَكِنَّ لَفْظَ " اللَّامِسِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ مَنْ مَسَّهَا بِيَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا فَإِنَّ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَكُونُ فِيهَا تَبَرُّجٌ وَإِذَا نَظَرَ إلَيْهَا رَجُلٌ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لَمْ تَنْفِرْ عَنْهُ . وَلَا تُمَكِّنُهُ مِنْ وَطْئِهَا . وَمِثْلُ هَذِهِ نِكَاحُهَا مَكْرُوهٌ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهَا ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَمْ تَزْنِ وَلَكِنَّهَا مُذْنِبَةٌ بِبَعْضِ الْمُقَدِّمَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ : فَجَعَلَ اللَّمْسَ بِالْيَدِ فَقَطْ وَلَفْظُ " اللَّمْسِ وَالْمُلَامَسَةِ " إذَا عُنِيَ بِهِمَا الْجِمَاعُ لَا يُخَصُّ بِالْيَدِ بَلْ إذَا قُرِنَ بِالْيَدِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } . وَأَيْضًا فَاَلَّتِي تَزْنِي بَعْدَ النِّكَاحِ لَيْسَتْ كَاَلَّتِي تَتَزَوَّجُ وَهَى زَانِيَةٌ ؛ فَإِنَّ دَوَامَ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ ابْتِدَائِهِ . وَإِلَّا حَرَامٌ أَوْ الْعُدَّةُ تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ دُونَ الدَّوَامِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَجِبُ فِرَاقُهَا لَكَانَ الزِّنَا كَالْعِدَّةِ تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ دُونَ الدَّوَامِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ . " فَإِنْ قِيلَ " مَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } ؟ " قِيلَ " : الْمُتَزَوِّجُ بِهَا إنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ زَانٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا فَهُوَ كَافِرٌ . فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولَ مِنْ تَحْرِيمِ هَذَا وَفَعَلَهُ فَهُوَ زَانٍ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ
الْبَغَايَا . يَقُولُ : فَإِنْ تَزَوَّجْتُمْ بِهِنَّ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ وَإِنْ اعْتَقَدْتُمْ التَّحْرِيمَ فَأَنْتُمْ زُنَاةٌ . لِأَنَّ هَذِهِ تُمَكِّنُ مِنْ نَفْسِهَا غَيْرَ الزَّوْجِ مِنْ وَطْئِهَا فَيَبْقَى الزَّوْجُ يَطَؤُهَا كَمَا يَطَؤُهَا أُولَئِكَ وَكُلُّ امْرَأَةٍ اشْتَرَكَ فِي وَطْئِهَا رَجُلَانِ فَهِيَ زَانِيَةٌ ؛ فَإِنَّ الْفُرُوجَ لَا تَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ ؛ بَلْ لَا تَكُونُ الزَّوْجَةُ إلَّا مُحْصَنَةً . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُتَزَوِّجُ بِالزَّانِيَةِ زَانِيًا كَانَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ ؛ وَهُوَ مَذْمُومٌ أَعْظَمَ مِمَّا يُذَمُّ الَّذِي يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ وَلِهَذَا يَقُولُ فِي " الشَّتْمَةِ " : سَبَّهُ بِالزَّايِ وَالْقَافِ . أَيْ قَالَ يَا زَوْجَ الْقَحْبَةِ فَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَتَشَاتَمُ بِهِ النَّاسُ ؛ لِمَا قَدْ اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُبْحِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ مُبَاحًا وَلِهَذَا كَانَ قَذْفُ الْمَرْأَةِ طَعْنًا فِي زَوْجِهَا فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِبَغِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَعْنًا فِي الزَّوْجِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ . فَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْأَنْبِيَاءِ أَنَّ يَتَزَوَّجُوا كَافِرَةً وَلَمْ يُبِحْ تَزَوُّجَ الْبَغِيِّ لِأَنَّ هَذِهِ تُفْسِدُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْكَافِرَةِ ؛ وَلِهَذَا أَبَاحَ اللَّهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُلَاعِنَ مَكَانَ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ وَأَسْقَطَ عَنْهُ الْحَدَّ بِلِعَانِهِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ } وَاَلَّذِي يَتَزَوَّجُ بِبَغِيِّ هُوَ دَيُّوثٌ وَهَذَا مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَمِّهِ وَعَيْبِهِ بِذَلِكَ جَمِيعَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ : كُلُّهُمْ يَذُمُّ مَنْ تَكُونُ
امْرَأَتُهُ بَغِيًّا وَيُشْتَمُ بِذَلِكَ وَيُعَيَّرُ بِهِ فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى شَرْعِ الْإِسْلَامِ إبَاحَةُ ذَلِكَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ أَفْضَلِ الشَّرَائِعِ ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ تُنَزَّهَ الشَّرِيعَةُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي إذَا تَصَوَّرَهُ الْمُؤْمِنُ وَلَوَازِمَهُ اسْتَعْظَمَ أَنْ يُضَافَ مِثْلَ هَذَا إلَى الشَّرِيعَةِ وَرَأَى أَنَّ تَنْزِيهَهَا عَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ تَنْزِيهِ عَائِشَةَ عَمَّا قَالَهُ أَهْلُ الْإِفْكِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا : { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا لَمْ يُفَارِقْ عَائِشَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ مَا قِيلَ أَوَّلًا وَلَمَّا حَصَلَ لَهُ الشَّكُّ اسْتَشَارَ عَلِيًّا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَسَأَلَ الْجَارِيَةَ ؛ لِيَنْظُرَ إنْ كَانَ حَقًّا فَارَقَهَا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا مِنْ السَّمَاءِ فَذَلِكَ الَّذِي ثَبَتَ نِكَاحُهَا . وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ : إنَّهُ يَجُوزُ إمْسَاكُ بَغِيٍّ . وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقْصِدُونَ بِالْكَلَامِ فِيهَا الطَّعْنَ فِي الرَّسُولِ وَلَوْ جَازَ التَّزَوُّجُ بِبَغِيِّ لَقَالَ : هَذَا لَا حَرَجَ عَلَيَّ فِيهِ كَمَا كَانَ النِّسَاءُ أَحْيَانًا يُؤْذِينَهُ حَتَّى يَهْجُرَهُنَّ فَلَيْسَ ذُنُوبُ الْمَرْأَةِ طَعْنًا ؛ بِخِلَافِ بِغَائِهَا فَإِنَّهُ طُعِنَ فِيهِ عِنْدَ النَّاسِ قَاطِبَةً لَيْسَ أَحَدٌ يَدْفَعُ الذَّمَّ عَمَّنْ تَزَوَّجَ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا بَغِيَّةٌ مُقِيمَةٌ عَلَى الْبِغَاءِ وَلِهَذَا تَوَسَّلَ الْمُنَافِقُونَ إلَى الطَّعْنِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا مِنْ السَّمَاءِ وَقَدْ كَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي وَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا فَقَامَ : سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - الَّذِي اهْتَزَّ لِمَوْتِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ - فَقَالَ : أَنَا أَعْذُرُك مِنْهُ : إنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْت عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ
إخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَك فَأَخَذَتْ سَعْدَ بْنَ عبادة غَيْرَةٌ - قَالَتْ عَائِشَةُ : وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ امْرَأً صَالِحًا ؛ وَلَكِنْ أَخَذَتْهُ حَمِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ ابْنَ أبي كَانَ كَبِيرَ قَوْمٍ فَقَالَ كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ . فَقَامَ أسيد ابْنُ حضير : فَقَالَ : كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ؛ فَإِنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ . وَثَارَ الْحَيَّانِ حَتَّى نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَجَعَلَ يُسَكِّنُهُمْ } . فَلَوْلَا أَنَّ مَا قِيلَ فِي عَائِشَةَ طَعْنٌ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطْلُبْ الْمُؤْمِنُونَ قَتْلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ لِقَذْفِهِ لِامْرَأَتِهِ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْتَلُ . لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَذَفَ نِسَاءَهُ يُقْتَلُ لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي دِينِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بَرَاءَتَهَا وَأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّاتِي لَمْ يُفَارِقْهُنَّ عَلَيْهِ . . . (1) إذْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَتَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُومَةِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ فِيمَنْ طَلَّقَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . " أَحَدُهَا " أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ . " وَالثَّانِي " أَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ . " وَالثَّالِثُ " يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَيَّرَ نِسَاءَهُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالْفِرَاقِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ لِمَنْ فَارَقَهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ . فَلَوْ كَانَ هَذَا مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي دِينِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ
فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ
إلَى كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ يُحَرِّمُ مِثْلَ
ذَلِكَ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَدْ أَبَاحَ مِثْلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ لَا رَيْبَ فِي عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ مِنْ
التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَعُلُوِّ قَدْرِهِمْ - بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ
تَأَوَّلُوهُ اُحْتِيجَ إلَى الْبَسْطِ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا نَظَائِرُ
كَثِيرَةٌ : يَكُونُ الْقَوْلُ ضَعِيفًا جِدًّا وَقَدْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى
كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَسَادَاتِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ الْعِصْمَةَ عِنْدَ تَنَازُعِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا فِي
الرَّدِّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ
وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا
يَنْطِقُ عَلَى الْهَوَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَةً } ؟ قِيلَ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ الَّذِي لَمْ يَتُبْ
لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَفِيفَةً كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَحْمَد فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَطَأُ هَذِهِ وَهَذِهِ وَهَذِهِ كَمَا كَانَ :
كَانَ وَطْؤُهُ لِهَذِهِ مِنْ جِنْسِ وَطْئِهِ لِغَيْرِهَا مِنْ الزَّوَانِي
وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ : مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاجِرٍ فَقَدْ قَطَعَ
رَحِمَهَا . و " أَيْضًا " فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَزْنِي بِنِسَاءِ
النَّاسِ كَانَ هَذَا مِمَّا يَدْعُو الْمَرْأَةَ إلَى أَنْ تُمَكِّنَ مِنْهَا غَيْرَهُ
كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا فَلَمْ أَرَ مَنْ يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ أَوْ
ذُكْرَانٍ إلَّا فَيَحْمِل امْرَأَتَهُ عَلَى أَنْ تَزْنِيَ بِغَيْرِهِ
مُقَابَلَةً عَلَى ذَلِكَ وَمُغَايَظَةً . و " أَيْضًا " فَإِذَا كَانَ
عَادَتُهُ الزِّنَا اسْتَغْنَى بِالْبَغَايَا فَلَمْ يَكْفِ امْرَأَتَهُ فِي
الْإِعْفَافِ فَتَحْتَاجُ إلَى الزِّنَا .
وَ
" أَيْضًا " فَإِذَا زَنَى بِنِسَاءِ النَّاسِ طَلَبَ النَّاسُ أَنْ
يَزْنُوا بِنِسَائِهِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ . فَامْرَأَةُ الزَّانِي تَصِيرُ
زَانِيَةً مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَإِنْ اسْتَحَلَّتْ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ
كَانَتْ مُشْرِكَةً ؛ وَإِنْ لَمْ تَزْنِ بِفَرْجِهَا زَنَتْ بِعَيْنِهَا وَغَيْرَ
ذَلِكَ فَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ فِي نِسَاءِ الرَّجُلِ الزُّنَاةُ الْمُصِرِّينَ
عَلَى الزِّنَا الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهُ امْرَأَةٌ سَلِيمَةٌ سَلَامَةً
تَامَّةً وَطَبْعُ الْمَرْأَةِ يَدْعُو إلَى الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ إذَا رَأَتْ
زَوْجَهَا يَذْهَبُ إلَى النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : {
بِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبِرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ وَعِفُّوا تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ }
فَقَوْلُهُ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً } إمَّا أَنْ يُرَادَ
أَنَّ نَفْسَ نِكَاحِهِ وَوَطْئِهِ لَهَا زِنًا أَوْ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى
زِنَاهَا . وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَنَفْسُ وَطْئِهَا مَعَ إصْرَارِهَا عَلَى
الزِّنَا زِنًا .
وَكَذَلِكَ { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ } الْحَرَائِرِ وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ : هُنَّ الْعَفَائِفُ . فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ {
الْمُحْصَنَاتِ } بِالْحَرَائِرِ . وَبِالْعَفَائِفِ وَهَذَا حَقٌّ . فَنَقُولُ
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ
لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ
مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسَافِحِينَ } . " الْمُحْصَنَاتُ " قَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ :
هُنَّ الْعَفَائِفُ . هَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ والنَّخَعِي
وَالضَّحَّاكُ والسدي . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : هُنَّ الْحَرَائِرُ وَلَفْظُ
الْمُحْصَنَاتِ إنْ أُرِيدَ بِهِ " الْحَرَائِرُ " فَالْعِفَّةُ
دَاخِلَةٌ فِي الْإِحْصَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ أَصْلَ
الْمُحْصَنَةِ
هِيَ الْعَفِيفَةُ الَّتِي أُحْصِنَ فَرْجُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } وَقَالَ تَعَالَى :
{ إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ }
وَهُنَّ الْعَفَائِفُ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةِ * * * وتصبح غَرْثَى مِنْ لُحُومِ
الْغَوَافِلِ
ثُمَّ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّ الْحُرَّةَ عِنْدَهُمْ لَا تُعْرَفُ بِالزِّنَا ؛
وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالزِّنَا الْإِمَاءُ وَلِهَذَا { لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى أَلَّا
تَزْنِيَ قَالَتْ : أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ } فَهَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا
عِنْدَهُمْ . وَالْحُرَّةُ خِلَافَ الْأَمَةِ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ
أَنَّ الْحُرَّةَ هِيَ الْعَفِيفَةُ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ أَمَةً
كانت مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ بِالْعِفَّةِ وَصَارَ لَفْظُ الْإِحْصَانِ
يَتَنَاوَلُ الْحُرِّيَّةَ مَعَ الْعِفَّةِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَاءَ لَمْ تَكُنْ
عَفَائِفَ وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ هُوَ يَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ زَوْجُهَا يُحْصِنُهَا لِأَنَّهَا
تَسْتَكْفِي بِهِ وَلِأَنَّهُ يَغَارُ عَلَيْهَا . فَصَارَ لَفْظُ "
الْإِحْصَانِ " يَتَنَاوَلُ : الْإِسْلَامَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالنِّكَاحَ .
وَأَصْلُهُ إنَّمَا هُوَ الْعِفَّةُ ؛ فَإِنَّ الْعَفِيفَةَ هِيَ الَّتِي أُحْصِنَ
فَرْجُهَا مِنْ غَيْرِ صَاحِبِهَا كَالْمُحْصَنِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ غَيْرِ
أَهْلِهِ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ
الْكِتَابِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ " وَالْبَغَايَا " لَسْنَ
مُحْصَنَاتٍ : فَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ نِكَاحَهُنَّ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى
ذَلِكَ قَوْلُهُ : { إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } وَالْمُسَافِحُ الزَّانِي الَّذِي
يَسْفَحُ مَاءَهُ مَعَ هَذِهِ وَهَذِهِ
وَكَذَلِكَ الْمُسَافِحَةُ وَالْمُتَّخِذَةُ الْخِدْنِ الَّذِي تَكُونُ لَهُ صَدِيقَةً يَزْنِي بِهَا دُونَ غَيْرِهِ فَشَرْطٌ فِي الْحِلِّ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ غَيْرَ مُسَافِحٍ وَلَا مُتَّخِذِ خِدْنٍ . فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ بَغِيًّا وَتُسَافِحُ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا مُحْصِنًا لَهَا عَنْ غَيْرِهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ مُحْصِنًا لَهَا كَانَتْ مُحْصَنَةً وَإِذَا كَانَتْ مُسَافِحَةً لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً . وَاَللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ إذَا كَانَ الرِّجَالُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَإِذَا شُرِطَ فِيهِ أَلَّا يَزْنِيَ بِغَيْرِهَا - فَلَا يَسْفَحُ مَاءَهُ مَعَ غَيْرِهَا - كَانَ أَبْلَغَ وَأَبْلَغَ . وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : " السِّفَاحُ " الزِّنَا . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ { مُحْصِنِينَ } أَيْ مُتَزَوِّجِينَ { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } قَالَ : وَأَصْلُهُ مِنْ سَفَحْت الْقِرْبَةَ إذَا صَبَبْتهَا . فَسَمَّى " الزِّنَا " سِفَاحًا ؛ لِأَنَّهُ يَصُبُّ النُّطْفَةَ وَتَصُبُّ الْمَرْأَةُ النُّطْفَةَ . وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ : " السِّفَاحُ " صَبُّ الْمَاءِ بِلَا عَقْدٍ وَلَا نِكَاحٍ فَهِيَ الَّتِي تَسْفَحُ مَاءَهَا . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : { مُحْصِنِينَ } أَيْ عَاقِدِينَ التَّزَوُّجَ . وَقَالَ غَيْرُهُمَا : مُتَعَفِّفِينَ غَيْرُ زَانِينَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي النِّسَاءِ { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } فَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ بِكَسْرِ الصَّادِ . " وَالْمُحْصِنُ " هُوَ الَّذِي يُحْصِنُ غَيْرَهُ ؛ لَيْسَ هُوَ الْمُحْصَنَ بِالْفَتْحِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي الْحَدِّ . فَلَمْ يُبَحْ إلَّا تَزَوُّجُ مَنْ يَكُونُ مُحْصَنًا لِلْمَرْأَةِ غَيْرَ مُسَافِحٍ وَمَنْ تَزَوَّجَ بِبَغِيِّ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الْبِغَاءِ وَلَمْ يُحْصِنْهَا مِنْ غَيْرِهِ - بَلْ هِيَ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ النِّكَاحِ تَبْغِي مَعَ غَيْرِهِ - فَهُوَ مُسَافِحٌ بِهَا لَا مُحْصِنٌ لَهَا . وَهَذَا حَرَامٌ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّك تَبْتَغِي بِمَالِكِ النِّكَاحِ لَا تَبْتَغِي بِهِ السِّفَاحَ فَتُعْطِيهَا الْمَهْرَ عَلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجَتَك لَيْسَ لِغَيْرِك فِيهَا حَقٌّ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْطَيْتهَا عَلَى أَنَّهَا مُسَافِحَةٌ لِمَنْ تُرِيدُ وَأَنَّهَا صَدِيقَةٌ لَك تَزْنِي بِك دُونَ غَيْرِك فَهَذَا حَرَامٌ ؟ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ مَقْصُودُهُ أَنَّهَا تَكُونُ لَهُ ؛ لَا لِغَيْرِهِ وَهِيَ لَمْ تَتُبْ مِنْ الزِّنَا : لَمْ تَكُنْ مُوفِيَةً بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّهُ يُحْصِنُهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا فَيُسْكِنُهَا حَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا الزِّنَا ؟ قِيلَ : أَمَّا إذَا أَحْصَنَهَا بِالْقَهْرِ فَلَيْسَ هُوَ بِمِثْلِ الَّذِي يُمَكِّنُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الرِّجَالِ وَدُخُولِ الرِّجَالِ إلَيْهَا ؛ لَكِنْ قَدْ عُرِفَ بِالْعَادَاتِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّ الْمَرْأَة إذَا كَانَتْ لَهَا إرَادَةٌ فِي غَيْرِ الزَّوْجِ احْتَالَتْ إلَى ذَلِكَ بِطُرُقِ كَثِيرَةٍ وَتَخْفَى عَلَى الزَّوْجِ وَرُبَّمَا أَفْسَدَتْ عَقْلَ الزَّوْجِ بِمَا تُطْعِمُهُ وَرُبَّمَا سَحَرَتْهُ أَيْضًا وَهَذَا كَثِيرٌ مَوْجُودٌ : رِجَالٌ أَطْعَمَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَسَحَرَتْهُمْ نِسَاؤُهُمْ حَتَّى يُمْكِنَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَفْعَلَ مَا شَاءَتْ ؛ وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَذْهَبَ هُوَ إلَى غَيْرِهَا ؛ فَهِيَ تَقْصِدُ مَنْعَهُ مِنْ الْحَلَالِ أَوْ مِنْ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ . وَقَدْ تَقْصِدُ أَنْ يُمَكِّنَهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا شَاءَتْ فَلَا يَبْقَى مُحْصِنًا لَهَا قَوَّامًا عَلَيْهَا ؛ بَلْ تَبْقَى هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَيْهِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِيمَنْ تَزَوَّجَتْ وَلَمْ تَكُنْ بَغِيًّا : فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَتْ بَغِيًّا ؟ وَالْحِكَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ . وَيَا لَيْتَهَا مَعَ التَّوْبَةِ يَلْزَمُ
مِنْهُ دَوَامُ التَّوْبَةِ : فَهَذَا إذَا أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُهَا وَقِيلَ لَهُ : أَحْصِنْهَا وَاحْتَفِظْ أَمْكَنَ ذَلِكَ . أَمَّا بِدُونِ التَّوْبَةِ فَهَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ . وَلِهَذَا تَكَلَّمُوا فِي تَوْبَتِهَا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : يُرَاوِدُهَا عَلَى نَفْسِهَا . فَإِنْ أَجَابَتْهُ كَمَا كَانَتْ تُجِيبُهُ لَمْ تَتُبْ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَا يُرَاوِدُهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ تَابَتْ فَإِذَا رَاوَدَهَا نَقَضَتْ التَّوْبَةَ وَلِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ إذَا رَاوَدَهَا أَنْ يَقَعَ فِي ذَنْبٍ مَعَهَا . وَاَلَّذِينَ اشْتَرَطُوا امْتِحَانَهَا قَالُوا : لَا يُعْرَفُ صِدْقُ تَوْبَتِهَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : { إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } و " الْمُهَاجِرُ " قَدْ يَتَنَاوَلُ التَّائِبَ قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ } فَهَذِهِ إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا هَجَرَتْ السُّوءَ اُمْتُحِنَتْ عَلَى ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ صِدْقُ تَوْبَتِهَا . وقَوْله تَعَالَى { وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } حَرُمَ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ صَدِيقَةً فِي السِّرِّ تَزْنِي مَعَهُ لَا مَعَ غَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الْإِمَاءِ { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } فَذَكَرَ فِي " الْإِمَاءِ " { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } وَأَمَّا " الْحَرَائِرُ " فَاشْتَرَطَ فِيهِنَّ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَذَكَرَ فِي الْمَائِدَةِ { وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ }
لَمَّا
ذَكَرَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي النِّسَاءِ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا غَيْرَ
مُسَافِحِينَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَاءَ كُنَّ مَعْرُوفَاتٍ بِالزِّنَا دُونَ
الْحَرَائِرِ فَاشْتَرَطَ فِي نِكَاحِهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ
مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَدَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ
الْأَمَةَ الَّتِي تَبْغِي لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا إلَّا إذَا تَزَوَّجَهَا
عَلَى أَنَّهَا مُحْصَنَةٌ يُحْصِنُهَا زَوْجُهَا فَلَا تُسَافِحُ الرِّجَالَ
وَلَا تَتَّخِذُ صَدِيقًا . وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْأُمُورِ فِي تَحْرِيمِ
نِكَاحِ الْأَمَةِ الْفَاجِرَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ { مُحْصَنَاتٍ } عَفَائِفُ غَيْرُ زَوَانٍ { وَلَا مُتَّخِذَاتِ
أَخْدَانٍ } يَعْنِي أَخِلَّاءَ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا
ظَهَرَ مِنْ الزِّنَا وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى :
" الْمُسَافِحَاتُ " الْمُعْلِنَاتُ بِالزِّنَا " وَالْمُتَّخِذَاتُ
أَخْدَانٍ " ذَوَاتُ الْخَلِيلِ الْوَاحِدِ . قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ :
كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَتَّخِذُ صَدِيقًا تَزْنِي مَعَهُ وَلَا تَزْنِي مَعَ
غَيْرِهِ . فَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ
الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ وَهُوَ كَمَا قَالُوا وَذَكَرُوا أَنَّ الزِّنَا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ نَوْعَيْنِ : نَوْعًا مُشْتَرِكًا وَنَوْعًا مُخْتَصًّا
. وَالْمُشْتَرِكُ مَا يَظْهَرُ فِي الْعَادَةِ ؛ بِخِلَافِ الْمُخْتَصِّ
فَإِنَّهُ مُسْتَتِرٌ فِي الْعَادَةِ . وَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ الْمُخْتَصَّ
وَهُوَ شَبِيهٌ بِالنِّكَاحِ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ تَخْتَصُّ فِيهِ الْمَرْأَةُ
بِالرَّجُلِ : وَجَبَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ
اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ إذَا كَانَ يَزْنِي بِهَا وَحْدَهَا لَمْ
يَعْرِفْ أَنَّهَا لَمْ يَطَأْهَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْوَلَدَ
الَّذِي تَلِدُهُ مِنْهُ وَلَا يَثْبُتُ لَهَا خَصَائِصُ النِّكَاحِ .
فَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ عَلَى " النِّكَاحِ
السِّرِّ " فَإِنَّ نِكَاحَ السِّرِّ مِنْ جِنْسِ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ
شَبِيهٌ بِهِ لَا سِيَّمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ
وَكَتَمَا ذَلِكَ : فَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَتَّخِذُ صَدِيقَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ هَذَا فَلَا يَشَاءُ مَنْ يَزْنِي بِأَمَرَةِ صَدِيقَةٍ لَهُ إلَّا قَالَ : تَزَوَّجْتهَا . وَلَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ تَزَوَّجَ فِي السِّرِّ : إنَّهُ يَزْنِي بِهَا إلَّا قَالَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ مُبِينٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } فَإِذَا ظَهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ قَدْ أَحْصَنَهَا تَمَيَّزَتْ عَنْ الْمُسَافِحَاتِ وَالْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا وَإِذَا كَانَ يُمَكِّنُهَا أَنْ تَذْهَبَ إلَى الْأَجَانِبِ لَمْ تَتَمَيَّزْ الْمُحْصَنَاتُ كَمَا أَنَّهُ إذَا كَتَمَ نِكَاحَهَا فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ لَمْ تَتَمَيَّزْ مِنْ الْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ هَذَا عَنْ هَذَا فَقِيلَ : الْوَاجِبُ الْإِعْلَانُ فَقَطْ سَوَاءٌ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . وَقِيلَ : الْوَاجِبُ الْإِشْهَادُ سَوَاءٌ أَعْلَنَ أَوْ لَمْ يُعْلِنْ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : يَجِبُ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : يَجِبُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ عَنْ أَحْمَد . وَاشْتِرَاطُ " الْإِشْهَادِ " وَحْدَهُ ضَعِيفٌ ؛ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ حَدِيثٌ . وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ دَائِمًا لَهُ شُرُوطٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا . وَإِذَا كَانَ هَذَا شَرْطًا كَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا حَدِيثٍ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا
أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَاكِحِهِمْ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ : لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ شَيْءٌ وَلَوْ أَوْجَبَهُ لَكَانَ الْإِيجَابُ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجِبُ إظْهَارُهَا وَإِعْلَانُهَا فَاشْتِرَاطُ الْمَهْرِ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ تَقْدِيرُهُ فِي الْعَقْدِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ ذَلِكَ لَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ : وَلَمْ يُضَيِّعُوا حِفْظَ مَا لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ الْهِمَمَ وَالدَّوَاعِيَ تَتَوَافَرُ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ وَاَلَّذِي يَأْمُرُ بِحِفْظِ ذَلِكَ . وَهُمْ قَدْ حَفِظُوا نَهْيَهُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ قَلِيلًا ؛ فَكَيْفَ النِّكَاحُ بِلَا إشْهَادٍ إذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَدْ حَرَّمَهُ وَأَبْطَلَهُ كَيْفَ لَا يُحْفَظُ فِي ذَلِكَ نَصٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ لَوْ نُقِلَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَكَانَ مَرْدُودًا عِنْدَ مَنْ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَعْظَمَ مِنْ الْبَلْوَى بِكَثِيرِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نِكَاحٍ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِشْهَادِ ؛ وَقَدْ عَقَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِشْهَادِ دُونَ غَيْرِهِ بَاطِلٌ قَطْعًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُشْتَرِطُونَ لِلْإِشْهَادِ مُضْطَرِبِينَ اضْطِرَابًا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْأَصْلِ فَلَيْسَ لَهُمْ قَوْلٌ يَثْبُتُ عَلَى مِعْيَارِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ وَالشَّهَادَةُ الَّتِي لَا تَجِبُ عِنْدَهُمْ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِإِشْهَادِ ذَوِي الْعَدْلِ فَكَيْفَ بِالْإِشْهَادِ الْوَاجِبِ .
ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ " بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ " وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي النِّكَاحِ ثُمَّ يَأْمُرُونَ بِهِ فِي النِّكَاحِ وَلَا يُوجِبُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي الرَّجْعَةِ وَاَللَّهُ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ ؛ لِئَلَّا يُنْكَرَ الزَّوْجُ وَيَدُومُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيُفْضِي إلَى إقَامَتِهِ مَعَهَا حَرَامًا ؛ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْإِشْهَادِ عَلَى طَلَاقٍ لَا رَجْعَةَ مَعَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانِ عقيب الْعِدَّةِ فَيَظْهَرُ الطَّلَاقُ . وَلِهَذَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ مِمَّا يَعِيبُ بِهِ أَهْلُ الرَّأْيِ : أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ ؛ وَهُمْ أُمِرُوا بِهِ فِي النِّكَاحِ دُونَ الْبَيْعِ . وَهُوَ كَمَا قَالَ . وَالْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ . وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِإِشْهَادِ وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ أُمِرَ فِيهِ بِالْإِعْلَانِ فَأَغْنَى إعْلَانُهُ مَعَ دَوَامِهِ عَنْ الْإِشْهَادِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَكَانَ هَذَا الْإِظْهَارُ الدَّائِمُ مُغْنِيًا عَنْ الْإِشْهَادِ كَالنَّسَبِ ؛ فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشْهِدَ فِيهِ أَحَدًا عَلَى وِلَادَةِ امْرَأَتِهِ ؛ بَلْ هَذَا يَظْهَرُ وَيَعْرِفُ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ هَذَا فَأَغْنَى هَذَا عَنْ الْإِشْهَادِ ؛ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُجْحَدُ وَيَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَظْهَرُ فِيهِ كَانَ إعْلَانُهُ بِالْإِشْهَادِ . فَالْإِشْهَادُ قَدْ يَجِبُ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يُعْلَنُ وَيَظْهَرُ ؛ لَا لِأَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ ؛ بَلْ إذَا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ ثُمَّ خَرَجَا فَتَحَدَّثَا بِذَلِكَ وَسَمِعَ النَّاسُ أَوْ جَاءَ الشُّهُودُ وَالنَّاسُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَأَخْبَرُوهُمْ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا : كَانَ هَذَا كَافِيًا . وَهَكَذَا كَانَتْ عَادَةُ السَّلَفِ لَمْ يَكُونُوا يُكَلِّفُونَ إحْظَارَ شَاهِدَيْنِ وَلَا كِتَابَةَ صَدَاقٍ
وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِالْإِيجَابِ مِنْ اشْتِرَاطِ شَاهِدَيْنِ مَسْتُورَيْنِ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَّا مَنْ تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ : فَهَذَا أَيْضًا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ . وَقَدْ شَذَّ بَعْضُهُمْ فَأَوْجَبَ مَنْ يَكُونُ مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ ؛ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَطْعًا فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ فِيهَا هَذَا . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد عَلَى قَوْلِهِ بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ . فَقِيلَ : يُجْزِئُ فَاسِقَانِ : كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يُجْزِئُ مَسْتُورَانِ وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : فِي الْمَذْهَبِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ . وَقِيلَ : بَلْ إنْ عَقَدَ حَاكِمٌ فَلَا يَعْقِدُهُ إلَّا بِمَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْحُكَّامَ هُمْ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمَبْرُورِ وَالْمَسْتُورِ . ثُمَّ الْمَعْرُوفُ الْعَدَالَةِ عِنْدَ حَاكِمِ الْبَلَدِ : فَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا : حَيْثُ يَعْقِدُونَ الْأَنْكِحَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَالْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ وَالْحَاكِمُ لَا يَعْرِفُهُمْ . وَإِنْ اشْتَرَطُوا مَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ بِالْخَيْرِ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَدْلِ لِمَقْبُولِ الشَّهَادَةَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ . ثُمَّ الشُّهُودُ يَمُوتُونَ وَتَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ : مَقْصُودُ الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ الْفِرَاشِ عِنْدَ التجاحد حِفْظًا لِنَسَبِ الْوَلَدِ . فَيُقَالُ : هَذَا حَاصِلٌ بِإِعْلَانِ النِّكَاحِ وَلَا يَحْصُلُ بِالْإِشْهَادِ مَعَ الْكِتْمَانِ مُطْلَقًا . فَاَلَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ مَعَ الْإِعْلَانِ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدَانِ . وَأَمَّا مَعَ الْكِتْمَانِ وَالْإِشْهَادِ فَهَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ . وَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِشْهَادُ وَالْإِعْلَانُ . فَهَذَا الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ . وَإِنْ خَلَا عَنْ الْإِشْهَادِ وَالْإِعْلَانِ : فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ فَإِنْ قُدِّرَ فِيهِ خِلَافٌ
فَهُوَ
قَلِيلٌ . وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ ثُمَّ
يُقَالُ مَا يُمَيِّزُ هَذَا عَنْ الْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا . وَفِي
الْمُشْتَرِطِينَ لِلشَّهَادَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ لَا يُعَلِّلُ
ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ الْفِرَاشِ ؛ لَكِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ حُضُورَ اثْنَيْنِ
تَعْظِيمًا لِلنِّكَاحِ . وَهَذَا يَعُودُ إلَى مَقْصُودِ الْإِعْلَانِ . وَإِذَا
كَانَ النَّاسُ مِمَّنْ يَجْهَلُ بَعْضُهُمْ حَالَ بَعْضٍ وَلَا يَعْرِفُ مَنْ
عِنْدَهُ هَلْ هِيَ امْرَأَتُهُ أَوْ خَدِينُهُ مِثْلُ الْأَمَاكِنِ الَّتِي
يَكْثُرُ فِيهَا النَّاسُ الْمَجَاهِيلُ : فَهَذَا قَدْ يُقَالُ : يَجِبُ
الْإِشْهَادُ هُنَا . وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَكْتُبُونَ " صَدَاقَاتٍ
" لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَزَوَّجُونَ عَلَى مُؤَخَّرٍ ؛ بَلْ
يُعَجِّلُونَ الْمَهْرَ وَإِنْ أَخَّرُوهُ فَهُوَ مَعْرُوفٌ ؛ فَلَمَّا صَارَ
النَّاسُ يَتَزَوَّجُونَ عَلَى الْمُؤَخَّرِ وَالْمُدَّةُ تَطُولُ وَيُنْسَى :
صَارُوا يَكْتُبُونَ الْمُؤَخَّرَ وَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ الصَّدَاقِ
؛ وَفِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْإِشْهَادَ يَحْصُلُ بِهِ
الْمَقْصُودُ ؛ سَوَاءٌ حَضَرَ الشُّهُودُ الْعَقْدَ أَوْ جَاءُوا بَعْدَ
الْعَقْدِ فَشَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلِيِّ وَقَدْ
عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ نِكَاحٌ قَدْ أُعِلْنَ وَإِشْهَادُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ
غَيْرِ تَوَاصٍ بِكِتْمَانِهِ إعْلَانٌ .
وَهَذَا بِخِلَافِ " الْوَلِيِّ " فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ عَادَةُ
الصَّحَابَةِ إنَّمَا كَانَ يُزَوِّجُ النِّسَاءَ الرِّجَالُ لَا يُعْرَفُ أَنَّ
امْرَأَةً تُزَوِّجُ نَفْسَهَا . وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ
النِّكَاحِ وَمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ : لَا تُزَوِّجُ
الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ؛ فَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا .
لَكِنْ لَا يَكْتَفِي بِالْوَلِيِّ حَتَّى يُعْلِنَ ؛ فَإِنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ
مَنْ يَكُونُ مُسْتَحْسَنًا عَلَى قَرَابَتِهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } فَخَاطَبَ الرِّجَالَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى كَمَا خَاطَبَهُمْ بِتَزْوِيجِ الرَّقِيقِ . وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } . وَهَذَا الْفَرْقُ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ . و " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الصَّدَاقَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَمْ يُوجِبْ الْإِشْهَادَ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الْإِشْهَادِ : فَقَدْ أَسْقَطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَأَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ الْمَدَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فِي تَحْرِيمِهِمْ " نِكَاحَ الشِّغَارِ " وَأَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْمَهْرِ فَحَيْثُ يَكُونُ الْمَهْرُ : فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ وَهُوَ أَنَصّ الرِّوَايَتَيْنِ وَأَصْرَحُهُمَا عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَاخْتِيَارُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ رُجْحَانَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ - كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ - عَلَى مَا خَالَفَهَا مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي قِيلَتْ بِرَأْيٍ يُخَالِفُ النُّصُوصَ ؛ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ قَالُوا بِرَأْيٍ يُخَالِفُ النُّصُوصَ بَعْدَ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ فَعَلُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَاجْتَهَدُوا وَاَللَّهُ يُثِيبُهُمْ وَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ : فَآجَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ عَلِمُوا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ
أَفْضَلَ مِمَّنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ . وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَجْرَانِ وَأُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . وَمَنْ تَدَبَّرَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَهَا مُفَسِّرَةً لِأَمْرِ النِّكَاحِ لَا تَشْتَرِطُ فِيهِ مَا يَشْتَرِطُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ كَمَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ : أَلَّا يَكُونَ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ . وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ : أَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ . وَاشْتَرَطَ هَؤُلَاءِ وَطَائِفَةٌ : أَلَّا يَكُونَ إلَّا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذَا صَحَّحُوا النِّكَاحَ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ . ثُمَّ صَارُوا طَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ تُصَحِّحُ " نِكَاحَ الشِّغَارِ " لِأَنَّهُ لَا مُفْسِدَ لَهُ إلَّا نَفْيُ الْمَهْرِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُفْسِدِ عِنْدَهُمْ . وَطَائِفَةٌ تُبْطِلُهُ وَتُعَلِّلُ ذَلِكَ بِعِلَلِ فَاسِدَةٍ ؛ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ . وَصَحَّحُوا " نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ " الَّذِي يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ فَكَانَ قَوْلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَفْظًا مُعَيَّنًا فِي النِّكَاحِ وَلَا إشْهَادَ شَاهِدِينَ مَعَ إعْلَانِهِ وَإِظْهَارِهِ وَأَبْطَلُوا نِكَاحَ الشِّغَار وَكُلَّ نِكَاحٍ نُفِيَ فِيهِ الْمَهْرُ وَأَبْطَلُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلَ . . . (1) أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ الْحِجَازِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَسَّعُوا " بَابَ الطَّلَاقِ " فَأَوْقَعُوا طَلَاقَ السَّكْرَانِ وَالطَّلَاقَ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَأَوْقَعَ هَؤُلَاءِ طَلَاقَ
الْمُكْرَهِ
وَهَؤُلَاءِ الطَّلَاقَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ فِيمَا حَلَفَ بِهِ وَجَعَلُوا
الْفُرْقَةَ الْبَائِنَةَ طَلَاقًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ فَجَعَلُوا
الْخُلْعَ طَلَاقًا بَائِنًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ . إلَى أُمُورٍ أُخْرَى
وَسَّعُوا بِهَا الطَّلَاقَ الَّذِي يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَضَيَّقُوا النِّكَاحَ
الْحَلَالَ . ثُمَّ لَمَّا وَسَّعُوا الطَّلَاقَ صَارَ هَؤُلَاءِ يُوَسِّعُونَ فِي
الِاحْتِيَالِ فِي عَوْدِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا وَهَؤُلَاءِ لَا سَبِيلَ
عِنْدَهُمْ إلَى رَدِّهَا ؛ فَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي آصَارٍ وَأَغْلَالٍ وَهَؤُلَاءِ
فِي خِدَاعٍ وَاحْتِيَالٍ . وَمَنْ تَأَمَّلَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ
الصَّحَابَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى عَنْ هَذَا وَأَنَّ اللَّهَ
بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ
الْخَبَائِثَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بِنْتِ الزِّنَا : هَلْ تُزَوَّجُ بِأَبِيهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
التَّزْوِيجُ بِهَا وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ ؛ حَتَّى تَنَازَعَ
الْجُمْهُورُ : هَلْ يُقْتَلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَد : أَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ . فَقَدْ
يُقَالُ : هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَأَوِّلًا . وَأَمَّا " الْمُتَأَوِّلُ
" فَلَا يُقْتَلُ ؛ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا . وَقَدْ يُقَالُ : هَذَا
مُطْلَقًا كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ : إنَّهُ يُجْلَدُ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ
الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مُتَأَوِّلًا ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَفْسُقُ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفَسَّقَهُ
مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَالصَّحِيحُ : أَنَّ الْمُتَأَوِّلَ الْمَعْذُورَ لَا يَفْسُقُ ؛ بَلْ وَلَا يَأْثَمُ . وَأَحْمَد لَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهَا إنَّمَا ظَهَرَ فِي زَمَنِهِ لَمْ يَظْهَرْ فِي زَمَنِ السَّلَفِ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَعْرِفْهُ . وَاَلَّذِينَ سَوَّغُوا " نِكَاحَ الْبِنْتِ مِنْ الزِّنَا " حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ قَالُوا : لَيْسَتْ هَذِهِ بِنْتًا فِي الشَّرْعِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ ؛ وَلَا يَجِبُ نَفَقَتُهَا ؛ وَلَا يَلِي نِكَاحَهَا وَلَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَبِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِنْتًا فِي الشَّرْعِ لَمْ تَدْخُلْ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ فَتَبْقَى دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } . وَأَمَّا حُجَّةُ الْجُمْهُورِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةُ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَنْ شَمِلَهُ هَذَا اللَّفْظُ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا وَسَوَاءٌ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ التَّوَارُثُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ : أَمْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا التَّحْرِيمُ خَاصَّةً لَيْسَ الْعُمُومُ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ كَالْعُمُومِ فِي آيَةِ الْفَرَائِضِ وَنَحْوِهَا ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّ آيَةَ التَّحْرِيمِ تَتَنَاوَلُ الْبِنْتَ وَبِنْتَ الِابْنِ وَبِنْتَ الْبِنْتِ ؛ كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظُ " الْعَمَّةِ " عَمَّةَ الْأَبِ ؛ وَالْأُمِّ وَالْجَدِّ . وَكَذَلِكَ بِنْتُ الْأُخْتِ وَبِنْتُ ابْنِ الْأُخْتِ . وَبِنْتُ بِنْتِ الْأُخْتِ . وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَثْبُتُ لَا فِي آيَةِ الْفَرَائِضِ وَلَا نَحْوِهَا مِنْ الْآيَاتِ وَالنُّصُوصِ الَّتِي عَلَّقَ فِيهَا الْأَحْكَامَ بِالْأَنْسَابِ .
" الثَّانِي " أَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الرَّضَاعَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرِمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } وَفِي لَفْظٍ { مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَهَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَعَلَى الْأَئِمَّةِ بِهِ : فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِطِفْلِ غَذَّتْهُ مِنْ لَبَنِهَا أَوْ أَنْ تَنْكِحَ أَوْلَادَهُ وَحَرَّمَ عَلَى أُمَّهَاتِهَا وَعَمَّاتِهَا وَخَالَتِهَا ؛ بَلْ حَرَّمَ عَلَى الطِّفْلَةِ الْمُرْتَضِعَةِ مِنْ امْرَأَةٍ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالْفَحْلِ صَاحِبِ اللَّبَنِ وَهُوَ الَّذِي وَطِئَ الْمَرْأَةَ حَتَّى دَرَّ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ . فَإِذَا كَانَ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَنْكِحَ بِنْتَهُ مِنْ الرِّضَاعِ وَلَا يَثْبُتَ فِي حَقِّهَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النَّسَبِ - سِوَى التَّحْرِيمِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ الْحُرْمَةِ - فَكَيْفَ يُبَاحُ لَهُ نِكَاحُ بِنْتٍ خُلِقَتْ مِنْ مَائِهِ وَأَيْنَ الْمَخْلُوقَةُ مِنْ مَائِهِ مِنْ الْمُتَغَذِّيَةِ بِلَبَنِ دُرَّ بِوَطْئِهِ فَهَذَا يُبَيِّنُ التَّحْرِيمَ مِنْ جِهَةِ عُمُومِ الْخِطَابِ وَمِنْ جِهَةِ التَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى وَقِيَاسِ الْأَوْلَى . " الثَّالِثُ " أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : احْتِرَازٌ عَنْ ابْنِهِ الَّذِي تَبَنَّاهُ كَمَا قَالَ : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يستلحقون وَلَدَ الزِّنَا أَعْظَمَ مِمَّا يستلحقون وَلَدَ الْمُتَبَنِّي فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { مِنْ أَصْلَابِكُمْ } عُلِمَ أَنَّ لَفْظَ " الْبَنَاتِ " وَنَحْوِهَا يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي لُغَتِهِمْ دَاخِلًا فِي الِاسْمِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا الْمِيرَاثُ وَنَحْوُهُ . فَجَوَابُهُ أَنَّ النَّسَبَ تَتَبَعَّضُ أَحْكَامُهُ فَقَدْ ثَبَتَ بَعْضُ أَحْكَامِ النَّسَبِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا
وَافَقَ أَكْثَرُ الْمُنَازِعِينَ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُلَاعِنِ وَلَا يَرِثُهُ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِلْحَاقِ وَلَدِ الزِّنَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِرَاشًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . كَمَا ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَلْحَقَ ابْنَ وَلِيدَةِ زمعة بْنِ الْأَسْوَدِ بزمعة بْنِ الْأَسْوَدِ وَكَانَ قَدْ أَحْبَلَهَا عتبة بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَاخْتَصَمَ فِيهِ سَعْدٌ وَعَبْدُ ابْنُ زمعة (*) فَقَالَ سَعْدٌ : ابْنُ أَخِي . عَهِدَ إلَيَّ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زمعة هَذَا ابْنِي . فَقَالَ عَبْدٌ : أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي ؛ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زمعة . الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ؛ احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ } لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة فَجَعَلَهُ أَخَاهَا فِي الْمِيرَاثِ دُونَ الْحُرْمَةِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وَلَدِ الزِّنَا : هَلْ يَعْتِقُ بِالْمِلْكِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا بَسْطٌ لَا تَسَعُهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الضَّعِيفَةِ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْكِيَهَا عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَدْحِ فِيهِ وَلَا عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ لَهُ فِيهَا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ الطَّعْنِ فِي الْأَئِمَّةِ وَاتِّبَاعِ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ صَارَ وَزِيرُ التتر يُلْقِي الْفِتْنَةَ بَيْنَ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إلَى الْخُرُوجِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَيُوقِعَهُمْ فِي مَذَاهِبِ الرَّافِضَةِ وَأَهْلِ الْإِلْحَادِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ فِي حَالِ شبوبيته وَقَدْ رَأَى مَعَهَا فِي هَذِهِ
الْأَيَّامِ بِنْتًا وَهُوَ يَطْلُبُ التَّزْوِيجَ بِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ
هِيَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ فِي تَزْوِيجِهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزْوِيجُ بِهَا عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ بِنْتَ الَّتِي زَنَى بِهَا مِنْ غَيْرِهِ لَا يَحِلُّ
التَّزَوُّجُ بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ . وَأَمَّا بِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا فَأَغْلَظُ مِنْ ذَلِكَ
وَإِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِهَا حَرُمَتَا عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَحَمَلَتْ مِنْهُ فَأَتَتْ بِأُنْثَى : فَهَلْ لَهُ
أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ ذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ
يُحِلَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛
وَلِهَذَا لَمْ يَعْرِفْ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ -
مَعَ كَثْرَةِ اطِّلَاعِهِمْ - فِي ذَلِكَ نِزَاعًا بَيْنَ السَّلَفِ فَأَفْتَى
أَحْمَد
ابْنُ حَنْبَلٍ : إنْ فَعَلَ ذَلِكَ قُتِلَ . فَقِيلَ لَهُ ؛ إنَّهُ حَكَى فُلَانٌ فِي ذَلِكَ خِلَافًا عَنْ مَالِكٍ ؟ فَقَالَ : يَكْذِبُ فُلَانٌ . وَذَكَرَ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا يَلْحَقُ بِأَبِيهِ الزَّانِي إذَا اسْتَلْحَقَهُ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ " أَلَاطَ " أَيْ أَلْحَقَ أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } هَذَا إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجٌ . وَأَمَّا " الْبَغِيُّ " الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا : فَفِي اسْتِلْحَاق الزَّانِي وَلَدَهُ مِنْهَا نِزَاعٌ . " وَبِنْتُ الْمُلَاعَنَةِ " لَا تُبَاحُ لِلْمَلَاعِنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا نِزَاعٌ شَاذٌّ ؛ مَعَ أَنَّ نَسَبَهَا يَنْقَطِعُ مِنْ أَبِيهَا وَلَكِنْ لَوْ اسْتَلْحَقَهَا لَلَحِقَتْهُ وَهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهَذَا لِأَنَّ " النَّسَبَ " تَتَبَعَّضُ أَحْكَامُهُ فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ ابْنًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ . فَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ لَيْسَ بِابْنِ ؛ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ ابْنٌ فِي " بَابِ النِّكَاحِ " تَحْرُمُ بِنْتُ الْمُلَاعَنَةِ عَلَى الْأَبِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجُ بِنْتَه مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا أُخْتَه ؛ مَعَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا مِنْ " أَحْكَامِ النَّسَبِ " لَا إرْثٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا وِلَايَةٌ وَلَا نَفَقَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي حَقِّهَا حُرْمَةُ النِّكَاحِ والمحرمية . و " أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ " أُمَّهَاتٌ فِي الْحُرْمَةِ فَقَطْ ؛ لَا فِي المحرمية . فَإِذَا كَانَتْ الْبِنْتُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا امْرَأَتُهُ بِلَبَنِ دُرَّ بِوَطْئِهِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْسُوبَةً إلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ : فَكَيْفَ بِمَنْ خُلِقَتْ مِنْ نُطْفَتِهِ فَإِنَّ هَذِهِ أَشَدُّ اتِّصَالًا بِهِ مِنْ تِلْكَ وقَوْله تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةُ : يَتَنَاوَلُ مَا يُسَمَّى بِنْتًا حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِ بِنْتُ بِنْتِهِ وَبِنْتُ ابْنِهِ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْفَرَائِضِ : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ وَلَدَهُ وَوَلَدَ ابْنِهِ لَا يَتَنَاوَلُ وَلَدَ بِنْتِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ لَفْظُ الِابْنِ وَالْبِنْتِ يَتَنَاوَلُ مَا يُسَمَّى بِذَلِكَ مُطْلَقًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } لِيُحْرِزَ عَنْ الِابْنِ الْمُتَبَنَّى - كَزَيْدِ - الَّذِي كَانَ يُدْعَى : زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ . فَإِنَّ هَذَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ " ابْنًا " فَلَوْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ لَظُنَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى { الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } لِيُخْرِجَ ذَلِكَ . وَأَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ مَنْ تَبَنَّاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } . فَإِذَا كَانَ لَفْظُ " الِابْنِ " و " الْبِنْتِ " يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الشَّخْصِ حَتَّى قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ بِنْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ : فَبِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا تُسَمَّى " بِنْتَه " فَهِيَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ شَرْعًا وَأَوْلَى أَنْ يُدْخِلُوهَا فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ وَجَمَاهِيرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّ النِّزَاعَ الْمَشْهُورَ بَيْن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الزِّنَا هَلْ يَنْشُرُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ؛ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهَا وَبِنْتِهَا مِنْ غَيْرِهِ ؟ فَهَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ قَدِيمٌ بَيْنَ السَّلَفِ ؛ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى كُلِّ قَوْلٍ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : يُبِيحُونَ ذَلِكَ ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ . فَهَذِهِ إذَا قَلَّدَ الْإِنْسَانُ فِيهَا أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ جَازَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ طَلَعَ إلَى بَيْتِهِ وَوَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا
فَوَفَّاهَا حَقَّهَا وَطَلَّقَهَا ؛ ثُمَّ رَجَعَ وَصَالَحَهَا وَسَمِعَ أَنَّهَا
وُجِدَتْ بِجَنْبِ أَجْنَبِيٍّ ؟
فَأَجَابَ :
فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْجَنَّةَ قَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي
لَا يَدْخُلُك بَخِيلٌ وَلَا كَذَّابٌ وَلَا دَيُّوثٌ } " وَالدَّيُّوثُ
" الَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ وَإِنَّ
اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ
} وَقَدّ قَالَ تَعَالَى : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ
ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ : أَنَّ الزَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا إلَّا بَعْدَ
التَّوْبَةِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَزْنِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا
عَلَى تِلْكَ الْحَالِ بَلْ يُفَارِقُهَا وَإِلَّا كَانَ دَيُّوثًا .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ الزِّنَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْن
السَّلَفِ ؛ وَقَالَ : مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ . وَقِيلَ لَهُ عَنْ
مَالِكٍ : إنَّهُ أَبَاحَهُ فَكَذَّبَ النَّقْلَ عَنْ مَالِكٍ . وَتَحْرِيمُ هَذَا
هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِ ؛ وَمَالِكٍ
وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ نَصَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ؛ وَقَالُوا :
إنَّمَا نَصَّ عَلَى بِنْتِهِ مِنْ الرِّضَاعِ ؛ دُونَ الزَّانِيَةِ الَّتِي زَنَى
بِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَمَاتَ الزَّانِي : فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلَدِ
الْمَذْكُورِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ حَرَامٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ كَانَ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ يَطَؤُهَا
وَلَا يُحْصِنُهَا ؟
فَأَجَابَ :
هُوَ دَيُّوثٌ ؛ " وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ " . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ تَزْنِي : فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ تَزْنِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تَحِيضَ
وَيَسْتَبْرِئَهَا مِنْ الزِّنَا ؛ فَإِنَّ { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا
زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } عَقْدًا وَوَطْئًا . وَمَتَى وَطِئَهَا مَعَ
كَوْنِهَا زَانِيَةً كَانَ دَيُّوثًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ
لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ كَفَّ لَامِسٍ }
فَهَلْ هُوَ مَا تَرُدُّ نَفْسَهَا عَنْ أَحَدٍ ؟ أَوْ مَا تَرُدُّ يَدَهَا فِي
الْعَطَاءِ عَنْ أَحَدٍ ؟ وَهَلْ هُوَ الصَّحِيحُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَد
وَغَيْرُهُ وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرُدُّ
طَالِبَ مَالٍ ؛ لَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَسِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ
ذَلِكَ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا مَعَ كَوْنِهَا لَا
تَمْنَعُ الرِّجَالَ وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ
فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا
زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ
مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد
وَغَيْرِهِ : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَرِينَةٌ مِنْ
الْبَغَايَا يُقَالُ لَهَا : عَنَاقُ ؛ وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَزَوُّجِهَا ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ
الْآيَةَ } . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا
مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } فَإِنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ فِي
حَالِ كَوْنِهِنَّ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ .
وَالْمُسَافِحَةُ الَّتِي تُسَافِحُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ . وَالْمُتَّخِذَاتُ
الْخِدْنَ الَّتِي يَكُونُ لَهَا صَدِيقٌ وَاحِدٌ . فَإِذَا كَانَ مَنْ هَذِهِ
حَالُهَا لَا تُنْكَحُ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ؛ بَلْ تُسَافِحُ
مَنْ اتَّفَقَ وَإِذَا كَانَ مَنْ هَذِهِ حَالُهَا فِي الْإِمَاءِ فَكَيْفَ بِالْحَرَائِرِ
. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي
أَخْدَانٍ } فَاشْتَرَطَ هَذِهِ الشُّرُوطَ فِي الرِّجَالِ هُنَا
كَمَا اشْتَرَطَهُ فِي النِّسَاءِ هُنَاكَ . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } لِأَنَّهُ مَنْ تَزَوَّجَ زَانِيَةً تُزَانِي مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَاؤُهُ مَصُونًا مَحْفُوظًا فَكَانَ مَاؤُهُ مُخْتَلِطًا بِمَاءِ غَيْرِهِ . وَالْفَرْجُ الَّذِي يَطَؤُهُ مُشْتَرَكًا وَهَذَا هُوَ الزِّنَا . وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا يَزْنِي بِغَيْرِهَا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَانَ وَطْؤُهُ لَهَا مِنْ جِنْسِ وَطْءِ الزَّانِي لِلْمَرْأَةِ الَّتِي يَزْنِي بِهَا وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا غَيْرُهُ . وَإِنَّ مِنْ صُوَرِ الزِّنَا اتِّخَاذُ الْأَخْدَانِ . وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ قَبْلَ تَوْبَتِهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاعْتِبَارَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَمَنْ تَأَوَّلَ آيَةَ النُّورِ بِالْعَقْدِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا فَبُطْلَانُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ . ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ الدِّيَاثَةِ . وَمَنْ تَزَوَّجَ بَغِيًّا كَانَ دَيُّوثًا بِالِاتِّفَاقِ . وَفِي الْحَدِيثِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيلٌ وَلَا كَذَّابٌ وَلَا دَيُّوثٌ } قَالَ تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } أَيْ الرِّجَالُ الطَّيِّبُونَ لِلنِّسَاءِ الطَّيِّبَاتِ وَالرِّجَالُ الْخَبِيثُونَ لِلنِّسَاءِ الْخَبِيثَاتِ وَكَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ خَبِيثَةً كَانَ قَرِينُهَا خَبِيثًا . وَإِذَا كَانَ قَرِينُهَا خَبِيثًا كَانَتْ خَبِيثَةً وَبِهَذَا عَظَّمَ الْقَوْلَ فِيمَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَوْلَا مَا عَلَى الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَيْبِ مَا حَصَلَ هَذَا التَّغْلِيظُ . وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ : مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ وَلَوْ كَانَ تَزَوُّجُ الْبَغِيِّ جَائِزًا لَوَجَبَ تَنْزِيهُ
الْأَنْبِيَاءِ
عَمَّا يُبَاحُ . كَيْفَ وَفِي نِسَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ هِيَ كَافِرَةٌ كَمَا
فِي أَزْوَاجِ الْمُؤْمِنَاتِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا
عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } {
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ
رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } . وَأَمَّا الْبَغَايَا
فَلَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الصَّالِحِينَ مَنْ تَزَوَّجَ بَغِيًّا لِأَنَّ
الْبِغَاءَ يُفْسِدُ فِرَاشَهُ . وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ
الْكِتَابِيَّةَ الْيَهُودِيَّةَ والنصرانية إذَا كَانَ مُحْصَنًا غَيْرَ
مُسَافِحٍ وَلَا مُتَّخِذِ خِدْنٍ . فَعُلِمَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْكَافِرَةِ قَدْ
يَجُوزُ وَتَزَوُّجَ الْبَغِيَّ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ دِينِهَا لَا
يَتَعَدَّى إلَيْهِ . وَأَمَّا ضَرَرُ بِغَائِهَا فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
فِي اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي النِّكَاحِ
قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ
الْمَقْصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرٌ . وَكُلُّ هَذَا يَنْبَغِي : إبْطَالُ الْحِيَلِ
وَإِبْطَالُ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ إذَا قُصِدَ التَّحْلِيلُ وَالْمُخَالِعُ
بِخُلْعِ الْيَمِينِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقْصِدْ
النِّكَاحَ وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ فِرَاقَ الْمَرْأَةِ ؛ بَلْ هَذَا مَقْصُودُهُ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتَهُ وَقَصْدُ الْخُلْعِ مَعَ هَذَا مُمْتَنِعٌ . وَذَاكَ مَقْصُودُهُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةَ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا وَقَصْدُهُ مَعَ هَذَا أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ مُمْتَنِعٌ ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْطِي مَهْرًا ؛ بَلْ قَدْ يُعْطُونَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ وَلَا يَطْلُبُ اسْتِلْحَاقَ وَلَدٍ وَلَا مُصَاهَرَةً فِي تَزْوِيجِهَا ؛ بَلْ قَدْ يُحَلِّلُ الْأُمُّ وَبِنْتَهَا : إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ النِّكَاحَ . " وَأَمَّا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ " إذَا قَصَدَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا إلَى مُدَّةٍ ثُمَّ يُفَارِقُهَا : مِثْلَ الْمُسَافِرِ الَّذِي يُسَافِرُ إلَى بَلَدٍ يُقِيمُ بِهِ مُدَّةً فَيَتَزَوَّجُ وَفِي نِيَّتِهِ إذَا عَادَ إلَى وَطَنِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛ وَلَكِنَّ النِّكَاحَ عَقَدَهُ عَقْدًا مُطْلَقًا : فَهَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . قِيلَ : هُوَ نِكَاحٌ جَائِزٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقِيلَ : إنَّهُ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ لَا يَجُوزُ ؛ وَرُوِيَ عَنْ الأوزاعي ؛ وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ فِي الْخِلَافِ . وَقِيلَ : هُوَ مَكْرُوهٌ ؛ وَلَيْسَ بِمُحَرَّمِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنِكَاحِ مُتْعَةٍ وَلَا يَحْرُمُ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَاصِدٌ لِلنِّكَاحِ وَرَاغِبٌ فِيهِ ؛ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ ؛ لَكِنْ لَا يُرِيدُ دَوَامَ الْمَرْأَةِ مَعَهُ . وَهَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ ؛ فَإِنَّ دَوَامَ الْمَرْأَةِ مَعَهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا . فَإِذَا قَصَدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَهُ مُدَّةً فَقَدْ قَصَدَ أَمْرًا جَائِزًا ؛ بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ مِثْلُ الْإِجَارَةِ تَنْقَضِي فِيهِ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ؛ وَلَا مِلْكَ لَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ . وَأَمَّا هَذَا فَمِلْكُهُ ثَابِتٌ مُطْلَقٌ وَقَدْ تَتَغَيَّرُ نِيَّتُهُ فَيُمْسِكُهَا دَائِمًا ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ كَمَا أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ بِنِيَّةِ إمْسَاكِهَا دَائِمًا ثُمَّ بَدَا لَهُ طَلَاقُهَا جَازَ ذَلِكَ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا .
بِنِيَّةِ أَنَّهَا إذَا أَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا وَإِلَّا فَارَقَهَا : جَازَ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَقْدِ لَكِنْ لَوْ شَرَطَ أَنْ يُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ : فَهَذَا مُوجَبُ الْعَقْدِ شَرْعًا ؛ وَهُوَ شَرْطٌ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَزِمَهُ مُوجَبُ الشَّرْعِ : كَاشْتِرَاطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ { بَيْعُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ } وَهَذَا مُوجَبُ الْعَقْدِ . وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ كَثِيرَ الطَّلَاقِ فَلَعَلَّ غَالِبَ مَنْ تَزَوَّجَهَا كَانَ فِي نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ مُدَّةٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : إنَّ ذَلِكَ مُتْعَةٌ . وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْوِي طَلَاقَهَا عِنْدَ أَجَلٍ مُسَمًّى ؛ بَلْ عِنْدَ انْقِضَاءِ غَرَضِهِ مِنْهَا وَمِنْ الْبَلَدِ الَّذِي أَقَامَ بِهِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نَوَاهُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَقَدْ تَتَغَيَّرُ نِيَّتُهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُوجِبُ تَأْجِيلَ النِّكَاحِ وَجَعْلَهُ كَالْإِجَارَةِ الْمُسَمَّاةِ وَعَزْمُ الطَّلَاقِ لَوْ قُدِّرَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ يُبْطِلْهُ وَلَمْ يُكْرَهْ مُقَامُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ - وَإِنْ نَوَى طَلَاقَهَا - مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ نَعْلَمُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا حَدَثَ مِنْ تَأْجِيلِ النِّكَاحِ : مِثْلَ أَنْ يُؤَجِّلَ الطَّلَاقَ الَّذِي بَيْنَهُمَا ؛ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ : " أَحَدُهُمَا " تُنَجَّزُ الْفُرْقَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِك ؛ لِئَلَّا يَصِيرَ النِّكَاحُ مُؤَجَّلًا . " وَالثَّانِي " لَا تُنَجَّزُ لِأَنَّ هَذَا التَّأْجِيلَ طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ وَالدَّوَامُ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ . فَالْعِدَّةُ وَالرِّدَّةُ وَالْإِحْرَامُ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَهُ ؛ دُونَ دَوَامِهِ فَلَا يَلْزَمُ إذَا مُنِعَ التَّأْجِيلُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يُمْنَعَ فِي الدَّوَامِ لَكِنْ يُقَالُ : وَمِنْ الْمَوَانِعِ مَا يَمْنَعُ الدَّوَامَ وَالِابْتِدَاءَ أَيْضًا : فَهَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ . كَمَا اُخْتُلِفَ فِي
الْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ وَزَوَالِ الْكَفَاءَةِ : هَلْ تُثْبِتُ الْفَسْخَ ؟ فَأَمَّا حُدُوثُ نِيَّةِ الطَّلَاقِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا قَالَ إنَّ ذَلِكَ يُبْطِلَ النِّكَاحَ فَإِنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُ ؛ وَقَدْ لَا يُطَلِّقُ عِنْدَ الْأَجَلِ . كَذَلِكَ النَّاوِي عِنْدَ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ . وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَتَزَوَّجُ الْآخَرَ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ الَّتِي يُرِيدُ سَيِّدُهَا عِتْقَهَا وَلَوْ أُعْتِقَتْ كَانَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَخْتَارُهُ وَهُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ . وَلَوْ كَانَ عِتْقُهَا مُؤَجَّلًا أَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً وَتَزَوَّجَهَا وَإِنْ كَانَتْ لَهَا عِنْدَ مُدَّةِ الْأَجَلِ اخْتِيَارُ فِرَاقِهِ . وَالنِّكَاحُ مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ . فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لَيْسَ بِلَازِمِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ لَازِمٌ . ثُمَّ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ بَعْدَ مُدَّةٍ يَزُولُ اللُّزُومُ مِنْ جِهَتِهَا وَيَبْقَى جَائِزًا لَمْ يُقْدَحْ فِي النِّكَاحِ ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ وَبِشُرُوطِ يَشْتَرِطُهَا الزَّوْجُ مَعَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا الْخِيَارُ إذَا لَمْ يُوفِ بِتِلْكَ الشُّرُوطِ . فَعُلِمَ أَنَّ مَصِيرَهُ جَائِزًا مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا يَقْدَحُ وَإِنْ كَانَ هَذَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ كَمَالِ الطُّمَأْنِينَةِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ . فَعَزْمُهُ عَلَى الْمِلْكِ بِبَعْضِ الطُّمَأْنِينَةِ . مِثْلُ هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُقْدِمَةً عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ طَلَّقَ وَهَذَا مِنْ لَوَازِمَ النِّكَاحِ فَلَمْ يَعْزِمْ إلَّا عَلَى مَا يَمْلِكُهُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَهُوَ كَمَا لَوْ عَزَمَ أَنْ يُطَلِّقَهَا إنْ فَعَلَتْ ذَنْبًا أَوْ إذَا نَقَصَ مَالُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَعَزْمُهُ عَلَى الطَّلَاقِ إذَا سَافَرَ إلَى أَهْلِهِ أَوْ قَدِمَتْ امْرَأَتُهُ الْغَائِبَةُ أَوْ قَضَى وَطَرَهُ مِنْهَا : مِنْ هَذَا الْبَابِ .
وَزَيْدٌ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَلَمْ تَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ زَوْجِيَّتِهِ ؛ بَلْ مَا زَالَتْ زَوْجَتَهُ حَتَّى طَلَّقَهَا وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك } وَقِيلَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا وَكَتَمَ هَذَا الْإِعْلَامَ عَنْ النَّاسِ فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى كِتْمَانِهِ فَقَالَ : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } مِنْ إعْلَامِ اللَّهِ لَك بِذَلِكَ . وَقِيلَ : بَلْ الَّذِي أَخْفَاهُ أَنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا تَزَوَّجَهَا . وَبِكُلِّ حَالٍ لَمْ يَكُنْ عَزْمُ زَيْدٍ عَلَى الطَّلَاقِ قَادِحًا فِي النِّكَاحِ فِي الِاسْتِدَامَةِ وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْرِفُ فِيهِ نِزَاعًا . وَإِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ الْعَزْمُ عَلَى طَلَاقِهَا فِي الْحَالِ . وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّهُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ وَقَعَ . فَإِنَّ قَلْبَ زَيْدٍ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْهَا وَلَمْ تَزَلْ زَوْجَتَهُ إلَى حِينِ تَكَلَّمَ بِطَلَاقِهَا وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلُ بِهِ } وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِك . وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَبْطَلَهُ شَرْطُ التَّوْقِيتِ أَنْ تُبْطِلَهُ نِيَّةُ التَّطْلِيقِ فِيمَا بَعْدُ ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ الْمُبْطِلَةَ مَا كَانَتْ مُنَاقِضَةً لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ وَالطَّلَاقُ بَعْدَ مُدَّةٍ أَمْرٌ جَائِزٌ لَا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الطَّلَاقِ ؛ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي نِكَاحِهَا أَلْبَتَّةَ بَلْ فِي كَوْنِهَا زَوْجَةَ الْأَوَّلِ وَلَوْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَحْلِيلٍ لَمْ يُحِلَّهَا هَذَا . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الْعِوَضَ فَلَوْ حَصَلَ لَهُ بِدُونِ نِكَاحِهَا لَمْ يَتَزَوَّجْ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ هُنَا وَطْأَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ : فَهَذَا مِنْ
جِنْسِ
الْبَغِيِّ الَّتِي يَقْصِدُ وَطْأَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ بِخِلَافِ
الْمُتَزَوِّجِ الَّذِي يَقْصِدُ الْمُقَامَ وَالْأَمْرُ بِيَدِهِ وَلَمْ يَشْرِطْ
عَلَيْهِ أَحَدٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا شُرِطَ عَلَى الْمُحَلِّلِ . فَإِنْ
قَدَّرَ مَنْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا مُطْلَقًا لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ وَلَا عِدَّةٌ
وَلَكِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا أَيَّامًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا
؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ : فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ
الْكَلَامِ ؛ وَإِنْ حَصَلَ بِذَلِكَ تَحْلِيلُهَا لِلْأَوَّلِ فَهُوَ لَا يَكُونُ
مَحَلًّا إلَّا إذَا قَصَدَهُ أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ شَرْطًا لَفْظِيًّا أَوْ
عُرْفِيًّا . سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ . وَأَمَّا
إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَصْدُ تَحْلِيلٍ وَلَا شَرْطَ أَصْلًا : فَهَذَا نِكَاحٌ
مِنْ الْأَنْكِحَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ هَذَا " التَّحْلِيلِ " الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ :
إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ
وَالْإِشْهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْحِيَلِ الْمَعْرُوفَةِ : هَلْ
هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قُلِّدَ مَنْ قَالَ بِهِ هَلْ : يُفَرَّقُ بَيْنَ
اعْتِقَادٍ وَاعْتِقَادٍ ؟ وَهَلْ الْأَوْلَى إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
التَّحْلِيلُ الَّذِي يَتَوَاطَئُونَ فِيهِ مَعَ الزَّوْجِ - لَفْظًا أَوْ عُرْفًا
- عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ أَوْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ ذَلِكَ : مُحَرَّمٌ .
لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاعِلَهُ
فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ وَسَمَّاهُ " التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ "
وَقَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَكَذَلِكَ
مِثْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ لَهُمْ بِذَلِكَ
آثَارٌ مَشْهُورَةٌ : يُصَرِّحُونَ فِيهَا بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ
بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُحَلِّلٌ ؛ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي الْعَقْدِ .
وَسَمَّوْهُ " سِفَاحًا " . وَلَا تَحِلُّ لِمُطَلَّقِهَا الْأَوَّلِ
بِمِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ إمْسَاكُهَا
بِهَذَا التَّحْلِيلِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ
تَبَيَّنَ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ جَوَازُ ذَلِكَ ؛ فَتَحَلَّلَتْ
وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ :
فَالْأَقْوَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا ؛ بَلْ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ
فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ فِي الْمَاضِي عَمَّا سَلَفَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ إمَامٍ عَدْلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَبَقِيَتْ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ حَتَّى
اسْتَحَلَّتْ تَحْلِيلَ أَهْلِ مِصْرَ وَتَزَوَّجَهَا .
فَأَجَابَ :
إذَا تَزَوَّجَهَا الرَّجُلُ بِنِيَّةِ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا طَلَّقَهَا
لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ أَوْ تَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ الْعَقْدِ
أَوْ شَرَطَاهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ - لَفْظًا أَوْ عُرْفًا : فَهَذَا
وَأَنْوَاعُهُ " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " الَّذِي اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ
عَلَى بُطْلَانِهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَوْفَتْ الْعِدَّةَ ثُمَّ
تَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ ثَانٍ وَهُوَ " الْمُسْتَحِلُّ " : فَهَلْ
الِاسْتِحْلَالُ يَجُوزُ بِحُكْمِ مَا جَرَى لِرُفَاعَةِ مَعَ زَوْجَتِهِ فِي
أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ إنَّهَا
أَتَتْ لِبَيْتِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَالِبَةً لِبَعْضِ حَقِّهَا فَغَلَبَهَا
عَلَى نَفْسِهَا ثُمَّ إنَّهَا قَعَدَتْ أَيَّامًا وَخَافَتْ وَادَّعَتْ أَنَّهَا
حَاضَتْ ؛ لِكَيْ يَرُدَّهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فَرَاجَعَهَا إلَى عِصْمَتِهِ
بِعَقْدِ شَرْعِيٍّ وَأَقَامَ مَعَهَا أَيَّامًا فَظَهَرَ عَلَيْهَا الْحَمْلُ وَعَلِمَ
أَنَّهَا كَانَتْ كَاذِبَةً فِي الْحَيْضِ فَاعْتَزَلَهَا إلَى أَنْ يَهْتَدِيَ
بِحُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا زَوْجٌ لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ فَهَذَا
الْمُحَلِّلُ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَأَمَّا
حَدِيثُ رِفَاعَةَ فَذَاكَ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا ثَابِتًا ؛ لَمْ
يَكُنْ قَدْ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لِلْمُطَلِّقِ . وَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِالْمُحَلِّلِ
ثُمَّ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ إذْ
غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ
مِنْهُ . وَمَا كَانَ يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا ؛ وَإِذَا وَطِئَهَا فَهُوَ
زَانٍ عَاهِرٌ ؛ وَنِكَاحُهَا الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثًا بَاطِلٌ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا فَإِذَا جَاءَتْ
بِوَلَدِ
أُلْحِقَ بِالْمُحَلِّلِ ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ
وَلَا يُلْحَقُ الْوَلَدُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهُ
انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْ وَطِئَهَا وَهَذَا يَقْطَعُ حُكْمَ
الْفِرَاشِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَلَا يَلْحَقُ بِوَطْئِهِ زِنًا ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ . وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } . لَكِنْ إنْ عَلِمَ الْمُحَلِّلُ أَنَّ
الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ ؛ بَلْ مِنْ هَذَا الْعَاهِرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْفِيَهُ
بِاللِّعَانِ فَيُلَاعِنُهَا لِعَانًا يَنْقَطِعُ فِيهِ نَسَبُ الْوَلَدِ .
وَيَلْحَقُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ . وَلَا يَلْحَقُ بِالْعَاهِرِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ تَصِحُّ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ بِعَبْدِ يَطَؤُهَا
ثُمَّ تُبَاحُ الزَّوْجَةُ هِيَ مِنْ صُوَرِ التَّحْلِيلِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ
الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ حَنِثَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَنَكَحَتْ غَيْرَهُ لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ
: فَهَلْ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : {
أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ
اللَّهِ . قَالَ : هُوَ الْمُحَلِّلُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ
لَهُ } . وَاتَّفَقَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ : مِثْلَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عفان وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
وَغَيْرِهِمْ ؛ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَزَالَا زَانِيَيْنِ ؛ وَإِنْ
مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً إذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يُحِلَّهَا لَهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ ؛ لَا
نِكَاحَ دُلْسَةٍ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ يُخَادِعُ اللَّهَ يَخْدَعْهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِفَاحًا . وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى
كُلُّهُمْ أَنَّهُ إذَا شُرِطَ التَّحْلِيلُ فِي الْعَقْدِ كَانَ بَاطِلًا .
وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَجْعَلْ لِلشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا الْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ
تَأْثِيرًا وَجَعَلَ الْعَقْدَ مَعَ ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ نِكَاحِ
الرَّغْبَةِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَكْثَرُ أَئِمَّةِ
الْفُتْيَا فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ هَذَا الْعُرْفِ وَاللَّفْظِ وَهَذَا
مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمَا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ إذَا اسْتَحَلَّتْ بِهِ النِّسَاءُ وَهُوَ دُونُ
الْبُلُوغِ : هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ زَوْجًا وَهُوَ لَا يَدْرِي الْجِمَاعَ ؟
فَأَجَابَ
:
ثَبَتَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ {
لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَلَعَنَ اللَّهُ
الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَثَبَتَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ : كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى قَالَ عُمَرُ : لَا أوتى
بِمُحَلِّلِ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا . وَقَالَ عُثْمَانُ : لَا
نِكَاحَ إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ . وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ
عَنْ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ طَلْقَةٍ ؟ فَقَالَ : بَانَتْ مِنْهُ
بِثَلَاثِ وَسَائِرُهَا اتَّخَذَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا . فَقَالَ لَهُ
السَّائِلُ : أَرَأَيْت إنْ تَزَوَّجْتهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ : لِأُحِلَّهَا ثُمَّ
أُطَلِّقَهَا ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ
. وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَإِنْ مَكَثَا
عِشْرِينَ سَنَةً ؛ إذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يُحِلَّهَا لَهُ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي
" كِتَاب بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " وَهَذَا
لَعَمْرِي إذَا كَانَ الْمُحَلِّلُ كَبِيرًا يَطَؤُهَا وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَهَا
وَتَذُوقُ عُسَيْلَتَهُ . فَأَمَّا الْعَبْدُ الَّذِي لَا وَطْءَ فِيهِ أَوْ فِيهِ
وَلَا يُعَدُّ وَطْؤُهُ وَطْئًا كَمَنْ لَا يَنْتَشِرُ ذَكَرَهُ : فَهَذَا لَا
نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ هَذَا لَا يُحِلُّهَا . " وَنِكَاحُ
الْمُحَلِّلِ " مِمَّا يُعَيِّرُ بِهِ النَّصَارَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى
يَقُولُونَ : إنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ : إذَا طَلَّقَ
أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَزْنِيَ . وَنَبِيُّنَا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ
وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا . مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ
فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا
.
فَصْلٌ :
الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي النِّكَاحِ كَثِيرَةٌ : " كَنِكَاحِ الشِّغَارِ
" " وَالْمُحَلِّلِ " " وَالْمُتْعَةِ " . وَمِثْلِ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلَّا مَهْرَ لَهَا أَوْ عَلَى مَهْرٍ مُحَرَّمٍ وَنَحْوِ
ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ . وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا أَقْوَالٌ . "
أَحَدُهَا " أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ . ثُمَّ هَلْ يَصِحُّ إذًا
إمْضَاءُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . وَهَذَا أَحَدُ
الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ
أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ : كَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ
الْعَزِيزِ
" وَالثَّانِي " يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْجَمِيعِ ؛ وَخَرَّجَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا قَوْلًا فِي مَذْهَبِهِ ؛ حَتَّى فِي النِّكَاحِ الْبَاطِلِ ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ يَقُولُونَ بِبُطْلَانِهِ وَزُفَرُ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ وَيُلْغِي الْأَصْلَ وَقَدْ خَرَّجَ كِلَاهُمَا قَوْلًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهَذَا التَّخْرِيجُ مِنْ نَصِّهِ فِي قَوْلِهِ : إنْ جِئْتِنِي بِالْمَهْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا ؛ وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا . فَإِنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : رِوَايَةٌ بِصِحَّتِهِمَا . وَرِوَايَةٌ بِفَسَادِهِمَا . وَرِوَايَةٌ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ دُونَ الشَّرْطِ . وَكَذَلِكَ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ تَرُدَّ إلَيْهِ الْمَهْرَ : فَقَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْلِ وَبُطْلَانِ الشَّرْطِ . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ : أَنَّهُ يَبْطُلُ نِكَاحُ الشِّغَارِ وَالْمُتْعَةِ وَنِكَاحُ التَّحْلِيلِ الْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ مَعَ الْمَهْرِ الْمُحَرَّمِ وَمَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : كَالْحَرْبِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ . وَهَؤُلَاءِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا صَحَّحُوهُ مِنْ عُقُودِ النِّكَاحِ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَمَا أَبْطَلُوهُ بِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا انْتَفَى وَقَعَ النِّكَاحُ ؛ وَإِلَّا كَانَ بَاطِلًا : " كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ " وَكَذَلِكَ " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " إذَا قَدَّرَهُ بِالْفِعْلِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : زَوَّجْتُكهَا إلَى أَنْ تُحِلَّهَا . وَأَمَّا إذَا قَالَ : عَلَى أَنَّك إذَا أَحْلَلْتهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا ؛ أَوْ عَلَى أَنَّك تُطَلِّقَهَا إذَا أَحْلَلْتهَا : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَأَبُو يُوسُفَ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ عَلَى قَوْلِهِ بِبُطْلَانِهِ .
وَأَمَّا " نِكَاحُ الشِّغَارِ " فَلَهُمْ فِي عِلَّةِ إبْطَالِهِ أَقْوَالٌ : هَلْ الْعِلَّةُ التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ ؟ أَوْ تَعْلِيقُ أَحَدِ النِّكَاحَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ؟ أَوْ كَوْنُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ سَلَفًا مِنْ الْآخَرِ ؟ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ بِأَقْلَامِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا " النِّكَاحُ بِالْمَهْرِ الْفَاسِدِ " و " شَرْطُ نَفْيِ الْمَهْرِ " فَصَحَّحُوهُ مُوَافَقَةً لِأَبِي حَنِيفَةَ : بِنَاءً عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَيَصِحُّ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ . وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا نِكَاحَ الْمُتْعَةِ أَصْلًا لِمَا يُبْطِلُونَهُ مِنْ الْأَنْكِحَةِ وَنِكَاحَ الْمُفَوَّضَةِ أَصْلًا لِمَا يُصَحِّحُونَهُ وَنِكَاحُ الشِّغَارِ جَعَلُوهُ نَوْعًا آخَرَ وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي النِّكَاحِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ تَسْمِيَةِ الْعِوَضِ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ وَلَا مَعَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْجَهْلَ بِالْعِوَضِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ إسْقَاطُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَإِسْقَاطُ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الثَّمَنِ فَيَكُونُ بَاقِي الثَّمَنِ مَجْهُولًا . وَقَدْ احْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالنُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَار وَعَنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ كَنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالنَّهْيُ عَنْ النِّكَاحِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ كَنَهْيِهِ عَنْ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ . وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَبْطَلُوا هَذِهِ الْعُقُودَ فَفَرَّقُوا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي نِكَاحِ الشِّغَارِ وَجَعَلُوا نِكَاحَ التَّحْلِيلِ سِفَاحًا وَتَوَعَّدُوا الْمُحَلِّلَ بِالرَّجْمِ وَمَنَعُوا مِنْ غَيْرِ نِكَاحِ الرَّغْبَةِ كَمَا ذَكَرْنَا الْآثَارَ الْكَثِيرَةَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي " كِتَابِ إبْطَالِ التَّحْلِيلِ " فَتَبَيَّنَ بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَسَادُ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ .
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ إذَا قِيلَ بِصِحَّتِهِ وَلُزُومِهِ : فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِذَلِكَ مَعَ الشَّرْطِ الْمُحَرَّمِ الْفَاسِدِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِهِ مَعَ إبْطَالِ الشَّرْطِ فَيَكُونُ ذَلِكَ إلْزَامًا لِلْعَاقِدِ بِعَقْدِ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَلَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ بِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ : إمَّا أَنْ يَلْزَمَ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ ؛ أَوْ إلْزَامِ الْعَاقِدِ . فَالْأَوَّلُ كَالْعُقُودِ الَّتِي أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ بِهَا ؛ كَمَا أَلْزَمَ الشَّارِعُ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ بِالْإِسْلَامِ وَكَمَا أَلْزَمَ مَنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَاجِبَةٌ حَنِثَ فِيهَا بِوَاحِدَةٍ بِالْإِعْتَاقِ وَالصَّوْمِ وَكَمَا أَلْزَمَ مَنْ احْتَاجَ إلَى سِوَى ذَلِكَ . . . (1) بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ . و " الثَّانِي " الْمُقَابَلَةُ . . . (2) وَكَمَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ دَيْنُ الْمَدِينِ مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَكَمَا يَلْتَزِمُ كُلٌّ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ والمتصالحين والمتآجرين بِمَا يَلْتَزِمُهُ لِلْآخَرِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنِّكَاحُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ لَمْ يُلْزِمْ الشَّارِعُ صَاحِبَهُ أَنْ يَعْقِدَهُ بِدُونِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَلَا هُوَ الْتَزَمَ أَنْ يَعْقِدَهُ مُجَرَّدًا عَنْ الشَّرْطِ . فَإِلْزَامُهُ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ هُوَ وَلَا أَلْزَمَهُ بِهِ الشَّارِعُ إلْزَامٌ لِلنَّاسِ بِمَا لَمْ يُلْزِمْهُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ : بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } . ثُمَّ الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَالنِّكَاحُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْعَاقِدُ إلَّا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ
فَإِلْزَامُهُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ إلْزَامٌ بِعَقْدِ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَهُوَ خِلَافُ النُّصُوصِ وَالْأُصُولِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوَّزْ أَنْ يُلْزَمَ فِي الْبَيْعِ بِمَا لَمْ يَرْضَ بِهِ . وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ : إذَا صَحَّحْنَا الْبَيْعَ دُونَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ - فَلِمُشْتَرِطِ الشَّرْطَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ الْفَسْخُ أَوْ الْمُطَالَبَةُ بِأَرْشِ فَوَاتِهِ ؛ كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الشَّرْطِ الصَّحِيحِ إذَا لَمْ يُوفَ بِهِ ؛ لَكِنَّ الشَّرْطَ الصَّحِيحَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ كَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَإِذَا لَمْ يُوفَ بِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِدُونِهِ . وَأَمَّا الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ ؛ لَكِنْ لَهُ أَيْضًا الْعَقْدُ بِدُونِهِ وَلَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ صِفَةً فِي الْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَكَمَا لَوْ ظَهَرَ بِالْبَيْعِ عَيْبٌ . فَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي الْبَيْعِ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ : إنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ بَلْ فِي أَنَصِّهِمَا عَنْهُ لِأَنَّ فَوَاتَ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ وَالْمُشْتَرِطُ يَنْجَبِرُ ضَرَرُهُ بِتَخْلِيَتِهِ مِنْ الْفَسْخِ كَمَا فِي فَوَاتِ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ مِنْ الْعُيُوبِ . وَأَمَّا النِّكَاحُ فَالشُّرُوطُ فِيهِ أَلْزَمُ . وَإِذَا شَرَطَ صِفَةً فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ كَالشَّرْطِ الْأَوْفَى - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ - مَلَكَ الْفَسْخَ لِفَوَاتِهَا وَكَذَلِكَ لَهُ الْفَسْخُ عِنْدَهُ بِالْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنْ مَقْصُودِ النِّكَاحِ . . . (1) وَيَمْلِكُ الْفَسْخَ وَأَمَّا التَّحْلِيلُ فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَالْمَقْصُودُ فِي الْعُقُودِ عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ وَالْمُتْعَةُ نِكَاحٌ إلَى أَجَلٍ وَالنِّكَاحُ لَا يَتَأَجَّلُ .
" وَالشِّغَارُ " عَلَّلَهُ هُوَ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْخَلَّالِ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِنَفْيِ الْمَهْرِ وَكَوْنِهِ جَعَلَ أَحَدَ الْبُضْعَيْنِ مَهْرًا لِلْآخَرِ وَهَذَا تَعْلِيلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَعَلَّلَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِتَعْلِيلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : فَكَانَ يَنْبَغِي مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ أَنْ يُخَيَّرَ الْعَاقِدُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْعَقْدِ بِدُونِهِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ كَمَا فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ . قِيلَ : إنْ قُلْنَا إنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِصِيغَةِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّرِيحُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ - كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَتْبَاعُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مُوَافَقَةً لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقُلْنَا إنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ دُونَ النِّكَاحِ : ظَهَرَ الْفَرْقُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُمْكِنُ عَقْدُهُ جَائِزًا بِخِلَافِ النِّكَاحِ . وَالْمُصَحِّحُونَ لِنِكَاحِ التَّحْلِيلِ وَالشِّغَارِ أَوْ وَنَحْوِهِمَا قَدْ يَقُولُونَ : مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ نُصَحِّحْهُ ؛ فَإِنَّا لَا نُصَحِّحُهُ مَعَ كَوْنِهِ شِغَارًا وَتَحْلِيلًا وَمُتْعَةً وَلَكِنْ نُبْطِلُ شَرْطَ أَصْلِ الْعَقْدِ فِي الْمَهْرِ وَنُبْطِلُ شَرْطَ التَّحْلِيلِ كَذَلِكَ شَرْطُ التَّأْجِيلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ . وَيَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا لَيْسَ فِيهِ شِغَارٌ وَلَا تَحْلِيلٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : إنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ وَلَا تَحِلُّ بِهِ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا ؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يُصَحِّحُونَهُ مَعَ إبْطَالِ شَرْطِ التَّحْلِيلِ فَيَكُونُ نِكَاحًا لَازِمًا وَلَا يُحِلُّونَهَا
لِلْأَوَّلِ
؛ لِأَنَّهُ إذَا أُحِلَّتْ لِلْأَوَّلِ قُصِدَ بِذَلِكَ تَحْلِيلُهَا لِلْأَوَّلِ
فَإِذَا لَمْ تَحِلَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّحْلِيلَ
لِلْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ نِكَاحَ تَحْلِيلٍ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا
يَنْكِحُ أَحَدٌ الْمَرْأَةَ إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ ؛ لَا نِكَاحَ تَحْلِيلٍ
وَلَوْ نَكَحَهَا بِنِيَّةِ التَّحْلِيلِ أَوْ شَرَطَهُ ثُمَّ قَصَدَ الرَّغْبَةَ
هِيَ وَهُوَ وَأَسْقَطَا شَرْطُ التَّحْلِيلِ : فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى
اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ أَمْ يَكْفِي اسْتِصْحَابُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ
. وَهُوَ يُشْبِهُ إسْقَاطَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فِي الْبَيْعِ : هَلْ يَصِحُّ
مَعَهُ أَمْ لَا وَهُوَ قَصْدٌ . وَمِثْلُهُ إذَا عَقَدَ الْعَقْدَ بِدُونِ إذْنِ
مَنْ اشْتَرَطَ إذْنَهُ : هَلْ يَقَعُ بَاطِلًا أَوْ مَوْقُوفًا عَلَى
الْإِجَازَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ يَقَعُ بَاطِلًا وَلَا يُوقَفُ
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . " الثَّانِي " أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى
الْإِجَازَةِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فَإِذَا عَقَدَ الْعَقْدَ
بِنِيَّةِ فَاسِدَةٍ أَوْ شَرْطٍ فَاسِدٍ فَقَدْ يَقُولُ : إنَّهُ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَقْفِ ؛ فَمَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ وَقَفَهُ عَلَى إزَالَةِ
الْمُفْسِدِ وَمَنْ لَا فَلَا . فَزَوَالُ الْمَانِعِ كَوُجُودِ الْمُقْتَضِي .
وَإِذَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى حُصُولِ بَعْضِ شُرُوطِهِ فَهُوَ كَالْوَقْفِ
عَلَى زَوَالِ بَعْضِ مَوَانِعِهِ . . . (1) .
إذْ جَعَلْتُمُوهُ زَوْجًا مُطَلِّقًا يَلْزَمُهَا نِكَاحُهُ فَقَدْ
أَلْزَمْتُمُوهَا بِنِكَاحِ لَمْ تَرْضَ بِهِ وَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ
وَالنُّصُوصِ وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنَّ الْأَمْرَ
إلَيْهَا فَإِنْ رَضِيَتْ بِدُونِ ذَلِكَ الشَّرْطِ كَانَ زَوْجًا وَلَا يَحْتَاجُ
إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ . وَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِهِ لَمْ يَكُنْ زَوْجًا :
كَالنِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ عَلَى إجَازَتِهَا وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ
عَلَى
مَهْرٍ لَمْ يَسْلَمْ لَهَا ؛ لِتَحْرِيمِهِ أَوْ اسْتِحْقَاقِهِ فَإِنْ شَاءَتْ
أَنْ تَرْضَى بِهِ زَوْجًا بِمَهْرِ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ
تُفَارِقَهُ فَلَهَا ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ قَبْلَ رِضَاهَا نِكَاحٌ لَازِمٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فَشُرِطَ عَلَيْهِ عِنْدَ النِّكَاحِ أَنَّهُ
لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُلُهَا مِنْ مَنْزِلِهَا . وَكَانَتْ لَهَا
ابْنَةٌ فَشُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ أُمِّهَا وَعِنْدَهُ مَا تُزَالُ
فَدَخَلَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ : فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ ؟ وَإِذَا أَخْلَفَ
هَذَا الشَّرْطَ ؟ فَهَلْ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَصِحُّ هَذِهِ الشُّرُوطُ وَمَا فِي
مَعْنَاهَا فِي : مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ : كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَمْرِو بْنِ العاص
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وشريح الْقَاضِي وَالْأَوْزَاعِي وَإِسْحَاقَ وَلِهَذَا
يُوجَدُ فِي هَذَا الْوَقْتِ صَدَاقَاتُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ الْقَدِيمَةِ لَمَّا
كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ الأوزاعي فِيهَا هَذِهِ الشُّرُوطُ . وَمَذْهَبُ مَالِك
إذَا شُرِطَ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ تَسَرَّى أَنْ يَكُونَ
أَمْرُهَا بِيَدِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ : صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ أَيْضًا وَمَلَكَتْ
الْفُرْقَةُ بِهِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْوُ مَذْهَبِ أَحْمَد فِي ذَلِكَ ؛
لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا
اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : مَقَاطِعُ
الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ
فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَسْتَحِلُّ بِهِ الْفُرُوجَ مِنْ الشُّرُوطِ أَحَقَّ بِالْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا نَصٌّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشُّرُوطِ ؛ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ شَرْطٌ يُوَفَّى بِهِ بِالْإِجْمَاعِ غَيْرَ الصَّدَاقِ وَالْكَلَامِ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هِيَ هَذِهِ الشُّرُوطَ . وَأَمَّا شَرْطُ مُقَامِ وَلَدِهَا عِنْدَهَا وَنَفَقَتِهِ عَلَيْهِ : فَهَذَا مِثْلُ الزِّيَادَةِ فِي الصَّدَاقِ وَالصَّدَاقُ يَحْتَمِلُ مِنْ الْجَهَالَةِ فِيهِ - فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - مَا لَا يَحْتَمِلُ فِي الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَكُلُّ جَهَالَةٍ تَنْقُصُ عَلَى جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ تَكُونُ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ ؛ لَا سِيَّمَا مِثْلَ هَذَا يَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : إنْ اسْتَأْجَرَ الْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكُسْوَتِهِ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ . فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ النَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَمَتَى لَمْ يُوفِ لَهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَتَزَوَّجَ وَتَسَرَّى : فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ . لَكِنْ فِي تَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ نِزَاعٌ ؛ لِكَوْنِهِ خِيَارًا مُجْتَهَدًا فِيهِ كَخِيَارِ الْعُنَّةِ وَالْعُيُوبِ ؛ إذْ فِيهِ خِلَافٌ . أَوْ يُقَالُ : لَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادٍ فِي ثُبُوتِهِ وَإِنْ وَقَعَ نِزَاعٌ فِي الْفَسْخِ بِهِ ؛ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ : يَثْبُتُ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ بِلَا حُكْمِ حَاكِمٍ مِثْلَ أَنْ يَفْسَخَ عَلَى التَّرَاخِي . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ تَوَقُّفَ الْفَسْخِ عَلَى الْحُكْمِ هَلْ هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَيْضًا ؟ أَوْ أَنَّ الْفُرْقَةَ يُحْتَاطُ لَهَا ؟ وَالْأَقْوَى أَنَّ الْفَسْخَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ كَالْعُنَّةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ ؛ لَكِنْ إذَا رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ يَرَى فِيهِ إمْضَاءَهُ أَمْضَاهُ وَإِنْ رَأَى إبْطَالَهُ أَبْطَلَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ شَرَطَ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَلَا يَتَسَرَّى وَلَا
يُخْرِجُهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ مِنْ بَلَدِهَا . فَإِذَا شَرَطَتْ عَلَى
الزَّوْجِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَاتَّفَقَا عَلَيْهَا وَخَلَا الْعَقْدُ عَنْ
ذِكْرِهَا : هَلْ تَكُونُ صَحِيحَةً لَازِمَةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا
كَالْمُقَارَنَةِ أَوْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَكُونُ صَحِيحَةً لَازِمَةً إذَا لَمْ يُبْطِلَاهَا
حَتَّى لَوْ قَارَنَتْ عَقْدَ الْعَقْدِ . هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ مَالِك وَغَيْرِهِمَا فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ وَهُوَ
وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : يُخَرَّجُ مِنْ مَسْأَلَةِ " صَدَاقِ
السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ " وَكَذَا يَطْرُدُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي
الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عِنْدَهُمَا
كَالْمُقَارَنَةِ . وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد قَوْلٌ ثَانٍ : أَنَّ الشُّرُوطَ
الْمُتَقَدِّمَةَ لَا تُؤَثِّرُ . وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ
الشَّرْطِ الَّذِي يُجْعَلُ غَيْرَ مَقْصُودٍ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى أَنَّ
الْبَيْعَ تَلْجِئَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَبَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي لَا
يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا كَاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ وَنَحْوِهِ .
وَأَمَّا عَامَّةُ نُصُوصِ أَحْمَد وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَمُحَقِّقِي
الْمُتَأَخِّرِينَ : عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ وَالْمُوَاطَأَةَ الَّتِي تَجْرِي
بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ الْعَقْدِ إذَا لَمْ يَفْسَخَاهَا حَتَّى
عَقَدَا الْعَقْدَ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ
مُقَيَّدًا
بِهَا وَعَلَى هَذَا جَوَابُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ الْحِيَلِ فِي الْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا كَثِيرٌ
مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَصْحَابِهِ تَضِيقُ الْفَتْوَى عَنْ تَعْدِيدِ
أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ . وَكَثِيرٌ مِنْهَا مَشْهُورٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى
خِبْرَةٍ بِأُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ ؛ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَقَدْ
قَرَّرْنَا دَلَائِلَ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ
وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي " مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ " . وَمَنْ
تَأَمَّلَ الْعُقُودَ الَّتِي كَانَتْ تَجْرِي بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِثْلَ عَقْدِ الْبَيْعَةِ الَّتِي كَانَتْ
بَيْنَهُ وَبَيْن الْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَعَقْدِ الْهُدْنَةِ الَّذِي
كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْن قُرَيْشٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ . وَغَيْرِ ذَلِكَ :
عَلِمَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى الشُّرُوطِ ثُمَّ عَقَدُوا الْعَقْدَ بِلَفْظِ
مُطْلَقٍ وَكَذَلِكَ عَامَّةُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الْأَمْرِ
بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْغَدْرِ
وَالثَّلَاثُ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا ؛ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ
وَالْعُرْفِ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّسْمِيَةِ وَالْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةُ
تُوَافِقُ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِنْتًا عُمْرُهَا عَشْرُ سِنِينَ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ
أَهْلُهَا أَنَّهُ يَسْكُنُ عِنْدَهُمْ وَلَا يَنْقُلُهَا عَنْهُمْ وَلَا يَدْخُلُ
عَلَيْهَا إلَّا بَعْدَ سَنَةٍ . فَأَخَذَهَا إلَيْهِ وَأَخْلَفَ ذَلِكَ وَدَخَلَ
عَلَيْهَا وَذَكَرَ الدَّايَاتُ : أَنَّهُ نَقَلَهَا ثُمَّ
سَكَنَ
بِهَا فِي مَكَانٍ يَضْرِبُهَا فِيهِ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
سَافَرَ بِهَا ثُمَّ حَضَرَا بِهَا وَمَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا
مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَى ضَرْبِهَا : فَهَلْ يَحِلُّ أَنْ تَدُومَ مَعَهُ عَلَى
هَذَا الْحَالِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَلَا يَحِلُّ إقْرَارُهَا مَعَهُ عَلَى
هَذِهِ الْحَالَةِ . بَلْ إذَا تَعَذَّرَ أَنْ يُعَاشِرَهَا بِالْمَعْرُوفِ
فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَطْئًا يَضُرُّ بها ؛ بَلْ
إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ شَرَطَ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالشُّهُودِ أَنْ لَا يُسْكِنَهَا فِي
مَنْزِلِ أَبِيهِ فَكَانَتْ مُدَّةَ السُّكْنَى مُنْفَرِدَةً وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ
ذَلِكَ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ
إذَا أَرَادَ إبْطَالَ الشَّرْطِ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ
أُمَّهَا أَوْ أُخْتَهَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا وَالْمَبِيتِ عِنْدَهَا أَمْ
لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا شَرَطَتْ
الرِّضَا بِذَلِكَ بَلْ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَسْكَنٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ
لَهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ - كَمَالِكِ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمَا - غَيْرُ مَا شَرَطَ لَهَا فَكَيْفَ إذَا
كَانَ عَاجِزًا ؟ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ
وَإِنْ كَانَ قَادِرًا . فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ السَّكَنُ يَصْلُحُ لِسُكْنَى
الْفَقِيرِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ بِلَا
نِزَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ . وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ الدُّخُولِ
إلَى مَنْزِلِهِ : لَا أُمَّهَا وَلَا أُخْتَهَا : إذَا كَانَ مُعَاشِرًا لَهَا
بِالْمَعْرُوفِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ وَشَرَطُوا عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ
يَتَزَوَّجُ بِهَا تَكُونُ طَالِقًا وَكُلَّ جَارِيَةٍ يَتَسَرَّى بِهَا تَعْتِقُ
عَلَيْهِ ؛ ثُمَّ إنَّهُ تَزَوَّجَ وَتَسَرَّى : فَمَا الْحُكْمُ فِي الْمَذَاهِبِ
الْأَرْبَعَةِ ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ .
وَلَازِمٌ لَهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ : مَتَى تَزَوَّجَ وَقَعَ بِهِ
الطَّلَاقُ وَمَتَى تَسَرَّى عَتَقَتْ عَلَيْهِ الْأَمَةُ وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ . وَأَمَّا مَذْهَبُ أَحْمَد فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَا
الْعِتَاقُ ؛ لَكِنْ إذَا تَزَوَّجَ وَتَسَرَّى كَانَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا : إنْ
شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا
اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } وَلِأَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً
بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَقَالَ :
مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ . فَالْأَقْوَالُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ : " أَحَدُهَا " يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ
وَالْعِتَاقُ . و " الثَّانِي " لَا يَقَعُ بِهِ وَلَا تَمْلِكُ
امْرَأَتُهُ فِرَاقَهُ . و " الثَّالِثُ " - وَهُوَ أَعْدَلُ
الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا عِتَاقٌ ؛ لَكِنْ
لِامْرَأَتِهِ مَا شَرَطَ لَهَا : فَإِنْ شَاءَتْ تُقِيمُ مَعَهُ ؛ وَإِنْ شَاءَتْ
أَنْ تُفَارِقَهُ . وَهَذَا أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ .
وَسُئِلَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ . أَنَّهُ مَا يَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ ثُمَّ بَدَا
لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا : فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَفِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ؛
وَشَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ :
فَهَلْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعُ
بِهِ الطَّلَاقُ إذَا تَزَوَّجَهَا عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَإِذَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ
لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا كَانَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا
: كَانَ هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحًا لَازِمًا فِي مَذْهَبِ مَالِك وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا . وَمَتَى تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا إنْ شَاءَتْ
أَقَامَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْعُيُوبِ فِي النِّكَاحِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلِ فَلَمَّا دَخَلَ رَأَتْ بِجِسْمِهِ بَرَصًا :
فَهَلْ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ عَلَيْهِ النِّكَاحَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا ظَهَرَ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ :
فَلِلْآخَرِ فَسْخُ النِّكَاحِ ؛ لَكِنْ إذَا رَضِيَ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ
فَلَا فَسْخَ لَهُ . وَإِذَا فَسَخَتْ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ
جِهَازِهَا وَإِنْ فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ مَهْرُهَا وَإِنْ فَسَخَتْ بَعْدَهُ
لَمْ يَسْقُطْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَةٍ فَظَهَرَ مَجْذُومًا : فَهَلْ لَهَا فَسْخُ
النِّكَاحِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا ظَهَرَ أَنَّ الزَّوْجَ مَجْذُومٌ . فَلِلْمَرْأَةِ
فَسْخُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِكْرًا فَوَجَدَهَا مُسْتَحَاضَةً لَا يَنْقَطِعُ دَمُهَا
مِنْ بَيْتِ أُمِّهَا وَأَنَّهُمْ غَرُّوهُ : فَهَلْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ
وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ بِالصَّدَاقِ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى أُمِّهَا
وَأَبِيهَا يَمِينٌ إذَا أَنْكَرُوا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكُونُ لَهُ وَطْؤُهَا
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ فِي أَظْهَرْ الْوَجْهَيْنِ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ لِوَجْهَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ
هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوَطْءُ مَعَهُ إلَّا بِضَرَرِ يَخَافُهُ وَأَذًى
يَحْصُلُ لَهُ . " وَالثَّانِي " أَنَّ وَطْءَ الْمُسْتَحَاضَةِ عِنْدَ
أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ ؛ إلَّا لِضَرُورَةِ . وَمَا يَمْنَعُ
الْوَطْءَ حِسًّا : كَاسْتِدَادِ الْفَرْجِ . أَوْ طَبْعًا كَالْجُنُونِ
وَالْجُذَامِ : يُثْبِتُ الْفَسْخَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛
كَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ . وَأَمَّا مَا يَمْنَعُ كَمَالَ الْوَطْءِ
كَالنَّجَاسَةِ فِي الْفَرْجِ : فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَالْمُسْتَحَاضَةُ
أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهَا وَإِذَا فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ
وَإِنْ فُسِخَ بَعْدَهُ ؟ قِيلَ : إنَّ الصَّدَاقَ يَسْتَقِرُّ بِمِثْلِ هَذِهِ
الْخَلْوَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى
مَنْ غَرَّهُ . وَقِيلَ : لَا يَسْتَقِرُّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ
يُحَلِّفَ مَنْ ادَّعَى الْغُرُورَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُ . وَوَطْءُ
الْمُسْتَحَاضَةِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَقِيلَ : يَجُوزُ وَطْؤُهَا ؛
كَقَوْلِ
الشَّافِعِيِّ
وَغَيْرِهِ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ
أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَلَهُ الْخِيَارُ مَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ
مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ ؛ فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ ؛ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْجَهْلَ : فَهَلْ لَهُ
الْخِيَارُ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَالْأَظْهَرُ ثُبُوتُ الْفَسْخِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَبَانَتْ ثَيِّبًا فَهَلْ
لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِأَرْشِ الصَّدَاقِ - وَهُوَ
تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ مَهْرِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فَيُنْقِصُ بِنِسْبَتِهِ مِنْ
الْمُسَمَّى وَإِذَا فَسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْمَهْرُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
بَابٌ
نِكَاحُ الْكُفَّارِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ ؛ لَا
مِنْ سِفَاحٍ } مَا مَعْنَاهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ مِنْ مَرَاسِيلِ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَغَيْرِهِ . وَلَفْظُهُ : { وُلِدْت
مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ لَمْ يُصِبْنِي مِنْ نِكَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ
شَيْءٌ } فَكَانَتْ مَنَاكِحُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْحَاءٍ
مُتَعَدِّدَةٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ النِّكَاحِ قَبْلَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ : أَهْوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ : (*)
كَانَتْ مَنَاكِحُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْحَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ :
مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ . وَذَلِكَ النِّكَاحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنَاكِحِ أَهْلِ
الشِّرْكِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ فِي الْإِسْلَامِ وَيَلْحَقُهَا أَحْكَامُ
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ : مِنْ الْإِرْثِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَالظِّهَارِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : نِكَاحُ أَهْلِ
الشِّرْكِ لَيْسَ بِصَحِيحِ . وَمَعْنَى هَذَا عِنْدَهُ : أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ
الْكَافِرُ
ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ وَلَوْ طَلَّقَ الْمُسْلِمُ زَوْجَتَهُ
الذِّمِّيَّةَ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا ذِمِّيٌّ وَوَطِئَهَا لَمْ يُحِلَّهَا
عِنْدَهُ وَلَوْ وَطِئَ ذِمِّيًّ ذِمِّيَّةً بِنِكَاحِ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ
مُحْصِنًا . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا . وَأَمَّا
كَوْنُهُ صَحِيحًا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ وَثُبُوتِ - الْفِرَاشِ : فَلَا خِلَافَ
فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ ؛
بَلْ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ الْكَافِرَانِ أُقِرَّا عَلَى نِكَاحِهِمَا
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَا لَا يُقَرَّانِ عَلَى وَطْءِ شُبْهَةٍ وَقَدْ
احْتَجَّ النَّاسُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ
نِكَاحٌ صَحِيحٌ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ
} وَقَوْلِهِ { امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ } وَقَالُوا : قَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ "
امْرَأَةً " وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ : قَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : كَانَ
الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ : كَانُوا مُشْرِكِينَ أَهْلَ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ
وَيُقَاتِلُونَهُ . وَمُشْرِكِينَ أَهْلَ عَهْدٍ لَا يُقَاتِلُهُمْ وَلَا
يُقَاتِلُونَهُ . وَكَانَ إذَا هَاجَرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ
تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ ؛
فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تُنْكَحَ رُدَّتْ إلَيْهِ . فَإِنْ هَاجَرَ
عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ
ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ وَإِنْ هَاجَرَ
عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ يُرَدَّ وَرُدَّتْ
أَثْمَانُهُمْ . وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : كَانَتْ قَرِيبَةُ بِنْتُ
أَبِي أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛ وَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ
بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَتْ أُمُّ الْحَكَمِ ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ تَحْتَ
عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الفهري فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُثْمَانَ .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَابٍ بَعْدَهُ : وَقَالَ : ابْنُ جريج : قُلْت لِعَطَاءِ : امْرَأَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إلَى الْمُسْلِمِينَ أَيُعَاضُ زَوْجُهَا مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } ؟ قَالَ : لَا . إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ . قَالَ مُجَاهِدٌ : هَذَا كُلُّهُ فِي صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ . قُلْت : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ فُصُولٌ . " أَحَدُهَا " أَنَّ الْمُهَاجِرَةَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ ؛ إنَّمَا عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ بِحَيْضَةِ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقٌّ لِلزَّوْجِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } وَلِهَذَا قُلْنَا : لَا تَتَدَاخَلُ . وَهَذِهِ مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ كَمَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا حَقٌّ ؛ لَكِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ فِيهَا كَالْأَمَةِ الْمُعْتَقَةِ وَقَدْ يُقَوِّي هَذَا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : الْمُخْتَلَعَةُ يَكْفِيهَا حَيْضَةٌ ؛ لِأَنَّ كِلَاهُمَا مُتَخَلِّصَةٌ . " الثَّانِي " أَنَّ زَوْجَهَا إذَا هَاجَرَ قَبْلَ النِّكَاحِ رُدَّتْ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ رَوَى الْبُخَارِيُّ بَعْدَ هَذَا عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : إذَا أَسْلَمَتْ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ . وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمُهَاجِرَةِ يُوَافِقُ الْمَشْهُورَ مِنْ { أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُدَّتْ عَلَى أَبِي العاص بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ } وَقَدْ كَتَبْت فِي الْفِقْهِ فِي هَذَا آثَارًا وَنُصُوصًا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
"
الثَّالِثُ " قَوْلُهُ : إنَّ الْمُهَاجِرَ مِنْ عَبِيدِهِمْ يَكُونُ حُرًّا
لَهُ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ؛ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ وَمَنْ هَاجَرَ
مَعَهُ مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الطَّائِفِ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ
بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ مَلَكَ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّ مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ
مَالُ إبَاحَةٍ فَمَنْ غَلَبَ عَلَى شَيْءٍ مَلَكَهُ ؛ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى
نَفْسِهِ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَمْلِكَهَا وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ ذَلِكَ .
" الرَّابِعُ " أَنَّ الْمُهَاجِرَ مِنْ رَقِيقِ الْمُعَاهِدِينَ :
يُرَدُّ عَلَيْهِمْ ثَمَنُهُ دُونَ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ مَالَهُمْ مَعْصُومٌ :
فَهُوَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ عَبْدُ الذِّمِّيِّ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ
عَنْهُ بِبَيْعِ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا بِيعَ عَلَيْهِ
وَلَا يُرَدُّ عَيْنَهُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَرِقُّونَ الْمُسْلِمَ
وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ بِخِلَافِ رَدِّ الْحُرِّ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا
يَسْتَرِقُّونَهُ وَلِهَذَا لَمَّا شَرَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَدَّ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ
أَنْ لَا يَرُدَّ النِّسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ فَقَالَ : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ
وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } لِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ فِي الْكُفْرِ مِنْ
الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ مَا لَا يُسْتَبَاحُ مِنْ الرَّجُلِ لِأَنَّ
الْمَرْأَةَ الْأَسِيرَةَ كَالرَّجُلِ الْأَسِيرِ وَأَمَرَهُ بِرَدِّ الْمَهْرِ
عِوَضًا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : (*)
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } وَقَدْ أَبَاحَ
الْعُلَمَاءُ التَّزْوِيجَ بالنصرانية وَالْيَهُودِيَّةِ : فَهَلْ هُمَا مِنْ
الْمُشْرِكِينَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ جَائِزٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي
الْمَائِدَةِ قَالَ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وَهَذَا
مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ
النَّصْرَانِيَّةِ . وَقَالَ : لَا أَعْلَمُ شُرَكَاءَ أَعْظَمَ مِمَّنْ تَقُولُ
إنَّ رَبَّهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . وَهُوَ الْيَوْمُ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ
أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَدْ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَبِقَوْلِهِ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } . وَالْجَوَابُ عَنْ
آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْمُشْرِكِينَ فَجُعِلَ أَهْلُ الْكِتَابِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } .
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ بِقَوْلِهِ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . قِيلَ : إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسَ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ وَلَكِنَّ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا الشِّرْكَ كَمَا قَالَ : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَحَيْثُ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا فَلِأَجْلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَجَبَ تَمَيُّزُهُمْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ اتِّبَاعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِالتَّوْحِيدِ ؛ لَا بِالشِّرْكِ : فَإِذَا قِيلَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُشْرِكِينَ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أُضِيفُوا إلَيْهِ لَا شِرْكَ فِيهِ كَمَا إذَا قِيلَ : الْمُسْلِمُونَ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ . لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ؛ لَا اتِّحَادٌ وَلَا رَفْضٌ وَلَا تَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الدَّاخِلِينَ فِي الْأُمَّةِ قَدْ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْبِدَعَ ؛ لَكِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَلَا يَزَالُ فِيهَا مَنْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْحِيدِ ؛ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَلَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِالِاسْمِ بَلْ قَالَ : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } بِالْفِعْلِ وَآيَةُ الْبَقَرَةِ قَالَ فِيهَا : (الْمُشْرِكِينَ ) وَ ( الْمُشْرِكَاتِ ) بِالِاسْمِ . وَالِاسْمُ أَوْكَدُ مِنْ الْفِعْلِ
" الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ : إنْ شَمِلَهُمْ لَفْظُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ : فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا وَمَقْرُونًا ؛ فَإِذَا أُفْرِدُوا دَخَلَ فِيهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِذَا قُرِنُوا مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِمْ كَمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي اسْمِ " الْفَقِيرِ " و " الْمِسْكِينِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَعَلَى هَذَا يُقَالُ : آيَةُ الْبَقَرَةِ عَامَّةٌ وَتِلْكَ خَاصَّةٌ . وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ . " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ : آيَةُ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا } وَالْآيَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ تَنْسَخُ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ إذَا تَعَارَضَتَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ " سُورَةَ الْمُمْتَحَنَةِ " وَأَمَرَ بِامْتِحَانِ الْمُهَاجِرِينَ . وَهُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ فِي عِصْمَتِهِ كَافِرَةٌ . و " اللَّامُ " لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْكَوَافِرُ الْمَعْهُودَاتُ هُنَّ الْمُشْرِكَاتُ مَعَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يُمَيِّزُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } فَإِنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ هُوَ الْإِيمَانُ ؛ وَلَكِنْ هُمْ
كَفَّرُوا
مُبْتَدِعِينَ الْكُفْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ ؟
وَعَلَى تَحْرِيمِ الْإِمَاءِ الْمَجُوسِيَّاتِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَطْءُ " الْإِمَاءِ
الْكِتَابِيَّاتِ " بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ
النِّكَاحِ عِنْدَ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ
كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ ؛ وَإِنْ
كَانَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَدْ قَالَ : لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَوَائِل
أَنَّهُ حَرَّمَ نِكَاحَهُنَّ . وَلَكِنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ قَوْلُ الشِّيعَةِ ؛
وَلَكِنْ فِي كَرَاهَةِ نِكَاحِهِنَّ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ نِزَاعٌ وَالْكَرَاهَةُ
مَعْرُوفَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَكَذَلِكَ كَرَاهَةُ
وَطْءِ الْإِمَاءِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ : أَنَّهُ كَرِهَهُ .
وَالْكَرَاهَةُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيَّةٌ
عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ . وَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ ؛ بَلْ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ : جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَحَرَّمَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِي وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ : أَشْهَرُهُمَا كَالثَّانِي ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الْآيَةُ . فَأَبَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْهُمْ وَقَالَ فِي آيَةِ الْإِمَاءِ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } فَإِنَّمَا أَبَاحَ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَأَمَّا " الْأَمَةُ الْمَجُوسِيَّةُ " فَالْكَلَامُ فِيهَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّاتِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّاتِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ خِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ . و " الْأَصْلُ الثَّانِي " أَنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَالْوَثَنِيَّاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ : أَنَّهُ : قَالَ يُبَاحُ وَطْءُ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كُنَّ
وَأَظُنُّ . هَذَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ فِي وَطْءِ الْأَمَةِ الْوَثَنِيَّةِ نِزَاعًا . وَأَمَّا الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ فَلَيْسَ فِي وَطْئِهَا مَعَ إبَاحَةِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ نِزَاعٌ ؛ بَلْ فِي التَّزَوُّجِ بِهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ . وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ التَّسَرِّي بِهِنَّ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ وَلَا يَقُولُهُ فَقِيهٌ . وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ وُجُوهٌ : " أَحَدُهَا " أَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ وَلَمْ يَقُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ دَلِيلٌ مِنْ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ فَبَقِيَ حِلُّ وَطْئِهِنَّ عَلَى الْأَصْلِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُنَازِعُ فِي حِلِّ نِكَاحِهِنَّ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } إنَّمَا يَتَنَاوَلُ النِّكَاحَ ؛ لَا يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْقِيَاسِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُنَّ فَيَبْقَى الْحِلُّ عَلَى الْأَصْلِ . " الثَّانِي " أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } يَقْتَضِي عُمُومَ جَوَازِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ ؛ حَتَّى إنَّ عُثْمَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ جَعَلُوا مِثْلَ هَذَا النَّصِّ مُتَنَاوِلًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ حِينَ قَالُوا : أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ . فَإِذَا كَانُوا قَدْ جَعَلُوهُ عَامًّا فِي صُورَةٍ حُرِّمَ فِيهَا النِّكَاحُ فَلَأَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي صُورَةٍ لَا يَحْرُمُ فِيهَا النِّكَاحُ أَوْلَى وَأَحْرَى .
" الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ : قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : إنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ وَيَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ ؛ بَلْ قَدْ قِيلَ : يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ حَيْثُ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ . وَقِيلَ : يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ . فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمَةَ مُجْمَعٌ عَلَى التَّسَرِّي بِهَا وَلَمْ يَكُنْ أَرْجَحَ مِنْ حِلِّ النِّكَاحِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ دُونَهُ . فَلَوْ حَرُمَ التَّسَرِّي دُونَ النِّكَاحِ كَانَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ " الرَّابِعُ " أَنْ يُقَالَ : إنَّ حِلَّ نِكَاحِهِنَّ يَقْتَضِي حِلَّ التَّسَرِّي بِهِنَّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ وَطْؤُهَا بِالنِّكَاحِ جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِلَا نِزَاعٍ . وَأَمَّا الْعَكْسُ فَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ أَوْسَعُ ؛ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَدَدٍ ؛ وَالنِّكَاحُ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَدَدٍ . وَمَا حُرِّمَ فِيهِ الْجَمْعُ بِالنِّكَاحِ قَدْ نُوزِعَ فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ فِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ؛ وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِع بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَسَمٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ فِي عَزْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ . وَمِلْكُ النِّكَاحِ نَوْعُ رِقٍّ وَمِلْكُ الْيَمِينِ رِقٌّ تَامٌّ وَأَبَاحَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ؛ وَلَا يَتَزَوَّجُ أَهْلُ الْكِتَابِ نِسَاءَهُمْ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ نَوْعُ رِقٍّ كَمَا قَالَ عُمَرُ : النِّكَاحُ رِقٌّ ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ } فَجُوِّزَ
لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَرِقَّ هَذِهِ الْكَافِرَةَ وَلَمْ يُجَوَّزْ لِلْكَافِرِ أَنْ يَسْتَرِقَّ هَذِهِ الْمُسْلِمَةَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ كَمَا جُوِّزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَمْلِكَ الْكَافِرَ وَلَمْ يُجَوَّزْ لِلْكَافِرِ أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْلِمَ . فَإِذًا جَوَازُ وَطْئِهِنَّ مِنْ مِلْكٍ تَامٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى . يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ الْمَانِعَ : إمَّا الْكُفْرُ ؛ وَإِمَّا الرِّقُّ . وَهَذَا الْكُفْرُ لَيْسَ بِمَانِعِ ؛ وَالرِّقُّ لَيْسَ مَانِعًا مِنْ الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ ؛ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ التَّزَوُّجِ . فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلْوَطْءِ قَائِمًا وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا : جَازَ الْوَطْءُ . فَهَذَا الْوَجْهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى " قِيَاسِ التَّمْثِيلِ " وَعَلَى " قِيَاس الْأَوْلَى " وَيَخْرُجُ مِنْهُ " وَجْهٌ رَابِعٌ " يُجْعَلُ " قِيَاسَ التَّعْلِيلِ " . فَيُقَالُ : الرِّقُّ مُقْتَضٍ لِجَوَازِ وَطْءِ الْمَمْلُوكَةِ ؛ كَمَا نَبَّهَ النَّصُّ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْوَطْءُ بِسَبَبِ . يُوجِبُ التَّحْرِيمَ ؛ بِأَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً بِالرِّضَاعِ ؛ أَوْ بِالصِّهْرِ أَوْ بِالشِّرْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذِهِ لَيْسَ فِيهَا مَا يَصْلُحُ لِلْمَنْعِ إلَّا كَوْنُهَا كِتَابِيَّةً وَهَذَا لَيْسَ بِمَانِعِ فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلْحِلِّ قَائِمًا وَالْمَانِعُ الْمَذْكُورُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا : وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمَعَارِضِ الْمُقَاوِمِ . وَهَذِهِ الْوُجُوهُ بَعْدَ تَمَامِ تَصَوُّرِهَا تُوجِبُ الْقَطْعَ بِالْحِلِّ . " الْوَجْهُ الْخَامِسُ " أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ سِيَرَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَجَدَ آثَارًا كَثِيرَةً تُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا ؛ بَلْ هَذِهِ كَانَتْ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ : مِثْلُ الَّذِي كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ وَكَانَتْ تَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَقْتُلُهَا
وَقَدْ رَوَى حَدِيثَهَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ مُسْلِمَةً لَكِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَائِل مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ يَحْرُمُ نِكَاحُ الْمُشْرِكَاتِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وَطَلَّقَ عُمَرُ امْرَأَتَهُ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ فَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُ نُزُولِهَا وَفِي الْبَقَرَةِ مَا نَزَلَ مُتَأَخِّرًا كَآيَاتِ الزِّنَا وَفِيهَا مَا نَزَلَ مُتَقَدِّمًا : كَآيَاتِ الصِّيَامِ . وَمِثْلَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ غَزْوَةَ تَبُوكَ قَالَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ : هَلْ لَك فِي نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ فَقَالَ : { ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي } } وَمِثْلَ فَتْحِهِ لِخَيْبَرِ وَقَسْمِهِ لِلرَّقِيقِ وَلَمْ يَنْهَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ وَطْئِهِنَّ حَتَّى يُسْلِمْنَ كَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِبْرَاءِ . بَلْ مَنْ يُبِيحُ " وَطْءَ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ " قَدْ يَسْتَدِلُّ بِمَا جَرَى يَوْمَ أوطاس مِنْ قَوْلِهِ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَفِي هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَالصَّحَابَةُ لَمَّا فَتَحُوا الْبِلَادَ لَمْ يَكُونُوا يَمْتَنِعُونَ عَنْ وَطْءِ النَّصْرَانِيَّاتِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " الْمَجُوسِيَّةُ " فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا
مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ :
" أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْمَجُوسَ لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا
تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا وُجُوهٌ . " أَحَدُهَا "
أَنْ يُقَالَ : لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَمْ يَحِلَّ طَعَامُهُ وَلَا نِسَاؤُهُ . أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى
فَفِيهَا نِزَاعٌ شَاذٌّ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : {
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ } { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ
مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } فَتَبَيَّنَ
أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَمَنْعًا لِأَنْ
يَقُولُوا ذَلِكَ وَدَفْعًا لِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ
عَلَى أَكْثَرَ مِنْ طَائِفَتَيْنِ لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ كَذِبًا فَلَا
يَحْتَاجُ إلَى مَانِعٍ مِنْ قَوْلِهِ . ( وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : { إنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
} فَذَكَرَ الْمِلَلَ السِّتَّ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَمَّا ذَكَرَ الْمِلَلَ الَّتِي فِيهَا سَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ
قَالَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } فِي مَوْضِعَيْنِ . فَلَمْ يَذْكُرْ الْمَجُوسَ وَلَا الْمُشْرِكِينَ : فَلَوْ كَانَ فِي هَاتَيْنِ الْمِلَّتَيْنِ سَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي الصَّابِئِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَذَكَرَهُمْ فَلَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ لَكَانُوا قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى هُدًى ؛ وَكَانُوا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إذَا عَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِمْ كَمَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْمَجُوسَ فِي هَؤُلَاءِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ ؛ بَلْ ذَكَرَ الصَّابِئِينَ دُونَهُمْ مَعَ أَنَّ الصَّابِئِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ إلَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ . وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَجُوسَ أَبْعَدُ عَنْ الْكِتَابِ مِنْهُمْ . وَأَيْضًا فَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ : { لَمَّا اقْتَتَلَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ وَانْتَصَرَتْ الْفُرْسُ : فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ وَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ كِتَابًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الم } { غُلِبَتِ الرُّومُ } { فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } { فِي بِضْعِ سِنِينَ } الْآيَةَ } . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَجُوسَ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لَهُمْ كِتَابٌ . " وَأَيْضًا " فَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّة وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ وَقَالَ : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ } وَهَذَا مُرْسَلٌ .
وَعَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تُوَافِقُهُ وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُمْ خِلَافٌ وَأَمَّا حُذَيْفَةُ فَذَكَرَ أَحْمَد : أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِيَهُودِيَّةٍ . وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا الْمُرْسَلِ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ . " وَالْمُرْسَلُ " فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ حُجَّةٌ ؛ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَفِي الْآخَرِ هُوَ حُجَّةٌ إذَا عَضَّدَهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَوْ أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . فَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَهَذَا الْمُرْسَلُ نَصٌّ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى أَنْ يُبْنَى عَلَى الْمُتَقَدِّمَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ . قِيلَ : هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَإِنْ صَحَّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ لَا أَنَّهُ الْآنَ بِأَيْدِيهِمْ كِتَابٌ ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلُوا فِي لَفْظِ ( أَهْلِ الْكِتَابِ إذْ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ كِتَابٌ ؛ لَا مُبَدَّلٌ وَلَا غَيْرُ مُبَدَّلٍ وَلَا مَنْسُوخٌ وَلَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ ؛ وَلَكِنْ إذَا كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ ثُمَّ رُفِعَ بَقِيَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ وَهَذَا الْقَدْرُ يُؤَثِّرُ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بِالْجِزْيَةِ إذَا قُيِّدَتْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ . وَأَمَّا الْفُرُوجُ وَالذَّبَائِحُ : فَحِلُّهَا مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا أَمَرَ أَنْ يُسَنَّ بِهِمْ سُنَّتُهُمْ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ خَاصَّةً كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إلَّا هَذَا الْحُكْمَ وَقَدْ رُوِيَ مُقَيَّدًا : { غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ ؛ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ } فَمَنْ جَوَّزَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ قَاسَ
عَلَيْهِمْ
غَيْرَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ وَمَنْ خَصَّهُمْ بِذَلِكَ قَالَ : إنَّ لَهُمْ
شُبْهَةَ كِتَابٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ وَالدِّمَاءُ تُعْصَمُ بِالشُّبُهَاتِ ؛
وَلَا تَحِلُّ الْفُرُوجُ وَالذَّبَائِحُ بِالشُّبُهَاتِ . وَلِهَذَا لَمَّا
تَنَازَعَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ قَالَ عَلِيٌّ :
إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ .
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } فَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنَعَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ
مَعَ عِصْمَةِ دِمَائِهِمْ وَهُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ كِتَابِ الْمَجُوسِ
فَعُلِمَ أَنَّ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ يَقْتَضِي
حَقْنَ الدِّمَاءِ دُونَ الذَّبَائِحِ وَالنِّسَاءِ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَحُكِمَ بِكُفْرِهِ ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مِنْ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا : فَإِذَا رَجَعَ إلَى
الْإِسْلَامِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَدِّدَ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيلٍ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا ارْتَدَّ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى
انْقَضَتْ عِدَّةُ امْرَأَتِهِ ؛ فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ . وَإِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ : فَقَدْ طَلَّقَ أَجْنَبِيَّةً
فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ . فَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا . وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ
إلَى الْإِسْلَامِ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ
لِلْعُلَمَاءِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْبَيْنُونَةَ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الطَّلَاقُ بَعْدَ هَذَا طَلَاقَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَقَعُ . " وَالثَّانِي " أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَزُولُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ . فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ وَعَادَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ : تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ . وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ . تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَّقَ أَجْنَبِيَّةً فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الصَّدَاقِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
السُّنَّةُ : تَخْفِيفُ الصَّدَاقِ وَأَلَّا يَزِيدَ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَنَاتِهِ : فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَعْظَمَ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً }
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: خَيْرُهُنَّ أَيَسَرُهُنَّ صَدَاقًا } وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ :
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلْزِمُوا النِّسَاءَ
الرِّجَالَ وَلَا تُغَالُوا فِي الْمُهُورِ } . وَخَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
النَّاسَ فَقَالَ : أَلَا لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ ؛ فَإِنَّهَا لَوْ
كَانَتْ مَكْرَمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ : كَانَ
أَوْلَاكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصْدَقَ امْرَأَةً
مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصْدِقَ الْمَرْأَةَ صَدَاقًا يَضُرُّ بِهِ إنْ
نَقَدَهُ وَيَعْجِزُ عَنْ وَفَائِهِ إنْ كَانَ دَيْنًا . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ :
{ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
إنِّي تَزَوَّجْت امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ . فَقَالَ : عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتهَا ؟ قَالَ : عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ فَكَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيك ؛ وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَك فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ قَالَ : فَبَعَثَ بَعْثًا إلَى بَنِي عَبْسٍ فَبَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . " وَالْأُوقِيَّةُ " عِنْدَهُمْ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَهِيَ مَجْمُوعُ الصَّدَاقِ لَيْسَ فِيهِ مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ . وَعَنْ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ : { أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينُهُ فِي صَدَاقِهَا فَقَالَ : كَمْ أَصْدَقْت ؟ قَالَ : فَقُلْت ؛ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ . فَقَالَ : لَوْ كُنْتُمْ تَغْرِفُونَ الدَّرَاهِمَ مِنْ أَوْدِيَتِكُمْ مَا زِدْتُمْ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ . وَإِذَا أَصْدَقَهَا دَيْنًا كَثِيرًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ يَنْوِي أَلَّا يُعْطِيَهَا إيَّاهُ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقِ يَنْوِي أَلَّا يُؤَدِّيَهُ إلَيْهَا فَهُوَ زَانٍ وَمَنْ ادَّانَ دَيْنًا يَنْوِي أَلَّا يَقْضِيَهُ فَهُوَ سَارِقٌ } . وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْخُيَلَاءِ وَالرِّيَاءِ مِنْ تَكْثِيرِ الْمَهْرِ لِلرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ وَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ أَخْذَهُ مِنْ الزَّوْجِ وَهُوَ يَنْوِي أَلَّا يُعْطِيَهُمْ إيَّاهُ : فَهَذَا مُنْكَرٌ قَبِيحٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ خَارِجٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ .
وَإِنْ قَصَدَ الزَّوْجُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ وَهُوَ فِي الْغَالِبِ لَا يُطِيقُهُ فَقَدْ حَمَّلَ نَفْسَهُ وَشَغَلَ ذِمَّتَهُ وَتَعَرَّضَ لِنَقْصِ حَسَنَاتِهِ وَارْتِهَانِهِ بِالدَّيْنِ ؛ وَأَهْلُ الْمَرْأَةِ قَدْ آذَوْا صِهْرَهُمْ وَضَرُّوهُ . وَالْمُسْتَحَبُّ فِي " الصَّدَاقِ " مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْيَسَارِ : أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بَنَاتِهِ وَكَانَ مَا بَيْنَ أَرْبَعِمِائَةٍ إلَى خَمْسِمِائَةٍ . بِالدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ نَحْوًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا . فَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَنَّ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَاقِ { قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ : صَدَاقُنَا إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرُ أَوَاقٍ وَطَبَّقَ بِيَدَيْهِ . وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ . { وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : قُلْت لِعَائِشَةَ : كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا . قَالَتْ أَتَدْرِي مَا النَّشُّ ؟ قُلْت : لَا قَالَتْ : نِصْفُ أُوقِيَّةٍ : فَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ صَدَاقَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ فَمَنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ يَزِيدَ صَدَاقَ ابْنَتِهِ عَلَى صَدَاقِ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّوَاتِي هُنَّ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ وَهُنَّ أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي كُلِّ صِفَةٍ : فَهُوَ جَاهِلٌ أَحْمَقُ . وَكَذَلِكَ صَدَاقُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ . وَهَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْيَسَارِ فَأَمَّا الْفَقِيرُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصْدِقَ الْمَرْأَةَ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ .
وَالْأَوْلَى
تَعْجِيلُ الصَّدَاقِ كُلِّهِ لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا أَمْكَنَ
فَإِنْ قَدَّمَ الْبَعْضَ وَأَخَّرَ الْبَعْضَ : فَهُوَ جَائِزٌ . وَقَدْ كَانَ
السَّلَفُ الصَّالِحُ الطَّيِّبُ يُرَخِّصُونَ الصَّدَاقَ . { فَتَزَوَّجَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ } . قَالُوا : وَزْنُهَا ثَلَاثَةُ
دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ . وَزَوَّجَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ بِنْتَه عَلَى
دِرْهَمَيْنِ وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ أَيِّمٍ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ خَطَبَهَا
الْخَلِيفَةُ لِابْنِهِ فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ . وَاَلَّذِي نُقِلَ عَنْ
بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ تَكْثِيرِ صَدَاقِ النِّسَاءِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ
لِأَنَّ الْمَالَ اتَّسَعَ عَلَيْهِمْ وَكَانُوا يُعَجِّلُونَ الصَّدَاقَ كُلَّهُ
قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لَمْ يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَ مِنْهُ شَيْئًا . وَمَنْ كَانَ
لَهُ يَسَارٌ وَوَجَدَ فَأَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ امْرَأَتَهُ صَدَاقًا كَثِيرًا
فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } . أَمَّا مَنْ يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ
بِصَدَاقِ لَا يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ أَوْ يَعْجِزُ عَنْ وَفَائِهِ : فَهَذَا
مَكْرُوهٌ . كَمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ فِي ذِمَّتِهِ صَدَاقًا
كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ لَهُ : فَهَذَا لَيْسَ بِمَسْنُونِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُل يَتَزَوَّجُ عَلَى صَدَاقٍ مُعَيَّنٍ مَكْتُوبٍ وَيَتَّفِقَا عَلَى
مُقَدَّمٍ فَيُعْطِيهِ ثُمَّ يَمُوتُ : هَلْ يُحْسَبُ الْمُقَدَّمُ مِنْ جُمْلَةِ
الصَّدَاقِ الْمَكْتُوبِ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا مَا يُقَدِّمُهُ الزَّوْجُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ النَّقْدِ الَّذِي
اتَّفَقُوا عَلَيْهِ غَيْرَ الصَّدَاقِ الَّذِي يُكْتَبُ فِي الْكِتَابِ إذَا
أَعْطَاهَا الزَّوْجُ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ
بَدَلَهُ
؛ فَإِنَّهُ لَا يُحْسَبُ عَلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ الْمَكْتُوبِ ؛ بَلْ لَوْ
لَمْ يُعْطِهَا ذَلِكَ لَكَانَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ وَكَانَ مِنْ الصَّدَاقِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ بِالْمَوْتِ تَأْخُذُهُ
كُلَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ فَإِنَّهَا إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ يَكُونَ لَهَا
مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ ؛ يُسَمِّيهِ السَّلَفُ عَاجِلًا وَآجِلًا وَشَارَطَتْهُ
عَلَى أَنْ يُقَدِّمَ لَهَا كَذَا وَيُؤَخِّرَ كَذَا . وَإِنْ لَمْ تَذْكُرْ حِينَ
الْعَقْدِ فَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ إذَا لَمْ يُفْسَخْ حِينَ
عَقْدِ الْعَقْدِ كَالْمَشْرُوطِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَدْ
بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي صَنَّفْته فِي
" مَسَائِلَ الذرايع وَالْحِيَلِ " و " بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى
بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ
بِهَا يُعْطِيهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ
تَسْتَحِقَّ مَا شَرَطَ لَهَا تَعْجِيلَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ عَجَّلَ لَهَا زَوْجُهَا نَقْدًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فِي كِتَابِ
الصَّدَاقِ ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْهَا فَطَلَبَ الْحَاكِمُ أَنْ يُحْسَبَ
الْمُعَجَّلُ مِنْ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ؛ لِكَوْنِ الْمُعَجَّلِ
لَمْ يُذْكَرْ فِي الصَّدَاقِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَا قَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْعَاجِلِ الْمُقَدَّمِ
وَالْآجِلِ الْمُؤَخَّرِ - كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ - فَلِلزَّوْجَةِ أَنْ
تَطْلُبَ الْمُؤَخَّرَ كُلَّهُ إنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمُعَجَّلَ فِي الْعَقْدِ
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ أَهْدَى لَهَا - كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ أَقْبَضَهَا مِنْ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى حُسِبَ عَلَى الزَّوْجَةِ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اعْتَقَلَتْهُ زَوْجَتُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى الصَّدَاقِ مُدَّةَ
شَهْرَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَوْجُودٌ : فَهَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ
يُبْقِيَهُ أَوْ يُطْلِقُهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ حَلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَى إعْسَارِهِ وَأَطْلَقَهُ
. وَلَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ وَتَكْلِيفُهُ الْبَيِّنَةَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فِي
الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ بِكْرٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا
كَانَتْ ثَيِّبًا وَتَحَاكَمَا إلَى حَاكِمٍ فَأَرْسَلَ مَعَهَا امْرَأَتَيْنِ
وَجَدُوهَا كانت بِكْرًا فَأَنْكَرَ . وَنَكَلَ عَنْ الْمَهْرِ : مَا يَجِبُ
عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ كَمَا قَالَ زرارة وَقَضَى
الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ : أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ
الْبَابَ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ وَالْمَهْرُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً فَاتَّفَقُوا عَلَى النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ
وَأَعْطَى أَبَاهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ شَيْئًا فَمَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ : هَلْ
لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَعْطَى ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانُوا قَدْ وَفَّوْا بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَمْنَعُوهُ مِنْ
نِكَاحِهَا حَتَّى مَاتَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَسْتَرْجِعَ مَا أَعْطَاهُمْ كَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا
اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا بَذَلَ لَهُمْ ذَلِكَ
لِيُمَكِّنُوهُ مِنْ نِكَاحِهَا وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَهَذَا غَايَةُ
الْمُمْكِنِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَفَرَّقَ
الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا : فَهَلْ لَهَا مَهْرٌ ؟ وَهَلْ هُوَ الْمُسَمَّى ؛ أَوْ
مَهْرُ الْمِثْلِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا عَلِمَتْ أَنَّهَا مُزَوَّجَةٌ وَلَمْ تَسْتَشْعِرْ ؛ لَا مَوْتَهُ وَلَا
طَلَاقَهُ : فَهَذِهِ زَانِيَةٌ مُطَاوِعَةٌ لَا مَهْرَ لَهَا . وَإِذَا
اعْتَقَدَتْ مَوْتَهُ وَطَلَاقَهُ فَهُوَ وَطْءُ شُبْهَةٍ بِنِكَاحِ فَاسِدٍ
فَلَهَا الْمَهْرُ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ أَنَّ لَهَا الْمُسَمَّى
؛ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَهَا مَهْرَ
الْمِثْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ مُعْسِرٍ : هَلْ يُقَسَّطُ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ مُعْسِرًا قُسِّطَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَلَمْ
يَجُزْ حَبْسُهُ ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقْبَلُونَ قَوْلَهُ فِي
الْإِعْسَارِ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ إلَّا بَعْدَ الْحَبْسِ ؛ كَمَا
يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةُ . فَإِذَا كَانَتْ
الْحُكُومَةُ عِنْدَ مَنْ يَحْكُمُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَمْ
يُحْبَسْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَعْطَاهَا الْمَهْرَ وَكَتَبَ عَلَيْهِ
صَدَاقًا أَلْفَ دِينَارٍ وَشَرَطُوا عَلَيْهِ أَنَّنَا مَا نَأْخُذُ مِنْك
شَيْئًا إلَّا عِنْدَنَا هَذِهِ عَادَةٌ وَسُمْعَةٌ وَالْآنَ تُوُفِّيَ الزَّوْجُ
وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ كِتَابَهَا مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى التَّمَامِ
وَالْكَمَالِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ إلَّا
مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَلَا
يَحِلُّ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ بَلْ يَجِبُ لَهَا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلِ ؛ فَهَرَبَ وَتَرَكَهَا مِنْ مُدَّةِ سِتِّ
سِنِينَ وَلَمْ يَتْرُكْ عِنْدَهَا نَفَقَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَزَوَّجَتْ
رَجُلًا وَدَخَلَ بِهَا فَلَمَّا اطَّلَعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا فَسَخَ الْعَقْدَ
بَيْنَهُمَا : فَهَلْ يَلْزَمُ الزَّوْجَ الصَّدَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ فُسِخَ لِتَعَذُّرِ النَّفَقَةِ مِنْ جِهَةِ
الزَّوْجِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ؛ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ الثَّانِيَ : فَنِكَاحُهُ
صَحِيحٌ . وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ الثَّانِيَ قَبْلَ فَسْخِ نِكَاحِ
الْأَوَّلِ : فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ . وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ عَلِمَا
أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ بَاقٍ ؛ وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا النِّكَاحُ :
فَيَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا . وَإِنْ جَهِلَ الزَّوْجُ نِكَاحَ
الْأَوَّلِ أَوْ نَفَاهُ أَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَ نِكَاحِهِ قَبْلَ الْفَسْخِ :
فَنِكَاحُهُ نِكَاحُ شُبْهَةٍ ؛ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الصَّدَاقُ وَيَلْحَقُ فِيهِ
النَّسَبُ وَلَا حَدَّ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ غَرَّتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ
وَلِيُّهَا فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا خَلِيَّةٌ عَنْ الْأَزْوَاجِ : فَلَهُ أَنْ
يَرْجِعَ بِالصَّدَاقِ الَّذِي أَدَّاهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
إذَا خَلَا الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ فَمَنَعَتْهُ نَفْسَهَا مِنْ الْوَطْءِ وَلَمْ
يَطَأْهَا ؛ لَمْ يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد -
الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْبَرَكَاتِ
وَغَيْرِهِمَا - وَغَيْرِهِ مَنَّ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ : مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَإِذَا اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهَا لَمْ
تُمَكِّنْهُ مِنْ وَطْئِهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا بِاتِّفَاقِهِمْ . وَلَا
يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ مَا دَامَتْ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَإِذَا
كَانَتْ مُبْغِضَةً لَهُ مُخْتَارَةً سِوَاهُ فَإِنَّهَا تَفْتَدِي نَفْسَهَا
مِنْهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَمْلُوكٍ فِي الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ : تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَتْ عُبُودِيَّتُهُ ؛ وَكَانَ قَدْ
اعْتَرَفَ أَنَّهُ حُرٌّ ؛ وَأَنَّ لَهُ خَيْرًا فِي مِصْرَ ؛ وَقَدْ ادَّعَوْا
عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ وَاقْتَرَضَ مِنْ زَوْجَتِهِ
شَيْئًا : فَهَلْ يَلْزَمُ شَيْءٌ أَوْ لَا ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . تَزَوُّجُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ
إذَا لَمْ يُجْزِهِ السَّيِّدُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي
السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ } لَكِنْ
إذَا أَجَازَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ الْعَقْدِ صَحَّ فِي
مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ وَلَمْ يَصِحَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَإِذَا طَلَبَ النِّكَاحَ فَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَوِّجَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } . وَإِذَا غَرَّ الْمَرْأَةَ وَذَكَرَ أَنَّهُ حُرٌّ وَتَزَوَّجَهَا ؛ وَدَخَلَ بِهَا : وَجَبَ الْمَهْرُ لَهَا بِلَا نِزَاعٍ ؛ لَكِنْ هَلْ يَجِبُ الْمُسَمَّى : كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ ؟ أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ؟ أَوْ يَجِبُ الْخُمُسَانِ : كَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ يَتَعَلَّقُ هَذَا الْوَاجِبُ بِرَقَبَتِهِ كَقَوْلِ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ ؛ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ . أَوْ يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ فَيُتْبَعُ بِهِ إذَا أُعْتِقَ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا ؟ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ : إنَّهُ حُرٌّ تَلْبِيسٌ عَلَيْهِمْ ؛ وَكَذِبٌ عَلَيْهِمْ ثُمَّ دُخُولُهُ عَلَيْهَا بِهَذَا الْكَذِبِ عُدْوَانٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ . وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَوْ تَعَدَّى عَلَى أَحَدٍ فَأَتْلَفَ مَالَهُ ؛ أَوْ جَرَحَهُ أَوْ قَتَلَهُ : كَانَتْ جِنَايَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِرَقَبَتِهِ ؛ لَا تَجِبُ فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ ؛ بَلْ يُقَالُ لِلسَّيِّدِ : إنْ شِئْت أَنْ تَفُكَّ مَمْلُوكَك مِنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ ؛ وَإِنْ شِئْت أَنْ تُسَلِّمَهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ هَذِهِ الْجِنَايَةَ مِنْ رَقَبَتِهِ . وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ فَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ : مَنْ قَدْرِ الْجِنَايَةِ أَوْ قِيمَةِ الْعَبْدِ : فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا .
وَعِنْد
مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ يَفْدِيهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ بَالِغًا مَا
بَلَغَ فَهَذَا الْعَبْدُ ظَالِمٌ مُعْتَدٍ جَارَ عَلَى هَؤُلَاءِ : فَتَتَعَلَّقُ
جِنَايَتُهُ بِرَقَبَتِهِ . وَكَذَلِكَ مَا اقْتَرَضَهُ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ
مَعَ قَوْلِهِ إنَّهُ حُرٌّ : فَهُوَ عُدْوَانٌ عَلَيْهِمْ فَيَتَعَلَّقُ
بِرَقَبَتِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ اعْتَاضَتْ عَنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَبَاعَتْ
الْعِوَضَ وَقَبَضَتْ الثَّمَنَ ثُمَّ أَقَرَّتْ أَنَّهَا قَبَضَتْ الصَّدَاقَ
مِنْ غَيْرِ ثَمَنِ الْمِلْكِ : فَهَلْ يَبْطُلُ حَقُّ الْمُشْتَرِي ؟ أَوْ
يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِاَلَّذِي اعْتَرَفَتْ أَنَّهَا قَبَضَتْهُ مِنْ غَيْرِ
الْمِلْكِ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَبْطُلُ حَقٌّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهَا
ثَمَنَ الْمِلْكِ الَّذِي اعْتَاضَتْ بِهِ ؛ إذَا أَقَرَّتْ بِأَنَّ قَبْضَ
صَدَاقِهَا قَبْلَ ذَلِكَ . وَكَانَ قَدْ أَفْتَى طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يَرْجِعُ
عَلَيْهَا بِاَلَّذِي اعْتَرَفَتْ بِقَبْضِهِ مِنْ التَّرِكَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءِ
؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ تَضَمَّنَ أَنَّهَا اسْتَوْفَتْ صَدَاقَهَا
وَأَنَّهَا بَعْدَ هَذَا الِاسْتِيفَاءِ لَهُ أَحْدَثَتْ مِلْكًا آخَرَ ؛
فَإِنَّمَا فَوَّتَتْ عَلَيْهِمْ الْعَقَارَ ؛ لَا عَلَى الْمُشْتَرِي .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ؛ وَكَتَبَ كِتَابَهَا وَدَفَعَ لَهَا الْحَالَ
بِكَمَالِهِ وَبَقِيَ الْمُقَسَّطُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ
شَيْئًا ؛ وَطَلَبَهَا لِلدُّخُولِ فَامْتَنَعَتْ ؛ وَلَهَا خَالَةٌ تَمْنَعُهَا :
فَهَلْ تُجْبَرُ عَلَى الدُّخُولِ ؟ وَيَلْزَمُ خَالَتَهَا الْمَذْكُورَةَ
تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ
: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا وَالْحَالُ هَذِهِ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَا لِخَالَتِهَا وَلَا غَيْرِ خَالَتِهَا أَنْ
يَمْنَعَهَا ؛ بَلْ تُعَزَّرُ الْخَالَةُ عَلَى مَنْعِهَا مِنْ فِعْلِ مَا
أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةِ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا
لِلزَّوْجِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَهَا كِتَابٌ إلَى
مُدَّةٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَتُهَا لَهُ حَتَّى يُوسِرَ وَإِذَا
شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ سُمِعَتْ ؛ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ
إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَفِي ظَاهِرِ الْحَالِ أَنَّهُ حُرٌّ
فَأَقَامَتْ فِي صُحْبَتِهِ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ
يَرُدَّهَا وَطَالَبَتْهُ بِحُقُوقِهَا فَقَالَ : أَنَا مَمْلُوكٌ يَجِبُ
الْحَجْرُ عَلَيَّ : فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِحَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى
حُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ؟
فَأَجَابَ
:
حَقُّ الزَّوْجَةِ ثَابِتٌ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ : "
أَحَدُهُمَا " أَنَّ مُجَرَّدَ دَعْوَاهُ الرِّقَّ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا
وَالْحَالُ مَا ذَكَرَ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ وَإِذَا
ادَّعَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَمْ يُعْرَفْ خِلَافُ ذَلِكَ فَفِي
قَبُولِ قَوْلِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . " أَحَدُهَا " يُقْبَلُ فِيمَا عَلَيْهِ دُونَ مَالِهِ
عَلَى غَيْرِهِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ
لَهُمْ . " وَالثَّانِي " لَا يُقْبَلُ بِحَالِ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ
ذَلِكَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد .
" وَالثَّالِثُ " يُقْبَلُ قَوْلُهُ مُطْلَقًا ؛ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد فَإِذَا كَانَ مَعَ دَعْوَى الْمُدَّعِي
لِرِقِّهِ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِمَا يُسْقِطُ حَقَّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ
أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ : فَكَيْفَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ الرِّقَّ ؟ وَكَيْفَ
وَلَهُ خَيْرٌ وَإِقْطَاعٌ ؛ وَهُوَ مُنْتَسِبٌ ؛ وَقَدْ ادَّعَى الْحُرِّيَّةَ
حَتَّى زُوِّجَ بِهَا ؟ " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ
أَنَّهُ كَذَبَ وَلَبَّسَ عَلَيْهَا وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ حَتَّى تَزَوَّجَ
بِهَا وَدَخَلَ : فَهَذَا قَدْ جَنَى بِكَذِبِهِ وَتَلْبِيسِهِ ؛ وَالرَّقِيقُ
إذَا جَنَى تَعَلَّقَتْ جِنَايَتُهُ بِرَقَبَتِهِ : فَلَهَا أَنْ تَطْلُبَ
حَقَّهَا مِنْ رَقَبَتِهِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ سَيِّدُهُ أَنْ يَفْدِيَهُ
بِأَدَاءِ حَقِّهَا : فَلَهُ ذَلِكَ .
بَابُ
وَلِيمَةِ الْعُرْسِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ طَعَامِ الزَّوَاجِ ؟ وَطَعَامِ الْعَزَاءِ ؟ وَطَعَامِ الْخِتَانِ ؟
وَطَعَامِ الْوِلَادَةِ ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : أَمَّا " وَلِيمَةُ الْعُرْسِ " فَهِيَ سُنَّةٌ
وَالْإِجَابَةُ إلَيْهَا مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمَّا " وَلِيمَةُ الْمَوْتِ
" فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهٌ فِعْلُهَا وَالْإِجَابَةُ إلَيْهَا . وَأَمَّا "
وَلِيمَةُ الْخِتَانِ " فَهِيَ جَائِزَةٌ : مَنْ شَاءَ فَعَلَهَا وَمَنْ
شَاءَ تَرَكَهَا . وَكَذَلِكَ " وَلِيمَةُ الْوِلَادَةِ " إلَّا أَنْ يَكُونَ
قَدْ عَقَّ عَنْ الْوَلَدِ ؛ فَإِنَّ الْعَقِيقَةَ عَنْهُ سُنَّةٌ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يُكْرَهُ طَعَامُ الطَّهُورِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
وَلِيمَةِ الْعُرْسِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا " وَلِيمَةُ الْعُرْسِ " فَسُنَّةٌ
مَأْمُورٌ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ
أَوْجَبَهَا ؛ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ إعْلَانَ النِّكَاحِ وَإِظْهَارِهِ وَذَلِكَ
يَتَضَمَّنُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ وَاِتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ ؛
وَلِهَذَا كَانَتْ الْإِجَابَةُ إلَيْهَا وَاجِبَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ
شُرُوطِ ذَلِكَ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ . وَأَمَّا " دَعْوَةُ الْخِتَانِ
" فَلَمْ
تَكُنْ
الصَّحَابَةُ تَفْعَلُهَا وَهِيَ مُبَاحَةٌ ؛ ثُمَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَصْحَابَ
أَحْمَد وَغَيْرِهِ مَنْ كَرِهَهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهَا ؛ بَلْ
يَسْتَحِبُّهَا . وَأَمَّا الْإِجَابَةُ إلَيْهَا ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَهَا
آثِمٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ الْإِجَابَةَ إلَيْهَا أَيْضًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ أَكَلَ
مَعَ مَغْفُورٍ غُفِرَ لَهُ " : هَلْ صَحَّ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ رُئِيَ فِي
الْمَنَامِ يَقُولُ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ صَحِيحٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : " مَنْ أَتَى إلَى طَعَامٍ لَمْ يُدْعَ إلَيْهِ
فَقَدْ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا "
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَعْنَاهُ الَّذِي يَدْخُلُ إلَى دَعْوَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ
أَهْلِهَا ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ مُخْتَفِيًا كَالسَّارِقِ وَيَأْكُلُ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِهِمْ فَيَسْتَحْيُونَ مِنْ نَهْيِهِ : فَيَخْرُجُ كَالْمُغِيرِ الَّذِي
يَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْقَهْرِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " شُرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا "
- يَعْنِي تَنَفَّسَ ثَلَاثًا - فَلَوْ شَرِبَ أَحَدٌ مَرَّةً هَلْ يَكُونُ
حَرَامًا ؟ وَهَلْ وَرَدَ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ مَرَّةً فَقَطْ ؟ وَقَدْ جَاءَ
فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْعَشَرَةِ " أَنَّهُ شَرِبَ مَرَّةً وَاحِدَةً "
وَقَدْ كُتِبَ فِي هَذَا فُتْيَا وَقَالُوا : إذَا شَرِبَ مَرَّةً حَرَامٌ ؛
وَلَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْقَوْلَ وَقَدْ وَرَدَ
الْحَدِيثُ أَيْضًا : " أَنَّهُ شَرِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَائِمًا " فَهَلْ هَذَا لِلتَّنْزِيهِ ؟ أَوْ لِلتَّحْرِيمِ ؟ وَهَلْ إذَا شَرِبَ
مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ قَائِمًا عَلَيْهِ إثْمٌ ؟ وَهَلْ إذَا شَرِبَ مَرَّةً
وَاحِدَةً هَلْ يَكُونُ حَرَامًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْأَفْضَلُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الشُّرْبِ ثَلَاثًا
وَيَكُونُ نَفَسُهُ فِي غَيْرِ الْإِنَاءِ ؛ فَإِنَّ التَّنَفُّسَ فِي الْإِنَاءِ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَنَفَّسْ وَشَرِبَ بِنَفَسِ وَاحِد جَازَ ؛
فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا } وَفِي رِوَايَةٍ
لِمُسْلِمِ : { كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا يَقُولُ : إنَّهُ
أَرْوَى وَأَمْرَى } . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّنَفُّسِ ثَلَاثًا
. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي قتادة قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ
فَلَا
يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ } فَهَذَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي
الْإِنَاءِ . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الشَّرَابِ فَقَالَ الرَّجُلُ :
الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ ؟ فَقَالَ : أَهْرِقْهَا قَالَ : فَإِنِّي لَا
أُرْوَى عَنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ : قَالَ : فَأَبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فِيك } رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ . فَلَمْ يَنْهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الشُّرْبِ بِنَفَسِ وَاحِدٍ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ لَهُ
الرَّجُلُ : إنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ قَالَ : { أَبِنْ الْقَدَحَ
عَنْ فِيك } أَيْ لِتَتَنَفَّسْ إذَا احْتَجْت إلَى النَّفَسِ خَارِجَ الْإِنَاءِ
. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ رُوِيَ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَحْتَجْ
إلَى النَّفَسِ جَازَ . وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْجَبَ
التَّنَفُّسَ وَحَرَّمَ الشُّرْبَ بِنَفَسِ وَاحِدٍ . وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ كَمَا كَانَ { يُعْجِبُهُ
التَّيَمُّنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ }
وَلَوْ بَدَأَ فِي الطِّهَارَةِ بِمَيَاسِرِهِ قَبْلَ مَيَامِنِهِ كَانَ تَارِكًا
لِلِاخْتِيَارِ وَكَانَ وُضُوءُهُ صَحِيحًا مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ بَيْنَ
الْأَئِمَّةِ .
وَأَمَّا " الشُّرْبُ قَائِمًا " فَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ
بِالنَّهْيِ وَأَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِالرُّخْصَةِ ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ
الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَذُكِرَ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ وَلَكِنَّ
الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ أَنْ تُحْمَلَ الرُّخْصَةُ عَلَى حَالِ الْعُذْرِ
. فَأَحَادِيثُ النَّهْيِ مِثْلُهَا فِي الصَّحِيحِ " { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا } وَفِيهِ
عَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا } قَالَ قتادة : فَقُلْنَا : الْأَكْلُ ؟ فَقَالَ : ذَاكَ شَرٌّ وَأَخْبَثُ . وَأَحَادِيثُ " الرُّخْصَةِ " مِثْلَ حَدِيثِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا مِنْ زَمْزَمَ } وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّ عَلِيًّا فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ شَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ كَمَا صَنَعْت . وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا قَدْ رُوِيَ فِيهِ أَثَرٌ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ زَمْزَمَ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا كَانَ فِي الْحَجِّ وَالنَّاسُ هُنَاكَ يَطُوفُونَ وَيَشْرَبُونَ مِنْ زَمْزَمَ وَيَسْتَقُونَ وَيَسْأَلُونَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ قُعُودٍ مَعَ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلِ فَيَكُونُ هَذَا وَنَحْوُهُ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ النَّهْيِ وَهَذَا جَارٍ عَنْ أَحْوَالِ الشَّرِيعَةِ : أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ ؛ بَلْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ ؛ بَلْ الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي حُرِّمَ أَكْلُهَا وَشُرْبُهَا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ . وَأَمَّا مَا حُرِّمَ مُبَاشَرَتُهُ طَاهِرًا - كَالذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ - فَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ صِفَةٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ : فَهَذَا دُونَ النَّهْيِ عَنْ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعَنْ لِبَاسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ ؛ إذْ ذَاكَ قَدْ جَاءَ فِيهِ وَعِيدٌ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُبَاحٌ لِلْحَاجَةِ : فَهَذَا أَوْلَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَائِمًا : هَلْ هُوَ حَلَالٌ ؟ أَمْ حَرَامٌ ؟ أَمْ
مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ إذَا
كَانَ لَهُ عُذْرٌ كَالْمُسَافِرِ أَوْ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الطَّرِيقِ
مَاشِيًا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَعَ الْعُذْرِ فَلَا بَأْسَ : فَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَهُوَ قَائِمٌ } فَإِنَّ
الْمَوْضِعَ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ قُعُودٍ وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ
فَيُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ . وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ
النُّصُوصِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا أَكَلَ بِطِّيخًا أَصْفَرَ عُمْرَهُ " وَقَالَ الْآخَرُ : " إنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ الْعِنَبَ دَوٍ دو " ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَوْلُهُ : " أَكَلَ الْعِنَبَ : دو دو " كَذِبٌ ؛
لَا أَصْلَ لَهُ وَأَمَّا الْبِطِّيخُ فَقَدْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْبِطِّيخَ ؛
لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَهُمْ كَانَ الْبِطِّيخُ
الْأَخْضَرُ وَمَا يُنْقَلُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد : أَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ أَكْلِ الْبِطِّيخِ ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِكَيْفِيَّةِ أَكْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبٌ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد . كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ فَاكِهَةَ بَلَدِهِ مَا قُدِّمَتْ لَهُ فَاكِهَةٌ . فَتَرَكَ أَكْلَهَا لَا عَلَى سَبِيلِ الزُّهْدِ الْفَاسِدِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ الْفَاسِدِ ؛ بَلْ كَانَ لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا ؛ وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا وَيَتَّبِعُ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } . فَأَمَرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّكْرِ . فَمَنْ حَرَّمَ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِ وَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا بِدُونِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ : فَهُوَ مَذْمُومٌ مُبْتَدِعٌ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } وَمَنْ أَكَلَهَا بِدُونِ الشُّكْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا فَهُوَ مَذْمُومٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أَيْ شُكْرِ النَّعِيمِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ . { الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ } وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ بِأَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا } وَكَذَلِكَ " الْإِسْرَافُ فِي الْأَكْلِ " مَذْمُومٌ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ . وَمَنْ أَكَلَ بِنِيَّةِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى عِبَادَةٍ كَانَ مَأْجُورًا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . { نَفَقَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً } وَقَالَ لِسَعْدِ : { إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك } .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ مَكْتُوبٌ
عَلَى قِشْرِ الْبِطِّيخِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ . لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ . لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ } . وَأَيْضًا " مَنْ أَكَلَهُ بِقِشْرِهِ كَانَ لَهُ
بِكُلِّ نَهْشَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَإِنْ
أَكَلَهُ بِبِزْرِهِ فَبِكُلِّ أَلْفٍ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ " ؟ وَأَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : " أَلَك
قَمِيصَانِ ؟ بِعْ الْوَاحِدَ وَكُلْ بِهِ بِطِّيخًا أَصْفَرَ " وَهَلْ صَحَّ
عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَكْلُ الْبِطِّيخِ بِالرُّطَبِ
" وَمَا مَعْنَى الْبِطِّيخِ بِالرُّطَبِ إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي
الْبِطِّيخِ كُلُّهَا مُخْتَلَقَةٌ لَمْ يَرْغَبْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْلِ الْبِطِّيخِ . وَجَمِيعُ مَا يُرْوَى مِنْ هَذَا
الْجِنْسِ فَهُوَ كَذِبٌ . وَأَمَّا أَكْلُ " الْبِطِّيخِ بِالرُّطَبِ "
فَهُوَ كَأَكْلِ الْقِثَّاءِ بِالرُّطَبِ وَالْحَدِيثُ بِذَلِكَ أَصَحُّ .
وَالْمُرَادُ بِهِ حَلَاوَةُ هَذَا وَرُطُوبَةُ هَذَا . وَكَانَ أَحَبَّ
الشَّرَابِ إلَيْهِ الْحُلْوُ الْبَارِدُ . فَهَذَا بَيَانُ أَكْلِ الْبِطِّيخِ
الْأَخْضَرِ بِالرُّطَبِ أَوْ التَّمْرِ . فَأَمَّا أَكْلُهُ بِالرُّطَبِ
الْأَصْفَرِ فَلَا أَصْلَ لَهُ ؛ لَا مِنْ نَصٍّ ؛ وَلَا قِيَاسٍ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ لِيُطْعِمَهُمْ شَيْئًا فَلَمَّا أَحْضَرَ
الْمَائِدَةَ وَالْخُبْزَ عَلَيْهَا وَغَابَ لِيَأْتِيَ بِالْأُدُمِ فَقَالَ
رَجُلٌ : " إذَا حَضَرَ الْخُبْزُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " لَا تَنْتَظِرُوا شَيْئًا " فَأَكَلُوا الْخُبْزَ ؛
وَحَضَرَ الْإِدَامُ بَقِيَ بِلَا خُبْزٍ فَقَالُوا لَهُ كَذَبْت عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَغَرَّمْت الرَّجُلَ الْخُبْزَ :
فَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَجِئْ فِي هَذَا شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ هَذَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ ؛ وَمَعْنَاهُ
الْأَمْرُ بِالْقَنَاعَةِ وَأَنَّهُ يُكْتَفَى بِالْخُبْزِ إذَا حَضَرَ وَلَا يُنْتَظَرُ
غَيْرُهُ وَلَا يُطْلَبُ مِنْ الْمُضِيفِ غَيْرُهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
كَرَامَتِهِ . فَأَمَّا إنْ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ أُدْمًا يَحْضُرُ وَإِذَا
أَكَلُوا الْخُبْزَ بَقِيَ الْأُدُمُ وَحْدَهُ : فَانْتِظَارُهُمْ حَتَّى
يَأْكُلُوا الْأُدْمَ مَعَ الْخُبْزِ هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ حَلَالًا وَفِيهِ شُبْهَةٌ قَلِيلَةٌ
. فَإِذَا أَضَافَ الرَّجُلَ أَوْ دَعَاهُ هَلْ يُجِيبُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ فِي التَّرْكِ مَفْسَدَةٌ - مِنْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ
أَوْ فَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُجِيبُهُ لِأَنَّ
الصِّلَةَ وَصَلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ وَاجِبٌ فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ إلَّا بِذَلِكَ
كَانَ وَاجِبًا وَلَيْسَتْ الْإِجَابَةُ مُحَرَّمَةٌ . أَوْ يُقَالُ : إنَّ
مَصْلَحَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ رَاجِحَةٌ عَلَى مَا يَخَافُ مِنْ الشُّبْهَةِ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ ؛ بَلْ التَّرْكُ مَصْلَحَةٌ تُوقِيهِ الشُّبْهَةَ .
وَنَهَى الدَّاعِيَ عَنْ قَلِيلِ الْإِثْمِ . وَكَانَ فِي الْإِجَابَةِ مَصْلَحَةُ
الْإِجَابَةِ فَقَطْ وَفِيهَا مَفْسَدَةُ الشُّبْهَةِ . فَأَيُّهُمَا أَرْجَحُ ؟
هَذَا فِيهِ خِلَافٌ فِيمَا أَظُنُّهُ . وَفُرُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَثِيرَةٌ
قَدْ نَقَلَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فِيهَا مَسَائِلَ قَدْ يُرَجِّحُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
جَانِبَ التَّرْكِ وَالْوَرَعِ . وَيُرَجِّحُ بَعْضُهُمْ جَانِبَ الطَّاعَةِ
وَالْمَصْلَحَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مَعَهُ مَالٌ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ : فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ
يَأْكُلَ مِنْ عَيْشِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ عَرَفَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ لَمْ يَأْكُلْ حَتْمًا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ
عَيْنَهُ لَمْ يَحْرُمْ الْأَكْلُ مِنْهُ ؛ لَكِنْ إذَا كَثُرَ الْحَرَامُ كَانَ
مَتْرُوكًا وَرَعًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ اللَّعِب بِالشِّطْرَنْجِ : أَحَرَامٌ هُوَ ؟ أَمْ مَكْرُوهٌ ؟ أَمْ مُبَاحٌ
؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : حَرَامٌ ؛ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ ؟ وَإِنْ
قُلْتُمْ : مَكْرُوهٌ ؛ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ ؟ أَوْ مُبَاحٌ فَمَا
الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَتِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، اللَّعِبُ بِهَا : مِنْهُ مَا هُوَ
مُحَرَّمٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ : وَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ ؛ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ؛ وَلَيْسَ مِنْ اللَّعِبِ بِهَا
مَا هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنْ اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى الْعِوَضِ كَانَ
حَرَامًا بِالِاتِّفَاقِ ؛ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إمَامُ
الْمَغْرِبِ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا عَلَى الْعِوَضِ
قِمَارٌ لَا يَجُوزُ . وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى تَرْكِ
وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ : مِثْلَ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ
عَنْ وَقْتِهَا ؛ أَوْ تَرْكَ مَا يَجِبُ فِيهَا مِنْ أَعْمَالِهَا الْوَاجِبَةِ بَاطِنًا
أَوْ ظَاهِرًا ؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ حَرَامًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ : يَرْقُبُ الشَّمْسَ
حَتَّى إذَا صَارَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا
يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ . وَقَدْ ذَمَّ
اللَّهُ صَلَاتَهُمْ بِقَوْلِهِ :
{ إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ " السَّهْوَ عَنْهَا " بِتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا وَبِتَرْكِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِيهَا كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَلَاةَ الْمُنَافِقِ تَشْتَمِلُ عَلَى التَّأْخِيرِ وَالتَّطْفِيفِ : قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ : إنَّ الصَّلَاةَ مِكْيَالٌ ؛ فَمَنْ وَفَّى وُفِّيَ لَهُ وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ اللَّهُ فِي " الْمُطَفِّفِينَ " . وَكَذَلِكَ فَسَّرُوا قَوْلَهُ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } قَالَ : إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَإِضَاعَتُهَا حُقُوقَهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَكْمَلَ الصَّلَاةَ بِطَهُورِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَخُشُوعِهَا صَعِدَتْ وَلَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ وَتَقُولُ حَفِظَك اللَّهُ كَمَا حَفِظْتنِي وَإِذَا لَمْ يُكْمِلْ طَهُورَهَا وَقِرَاءَتَهَا وَخُشُوعَهَا فَإِنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ ؛ وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا وَتَقُولُ ضَيَّعَك اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتنِي } . وَالْعَبْدُ وَإِنْ أَقَامَ صُورَةَ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةَ فَلَا ثَوَابَ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا حَضَرَ قَلْبُهُ فِيهِ مِنْهَا كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبُعُهَا ؛ إلَّا خُمُسُهَا ؛ إلَّا سُدُسُهَا ؛ إلَّا سُبُعُهَا ؛ إلَّا ثُمُنُهَا ؛ إلَّا تسعها إلَّا عُشُرُهَا } . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا . وَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهَا الْوَسْوَاسُ فَفِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْهَا وَوُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ
مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ : " أَحَدُهُمَا " لَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ " الشِّطْرَنْجَ " مَتَى شَغَلَ عَمَّا يَجِبُ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَشَغْلُهُ عَنْ إكْمَالِ الْوَاجِبَاتِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَسْطٍ . وَكَذَلِكَ لَوْ شَغَلَ عَنْ وَاجِبٍ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ : مِنْ مَصْلَحَةِ النَّفْسِ أَوْ الْأَهْلِ أَوْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ صِلَةِ الرَّحِمِ ؛ أَوْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَوْ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ مِنْ نَظَرٍ فِي وِلَايَةٍ أَوْ إمَامَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ . وَقَلَّ عَبْدٌ اشْتَغَلَ بِهَا إلَّا شَغَلَتْهُ عَنْ وَاجِبٍ . فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ اسْتَلْزَمَتْ مُحَرَّمًا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ : مِثْلَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْكَذِبِ ؛ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ ؛ أَوْ الْخِيَانَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا المغاضاة أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ فَسَادًا غَيْرَ ذَلِكَ : مِثْلَ اجْتِمَاعٍ عَلَى مُقَدِّمَاتِ الْفَوَاحِشِ ؛ أَوْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْعُدْوَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ أَوْ مِثْلَ أَنْ يُفْضِيَ اللَّعِبُ بِهَا إلَى الْكَثْرَةِ وَالظُّهُورِ الَّذِي يَشْتَمِلُ مَعَهُ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ : فَهَذِهِ الصُّورَةُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَتَّفِقُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهَا فِيهَا . وَإِذَا قُدِّرَ خُلُوُّهَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ : فَالْمَنْقُولُ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَصَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ
فَقَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟ شَبَّهَهُمْ بِالْعَاكِفِينَ عَلَى الْأَصْنَامِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ } وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ قَرِينَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْهَا مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِ " تَحْرِيمُهَا " . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا ؛ لِلْخَبَرِ ؛ وَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ بِغَيْرِ قِمَارٍ وَإِنْ كَرِهْنَاهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ النَّرْدِ وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا اللَّفْظِ مِمَّا مَضْمُونُهُ : أَنَّهُ يَكْرَهُهَا وَيَرَاهَا دُونَ النَّرْدِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَرَاهَتَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : لِلْخَبَرِ . وَلَفْظِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ عَنْ مَالِكٍ { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَإِذًا كَرِهَ الشِّطْرَنْجَ . . . (1) وَإِنْ كَانَتْ أَخَفَّ مِنْ النَّرْدِ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي التَّحْرِيمِ وَقَالَ : لَا يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّهَا حَرَامٌ . وَمَا بَلَغَنَا أَنَّ أَحَدًا نَقَلَ عَنْهُ لَفْظًا يَقْتَضِي نَفْيَ التَّحْرِيمِ . وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ لَمْ تَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُمْ فِي تَحْرِيمِهَا أَكْثَرُ أَلْفَاظِهِمْ " الْكَرَاهَةُ " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَلَا بِالشِّطْرَنْجِ ؛ وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُدْمِنِ الْمُوَاظِبِ عَلَى لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ . وَقَالَ يَحْيَى : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : لَا خَيْرَ فِي الشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهَا وَسَمِعْته يُكَرِّهُ اللَّعِبَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْبَاطِلِ وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ
إلَّا الضَّلَالُ } وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ . فَالْأَرْبَعَةُ تُحَرِّمُ كُلَّ اللَّهْوِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْجُمْهُورُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ : " إحْدَاهُمَا " هَلْ يُسَلَّمُ عَلَى اللَّاعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ ؟ فَمَنْصُوصُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَالْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ . وَمَذْهَبُ مَالِك وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : أَنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ . وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد أَنَّ النَّرْدَ شَرٌّ مِنْ الشِّطْرَنْجِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ . وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا اشْتَمَلَا عَلَى عِوَضٍ أَوْ خَلَوَا عَنْ عِوَضٍ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النَّرْدِ فِيهَا وَزِيَادَةً مِثْلَ صَدِّ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ؛ وَعَنْ الصَّلَاةِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّ الشِّطْرَنْجَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَدَرِ ؛ وَالنَّرْدَ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ . وَاشْتِغَالُ الْقَلْب بِالتَّفْكِيرِ فِي الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ . وَأَمَّا إذَا اشْتَمَلَ النَّرْدُ عَلَى عِوَضٍ فَالنَّرْدُ شَرٌّ . وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا جَعَلُوا النَّرْدَ شَرًّا لِاسْتِشْعَارِهِمْ أَنَّ الْعِوَضَ يَكُونُ فِي النَّرْدِ دُونَ الشِّطْرَنْجِ . وَمِنْ هُنَا تَبِينُ الشُّبْهَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْسِرَ فِي كِتَابِهِ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُغَالَبَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقِمَارِ مِنْ الْمَيْسِرِ ؛ سَوَاءٌ كَانَ بِالشِّطْرَنْجِ أَوْ بِالنَّرْدِ أَوْ بِالْجَوْزِ أَوْ بِالْكِعَابِ أَوْ الْبَيْضِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ : كَعَطَاءِ وَطَاوُوسٍ وَمُجَاهِدٍ ؛ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي : كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْقِمَارِ فَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ ؛ حَتَّى لَعِبُ
الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ . فَاَلَّذِينَ لَمْ يُحَرِّمُوا الشِّطْرَنْجَ كَطَائِفَةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ لَفْظَ " الْمَيْسِرِ " لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مَا كَانَ قِمَارًا ؛ فَيَحْرُمُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ كَمَا يَحْرُمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ لَوْ أَخْرَجَ كُلٌّ مِنْهُمَا السَّبْقَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ : حَرَّمُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ قِمَارٌ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ آمِنٌ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ ؛ وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارِ } { وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ بُيُوعَ الْغَرَرِ } لِأَنَّهَا مِنْ نَوْعِ الْقِمَارِ : مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ الْآبِقَ وَالْبَعِيرَ الشَّارِدَ ؛ فَإِنْ وَجَدَهُ كَانَ قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَهُ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذِهِ الْمُغَالَبَاتِ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ لَمْ يُحَرِّمُوهَا إذَا خَلَتْ عَنْ الْعِوَضِ . وَلِهَذَا طَرَدَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي " النَّرْدِ " فَلَمْ يُحَرِّمُوهَا إلَّا مَعَ الْعِوَضِ ؛ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرَ مَذْهَبِهِ تَحْرِيمُ النَّرْدَ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِوَضٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : أَكْرَهُهَا ؛ لِلْخَبَرِ . فَبَيَّنَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ فِي ذَلِكَ الْخَبَرُ ؛ لَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا حُرِّمَ النَّرْدُ وَلَا عِوَضَ فِيهَا فَالشِّطْرَنْجُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهَا فَلَيْسَ دُونَهَا . وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ خَبَرَ حَقِيقَةَ اللَّعِبِ بِهَا فَإِنَّ مَا فِي النَّرْدِ مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ؛ وَمِنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ : هُوَ فِي الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ بِلَا رَيْبٍ وَهِيَ تَفْعَلُ فِي النُّفُوسِ فِعْلَ حُمَيَّا الْكُؤُوسِ . فَتَصُدُّ عُقُولَهُمْ
وَقُلُوبَهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْخُمُورِ وَالْحَشِيشَةِ . وَقَلِيلُهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا فَتَحْرِيمُ النَّرْدِ الْخَالِيَةِ عَنْ عِوَضٍ مَعَ إبَاحَةِ الشِّطْرَنْجِ مِثْلُ تَحْرِيمِ الْقَطْرَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ وَإِبَاحَةِ الْغُرْفَةِ مِنْ نَبِيذِ الْحِنْطَةِ . وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ فَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الشِّطْرَنْجِ . " وَتَحْرِيمُ النَّرْدِ " ثَابِتٌ بِالنَّصِّ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ فِي دَارِهَا كَانُوا سُكَّانًا لَهَا عِنْدَهُمْ نَرْدٌ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِمْ : إنْ لَمْ تُخْرِجُوهَا لَأُخْرِجَنكُمْ مِنْ دَارِي وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . وَمَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ إذَا وَجَدَ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ضَرَبَهُ وَكَسَّرَهَا . وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ ؛ فَقَالَ : { عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَنْ ضَرَبَ بِكِعَابِهَا يَلْعَبُ بِهَا } فَعَلَّقَ الْمَعْصِيَةَ بِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ بِهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ عِوَضًا ؛ بَلْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الضَّرْبُ بِكِعَابِهَا . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَعِبَ بالنردشير فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : { فَلْيُشَقِّصْ الْخَنَازِيرَ } فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ اللَّاعِبَ بِهَا كَالْغَامِسِ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ وَكَاَلَّذِي يُشَقِّصُ الْخَنَازِيرَ : يَقْصِبُهَا وَيَقْطَعُ لَحْمَهَا كَمَا يَصْنَعُ الْقَصَّابُ . وَهَذَا التَّشْبِيهُ مُتَنَاوِلٌ اللَّعِبَ بِهَا بِالْيَدِ سَوَاءٌ وُجِدَ أَكْلٌ أَوْ لَمْ يُوجَدْ كَمَا أَنَّ غَمْسَ الْيَدِ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ وَتَشْقِيصَ لَحْمِهِ مُتَنَاوِلٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ أَكْلٌ بِالْفَمِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يُنْهَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ فَكَذَلِكَ النَّرْدُ يُنْهَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ . وَهَذَا يَتَقَرَّرُ بِوُجُوهِ يَتَبَيَّنُ بِهَا تَحْرِيمُ " النَّرْدِ " " وَالشِّطْرَنْجِ " وَنَحْوِهِمَا . " أَحَدُهَا " أَنْ يُقَالَ : النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِصُورَةِ الْمُقَامَرَةِ فَقَطْ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ بَذَلَ الْعِوَضَ أَحَدُ الْمُتَلَاعِبَيْنِ أَوْ أَجْنَبِيٌّ لَكَانَ مِنْ صُوَرِ الْجِعَالَةِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ ؛ إلَّا فِيمَا يَنْفَعُ : كَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ } لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِمَارًا . وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْمَلَاعِبُ مِنْ الْبَاطِلِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ أَوْ تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ أَوْ مُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ } . قَوْلُهُ " مِنْ الْبَاطِلِ " أَيْ مِمَّا لَا يَنْفَعُ فَإِنَّ الْبَاطِلَ ضِدُّ الْحَقِّ . وَالْحَقُّ يُرَادُ بِهِ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ اعْتِقَادُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ . وَيُرَادُ بِهِ الْحَقُّ الْمَقْصُودُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقْصَدَ وَهُوَ الْأَمْرُ النَّافِعُ فَمَا لَيْسَ مِنْ هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لَيْسَ بِنَافِعِ .
وَقَدْ يُرَخِّصُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ ؛ لَكِنْ لَا يُؤْكَلُ بِهِ الْمَالُ وَلِهَذَا جَازَ السِّبَاقُ بِالْأَقْدَامِ وَالْمُصَارَعَةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِهِ . وَكَذَلِكَ رُخِّصَ فِي الضَّرْبِ بِالدُّفِّ فِي الْأَفْرَاحِ وَإِنْ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْمُقَامَرَةِ فَلَا يَجُوزُ قَصْرُ النَّهْيِ عَلَى ذَلِكَ . وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ النَّرْدِ وَنَحْوِهِ لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ لَكَانَ النَّرْدُ مِثْلَ سِبَاقِ الْخَيْلِ وَمِثْلَ الرَّمْيِ بِالنِّشَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْمُقَامَرَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي هَذَا حَرَّمُوهُ مَعَ أَنَّهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا } { وَمَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا } { وَكَانَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ يُسَابِقُونَ بَيْنَ الْخَيْلِ } { وَقَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ : أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ } فَكَيْفَ يُشَبَّهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ بِمَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا مُجَرَّدَ الْمُقَامَرَةِ كَانَ النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ كَالْمُنَاضَلَةِ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ فِي الْأَصْلِ هِيَ الْمُقَامَرَةُ لَكِنَّ الشَّارِعَ قَرَنَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي التَّحْرِيمِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } ؟ فَوَصَفَ الْأَرْبَعَةَ بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ؛ وَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهَا ثُمَّ خَصَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بِأَنَّهُ يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ . وَيُهَدِّدُ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } كَمَا عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالِاجْتِنَابِ فِي قَوْلِهِ : { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ " الْخَمْرَ " لَمَّا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهَا حَرُمَ مُقَارَبَتُهَا بِوَجْهِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا وَلَا شُرْبُ قَلِيلِهَا بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا وَشَقِّ ظُرُوفِهَا وَكَسْرِ دِنَانِهَا وَنَهَى عَنْ تَخْلِيلِهَا وَإِنْ كَانَتْ لِيَتَامَى . مَعَ أَنَّهَا اُشْتُرِيَتْ لَهُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَمْرِ شَيْءٌ مُحْتَرَمٌ ؛ لَا خَمْرَةَ الْخِلَالِ وَلَا غَيْرَهَا وَأَنَّهُ مَنْ اتَّخَذَ خَلًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْسِدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَخَمَّرَ : بِأَنْ يَصُبَّ فِي الْعَصِيرِ خَلًّا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ تَخْمِيرَهُ ؛ بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ } لِئَلَّا يَقْوَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَيُفْضِي إلَى أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ الْمُسْكِرَ مَنْ لَا يَدْرِي . وَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي يَدِبُّ السُّكَّرُ فِيهَا وَلَا يَدْرِي مَا بِهِ كَالدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالظَّرْفِ الْمُزَفَّتِ وَالْمَنْقُورِ مِنْ الْخَشَبِ . وَأَمَرَ بِالِانْتِبَاذِ فِي السِّقَاءِ الْمُوكَى لِأَنَّ السُّكَّرَ يُنْظَرُ : إذَا كَانَ فِي الشَّرَابِ انْشَقَّ الظَّرْفُ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي نَسْخِ ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ . فَالْمَقْصُودُ سَدُّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إلَى ذَلِكَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ .
وَكَذَلِكَ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ ثَلَاثًا وَبَعْدَ الثَّلَاثِ يَسْقِيهِ أَوْ يُرِيقُهُ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَظِنَّةُ سُكْرِهِ ؛ بَلْ كَانَ أَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ . فَهَذَا كُلُّهُ . . . (1) سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَمَّا كَانَتْ تَشْتَهِي ذَلِكَ وَفِي اقْتِنَائِهَا - وَلَوْ لِلتَّخْلِيلِ - مَا قَدْ يُفْضِي إلَى شُرْبِهَا كَمَا أَنَّ شُرْبَ قَلِيلِهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ . فَهَذَا " الْمَيْسِرُ " الْمَقْرُون " بِالْخَمْرِ " إذَا قُدِّرَ أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ وَتَرْكِ الْمَنْفَعَةِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْمَلَاعِبَ تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ وَإِذَا قَوِيَتْ الرَّغْبَةُ فِيهَا أُدْخِلَ فِيهَا الْعِوَضُ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَكَانَ مِنْ حُكْمِ الشَّارِعِ أَنْ يَنْهَى عَمَّا يَدْعُو إلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُغَالِبَاتُ الَّتِي قَدْ تَنْفَعُ : مِثْلَ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُصَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ تِلْكَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ لِتَقْوِيَةِ الْأَبْدَانِ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ النُّفُوسِ بِالِاكْتِسَابِ بِهَا . وَهَذَا الْمَعْنَى نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { مَنْ لَعِبَ بالنردشير فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } فَإِنَّ الْغَامِسَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَذَلِكَ مُقَدِّمَةُ أَكْلِهِ وَسَبَبُهُ وَدَاعِيَتُهُ فَإِذَا حُرِّمَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ اللَّعِبُ الَّذِي هُوَ مُقَدِّمَةُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَسَبَبُهُ وَدَاعِيَتُهُ .
وَبِهَذَا
يَتَبَيَّنُ مَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْمُغَالِبَاتِ ثَلَاثَةُ
أَنْوَاعٍ . فَمَا كَانَ مُعِينًا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ : {
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ }
جَازَ بِجُعْلِ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ . وَمَا كَانَ مُفْضِيًا إلَى مَا نَهَى اللَّهُ
عَنْهُ : كَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ : فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ
جُعْلٍ . وَمَا قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِلَا مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ : كَالْمُسَابَقَةِ
وَالْمُصَارَعَةِ : جَازَ بِلَا جُعْلٍ .
" الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ
الْمَيْسِرَ إنَّمَا حُرِّمَ لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ
وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ } . فَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ
التَّحْرِيمِ وَهِيَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ وَزَوَالِ
الْمَصْلَحَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ فَإِنَّ وُقُوعَ الْعَدَاوَةِ
وَالْبَغْضَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ . وَصُدُودَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا
مُسْتَحَبٌّ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ
فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
فِيهِ عِوَضٌ وَهُوَ فِي الشِّطْرَنْجِ أَقْوَى ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَسْتَغْرِقُ
قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ وَفِكْرَهُ فِيمَا فَعَلَ خَصْمُهُ وَفِيمَا يُرِيدُ أَنْ
يَفْعَلَ هُوَ وَفِي لَوَازِمِ ذَلِكَ وَلَوَازِمِ لَوَازِمِهِ حَتَّى لَا يُحِسَّ
بِجُوعِهِ وَلَا عَطَشِهِ وَلَا بِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَلَا بِحَالِ أَهْلِهِ
وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فَضْلًا أَنْ يَذْكُرَ
رَبَّهُ أَوْ الصَّلَاةَ .
وَهَذَا كَمَا يَحْصُلُ لِشَارِبِ الْخَمْرِ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّابِ يَكُونُ عَقْلُهُ أصحى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ . وَاللَّاعِبُ بِهَا لَا تَنْقَضِي نَهْمَتُهُ مِنْهَا إلَّا بدست بَعْدَ دست ؛ كَمَا لَا تَنْقَضِي نَهْمَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ إلَّا بِقَدَحِ بِقَدَحِ وَتَبْقَى آثَارُهَا فِي النَّفْسِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا أَكْثَرَ مِنْ آثَارِ شَارِبِ الْخَمْرِ حَتَّى تَعْرِضَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْمَرَضِ وَعِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ ؛ بَلْ وَعِنْدَ الْمَوْتِ ؛ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا ذِكْرُهُ لِرَبِّهِ وَتَوَجُّهُهُ إلَيْهِ . تَعْرِضُ لَهُ تَمَاثِيلُهَا وَذِكْرُ الشَّاهِ وَالرُّخِّ وَالْفِرْزَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَصَدُّهَا لِلْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ صَدِّ الْخَمْرِ وَهِيَ إلَى الشُّرْبِ أَقْرَبُ كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلَاعِبِيهَا : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ وَقَلَبَ الرُّقْعَةِ وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بِسَبَبِ غَلَبَةِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلْآخَرِ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّظَالُمِ وَالتَّكَاذُبِ وَالْخِيَانَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَمَا يَكَادُ لَاعِبُهَا يَسْلَمُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . وَالْفِعْلُ إذَا اشْتَمَلَ كَثِيرًا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ الطِّبَاعُ تَقْتَضِيهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ قَطْعًا فَكَيْفَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى ذَلِكَ غَالِبًا وَهَذَا أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي " قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ " وَغَيْرِهَا وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ أَفْضَى إلَى الْمُحَرَّمِ كَثِيرًا : كَانَ سَبَبًا لِلشَّرِّ وَالْفَسَادِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَكَانَتْ مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةً : نُهِيَ عَنْهُ ؛ بَلْ كُلُّ سَبَبٍ يُفْضِي إلَى الْفَسَادِ نُهِيَ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ
فَكَيْفَ بِمَا كَثُرَ إفْضَاؤُهُ إلَى الْفَسَادِ ؛ وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ . وَأَمَّا النَّظَرُ فَلَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى بَعْضِهِ رُخِّصَ مِنْهُ فِيهَا مَا تَدْعُو لَهُ الْحَاجَةُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ كَمَا أَنَّ الْفَسَادَ وَالضَّرَرَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فَإِذَا اجْتَمَعَا رَجَحَ أَعْلَاهُمَا كَمَا رَجَحَ عِنْدَ الضَّرَرِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْمَوْتِ شَرٌّ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِالْخَبِيثِ . " وَالنَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ " وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْمُغَالِبَاتِ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يُحْصَى وَلَيْسَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ ؛ فَضْلًا عَنْ مَصْلَحَةٍ مُقَاوِمَةٍ . غَايَتُهُ أَنْ يُلْهِيَ النَّفْسَ وَيُرِيحَهَا كَمَا يَقْصِدُ شَارِبُ الْخَمْرِ ذَلِكَ . وَفِي رَاحَةِ النَّفْسِ بِالْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَصُدُّ عَنْ الْمَصَالِحِ وَلَا يَجْتَلِبُ الْمَفَاسِدَ غنية وَالْمُؤْمِنُ قَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِحَلَالِهِ عَنْ حَرَامِهِ وَبِفَضْلِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه وَغَيْرِهِ { عَنْ أَبِي ذَرٍّ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَمِلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ لَوَسِعَتْهُمْ } وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَّقِيَ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ وَيَجْلِبَ لَهُ الْمَنْفَعَةَ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ " وَكُلُّ مَا يَتَغَذَّى بِهِ الْحَيُّ مِمَّا تَسْتَرِيحُ بِهِ النُّفُوسُ وَتَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي طِيبِهَا وَانْشِرَاحِهَا فَهُوَ مِنْ الرِّزْقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ ذَلِكَ لِمَنْ اتَّقَاهُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ . وَمَنْ طَلَبَ ذَلِكَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمَيْسِرِ : فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَلَبَ ذَلِكَ بِالْخَمْرِ وَصَاحِبُ الْخَمْرِ يَطْلُبُ الرَّاحَةَ وَلَا يَزِيدُهُ إلَّا تَعَبًا وَغَمًّا ؛ وَإِنْ كَانَتْ تُفِيدُهُ
مِقْدَارًا مِنْ السُّرُورِ : فَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْمَضَارِّ وَيَفُوتُهُ مِنْ المسار أَضْعَافُ ذَلِكَ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ مَنْ جَرَّبَهُ وَهَكَذَا سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ " الْمَيْسِرَ " لَمْ يُحَرَّمْ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ - وَإِنْ كَانَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمًا وَلَوْ تَجَرَّدَ عَنْ الْمَيْسِرِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي الْمَيْسِرِ - بَلْ فِي الْمَيْسِرِ عِلَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ كَمَا فِي الْخَمْرِ : أَنَّ اللَّهَ قَرَنَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا هِيَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ تُحَرَّمْ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ : فَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ أَوَّلَ مَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ : أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } و " الْمَنَافِعُ " الَّتِي كَانَتْ قِيلَ هِيَ الْمَالُ . وَقِيلَ : هِيَ اللَّذَّةُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَ فِيهَا كِلَا هَذَيْنِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِثَمَنِهَا وَالتِّجَارَةِ فِيهَا كَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِاللَّذَّةِ الَّتِي فِي شُرْبِهَا ؛ ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ { لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا } . وَكَذَلِكَ " الْمَيْسِرُ " كَانَتْ النُّفُوسُ تَنْتَفِعُ بِمَا تُحَصِّلُهُ بِهِ مِنْ الْمَالِ وَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ لَذَّةِ اللَّعِبِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } لِأَنَّ الْخَسَارَةَ فِي
الْمُقَامَرَةِ أَكْثَرُ وَالْأَلَمَ وَالْمَضَرَّةَ فِي الْمُلَاعَبَةِ أَكْثَرُ . وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بِالْمَيْسِرِ إنَّمَا هُوَ الِانْشِرَاحُ بِالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بِالْخَمْرِ إنَّمَا هُوَ مَا فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الشُّرْبِ وَإِنَّمَا حَرَّمَ الْعِوَضَ فِيهَا لِأَنَّهُ أَخْذُ مَالٍ بِلَا مَنْفَعَةٍ فِيهِ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ كَمَا حَرَّمَ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ . فَكَيْفَ تُجْعَلُ الْمَفْسَدَةُ الْمَالِيَّةُ هِيَ حِكْمَةَ النَّهْيِ فَقَطْ وَهِيَ تَابِعَةٌ وَتُتْرَكُ الْمَفْسَدَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ فَسَادُ الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ وَالْمَالُ مَادَّةُ الْبَدَنِ وَالْبَدَنُ تَابِعُ الْقَلْبِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . وَالْقَلْبُ هُوَ مَحَلُّ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِيقَةُ الصَّلَاةِ . فَأَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إفْسَادُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْبَدَنِ : أَنْ يُصَدَّ عَمَّا خُلِقَ لَهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَيَدْخُلَ فِيمَا يُفْسِدُ مِنْ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ . وَالصَّلَاةُ حَقُّ الْحَقِّ . وَالتَّحَابُّ وَالْمُوَالَاةُ حَقُّ الْخَلْقِ . وَأَيْنَ هَذَا مِنْ أَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْبَدَنِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمَالِ وَمَصْلَحَةَ الْقَلْبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَدَنِ ؛ وَإِنَّمَا حُرْمَةُ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَادَّةُ الْبَدَنِ ؛ وَلِهَذَا قَدَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ رُبْعَ الْعِبَادَاتِ عَلَى رُبْعِ الْمُعَامَلَاتِ وَبِهِمَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ . ثُمَّ ذَكَرُوا رُبْعَ الْمُنَاكَحَاتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةُ الشَّخْصِ . وَهَذَا مَصْلَحَةُ النَّوْعِ الَّذِي يَبْقَى بِالنِّكَاحِ . ثُمَّ لَمَّا ذَكَرُوا الْمَصَالِحَ ذَكَرُوا مَا يَدْفَعُ الْمَفَاسِدَ فِي رُبْعِ الْجِنَايَاتِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } و " عِبَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ مَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْخُضُوعَ لَهُ ؛ بَلْ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ . وَأَصْلُ ذَلِكَ وَأَجَلُّهُ مَا فِي الْقُلُوبِ : الْإِيمَانُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ وَالْخَشْيَةُ لَهُ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالرِّضَى بِحُكْمِهِ مِمَّا تَضْمَنُهُ الصَّلَاةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّمَا الصَّلَاةُ وَذِكْرُ اللَّهِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } فَجَعَلَ السَّعْيَ إلَى الصَّلَاةِ سَعْيًا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ . وَلَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ مُتَضَمِّنَةً لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشَّرِّ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ : قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أَيْ ذِكْرُ اللَّهِ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنْ كَوْنِهَا تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ؛ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ . وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : مَا دُمْت تَذْكُرُ اللَّهَ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ وَلَوْ كُنْت فِي السُّوقِ . وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ
يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ قَالُوا : إنَّ مَجَالِسَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنْ يُعْرَفَ " مَرَاتِبُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ " وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا لَا يُبْغِضُهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : كَانَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي يُبْغِضُهَا وَيَسْخَطُهَا ؛ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ كَانَ لِتَضَمُّنِهِ مَا يُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ وَمَنْعِهِ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقْصُرُ نَظَرَهُ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ وَمَفَاسِدِهَا وَمَا يَنْفَعُهَا مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَا يَضُرُّهَا مِنْ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَرَى مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَّا مَا عَادَ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِ وَالْبَدَنِ . وَغَايَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ إذَا تَعَدَّى ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى " سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ " بِمَبْلَغِهِمْ مِنْ الْعِلْمِ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ مِثْلُ أَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ بِمَبْلَغِهِمْ مِنْ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ وَمَا ضَمُّوا إلَيْهِ مِمَّا ظَنُّوهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَهُمْ فِي غَايَةِ مَا يَنْتَهُونَ إلَيْهِ دُونَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرِ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَقَوْمٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَتَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ إذَا تَكَلَّمُوا فِي الْمُنَاسَبَةِ وَأَنَّ تَرْتِيبَ الشَّارِعِ لِلْأَحْكَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعَ مَضَارِّهِمْ وَرَأَوْا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ " نَوْعَانِ " أُخْرَوِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ : جَعَلُوا الْأُخْرَوِيَّةَ مَا فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ مِنْ الْحِكَمِ ؛ وَجَعَلُوا الدُّنْيَوِيَّةَ مَا تَضْمَنُ حِفْظَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ وَالْعُقُولِ وَالدِّينِ الظَّاهِرِ وَأَعْرَضُوا عَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا : كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَا لِرَحْمَتِهِ وَدُعَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَكَذَلِكَ فِيمَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ . وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ ؛ وَحُقُوقِ الْمَمَالِيكِ وَالْجِيرَانِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ حِفْظًا لِلْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ . وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ . فَهَكَذَا مَنْ جَعَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ؛ وَالنَّفْعَ الَّذِي كَانَ فِيهِمَا بِمُجَرَّدِ أَخْذِ الْمَالِ . يُشْبِهُ هَذَا . . . (1) أَنَّ هَذِهِ الْمُغَالِبَاتِ تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عَمَلًا ؛ لَا مِنْ جِهَةِ أَخْذِ الْمَالِ ؛ فَإِنَّهَا لَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ إلَّا كَمَا يَصُدُّ سَائِرُ أَنْوَاعِ أَخْذِ الْمَالِ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي يُكْتَسَبُ بِهَا الْمَالُ لَا يُنْهَى عَنْهَا مُطْلَقًا ؛ لِكَوْنِهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ
الصَّلَاةِ ؛ بَلْ يُنْهَى مِنْهَا عَمَّا يَصُدُّ عَنْ الْوَاجِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } فَمَا كَانَ مُلْهِيًا وَشَاغِلًا عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ذِكْرِهِ وَالصَّلَاةِ لَهُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِنْسُهُ مُحَرَّمًا : كَالْبَيْعِ ؛ وَالْعَمَلِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَلَوْ كَانَ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَنَحْوِهِمَا فِي جِنْسِهِ مُبَاحًا ؛ وَإِنَّمَا حُرِّمَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ : كَانَ تَحْرِيمُهُ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيمِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْمَبِيعَاتِ وَالْمُؤَجَّرَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ كَبُيُوعِ الْغَرَرِ . فَإِنَّ هَذِهِ لَا يُعَلَّلُ النَّهْيُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَصُدُّ عَمَّا يَجِبُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ مِنْهُ مَا كَانَ يَصُدُّ وَأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةَ : لَا يُعَلَّلُ تَحْرِيمُهَا بِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ تِلْكَ الْمُعَامَلَاتُ الصَّحِيحَةُ يُنْهَى مِنْهَا عَمَّا يَصُدُّ عَنْ الْوَاجِبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْسِرِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ كَمَا حُرِّمَ شُرْبُ الْخَمْرِ . وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ قَرَنَ بِذَلِكَ ذِكْرَ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ وَقَدَّمَ عَلَيْهِ ذِكْرَ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ إحْسَانٌ . فَذَكَرَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ حُكْمَ الْأَمْوَالِ : الْمُحْسِنُ وَالْعَادِلُ وَالظَّالِمُ :
ذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالْبَيْعَ وَالرِّبَا . وَالظُّلْمُ فِي الرِّبَا وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِهِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْمَيْسِرِ ؛ فَإِنَّ " الْمُرَابِيَ " يَأْخُذُ فَضْلًا مُحَقَّقًا مِنْ الْمُحْتَاجِ ؛ وَلِهَذَا عَاقَبَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَقَالَ : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } وَأَمَّا " الْمُقَامِرُ " فَإِنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ فَيَظْلِمُ فَقَدْ يَكُونُ الْمَظْلُومُ هُوَ الْغَنِيَّ وَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْفَقِيرَ وَظُلْمُ الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ الْغَنِيِّ . وَظُلْمٌ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الظَّالِمَ الْقَادِرَ أَعْظَمُ مَنْ ظُلْمٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الظَّالِمُ ؛ فَإِنَّ ظُلْمَ الْقَادِرِ الْغَنِيِّ لِلْعَاجِزِ الضَّعِيفِ أَقْبَحُ مَنْ تَظَالُمِ قَادِرَيْنِ غَنِيَّيْنِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا هُوَ الَّذِي يَظْلِمُ . فَالرِّبَا فِي ظُلْمِ الْأَمْوَالِ أَعْظَمُ مِنْ الْقِمَارِ وَمَعَ هَذَا فَتَأَخَّرَ تَحْرِيمُهُ وَكَانَ آخِرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَيْسِرِ إلَّا مُجَرَّدُ الْقِمَارِ لَكَانَ أَخَفَّ مِنْ الرِّبَا لِتَأَخُّرِ تَحْرِيمِهِ . وَقَدْ أَبَاحَ الشَّارِعُ أَنْوَاعًا مِنْ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ كَمَا أَبَاحَ اشْتِرَاطَ ثَمَرِ النَّخْلِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ وَجَوَّزَ بَيْعَ الْمُجَازَفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الرِّبَا فَلَمْ يُبَحْ مِنْهُ ؛ وَلَكِنْ أَبَاحَ الْعُدُولَ عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ إلَى التَّقْدِيرِ بِالْخَرْصِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِلْحَاجَةِ ؛ إذْ الْخَرْصُ تَقْدِيرٌ بِظَنِّ وَالْكَيْلُ تَقْدِيرٌ بِعِلْمِ . وَالْعُدُولُ عَنْ الْعِلْمِ إلَى الظَّنِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّبَا أَعْظَمُ مِنْ الْقِمَارِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ؛ لَكِنَّ الْمَيْسِرَ تُطْلَبُ بِهِ الْمُلَاعَبَةُ وَالْمُغَالَبَةُ نُهِيَ عَنْهُ الْإِنْسَانُ لِفَسَادِ عَقْلِهِ مَعَ فَسَادِ مَالِهِ . مِثْلَ مَا فِيهِ مَنْ الصُّدُودِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ . وَكُلٌّ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِيهِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَفِيهِ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ : أَعْظَمُ مِنْ الرِّبَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ " الْمَيْسِرَ " اشْتَمَلَ عَلَى " مَفْسَدَتَيْنِ " : مَفْسَدَةٌ فِي الْمَالِ . وَهِيَ أَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ . وَمَفْسَدَةٌ فِي الْعَمَلِ وَهِيَ مَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمَالِ وَفَسَادِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ . وَكُلٌّ مِنْ الْمَفْسَدَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالنَّهْيِ فَيَنْهَى عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ مَيْسِرٍ كَالرِّبَا وَيَنْهَى عَمَّا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ أَكْلِ مَالٍ . فَإِذَا اجْتَمَعَا عَظُمَ التَّحْرِيمُ : فَيَكُونُ الْمَيْسِرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا أَعْظَمَ مِنْ الرِّبَا . وَلِهَذَا حُرِّمَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ حَرَّمَهَا وَلَوْ كَانَ الشَّارِبُ يَتَدَاوَى بِهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَحَرَّمَ بَيْعَهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا لَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَلَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الِاجْتِنَابِ . فَهَكَذَا الْمَيْسِرُ مَنْهِيٌّ عَنْ هَذَا وَعَنْ هَذَا . وَالْمُعِينُ عَلَى الْمَيْسِرِ كَالْمُعِينِ عَلَى الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَكَمَا أَنَّ الْخَمْرَ تَحْرُمُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهَا بِبَيْعِ أَوْ عَصْرٍ أَوْ سَقْيٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : فَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَيْسِرِ : كَبَائِعِ آلَاتِهِ وَالْمُؤَجِّرِ لَهَا وَالْمُذَبْذَبِ الَّذِي يُعِينُ أَحَدَهُمَا : بَلْ مُجَرَّدُ الْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيْسِرِ كَالْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ شُرْبِ الْخَمْرِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } وَقَدْ رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِمْ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا . فَقَالَ ابْدَءُوا بِهِ ثُمَّ قَالَ : أَمَا سَمِعْت قَوْله تَعَالَى { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } فَاسْتَدَلَّ عُمَرُ بِالْآيَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ مِثْلَ فَاعِلِهِ ؛ بَلْ إذَا كَانَ مَنْ دَعَا إلَى دَعْوَةِ الْعُرْسِ لَا تُجَابُ دَعْوَتُهُ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُنْكَرٍ حَتَّى يَدَعَهُ مَعَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ حَقٌّ : فَكَيْفَ بِشُهُودِ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ هَذَا مِنْ الْمَيْسِرِ فَكَيْفَ اسْتَجَازَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ ؟ قِيلَ لَهُ : الْمُسْتَجِيزُ لِلشِّطْرَنْجِ مِنْ السَّلَفِ بِلَا عِوَضٍ كَالْمُسْتَجِيزِ لِلنَّرْدِ بِلَا عِوَضٍ مِنْ السَّلَفِ وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ؛ بَلْ فِي الشِّطْرَنْجِ قَدْ تَبَيَّنَ عُذْرُ بَعْضِهِمْ كَمَا كَانَ الشَّعْبِيُّ يَلْعَبُ بِهِ لَمَّا طَلَبَهُ الْحَجَّاجُ لِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ . رَأَى أَنْ يَلْعَبَ بِهِ لِيُفَسِّقَ نَفْسَهُ وَلَا يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ لِلْحَجَّاجِ وَرَأَى أَنْ يَحْتَمِلَ مِثْلَ هَذَا لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ إعَانَةَ مِثْلِ الْحَجَّاجِ عَلَى مَظَالِمِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مَحْذُورًا عِنْدَهُ ؛ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاعْتِذَارُ إلَّا بِمَثَلِ ذَلِكَ . ثُمَّ يُقَالُ : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ وَاَلَّذِينَ اسْتَحَلُّوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ السَّلَفِ أَكْثَرُ وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرَهُمَا رَخَّصُوا فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ أَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُمُ إلَّا فِي النِّسَاءِ ؛ لَا فِي الْيَدِ بِالْيَدِ . وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَمْرَ
لَيْسَتْ إلَّا الْمُسْكِرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ : فَهَؤُلَاءِ فَهِمُوا مِنْ الْخَمْرِ نَوْعًا مِنْهُ دُونَ نَوْعٍ وَظَنُّوا أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِهِ . وَشُمُولُ الْمَيْسِرِ لِأَنْوَاعِهِ كَشُمُولِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا لِأَنْوَاعِهِمَا . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَّبِعَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إلَّا بِمَا هُمْ لَهُ أَهْلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أَخْطَئُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْت . وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَتَّبِعَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُطِيعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَنَسْتَغْفِرَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ . فَنَقُولَ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } الْآيَةَ . وَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَا كَانَ يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ . وَنُعَظِّمُ أَمْرَهُ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَنَرْعَى حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَمَنْ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي التَّقْلِيدِ وَآذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا : فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ . وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَأَحْسَنَ إلَى عِبَادِ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي " الشِّطْرَنْجِ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا
: هِيَ حَرَامٌ . وَقَالَ الْآخَرُ : هِيَ تَرُدُّ عَنْ الْغَيْبَةِ وَعَنْ
النَّظَرِ إلَى النَّاسِ مَعَ أَنَّهَا حَلَالٌ : فَأَيُّهُمَا الْمُصِيبُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا إذَا كَانَ بِعِوَضِ أَوْ
يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ : مِثْلَ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ
تَضْيِيعِ وَاجِبَاتِهَا أَوْ تَرْكِ مَا يَجِبُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِيَالِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا أُوجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ إذَا تَضَمَّنَ كَذِبًا أَوْ ظُلْمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ
مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَإِذَا خَلَا عَنْ
ذَلِكَ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَصْحَابِهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ حَرَامٌ . وَقَالَ هَؤُلَاءِ : إنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ
يَقْطَعْ بِأَنَّهُ حَلَالٌ ؛ بَلْ كَرِهَهُ . وَقِيلَ : إنَّهُ قَالَ : لَمْ
يَتَبَيَّنْ إلَيَّ تَحْرِيمُهُ . وَالْبَيْهَقِي أَعْلَمُ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ وَأَنْصَرُهُمْ لِلشَّافِعِيِّ . ذَكَرَ إجْمَاعَ
الصَّحَابَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ : عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي
سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى وَعَائِشَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يَحْكِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا . وَمَنْ
نَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ فَهُوَ غالط .
وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَعْلَمُ بِأَقْوَالِ
الصَّحَابَةِ مِمَّنْ يَنْقُلُ أَقْوَالًا بِلَا إسْنَادٍ قَالَ البيهقي : جَعَلَ
الشَّافِعِيُّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا
.
فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ فَأَمَّا كَرَاهِيَتُهُ اللَّعِبَ بِهَا فَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِيمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ وَالْأَوْلَى بِمَذْهَبِهِ . فَاَلَّذِينَ كَرِهُوا أَكْثَرُ وَمَعَهُمْ مَنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْعَجَمِ . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ وَقَالَ : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } ؟ لَأَنْ يَمَسَّ أَحَدُكُمْ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَأَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا . وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِمَجْلِسِ مِنْ مَجَالِسِ تَيْمِ اللَّهِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ لِغَيْرِ هَذَا خُلِقْتُمْ أَمَا وَاَللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً لَضَرَبْت بِهَا وُجُوهَكُمْ وَعَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَلِيَ مَالَ يَتِيمٍ فَأَحْرَقَهَا . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : هُوَ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ . وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : لَا يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ إلَّا خَاطِئٌ . وَعَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الْكَيْلَ وَإِنْ لَمْ يُقَامَرْ عَلَيْهَا . وَأَبُو سَعِيدٍ الخدري كَانَ يَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا . فَهَذِهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُ ذَلِكَ . ثُمَّ رَوَى البيهقي أَيْضًا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفِ بِالْبَاقِرِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : دَعُونَا مِنْ هَذِهِ الْمَجُوسِيَّةِ . قَالَ البيهقي : رَوَيْنَا فِي كَرَاهِيَةِ اللَّعِبِ بِهَا . عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَمُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِين وَإِبْرَاهِيمَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . قُلْت : " وَالْكَرَاهِيَةُ " فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرًا وَغَالِبًا يُرَادُ بِهَا التَّحْرِيمُ وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ؛ بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّهَا شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ وَالنَّرْدُ حَرَامٌ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِوَضٌ .
وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَامِعِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : قُلْت لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : مَا " الْمَيْسِرُ " ؟ قَالَ : كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْر اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ : فَهُوَ مَيْسِرٌ . قَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ . أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : قُلْت لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : هَذَا النَّرْدُ مَيْسِرٌ . أَرَأَيْت الشِّطْرَنْجَ مَيْسِرٌ هِيَ ؟ قَالَ الْقَاسِمُ : كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْر اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا أَبُو قَيْسٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : لَأَنْ أَعْبُدَ صَنَمًا يُعْبَدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْعَبَ بِهَذَا الْمَيْسِرِ . قَالَ الْقَيْسِيُّ : وَهِيَ عِيدَانٌ كَانَ يُلْعَبُ بِهَا فِي الْأَرْضِ . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ : مَا أُبَالِي أَلَعِبْت بِالْكَيْلِ أَوْ تَوَضَّأَتْ بِدَمِ خِنْزِيرٍ ثُمَّ قُمْت إلَى الصَّلَاةِ . وَمَا ذُكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } ؟ ثَابِتٌ عَنْهُ يُشَبِّهُهُمْ بِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } . و " الْمَيْسِرُ " يَدْخُلُ فِيهِ " النردشير " وَنَحْوُهُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَعِبَ بالنردشير فَقَدْ صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ . { مَنْ لَعِبَ بالنردشير فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ حَرَامٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِعِوَضِ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا : إنَّ الشِّطْرَنْجَ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَحْمَد
بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ : النردشير مِنْ الشِّطْرَنْجِ .
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ النَّرْدَ إذَا كَانَ
بِعِوَضِ وَالشِّطْرَنْجَ بِغَيْرِ عِوَضٍ : فَالنَّرْدُ شَرٌّ مِنْهُ وَهُوَ
حَرَامٌ حِينَئِذٍ بِالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ كِلَاهُمَا بِعِوَضِ أَوْ
كِلَاهُمَا بِلَا عِوَضٍ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ ؛ لِأَنَّ
الشِّطْرَنْجَ يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَيَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ
الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنْ النَّرْدِ . وَلِهَذَا قِيلَ : الشِّطْرَنْجُ مَبْنِيٌّ
عَلَى مَذْهَبِ الْقَدَرِ وَالنَّرْدُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ .
فَإِنَّ صَاحِبَ النَّرْدِ يَرْمِي وَيَحْسِبُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا صَاحِبُ
الشِّطْرَنْجِ فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ وَيُفَكِّرُ وَيَحْسِبُ حِسَابَ النَّقَلَاتِ
قَبْلَ النَّقْلِ ؛ فَإِفْسَادُ الشِّطْرَنْجِ لِلْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ إفْسَادِ
النَّرْدِ ؛ وَلَكِنْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ ؛ وَالشِّطْرَنْجُ لَمْ
يُعْرَفْ إلَّا بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ الْبِلَادُ ؛ فَإِنَّ أَصْلَهُ مِنْ
الْهِنْدِ وَانْتَقَلَ مِنْهُمْ إلَى الْفُرْسِ ؛ فَلِهَذَا جَاءَ ذِكْرُ
النَّرْدِ فِي الْحَدِيثِ ؛ وَإِلَّا فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْهُ إذَا
اسْتَوَيَا فِي الْعِوَضِ أَوْ عَدِمَهُ . وَقَدْ بُسِطَ جَوَابُ السُّؤَالِ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَقَالَ : هُوَ خَيْرٌ مِنْ النَّرْدِ :
فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ ؟ وَهَلْ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ بِعِوَضِ أَوْ غَيْرِ
عِوَضٍ حَرَامٌ ؟ وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ
عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا كَالنَّرْدِ . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ
فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } وَقَالَ : { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَثَبَتَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَلَبَ الرُّقْعَةَ عَلَيْهِمْ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : الشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ وَهُوَ كَمَا قَالُوا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْسِرَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ إذَا كَانَ بِعِوَضِ وَهُوَ مِنْ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ . وَالنَّرْدُ حَرَامٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضِ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ جَوَّزَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ الْمَيْسِرِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَأَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ فَيُحَرِّمُونِ ذَلِكَ بِعِوَضِ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ ؛ وَكَذَلِكَ الشِّطْرَنْجُ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ بِتَحْرِيمِهَا : مَالِكٌ ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ . وَتَنَازَعُوا أَيُّهُمَا أَشَدُّ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : الشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ . وَقَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : الشِّطْرَنْجُ أَخَفُّ مِنْ النَّرْدِ ؛ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي النَّرْدِ إذَا خَلَا عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ إذْ سَبَبُ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَلْعَبُ فِيهَا بِعِوَضِ بِخِلَافِ الشِّطْرَنْجِ فَإِنَّهَا تُلْعَبُ بِغَيْرِ عِوَضٍ غَالِبًا . وَأَيْضًا فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ صَفِّ الطَّائِفَتَيْنِ . و " التَّحْقِيقُ " أَنَّ النَّرْدَ وَالشِّطْرَنْجَ إذَا لَعِبَ بِهِمَا بِعِوَضِ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الشِّطْرَنْجَ حِينَئِذٍ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ
بِالْإِجْمَاعِ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ : مِنْ كَذِبٍ وَيَمِينٍ فَاجِرَةٍ أَوْ ظُلْمٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ غَيْرِ وَاجِبٍ وَنَحْوِهَا وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنْ خَلَتْ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ فَإِنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ أَعْظَمَ مِنْ النَّرْدِ إذَا كَانَ بِعِوَضِ . وَإِذَا كَانَا بِعِوَضِ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ فِي الْحَالَيْنِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْعِوَضُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَفِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَرَنَ الْمَيْسِرَ بِالْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ . وَفِيهَا إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ؛ فَإِنَّ الشِّطْرَنْجَ إذَا اُسْتُكْثِرَ مِنْهَا تَسْتُرُ الْقَلْبَ وَتَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ تَسَتُّرِ الْخَمْرِ . وَقَدْ شَبَّهَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَاعِبِيهَا بِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ حَيْثُ قَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟ كَمَا شَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارِبَ الْخَمْرِ بِعَابِدِ الْوَثَنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ } . وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ اللَّعِبِ بِهَا : فَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ : أَنَّ الْحَجَّاجَ طَلَبَهُ لِلْقَضَاءِ فَلَعِبَ بِهَا ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ قَادِحًا فِيهِ فَلَا يُوَلَّى الْقَضَاءَ . وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى وِلَايَةَ الْحَجَّاجِ أَشَدَّ ضَرَرًا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَقَدْ يُبَاحُ مَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا : إنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَى لَاعِبِ الشِّطْرَنْجِ ؛ لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَقَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ : يُسَلَّمُ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَعِبَ
بِالنَّرْدَشِيرِ فَهُوَ كَمَنْ غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرِ وَدَمِهِ } ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا قَوْلُهُ : { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَهُوَ
كَمَنْ غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرِ وَدَمِهِ } فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ . وَاللَّعِبُ بِالنَّرْدِ حَرَامٌ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ بِعِوَضِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَبِالْعِوَضِ حَرَامٌ
بِالْإِجْمَاعِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ ؟
فَأَجَابَ :
اللَّعِبُ بِالْحَمَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَفِي السُّنَنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَتْبَعُ حَمَامَةً فَقَالَ :
شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً } . وَمَنْ لَعِبَ بِالْحَمَامِ فَأَشْرَفَ عَلَى
حَرِيمِ النَّاسِ أَوْ رَمَاهُمْ بِالْحِجَارَةِ فَوَقَعَتْ عَلَى الْجِيرَانِ
فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَيُمْنَعُ
مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ عَلَى الْجِيرَانِ ؛ مَعَ مَا
فِيهِ مِنْ اللَّعِبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْعِشْرَةِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَقْوَامٍ يُعَاشِرُونَ " المردان " وَقَدْ يَقَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ
قُبْلَةٌ وَمُضَاجَعَةٌ لِلصَّبِيِّ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَصْحَبُونَ لِلَّهِ ؛
وَلَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ ذَنْبًا وَلَا عَارًا ؛ وَيَقُولُونَ : نَحْنُ
نَصْحَبُهُمْ بِغَيْرِ خَنَا ؛ وَيَعْلَمُ أَبُو الصَّبِيِّ بِذَلِكَ وَعَمُّهُ
وَأَخُوهُ فَلَا يُنْكِرُونَ : فَمَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ ؟
وَمَاذَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنَّ يُعَامِلَهُمْ بِهِ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الصَّبِيُّ الْأَمْرَدُ الْمَلِيحُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ
الْأَجْنَبِيَّةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَلَا يَجُوزُ تَقْبِيلُهُ عَلَى
وَجْهِ اللَّذَّةِ ؛ بَلْ لَا يُقَبِّلُهُ إلَّا مَنْ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ :
كَالْأَبِ ؛ وَالْإِخْوَةِ . وَلَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ ؛ بَلْ يَحْرُمُ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ النَّظَرُ
إلَيْهِ عِنْدَ خَوْفِ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَيْهِ لِحَاجَةِ بِلَا
رِيبَةٍ مِثْلَ مُعَامَلَتِهِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا
يُنْظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ لِلْحَاجَةِ . وَأَمَّا " مُضَاجَعَتُهُ " :
فَهَذَا أَفْحَشُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ ؛ وَاضْرِبُوهُمْ
عَلَيْهَا لِعَشْرٍ ؛ وَفَرِّقُوا
بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } إذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ وَلَمْ يَحْتَلِمُوا بَعْدُ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { لَا يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } وَقَالَ : { إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْت الْحَمْوَ ؟ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ } فَإِذَا كَانَتْ الْخَلْوَةُ مُحَرَّمَةً لِمَا يُخَافُ مِنْهَا فَكَيْفَ بِالْمُضَاجَعَةِ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِلَّهِ . فَهَذَا أَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَقَدْ يَكُونُ لِلَّهِ مَعَ هَوَى النَّفْسِ كَمَا يَدَّعِي مَنْ يَدَّعِي مِثْلَ ذَلِكَ فِي صُحْبَةِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ ؛ فَيَبْقَى كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِيهِمْ غُلَامٌ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ أَجْلَسَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ ؛ وَقَالَ : إنَّمَا كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّظَرَ } . هَذَا وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُزَوَّجٌ بِتِسْعِ نِسْوَةٍ ؛ وَالْوَفْدُ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَلَمْ تَكُنْ الْفَاحِشَةُ مَعْرُوفَةً فِي الْعَرَبِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْمَشَايِخِ مِنْ التَّحْذِيرِ عَنْ صُحْبَةِ " الْأَحْدَاثِ " مَا يَطُولُ وَصْفُهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُفْضِي إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْمُحَرَّمَةِ وَإِنْ ضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً مِنْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَأْدِيبٍ ؛ فَإِنَّ " المردان " يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُمْ وَتَأْدِيبُهُمْ بِدُونِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِيهَا مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ يَصْحَبُهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ : بِسُوءِ الظَّنِّ تَارَةً وَبِالشُّبْهَةِ أُخْرَى ؛ بَلْ رُوِيَ : أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَجْلِسُ
إلَيْهِ
المردان فَنَهَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مُجَالَسَتِهِ . وَلَقِيَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ شَابًّا فَقَطَعَ شَعْرَهُ ؛ لِمَيْلِ بَعْضِ النِّسَاءِ
إلَيْهِ ؛ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إخْرَاجِهِ مِنْ وَطَنِهِ ؛ وَالتَّفْرِيقِ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ . وَمَنْ أَقَرَّ صَبِيًّا يَتَوَلَّاهُ : مِثْلَ
ابْنِهِ وَأَخِيهِ أَوْ مَمْلُوكِهِ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَ مَنْ يُعَاشِرُهُ عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ : فَهُوَ دَيُّوثٌ مَلْعُونٌ { وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
دَيُّوثٌ } فَإِنَّ الْفَاحِشَةَ الْبَاطِنَةَ مَا يَقُومُ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ
فِي الْعَادَةِ ؛ وَإِنَّمَا تَقُومُ عَلَى الظَّاهِرَةِ وَهَذِهِ الْعِشْرَةُ
الْقَبِيحَةُ مِنْ الظَّاهِرَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا
تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَقَالَ تَعَالَى : {
قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } .
فَلَوْ ذَكَرْنَا مَا حَصَلَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَفَاسِدِ وَمَا
ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ : لَطَالَ . سَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ تَقِيًّا أَوْ
فَاجِرًا ؛ فَإِنَّ التَّقِيَّ يُعَالِجُ مَرَارَةً فِي مُجَاهَدَةِ هَوَاهُ
وَخِلَافِ نَفْسِهِ ؛ وَكَثِيرًا مَا يَغْلِبُهُ شَيْطَانُهُ وَنَفْسُهُ ؛
بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَحْمِلُ حِمْلًا لَا يُطِيقُهُ فَيُعَذِّبُهُ أَوْ يَقْتُلُهُ
؛ وَالْفَاجِرُ يَكْمُلُ فُجُورُهُ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَرَاهَنَا فِي عَمَلِ زَجِلَيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ
عَصَبِيَّةٌ ؟ وَعَلَى مَنْ تَعَصَّبَ لَهُمَا ؟ وَفِي ذِكْرِهِمَا التَّغَزُّلُ
فِي المردان وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَؤُلَاءِ الْمُتَغَالِبُونَ بِهَذِهِ الْأَزْجَالِ ؛ وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِهَا هُمْ والمتعصبون مِنْ الطَّرَفَيْنِ ؛ وَالْمُرَاهِنَةُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرُ الْمُرَاهِنَةِ ظَالِمُونَ مُعْتَدُونَ آثِمُونَ مُسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَرْدَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ سُفَهَاءِ الْغُوَاةِ الْعُصَاةِ الْفَاسِقِينَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا ؛ بَلْ تَضُرُّ أَصْحَابَهَا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . وَعَلَى " وُلَاةِ الْأُمُورِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ " الْإِنْكَارُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَأَعْوَانِهِمْ ؛ حَتَّى يَنْتَهُوا عَنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ وَيُرَاجِعُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُلَازَمَةَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُلَازَمَتُهُ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُغَالِبَاتِ مُشْتَمِلَاتٍ عَلَى مُنْكَرَاتٍ مُحَرَّمَاتٍ ؛ وَغَيْرِ مُحَرَّمَاتٍ بَلْ مَكْرُوهَاتٌ . وَمِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي فِيهَا [ مَا ] (1) تَحْرِيمُهُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . " أَحَدُهَا " الْمُرَاهَنَةُ عَلَى ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ مَبْذُولًا مِنْ أَحَدِهِمَا ؛ أَوْ مَنْ غَيْرِهَا : لَمْ يَجُزْ ؛ لَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ ؛ أَوْ نَصْلٍ . وَلَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : السَّبْقُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ . أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ } . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَعْمَالِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِخْرَاجُ السَّبْقِ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ إنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ : كَالْمُصَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ بِالْإِقْدَامِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْجِهَادِ ؛ فَلِهَذَا رُخِّصَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ سَبْقٍ ؛ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَارَعَ ابْنَ عَبْدِ يَزِيدَ ؛ وَسَابَقَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا } وَأَذِنَ فِي السِّبَاقِ لسلمة بْنِ الْأَكْوَعِ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمُغَالَبَةُ فِي عَمَلٍ مُبَاحٍ ؛ وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ . وَذَلِكَ يَظْهَرُ " بِالْوَجْهِ الثَّانِي " : وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِيهَا مِنْ وَصْفِ المردان وَعِشْقِهِمْ ؛ وَمُقَدَّمَاتِ الْفُجُورِ بِهِمْ مَا يَقْتَضِي تَرْغِيبَ النُّفُوسِ فِي ذَلِكَ ؛ وَتَهْيِيجَ ذَلِكَ فِي الْقُلُوبِ . وَكُلُّ مَا فِيهِ إعَانَةٌ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا : فَهُوَ حَرَامٌ ؛ وَتَحْرِيمُ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ تَحْرِيم النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَذَلِكَ يُثِيرُ الْحُزْنَ ؛ وَهَذَا يُثِيرُ الْفِسْقَ . وَالْحُزْنُ قَدْ يُرَخَّصُ فِيهِ ؛ وَأَمَّا الْفِسْقُ فَلَا يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ . وَهَذَا مِنْ جِنْسِ " الْقِيَادَةِ " . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَنْعَتُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا } فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَصْفِ الْمَرْأَةِ ؛ لِئَلَّا تَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِهِ صُورَتُهَا فَكَيْفَ بِمَنْ يَصِفُ المردان بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَيَرْغَبُ فِي الْفَوَاحِشِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُنْكَرَاتِ : الَّتِي تُخْرِجُ الْقَلْبَ السَّلِيمَ ؛ وَتُعْمِي الْقَلْبَ السَّقِيمَ ؛ وَتَسُوقُ الْإِنْسَانَ إلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِضَرْبِ نَائِحَةٍ : فَضُرِبَتْ حَتَّى بَدَا شَعْرُهَا ؛ فَقِيلَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّهُ قَدْ بَدَا شَعْرُهَا ؟ فَقَالَ : لَا حُرْمَةَ لَهَا ؛ إنَّمَا تَأْمُرُ بِالْجَزَعِ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَتَنْهَى عَنْ الصَّبْرِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ؛ وَتَفْتِنُ الْحَيَّ وَتُؤْذِي الْمَيِّتَ ؛ وَتَبِيعُ عَبْرَتَهَا وَتَبْكِي شَجْوَ غَيْرِهَا : إنَّهَا لَا تَبْكِي عَلَى مَيِّتِكُمْ وَإِنَّمَا تَبْكِي عَلَى أَخْذِ دَرَاهِمِكُمْ . وَبَلَغَ عُمَرَ أَنَّ شَابًّا يُقَالُ لَهُ : " نَصْرُ
ابْنُ حَجَّاجٍ " تَغَنَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ فَأَخَذَ شَعْرَهُ ثُمَّ رَآهُ جَمِيلًا فَنَفَاهُ إلَى الْبَصْرَةِ وَقَالَ : لَا يَكُونُ عِنْدِي مَنْ تَغَنَّى بِهِ النِّسَاءُ . فَكَيْفَ لَوْ رَأَى عُمَرُ مِنْ يُغَنِّي بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمَوْزُونَةِ فِي المردان مَعَ كَثْرَةِ الْفُجُورِ وَظُهُورِ الْفَوَاحِشِ وَقِلَّةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُضَادِّينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِدِينِهِ . وَيَدْعُونَ إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَيَصُدُّونَ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ؛ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا . " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْمَوْزُونَ كَلَامٌ فَاسِدٌ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا لِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا فِيهِ كَلَامَ الْعَرَبِ وَبَدَّلُوهُ ؛ بِقَوْلِهِمْ : مَاعُوا وَبَدَوْا وَعَدَوْا . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا تَمُجُّهُ الْقُلُوبُ وَالْأَسْمَاعُ وَتَنْفِرُ عَنْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ . وَأَمَّا " مُرَكَّبَاتُهُ " فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَوْزَانِ الْعَرَبِ ؛ وَلَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الشِّعْرِ وَلَا مِنْ أَبْحُرِهِ السِّتَّةَ عَشَرَ وَلَا مَنْ جِنْسِ الْأَسْجَاعِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ " تَعَلُّمَ الْعَرَبِيَّةِ ؛ وَتَعْلِيمَ الْعَرَبِيَّةِ " فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ وَكَانَ السَّلَفُ يُؤَدِّبُونَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى اللَّحْنِ . فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ أَنْ نَحْفَظَ الْقَانُونَ الْعَرَبِيَّ ؛ وَنُصْلِحَ الْأَلْسُنَ الْمَائِلَةَ عَنْهُ ؛ فَيَحْفَظُ لَنَا طَرِيقَةَ فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَالِاقْتِدَاءِ بِالْعَرَبِ فِي خِطَابِهَا . فَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى لَحْنِهِمْ كَانَ نَقْصًا وَعَيْبًا ؛ فَكَيْفَ إذَا جَاءَ قَوْمٌ إلَى الْأَلْسِنَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَالْأَوْزَانِ الْقَوِيمَةِ : فَأَفْسَدُوهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ وَالْأَوْزَانِ الْمُفْسِدَةِ لِلِّسَانِ النَّاقِلَةِ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ الْعَرْبَاءِ إلَى أَنْوَاعِ الْهَذَيَانِ ؛ الَّذِي لَا يَهْذِي بِهِ إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْأَعَاجِمِ الطَّمَاطِمِ الصميان "
الْوَجْهُ الرَّابِعُ " أَنَّ الْمُغَالَبَةَ بِمِثْلِ هَذَا تُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَتَصُدَّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ النِّقَارِ بَيْنَ الدُّيُوكِ وَالنِّطَاحِ بَيْنَ الْكِبَاشِ ؛ وَمِنْ جِنْسِ مُغَالَبَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ . وَالْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ ؛ لِأَنَّهُ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . و " الْمَيْسِرُ الْمُحَرَّمُ " لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِوَضٌ بَلْ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِوَضٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } لِأَنَّ النَّرْدَ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ؛ وَهَذِهِ الْمُغَالِبَاتُ تَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ؛ وَتُوقِعُ بَيْنِهِمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ : أَعْظَمَ مِنْ النَّرْدِ فَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ قَدْ حَرَّمَ الشِّطْرَنْجَ وَجَعَلَهُ مَالِكٌ أَعْظَمَ مِنْ النَّرْدِ مَعَ أَنَّ اللَّاعِبِينَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَإِنْ كَانُوا فُسَّاقًا : فَهُمْ أَمْثَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَهَذَا بَيِّنٌ . " الْوَجْهُ الْخَامِسُ " وَهُوَ أَنَّ غَالِبَ هَؤُلَاءِ : إمَّا زِنْدِيقٌ مُنَافِقٌ ؛ وَإِمَّا فَاجِرٌ فَاسِقٌ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ بَرٌّ ؛ بَلْ وُجِدَ حَاذِقُهُمْ مُنْسَلِخًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ مُضَيِّعًا لِلصَّلَوَاتِ مُتْبِعًا لِلشَّهَوَاتِ ؛ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ وَلَا يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا كَانَ فَاسِقًا مُرْتَكِبًا لِلْمُحَرَّمَاتِ ؛ تَارِكًا لِلْوَاجِبَاتِ . وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ إمَّا النِّفَاقُ وَإِمَّا الْفِسْقُ : كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي الزِّنْدِيقِ قَتْلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ وَحُكْمُهُ فِي الْفَاسِقِ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ : إمَّا بِالْقَتْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالْمُخَالِطُ
لَهُمْ وَالْمُعَاشِرُ إذَا ادَّعَى سَلَامَتَهُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُمْ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتْرُكَ الْوَاجِبَاتِ وَإِمَّا أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ فَلَا يَأْمُرُهُمْ بِمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَاهُمْ عَنْ مُنْكَرٍ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ وَقَدْ رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَقْوَامٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ الْحَدَّ فَقِيلَ : إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا ؟ فَقَالَ : أَبَدَءُوا بِالصَّائِمِ فَاجْلِدُوهُ : أَلَمْ يَسْمَعْ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } ؟ . قَوْله تَعَالَى { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ الْقُعُودِ مَعَ الظَّالِمِينَ ؛ فَكَيْفَ بِمُعَاشَرَتِهِمْ ؟ أَمْ كَيْفَ بِمُخَادَنَتِهِمْ وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ تَرَكُوا الْمُقَامَرَةَ بِالْأَيْدِي وَعَجَزُوا عَنْهَا : فَفَتَحُوا الْقِمَارَ بِالْأَلْسِنَةِ وَالْقِمَارُ بِالْأَلْسِنَةِ أَفْسَدُ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ مِنْ الْقِمَارِ بِالْأَيْدِي . وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُبَالَغَةُ فِي عُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ وَهَجْرُهُمْ وَاسْتِتَابَتُهُمْ ؛ بَلْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الرَّجُلَ نَظَمَ هَذِهِ الْأَزْجَالَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ لَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ لَوْ نَظَمَهَا فِي غَيْرِ الْغَزَلِ . فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَنْظِمُونَهَا بِالْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ كَمَا نَظَمَهَا أَبُو الْحَسَنِ التستري " فِي " وَحْدَةِ الْوُجُودِ " وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ . وَتَارَةً يَنْظِمُونَهَا فِي الْفِسْقِ : كَنَظْمِ هَؤُلَاءِ الْغُوَاةِ وَالسُّفَهَاءِ الْفُسَّاقِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ نَاظِمًا نَظَمَ هَذِهِ الْأَزْجَالَ فِي مَكَانِ حَانُوتٍ : نُهِيَ ؛ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ وَتَنْقُلُهُ إلَى الْعُجْمَةِ الْمُنْكَرَةِ .
وَمَا
زَالَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ تَغْيِيرَ شَعَائِرِ الْعَرَبِ حَتَّى فِي
الْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ " التَّكَلُّم بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ " إلَّا
لِحَاجَةِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِك وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بَلْ قَالَ
مَالِك : مَنْ تَكَلَّمَ فِي مَسْجِدِنَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ أُخْرِجَ مِنْهُ
. مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَلْسُنِ يَجُوزُ النُّطْقُ بِهَا لِأَصْحَابِهَا ؛ وَلَكِنْ
سَوَّغُوهَا لِلْحَاجَةِ وَكَرِهُوهَا لِغَيْرِ الْحَاجَةِ وَلِحِفْظِ شَعَائِرِ
الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ
وَبَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ الْعَرَبِيَّ وَجَعَلَ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ خَيْرَ
الْأُمَمِ فَصَارَ حِفْظُ شِعَارِهِمْ مِنْ تَمَامِ حِفْظِ الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ
بِمَنْ تَقَدَّمَ عَلَى الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ - مُفْرَدِهِ وَمَنْظُومِهِ -
فَيُغَيِّرُهُ وَيُبَدِّلُهُ وَيُخْرِجُهُ عَنْ قَانُونِهِ وَيُكَلِّفُ
الِانْتِقَالَ عَنْهُ إنَّمَا هَذَا نَظِيرُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ
الضَّلَالِ مِنْ الشُّيُوخِ الْجُهَّالِ حَيْثُ يَصْمُدُونَ إلَى الرَّجُلِ
الْعَاقِلِ فَيُؤَلِّهُونَهُ ويخنثونه ؛ فَإِنَّهُمْ ضَادُّوا الرَّسُولَ إذْ
بُعِثَ بِإِصْلَاحِ الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ وَتَكْمِيلِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ
وَحَرَّمَ مَا يُغَيِّرُ الْعَقْلَ مِنْ جَمِيعِ الْأَلْوَانِ . فَإِذَا جَاءَ
هَؤُلَاءِ إلَى صَحِيحِ الْعَقْلِ فَأَفْسَدُوا عَقْلَهُ وَفَهْمَهُ وَقَدْ
ضَادُّوا اللَّهَ وراغموا حُكْمَهُ . وَاَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَ اللِّسَانَ
الْعَرَبِيَّ وَيُفْسِدُونَهُ لَهُمْ مِنْ هَذَا الذَّمِّ وَالْعِقَابِ بِقَدْرِ
مَا يَفْتَحُونَهُ ؛ فَإِنَّ صَلَاحَ الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ
الْإِنْسَانُ . وَيُعِينُ ذَلِكَ عَلَى تَمَامِ الْإِيمَانِ وَضِدُّ ذَلِكَ
يُوجِبُ الشِّقَاقَ وَالضَّلَالَ وَالْخُسْرَانَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَتَحَدَّثُ بَيْنَ النَّاسِ بِكَلَامِ وَحِكَايَاتٍ مُفْتَعَلَةٍ
كُلُّهَا كَذِبٌ : هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا الْمُتَحَدِّثُ بِأَحَادِيثَ مُفْتَعَلَةٍ لِيُضْحِكَ النَّاسَ أَوْ
لِغَرَضِ آخَرَ : فَإِنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ رَوَى بَهْزُ بْنُ
حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ :
وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ } وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ
الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ فِي جَدٍّ وَلَا هَزْلٍ وَلَا يَعِدُ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ
شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ . وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ
عُدْوَانٌ عَلَى مُسْلِمٍ وَضَرَرٌ فِي الدِّينِ : فَهُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ
ذَلِكَ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَفَاعِلُ ذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ
الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
" التَّشَبُّهُ بِالْبَهَائِمِ " فِي الْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ فِي
الشَّرْعِ مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ : فِي أَصْوَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا ؛
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِثْلُ : أَنْ يَنْبَحَ نَبِيحَ الْكِلَابِ ؛ أَوْ يَنْهَقَ
نَهِيقَ الْحَمِيرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَذَلِكَ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا
" أَنَّا قَرَّرْنَا فِي " اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ "
نَهْيَ الشَّارِعِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْآدَمِيِّينَ الَّذِينَ جِنْسُهُمْ
نَاقِصٌ كَالتَّشَبُّهِ ؛ بِالْأَعْرَابِ وَبِالْأَعَاجِمِ وَبِأَهْلِ الْكِتَابِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ : فِي أُمُورٍ مِنْ خَصَائِصِهِمْ وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ
أَسْبَابِ ذَلِكَ
أَنَّ الْمُشَابِهَةَ تُورِثُ مُشَابَهَةَ الْأَخْلَاقِ ؛ وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ أَكْثَرَ عِشْرَةَ بَعْضِ الدَّوَابِّ اكْتَسَبَ مِنْ أَخْلَاقِهَا : كَالْكَلَّابِينَ وَالْجَمَّالِينَ . وَذَكَرْنَا مَا فِي النُّصُوصِ مِنْ ذَمِّ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ : أَهْلَ الْإِبِلِ وَمِنْ مَدْحِ أَهْلِ الْغَنَمِ ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ التَّشَبُّهُ بِنَفْسِ الْبَهَائِمِ فِيمَا هِيَ مَذْمُومَةٌ بَلْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ النَّهْيَ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْبَهَائِمِ مُطْلَقًا فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إلَى فِعْلِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ بِعَيْنِهِ ؛ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَوْنَ الشَّخْصِ أَعْرَابِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا خَيْرٌ مِنْ كَوْنِهِ كَلْبًا أَوْ حِمَارًا أَوْ خِنْزِيرًا فَإِذَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهَذَا الصِّنْفِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فِي خَصَائِصِهِ ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ تَشَبُّهًا فِيمَا يَسْتَلْزِمُ النَّقْصَ وَيَدْعُو إلَيْهِ : فَالتَّشَبُّهُ بِالْبَهَائِمِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا وَمَنْهِيًّا عَنْهُ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ مِثْلَ الْبَهَائِمِ مَذْمُومٌ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } . " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا شَبَّهَ الْإِنْسَانَ بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ وَنَحْوِهِمَا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ كَقَوْلِهِ : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
{ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } الْآيَةَ . وَإِذَا كَانَ التَّشَبُّهُ بِهَا إنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ الْمَذْمُومُ التَّشَبُّهَ بِهَا : فَالْقَاصِدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ تَشَبَّهَ بِهَا فِي عَيْنِ مَا ذَمَّهُ الشَّارِعُ : صَارَ مَذْمُومًا مِنْ وَجْهَيْنِ . وَإِنْ كَانَ فِيمَا لَمْ يَذُمُّهُ بِعَيْنِهِ : صَارَ مَذْمُومًا مِنْ جِهَةِ التَّشَبُّهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْوُقُوعِ فِي الْمَذْمُومِ بِعَيْنِهِ . يُؤَيِّدُ هَذَا : " الْوَجْهُ الرَّابِعُ " وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ ؛ لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ } . وَلِهَذَا يُذْكَرُ : أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد تَنَاظَرَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : الْكَلْبُ لَيْسَ بِمُكَلَّفِ . فَقَالَ لَهُ أَحْمَد : لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْمَثَلَ إلَّا لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا شَابَهَ الْكَلْبَ كَانَ مَذْمُومًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْكَلْبُ مَذْمُومًا فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ التَّكْلِيفِ ؛ وَلِهَذَا لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ : { سَاءَ مَثَلًا } أَنَّ التَّمْثِيلَ بِالْكَلْبِ مَثَلُ سَوْءٍ وَالْمُؤْمِنُ مُنَزَّهٌ عَنْ مَثَلِ السَّوْءِ . فَإِذَا كَانَ لَهُ مَثَلُ سَوْءٍ مِنْ الْكَلْبِ كَانَ مَذْمُومًا بِقَدْرِ ذَلِكَ الْمَثَلِ السَّوْءِ . " الْوَجْهُ الْخَامِسُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ } وَقَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مَنْ فَضْلِهِ وَإِذَا
سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَصْوَاتَهَا مُقَارِنَةٌ لِلشَّيَاطِينِ وَأَنَّهَا مُنَفِّرَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَابِهَ لِلشَّيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ مِنْ أَحْكَامِهِ بِقَدْرِ الْمُشَابَهَةِ فَإِذَا نَبَحَ نِبَاحَهَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ مُقَارَنَةِ الشَّيَاطِينِ وَتَنْفِيرُ الْمَلَائِكَةِ بِحَسَبِهِ . وَمَا يَسْتَدْعِي الشَّيَاطِينَ وَيُنَفِّرُ الْمَلَائِكَةَ : لَا يُبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ إلَّا لِضَرُورَةِ ؛ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ : كَالصَّيْدِ . أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنْ الْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ } . " وَبِالْجُمْلَةِ " فَالتَّشَبُّهُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي مِنْ الْحَمْدِ وَالذَّمِّ بِحَسَبِ الشَّبَهِ ؛ لَكِنَّ كَوْنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ لَا يَنْفِي التَّكْلِيفَ عَنْ الْمُتَشَبِّهِ كَمَا لَوْ تَشَبَّهَ بِالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِين . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . " الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ والمتشبهات مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ } وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَجَعَلَ صَلَاحَهُ وَكَمَالَهُ فِي أَمْرٍ مُشْتَرِكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَبَيْنَ أَمْرٍ مُخْتَصٍّ بِهِ . فَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُشْتَرِكَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَوَاقِعِ النَّهْيِ ؛ وَإِنَّمَا مَوَاقِعُ النَّهْيِ الْأُمُورُ الْمُخْتَصَّةُ . فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ النِّسَاءِ لَيْسَ لِلرِّجَالِ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِيهَا وَالْأُمُورُ الَّتِي مِنْ خَصَائِصِ الرِّجَالِ لَيْسَ
لِلنِّسَاءِ
التَّشَبُّهُ بِهِمْ فِيهَا : فَالْأُمُورُ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ
الْبَهَائِم لَا يَجُوزُ لِلْآدَمِيِّ التَّشَبُّهُ بِالْبَهَائِمِ فِيهَا
بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ قَدْرٌ جَامِعٌ مُشْتَرِكٌ وَقَدْرٌ فَارِقٌ مُخْتَصٌّ
ثُمَّ الْأَمْرُ الْمُشْتَرِكُ : كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ
وَالْأَصْوَاتِ وَالْحَرَكَاتِ ؛ لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِالْوَصْفِ الْمُخْتَصِّ
كَانَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهُ ؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَشَبَّهَ
بِمَا يَفْعَلُهُ الْحَيَوَانُ فِيهَا . فَالْأُمُورُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ أَوْلَى
؛ مَعَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا مُشْتَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ؛ وَلَكِنْ
فِيهِ أَوْصَافٌ تُشْبِهُ أَوْصَافَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَالْقَدْرُ
الْمُشْتَرِكُ إنَّمَا وُجُودُهُ فِي الذِّهْنِ ؛ لَا فِي الْخَارِجِ . وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ الْإِنْسَانَ مُخَالِفًا
بِالْحَقِيقَةِ لِلْحَيَوَانِ وَجَعَلَ كَمَالِهِ وَصَلَاحَهُ فِي الْأُمُورِ
الَّتِي تُنَاسِبُهُ وَهِيَ جَمِيعُهَا لَا يُمَاثِلُ فَهَا الْحَيَوَانَ ؛
فَإِذَا تَعَمَّدَ مُمَاثَلَةَ الْحَيَوَانِ وَتَغْيِيرَ خَلْقِ اللَّهِ : فَقَدْ
دَخَلَ فِي فَسَادِ الْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ قَوْلُهُ : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا
حَفِظَ اللَّهُ } يَقْتَضِي وُجُوبَ طَاعَتِهَا لِزَوْجِهَا مُطْلَقًا : مِنْ
خِدْمَةٍ وَسَفَرٍ مَعَهُ وَتَمْكِينٍ لَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا
دَلَّتْ
عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ
" الْجَبَلِ الْأَحْمَرِ " وَفِي " السُّجُودِ " وَغَيْرِ
ذَلِكَ ؛ كَمَا تَجِبُ طَاعَةُ الْأَبَوَيْنِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ طَاعَةٍ كَانَتْ
لِلْوَالِدَيْنِ انْتَقَلَتْ إلَى الزَّوْجِ ؛ وَلَمْ يَبْقَ لِلْأَبَوَيْنِ
عَلَيْهَا طَاعَةٌ : تِلْكَ وَجَبَتْ بِالْأَرْحَامِ وَهَذِهِ وَجَبَتْ
بِالْعُهُودِ كَمَا سَنُقَرِّرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ
الْعَظِيمَيْنِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ وَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ وَالِدَيْهَا . فَأَيُّهُمَا
أَفْضَلُ : بِرُّهَا لِوَالِدَيْهَا أَوْ مُطَاوَعَةُ زَوْجِهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ
زَوْجُهَا أَمْلَكَ بِهَا مِنْ أَبَوَيْهَا وَطَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا
أَوْجَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ
لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ
مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ؛ إذَا نَظَرْت إلَيْهَا سَرَّتْك وَإِذَا
أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك وَإِذَا غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي نَفْسِهَا وَمَالِك }
. وَفِي صَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا
وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا دَخَلَتْ مِنْ
أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا
امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا رَاضٍ عَنْهَا دَخَلَتْ
الْجَنَّةَ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ كُنْت آمِرًا لِأَحَدِ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا } أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ : { لَأَمَرْت النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْحُقُوقِ } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَصْلُحُ لِبَشَرِ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرِ وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرِ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ؛ مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةٌ تَجْرِي بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحِسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ } وَفِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَه عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ : لَكَانَ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ } أَيْ لَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تَفْعَلَ . وَكَذَلِكَ فِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَه وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : { لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُعَاذُ ؟ قَالَ : أَتَيْت الشَّامَ فَوَجَدْتهمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ فَوَدِدْت فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِك يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنِّي لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْت
الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا ؛ وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ } وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا رَجُلٍ دَعَا زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ وَلَوْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ فَبَاتَ غضبانا عَلَيْهَا : لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ } . وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ } فَالْمَرْأَةُ عِنْدَ زَوْجِهَا تُشْبِهُ الرَّقِيقَ وَالْأَسِيرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ سَوَاءٌ أَمَرَهَا أَبُوهَا أَوْ أُمُّهَا أَوْ غَيْرُ أَبَوَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَكَانٍ آخَرَ مَعَ قِيَامِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ فِيهَا وَنَهَاهَا أَبُوهَا عَنْ طَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ : فَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا دُونَ أَبَوَيْهَا ؛ فَإِنَّ الْأَبَوَيْنِ هُمَا ظَالِمَانِ ؛ لَيْسَ لَهَا أَنْ يَنْهَيَاهَا عَنْ طَاعَةِ مِثْلِ هَذَا الزَّوْجِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطِيعَ أُمَّهَا فِيمَا تَأْمُرُهَا بِهِ مِنْ الِاخْتِلَاعِ مِنْهُ أَوْ مضاجرته حَتَّى يُطَلِّقَهَا : مِثْلَ أَنْ تُطَالِبَهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالصَّدَاقِ بِمَا
تَطْلُبُهُ
لِيُطَلِّقَهَا فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ وَاحِدًا مِنْ أَبَوَيْهَا فِي
طَلَاقِهِ إذَا كَانَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ فِيهَا . فَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ
وَصَحِيحِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ثوبان قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ
مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ } وَفِي حَدِيثٍ
آخَرَ { الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ } وَأَمَّا
إذَا أَمَرَهَا أَبَوَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِمَا فِيهِ طَاعَةُ اللَّهِ : مِثْلَ
الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ
وَنَهْيِهَا عَنْ تَبْذِيرِ مَالِهَا وَإِضَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ نَهَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ : فَعَلَيْهَا أَنْ
تُطِيعَهُمَا فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْهَا .
فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِنْ أَبَوَيْهَا وَإِذَا نَهَاهَا الزَّوْجُ عَمَّا أَمَرَ
اللَّهُ أَوْ أَمَرَهَا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ : لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ
تُطِيعَهُ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { إنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } بَلْ
الْمَالِكُ لَوْ أَمَرَ مَمْلُوكَهُ بِمَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ لَمْ يَجُزْ
لَهُ أَنْ يُطِيعَهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُطِيعَ الْمَرْأَةُ
زَوْجَهَا أَوْ أَحَدَ أَبَوَيْهَا فِي مَعْصِيَةٍ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي
طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ أَسْكَنَهَا بَيْن نَاسٍ مناجيس وَهُوَ يَخْرُجُ بِهَا
إلَى الْفُرُجِ وَإِلَى أَمَاكِنِ الْفَسَادِ وَيُعَاشِرُ مُفْسِدِينَ . فَإِذَا
قِيلَ لَهُ : انْتَقِلْ مِنْ هَذَا الْمَسْكَنِ السُّوءِ . فَيَقُولُ : أَنَا
زَوْجُهَا وَلِي الْحُكْمُ فِي امْرَأَتِي وَلِي السُّكْنَى . فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ
؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا حَيْثُ
شَاءَ وَلَا يُخْرِجَهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ ؛ بَلْ يَسْكُنُ بِهَا فِي مَسْكَنٍ
يَصْلُحُ لِمِثْلِهَا وَلَا يَخْرُجُ بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْفُجُورِ ؛ بَلْ
لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَاشِرَ الْفُجَّارَ عَلَى فُجُورِهِمْ وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ
وَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَتَيْنِ : عُقُوبَةٌ عَلَى فُجُورِهِ بِحَسَبِ مَا
فَعَلَ وَعُقُوبَةٌ عَلَى تَرْكِ صِيَانَةِ زَوْجَتِهِ وَإِخْرَاجِهَا إلَى
أَمَاكِنِ الْفُجُورِ . فَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ
وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " إتْيَانُ النِّسَاءُ فِي أَدْبَارِهِنَّ " فَهَذَا مُحَرَّمٌ
عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَأَمَّا الْقَوْلُ
الْآخَرُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ : فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْكِيهِ رِوَايَةً عَنْ
مَالِكٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَنَافِعٌ نَقَلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } قَالَ لَهُ ابْنُ
عُمَرَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي إتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ . فَمِنْ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ غَلَّطَ نَافِعٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ
مُرَادَهُ ؛ وَكَانَ مُرَادُهُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي إتْيَانِ النِّسَاءِ مِنْ
جِهَةِ الدُّبُرِ فِي الْقُبُلِ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَانَتْ
الْيَهُودُ
تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَتَقُولُ : إذَا أَتَى الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فِي قُبُلِهَا
مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ .
" وَالْحَرْثُ " مَوْضِعُ الْوَلَدِ ؛ وَهُوَ الْقُبُلُ . فَرَخَّصَ
اللَّهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ الْمَرْأَةَ فِي قُبُلِهَا مِنْ أَيِّ الْجِهَاتِ
شَاءَ . وَكَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ : كَذَبَ
الْعَبْدُ عَلَى أَبِي . وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي غَلَطَ نَافِعٍ عَلَى ابْنِ
عُمَرَ ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ كَانُوا يُطْلِقُونَهُ بِإِزَاءِ الْخَطَأِ ؛ كَقَوْلِ
عبادة : كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ . لَمَّا قَالَ : الْوِتْرُ وَاجِبٌ . وَكَقَوْلِ
ابْنِ عَبَّاسٍ : كَذَبَ نَوْفٌ : لَمَّا قَالَ لِمَا صَاحَبَ الْخَضِرَ لَيْسَ
مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : ابْنُ عُمَرَ هُوَ
الَّذِي غَلِطَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ ؛
لَكِنْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ . أَوَيَفْعَلُ هَذَا مُسْلِمٌ
لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا فَسَّرَهَا بِهِ الصَّحَابَةُ
وَالتَّابِعُونَ وَسَبَبُ النُّزُولِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَنْكِحُ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا . أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ ؟
فَأَجَابَ :
" وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا " حَرَامٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ بَلْ هُوَ
اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ لَا
تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي
أَدْبَارِهِنَّ
} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ } " وَالْحَرْثُ " هُوَ مَوْضِعُ الْوَلَدِ ؛ فَإِنَّ
الْحَرْثَ هُوَ مَحَلُّ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ . وَكَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ :
إذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ؛ وَأَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتِيَ
امْرَأَتَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا ؛ لَكِنْ فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً . وَمَتَى
وَطِئَهَا فِي الدُّبُرِ وَطَاوَعَتْهُ عُزِّرَا جَمْعِيًّا ؛ فَإِنْ لَمْ
يَنْتَهِيَا وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ؛ كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ
الْفَاجِرِ وَمَنْ يَفْجُرُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّا يَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا ؟ وَهَلْ أَبَاحَهُ
أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، " الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ "
حَرَامٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ : {
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } وَقَدْ ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ إذَا أَتَى الرَّجُلُ
امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَسَأَلَ
الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } و " الْحَرْثُ " مَوْضِعُ الزَّرْعِ .
وَالْوَلَدُ إنَّمَا يُزْرَعُ فِي الْفَرْجِ لَا فِي الدُّبُرِ { فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ } وَهُوَ مَوْضِعُ الْوَلَدِ . { أَنَّى شِئْتُمْ } أَيْ مِنْ أَيْنَ شِئْتُمْ
: مِنْ قُبُلِهَا وَمِنْ دُبُرِهَا وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا .
فَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى النِّسَاءَ حَرْثًا ؛ وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي إتْيَانِ
الحروث وَالْحَرْثُ إنَّمَا يَكُونُ
فِي الْفَرْجِ . وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ أَثَرٍ : أَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ هُوَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي حُشُوشِهِنَّ } " و " الْحُشُّ " هُوَ الدُّبُرُ وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَذَرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ إتْيَانُ الْحَائِضِ مَعَ أَنَّ النَّجَاسَةَ عَارِضَةٌ فِي فَرْجِهَا فَكَيْفَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ : و " أَيْضًا " فَهَذَا مِنْ جِنْسِ اللِّوَاطِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ؛ لَكِنْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُمْ رِوَايَةً أُخْرَى بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَطَعَنَ فِيهَا . وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ كَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُكَذِّبُ نَافِعًا فِي ذَلِكَ . فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَافِعٌ غَلِطَ أَوْ غَلِطَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ . فَإِذَا غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ غَلْطَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُسَوِّغُ خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا أَنَّ طَائِفَةً غَلِطُوا فِي إبَاحَةِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ غَلِطُوا فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ . وَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ؛ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَنْبِذَةِ فَقَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَجَبَ اتِّبَاعُ هَذِهِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ . وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا وَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَا عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُمَا فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمَا لَا يَنْزَجِرَانِ فَإِنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَتَيْنِ وَإِحْدَاهُمَا يُحِبُّهَا وَيَكْسُوهَا
وَيُعْطِيهَا وَيَجْتَمِعُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبَتِهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ
امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ } . فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ فِي
الْقَسْمِ . فَإِذَا بَاتَ عِنْدَهَا لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا
بَاتَ عِنْدَ الْأُخْرَى بِقَدْرِ ذَلِكَ وَلَا يُفَضِّلُ إحْدَاهُمَا فِي
الْقَسْمِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ يُحِبُّهَا أَكْثَرَ وَيَطَؤُهَا أَكْثَرَ : فَهَذَا
لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ ؛ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أَيْ : فِي
الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : {
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ وَيَعْدِلُ فَيَقُولُ
: هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ
} يَعْنِي : الْقَلْبَ .
وَأَمَّا
الْعَدْلُ فِي " النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ " فَهُوَ السُّنَّةُ أَيْضًا
اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ
يَعْدِلُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي النَّفَقَةِ ؛ كَمَا كَانَ يَعْدِلُ فِي
الْقِسْمَةِ ؛ مَعَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي الْقَسْمِ : هَلْ كَانَ وَاجِبًا
عَلَيْهِ ؟ أَوْ مُسْتَحَبًّا لَهُ ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الْعَدْلِ فِي النَّفَقَةِ
: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ ؟ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَوُجُوبُهُ أَقْوَى وَأَشْبَهُ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَهَذَا الْعَدْلُ مَأْمُورٌ لَهُ مَا دَامَتْ
زَوْجَةً ؛ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا فَلَهُ ذَلِكَ فَإِنْ
اصْطَلَحَ هُوَ وَاَلَّتِي يُرِيدُ طَلَاقَهَا عَلَى أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهُ بِلَا
قَسْمٍ وَهِيَ رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ جَازَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنِ
امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وَفِي
الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَرْأَةِ
تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتَطُولُ صُحْبَتُهَا فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا ؛ فَتَقُولُ
: لَا تُطَلِّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ يَوْمِي : فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ . وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ سَوْدَةَ فَوَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَأَمْسَكَهَا
بِلَا قِسْمَةٍ } وَكَذَلِكَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ جَرَى لَهُ نَحْوُ ذَلِكَ
وَيُقَالُ إنَّ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِيهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ ؛ وَيُفَضِّلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي
النَّفَقَةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ حَتَّى إنَّهُ هَجَرَهَا : فَمَا يَجِبُ
عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ
: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ
إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا
أَكْثَرَ مِنْ الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ } . وَإِنْ
لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا : فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ ؛ وَإِمَّا أَنْ
يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا صَبَرَ عَلَى زَوْجَتِهِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ لَا
يَطَؤُهَا : فَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُطَالَبُ الزَّوْجُ
بِذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَهُوَ مِنْ
أَوْكَدِ حَقِّهَا عَلَيْهِ : أَعْظَمُ مِنْ إطْعَامِهَا . " وَالْوَطْءُ
الْوَاجِبُ " قِيلَ : إنَّهُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُرَّةً
. وَقِيلَ : بِقَدَرِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ ؛ كَمَا يُطْعِمُهَا بِقَدَرِ
حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : (*)
عَنْ امْرَأَةٍ تَضَعُ مَعَهَا دَوَاءً عِنْدَ الْمُجَامَعَةِ ؛ تَمْنَعُ بِذَلِكَ
نُفُوذَ الْمَنِيِّ فِي مَجَارِي الْحَبَلِ : فَهَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ حَلَالٌ أَمْ
لَا ؟ وَهَلْ إذَا بَقِيَ ذَلِكَ الدَّوَاءُ مَعَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ وَلَمْ
يَخْرُجْ . يَجُوزُ لَهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بَعْدَ الْغُسْلِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا صَوْمُهَا وَصَلَاتُهَا فَصَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الدَّوَاءُ فِي
جَوْفِهَا . وَأَمَّا جَوَازُ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
وَالْأَحْوَطُ : أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا إذَا نَظَرَ الرَّجُلُ إلَى جَمِيعِ بَدَنِ امْرَأَتِهِ وَلَمَسَهُ حَتَّى
الْفَرْجَ : عَلَيْهِ شَيْءٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ امْرَأَتِهِ
وَلَا لَمْسُهُ لَكِنْ يُكْرَهُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ . وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ
. وَقِيلَ : لَا يُكْرَهُ إلَّا عِنْدَ الْوَطْءِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُطَلَّقَةٍ وَهِيَ تُرْضِعُ ، وَقَدْ آجَرَتْ لَبَنَهَا ثُمَّ
انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ : فَهَلْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَهَا
أَنْ تَدْخُلَ عَلَى زَوْجِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ فَيَقِلَّ اللَّبَنُ
عَلَى الْوَلَدِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا مُجَرَّدُ الشَّكِّ فَلَا يُمْنَعُ الزَّوْجُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ
الْوَطْءِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَنْهَى عَنْ
ذَلِكَ
ثُمَّ ذَكَرْت أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ
أَوْلَادَهُمْ } فَقَدْ أُخْبِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ الْأَوْلَادَ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ . وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مَنْعُ الزَّوْجِ حَقَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ
مَنْعُ الْحَقِّ السَّابِقِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْأَبِ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ أُجْرَةِ الرَّضَاعِ : فَهَلْ لَهُ إذَا
امْتَنَعَتْ الْأُمُّ عَنْ الْإِرْضَاعِ إلَّا بِأُجْرَةِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ
غَيْرَهَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ شَيْخ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ : الزَّوْجَةُ وَالْقِطُّ وَالنَّمْلُ :
الزَّوْجَةُ تُرْضِعُ مَنْ لَيْسَ وَلَدَهَا وَتُنَكِّدُ عَلَيْهِ حَالَهُ
وَفِرَاشَهُ بِذَلِكَ وَالْقِطُّ يَأْكُلُ الْفَرَارِيجَ وَالنَّمْلُ يَدِبُّ فِي
الطَّعَامِ : فَهَلْ لَهُمْ حَرْقُ بُيُوتِهِمْ بِالنَّارِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
يَجُوزُ لَهُمْ قَتْلُ الْقِطِّ ؟ وَهَلْ لَهُ مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ
إرْضَاعِهَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُرْضِعَ غَيْرَ وَلَدِهَا إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ .
وَالْقِطُّ إذَا صَالَ عَلَى مَالِهِ : فَلَهُ دَفْعُهُ عَنْ الصَّوْلِ وَلَوْ
بِالْقَتْلِ وَلَهُ أَنْ يَرْمِيَهُ بِمَكَانِ بَعِيدٍ ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
دَفْعُ ضَرَرِهِ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ . وَأَمَّا النَّمْلُ : فَيُدْفَعُ
ضَرَرُهُ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
النُّشُوزِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَكُلَّمَا
دَعَاهَا الرَّجُلُ إلَى فِرَاشِهِ تَأْبَى عَلَيْهِ وَتُقَدِّمُ صَلَاةَ
اللَّيْلِ وَصِيَامَ النَّهَارِ عَلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ
؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
تُطِيعَهُ إذَا طَلَبَهَا إلَى الْفِرَاشِ وَذَلِكَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا قِيَامُ اللَّيْلِ وَصِيَامُ النَّهَارِ فَتَطَوُّعٌ : فَكَيْفَ
تُقَدِّمُ مُؤْمِنَةٌ النَّافِلَةَ عَلَى الْفَرِيضَةِ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا
بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمَا وَلَفْظُهُمْ : { لَا تَصُومُ امْرَأَةٌ
وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَإِذَا
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى
الْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إذَا كَانَ زَوْجُهَا شَاهِدًا إلَّا
بِإِذْنِهِ فَتَمْنَعُ بِالصَّوْمِ بَعْضَ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا :
فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهَا إذَا طَلَبَهَا فَامْتَنَعَتْ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا دَعَا الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ } وَفِي لَفْظٍ : { إلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } فَالْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ " قَانِتَةً " أَيْ مُدَاوِمَةً عَلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا . فَمَتَى امْتَنَعَتْ عَنْ إجَابَتِهِ إلَى الْفِرَاشِ كَانَتْ عَاصِيَةً نَاشِزَةً وَكَانَ ذَلِكَ يُبِيحُ لَهُ ضَرْبَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ حَقِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْجَبَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ ؛ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ كُنْت آمِرًا لِأَحَدِ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ؛ لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا } وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لَهُ : إنَّ الرِّجَالَ يُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَفْعَلُونَ وَنَحْنُ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ . فَقَالَ . حُسْنُ فِعْلِ إحْدَاكُنَّ يَعْدِلُ ذَلِكَ } أَيْ : أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَحْسَنَتْ مُعَاشَرَةَ بَعْلِهَا كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِرِضَا اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ لَهَا ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْمَلَ مَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَقَالَ : لَأَهْجُرَنك إنْ كُنْت مَا
تُصَلِّينَ فَامْتَنَعَتْ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَمْ تُصَلِّ وَهَجَرَ الرَّجُلُ
فِرَاشَهَا . فَهَلْ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةٌ أَمْ لَا ؟ وَمَاذَا يَجِبُ
عَلَيْهَا إذَا تَرَكَتْ الصَّلَاةَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تُسْتَتَابُ
فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ . وَهَجْرُ الرَّجُلِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ
مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا نَفَقَةَ
لَهَا إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ تَمْكِينِهِ إلَّا مَعَ تَرْكِ الصَّلَاةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ لَهُ زَوْجَةٌ لَا تُصَلِّي : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهَا
بِالصَّلَاةِ ؟ وَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَهَا
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهَا بِالصَّلَاةِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ . بَلْ
يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ بِهِ
إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِذَلِكَ وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى
: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } الْآيَةَ . وَقَالَ
تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } الْآيَةَ . وَقَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ } . وَيَنْبَغِي مَعَ
ذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ يَحُضَّهَا عَلَى ذَلِكَ بِالرَّغْبَةِ كَمَا يَحُضُّهَا
عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فَإِنْ أَصَرَّتْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ
فَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الصَّحِيحِ . وَتَارِكُ
الصَّلَاةِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ إذَا لَمْ يُصَلِّ قُتِلَ . وَهُوَ يُقْتَلُ كَافِرًا
مُرْتَدًّا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } وَفِي قَوْله تَعَالَى {
وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } . يُبَيِّنُ لَنَا شَيْخُنَا هَذَا النُّشُوزَ مِنْ ذَاكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، " النُّشُوزُ " فِي قَوْله
تَعَالَى { تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ } هُوَ أَنْ تَنْشُزَ عَنْ زَوْجِهَا فَتَنْفِرُ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا
تُطِيعُهُ إذَا دَعَاهَا لِلْفِرَاشِ أَوْ تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ
إذْنِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ امْتِنَاعٌ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ
طَاعَتِهِ .
وَأَمَّا
" النُّشُوزُ " فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا
فَانْشُزُوا } فَهُوَ النُّهُوضُ وَالْقِيَامُ وَالِارْتِفَاعُ . وَأَصْلُ هَذِهِ
الْمَادَّةِ هُوَ الِارْتِفَاعُ وَالْغِلَظُ وَمِنْهُ النَّشْرُ مِنْ الْأَرْضِ
وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْغَلِيظُ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {
وَانْظُرْ إلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا } أَيْ نَرْفَعُ بَعْضَهَا إلَى
بَعْضٍ . وَمَنْ قَرَأَ ننشزها أَرَادَ نُحْيِيهَا . فَسَمَّى الْمَرْأَةَ
الْعَاصِيَةَ نَاشِزًا لِمَا فِيهَا مِنْ الْغِلَظِ وَالِارْتِفَاعِ عَنْ طَاعَةِ
زَوْجِهَا وَسُمِّيَ النُّهُوضُ نُشُوزًا لِأَنَّ الْقَاعِدَ يَرْتَفِعُ مِنْ
الْأَرْضِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَهِيَ نَاشِزٌ تَمْنَعُهُ نَفْسَهَا : فَهَلْ تَسْقُطُ
نَفَقَتُهَا وَكُسْوَتُهَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَكُسْوَتُهَا إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ
مِنْ نَفْسِهَا وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا إذَا أَصَرَّتْ عَلَى النُّشُوزِ . وَلَا
يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ إذَا طَالَبَهَا بِهِ ؛ بَلْ هِيَ
عَاصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِي الصَّحِيحِ : { إذَا طَلَبَ الرَّجُلُ
الْمَرْأَةَ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ عَلَيْهِ كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ
سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ } .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ وَقَدْ نَشَزَتْ عَنْهُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا مِنْ
مُدَّةِ ثَمَانِيَةِ شُهُورٍ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا نَشَزَتْ عَنْهُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا إذَا نَشَزَتْ
؛ أَوْ آذَتْهُ أَوْ اعْتَدَتْ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إذَا مَنَعَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا إذَا طَلَبَهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ لَهَا النُّشُوزُ عَنْهُ وَلَا تَمْنَعُ
نَفْسَهَا مِنْهُ ؛ بَلْ إذَا امْتَنَعَتْ مِنْهُ وَأَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ
أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةً وَلَا
قَسْمًا .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي النَّفَقَةِ
وَهِيَ نَاشِزٌ . ثُمَّ إنَّ وَالِدَهَا أَخَذَهَا وَسَافَرَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ
الزَّوْجِ . فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ
يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ . وَتُعَزَّرُ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ
يُمْكِنُهَا ؛ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينِ سَافَرَتْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : (*)
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ مُدَّةِ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً
وَأَحْسَنَتْ الْعِشْرَةَ مَعَهُ وَفِي هَذَا الزَّمَانِ تَأْبَى الْعِشْرَةَ
مَعَهُ وتناشزه : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْشُزَ عَلَيْهِ وَلَا تَمْنَعَ نَفْسَهَا فَقَدْ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو
امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا كَانَ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ } فَإِذَا أَصَرَّتْ عَلَى
النُّشُوزِ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَقُومُ
بِمَا يَجِبُ لِلرَّجُلِ عَلَيْهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا
وَيُعْطِيَهَا الصَّدَاقَ ؛ بَلْ هِيَ الَّتِي تَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ
فَتَبْذُلُ صَدَاقَهَا لِيُفَارِقَهَا كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَنْ يُعْطِيَ
صَدَاقَهَا فَيُفَارِقَهَا } . وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا بِالصَّدَاقِ لَمْ تَجُزْ
مُطَالَبَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا تُطَاوِعُهُ فِي
أَمْرٍ وَتَطْلُبُ مِنْهُ نَفَقَةً وَكُسْوَةً وَقَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْهِ
أُمُورَهُ : فَهَلْ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَكُسْوَةً ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ خَرَجَتْ مِنْ دَارِهِ بِغَيْرِ
إذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كُسْوَةَ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَبَ مِنْهَا أَنْ
تُسَافِرَ مَعَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كُسْوَةَ فَحَيْثُ
كَانَتْ نَاشِزًا عَاصِيَةً لَهُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ :
لَمْ يَجِبْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا كُسْوَةٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ بِرَجُلِ وَلَهَا أَقَارِبُ كُلَّمَا أَرَادَتْ أَنْ
تَزُورَهُمْ أَخَذَتْ الْفِرَاشَ وَتَقْعُدُ عِنْدَهُمْ عَشَرَة أَيَّامٍ
وَأَكْثَرَ وَقَدْ قَرُبَتْ وِلَادَتُهَا وَمَتَى وَلَدَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ
يُمْكِنْ أَنْ تَجِيءَ إلَى بَيْتِهَا إلَّا بَعْدَ أَيَّامٍ وَيَبْقَى الزَّوْجُ
بَرْدَانَ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُخَلُّوهَا تَلِدُ عِنْدَهُمْ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا
يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَأْخُذَهَا إلَيْهِ وَيَحْبِسَهَا عَنْ زَوْجِهَا سَوَاءٌ
كَانَ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا مُرْضِعًا أَوْ لِكَوْنِهَا قَابِلَةً أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الصِّنَاعَاتِ وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ
إذْنِهِ كَانَتْ نَاشِزَةً عَاصِيَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَمُسْتَحِقَّةً
لِلْعُقُوبَةِ .
بَابُ
الْخُلْعِ
وَسُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
مَا هُوَ الْخُلْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؟
فَأَجَابَ :
الْخُلْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ
كَارِهَةً لِلزَّوْجِ تُرِيدُ فِرَاقَهُ فَتُعْطِيهِ الصَّدَاقَ أَوْ بَعْضَهُ
فِدَاءَ نَفْسِهَا كَمَا يُفْتَدَى الْأَسِيرُ وَأَمَّا إذَا كَانَ كُلٌّ
مِنْهُمَا مُرِيدًا لِصَاحِبِهِ فَهَذَا الْخُلْعُ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَانَتْ مُبْغِضَةً لَهُ مُخْتَارَةً لِفِرَاقِهِ
فَإِنَّهَا تَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ فَتَرُدُّ إلَيْهِ مَا أَخَذَتْهُ مِنْ
الصَّدَاقِ وَتُبْرِيهِ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ وَيَخْلَعُهَا كَمَا فِي الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُبْغِضَةٍ لِزَوْجِهَا طَلَبَتْ الِانْخِلَاعَ مِنْهُ وَقَالَتْ
لَهُ : إنْ لَمْ تُفَارِقْنِي وَإِلَّا قَتَلْت نَفْسِي فَأَكْرَهَهُ الْوَلِيُّ
عَلَى الْفُرْقَةِ وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَقَدْ طَلَبَهَا الْأَوَّلُ وَقَالَ :
إنَّهُ فَارَقَهَا مُكْرَهًا وَهِيَ لَا تُرِيدُ إلَّا الثَّانِيَ ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أُكْرِهَ عَلَى الْفُرْقَةِ بِحَقِّ : مِثْلَ أَنْ
يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي وَاجِبَاتِهَا أَوْ مُضِرًّا لَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ
قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَانَتْ الْفُرْقَةُ صَحِيحَةً وَالنِّكَاحُ الثَّانِي
صَحِيحًا وَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي . وَإِنْ كَانَ أُكْرِهَ بِالضَّرْبِ أَوْ
الْحَبْسِ وَهُوَ مُحْسِنٌ لِعِشْرَتِهَا حَتَّى فَارَقَهَا لَمْ تَقَعْ
الْفُرْقَةُ بَلْ إذَا أَبْغَضَتْهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يُطْلَبُ
مِنْهُ الْفُرْقَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزَمَ بِذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا
أُمِرَتْ الْمَرْأَةُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا يُبِيحُ
الْفَسْخَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اتَّهَمَ زَوْجَتَهُ بِفَاحِشَةٍ ؛ بِحَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَرَ
عِنْدَهَا مَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ إلَّا [ أَنَّهُ ] (1) ادَّعَى أَنَّهُ أَرْسَلَهَا
إلَى عُرْسٍ ثُمَّ تَجَسَّسَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْهَا فِي الْعُرْسِ
فَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ ثُمَّ إنَّهُ أَتَى إلَى أَوْلِيَائِهَا وَذَكَرَ لَهُمْ
الْوَاقِعَةَ فَاسْتَدْعَوْا بِهَا لِتُقَابِلَ زَوْجَهَا عَلَى مَا ذُكِرَ
فَامْتَنَعَتْ خَوْفًا مِنْ الضَّرْبِ ؛ فَخَرَجَتْ إلَى بَيْتِ خَالِهَا ثُمَّ
إنَّ الزَّوْجَ بَعْدَ ذَلِكَ جَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَنَدًا فِي إبْطَالِ حَقِّهَا ؛
وَادَّعَى أَنَّهَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ : فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مُبْطِلًا
لِحَقِّهَا ؟ وَالْإِنْكَارُ الَّذِي أَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ يَسْتَوْجِبُ
إنْكَارًا فِي الشَّرْعِ ؟
فَأَجَابَ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } فَلَا يَحِلُّ
لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْضُلَ الْمَرْأَةَ : بِأَنْ يَمْنَعَهَا وَيُضَيِّقَ عَلَيْهَا
حَتَّى تُعْطِيَهُ بَعْضَ الصَّدَاقِ وَلَا أَنْ يَضْرِبَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ إذَا أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا لِتَفْتَدِي مِنْهُ ؛ وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا . هَذَا فِيمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ اللَّهِ . وَأَمَّا " أَهْلُ الْمَرْأَةِ " فَيَكْشِفُونَ الْحَقَّ مَعَ مَنْ هُوَ فَيُعِينُونَهُ عَلَيْهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَعَدَّتْ حُدُودَ اللَّهِ وَآذَتْ الزَّوْجَ فِي فِرَاشِهِ : فَهِيَ ظَالِمَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ فَلْتَفْتَدِ مِنْهُ . وَإِذَا قَالَ : إنَّهُ أَرْسَلَهَا إلَى عُرْسٍ وَلَمْ تَذْهَبْ إلَى الْعُرْسِ فَلْيَسْأَلْ إلَى أَيْنَ ذَهَبَتْ ؟ فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إلَى قَوْمٍ لَا رِيبَةَ عِنْدَهُمْ وَصَدَّقَهَا أُولَئِكَ الْقَوْمُ أَوْ قَالُوا لَمْ تَأْتِ إلَيْنَا ؛ وَإِلَى الْعُرْسِ لَمْ تَذْهَبْ : كَانَ هَذَا رِيبَةً وَبِهَذَا يَقْوَى قَوْلُ الزَّوْجِ . وَأَمَّا " الْجِهَازُ " الَّذِي جَاءَتْ بِهِ مِنْ بَيْتِ أَبِيهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهَا بِكُلِّ حَالٍ وَإِنْ اصْطَلَحُوا فَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَمَتَى تَابَتْ الْمَرْأَةُ جَازَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُمْسِكَهَا وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى رُجُوعِهَا إلَيْهِ فَلْتُبْرِئْهُ مِنْ الصَّدَاقِ وَلْيَخْلَعْهَا الزَّوْجُ ؛ فَإِنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ ثَيِّبٍ بَالِغٍ لَمْ يَكُنْ وَلَيُّهَا إلَّا الْحَاكِمُ فَزَوَّجَهَا
الْحَاكِمُ لِعَدَمِ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ خَالَعَهَا الزَّوْجُ وَبَرَّأَتْهُ
مِنْ الصَّدَاقِ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ : فَهَلْ تَصِحُّ الْمُخَالَعَةُ
وَالْإِبْرَاءُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ جَازَ خُلْعُهَا وَإِبْرَاؤُهَا بِدُونِ إذْنِ
الْحَاكِمِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا : إنْ أَبْرَأْتِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ .
فَأَبْرَأَتْهُ وَلَمْ تَكُنْ تَحْتَ الْحَجْرِ وَلَا لَهَا أَبٌ وَلَا أَخٌ .
ثُمَّ إنَّهَا ادَّعَتْ أَنَّهَا سَفِيهَةٌ لِتُسْقِطَ بِذَلِكَ الْإِبْرَاءَ .
فَأَجَابَ :
لَا يَبْطُلُ الْإِبْرَاءُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ
بِأَنَّهَا سَفِيهَةٌ وَلَمْ تَكُنْ تَحْتَ الْحَجْرِ لَمْ يَبْطُلْ الْإِبْرَاءُ
بِذَلِكَ ؛ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُتَصَرِّفَةَ لِنَفْسِهَا . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ جَمِيعِ صَدَاقِهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
أَشْهَدَ الزَّوْجُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَذْكُورَةَ
عَلَى الْبَرَاءَةِ وَكَانَتْ الْبَرَاءَةُ تَقَدَّمَتْ عَلَى ذَلِكَ : فَهَلْ
يَصِحُّ الطَّلَاقُ ؟ وَإِذَا وَقَعَ يَقَعُ رَجْعِيًّا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَا قَدْ تَوَاطَآ عَلَى أَنْ تَهَبَهُ الصَّدَاقَ وَتُبْرِيهِ عَلَى أَنْ
يُطَلِّقَهَا فَأَبْرَأَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا : كَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا بَائِنًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا : أَبْرِئِينِي وَأَنَا أُطَلِّقُك . أَوْ : إنْ
أبرأتيني طَلَّقْتُك . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ
الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّهُ سَأَلَ الْإِبْرَاءَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْهُ بَرَاءَةً لَا تَتَعَلَّقُ بِالطَّلَاقِ ؛
ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ : فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ وَلَكِنْ هَلْ لَهَا
أَنْ تَرْجِعَ فِي الْإِبْرَاءِ إذَا كَانَ يُمْكِنُ لِكَوْنِ مِثْلِ هَذَا
الْإِبْرَاءِ لَا يَصْدُرُ فِي الْعَادَةِ إلَّا لِأَنْ يُمْسِكَهَا أَوْ خَوْفًا
مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ؟ فِيهِ
قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَدْ طَابَتْ
نَفْسُهَا بِالْإِبْرَاءِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً مِنْهَا لَا
بِسَبَبِ مِنْهُ وَلَا عِوَضٍ : فَهُنَا لَا تَرْجِعُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : هَذَا ابْنُ زَوْجِك لَا يَدْخُلُ لِي بَيْتًا
؛ فَإِنَّهُ ابْنِي رَبَّيْته ؛ فَلَمَّا اشْتَكَاهُ لِأَبِيهِ قَالَ لِلزَّوْجِ :
إنْ أَبْرَأَتْك امْرَأَتُك تُطَلِّقُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَأَتَى بِهَا
فَقَالَ لَهَا الزَّوْجُ : إنْ أبرأتيني مِنْ كِتَابِك وَمِنْ الْحُجَّةِ الَّتِي
لَك عَلَيَّ : فَأَنْتِ طَالِقٌ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . وَانْفَصَلَا وَطَلَعَ
الزَّوْجُ إلَى بَيْتِ جِيرَانِهِ فَقَالَ : هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَنَزَلَ إلَى
الشُّهُودِ فَسَأَلُوهُ كَمْ طَلَقَتْ ؟ قَالَ : ثَلَاثًا عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ
: فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ إبْرَاؤُهَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ
الْكَلَامِ لَيْسَ مُطْلَقًا بَلْ بِشَرْطِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَانَتْ مِنْهُ
وَلَمْ يَقَعْ بِهَا بَعْدَ هَذَا طَلَاقٌ وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى
الْعَقْدِ كَالشَّرْطِ الْمُقَارَنِ وَالشَّرْطُ الْعُرْفِيُّ كَاللَّفْظِيِّ .
وَقَوْلُ هَذَا الَّذِي مِنْ جِهَتِهَا لَهُ : إنْ جَاءَتْ زَوْجَتُك
وَأَبْرَأَتْك تُطَلِّقُهَا ؟ وَقَوْلُهُ : اشْتِرَاطٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ
يُطَلِّقُهَا إذَا أَبْرَأَتْهُ وَمَجِيئُهُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ :
أَنْتِ إنْ أبرأتيني قَالَتْ : نَعَمْ . مُتَنَزِّلٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ
إذَا أَبْرَأَتْهُ يُطَلِّقُهَا : بِحَيْثُ لَوْ قَالَتْ : أَبْرَأْته وَامْتَنَعَ
لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ فَإِنَّ هَذَا إيجَابٌ وَقَبُولٌ فِي الْعُرْفِ لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ الشُّرُوطِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ ؛ وَالتَّقْدِيرُ : أَبْرَأْتُك
بِشَرْطِ أَنْ تُطَلِّقَنِي .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً ؛ فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ
الشُّهُودِ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ : قُلْ : طَلَّقْتهَا عَلَى دِرْهَمٍ . فَقَالَ
لَهُ ذَلِكَ ؛ فَلَمَّا فَعَلَ قَالُوا لَهُ : قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَلَا
تَرْجِعُ إلَيْك إلَّا بِرِضَاهَا . فَإِذَا وَقَعَ الْمَنْعُ : هَلْ يَسْقُطُ
حَقُّهُ مَعَ غَرَرِهِ بِذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً ثُمَّ إنَّ
الشَّاهِدَ قَدْ لَقَّنَهُ أَنْ يَقُولَ : طَلَّقَهَا عَلَى دِرْهَمٍ فَقَالَ
ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يُقِرُّ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ لَا يُنْشِئُ
طَلَاقًا آخَرَ : لَمْ يَقَعْ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ
رَجْعِيًّا لَا بَائِنًا وَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ
الثَّانِيَ إنْشَاءً لِطَلَاقِ آخَرَ ثَانٍ وَقَالَ : إنَّمَا قُلْته إقْرَارًا
بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْعِوَضِ
يُبَيِّنُهَا . فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَرِينَةُ
الْحَالِ تُصَدِّقُهُ ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا
ثُمَّ حَضَرَ عِنْدَ الشُّهُودِ فَإِنَّمَا حَضَرَ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِمَا
وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الْخُلْعِ " : هَلْ هُوَ طَلَاقٌ مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؟
وَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ
فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ
وَفَسْخٌ لِلنِّكَاحِ ؛ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ . فَلَوْ خَلَعَهَا
عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ قَبْلَ أَنْ
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَاخْتَارَهُ
طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَصَرُوهُ ؛ وَطَائِفَةٌ نَصَرُوهُ وَلَمْ
يَخْتَارُوهُ ؛ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَإِسْحَاقِ بْنِ
رَاهَوَيْه وَأَبِي ثَوْرٍ ودَاوُد وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة .
وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ : كطاوس وَعِكْرِمَةَ . و
" الْقَوْلُ الثَّانِي " : أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ مَحْسُوبٌ مِنْ
الثَّلَاثِ . وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ ؛ وَيُقَالُ : إنَّهُ
الْجَدِيدُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ . وَيُنْقَلُ ذَلِكَ
عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ لَكِنْ ضَعَّفَ أَحْمَدَ
وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ : كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ
خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرِهِمْ : النَّقْلَ عَنْ هَؤُلَاءِ ؛ وَلَمْ
يُصَحِّحُوا إلَّا قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ إنَّهُ فَسْخٌ : وَلَيْسَ بِطَلَاقِ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فَقَالَ لَا نَعْرِفُ حَالَ مَنْ رَوَى هَذَا
عَنْ عُثْمَانَ : هَلْ هُوَ ثِقَةٌ أَمْ لَيْسَ بِثِقَةِ ؟ فَمَا صَحَّحُوا مَا
نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ ؛ بَلْ اعْتَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ
.
وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ صَحَّحَ مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؛ بَلْ أَثْبَتُ مَا فِي هَذَا عِنْدَهُمْ مَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُخْتَلَعَةَ أَنْ تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةِ . وَقَالَ : لَا عَلَيْك عِدَّةٌ . وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ عِنْدَهُ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ ؛ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ ؛ إذْ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ يُوجِبُ الِاعْتِدَادَ بِثَلَاثِ قُرُوءٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْخُلْعِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ بِحَيْضَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ إسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَقَدْ رَدَّ ابْنُ عَبَّاسٍ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَخَلَعَ مَرَّةً قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَسَأَلَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا وَلَّاهُ ابْنُ الزُّبَيْرُ عَلَى الْيَمَنِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ لَهُ : إنَّ عَامَّةَ طَلَاقِ أَهْلِ الْيَمَنِ هُوَ الْفِدَاءُ ؟ فَأَجَابَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْفِدَاءَ لَيْسَ بِطَلَاقِ ؛ وَلَكِنَّ النَّاسَ غَلِطُوا فِي اسْمِهِ . وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ . فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِدْيَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَهَذَا يَدْخُلُ فِي الْفِدْيَةِ خُصُوصًا وَغَيْرِهَا عُمُومًا فَلَوْ كَانَتْ الْفِدْيَةُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا . وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ هُوَ وَمَنْ تَقَدَّمَ اتَّبَعُوا ابْنَ عَبَّاسٍ .
وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي " الْمُخْتَلَعَةِ " هَلْ عَلَيْهَا عِدَّةُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؟ أَوْ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ " إحْدَاهُمَا " تَسْتَبْرِئُ بِحَيْضَةِ وَهَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَابْنِ عُمَرَ فِي آخِرِ رِوَايَتَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ ؛ وَمَذْهَبُ إسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّنَنِ مِنْ وُجُوهٍ حَسَنَةٍ كَمَا قَدْ بُيِّنَتْ طُرُقُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَقَالُوا لَوْ كَانَ مِنْهُ لَوَجَبَ فِيهِ تَرَبُّصُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى ضَعْفِ مَنْ نَقَلَ عَنْ عُثْمَانَ ؛ أَنَّهُ جَعَلَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَرْضِيِّ أَنَّهُ جَعَلَهَا تَسْتَبْرِئُ بِحَيْضَةِ وَلَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً لَوَجَبَ عَلَيْهَا تَرَبُّصُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ . وَإِنْ قِيلَ : بَلْ عُثْمَانُ جَعَلَهَا مُطَلَّقَةً تَسْتَبْرِئُ بِحَيْضَةِ . فَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَاتِّبَاعُ عُثْمَانَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ الَّتِي يُوَافِقُهُ عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ : أَوْلَى مِنْ رِوَايَةٍ رَاوِيهَا مَجْهُولٌ وَهِيَ رِوَايَةُ جمهان الأسلمي عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً . وَأَجْوَدُ مَا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً مِنْ النَّقْلِ عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ هَذَا النَّقْلُ عَنْ عُثْمَانَ وَهُوَ مَعَ ضَعْفِهِ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ مَا يُنَاقِضُهُ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِلَافِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَضَعِيفٌ جِدًّا وَالنَّقْلُ عَنْ عُمَرَ مُجْمَلٌ لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فُرْقَةٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . فَمِنْ أَصَحِّ النَّقْلِ الثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ وَهَذَا مِمَّا اعْتَضَدَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فَسْخٌ : كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنَّهُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ظَنُّوا تِلْكَ نُقُولًا صَحِيحَةً ؛ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ نَقْدِ الْآثَارِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَضَعِيفِهَا مَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ فَصَارَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الَّذِينَ خَالَفُوا ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَكْثَرُ عَدَدًا وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ } وَكَانَ مَا اسْتَنْبَطَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ السُّنَّةِ عَنْ كَمَالِ فِقْهِهِ فِي الدِّينِ وَعِلْمِهِ بِالتَّأْوِيلِ وَهُوَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ فُتْيَا . قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ : أَيُّ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ فُتْيَا ؟ قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ . وَهُوَ أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ طَبَقَةً فِي الصَّحَابَةِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُدْخِلُهُ مَعَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ - كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ - فِي الشُّورَى وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ يَفْعَلُ هَذِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ طَبَقَتِهِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَوْ أَدْرَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ إسناننا لَمَا عَشَّرَهُ مِنَّا أَحَدٌ . أَيْ مَا بَلَغَ عُشْرَهُ . وَالنَّاقِلُونَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْهُ أَجَلُّ أَصْحَابِهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِأَقْوَالِهِ : مِثْلَ طَاوُوسٍ وَعِكْرِمَةَ ؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ كَانَا يَدْخُلَانِ عَلَيْهِ مَعَ الْخَاصَّةِ بِخِلَافِ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَنَحْوِهِمَا فَقَدْ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ مَعَ الْعَامَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَوَاصَّ الْعَالِمِ
عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ كَمَا عِنْدَ خَوَاصِّ الصَّحَابَةِ - مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةِ وَابْن مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِمْ - مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلُهُمْ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ خَالَفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ الصَّحَابَةِ إلَّا مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ ؛ لَا مَا يُنَاقِضُهُ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ خَالَفَهُ فَالْمَرْجِعُ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَالطَّلَاقُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ ثَلَاثًا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ وَكُلُّ طَلَاقٍ فِي الْقُرْآنِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ غَيْرَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ . وَلِذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَإِذَا كُلُّ طَلَاقٍ فِيهِ فَهُوَ الرَّجْعِيُّ . قَالَ هَؤُلَاءِ : فَمَنْ قَسَّمَ الطَّلَاقَ الْمَحْسُوبَ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى رَجْعِيٍّ وَبَائِنٍ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ؛ بَلْ كُلُّ مَا فِيهِ بَيْنُونَةٌ فَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ؛ فَإِذَا سُمِّيَ طَلَاقًا بَائِنًا وَلَمْ يُجْعَلْ مِنْ الثَّلَاثِ فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا تَنَازُعَ فِيهِ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَمَا جَازَ فِي الْحَيْضِ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ طَلَاقَ الْحَائِضِ وَقَدْ سَلَّمَ لَنَا الْمُنَازِعُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحَيْضِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ فِي الْحَيْضِ . قَالُوا : وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ عُقُوبَةً لِلرَّجُلِ لِئَلَّا يُطَلِّقَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ ؛ وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ ؛ وَلِهَذَا أُبِيحَتْ الْهِجْرَةُ ثَلَاثًا وَالْإِحْدَادُ لِغَيْرِ مَوْتِ الزَّوْجِ ثَلَاثًا وَمُقَامُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا . وَالْأَصْلُ فِي الْهِجْرَةِ وَمُقَامُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ التَّحْرِيمُ .
ثُمَّ
اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ . هَلْ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ فَسْخًا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ
لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
" أَحَدُهَا " : أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ لَفْظِ
الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ . فَمَنْ خَالَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ نَوَاهُ فَهُوَ
مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ثُمَّ قَدْ يَقُولُ هَؤُلَاءِ : إذَا عَرِيَ
عَنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ فَهُوَ فَسْخٌ . وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّهُ
لَا يَكُونُ فَسْخًا إلَّا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ . وَالْفَسْخِ
وَالْمُفَادَاةِ دُونَ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ : كَلَفْظِ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ
وَالْإِبَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يُفَارِقُ
الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَّا بِهَا مَعَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُسَمِّهِ
إلَّا فِدْيَةً وَفِرَاقًا وَخُلْعًا وَقَالَ : الْخُلْعُ فِرَاقٌ ؛ وَلَيْسَ
بِطَلَاقِ . وَلَمْ يُسَمِّهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَسْخًا وَلَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ تَسْمِيَتُهُ " فَسْخًا " فَكَيْفَ يَكُونُ لَفْظُ
الْفَسْخِ صَرِيحًا فِيهِ دُونَ لَفْظِ الْفِرَاقِ وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ أَكْثَرُ مَا يُسَمِّيهِ " فُرْقَةً " لَيْسَتْ بِطَلَاقِ .
وَقَدْ يُسَمِّيهِ " فَسْخًا " أَحْيَانًا ؛ لِظُهُورِ هَذَا الِاسْمِ
فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ . " وَالثَّانِي " أَنَّهُ إذَا كَانَ
بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ كَلَفْظِ " الْخُلْعِ " "
وَالْمُفَادَاةِ " " وَالْفَسْخِ " فَهُوَ فَسْخٌ سَوَاءٌ نَوَى
بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ . وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَهَلْ هُوَ
فَسْخٌ إذَا عَرِيَ عَنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ مِنْ
الْأَلْفَاظِ وَالْكِنَايَاتِ ؟ أَوْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِلَفْظِ الْخُلْعِ
وَالْفَسْخِ وَالْمُفَادَاةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْوَجْهَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِأُصُولِهِمَا مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ صَرِيحًا فِي بَابٍ وَوُجِدَ مُعَادًا فِيهِ لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ نَوَى بِلَفْظِ الظِّهَارِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَحْمَدَ : لَوْ نَوَى بِلَفْظِ الْحَرَامِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ ؛ لاسيما عَلَى أَصْلِ أَحْمَدَ . وَأَلْفَاظُ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْفِدْيَةِ مَعَ الْعِوَضِ صَرِيحَةٌ فِي الْخُلْعِ فَلَا تَكُونُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ بِحَالِ ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ وَالْفَسْخِ وَالْعِوَضِ إمَّا أَنْ تَكُونَ صَرِيحَةً فِي الْخُلْعِ ؛ وَصَرِيحَةً فِي الطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَةً فِيهِمَا فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ . وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي : لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْمُفَادَاةِ مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ كَمَا يَقَعُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ ؛ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَعُدَّهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّرَائِحِ . فَإِنْ قِيلَ : هِيَ مَعَ الْعِوَضِ صَرِيحَةٌ فِي الطَّلَاقِ . قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِصَرِيحِ عِنْدَهُ لَا يَصِيرُ صَرِيحًا بِدُخُولِ الْعِوَضِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ : إنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِأَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ كِنَايَةٌ وَالْكِنَايَةُ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِإِشْهَادِ عَلَيْهَا وَالنِّكَاحُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الشَّهَادَةِ ؛ فَإِذَا قَالَ : مَلَّكْتُكهَا بِأَلْفِ وَأَعْطَيْتُكهَا بِأَلْفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ وَهَبْتُكهَا لَمْ يُجْعَلْ دُخُولُ الْعِوَضِ قَرِينَةً فِي كَوْنِهِ نِكَاحًا : لِاحْتِمَالِ تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ . كَذَلِكَ لَفْظُ الْمُفَادَاةِ يَحْتَمِلُ الْمُفَادَاةَ مِنْ الْأَسْرِ . وَلَفْظُ الْفَسْخِ إنْ كَانَ طَلَاقًا مَعَ
الْعِوَضِ
فَهُوَ طَلَاقٌ بِدُونِ الْعِوَضِ ؛ وَلَمْ يُقَلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ بِدُونِ الْعِوَضِ بَلْ غَايَتُهُ
أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ كَوْنِهِ أَقْرَبَ مِنْ
الْأَوَّلِ : فَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ . " الْقَوْلُ الثَّالِثُ "
أَنَّهُ فَسْخٌ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ ؛ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ .
وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَفْظًا مُعَيَّنًا وَلَا عَدَمَ
نِيَّةِ الطَّلَاقِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَأَصْحَابِهِ ؛ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ
أَصْحَابِهِ فِي الخلوع بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ ؛ لَا لَفْظَ الطَّلَاقِ وَلَا
غَيْرِهِ ؛ بَلْ أَلْفَاظُهُمْ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ فُسِخَ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ
أَصْرَحَ مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ فِي مَعْنَاهُ الْخَالِصِ . وَأَمَّا
الشَّافِعِيُّ فَلَمْ يَقُلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ
لَفْظِ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ بَلْ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَغَيْرِهِ وَأَصْحَابِهِ ذَكَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ : كُلّ ما
أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقِ . قَالَ : وَأَحْسَبُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ
طَلَاقًا إنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ .
وَمِنْ هُنَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ والطَّحَاوِي وَنَحْوُهُمَا :
أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ نِزَاعًا فِي الْخُلْعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ لَا يُنْقَلُ بِهِ مَذَاهِبُ السَّلَفِ
وَيُعْدَلُ بِهِ عَنْ أَلْفَاظِهِمْ وَعِلْمِهِمْ ؛ وَأَدِلَّتِهِمْ الْبَيِّنَةِ
فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ ؛ وَأَمَّا أَحْمَد فَكَلَامُهُ
بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَفْظًا وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ لَفْظٍ
وَلَفْظٍ وَهُوَ مُتَّبِعٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا
الْقَوْلِ وَبِهِ اقْتَدَى . وَكَانَ أَحْمَد يَقُولُ : إيَّاكَ أَنْ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ . وَإِمَامُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَقَلَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ بِبَذْلِ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ وَطَلَبِهَا الْفُرْقَةَ . وَقَدْ كَتَبْت أَلْفَاظَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ فِي الْكَلَامِ الْمَبْسُوطِ . " وَأَيْضًا " فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْن شَمَّاسٍ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَالَعَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَتْ امْرَأَتُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ لَهُ : لَا أَنْقِمُ عَلَيْهِ خُلُقًا وَلَا دِينًا وَلَكِنْ أَكْرَهُ الْكُفْرَ بَعْدُ فِي الْإِسْلَامِ ؛ فَذَكَرَتْ أَنَّهَا تُبْغِضُهُ . فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ الْحَدِيقَةَ فَقَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } وَابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي يَرْوِي هَذَا اللَّفْظَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى أَيْضًا { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِحَيْضَةِ اسْتِبْرَاءٍ . وَقَالَ : لَا عِدَّةَ عَلَيْك } وَأَفْتَى بِأَنَّ طَلَاقَ أَهْلِ الْيَمَنِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ " الْفِدَاءَ " لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَعَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لَهُ : عَامَّةُ طَلَاقِ أَهْلِ الْيَمَنِ الْفِدَاءُ فَقَالَ لَهُ : لَيْسَ الْفِدَاءُ بِطَلَاقِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فِرَاقٌ وَلَكِنَّ النَّاسَ غَلِطُوا فِي اسْمِهِ . فَأَخْبَرَهُ السَّائِلُ أَنَّ طَلَاقَهُمْ هُوَ الْفِدَاءُ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَأَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَعُمَّ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَطْلَقَ الْجَوَابَ
وَعَمَّمَ
وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْفِدَاءَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَلَا عَيَّنَ لَهُ لَفْظًا
مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَكْثَرُ مِنْهُ
بِغَيْرِهِ ؛ بَلْ الْعَامَّةُ لَا تَعْرِفُ لَفْظَ الْفَسْخِ وَالْخُلْعِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ إنْ لَمْ يُعَلِّمْهَا ذَلِكَ مُعَلِّمٌ وَلَا يُفَرِّقُونَ
بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إذَا قِيلَ لَهُ : خَالِعْ
امْرَأَتَك . طَلَّقَهَا بِلَا عِوَضٍ وَقَالَ : قَدْ خَلَعْتهَا . فَلَا
يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ إنْ لَمْ يُذْكَرْ لَهُمْ الْغَرَضُ
فِي أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ .
وَأَهْلُ الْيَمَنِ إلَى الْيَوْمِ تَقُولُ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا : طَلِّقْنِي
. فَيَقُولُ لَهَا : اُبْذُلِي لِي فَتَبْذُلُ لَهُ الصَّدَاقَ أَوْ غَيْرَهُ
فَيُطَلِّقُهَا . فَهَذَا عَامَّةُ طَلَاقِهِمْ وَقَدّ أَفْتَاهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ
بِأَنَّ هَذَا فِدْيَةٌ وَفِرَاقٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . وَرَدَّ امْرَأَةً عَلَى
زَوْجِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَفِدَاءٍ مَرَّةً . فَهَذَا نَقْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَفُتْيَاهُ وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْقُرْآنِ بِمَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مُقْتَضَى نُصُوصِ أَحْمَد وَأُصُولُهُ فَهُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ
الشَّرْعِ وَنُصُوصِ الشَّارِعِ ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ
بِمَقَاصِدِهَا وَمَعَانِيهَا ؛ لَا بِأَلْفَاظِهَا . فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ
بِاللَّفْظَيْنِ وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ اخْتِلَافُ حُكْمِهِمَا . وَلَوْ كَانَ
الْمَعْنَى الْوَاحِدُ إنْ شَاءَ الْعَبْدُ جَعَلَهُ طَلَاقًا وَإِنْ شَاءَ لَمْ
يَجْعَلْهُ طَلَاقًا كَانَ تَلَاعُبًا وَهَذَا بَاطِلٌ وَقَدْ أَوْرَدُوا عَلَى
هَذَا : أَنَّ الْمُعْتَقَةَ تَحْتَهُ إذَا خَيَّرَهَا زَوْجُهَا فَإِنَّ لَهَا
أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَلَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ لِأَجْلِ عِتْقِهَا .
قَالُوا : فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ مَعَ
الْعِوَضِ يَمْلِكُ إيقَاعَ فَسْخٍ وَيَمْلِكُ إيقَاعَ طَلَاقٍ . وَهَذَا
الْقِيَاسُ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا إنَّمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ
رَجْعِيًّا : فَتَكُونُ مُخَيَّرَةً بَيْنَ
إيقَاعِ فُرْقَةٍ بَائِنَةٍ وَبَيْنَ إيقَاعِ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ . وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ ؛ كَمَا يُخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْنَ أَنْ يَخْلَعَهَا مُفَارَقَةً فُرْقَةً بَائِنَةً وَبَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِلَا عِوَضٍ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ؛ وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ لِلْأُصُولِ أَنْ يَمْلِكَ فُرْقَةً بَائِنَةً إنْ شَاءَ جَعَلَهَا فَسْخًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا طَلَاقًا وَالْمَقْصُودُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْفُرْقَةُ الْبَائِنَةُ ؛ وَالْأَمْرُ إلَيْهِ فِي جَعْلِهَا طَلَاقًا أَوْ غَيْرَ طَلَاقٍ : فَهَذَا هُوَ الْمُنْكَرُ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إنْ شَاءَ جَعَلَ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ طَلَاقًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ غَيْرَ طَلَاقٍ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ . " وَأَيْضًا " فَاَلَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَبْدِ هُوَ قَصْدُ الْأَفْعَالِ وَغَايَتُهَا ؛ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِلَى الشَّارِعِ . فَالشَّارِعُ يُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمِ هَذَا الْفِعْلِ وَحُكْمِ هَذَا الْفِعْلِ ؛ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ بِالْفِعْلَيْنِ . فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ بِهَا وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَنَفْيِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَقْصُودَ الْفُرْقَةِ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ . " وَأَيْضًا " فَمَعْنَى الِافْتِدَاءِ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا سَأَلَتْهُ أَنْ يُفَارِقَهَا بِعِوَضِ ؛ وَاَللَّهُ عَلَّقَ حُكْمَ الْخُلْعِ بِمُسَمَّى الْفِدْيَةِ فَحَيْثُ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ الْخُلْعُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . " وَأَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الرَّجْعَةَ مِنْ لَوَازِمِ الطَّلَاقِ فِي الْقُرْآنِ ؛ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا إلَّا وَأَثْبَتَ فِيهِ الرَّجْعَةَ ؛ فَلَوْ كَانَ الِافْتِدَاءُ طَلَاقًا
لَثَبَتَ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَهَذَا يُزِيلُ مَعْنَى الِافْتِدَاءِ ؛ إذْ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْخُلْعَ الْمُطْلَقَ يَمْلِكُ فِيهِ الْعِوَضَ وَيَسْتَحِقُّ فِيهِ الرَّجْعَةَ . لَكِنْ قَالَ طَائِفَةٌ هُوَ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ فَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْعِوَضَ وَرَاجَعَهَا ؛ وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا شَرَطَ الرَّجْعَةَ فِي الْعِوَضِ : هَلْ يَصِحُّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ . وَبُطْلَانُ الْجَمْعِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُوجِبُ الْعِوَضَ وَيَرُدُّ الرَّجْعَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ الرَّجْعَةَ وَيُبْطِلُ الْعِوَضَ . وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَلَيْسَ عَنْ أَحْمَد فِي ذَلِكَ نَصٌّ . وَقِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَد صِحَّتُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ كَمَا لَوْ بَذَلَتْ مَالًا عَلَى أَنْ تَمْلِكَ أَمْرَهَا . فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ جَوَازُ الشَّرْطِ فِي الْعُقُودِ إلَّا أَنْ يَقُومَ عَلَى فَسَادِهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَلَيْسَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ بَلْ مَا خَالَفَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وَنَاقَضَ حُكْمَهُ ؛ كَاشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتَقِ وَاشْتِرَاطِ الْبَائِعِ لِلْوَطْءِ مَعَ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَنَحْوَ ذَلِكَ . " وَأَيْضًا " فَالْفَرْقُ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ فِي الْخُلْعِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ : لَا الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ . وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ ؛ بَلْ ذَكَرَ : أَنَّهُ يَحْسَبُ أَنَّ الصَّحَابَةَ يُفَرِّقُونَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ نَقْلًا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَالشَّافِعِيُّ ذَكَرَ هَذَا فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ . وَرَجَّحَ فِيهِ أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَلَيْسَ بِفَسْخِ فَلَمْ يُجِزْ هَذَا الْقَوْلَ لِمَا ظَنَّهُ مِنْ تَنَاقُضِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ بِلَفْظِ طَلَاقًا بَائِنًا مِنْ الثَّلَاثِ
وَبِلَفْظِ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثِ فَلِمَا ظَنَّهُ مِنْ تَنَاقُضِهِ عَدَلَ عَنْ تَرْجِيحِهِ . وَلَكِنَّ هَذَا التَّنَاقُضَ لَمْ يَنْقُلْهُ : لَا هُوَ ؛ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْقَائِلِينَ بِهِ وَلَا مَنْ اتَّبَعَهُ . كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ ؛ وَإِنَّمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد لَمَّا وَجَدُوا غَيْرَهُمْ قَدْ ذَكَرُوا الْفَرْقَ فِيهِ بَيْنَ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ؛ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ كَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ والطَّحَاوِي : أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا ؛ وَإِنَّمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ قَاطِبَةً : إمَّا جَعْلُ الْخُلْعِ فُرْقَةً بَائِنَةً وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . وَإِمَّا جَعْلُهُ طَلَاقًا . وَمَا رَأَيْت فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ وَلَا اُعْتُبِرَ فِيهِ عَدَمُ نِيَّةِ الطَّلَاقِ ؛ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ كَمَا يَقُولُ عِكْرِمَةُ : كُلُّ ما أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ : مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا مَقْصُودَ الْعَقْدِ ؛ لَا لَفْظًا مُعَيَّنًا وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ . وَبِبُطْلَانِ هَذَا الْفَرْقِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَجْعَلُ الْجَمِيعَ طَلَاقًا : فَيُبْطِلُ الْقَوْلَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَهَذَا الْفَرْقُ إذَا قِيلَ بِهِ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ فَسْخًا ؛ وَلِهَذَا عَدَلَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ تَرْجِيحِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ لِمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ أَهْلَهُ يُفَرِّقُونَ . " وَأَيْضًا " فَفِي السُّنَنِ أَنَّ { فَيْرُوزَ الديلمي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلِّقْ أَيَّتَهمَا شِئْت قَالَ : فَعَمَدْت إلَى أَسْبَقِهِمَا صُحْبَةً فَفَارَقْتهَا } . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ فَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ ؛ وَلَيْسَتْ
مِنْ
الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ قَدْ
تَنَاوَلَ مَا هُوَ فَسْخٌ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثِ . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ إذَا قَالَ : قَدْ طَلَقَتْ
هَذِهِ كَانَ ذَلِكَ فُرْقَةً لَهَا وَاخْتِيَارًا لِلْأُخْرَى ؛ خِلَافَ مَا
يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّهُ إذَا
قَالَ لِإِحْدَاهُمَا طَلِّقْهَا كَانَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا لَهَا . قَالُوا :
لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا لِزَوْجَةٍ . فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ
مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْعُقُولِ ؛ فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ لِلْمَرْأَةِ زَاهِدٌ
فِيهَا رَاغِبٌ عَنْهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مُخْتَارًا لَهَا مُرِيدًا لِبَقَائِهَا
وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا ظَنُّهُمْ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَا
يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهَذَا ظَنٌّ فَاسِدٌ
مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَجْعَلْ الشَّارِعُ لَهُ لَفْظًا مُعَيَّنًا ؛
بَلْ إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِأَيِّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ وَقَعَ عِنْدَ
الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ
إلَّا بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشِّيعَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ ؛ وَلَا يُعْرَفُ فِي
ذَلِكَ خِلَافٌ عَنْ السَّلَفِ . فَإِذَا قَالَ : فَارَقْتُك . أَوْ سَرَّحْتُك .
أَوْ : سَيَّبْتُك . وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ
الْكِنَايَاتِ . فَإِذَا أَتَى بِهَذِهِ الْكِنَايَاتِ مَعَ الْعِوَضِ مِثْلَ أَنْ
تَقُولَ لَهُ : سَرِّحْنِي أَوْ سَيِّبْنِي بِأَلْفِ أَوْ فَارِقْنِي بِأَلْفِ أَوْ
خَلِّنِي بِأَلْفِ . فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ تَقُولَ : فادني
بِأَلْفِ أَوْ اخْلَعْنِي بِأَلْفِ أَوْ افْسَخْ نِكَاحِي بِأَلْفِ . وَكَذَلِكَ
سَائِرُ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ . مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ إذَا
كَانَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَنَوَى بِهِمَا الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا
فَهُمَا مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاقِ . فَأَيُّ فَرْقٍ فِي
أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ ؟ !
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . " أَحَدُهُمَا " كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . " وَالثَّانِيَةُ " يَصِحُّ كَالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ الطَّلَاقَ وَيَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ لَا يَكُونُ فَسْخًا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَوْ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ فَسْخًا بِلَا عِوَضٍ لَكَانَ الرَّجُلُ يَمْلِكُ فَسْخَ النِّكَاحِ ابْتِدَاءً وَلَا يُحْسَبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الثَّلَاثِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ عَدَدٍ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ : وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ عَدَدٌ . فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الْفَسْخِ أَوْ غَيْرِهِ يَقَعُ وَلَا يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ لَكَانَ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ بَدَلَ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الطَّلَاقِ بِلَا عَدَدٍ . وَهَذَا بَاطِلٌ . وَإِنْ قِيلَ : هُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ . قِيلَ : هَذَا أَشَدُّ بُطْلَانًا ؛ فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ وَلَا يَمْلِكُ طَلَاقًا بَائِنًا بَطَلَ هَذَا . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَلَوْ جُوِّزَ لَهُ أَنْ يُوقِعَهُ بِلَفْظِ الْفَسْخِ وَلَا يَكُونُ مِنْ الثَّلَاثِ لَزِمَ الْمَحْذُورُ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ كُلَّمَا شَاءَ وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ مِنْ الثَّلَاثِ . وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ بِلَا عِوَضٍ وَلَا سُؤَالٍ لَا يَكُونُ فَسْخًا ؛ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً بِلَا عِوَضٍ : هَلْ تَمْلِكُ ذَلِكَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
فَإِنَّ
الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ .
فَقِيلَ : إنْ شَاءَ الزَّوْجُ طَلَّقَ طَلَاقًا بَائِنًا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ
طَلَاقًا رَجْعِيًّا ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لَهُ . وَإِنْ شَاءَ
أَثْبَتَهَا . وَإِنْ شَاءَ نَفَاهَا . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَد . وَأَظُنُّهُ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ . وَقِيلَ : لَا
يَمْلِكُ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ ابْتِدَاءً بَلْ إذَا طَلَبَتْ مِنْهُ
الْإِبَانَةَ مَلَكَ ذَلِكَ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَد اخْتَارَهَا الخرقي . وَقِيلَ : لَا يَمْلِكُ إبَانَتَهَا بِلَا عِوَضٍ ؛
بَلْ سَوَاءٌ طَلَبَتْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَطْلُبْهُ وَلَا يَمْلِكُ إبَانَتَهَا
إلَّا بِعِوَضِ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ
وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة
ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّقُولِ الثَّابِتَةِ عَنْ أَكْثَرِ
الصَّحَابَةِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ الطَّلَاقَ إلَّا رَجْعِيًّا وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
طَلَاقٌ بَائِنٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؛ إلَّا بِعِوَضِ لَا بِغَيْرِ عِوَضٍ بَلْ كُلُّ
فُرْقَةٍ تَكُونُ بَائِنَةً فَلَيْسَتْ مِنْ الثَّلَاثِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخُلْعَ وَالطَّلَاقَ يَصِحُّ بِغَيْرِ اللَّفْظِ
الْعَرَبِيِّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي لُغَةِ
الْعَجَمِ لَفْظٌ يُفَرِّقُ مَعَ الْعِوَضِ بَيْنَ مَا هُوَ خُلْعٌ وَمَا هُوَ
طَلَاقٌ لَيْسَ بِخُلْعِ ؛ وَإِنَّمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مَا يَخْتَصُّ
بِالْخُلْعِ مِنْ دُخُولِ الْعِوَضِ فِيهِ وَطَلَبِ الْمَرْأَةِ الْفُرْقَةَ .
فَلَفْظُ الطَّلَاقِ يُضَافُ إلَى غَيْرِ الْمَرْأَةِ كَقَوْلِهِمْ : طَلَّقْت
الدُّنْيَا وَطَلَّقْت وُدَّك . وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَدْ يُرَادُ
بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ كَمَا تَقُولُ أَنْتِ : طَالِقٌ مِنْ
وَثَاقٍ أَوْ طَالِقٌ مِنْ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ
وَلَوْ
وَصَلَ لَفْظَ الطَّلَاقِ بِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بِهِ بِلَا رَيْبٍ وَإِنْ نَوَاهُ
وَلَمْ يَصِلْهُ بِلَفْظِ دَيْنٍ وَفِي قَبُولِهِ فِي الْحُكْمِ نِزَاعٌ . فَإِذَا
وَصَلَ لَفْظَ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ . فَقَالَتْ :
قَبِلْت . أَوْ قَالَتْ : طَلِّقْنِي بِأَلْفِ . فَقَالَ : طَلَّقْتُك . كَانَ
هَذَا طَلَاقًا مُقَيَّدًا بِالْعِوَضِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الطَّلَاقَ
الْمُطْلَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ جَعَلَهُ اللَّهُ رَجْعِيًّا
وَجَعَلَ فِيهِ تَرَبُّصَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؛ وَجَعَلَهُ ثَلَاثًا . فَأَثْبَتّ
لَهُ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ .
وَهَذَا لَيْسَ بِرَجْعِيٍّ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا
تَتَرَبَّصُ فِيهِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ بِالسُّنَّةِ فَلِذَلِكَ يَجِبُ
أَنْ لَا يُجْعَلَ مِنْ الثَّلَاثِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي
مُسَمَّى " الطَّلَاقِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ وَإِنَّمَا يُعَبَّرُ
عَنْهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ مَعَ قَيْدٍ كَمَا يُسَمَّى الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ
" نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " فَيُسَمَّى نَذْرًا مُقَيَّدًا ؛
لِأَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ النَّذْرِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ الْأَيْمَانِ ؛
لَا مِنْ النُّذُورِ : عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْمَاءِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَتَنَاوَلُ
الْمَنِيَّ ؛ وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى مَاءً مَعَ التَّقْيِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
: { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ
} . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْخُفِّ " لَا يَتَنَاوَلُ عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ الْمَقْطُوعَ وَإِنْ كَانَ يُقَالُ خُفٌّ مَقْطُوعٌ . فَلَا يَدْخُلُ
الْمَقْطُوعُ فِي لَفْظِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
وَلَا فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِ الْخُفِّ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحْرِمَ أَوَّلًا بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ لَيْسَ بِخُفِّ ثُمَّ رَخَّصَ فِي عَرَفَاتٍ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ وَلُبْسِ الْخِفَافِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فَتْقَ السَّرَاوِيلِ وَلَا قَطْعَ الْخِفَافِ . وَالسَّرَاوِيلُ الْمَفْتُوقُ وَالْخُفُّ الْمَقْطُوعُ : لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى " الْخُفِّ " و " السَّرَاوِيلِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبَيْعِ " الْمُطْلَقِ لَا يَتَنَاوَلُ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى بَيْعًا مَعَ التَّقْيِيدِ . وَكَذَلِكَ " الْإِيمَانُ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَأَمَّا مَعَ التَّقْيِيدِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } لَا يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِشَارَةِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا تَنَاوَلَ الْإِخْبَارَ بِمَا يَسُرُّ ؛ وَأَمَّا مَعَ التَّقْيِيدِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فَالطَّلَاقُ الْمُطْلَقُ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ الطَّلَاقَ الَّذِي يُوقِعُهُ الزَّوْجُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَتَثْبُتُ لَهُ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَمَا كَانَ بِعِوَضِ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهِ ؛ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فِدَاءٌ تَفْتَدِي بِهِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا
كَمَا تَفْتَدِي الْأَسِيرَةُ نَفْسَهَا مِنْ أَسْرِهَا ؛ وَهَذَا الْفِدَاءُ لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ سَوَاءٌ وَقَعَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوْ الْفَسْخِ أَوْ الْفِدَاءِ وَالسَّرَاحِ ؛ أَوْ الْفِرَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْإِبَانَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ . وَلِهَذَا جَازَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ : فَيَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَخْتَلِعَهَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَدِيَ الْأَسِيرَةَ ؛ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ الْأَجْنَبِيُّ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ عِوَضًا لِيُعْتِقَهُ ؛ وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِمَا إذَا كَانَ قَصْدُهُ تَخْلِيصَهَا مِنْ رِقِّ الزَّوْجِ ؛ لِمَصْلَحَتِهَا فِي ذَلِكَ كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرَ . وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَجْهٌ أَنَّهُ إذَا قِيلَ : إنَّهُ فَسْخٌ : لَمْ يَصِحَّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ . قَالُوا . لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إقَالَةً ؛ وَالْإِقَالَةُ لَا تَصِحُّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقَةِ الْخُرَاسَانِيَّةِ . وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فَسْخٌ هُوَ فَسْخٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبَيْنِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ " شَرْحِ الْوَجِيزِ " لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْعِرَاقِيِّينَ كَأَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيّ فِي " خِلَافِهِ " وَغَيْرِهِ . وَهَذَا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ وَكَالْبَذْلِ لِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ ؛ لَا كَالْإِقَالَةِ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ رَفْعُ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْ رِقِّ الْمَرْأَةِ لِتَعُودَ خَالِصَةً مِنْ رِقِّهِ ؛ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ نَقْلَ مِلْكٍ إلَيْهَا ؛ فَهُوَ شَبِيهٌ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ ؛ وَفَكِّ الْأَسِيرِ ؛ لَا بِالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ فَلِهَذَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ بِدُونِ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى ؛ وَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ بأكثر مِنْ الصَّدَقَاتِ ؛ وَيَجُوزُ أَيْضًا بِغَيْرِ جِنْسِ الصَّدَاقِ وَلَيْسَتْ الْإِقَالَةُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ
الْإِقَالَةُ
الْمَقْصُودُ بِهَا تَرَادُّ الْعِوَضِ . وَإِذَا كَرِهْنَا أَوْ حَرَّمْنَا
أَخْذَ زِيَادَةٍ عَلَى صَدَاقِهَا فَهَذَا لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمُطْلَقَ فِي
خُرُوجِهَا مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ هُوَ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ
الْبُضْعَ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ كَمَا يُبَاعُ الْمَالُ
وَيُوهَبُ وَيُورَثُ وَكَمَا تُؤَجَّرُ الْمَنَافِعُ وَتُعَارُ وَتُورَثُ
وَالتِّجَارَةُ وَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِي الْأَمْوَالِ بِالنَّصِّ
وَالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا التِّجَارَةُ الْمُجَرَّدَةُ فِي الْمَنَافِعِ : مِثْلَ أَنْ
يَسْتَأْجِرَ دَارًا وَيُؤَجِّرَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ مِنْ غَيْرِ
عَمَلٍ يُحْدِثُهُ . فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ
أَحْمَد " أَشْهَرُهُمَا " عَنْهُ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي " : لَا
يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . قَالُوا . لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي رِبْحِ مَا
لَمْ يُضْمَنْ . و " الْأَوَّلُ " أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ
مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ . بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ إلَيْهِ
الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالْعَيْنِ تَلِفَتْ عَلَى مِلْكِهِ
؛ بِخِلَافِ مَا إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ ؛ فَإِنَّ هَذَا
بِمَنْزِلَةِ تَلَفِ الثَّمَرِ قَبْلَ صَلَاحِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ
الْمَنَافِعَ الَّتِي تُورَثُ قَدْ تُنُوزِعَ فِي جَوَازِ التِّجَارَةِ فِيهَا ؛
فَكَيْفَ بِالْأَبْضَاعِ الَّتِي لَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ بِالنَّصِّ
وَالْإِجْمَاعِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرِثُونَ الْأَبْضَاعَ
فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ . فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُفَارِقَ الْمَرْأَةَ
وَيُزَوِّجَهَا بِغَيْرِهِ لِيَأْخُذَ صَدَاقَهَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ . وَلَوْ
وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ لَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَهُ فَلِهَذَا نَهَى عَنْ
الزِّيَادَةِ . وَإِذَا شَبَّهَ الْخُلْعَ بِالْإِقَالَةِ ؛ فَالْإِقَالَةُ فِي
كُلِّ عَقْدٍ بِحَسَبِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ .=ج49=
ج49. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ تَبِينُ بِهِ الْمَرْأَةُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ : هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ تَدُلُّ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ . وَعَلَى هَذَا فَإِذَا فَارَقَ الْمَرْأَةَ بِالْعِوَضِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ . وَإِذَا قِيلَ : الطَّلَاقُ صَرِيحٌ فِي إحْدَى الثَّلَاثِ فَلَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي الْخُلْعِ . قِيلَ : إنَّمَا الصَّرِيحُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ . فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ بِقَيْدِ يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ : فَهُوَ صَرِيحٌ فِي حُكْمِ الْمُقَيَّدِ كَمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ . أَوْ مِنْ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ ؛ فَإِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ ؛ لَا فِي الطَّلَاقِ مِنْ النِّكَاحِ . وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ . فَقَالَتْ : قَبِلْت . فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْعِوَضِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْخُلْعِ ؛ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ أَلْبَتَّةَ فَإِذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ فَقَدْ نَوَى بِاللَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَمَا لَوْ نَوَى بِالْخُلْعِ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . فَنِّيَّتُهُ هَذَا الْحُكْمَ بَاطِلٌ كَذَلِكَ نِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى بِالظِّهَارِ الطَّلَاقَ أَوْ نَوَى بِالْإِيلَاءِ الطَّلَاقَ مُؤَجَّلًا مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا : فَأَبْطَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ذَلِكَ وَحَكَمَ فِي " الْإِيلَاءِ " بِأَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ مَعَ تَرَبُّصِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ . وَحَكَمَ فِي " الظِّهَارِ " بِأَنَّهُ إذَا عَادَ كَمَا قَالَ : كَفَرَ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جَعَلَ الْإِيلَاءَ طَلَاقًا مُؤَجَّلًا أَوْ جَعَلَ التَّحْرِيمَ الَّذِي فِي مَعْنَى الظِّهَارِ طَلَاقًا : قَوْلُهُ مَرْجُوحٌ فِيهِ شَبَهٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا بِخِلَافِ مَنْ
فَرَّقَ
بَيْنَ حَقِيقَةِ الظِّهَارِ ؛ وَحَقِيقَةِ الْإِيلَاءِ وَحَقِيقَةِ الطَّلَاقِ ؛
فَإِنَّ هَذَا عَلِمَ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَلَمْ
يُدْخِلْ فِي الْحُدُودِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَمْ يُخْرِجْ مِنْهُ مَا هُوَ فِيهِ
. وَكَذَلِكَ " الِافْتِدَاءُ " لَهُ حَقِيقَةٌ يُبَايِنُ بِهَا مَعْنَى
الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ فِي
حَقِيقَةِ الِافْتِدَاءِ ؛ وَلَا حَقِيقَةَ الِافْتِدَاءِ فِي حَقِيقَةِ
الطَّلَاقِ ؛ وَإِنْ عَبَّرَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ الْآخَرِ أَوْ نَوَى
بِأَحَدِهِمَا حُكْمَ الْآخَرِ فَهُوَ كَمَا إذَا نَوَى بِالطَّلْقَةِ
الْوَاحِدَةِ ؛ أَوْ الْخُلْعِ : أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ . فَنِيَّةُ هَذَا الْحُكْمِ بَاطِلٌ ؛ وَكَذَلِكَ نِيَّتُهُ أَنْ
تَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْهَا حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إلَّا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَمَنْ نَوَى
هَذَا الْحُكْمَ بِغَيْرِ هَذَا الطَّلَاقِ فَقَدْ قَصَدَ مَا يُنَاقِضُ حُكْمَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ كَذَلِكَ مَنْ نَوَى بِالْفُرْقَةِ الْبَائِنَةِ أَنَّ
الْفُرْقَةَ نَقْصُ بَعْضٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَقَدْ قَصَدَ مَا يُنَاقِضُ حُكْمَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ قَصَدَ هَذَا أَوْ
هَذَا لِجَهْلِهِ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ كَمَا لَوْ قَصَدَ بِسَائِرِ
الْعُقُودِ مَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَكُونُ جَاهِلًا
بِالسُّنَّةِ ؛ فَيُرَدُّ إلَى السُّنَّةِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ :
رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ . وَكَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ
فِيمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ : هُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ فَيُرَدُّ إلَى
السُّنَّةِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُخَالِعِ : {
وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } إذْنٌ لَهُ فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ بِعِوَضِ
وَنَهْيٌ لَهُ عَنْ الزِّيَادَةِ . كَمَا قَدْ بَيَّنَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ " الطَّلَاقَ السُّنَّةَ " أَنْ يُطَلِّقَ
طَلْقَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُرَاجِعُهَا أَوْ يَدَعُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ
عِدَّتُهَا وَأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَهَا
ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَبْلَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ جَدِيدٍ : فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ مُحَرَّمٍ عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمَا وَأَحْمَد فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ ؛ وَاخْتِيَارِ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَذِكْرُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً وَزَمَانَ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ؛ فَلَمَّا تَتَابَعَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ ؛ فَلَوْ نَفَّذْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَعَلَى كَلَامِ النَّاسِ فِيهِ بِمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الْآخَرَ الَّذِي يُوَافِقُهُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ ؛ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنْ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ؛ فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ ؟ أَمْ مَجَالِسَ قَالَ : بَلْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ } وَقَدْ أَثْبَتَ هَذَا الْحَدِيثَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ ؛ وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى فِي حَدِيثِ ركانة . أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ { وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْلَفَهُ : مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ قَالَ : مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً . فَرَدَّهَا عَلَيْهِ } فَإِنَّ رُوَاةَ هَذَا مَجَاهِيلُ الصِّفَاتِ لَا يُعْرَفُ عَدْلُهُمْ وَحِفْظُهُمْ وَلِهَذَا ضَعَّفَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ
مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ حَدِيثَهُمْ ؛ بِخِلَافِ حَدِيثِ الثَّلَاثِ فَإِنَّ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ ؛ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِهِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ ؛ وَاَلَّذِينَ رَوَاهُ عُلَمَاءُ فُقَهَاءَ وَقَدْ عَمِلُوا بِمُوجَبِهِ كَمَا أَفْتَى طَاوُوسٌ وَعِكْرِمَةُ ؛ وَابْنُ إسْحَاقَ : أَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ . وَقَدْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : هَذَا أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيُرَدُّ إلَى السُّنَّةِ . وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ أَلْبَتَّةَ ؛ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ هَذَا عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ طَرِيقًا آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ رِوَايَةِ مَجْهُولٍ . فَقَدَّمَ رِوَايَةَ مَجْهُولٍ عَلَى مَجْهُولٍ . وَأَمَّا رِوَايَةُ دَاوُد بْنَ الْحُصَيْنِ هَذِهِ فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى تِلْكَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ لَمْ تَبْلُغْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ كَمَا أَنَّ حَدِيثَ طَاوُوسٍ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ بَلْ أَكْثَرُهُمْ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَ الْكَلَامُ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْإِفْتَاءِ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَأَظْهَرُوهُ فَجُعِلَ عُقُوبَةً لَهُمْ . وَذِكْرُ كَلَامِ النَّاسِ عَلَى " الْإِلْزَامِ بِالثَّلَاثِ " : هَلْ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ شَرْعٌ لَازِمٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ فَعَلَهُ عُقُوبَةَ ظُهُورِ الْمُنْكَرِ وَكَثْرَتِهِ ؟ وَإِذَا قِيلَ : هُوَ عُقُوبَةٌ : فَهَلْ مُوجِبُهَا دَائِمٌ لَا يَرْتَفِعُ ؟ أَوْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ؟ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرْعًا لَازِمًا وَلَا عُقُوبَةَ اجْتِهَادِيَّةً لَازِمَةً ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ اجْتِهَادٌ سايغ مَرْجُوحٌ أَوْ عُقُوبَةٌ عَارِضَةٌ
شَرْعِيَّةٌ وَالْعُقُوبَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهَا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ . فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْرِيمِ وَلَمَّا عَلِمَهُ تَابَ مِنْهُ : فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ هَذَا بِالثَّلَاثِ الْمَجْمُوعَةِ ؛ بَلْ إنَّمَا يُلْزَمُ وَاحِدَةً . هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ . فَأَمَّا إذَا كَانَ بِعِوَضِ فَهُوَ " فِدْيَةٌ " كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُوقِعَ الثَّلَاثَ أَيْضًا بِالْعِوَضِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُطَلِّقَ بِالْعِوَضِ إلَّا وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ كَمَا لَا يُطَلِّقُ بِغَيْرِهِ إلَّا وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ ؛ لَكِنَّ الطَّلَاقَ بِالْعِوَضِ طَلَاقٌ مُقَيَّدٌ : هُوَ فِدْيَةٌ وَفُرْقَةٌ بَائِنَةٌ ؛ لَيْسَ هُوَ الطَّلَاقَ الْمُطْلَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الرَّجْعِيُّ . فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً بِعِوَضِ وَقِيلَ : إنَّ الثَّلَاثَ بِلَا عِوَضٍ وَاحِدَةٌ وَبِالْعِوَضِ فَدِيَةٌ لَا تُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ كَانَتْ هَذِهِ الْفُرْقَةُ بِفِدْيَةِ لَا تُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ وَكَانَ لِهَذَا الْمُفَارِقِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَقْدًا جَدِيدًا وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِرَاقُ بِالْعِوَضِ مِنْ الثَّلَاثِ فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ لِكَوْنِهِ مُحَرَّمًا وَالثِّنْتَانِ مُحَرَّمَةٌ وَالْوَاحِدَةُ مُبَاحَةٌ ؛ وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ الْوَاحِدَةُ بِالْعِوَضِ مِنْ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّهَا فِدْيَةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ الطَّلَاقِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ ثَلَاثًا ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَتَكُونَ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثٍ . و " جِمَاعُ الْأَمْرِ " أَنَّ الْبَيْنُونَةَ نَوْعَانِ : " الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى " وَهِيَ إيقَاع الْبَيْنُونَةِ الْحَاصِلَةِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ الْمَرْأَةُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . و " الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى " وَهِيَ : الَّتِي تَبِينُ بِهَا الْمَرْأَةُ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدِ
جَدِيدٍ فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا . فَالْخُلْعُ تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى دُونَ الْكُبْرَى . وَالْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى الْحَاصِلَةُ بِالثَّلَاثِ تَحْصُلُ إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقُهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ ؛ أَوْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً وَقَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا وَيَدَعُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ؛ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ . وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ . وَإِذَا تَزَوَّجَهَا أَوْ ارْتَجَعَهَا فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ . فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ قَبْلَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا الثَّلَاثَ فِي أَطْهَارٍ قَبْلَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ ؛ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَلَوْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ إيقَاعًا مُحَرَّمًا : فَهَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ ؟ أَوْ وَاحِدَةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ لَا يَقَعُ لَمْ يَمْلِكْ الْبَيْنُونَةَ الْكُبْرَى بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَبْذُلَ لَهُ الْعِوَضَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ فَإِذَا بَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الْمُحَرَّمَةِ بَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلَا يَمْلِكُهُ فَإِذَا أَوْقَعَهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إلَّا الْمُبَاحُ وَالْمُبَاحُ بِالْعِوَضِ إنَّمَا هُوَ بِالْبَيْنُونَةِ الصُّغْرَى دُونَ الْكُبْرَى ؛ بَلْ لَوْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَبَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ عَلَى الْفُرْقَةِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِ الطَّلَاقِ لَمْ تَقَعْ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ عَلَى قَوْلِنَا : إنَّ الْفُرْقَةَ بِعِوَضِ فَسْخٌ تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى ؛ فَإِذَا فَارَقَهَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَقَعَتْ بِهِ " الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى " وَهُوَ الْفَسْخُ
دُونَ
الْكُبْرَى . وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِعَقْدِ جَدِيدٍ ؛
لَكِنْ إنْ صَرَّحَتْ بِبَذْلِ الْعِوَضِ فِي الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ
الْمُحَرَّمَةِ وَكَانَ مَقْصُودُهَا أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجًا غَيْرَهُ : فَقَدْ بَذَلَتْ الْعِوَضَ فِي غَيْرِ الْبَيْنُونَةِ
الصُّغْرَى وَهُوَ يُشْبِهُ مَا إذَا بَذَلَتْ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ بِشَرْطِ
الرَّجْعَةِ . فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ الرَّجْعَةَ فِي الْخُلْعِ يُشْبِهُ اشْتِرَاطَهَا
الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَهَا فِيهِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَمْلِكُ
الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَهَا كَمَا كَانَ يَمْلِكُ قَبْلَ
ذَلِكَ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ؛ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا
مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ :
فِي " الْفُرْقَةِ " الَّتِي تَكُونُ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَاَلَّتِي
لَا تَكُونُ مِنْ الثَّلَاثِ ؛ فَإِنَّ انْقِسَامَ الْفُرْقَةِ إلَى هَذَيْنِ
النَّوْعَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - فِيمَا أَظُنُّ -
فَإِنَّهُ لَوْ حَدَث بَيْنَهُمَا مَا أَوْجَبَ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ بِدُونِ
اخْتِيَارِهِمَا
كَالْمُصَاهَرَةِ - كَانَتْ فُرْقَةً تُعْتَبَرُ طَلَاقًا ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ " الْمُفَارَقَاتِ " مِثْلَ : " الْخُلْعِ " وَمِثْلَ " الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ " و " الْفُرْقَةِ لِعَيْبِ فِي الرَّجُلِ " مِثْلَ جَبٍّ أَوْ عُنَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ : هَلْ هُوَ طَلَاقٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؟ أَمْ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَسَبَبُ ذَلِكَ " تَنْقِيحُ " " مَنَاطِ الْفَرْقِ " بَيْنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي هَذَا الْبَابِ أَوْسَعُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُمَا فِي الْخُلْعِ : هَلْ هُوَ طَلَاقٌ ؟ أَمْ لَيْسَ بِطَلَاقِ ؟ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وطاوس وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لَكِنْ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ بِغَيْرِهِ . فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِهِ : فَهُوَ طَلَاقٌ مُنَقِّصٌ . وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ آخَرَ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ أَيْضًا . وَإِنْ خَلَا عَنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ : فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ . وَهَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ إلَى تَحْقِيقٍ كَمَا يَحْتَاجُ مَنَاطُ الْفَرْقِ إلَى تَحْرِيرٍ فَإِنَّ هَذَا يُبْنَى عَلَى أَصْلَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ غَيْرَ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ . " الثَّانِي " تَحْرِيرُ مَعْنَى الْخُلْعِ الْمُخَالِفِ لِمَعْنَى الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ وَإِلَّا فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ الْمَعْدُودَ . وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرُ وَنَوَى
ذَلِكَ الْمَعْنَى : لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ الْمَعْدُودُ . وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّهُ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى مِنْ وَثَاقٍ أَوْ مِنْ زَوْجٍ قَبْلِي : لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ . وَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . فَعُلِمَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُضَافَ إلَى الْمَرْأَةِ يَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ الْمَعْدُودَ وَيَعْنِي بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ . وَقَدْ يُضَافُ الطَّلَاقُ إلَى غَيْرِ الْمَرْأَةِ كَمَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا دُنْيَا قَدْ طَلَّقْتُك ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ لِي فِيك . وَمِثْلُ الشِّعْرِ الْمَأْثُورِ عَنْ الشَّافِعِيِّ : اذْهَبْ فَوُدُّك مِنْ وِدَادِي طَالِقٌ . وَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمَرْأَةِ يُرَادُ بِهِ الْفُرْقَةُ وَلَا يَكُونُ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ : كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَهْلُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ : أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الجيشاني { عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَسْلَمْت وَتَحْتِي أُخْتَانِ ؟ قَالَ : طَلِّقْ أَيَّتهمَا شِئْت } هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد قَالَ . حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ هشيم وَعِيسَى بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ خَمِيصَةَ بْنِ الشمردل { عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ : أَسْلَمْت وَعِنْدِي ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا }
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه أَيْضًا . وَقَدْ رَوَى أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه وَاللَّفْظُ لَهُ : { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : أَسْلَمَ غَيْلَانُ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ سَمِعْت مُحَمَّدًا يَقُولُ : هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى شُعَيْبٌ وَغَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : حُدِّثْت عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سويد أَنَّ غَيْلَانَ . . . فَذَكَرَهُ . وَفِي لَفْظِ الْإِمَامِ أَحْمَد . فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ طَلَّقَ نِسَاءَهُ وَقَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ : إنِّي لَأَظُنُّ الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنْ السَّمْعِ سَمِعَ بِمَوْتِك فَقَذَفَهُ فِي نَفْسِك وَلَعَلَّك لَا تَمْلِكُ إلَّا قَلِيلًا وَاَيْمُ اللَّهِ لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَك وَلَتُرْجِعَنَّ مَالَك أَوْ لَأُورِثَهُنَّ مِنْك ؛ وَلَآمُرَنَّ بِقَبْرِك فَيُرْجَمُ كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أَبِي رغال . وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي مُسْنَدَيْهِمَا فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا ؛ لَكِنْ بَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : أَنَّ هَذَا مِمَّا غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ لَمَّا قَدِمَ الْبَصَرَ فَإِنَّهُ حَدَّثَهُمْ بِهِ مَنْ حَفِظَهُ وَكَانَ مَعْمَرٌ يَغْلَطُ إذَا حَدَّثَ مِنْ حَفِظَهُ فَرَوَاهُ الْبَصْرِيُّونَ عَنْهُ كَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ - غُنْدُرٍ - وَغَيْرِهِ عَلَى الْغَلَطِ وَأَمَّا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ سَمِعُوا مَنْ كَتَبَهُ كَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِ فَرَوَوْهُ عَلَى الصَّوَابِ . فَفِي حَدِيثِ فَيْرُوزَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : طَلِّقْ أَيَّتَهمَا شِئْت } لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمَعْدُودُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا ؛ بَلْ الْمُرَادُ
مِنْهُ
فِرَاقًا لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ
أَنْ يُطَلِّقَهَا بِنَصِّ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ ؛ بَلْ يُفَارِقُهَا
عِنْدَهُمْ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَأَمَّا لَفْظُ الطَّلَاقِ فَلَهُمْ فِيهِ
كَلَامٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَهَكَذَا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ
غَيْلَانَ : { أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقِ سَائِرَهُنَّ } وَلَيْسَ عَلَيْهِ
أَنْ يُفَارِقَهَا فُرْقَةً تُحْسَبُ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ . وَقَدْ
تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . . .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا بِنَصِّ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ بَلْ
أَرَادَ الْمُفَارَقَةَ : وُجُوهٌ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ قَالَ فِي
الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { خُذْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا
اخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا كَفَى ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنْشَاءِ طَلَاقٍ
فِي الْبَوَاقِي فَلَوْ كَانَ فِرَاقُهُنَّ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ
لَاحْتَاجَ إلَى إنْشَاءِ سَبَبِهِ كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَن
إحْدَى امْرَأَتَيَّ . فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُحْدِثَ لَهَا طَلَاقًا ؛ فَلَوْ
قَالَ أَخَذْت هَذِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَحْدَهُ طَلَاقًا لِلْأُخْرَى .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : هَذَا مِمَّا قَدْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ
بِالْأُخْرَى مَعَ النِّيَّةِ . " الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ : مَا زَادَ
عَلَى الْأَرْبَعِ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ وَمَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً
بِالشَّرْعِ لَمْ تَحْتَجْ إلَى طَلَاقٍ ؛ لَكِنَّ الْمُحَرَّمَةَ لَمَّا لَمْ
تَكُنْ مُعَيَّنَةً كَانَتْ لَهُ وِلَايَةُ التَّعْيِينِ .
" الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ إنَّ : اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ خَصَائِصَ الطَّلَاقِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْفُرْقَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } فَجَعَلَ الْمُطَلَّقَةَ زَوْجُهَا أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا فِي الْعِدَّةِ ؛ وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فِي الْعِدَّةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : لَهُ فِي الْعِدَّةِ أَنْ يَرْتَجِعَ وَاحِدَةً مِنْ الْمُفَارِقَاتِ وَيُطَلِّقَ غَيْرَهَا : وَهَذَا لَا أَعْلَمُهُ قَوْلًا . " الرَّابِعُ " أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَجَعَلَ لَهُ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ وَهَذَا لَيْسَ لَهُ فِي مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ إذَا فَارَقَهُنَّ ؛ إلَّا أَنْ يُقَالَ : لَهُ الرَّجْعَةُ بِشَرْطِ الْبَدَلِ . " الْخَامِسُ " أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَهَذَا الْفِرَاقُ لَا يَقْضِي عَلَى الْعِدَّةِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمَ أَنْ يُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ . وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ . " السَّادِسُ " أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وَهَذِهِ الْمُفَارَقَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ . " السَّابِعُ " أَنَّهُ قَالَ : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ .
" الثَّامِنُ " أَنَّ فِرَاقَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ عَيْنًا . وَاَللَّهُ لَمْ يُوجِبْ الطَّلَاقَ عَيْنًا قَطُّ ؛ بَلْ أَوْجَبَ إمَّا الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِمَّا التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانِ . " التَّاسِعُ " : أَنَّ الطَّلَاقَ مَكْرُوهٌ فِي الْأَصْلِ . وَلِهَذَا لَمْ يُرَخِّصْ اللَّهُ فِيهِ إلَّا فِي ثَلَاثٍ وَحَرَّمَ الزَّوْجَةَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ : عُقُوبَةً لِلرَّجُلِ لِئَلَّا يُطَلِّقَ وَهُنَا الْفُرْقَةُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ دَاخِلًا فِي الْجِنْسِ الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَارَ هَذَا كَمَا أَنَّ هِجْرَةَ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ مَحْظُورَةً فِي الْأَصْلِ رَخَّصَ الشَّارِعُ مِنْهَا فِي الثَّلَاثِ . فَأَمَّا الْهِجْرَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا : كَهِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا خَمْسِينَ لَيْلَةً فَإِنَّهَا كَانَتْ هِجْرَةً يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ أُبِيحَ مِنْهُ الثَّلَاثُ لِلْحَاجَةِ وَكَذَلِكَ إحْدَادُ غَيْرِ الزَّوْجَةِ لَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا فِي الْأَصْلِ أُبِيحَ مِنْهُ الثَّلَاثُ لِلْحَاجَةِ . فَأَمَّا إحْدَادُ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَلَمَّا كَانَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَخَّصَ مِنْهُ فِي ثَلَاثٍ لِلْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ الْفُرْقَةُ الَّتِي يَأْمُرُ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ لَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الطَّلَاقِ الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَرَخَّصَ مِنْهُ فِي ثَلَاثٍ لِلْحَاجَةِ . وَالْخُلْعُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ مِنْ خُلُقٍ وَلَا دِينٍ
وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قَالَتْ نَعَمْ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } فَهَذَا فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ . وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا : أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ الْخُلْعَ مِنْ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : الْخُلْعُ تَفْرِيقٌ ؛ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد : رَأَيْت أَبِي يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ ودَاوُد وَأَصْحَابِهِ ؛ غَيْرَ ابْنِ حَزْمٍ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُوسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ؛ ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ : أَيَنْكِحُهَا ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَعَمْ . ذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ فِي الْآيَةِ وَفِي آخِرِهَا وَالْخُلْعُ بَيْنَ ذَلِكَ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ قَالَ : كَانَ أَبِي لَا يَرَى الْفِدَاءَ طَلَاقًا ؛ وَيُخَيِّرُ لَهُ بَيْنَهُمَا . وَقَالَ ابْنُ جريج : أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ ؛ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : مَا أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقِ . فَهَذَا عِكْرِمَةُ يَقُولُ : إنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ وَقَعَتْ بِمَالِ فَلَيْسَتْ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ
وَ
" الْفِدْيَةُ " لَيْسَتْ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ كَمَا بَيَّنَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ ؛ مَعَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ هُمَا اللَّذَانِ رَوَى
الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِمَا حَدِيثَ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ كَمَا
تَقَدَّمَ . . . (1) .
قَالَ : وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ عِكْرِمَةُ مُرْسَلًا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ
عَبْدُ الْعَزِيزِ : هُوَ ضَعِيفٌ مُرْسَلٌ . فَيُقَالُ . هَذَا فِي بَعْضِ
طُرُقِهِ وَسَائِرُ طُرُقِهِ لَيْسَ فِيهَا إرْسَالٌ . ثُمَّ هَذِهِ الطَّرِيقُ
قَدْ رَوَاهَا مُسْنَدَةً مَنْ هُوَ مِثْلُ مَنْ أَرْسَلَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ
أَجَلَّ مِنْهُ . وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقْضِي الْمُسْنَدُ عَلَى الْمُرْسَلِ .
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ الْمُسَمَّى "
بِالْمُسْتَدْرَكِ " وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ غَيْرَ
أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ أَرْسَلَهُ عَنْ مَعْمَرٍ وَخَرَّجَهُ القشيري فِي
أَحْكَامِهِ الَّتِي شَرَطَ فِيهَا أَنْ لَا يَرْوِيَ إلَّا حَدِيثَ مَنْ
وَثَّقَهُ إمَامٌ مِنْ مُزَكِّي رُوَاةِ الْأَخْبَارِ وَكَانَ صَحِيحًا عَلَى
طَرِيقَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْحُفَّاظِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ
النُّظَّارِ . قَالَ : وَقَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَهُ قَوْلُ
عُمَرَ وَعَلِيٍّ فَإِنَّهُمَا قَالَا : عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ . وَأَمَّا
ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ قَالَ : عِدَّةُ
الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ ؛ وَهُوَ أَصَحُّ عَنْهُ .
فَيُقَالُ : أَمَّا الْمَنْقُولُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ . . . (2) وَبِتَقْدِيرِ
ثُبُوتِ النِّزَاعِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَالْوَاجِبُ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ
إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالسُّنَّةُ قَدْ بَيَّنَتْ أَنَّ الْوَاجِبَ حَيْضَةٌ
. . . (3) وَمِمَّا بَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَنْ تَحِيضَ
وَتَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً ؛ وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا . فَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا إحْدَى الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ لَلَزِمَتْهَا عِدَّةُ مُطَلَّقَةٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاق الْمُسْلِمِينَ ؛ بِخِلَافِ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِدَّةٌ ؛ وَإِنَّمَا فِيهِ اسْتِبْرَاءٌ بِحَيْضِ . وَالنِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ . أَمَّا الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ فَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ فَقَالَ النَّسَائِي : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِي حَدَّثَنِي شاذان بْنُ عُثْمَانَ أَخُو عبدان حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ [ الْمُبَارَكِ ] (1) عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ . أَنَّ الربيع بِنْتَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَخْبَرَتْهُ . وَرَوَاهُ النَّسَائِي عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنِي عَمِّي ؛ حَدَّثَنَا أَبِي ؛ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ وَعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مهران عَنْ الربيع بِنْتِ مُعَوِّذٍ . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَلَمَةَ النَّيْسَابُورِيِّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ؛ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ؛ حَدَّثَنَا عبادة بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ وَكِلَاهُمَا يَزْعُمُ { أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ فَكَسَرَ يَدَهَا فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الصُّبْحِ - وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي - فَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِيهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ ؛ فَقَالَ لَهُ : خُذْ الَّذِي لَهَا عَلَيْك وَخَلِّ سَبِيلَهَا قَالَ : نَعَمْ . فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً ؛ وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا } . أَيْ بَعْدَ حَيْضَةٍ . وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَالتِّرْمِذِي فِي جَامِعِهِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي " كِتَابِ الطَّلَاقِ " لَهُ : ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَغْدَادِيِّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْقَطَّانِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنُ غَرِيبٌ . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا { عَنْ الربيع بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ : أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أُمِرَتْ - أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ الربيع الصَّحِيحُ أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَرَوَى النَّسَائِي وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَابْنُ مَاجَه عَنْ الربيع بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ . اختلعت مِنْ زَوْجِي . ثُمَّ جِئْت عُثْمَانَ فَسَأَلْت مَاذَا عَلَيَّ مِنْ الْعِدَّةِ ؟ فَقَالَ : لَا عِدَّةَ عَلَيْك إلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِك فَتَمْكُثِينَ حَتَّى تَحِيضِي حَيْضَةً . وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَه : تَمْكُثِينَ عِنْدَهُ حَتَّى تَحِيضِي حَيْضَةً . وَأَمَّا النَّسَائِي وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ : فَلَمْ يَقُولَا " عِنْدَهُ " قَالَتْ : وَإِنَّمَا تَبِعَ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُغَالِيَةِ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ . فَهَذِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ لِحَدِيثِ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ الَّتِي خَالَعَهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ } وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي " كِتَابِ الطَّلَاقِ " مِنْ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ طُرُقٍ . فَيَكُونُ لِلْحَدِيثِ خَمْسَةُ طُرُقٍ أَوْ سِتَّةٌ : ذَكَرَ حَدِيثَ الربيع الَّذِي فِيهِ ذَكَرَ مَرْيَمَ الْمُغَالِيَةِ (*) ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ الربيع الْمُتَقَدِّمَ الَّذِي فِيهِ ضَرْبُ ثَابِتٍ لِامْرَأَتِهِ جَمِيلَةَ . وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ ؛ ذَكَرَ : قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ ؛ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثوبان عَنْ الربيع : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُخْتَلِعَةَ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ } . وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ؛ حَدَّثَنَا أَبُو الْأُسُودِ ؛ عَنْ يَحْيَى بْنِ النَّظْرِ وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قسيط عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثوبان ؛ { عَنْ الربيع بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ : أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنْ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ : أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بَعْضُ الشَّيْءِ وَكَانَ رَجُلًا فِيهِ حِدَّةٌ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَتْهُ ؛ فَأَرْسَلَ إلَى ثَابِتٍ ؛ ثُمَّ إنَّهُ قَبِلَ مِنْهَا الْفِدْيَةَ فَافْتَدَتْ مِنْهُ فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ حَيْضَةً } قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ : مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ ؛ لَا طَلَاقٌ : مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِسْنَادُ ؛ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى حَدَّثَنَا سويد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
- هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ - عَنْ عَمْرَةَ { عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ ؛ قَالَتْ : امْرَأَةٌ كَانَ هَمَّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَهَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فَتَزَوَّجَهَا وَكَانَ فِي خُلُقِ ثَابِتٍ شِدَّةٌ فَضَرَبَهَا . فَأَصْبَحَتْ بِالْغَلَسِ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَتْ حَبِيبَةُ : أَنَا يَا رَسُولُ اللَّهِ لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ . قَالَ : فَلَمْ يَكُنْ أَنْ جَاءَ ثَابِتٌ ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبْتهَا ؟ قَالَ نَعَمْ . ضَرَبْتهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ مِنْهَا فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ عِنْدِي كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ . فَقَالَ . فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي بَيْتِهَا } . قَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ : وَلَمْ يَذْكُرْ : " طَلَاقًا " . قَالَ : وَفِي " حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُطَلَّقَةٍ ؛ وَكَذَلِكَ فِي عِدَّتِهَا فِي بَيْتِهَا وَلَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً لَكَانَ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ . قُلْت : هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْخُلْعَ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً إذَا كَانَ طَلَاقًا كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ودَاوُد . وَابْنِ أَبِي عَاصِمٍ يُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ : مَذْهَبُهُ أَنَّ الْمَبْتُوتَةِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى ؛ عَلَى حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ : وَمِمَّنْ قَالَ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ : عُثْمَانُ بْنُ عفان وَابْنُ عُمَرَ وَمِمَّنْ قَالَ : فَسْخٌ ؛ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ : ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ . قُلْت : وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . أَنَّهُ ضَعَّفَ كُلَّ مَا يُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي " مُغْنِيهِ " هَذِهِ الرِّوَايَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " الشَّافِي " عَنْ أَحْمَد مِنْهُ نَقَلَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ ؛ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ فَقَالَ : وَأَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ يَقُولُونَ : عِدَّةُ الْمُخْتَلَعَة عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ . مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ . وَمِنْهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَابْنِ عُمَرَ ؛ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ : أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ . وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَحْمَد كَمَا { رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً } رَوَاهُ النَّسَائِي وَعَنْ الربيع بِنْتِ مُعَوِّذٍ مَثَل ذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه . قَالَ : وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْحَيَاةِ فَكَانَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ كَالْخُلْعِ . فَقَالَ : أَمَّا الْآيَةُ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُخْتَلَعَةَ مُطَلَّقَةٌ وَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ وَلَوْ قُدِّرَ شُمُولُ نَصِّ لَهَا فَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ وَالْآيَةُ قَدْ اسْتَثْنَى مِنْهَا غَيْرَ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ : كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَالْحَامِلِ وَالْأَمَةِ وَاَلَّتِي لَمْ تَحِضْ وَإِنَّمَا تَشْمَلُ الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ . فَيُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَلَا نُسَلِّمُ الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ النَّاسِ ؛ ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِالْمُفَارَقَةِ لِزَوْجِهَا وَقَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا الِاسْتِبْرَاءُ .
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ : هَلْ هِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ أبي ؟ أَوْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ ؟ أَوْ أُخْرَى ؟ فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا قِصَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ؛ وَإِمَّا أَنَّ أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ غَلَطٌ فِي اسْمِهَا وَهَذَا لَا يَضُرُّ مَعَ ثُبُوتِ الْقِصَّةِ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِاسْمِ امْرَأَتِهِ . وَقِصَّةُ خُلْعِهِ لِامْرَأَتِهِ مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ النُّقُولُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ . وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي { عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةِ : أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الصُّبْحِ فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَتْ أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : مَا شَأْنُك ؟ قَالَتْ : لَا أَنَا وَلَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ . لِزَوْجِهَا فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ قَدْ ذَكَرَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ فَقَالَتْ حَبِيبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ : خُذْ مِنْهَا فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا } . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَحَدِيثُ الِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةِ فِي حُجَّةِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَقَالَ : قَالُوا : فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ طَلَاقًا ؛ لَكِنَّهُ فَسْخٌ ؛ وَلَمْ يُذْكَرْ حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَّا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمُرْسَلِ ؛ وَقَالَ : أَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَسَاقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ ؛
وَفِيهِ عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ بِشَيْءِ ؛ وَأَمَّا خَبَرُ الربيع وَحَبِيبَةَ فَلَوْ لَمْ يَأْتِ غَيْرُهُمَا لَكَانَا حُجَّةً قَاطِعَةً ؛ لَكِنْ رُوِيَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ . وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } قَالَ : فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْخَبَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا وَإِذْ هُوَ طَلَاقٌ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ فَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ الربيع وَالزِّيَادَةُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا . فَيُقَالُ لَهُ : أَمَّا قَوْلُك عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ : إنَّهُ مُرْسَلٌ . فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي : مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ يُوسُفَ مُسْنَدًا كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ أَصْلِك : أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مِنْ الثِّقَةِ فَتَكُونُ مَقْبُولَةً وَالْحَدِيثُ قَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ . وَأَمَّا قَوْلُك عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ . فَيُقَالُ : قَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْبُخَارِيُّ فِي " كِتَاب أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُسْنِدِ : لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ أَبُو أَحْمَد بْنُ عَدِيّ : وَلَيْسَ لَهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي اعْتَرَفْت بِصِحَّتِهِ وَجَعَلْته حُجَّةً قَاطِعَةً لَوْلَا الْمَعَارِضُ : فَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ أَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا } .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَتْ : أَنَّ الطَّرِيقَ الْأُخْرَى فِيهِ زِيَادَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً وَالْمُطَلَّقَةُ تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ : فَلَيْسَ هَذَا زِيَادَةً ؛ بَلْ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِالطَّلْقَةِ هُنَا الْفَسْخَ : كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُعَارِضَةً لِتِلْكَ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ فِيهَا نَصٌّ بِأَنَّهَا تَلْحَقُ بِأَهْلِهَا مَعَ الْحَيْضَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا قَوْلُهُ : { أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ } لَكَانَ هَذَا بَيِّنًا فِي أَنَّهُ أَمَرَهَا بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ لَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا ؛ إذْ لَوْ أَمَرَهَا بِثَلَاثِ لَمَا جَازَ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : " أَمَرَهَا بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ " فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ : " وَتَلْحَقُ بِأَهْلِهَا " وَأَيْضًا فَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ مِنْ الطُّرُقِ يُعَاضِدُ هَذَا أَوْ يُوَافِقُ وَقَدْ عَضَّدَهَا عَمَلُ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَهُوَ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ طُرُقِ حَدِيثِهِ وَأَنَّهُ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ السُّنَّةَ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ . وَأَيْضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّاوِيَةِ الْأُخْرَى : " أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ " لَكَانَ هَذَا تَعَارُضًا فِي الرِّوَايَةِ يُنْظَرُ فِيهِ إلَى أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ . فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوْلُهُ : " وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " وَالرَّاوِي لِذَلِكَ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَصَاحِبُهُ وَهُمَا يَرْوِيَانِ أَيْضًا " أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ " وَهُمَا أَيْضًا يَقُولَانِ : الْخُلْعُ فِدْيَةٌ لَا تُحْسَبُ مِنْ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ . وَقَوْلُهُ : " وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " إنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقَالَ : الطَّلَاقُ
بِعِوَضِ لَا تُحْسَبُ فِيهِ الْعِدَّةُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ؛ وَيَكُونُ هَذَا مَخْصُوصًا مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ . وَإِذَا قِيلَ : هَذَا فِي الطَّلَاقِ بِعِوَضِ : فَهُوَ فِي الْخُلْعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ " طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " هُوَ الْخُلْعُ ؛ وَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّارِعِ بَيْنَ لَفْظِ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقُ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِعِوَضِ ؛ فَإِنَّ هَذَا فِدْيَةٌ ؛ وَلَيْسَ هُوَ الطَّلَاقَ الْمُطْلَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ السَّلَفِ ؛ وَهَذَا يَعُودُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجْعَلْ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ عِدَّةً عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ صَرِيحٌ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَفِيهِ الْعِدَّةُ . وَأَيْضًا : فَهَذَا إجْمَاعٌ فِيمَا نَعْلَمُهُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا نَازَعَ فِي هَذَا وَقَالَ : إنَّ الْخُلْعَ طَلْقَةٌ مَحْسُوبَةٌ مِنْ الثَّلَاثِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا عِدَّةَ فِيهِ . وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْمَنْقُولِ عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ . وَرَوَى يَحْيَى بْنُ بكير حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ سَمِعَ الربيع بِنْتَ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ وَهِيَ تُخْبِرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ فَجَاءَ عَمُّهَا إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ : إنَّ ابْنَةَ معيذ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْيَوْمَ أَفَتَنْتَقِلُ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ : لِتَنْتَقِلْ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ؛ إلَّا أَنَّهَا لَا تَنْكِحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَبَلٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : وَلَعُثْمَانُ خَيَّرَنَا وَأَعْلَمَنَا . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : فَهَذَا عُثْمَانُ والربيع وَلَهَا صُحْبَةٌ وَعَمُّهَا وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَابْنُ عُمَرَ : كُلُّهُمْ لَا يَرَى فِي الْفَسْخِ عِدَّةً .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ طَلَاقٌ كَمَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جمهان : أَنَّ أُمَّ بَكْرَةَ الأسلمية كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدً فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَنَدِمَا فَارْتَفَعَا إلَى عُثْمَانَ بْنِ عفان فَأَجَازَ ذَلِكَ وَقَالَ : هِيَ وَاحِدَةٌ ؛ إلَّا أَنْ تَكُونَ سَمَّيْت شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّيْت . وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : عِدَّةُ الْمُخْتَلَعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عفان حَدَّثَنَا هَمَّامُ عَنْ قتادة عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ } (1) ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ : حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قتادة عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرِيرَةَ بِأَرْبَعِ قَضَايَا : أَمَرَهَا أَنْ تَخْتَارَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ } . وَقَالَ : حَدَّثَنَا الحلواني حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ . . . (2) حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قتادة عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَحْسَبُهُ قَالَ فِيهِ : " تَعْتَدِّي عِدَّةَ الْخُلْعِ " فَهَذَا فَسْخٌ أَوْجَبَ فِيهِ الْعِدَّةَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : إنَّهُ لَا عِدَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الفسوخ ؛ إلَّا فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْقِيَاسِ ؛ وَلَيْسَ فِي النَّصِّ إيجَابُ الْعِدَّةِ فِي فَسْخٍ .
لَكِنَّ لَفْظَ " الِاعْتِدَادِ " يُسْتَعْمَلُ عِنْدَهُمْ فِي الِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُخْتَلَعَةِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ " أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ " وَقَالَتْ عَائِشَةُ فِي قَوْلِهِ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ وَالْمُرَادُ بِهَا : " الِاسْتِبْرَاءُ " ؛ فَإِنَّ الْمَسْبِيَّةَ لَا يَجِبُ فِي حَقِّهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةِ كَمَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أوطاس : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ؛ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } وَقَالَ فِيهِ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري فِي سَبَايَا أوطاس مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْخَلِيلِ { حَلَالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ } (*) وَفِي هَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ } وَأَبُو سَعِيدٍ رَوَى هَذَا وَهَذَا . وَعَلَى الْحَدِيثَيْنِ : أُمُّ الْوَلَدِ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ ؛ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ : وَأَحْسَبُهُ قَالَ : تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ . شَكٌّ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ . وَعَنْ أَحْمَد فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلَعَةِ رِوَايَتَانِ : ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فِي " كِتَاب الشَّافِي " قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي : " بَابٌ عِدَّةُ الْمُخْتَلَعَةِ وَالْمُلَاعَنَةِ وَامْرَأَة عصبى " وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ : أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عِدَّةُ كُلِّ مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثُ حِيَضٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ إلَّا الْأَمَةَ . قِيلَ لَهُ : الْمُخْتَلَعَةُ وَالْمُلَاعَنَةُ وَامْرَأَةُ الْمُرْتَدِّ ؟ قَالَ : نَعَمْ . كُلُّ فُرْقَةٍ عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ . وَعَنْ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي الْمُخْتَلَعَةِ تَعْتَدُّ مِثْلَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثَ حِيَضٍ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَد بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ . قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ : وَالْعَمَلُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ والعبادي : أَنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ مِنْ الْحَرَائِرِ عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَحَدِيثُ الْمُخْتَلِعَةِ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا قُلْت أَذْهَبُ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عفان . قُلْت ابْنُ الْقَاسِمِ كَثِيرًا مَا يَرْوِي عَنْ أَحْمَد الْأَقْوَالَ الْمُتَأَخِّرَةَ الَّتِي رَجَعَ إلَيْهَا كَمَا رَوَى عَنْهُ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ : إنَّهُ مُبَاحٌ وَأَنَّهُ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ الطَّلَاقَ إلَّا رَجْعِيًّا . وَهَكَذَا قَدْ يَكُونُ أَحْمَد ثَبَتَتْ عِنْدَهُ فِي الْمُخْتَلَعَةِ فَرَجَعَ إلَيْهَا فَقَوْلُهُ : عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ . لَا يَكُونُ إلَّا إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ ؛ وَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ . وَلِأَصْحَابِ أَحْمَد فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَجْهَانِ - وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : إنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ فَلَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عفان أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ رَجَعَ إلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ . وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عُثْمَانَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ وَالْمَشْهُورُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَآخِرُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ خِلَافُهُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ بِإِسْنَادِ ضَعِيفٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعِكْرِمَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ " الْمُشْرِكُونَ " عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ : كَانُوا مُشْرِكِينَ أَهْلَ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ وَمُشْرِكِينَ أَهْلَ عَهْدٍ لَا يُقَاتِلُهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَهُ فَكَانَ إذَا هَاجَرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إلَيْهِ وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ . وَلَهُمَا لِلْمُهَاجِرِينَ ؛ ثُمَّ ذُكِرَ فِي " أَهْلِ الْعَهْدِ " مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلَ الْعَهْدِ لَمْ يردوا وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُهَاجِرَةَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إذَا حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ : حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ فَلَمْ يَكُنْ يَجِبُ عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةِ ؛ لَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؛ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ وَطْءِ زَوْجٍ ؛ لَكِنْ زَالَ نِكَاحُهُ عَنْهَا بِإِسْلَامِهَا . فَفِي هَذَا أَنَّ الْفُرْقَةَ الْحَاصِلَةَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ - كَإِسْلَامِ امْرَأَةِ الْكَافِرِ - إنَّمَا يُوجِبُ اسْتِبْرَاءً بِحَيْضَةِ : وَهِيَ فَسْخٌ مِنْ الفسوخ ؛ لَيْسَتْ طَلَاقًا . وَفِي هَذَا نَقْصٌ لِعُمُومِ مَنْ يَقُولُ : كُلُّ فُرْقَةٍ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُولِ تُوجِبُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ . وَهَذِهِ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ ؛ لَكِنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ وَطْءِ كَافِرٍ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي امْرَأَةِ الْكَافِرِ هَلْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ ؟ أَمْ اسْتِبْرَاءٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ ؛ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا . وَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رَدِّ إنَاثِ عَبِيدِ الْمُعَاهِدِينَ : فَهُوَ نَظِيرُ رَدِّ مُهُورِ النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ مِنْ أَهْلِ الْهُدْنَةِ وَهُنَّ الْمُمْتَحَنَاتِ اللَّاتِي قَالَ اللَّهُ فِيهِنَّ : { إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } الْآيَةَ . وَمِنْ أَنَّهُ كَانَ إذَا هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا . فَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ : هَلْ تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةَ مُطْلَقًا ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا ؟ أَوْ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَإِذَا أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ؟ وَالْأَحَادِيثُ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَمِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَمِنْهَا حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ ؛ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ : أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { رَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي العاص بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا } وَفِي رِوَايَةٍ " بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ " وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ إسْحَاقَ ؛ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَتْ ؛ فَجَاءَ زَوْجُهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت أَسْلَمْت ؛ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي : فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَوْجِهَا الْآخَرِ ؛ وَرَدَّهَا إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ } وَفِي إسْنَادِهِ سِمَاكٌ .
فَقَدْ رَدَّهَا لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِهِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ : هَلْ أَسْلَمَا مَعًا ؟ أَوْ هَلْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ؟ وَتَرْكُ الاستفصال يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ عَامٌّ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا تَتَنَاوَلُهُ صُوَرُ السُّؤَالِ . وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ . وَإِذَا أَسْلَمَ عَلَى مَوَارِيثَ لَمْ تُقَسَّمْ قُسِّمَتْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ عَلَى عُقُودٍ لَمْ تُقْبَضْ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ فِيهَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ أَسْلَمَ رَقِيقُ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ ؛ بَلْ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ ؛ وَاسْتِمْتَاعِهِ بِإِمَائِهِ : أُمِّ وَلَدِهِ وَغَيْرِهَا وَالِاسْتِخْدَامُ فَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ حِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ غَيْرِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ رَقِيقُهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِمْ وَالدَّوَامُ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَعْجِيلِ الْفُرْقَةِ خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ بِالتَّوَقُّفِ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ ذَلِكَ فِيمَنْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِهِ مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ مَعَ كَثْرَةِ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَبَيْنَ اسْتِحْقَاقِهَا بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا . وَقِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الرَّجْعَةِ مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . " وَأَيْضًا " فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي السَّبَايَا : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ؛ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ } وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ إلَّا الْحَيْضُ ؛ أَوْ الْحَمْلُ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ ؛ وَالْأَمَةُ لَا يُتَصَوَّرُ هَذَا فِي حَقِّهَا فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إيجَابُ اسْتِبْرَاءٍ عَلَى مَنْ لَا تَحِيضُ
وَإِيجَابُ ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ الْقِيَاسِ ؛ وَلِهَذَا اضْطَرَبَ الْقَائِلُونَ بِهِ عَلَى أَقْوَالٍ كُلٌّ مِنْهَا مَنْقُوضٌ . " وَأَيْضًا " فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا ؛ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ مَوْطُوآتٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ . وَأَمَّا الْإِمَاءُ اللَّاتِي كُنَّ يَبِعْنَ عَلَى عَهْدِهِ فَلَمْ يَكُنَّ يوطأن فِي الْعَادَةِ ؛ بَلْ كُنَّ لِلِاسْتِخْدَامِ فِي الْغَالِبِ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَمْ يَطَأْهَا سَيِّدُهَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَبْرِئِ اسْتِبْرَاؤُهَا كَمَا لَا يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا إذَا تَزَوَّجَتْ ؛ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِي التَّزْوِيجِ : فَفِي التَّسَرِّي أَوْلَى وَأَحْرَى ؛ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْمُسْلِمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُوطَأُ فَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَلَا اسْتِبْرَاءٌ إذَا زُوِّجَتْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ إذَا وُطِئَتْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ : إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَحْمِلُ مِثْلُهَا لَمْ يَجِبْ اسْتِبْرَاؤُهَا لَا بِحَيْضِ وَلَا بِحَمْلِ . فَهَذَا مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا اسْتَبْرَؤهَا . . . (1) اسْتِبْرَاءً عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا لَمْ تُوطَأْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِبْرَاءٍ إذَا اسْتَبْرَأَهَا (2) ، وَكَذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ إلَّا عَلَى حَامِلٍ أَوْ مَوْطُوءَةٍ . وَإِلَيْهِ مَالَ الروياني .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مَشْرُوعٌ حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِبْرَاءِ الْحَامِلَ وَالْحَائِضَ مِنْ الْمَسْبِيَّاتِ اللَّاتِي لَا تُعْلَمُ حَالُهُنَّ . فَأَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِبْرَاءِ . وَحَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلٌ . " وَالْقُرْآنُ " لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ الْعِدَّةِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ إلَّا عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ ؛ لَا عَلَى مَنْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا عَلَى مَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ وَلَا عَلَى الْمَزْنِيِّ بِهَا . فَإِذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ الْمُخْتَلَعَةَ إنَّمَا عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ بِحَيْضَةِ الَّذِي هُوَ اسْتِبْرَاءٌ فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ وَالْمَزْنِيُّ بِهَا أَوْلَى بِذَلِكَ كَمَا هُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فِي الْمُخْتَلَعَةِ ؛ وَفِي الْمَزْنِيِّ بِهَا . وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ دُونَ الْمَزْنِيِّ بِهَا ؛ وَدُونَ الْمُخْتَلَعَة . . فَبِأَيِّهِمَا أُلْحِقَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا إلَّا الِاعْتِدَادُ بِحَيْضَةِ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ . " وَالِاعْتِبَارُ " يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ وَلَهَا مُتْعَةٌ بِالطَّلَاقِ وَنَفَقَةٌ وَسُكْنَى فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ فَإِذَا أُمِرَتْ أَنْ تَتَرَبَّصَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِحَقِّ الزَّوْجُ ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ ارْتِجَاعِهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ : كَانَ هَذَا مُنَاسِبًا وَكَانَ لَهُ فِي طُولِ الْعِدَّةِ حَقٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ إذَا وَجَبَتْ ؛ فَإِذَا مَسَّهَا كَانَ لَهُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِأَجْلِ مَسِّهِ لَهَا وَكَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا وَلَهَا بِإِزَاءِ ذَلِكَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كَمَا لَهَا مَتَاعٌ لِأَجْلِ الطَّلَاقِ . أَمَّا غَيْرُ الْمُطَلَّقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى وَلَا مَتَاعٌ وَلَا لِلزَّوْجِ الْحَقُّ بِرُجْعَتِهَا : فَالتَّأَكُّدُ مِنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ تَحْصُلُ بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ كَمَا يَحْصُلُ فِي الْمَمْلُوكَاتِ وَكَوْنُهَا حُرَّةً لَا أَثَرَ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتَدُّ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِحَيْضَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ : فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنْهَا . وَاَلَّتِي فُورِقَتْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى وَلَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا وَلَا مَتَاعَ : هِيَ بِمَنْزِلَتِهَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْمُطَلَّقَةِ آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَلَا رَجْعَةَ وَمَعَ هَذَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ ؟ قِيلَ : هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ لَهَا الْمُتْعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَلَهَا النَّفَقَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَلَهَا السُّكْنَى مَعَ ذَلِكَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ : فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَتَاعٍ أَوْ سُكْنَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . فَإِذَا وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِإِزَاءِ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَا لَيْسَ فِي إيجَابِهَا عَلَى مَنْ لَا مَتَاعَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ
لَمَّا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَنْ تَعْتَدَّ و أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ أَمَرَهَا بِالِانْتِقَالِ إلَى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ } وَالْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ أَنْ تَعْتَدَّ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا : فَهُوَ الْحَقُّ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ . وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إنَّمَا عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ لَا الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ : فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ طُولَ الْعِدَّةِ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهَا جُعِلَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ . فَمَنْ لَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا لَا تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ؛ وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ ؛ لَا يُخَالِفُهُ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ إلَّا مَا يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْمَعْرُوفَ لَا يُخَالِفُهُ . فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ قَضَتْ السُّنَّةُ كَانَ حَقًّا مُوَافِقًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ . وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْأَوَّلُ بِخِلَافِ الْمُخْتَلَعَةِ فَإِنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ فِيهَا بِمَا ذُكِرَ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ ؛ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا مَا يُوَافِقُهُ لَا يُخَالِفُهُ ؛ فَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا . وَالْمَعَانِي الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ الِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَالِاسْتِبْرَاءِ إنْ عَلِمْنَاهَا وَإِلَّا فَيَكْفِينَا اتِّبَاعُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الطَّاهِرَةُ الْمَعْرُوفَةُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْمَسْبِيَّاتِ اللَّاتِي يَبْتَدِئُ الرِّقُّ عَلَيْهِنَّ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي فِيهِ : أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ وَطْأَهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ لَمَّا تَحَرَّجُوا مِنْ
وَطْئِهِنَّ وَأَنْزَلَ فِي ذَلِكَ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَقَالَ فِيهِ : إنَّ أَجَلَّ وَطْئِهِنَّ إذَا نَقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ . { وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَبْيِ أوطاس : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ } وَرُوِيَ : " حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً " وَالْعُلَمَاءُ عَامَّةً إنَّمَا يُوجِبُونَ فِي ذَلِكَ اسْتِبْرَاءً بِحَيْضَةِ وَهُوَ اعْتِدَادٌ مِنْ وَطْءِ زَوْجٍ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَوَطْؤُهُ مُحْتَرَمٌ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا حَرْبِيًّا فَإِنَّ مُحَارَبَتَهُ أَبَاحَتْ قَتْلَهُ وَأَخْذَ مَالِهِ وَاسْتِرْقَاقَ امْرَأَتِهِ . عَلَى نِزَاعٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ لَا خِلَافَ أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهِ ثَابِتٌ مِنْهُ وَأَنَّ مَاءَهُ مَاءٌ مُحْتَرَمٌ لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ قَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ : { أَنَّهُ أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ مُجِحٍّ عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ فَقَالَ : لَعَلَّ سَيِّدَهَا يُلِمُّ بِهَا قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ } و { نَهَى أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } . لَكِنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ لَمْ يُفَارِقْهَا زَوْجُهَا بِاخْتِيَارِهِ ؛ لَا بِطَلَاقِ ؛ وَلَا غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ طريان الرِّقِّ عَلَيْهَا أَزَالَ مِلْكَهُ إلَى الْمُسْتَرِقِّ أَوْ اشْتِبَاهُ زَوْجِهَا بِغَيْرِهِ أَزَالَ ذَلِكَ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحِ زَالَ عَنْ امْرَأَةٍ ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ . وَلَوْ أَنَّ الْكَافِرَ تَحَاكَمَ إلَيْنَا هُوَ وَامْرَأَتُهُ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ
لَأَلْزَمْنَاهَا
بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ : فَعُلِمَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ
مُطْلَقًا وَأَنَّ هَذِهِ لَمَّا زَالَ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ . فَلَا يُقَالُ : إنَّ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ
مُفَارَقَةِ زَوْجٍ فِي الْحَيَاةِ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ ؛ بَلْ هَذَا
مَنْقُوضٌ بِهَذِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ .
فَصْلٌ :
وَهَذَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ أَكَابِرِ
الصَّحَابَةِ - كَعُثْمَانِ وَغَيْرِهِ - مِنْ أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلَعَة :
حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ : يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ فِي مَسْأَلَةِ " تَدَاخُلِ
الْعِدَّتَيْنِ " : كَمَا إذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ فِي عِدَّتِهَا
بِمَنْ أَصَابَهَا ؛ فَإِنَّ الْمَأْثُورَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَعُمَرِ وَعَلِيٍّ :
أَنَّهَا تُكْمِلُ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي
فَعَلَيْهَا تَمَامُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَعِدَّةٌ لِلثَّانِي . وَبِهِ أَخَذَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَاخْتَلَفَ
عُمَرُ وَعَلِيٌّ : هَلْ تُبَاحُ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ ؟
فَقَالَ عُمَرُ : لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا . وَبِهِ أَخَذَ مَالِك . وَقَالَ
عَلِيٌّ : هُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ . وَعَنْ
أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا
إلَّا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الثَّانِي وَتُدْخِلُ فِيهَا بَقِيَّةَ عِدَّةِ
الْأَوَّلِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَنْقُولٌ عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ لَكِنْ لَمْ نَعْرِفْ لِذَلِكَ إسْنَادًا . فَنَقُولُ
بِتَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ ؛ فَإِنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ لَهُ ؛ إذْ لَوْ أَرَادَ
الزَّوْجُ إسْقَاطَهَا لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَدَخَلَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ :
كَالْحُدُودِ ؛ وَالْكَفَّارَاتِ ؛ فَإِنَّهُ
لَوْ سَرَقَ ثُمَّ سَرَقَ : لَمْ يُقْطَعْ إلَّا يَدٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ شَرِبَ ؛ ثُمَّ شَرِبَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ . فَالْحُدُودُ وَجَبَتْ فِي جِنْسِ الذَّنْبِ ؛ لَا فِي قَدْرِهِ . وَلِهَذَا تَجِبُ بِسَرِقَةِ الْمَالِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ ؛ وَتَجِبُ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُ جِنْسُ الذَّنْبِ ؛ لَا قَدْرُهُ . فَإِذَا لَمْ يَفْتَرِقْ الْحُكْمُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي الْقَدْرِ لَمْ يَفْتَرِقْ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَعَدِّهِ ؛ فَإِنَّ الْجَمِيعَ مِنْ جِنْسِ الْقَدْرِ وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ إذَا وَطِئَ ثُمَّ وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَكْفُرَ . فَمَنْ قَالَ بِتَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ قَالَ : عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنْ سَبَّبَهَا الْوَطْءُ لَيْسَتْ مِثْلَ عِدَّةِ الْوَفَاةِ الَّتِي سَبَّبَهَا الْعَقْدُ ؟ وَهِيَ تَجِبُ مَعَ قَلِيلِ الْوَطْءِ وَكَثِيرِهِ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لَهَا جِنْسُ الْوَطْءِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ . وَطَرَدَهُ لَوْ اشْتَرَى أَمَةً قَدْ اشْتَرَكَ فِي وَطْئِهَا جَمَاعَةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا إلَّا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ ؛ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ جَمَاعَةً . وَقَدْ نُوزِعُوا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَقِيلَ : بَلْ تُسْتَبْرَأُ لِكُلِّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ اسْتِبْرَاءً وَاحِدًا إذَا كَانَتْ فِي مِلْكِهِمَا . فَأَمَّا إذَا بَاعَاهَا لِغَيْرِهِمَا : فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ إنَّ الْأَمَةَ الْمَمْلُوكَةَ بِسَبْيٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ إرْثٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَيْهَا استبراءات مُتَعَدِّدَةٌ بِعَدَدِ الْوَاطِئِينَ . وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رِجْلٌ جَارِيَةً وَبَاعَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي إلَّا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ . قَالَ الْفُقَهَاءُ : وَلَا نَقُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا مَرَّتَيْنِ . وَاعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ سَبَّبَهُ تَعَدُّدُ الْمِلْكِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُونَ الِاسْتِبْرَاءَ إذَا أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ قَدْ وَطِئَهَا وَيُوجِبُونَهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهَا ؛ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ سَبَبَهَا الرِّقُّ . وَالْكَلَامُ فِي عِدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
" وَالْمَقْصُودُ " هُنَا : أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا قَالَ يَتَعَدَّدُ ؛ وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا فَإِنَّ السُّنَّةَ تَخْصِمُهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ إلَّا بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْرَاءِ حَيْثُ قَالَ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ } فَعَلَّقَ الْحِلَّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَمْ يُفَرِّقْ وَإِذَا كَانَ الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعِدَّةِ وَلَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْوَاطِئِ : فَالْعِدَّةُ كَذَلِكَ . هَذَا مَا يَحْتَجُّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا : الْعِدَّةُ فِيهَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ } الْآيَةَ . قَالُوا : فَقَدْ نَفَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ عِدَّةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَلَيْسَ هُنَا عِدَّةٌ لِغَيْرِ الرِّجَالِ فَعَلِمَ أَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقٌّ لِلرِّجَالِ حَيْثُ وَجَبَتْ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عِدَّةٌ فَلَوْ كَانَتْ الْعِدَّةُ حَقًّا مَحْضًا لِلَّهِ لَمْ يَقُلْ : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } إذْ لَا عِدَّةَ لَهُمْ لَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَتْ الْعِدَّةُ نَوْعَيْنِ نَوْعًا لِلَّهِ وَنَوْعًا فِيهِ حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ : لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ عِدَّةِ الْأَزْوَاجِ مَا يَنْفِي الْعِدَّةَ الْأُخْرَى فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ حَيْثُ وَجَبَتْ فَفِيهَا حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَتْ الْعِدَّةُ فِيهَا حَقٌّ لِرَجُلَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ حَقُّ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ؛ فَإِنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَتَدَاخَلُ كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ دَيْنَانِ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ كَانَ لَهُمَا عِنْدَهُ أَمَانَةٌ أَوْ غَصْبٌ ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ .
وَاحْتَجُّوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ يَقُولُ : لَوْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْمُدَّةُ حَقًّا مَحْضًا لِلزَّوْجِ ؛ لَأَنَّ الذِّمِّيَّةَ لَا تُؤَاخَذُ بِحَقِّ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُهَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا ذِمِّيًّا وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الْعِدَّةِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَهُ الْأَكْثَرُونَ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَلِمَا قَضَى بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ لَا سِيَّمَا وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ ؛ وَإِنْ ثَبَتَ فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ إذَا خَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ كَانَ قَوْلُهُمْ هُوَ الرَّاجِحَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي : تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . لَكِنْ مِنْ تَمَامِ كَوْنِ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ عَلَى الْمَرْأَةِ وَهُوَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } فَأَمَرَهُنَّ بِالتَّرَبُّصِ ؛ وَجَعَلَ الرَّجُلَ أَحَقّ بِرَدِّهَا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ طَلَاقٌ إلَّا طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ : إلَّا الثَّالِثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَذَلِكَ طَلَاقٌ أَوْجَبَ تَحْرِيمَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ بِعَقْدِ يَكُونُ بِرِضَاهَا وَرِضَا وَلَيِّهَا ؛ فَكَيْفَ تُبَاحُ بِالرَّجْعَةِ . أَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي تُبَاحُ لِزَوْجِهَا فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّ زَوْجَهَا أَحَقّ بِرُجْعَتِهَا فِي الْعِدَّةِ بِدُونِ عَقْدٍ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ طَلَاقٌ بَائِنٌ تُبَاحُ فِيهِ بِعَقْدِ وَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ أَحَقّ بِهَا ؛ بَلْ مَتَى كانت حَلَالًا لَهُ كَانَ أَحَقّ بِهَا .
وَعَلَى هَذَا فَيَظْهَرُ كَوْنُ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلرَّجُلِ . فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهَا الرَّجْعَةَ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْجَبَتْ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ الَّتِي تُبَاحُ فِيهِ بِعَقْدِ ؛ فَإِنَّهُ هُنَا لَا حَقَّ لَهُ إذْ النِّكَاحُ إنَّمَا يُبَاحُ بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا ؛ وَلِهَذَا طَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلَهُ ؛ لَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ يَنْقَسِمُ إلَى : بَائِنٍ وَرَجْعِيٍّ وَلَهُ أَنْ يُوقِعَ الْبَائِنَ بِلَا رِضَاهَا . جَعَلَ الرَّجْعَةَ حَقًّا مَحْضًا لِلزَّوْجِ : لَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا وَلَهُ أَلَّا يُسْقِطَهَا ؛ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهَا ؛ فَلَا تَكُونُ حَقًّا لَهُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقِ ؛ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلتَّسْوِيَةِ . وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ فِيهِ عِدَّةٌ عَلَى الْمَرْأَةِ كَمَا يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ ؛ بَلْ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ بِحَيْضَةِ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةِ حَقٌّ لِلَّهِ ؛ لِأَجْلِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ مَوْطُوءَةٍ سَوَاءٌ وُطِئَتْ بِنِكَاحِ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ لِبَرَاءَةِ رَحِمَهَا مِنْ مَاءِ الْوَاطِئِ الْأَوَّلِ ؛ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاؤُهُ بِمَاءِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِالزِّنَى ؛ لِأَجْلِ مَاءِ الْوَاطِئِ الثَّانِي ؛ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاؤُهُ بِمَاءِ الزَّانِي . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِك وَأَحْمَد . وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُخْتَلَعَة إلَّا عِدَّةٌ بِحَيْضَةِ : فَعَلَى الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا أَوْلَى ؛ فَإِنَّهُ لَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا . وَلَا نَفَقَةَ لَهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَفِي حَدِيثِ طليحة أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي أَتَمَّتْ عِدَّةَ زَوْجِهَا وَإِنْ دَخَلَ بِهَا أَتَمَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا لِلْأَوَّلِ ثُمَّ اعْتَدَّتْ لِلثَّانِي . وَكَذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُ قَضَى أَنَّهَا تَأْتِي بِبَقِيَّةِ عِدَّتِهَا لِلْأَوَّلِ ثُمَّ تَأْتِي لِلثَّانِي بِعِدَّةِ مُسْتَقْبَلَةٍ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَإِنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَنْكِحْ ؟
قِيلَ : نَعَمْ . لَكِنَّ لَفْظَ " الْعِدَّةِ " فِي كَلَام السَّلَفِ يُقَالُ عَلَى الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ وَعَلَى الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ . وَحِينَئِذٍ فَعُمَرُ وَعَلِيٌّ إنْ كَانَ قَوْلُهُمَا فِي الْمُخْتَلَعَة وَنَحْوِهَا أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ فَيَكُونَانِ أَرَادَا أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ . وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ : فَيَكُونُ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ ؛ فَإِنَّ عُثْمَانَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّ الْمُخْتَلَعَة تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ . وَإِنْ قِيلَ : بَلْ قَدْ نَقُولُ : تَعْتَدُّ الْمُخْتَلَعَة بِحَيْضَةِ وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ : فَهَذَا الْقَوْلُ إذَا قِيلَ بِهِ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ اخْتَلَفَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ هَلْ تُبَاحُ لِلثَّانِي ؟ فَقَالَ عُمَرُ : لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا . وَقَالَ عَلِيٌّ : إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا - يَعْنِي مِنْ الثَّانِي - فَإِنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَنْكِحْ . وَلَوْ كَانَ وَطْءُ الثَّانِي كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ لَمْ يَمْنَعْ الْأَوَّلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَوْ وَطِئَتْ امْرَأَتُهُ بِشُبْهَةِ لَمْ يَزَلْ نِكَاحُهُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ يَعْتَزِلُهَا حَتَّى تَعْتَدَّ وَلَوْ وُطِئَتْ الرَّجْعِيَّةُ بِشُبْهَةِ لَمْ يُسْقِطْ حَقَّ الزَّوْجِ شَيْءٌ ؟ قِيلَ : أَوَّلًا هَذَا السُّؤَالُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِقَدْرِ الْعِدَّةِ فَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعِدَّةُ اسْتِبْرَاءً بِحَيْضَةِ أَوْ كَانَتْ بِتَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ . هَذَا وَارِدٌ فِي الصُّورَتَيْنِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الزَّوْجَ الْمُطَلِّقَ الَّذِي اعْتَدَّتْ مِنْ وَطْئِهِ إنْ كَانَ طَلَّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ وَأَمَّا إنْ فَارَقَهَا فُرْقَةً بَائِنَةً كَالْخُلْعِ - وَنَكَحَتْ فِي مُدَّةِ اعْتِدَادِهَا مِنْهُ : مِثْلَ أَنْ تَنْكِحَ قَبْلَ أَنْ تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ : فَهُنَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا فَإِنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدِ
جَدِيدٍ ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ بِعَقْدِ جَدِيدٍ ؛ فَإِنَّ الْعِدَّةَ مِنْ الْغَيْرِ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ دَوَامَهُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِعِدَّةِ ؛ لَا مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ وَلَا نِكَاحٍ فَاسِدٍ ؛ بَلْ وَلَا زِنًى ؛ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ أَوْ زِنًى لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهُ ؛ بَلْ يَجْتَنِبُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ثُمَّ يَطَؤُهَا . وَإِذَا قِيلَ : فَهَذِهِ مُعْتَدَّةٌ مِنْ الْوَطْءِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِهَا فِي الْعِدَّةِ ؟ قِيلَ : " أَوَّلًا " هَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِقَدْرِ الْعِدَّةِ . وَقِيلَ " ثَانِيًا " لَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ يُبِيحُ لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ أَنْ تَنْكِحَ فِي عِدَّتِهَا ؛ لَكِنْ الْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ الْمُخْتَلَعَة ؛ إذْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِغَيْرِ النَّاكِحِ . فَأَمَّا إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةً مِنْ غَيْرِهِ : فَهُنَا الْمَانِعُ كَوْنُهَا مُعْتَدَّةً مِنْ غَيْرِهِ كَمَا يُمْنَعُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ ؛ فَإِنَّ الْخَلِيَّةَ مِنْ عِدَّتِهَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا ؛ وَإِذَا كَانَ بِعِدَّةِ مِنْ الْغَيْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ . فَالْعِدَّةُ لَيْسَتْ مَانِعَةً مِنْ النِّكَاحِ وَلَا مُوجِبَةً لِحِلِّهِ وَانْتِفَاءُ مَانِعٍ وَاحِدٍ لَا يُبِيحُ الْغَيْرَ إذَا وُجِدَ مَانِعٌ آخَرُ ؛ وَلَكِنْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْهُ وَجَبَتْ لِإِبَاحَةِ عَقْدِهِ . وَهَذَا غَلَطٌ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ رَجْعِيًّا فَارْتِجَاعُهُ إيَّاهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهَا مِنْهُ كَارْتِجَاعِهِ لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ فِي عِدَّتِهَا مِنْ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَكَذَلِكَ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلِيٌّ : أَنَّ الثَّانِيَ لَا يَنْكِحُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَيَجُوزُ عِنْدَهُ لِلثَّانِي أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ لِلْوَاطِئِ بِشُبْهَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَوْطُوءَةَ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ . وَأَحْمَد لَهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ رِوَايَتَانِ . " إحْدَاهُمَا " لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ مَاءِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَمَاءِ الْمُبَاحِ الْمَحْضِ . " وَالثَّانِي " يَجُوزُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَاحِقٌ فِي كِلَيْهِمَا . وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ جَوَّزَ لِلثَّانِي أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ نَصَّهُ وَقَالَ هُنَا : كَانَ يَذْكُرُ فِيهَا عِدَّةً مَنْ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْوَاطِئُ الثَّانِي لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ عَقِبَ مُفَارَقَتِهِ لَهَا ؛ بَلْ تَخَلَّلَ بَيْنَ مُفَارَقَتِهِ وَعِدَّتُهُ عِدَّةُ الْأَوَّلِ وَهِيَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ لَهُمَا وَتَقْدِيمُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ كَانَ لِقِدَمِ حَقِّهِ ؛ وَإِلَّا فَلَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا أَلْحَقَ بِالثَّانِي لَكَانَتْ عِدَّةَ الثَّانِي مُتَقَدِّمَةً عَلَى عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَهِيَ فِي أَيَّامِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهَا حَقٌّ لِلثَّانِي وَفِي الِاعْتِدَادِ
مِنْ
الثَّانِي عَلَيْهَا حَقٌّ لِلْأَوَّلِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ وَضَعَتْ
وَلَدًا بَعْدَ اعْتِدَادِهَا مِنْ الْأَوَّلِ وَأَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْ
الْأَوَّلِ وَالثَّانِي عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ . فَإِذَا كَانَ لِلْأَوَّلِ
حَقٌّ فِي مُدَّةِ عِدَّتِهَا مِنْ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ . فَهَذَا أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ نَصُّ أَحْمَد
وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَقَدْ تَبِعَهُ الْجَدُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
فِي " مُحَرَّرِهِ " . وَأَمَّا مِقْدَارُ الْعِدَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا
عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَيْنِ فِي الْمُخْتَلَعَة فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ
يُقَالَ فِي الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا : إنَّمَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ
كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَهِيَ مَعَهُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ
فَقَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي . فَقَالَ : إنْ أبرأتيني فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ
. أَبْرَأَك اللَّهُ مِمَّا يَدَّعِي النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ . فَقَالَ لَهَا
: أَنْتِ طَالِقٌ . وَظَنَّ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ الْحُقُوقِ وَهُوَ شَافِعِيُّ
الْمَذْهَبِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا تَدَّعِي النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ إذَا كَانَتْ
رَشِيدَةً .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ : طَلِّقْنِي وَأَنَا أَبْرَأَتْك مِنْ
جَمِيعِ حُقُوقِي عَلَيْك ؛ وَآخُذُ الْبِنْتَ بِكِفَايَتِهَا يَكُونُ لَهَا
عَلَيْك مِائَةُ دِرْهَمٍ . كُلُّ يَوْمٍ سُدُسُ دِرْهَمٍ . وَشَهِدَ الْعُدُولُ
بِذَلِكَ فَطَلَّقَهَا عَلَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الْإِبْرَاءِ أَوْ الْكَفَالَةِ :
فَهَلْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِفَرْضِ الْبِنْتِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا خَالَعَهَا عَلَى أَنْ تُبْرِئَهُ مِنْ حُقُوقِهَا وَتَأْخُذَ الْوَلَدَ
بِكَفَالَتِهِ وَلَا تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ . صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ
الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ
وَغَيْرِهِمَا ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَصِحُّ الْخُلْعُ بِالْمَعْدُومِ
الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ كَمَا تَحْمِلُ أَمَتُهَا وَشَجَرُهَا . وَأَمَّا
نَفَقَةُ حَمْلِهَا وَرِضَاعُ وَلَدِهَا وَنَفَقَتُهُ . فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ
وُجُودِهِ وَجَوَازِهِ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي وَأَنَا
أَبْرَأْتُك مِنْ حُقُوقِي وَأَنَا آخُذُ الْوَلَدَ بِكَفَالَتِهِ . وَأَنَا
أَبْرَأْتُك مِنْ نَفَقَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ .
وَإِذَا خَالَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ يَرَى صِحَّةَ مِثْلِ هَذَا
الْخُلْعِ - كَالْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ - لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْقُضَهُ
وَإِنْ رَآهُ فَاسِدًا وَلَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ
عَلَيْهِ
بَعْدَ هَذَا نَفَقَةً لِلْوَلَدِ ؛ فَإِنْ فَعَلَ الْحَاكِمُ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ
حَكَمَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَالْحَاكِمُ متى عَقَدَ عَقْدًا
سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أَوْ فَسَخَ فَسْخًا جَازَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ : لَمْ
يَكُنْ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِصِهْرِهِ : إنْ جِئْت لِي بِكِتَابِي وَأَبْرَأْتَنِي مِنْهُ
فَبِنْتُك طَالِقٌ ثَلَاثًا ؛ فَجَاءَ لَهُ بِكِتَابِ غَيْرِ كِتَابِهِ ؛
فَقَطَّعَهُ الزَّوْجُ وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ هُوَ كِتَابُهُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ :
أَبُو الزَّوْجَةِ : اشْهَدُوا عَلَيْهِ أَنَّ بِنْتِي تَحْتَ حِجْرِي وَاشْهَدُوا
عَلَيَّ أَنِّي أَبْرَأْته مِنْ كِتَابِهَا وَلَمْ يُعَيِّنْ مَا فِي الْكِتَابِ
ثُمَّ إنَّهُ مَكَثَ سَاعَةً وَجَاءَ أَبُو الزَّوْجَةِ بِحُضُورِ الشُّهُودِ ؛
وَقَالَ لَهُ : أَيَّ شَيْءٍ قُلْت يَا زَوْجُ ؟ فَقَالَ الزَّوْجُ اشْهَدُوا عَلَيَّ
أَنَّ بِنْتَ هَذَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ ادَّعَى أَنَّ هَذَا
الطَّلَاقَ الصَّرِيحَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ :
فَهَلْ يَقَعُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
قَوْلُهُ الْأَوَّلُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَإِنْ لَمْ يُبْرِهِ لَمْ
يَقَعْ الطَّلَاقُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي فَهُوَ إقْرَارُ مِنْهُ ؛
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ وَقَعَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَقَعْ
فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِالثَّانِي شَيْءٌ
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ فَحَلَفَ أَبُوهَا أَنَّهُ مَا يُخَلِّيهَا مَعَهُ
وَضَرَبَهَا وَقَالَ لَهُ أَبُوهَا : أَبْرِئِيهِ . فَأَبْرَأَتْهُ وَطَلَّقَهَا
طَلْقَةً ؛ ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهَا لَمْ تُبْرِهِ إلَّا خَوْفًا مِنْ أَبِيهَا :
فَهَلْ تَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ الطَّلْقَةُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْهُ مُكْرَهَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ
يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ . وَإِنْ
كَانَتْ تَحْتَ حِجْرِ الْأَبِ وَقَدْ رَأَى الْأَبُ أَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ
لَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بِنْتٍ يَتِيمَةٍ تَحْتَ الْحِجْرِ مُزَوَّجَةٍ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ : إنْ
أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا : فَمِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ
وَالْفَزَعِ أَوْهَبَتْهُ . ثُمَّ رَجَعَتْ فَنَدِمَتْ : هَلْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ
. وَلَا يَحْنَثُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَكْرَهَهَا عَلَى الْهِبَةِ أَوْ كَانَتْ تَحْتَ الْحِجْرِ : لَمْ تَصِحَّ
الْهِبَةُ ؛ وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ كَسَاهَا كُسْوَةً مُثَمَّنَةً : مِثْلَ مَصَاغٍ
وَحُلِيٍّ وَقَلَائِدَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ كُسْوَةِ الْقِيمَةِ
وَطَلَبَتْ مِنْهُ الْمُخَالَعَةَ وَعَلَيْهِ مَالٌ كَثِيرٌ مُسْتَحِقٌّ لَهَا
عَلَيْهِ وَطَلَبَ حِلْيَةً مِنْهَا لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى حَقِّهَا أَوْ عَلَى
غَيْرِ حَقِّهَا فَأَنْكَرَتْهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَحْلِفُ وَتَأْخُذُ الَّذِي
ذَكَرَهُ عِنْدَهَا وَالثَّمَنُ يَلْزَمُهُ ؛ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ
عَلَيْهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ الزَّائِدَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى وَجْهِ
التَّمْلِيكِ لَهَا فَقَدْ مَلَكَتْهُ وَلَيْسَ لَهُ إذَا طَلَّقَهَا هُوَ
ابْتِدَاءً أَنْ يُطَالِبَهَا بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْكَارِهَةَ
لِصُحْبَتِهِ وَأَرَادَتْ الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ : فَلْتُعْطِهِ مَا أَعْطَاهَا
مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الصَّدَاقِ الَّذِي سَاقَهُ إلَيْهَا وَالْبَاقِي فِي
ذِمَّتِهِ ؛ لِيَخْلَعَهَا كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ حَيْثُ
أَمَرَهَا بِرَدِّ مَا أَعْطَاهَا } . وَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا لِتَتَجَمَّلَ
بِهِ كَمَا يُرْكِبُهَا دَابَّتَهُ وَيُحْذِيهَا غُلَامَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لَا عَلَى
وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِلْعَيْنِ : فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ
يَرْجِعَ
فِيهِ
مَتَى شَاءَ ؛ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا . وَإِنْ تَنَازَعَا
هَلْ أَعْطَاهَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ ؟ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ؟
وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ يَقْضِي بِهِ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ
أَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهَا ذَلِكَ . وَإِنْ تَنَازَعَا هَلْ أَعْطَاهَا شَيْئًا
أَوْ لَمْ يُعْطِهَا وَلَمْ يَكُنْ حُجَّةٌ يَقْضِي لَهُ بِهَا ؛ لَا شَاهِدٌ
وَاحِدٌ وَلَا إقْرَارٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ
يَمِينِهَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ بَاعَ شَيْئًا مِنْ قُمَاشِهِ فَخَاصَمَتْهُ زَوْجَتُهُ لِأَجْلِ
أَنَّهُ بَاعَ قُمَاشَهُ وَحَصَلَ بَيْنَهُمَا شَنَآنٌ عَلَيْهِ وَهُمْ فِي الْخِصَامِ
وَجَاءَ نَاسٌ مِنْ قَرَابَتِهَا فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّاسِ الَّذِينَ حَضَرُوا
: هَذِهِ الْمَرْأَةُ إنْ لَمْ تَقْعُدْ مِثْلَ النَّاسِ وَإِلَّا تَخَلَّى
وَتَزَوَّجَ . ثُمَّ قَالَ : إنْ أَعْطَيْتِنِي كِتَابَك لِهَذَا الرَّجُلِ كُنْت
طَالِقًا ثَلَاثًا وَكَانَ نِيَّتُهُ أَنَّهَا تُبْرِئُهُ فَحَنِقَتْ وَأَعْطَتْ
الْكِتَابَ لِلرَّجُلِ : فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ إعْطَاءَ الْكِتَابِ عَلَى وَجْهِ الْإِبْرَاءِ
فَأَعْطَتْهُ عَطَاءً مُجَرَّدًا وَلَمْ تُبْرِئْهُ مِنْهُ : لَمْ يَقَعْ بِهِ
الطَّلَاقُ . وَإِذَا قَالَ : كَانَ مَقْصُودَيْ الْإِعْطَاءَ فِي ذَلِكَ ؛ إذْ
لَا غَرَضَ لَهُ إلَّا فِي الْإِبْرَاءِ وَتَسْلِيمُ الصَّدَاقِ يَمْنَعُ مِنْ
الِادِّعَاءِ بِهِ وَمُجَرَّدُ إيدَاعِهِ فَلَا غَرَضَ لَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَالِكِيِّ الْمَذْهَبِ حَصَلَ لَهُ نَكَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِ
زَوْجَتِهِ فَحَضَرَ قُدَّامَ الْقَاضِي . فَقَالَ الزَّوْجُ لِوَالِدِ
الزَّوْجَةِ : إنْ أَبْرَأَتْنِي ابْنَتُك أَوْقَعْت عَلَيْهَا الطَّلَاقَ .
فَقَالَ وَالِدُهَا أَنَا أَبْرَأْتُك . فَحَضَرَ الزَّوْجُ وَوَالِدُ الزَّوْجَةِ
قُدَّامَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَأَبْرَأَهُ وَالِدُهَا بِغَيْرِ حُضُورِهَا
وَبِغَيْرِ إذْنِهَا : فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي
الْمَنْصُوصِ الْمَعْرُوفِ عَنْهُمْ : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ
عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ ابْنَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ
لَمْ تَكُنْ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِمَالِهَا فَلَا يَمْلِكُهُ كَمَا لَا
يَمْلِكُ إسْقَاطَ سَائِرِ دُيُونِهَا . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يُخَالِعَ عَنْ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِكْرًا كانت أَوْ ثَيِّبًا لِكَوْنِهِ يَلِي
مَالَهَا وَرُوِيَ عَنْهُ : أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ
مُطْلَقًا ؛ لِكَوْنِهِ يُجْبِرُهَا عَلَى النِّكَاحِ . وَرُوِيَ عَنْهُ :
يُخَالِعُ عَنْ ابْنَتِهِ مُطْلَقًا كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِدُونِ
مَهْرِ الْمِثْلِ لِلْمَصْلَحَةِ وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهًا فِي مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي حَقِّ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُخَالِعَهَا بِالْإِبْرَاءِ مِنْ نِصْفِ مَهْرِهَا إذَا قُلْنَا : إنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْوَلِيُّ ؛ وَخَطَّأَهُ بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ بَعْدَ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ إسْقَاطَ حَقِّهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ فَجَوَازُ ذَلِكَ لِمَنْفَعَتِهَا وَهُوَ يَخْلَعُهَا مِنْ الزَّوْجِ أَوْلَى ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ كُلِّهِمْ أَنْ يَخْتَلِعَهَا مِنْ الزَّوْجِ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهِ ؛ وَكَذَلِكَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِمَالِهَا إذَا ضَمِنَ ذَلِكَ الزَّوْجُ . فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَخْتَلِعَهَا وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا ضَرَرٌ إلَّا إسْقَاطُ نِصْفِ صَدَاقِهَا . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ يُخَرَّجُ عَلَى أُصُولِ أَحْمَد مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا أَنَّ الْأَبَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَيَخْلَعَ امْرَأَةَ ابْنِهِ الطِّفْلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ . وَمَالِكٌ يُجَوِّزُ الْخُلْعَ دُونَ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ فِي الْخَلْعِ مُعَاوَضَةً . وَأَحْمَد يَقُولُ : لَهُ التَّطْلِيقُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُ لِتَخْلِيصِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ وَضَرَرِهَا وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ فِي إسْقَاطِ حُقُوقِهِ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِ الْمَالِ . " وَأَيْضًا " فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِلْحُكْمِ فِي الشِّقَاقِ أَنْ يَخْلَعَ الْمَرْأَةَ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهَا بِدُونِ إذْنِهَا ؛ وَيُطَلِّقَ عَلَى الزَّوْجِ بِدُونِ إذْنِهِ : كَمَذْهَبِ
مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَرْأَةَ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْأَبَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ نِصْفَ الصَّدَاقِ . وَمَذْهَبُهُ أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَتَمَلَّكَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا لَا يَضُرُّ بِالْوَلَدِ حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ بَعْضَ الصَّدَاقِ : جَازَ لَهُ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالتَّمَلُّكِ هَذَا التَّصَرُّفُ لَمْ يَبْقَ إلَّا طَلَبُهُ لِفُرْقَتِهَا وَذَلِكَ يَمْلِكُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَيَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْأَبِ أَنْ يُعْتِقَ بَعْضَ رَقَبَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِلْمَصْلَحَةِ . فَقَدْ يُقَالُ : الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ كَانَتْ تَحْتَ حِجْرِ الْأَبِ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ مُعَاوَضَةً وَافْتِدَاءً لِنَفْسِهَا مِنْ الزَّوْجِ فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ كَمَا يَمِلْك غَيْرَهُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ وَكَمَا يَمْلِكُ افْتِدَاءَهَا مِنْ الْأَسْرِ ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ مَصْلَحَةً لَهَا . وَقَدْ يُقَالُ : قَدْ لَا يَكُونُ مَصْلَحَتُهَا فِي الطَّلَاقِ ؛ وَلَكِنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِ ؛ فَإِذَا بُذِلَ لَهُ الْعِوَضُ مِنْ غَيْرِهَا لَمْ يُمْكِنْهَا مَنْعُهُ مِنْ الْبَذْلِ . فَأَمَّا إسْقَاطُ مَهْرِهَا وَحَقِّهَا الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ بِالنِّكَاحِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ . وَالْأَبُ قَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ بِاخْتِلَاعِهَا حَظَّهُ لَا لِمَصْلَحَتِهَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّهَا بِمُجَرَّدِ حَظِّهِ بِالِاتِّفَاقِ . فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُصَحِّحُ الْإِبْرَاءَ يَقَعُ الْإِبْرَاءُ وَالطَّلَاقُ . وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ إبْرَاءَهُ إنْ ضَمِنَهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِلَا نِزَاعٍ ؛ وَكَانَ عَلَى الْأَبِ لِلزَّوْجِ
مِثْلُ
الصَّدَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي
الْقَدِيمِ . وَعِنْدَهُ فِي الْجَدِيدِ : إنَّمَا عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ .
وَأَمَّا إنْ لَمْ يُضَمِّنْهُ إنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْإِبْرَاءِ . فَقَالَ
لَهُ : إنْ أَبَرَّأْتنِي فَهِيَ طَالِقٌ . فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ
يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ يَبْرَأُ وَيَرْجِعُ عَلَى
الْأَبِ بِقَدْرِ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ ؛ وَهُوَ إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْأُخْرَى لَا يَقَعُ
شَيْءٌ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَبْرَأْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا : وَجَدَ
الْإِبْرَاءَ . وَأَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَبَ ضَامِنًا بِهَذَا الْإِبْرَاءِ .
وَأَمَّا إنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَمْ يُعَلِّقْهُ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ يَقَعُ
؛ لَكِنْ عِنْدَ أَحْمَد يَضْمَنُ لِلزَّوْجِ الصَّدَاقَ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَضْمَنُ لَهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلْزَمْ
شَيْئًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا وَأَبْرَأَتْ الزَّوْجَ مِنْ
حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ عِلْمِهَا بِالْحَمْلِ فَلَمَّا بَانَ الْحَمْلُ
طَالَبَتْ الزَّوْجَ بِفَرْضِ الْحَمْلِ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ لَمْ تَدْخُلْ نَفَقَةُ الْحَمْلِ فِي
الْإِبْرَاءِ . وَكَانَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَ نَفَقَةَ الْحَمْلِ . وَلَوْ عَلِمَتْ
بِالْحَمْلِ وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ فَقَطْ لَمْ
يَدْخُلْ
فِي ذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ وَهِيَ
وَاجِبَةٌ لِلْحَمْلِ فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : كَأُجْرَةِ الرَّضَاعِ
. وَفِي الْآخَرِ هِيَ لِلزَّوْجَةِ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ فَتَكُونُ مِنْ جِنْسِ
نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ
كَأُجْرَةِ الرَّضَاعِ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ بِمُقْتَضَى
أَنَّهُ لَا تَبْقَى بَيْنَهُمَا مُطَالَبَةٌ بَعْدَ النِّكَاحِ أَبَدًا فَإِذَا
كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَمَقْصُودُهُمَا الْمُبَارَأَةَ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى
لِلْآخِرَةِ مُطَالَبَةٌ بِوَجْهِ : فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْإِبْرَاءُ مِنْ
نَفَقَةِ الْحَمْلِ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ
الْجُزْءُ
الْثَّالِثُ وَالْثَّلَاثُونَ
كِتَابُ الْطَلَاقِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ
بَعْدَهُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَهْدِيه وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا
وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ
فَصْلٌ :
مُخْتَصَرٌ فِيمَا " يَحِلُّ مِنْ الطَّلَاقِ وَيَحْرُمُ " وَهَلْ
يَلْزَمُ الْمُحَرَّمُ ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُ ؟ فَنَقُولُ : الطَّلَاقُ مِنْهُ مَا
هُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَمِنْهُ مَا لَيْسَ
بِمُحَرَّمِ " فَالطَّلَاقُ الْمُبَاحُ " بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ -
هُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ
امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً ؛ إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا بَعْدَ أَنْ تَغْتَسِلَ وَقَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا ثُمَّ يَدَعَهَا فَلَا يُطَلِّقَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا . وَهَذَا الطَّلَاقُ يُسَمَّى " طَلَاقَ السُّنَّةِ " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ بِدُونِ رِضَاهَا وَلَا رِضَا وَلِيِّهَا . وَلَا مَهْرٍ جَدِيدٍ . وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ : فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ . فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يَكُونُ بِعَقْدِ ؛ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً أَوْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ . ثُمَّ إذَا ارْتَجَعَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا طَلَّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ رَاغِبًا فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يُفَارِقُهَا . فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَهَا بِقَصْدِ أَنْ يَحِلَّهَا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا نَقَلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَغَيْرِهِمْ وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَإِنْ
كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّا لَا تَحِيضُ لِصِغَرِهَا أَوْ كِبَرِهَا ؛ فَإِنَّهُ
يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ وَطِئَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ يَطَؤُهَا ؛
فَإِنَّ هَذِهِ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ . فَفِي أَيِّ وَقْتٍ طَلَّقَهَا
لِعِدَّتِهَا ؛ فَإِنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِقُرُوءِ وَلَا بِحَمْلِ ؛ لَكِنْ مِنْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا " طَلَاقَ سُنَّةٍ " وَمِنْهُمْ مَنْ
لَا يُسَمِّيه " طَلَاقَ سُنَّةٍ " وَلَا " بِدْعَةٍ " .
وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا وَقَبْلَ
أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا : فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ وَيُسَمَّى "
طَلَاقَ الْبِدْعَةِ " وَهُوَ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا وَأَرَادَ أَنْ
يُطَلِّقَهَا : فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا . وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ
؟ أَوْ لَا يُسَمَّى طَلَاقَ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ .
وَهَذَا " الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ " فِي الْحَيْضِ وَبَعْدَ الْوَطْءِ
وَقَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَمْلِ هَلْ يَقَعُ ؟ أَوْ لَا يَقَعُ ؟ سَوَاءٌ كَانَتْ
وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ .
وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ أَوْ
كَلِمَاتٍ ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا . أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ
وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ . أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ . أَوْ
يَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ يَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ يَقُولُ : أَنْتِ
طَالِقٌ . أَوْ يَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا . أَوْ عَشْرَ طَلَقَاتٍ أَوْ
مِائَةَ طَلْقَةٍ أَوْ
أَلْفَ طَلْقَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ : فَهَذَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا . وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدِعٌ . " أَحَدُهَا " : أَنَّهُ طَلَاقٌ مُبَاحٌ لَازِمٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْقَدِيمَةِ عَنْهُ : اخْتَارَهَا الخرقي . " الثَّانِي " أَنَّهُ طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ لَازِمٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ . اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ : مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِهِمْ . " الثَّالِثُ " : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلَانِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : مِثْلَ طَاوُوسٍ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو ؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ ؛ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ ؛ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الشِّيعَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ .
وَأَمَّا
" الْقَوْلُ الرَّابِعُ " الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ
وَالشِّيعَةِ : فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَالْقَوْلُ " الثَّالِثُ " هُوَ الَّذِي يَدُلُّ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ شَرَعَهُ اللَّهُ فِي
الْقُرْآنِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إنَّمَا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ؛ لَمْ
يُشَرِّعْ اللَّهُ لِأَحَدِ أَنْ يُطَلِّقَ الثَّلَاثَ جَمِيعًا وَلَمْ يُشَرِّعْ
لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا طَلَاقًا باينا وَلَكِنْ إذَا طَلَّقَهَا
قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بَانَتْ مِنْهُ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَانَتْ
مِنْهُ .
فَالطَّلَاقُ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ :
" الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ " وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ
يَرْتَجِعَهَا فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي
الْعِدَّةِ وَرِثَهُ الْآخَرُ .
وَ " الطَّلَاقُ الْبَائِنُ " وَهُوَ مَا يَبْقَى بِهِ خَاطِبًا مِنْ
الْخِطَابِ لَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بِعَقْدِ جَدِيدٍ . " و الطَّلَاقُ
الْمُحَرَّمُ لَهَا " لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
وَهُوَ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا أَذِنَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَهُوَ : أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ .
أَوْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا . أَوْ
يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ . فَهَذَا الطَّلَاقُ
الْمُحَرَّمُ لَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا
طَلَاقٌ بَائِنٌ يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ
الْحَدِيثِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ . وَالشَّافِعِيِّ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ
الْمُنْذِرِ .
ودَاوُد
وَابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ " الْخُلْعَ " فَسْخٌ
لِلنِّكَاحِ وَفُرْقَةٌ بَائِنَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لَا يُحْسَبُ مِنْ
الثَّلَاثِ . وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ : كَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان : وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا :
أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؛
وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ
رَاهَوَيْه ؛ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْ أَحْمَد . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَعْرُوفَةٌ فِي السُّنَنِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا
وَبَيْنَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ : رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْخُلْعَ
طَلَاقًا ؛ لَكِنْ ضَعَّفَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ : كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ
حَنْبَلٍ ؛ وَابْنِ خُزَيْمَة ؛ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرِهِمْ
. كَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ .
و " الْخُلْعُ " أَنْ تَبْذُلَ الْمَرْأَةُ عِوَضًا لِزَوْجِهَا ؛
لِيُفَارِقَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا
إصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } { فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ
بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ
الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُطْلِقَاتِ
بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَرَبَّصْنَ أَيْ يَنْتَظِرْنَ ثَلَاثَ قُرُوءٍ . "
وَالْقُرْءُ " عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ : كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ : الْحَيْضُ . فَلَا تَزَالُ فِي
الْعِدَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَذَهَبَ ابْنُ
عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطَعْنِهَا فِي
الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا }
ثُمَّ قَالَ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أَيْ فِي
ذَلِكَ التَّرَبُّصِ . ثُمَّ قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } فَبَيَّنَ أَنَّ
الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ
أَحَقَّ بِرَدِّهَا : هُوَ ( مَرَّتَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَمَا إذَا قِيلَ
لِلرَّجُلِ : سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ . أَوْ سَبِّحْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . أَوْ مِائَةَ
مَرَّةٍ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَ اللَّهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ .
حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ . فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُجْمِلَ
ذَلِكَ فَيَقُولُ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : الطَّلَاقُ طَلْقَتَانِ . بَلْ قَالَ : مَرَّتَانِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ عَشْرًا أَوْ أَلْفًا . لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَّقَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَّةَ : لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْته مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ التَّسْبِيحَ بِعَدَدِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ } لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَبَّحَ تَسْبِيحًا بِقَدْرِ ذَلِكَ . فَالْمِقْدَارُ تَارَةً يَكُونُ وَصْفًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَفِعْلُهُ مَحْصُورٌ . وَتَارَةً يَكُونُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ فَذَاكَ الَّذِي يَعْظُمُ قَدْرُهُ ؛ وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَلَمَا شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُحَمَّدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ . فَلَوْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ خَلْقَهُ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ أَحَدًا طَلَّقَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّلَاثِ وَلَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ وَلَا نَقَلَ أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَدِّ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا ؛
بَلْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بَلْ مَوْضُوعَةٌ ؛ بَلْ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ : طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً . فَقَالَ عُمَرُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ وَغَيْرِهِ عَنْ طَاوُوسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَتَعْلَمُ إنَّمَا كَانَتْ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَعَمْ : وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : هَاتِ مِنْ هَنَاتِك أَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً ؟ قَالَ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ . { طَلَّقَ ركانة بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا ؛ قَالَ : فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ طَلَّقْتهَا ؟ قَالَ : طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا . قَالَ ؛ فَقَالَ : فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَإِنَّمَا تِلْكَ وَحْدَةٌ فَأَرْجِعْهَا إنْ شِئْت قَالَ : فَرَجَعَهَا } . فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ ؛ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي فِي كِتَابِهِ " الْمُخْتَارَةِ " الَّذِي هُوَ أَصَحُّ مِنْ " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " . وَهَكَذَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ } مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي مَجَالِسَ لَأَمْكَنَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ارْتَجَعَهَا ؛ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ يَقَعُ . وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ فِي جَانِبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ تَفْصِيلٌ كَقَوْلِهِ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ أَوْ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } وَهُوَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَقَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ وَقَدْ لَا يَحْمِلُهُ . وَقَوْلُهُ { فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } وَهِيَ إذَا لَمْ تَكُنْ سَائِمَةً قَدْ يَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ - زَكَاةُ التِّجَارَةِ - وَقَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَمَنْ لَمْ يَقُمْهَا فَقَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبِ آخَرَ . وَكَقَوْلِهِ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وقَوْله تَعَالَى تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ يَعْمَلُ عَمَلًا آخَرَ يَرْجُو بِهِ رَحْمَةَ اللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ . فَلَوْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ : بِخِلَافِ الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ لَا يُرَاجِعُهَا فِيهِ ؛ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ الرَّجْعَةَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { ارْجِعْهَا إنْ شِئْت } وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } فَأَمَرَهُ بِالرَّجْعَةِ وَالرَّجْعَةُ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ ؛ بِخِلَافِ الْمُرَاجَعَةِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : مَا أَرَدْت بِهَا إلَّا وَاحِدَةً .
فَرَّدَهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَأَبُو دَاوُد لَمَّا لَمْ يَرْوِ فِي سُنَنِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ : حَدِيثُ " أَلْبَتَّةَ " أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } لِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ أَعْلَمُ ؛ لَكِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَكَابِرَ الْعَارِفُونَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِيهِ : كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ : ضَعَّفُوا حَدِيثَ أَلْبَتَّةَ وَبَيَّنُوا أَنَّ رُوَاتَهُ قَوْمٌ مَجَاهِيلُ ؛ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ وَأَحْمَد أَثْبَتَ حَدِيثَ الثَّلَاثِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ الصَّوَابُ مِثْلَ قَوْلِهِ : حَدِيثُ ركانة لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ . وَقَالَ أَيْضًا : حَدِيثُ ركانة فِي أَلْبَتَّةَ لَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّ ابْنَ إسْحَاقَ يَرْوِيه عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ وَأَحْمَد إنَّمَا عَدَلَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الثَّلَاثَ جَائِزَةٌ مُوَافَقَةً لِلشَّافِعِيِّ . فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ : حَدِيثُ ركانة مَنْسُوخٌ . ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ طَلَاقٌ مُبَاحٌ إلَّا الرَّجْعِيُّ عَدَلَ : عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِخِلَافِهِ وَهَذَا عِلَّةٌ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الَّتِي عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَعْذَارَ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الَّذِينَ أَلْزَمُوا مَنْ أَوْقَعَ جُمْلَةَ الثَّلَاثِ بِهَا مِثْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمْعِ الثَّلَاثِ وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِعُقُوبَةِ :
رَأَى
عُقُوبَتَهُمْ بِإِلْزَامِهَا ؛ لِئَلَّا يَفْعَلُوهَا . إمَّا مِنْ نَوْعِ
التَّعْزِيرِ الْعَارِضِ الَّذِي يُفْعَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا كَانَ يَضْرِبُ
فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَيَحْلِقُ الرَّأْسَ وَيَنْفِي وَكَمَا مَنَعَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا
عَنْ الِاجْتِمَاعِ بِنِسَائِهِمْ . وَإِمَّا ظَنًّا أَنْ جَعْلَهَا وَاحِدَةً
كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ وَقَدْ زَالَ كَمَا ذَهَبَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي
مُتْعَةِ الْحَجِّ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مُتْعَةَ الْفَسْخِ .
وَالْإِلْزَامُ بِالْفُرْقَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ : مِمَّا يَسُوغُ
فِيهِ الِاجْتِهَادُ ؛ لَكِنْ تَارَةً يَكُونُ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ . كَمَا فِي
الْعِنِّينِ وَالْمَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْعَاجِزِ عَنْ
النَّفَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ . وَتَارَةً يُقَالُ : إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ
كَمَا فِي تَفْرِيقِ الْحُكْمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ
إذَا لَمْ يَجْعَلَا وَكِيلَيْنِ وَكَمَا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْمَوْلَى
عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إذَا لَمْ يَفِ فِي
مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَكَمَا قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ : إنَّهُمَا إذَا تَطَاوَعَا فِي الْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ فُرِّقَ
بَيْنِهِمَا وَالْأَبُ الصَّالِحُ إذَا أَمَرَ ابْنَهُ بِالطَّلَاقِ لِمَا رَآهُ
مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُ كَمَا قَالَ أَحْمَد
وَغَيْرُهُ كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُطِيعَ أَبَاهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلَاقِ
امْرَأَتِهِ } . فَالْإِلْزَامُ إمَّا مِنْ الشَّارِعِ . وَإِمَّا مِنْ الْإِمَامِ
. بِالْفُرْقَةِ إذَا لَمْ يَقُمْ الزَّوْجُ بِالْوَاجِبِ : هُوَ مِنْ مَوَارِدِ
الِاجْتِهَادِ . فَلَمَّا كَانَ النَّاسُ إذَا لَمْ يُلْزِمُوا بِالثَّلَاثِ
يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ رَأَى عُمَرُ إلْزَامَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يَلْزَمُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ ؛ وَلَكِنْ
كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ نَازَعُوا مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا التَّعْزِيزَ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَإِمَّا لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُعَاقِبْ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَهَذَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ . وَأَمَّا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِجَهْلِ أَوْ تَأْوِيلٍ فَلَا وَجْهَ لِإِلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ . وَهَذَا شَرْعٌ شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا شَرَعَ نَظَائِرَهُ لَمْ يَخُصَّهُ : وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إنَّ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ - التَّمَتُّعُ كَمَا أَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - هُوَ شَرْعٌ مُطْلَقٌ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ { لِمَا سُئِلَ أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا ؟ أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : لَا ؛ بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّمَا شُرِعَ لِلشُّيُوخِ لِمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِمْ مِثْلَ بَيَانِ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ : قَوْلٌ فَاسِدٌ ؛ لِوُجُوهِ مَبْسُوطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ تَنَازُعِهِمْ بِرَدِّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ . فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ الْإِلْزَامَ بِالثَّلَاثِ بِمَنْ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً بِكَلِمَةِ أَوْ كَلِمَاتٍ بِدُونِ رَجْعَةٍ أَوْ عُقْدَةٍ ؛ بَلْ إنَّمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْإِلْزَامُ بِذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ الطَّلَاقَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَعَلَى هَذَا
يَدُلُّ الْقِيَاسُ وَالِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ أُصُولِ الشَّرْعِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ يُبَاحُ تَارَةً وَيَحْرُمُ تَارَةً - كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ - إذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ الْحَلَالُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا حَرَمَهُ اللَّهُ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَمِنْ النِّكَاحِ . فِي الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَقَعُ بَاطِلًا غَيْرَ لَازِمٍ وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْعِ الْمُحْرِمَاتِ : كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ؛ وَالْمَيْتَةِ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ مُحَرَّمُ الْجِنْسِ كَالظِّهَارِ وَالْقَذْفِ وَالْكَذِبِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ مِنْ فِعْلِهِ الْعُقُوبَةَ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَارَةً حَلَالًا وَتَارَةً حَرَامًا حَتَّى يَكُونَ تَارَةً صَحِيحًا وَتَارَةً فَاسِدًا . وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُبَاحًا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ - كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ وَاشْتِرَاءِ الْمَجْحُودِ عِتْقَهُ وَرِشْوَةِ الظَّالِمِ لِدَفْعِ ظُلْمَةٍ أَوْ لِبَذْلِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ وَكَاشْتِرَاءِ الْإِنْسَانِ الْمُصَرَّاةَ وَمَا دُلِّسَ عَيْبُهُ وَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِيَفْعَلَ الْوَاجِبَ أَوْ لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ وَكَبَيْعِ الْجَالِبِ لِمَنْ تَلَقَّى مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ - الْمَظْلُومَ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلَهُ أَنْ يُمْضِيَهُ ؛ بِخِلَافِ الظَّالِمِ فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ لَيْسَ بِلَازِمِ . وَالطَّلَاقُ هُوَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَارَةً وَحَرَّمَهُ أُخْرَى . فَإِذَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا - وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - ( مَرَّتَانِ وَبَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ : إمَّا { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فَتَبْقَى زَوْجَتَهُ وَتَبْقَى مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ . وَإِمَّا { تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } بِأَنْ يُرْسِلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وَهَذَا هُوَ الْخُلْعُ سَمَّاهُ " افْتِدَاءً " لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْتَدِي نَفْسهَا مِنْ أَسْرِ زَوْجِهَا كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرُ وَالْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَا يَبْذُلُهُ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يَعْنِي الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } . { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يَعْنِي هَذَا الزَّوْجَ الثَّانِيَ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } يَعْنِي عَلَيْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ { أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } . وَفِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ . فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ . مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ بَعْدُ أَمْسَكَهَا . وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا . فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ : الطَّلَاقُ عَلَى " أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ " : وَجْهَانِ حَلَالٌ . وَوَجْهَانِ حَرَامٌ . فَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَلَالٌ فَأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا فِي غَيْرِ جِمَاعٍ . أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا . وَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَرَامٌ فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا . أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا رَوَاهُ الدارقطني وَغَيْرُهُ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَّا إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا ؛ وَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ . أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ الطُّهْرَ أَوْ الْعِدَّةَ . فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ يَكُونُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَيَكُونُ قَدْ طَوَّلَ عَلَيْهَا التَّرَبُّصَ وَطَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إلَى
طَلَاقِهَا
. وَالطَّلَاقُ فِي الْأَصْلِ مِمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَهُوَ أَبْغَضُ
الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا أَبَاحَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
النَّاسُ كَمَا تُبَاحُ الْمُحَرَّمَاتُ لِلْحَاجَةِ ؛ فَلِهَذَا حَرَّمَهَا
بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ
لِيَنْتَهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ إكْثَارِ الطَّلَاقِ . فَإِذَا طَلَّقَهَا لَمْ
تَزَلْ فِي الْعِدَّةِ مُتَرَبِّصَةً ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَهُوَ مَالِكٌ لَهَا
يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الطَّلَاقِ قَبْلَ
وَقْتِهِ ؛ كَمَا لَا فَائِدَةَ فِي مُسَابَقَةِ الْإِمَامِ ؛ وَلِهَذَا لَا
يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ ؛ بَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إذَا
تَعَمَّدَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لَا يَزَالُ مَعَهُ فِي
الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَلِّمَ .
وَلِهَذَا جَوَّزَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْخُلْعَ فِي الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ
عَلَى قَوْلِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِطَلَاقِ ؛ بَلْ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ
وَهُوَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا
وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد ؛ وَلِأَنَّهَا تَمْلِكُ
نَفْسَهَا بِالِاخْتِلَاعِ فَلَهُمَا فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِبَانَةِ
لِرَفْعِ الشَّرِّ الَّذِي بَيْنَهُمَا ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ
فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَعْجِيلِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ ؛ بَلْ ذَلِكَ شَرٌّ
بِلَا خَيْرٍ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ طَلَاقٌ فِي وَقْتٍ لَا يَرْغَبُ فِيهَا
وَقَدْ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَقْتَ الرَّغْبَةِ
فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ حَاجَةٍ . { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } مِمَّا تَنَازَعَ
الْعُلَمَاءُ فِيهِ فِي مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَفَهِمَ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ لَزِمَهُ
فَأَمَرَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا ؛ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ إنْ شَاءَ .
وَتَنَازَعَ
هَؤُلَاءِ : هَلْ الِارْتِجَاعُ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي ؟ وَفِي حِكْمَةِ هَذَا النَّهْيِ ؟ أَقْوَالٌ : ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرْنَا مَأْخَذَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفَهِمَ طَائِفَةٌ أُخْرَى : أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَارَقَهَا بِبَدَنِهِ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ الرَّجُلِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ اعْتَزَلَهَا بِبَدَنِهِ وَاعْتَزَلَتْهُ بِبَدَنِهَا ؛ { فَقَالَ لِعُمَرِ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } وَلَمْ يَقُلْ : فَلْيَرْتَجِعْهَا . " وَالْمُرَاجَعَةُ " مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ : أَيْ تَرْجِعُ إلَيْهِ بِبَدَنِهَا فَيَجْتَمِعَانِ كَمَا كَانَا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي أَبَاحَ اللَّهُ فِيهِ الطَّلَاقَ طَلَّقَهَا حِينَئِذٍ إنْ شَاءَ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ لَزِمَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ لِيُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً فَائِدَةٌ ؛ بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْأَوَّلِ تَكْثِيرُ الطَّلَاقِ ؛ وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ وَتَعْذِيبُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ ؛ بَلْ إذَا وَطِئَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا ؛ أَوْ تَطْهُرَ الطُّهْرَ الثَّانِيَ . وَقَدْ يَكُونُ زَاهِدًا فِيهَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَأَهُمَا فَتَعْلَقَ مِنْهُ ؛ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ الْوَطْءَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَكِنْ أَخَّرَ الطَّلَاقَ إلَى الطُّهْرِ الثَّانِي . وَلَوْلَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوَّلًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ الطَّلَاقُ فِي
الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ فِي إمْسَاكِهَا فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالنِّكَاحِ إذَا كَانَ لَا يُمْسِكُهَا إلَّا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَيْهِمَا وَالشَّارِعُ لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ فَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ طَلَاقِهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لِيَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْوَطْءِ الَّذِي لَا يُعْقِبُهُ طَلَاقٌ ؛ فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا أَوْ وَطِئَهَا أَوْ حَاضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ : فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ وَطْئِهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي : دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى طَلَاقِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهَا إذْ لَوْ كَانَتْ لَهُ فِيهَا رَغْبَةٌ لَجَامَعَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ . قَالُوا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ يَرْتَجِعُهَا لَأُمِرَ بِالْإِشْهَادِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ آيَةٍ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالرَّجْعَةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ؛ بَلْ قَالَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فَخَيَّرَ الزَّوْجَ إذَا قَارَبَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفٍ - وَهُوَ الرَّجْعَةُ - وَبَيْنَ أَنْ يُسَيِّبَهَا فَيُخَلِّيَ سَبِيلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ ؛ وَلَا يَحْبِسُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ قَدْ لَزِمَ لَكَانَ حَصَلَ الْفَسَادُ الَّذِي كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَذَلِكَ الْفَسَادُ لَا يَرْتَفِعُ بِرَجْعَةِ يُبَاحُ لَهُ الطَّلَاقُ
بَعْدَهَا وَالْأَمْرُ بِرَجْعَةِ لَا فَائِدَةَ فِيهَا مِمَّا تَنَزَّهَ عَنْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ رَاغِبًا فِي الْمَرْأَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا وَإِنْ كَانَ رَاغِبًا عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ بِرَجْعَتِهَا مَعَ لُزُومِ الطَّلَاقِ لَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ ؛ بَلْ زِيَادَةُ مَفْسَدَةٍ وَيَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَمْرِ بِمَا يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ لِمَنْعِ الْفَسَادِ فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الْفَسَادِ وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُتَنَاقِضٌ ؛ إذْ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ : أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودَ الْمُحَرَّمَةَ إذَا فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً صَحِيحَةً وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَازَعَ فِيهِ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَالصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَةِ بِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ لَهَا وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهَا لَمْ يَكُنْ عَنْ الشَّارِعِ مَا يُبَيِّنُ الصَّحِيحَ مِنْ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا : النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ . قَالُوا : نَعْلَمُ صِحَّةَ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ وَفَسَادَهَا بِجَعْلِ الشَّارِعِ هَذَا شَرْطًا أَوْ مَانِعًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ
هَذَا صَحِيحٌ . وَلَيْسَ بِصَحِيحِ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ مِثْلَ قَوْلِهِ : الطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ وَالْكُفْرُ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَهَذَا الْعَقْدُ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ . وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ بَلْ إنَّمَا فِي كَلَامِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ وَفِي نَفْيِ الْقَبُولِ وَالصَّلَاحِ كَقَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } وَقَوْلِهِ : { هَذَا لَا يَصْلُحُ } وَفِي كَلَامِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ كَذَا } وَفِي كَلَامِهِ : الْوَعْدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَلَمْ نَسْتَفِدْ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ وَهُوَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ بَيَّنَ ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَطْعًا . وَأَيْضًا فَالشَّارِعُ يُحَرِّمُ الشَّيْءَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ . وَمَقْصُودُهُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ وَجَعْلُهُ مَعْدُومًا . فَلَوْ كَانَ مَعَ التَّحْرِيمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ فَيَجْعَلُهُ لَازِمًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ لَكَانَ ذَلِكَ إلْزَامًا مِنْهُ بِالْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ عَدَمَهُ . فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَسَادُ قَدْ أَرَادَ عَدَمَهُ مَعَ أَنَّهُ أَلْزَمَ النَّاسَ بِهِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : إنَّهُ إنَّمَا حَرَّمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لِئَلَّا يَنْدَمَ الْمُطَلِّقُ : دَلَّ عَلَى لُزُومِ النَّدَمِ لَهُ إذَا فَعَلَهُ . وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ .
فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ يَكُونُ صَحِيحًا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ . فَيُقَالُ : إنْ كَانَ مَا قَالَهُ هَذَا صَحِيحًا هُنَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ تَحْصُلْ الْقَطِيعَةُ وَهَذَا جَهْلٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ فِي مَنْعِهِ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَوْ أَبَاحَهُ لَلَزِمَ الْفَسَادُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا ؛ فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْفِعْلَ لَوْ أُبِيحَ لَحَصَلَ بِهِ الْفَسَادُ فَحُرِّمَ مَنْعًا مِنْ هَذَا الْفَسَادِ . ثُمَّ الْفَسَادُ يَنْشَأُ مِنْ إبَاحَتِهِ وَمِنْ فِعْلِهِ . إذَا اعْتَقَدَ الْفَاعِلُ أَنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَأَمَّا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بَاطِلٌ وَالْتِزَامِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَالْمَفَاسِدُ فِيهَا فِتْنَةٌ وَعَذَابٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ غَيْرَ لَازِمٍ لَمْ يَحْصُلْ الْفَسَادُ . فَيُقَالُ : هَذَا هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَى عَنْهُ وَحَكَمَ بِبُطْلَانِهِ لِيَزُولَ الْفَسَادُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَعَلَهُ النَّاسُ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ فَيَلْزَمُ الْفَسَادُ . وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ وَأَنَّهُ شَرْعِيٌّ وَأَنَّهُ يُسَمَّى بَيْعًا وَنِكَاحًا وَصَوْمًا . كَمَا يَقُولُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الشَّغَارِ وَلَعْنِهِ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا
وَنَهْيِهِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَيُقَالُ : أَمَّا تَصَوُّرُهُ حِسًّا فَلَا رَيْبَ فِيهِ . وَهَذَا كَنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَعَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ ؛ وَيُدْهَنُ الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ . فَقَالَ : لَا هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمُلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } فَتَسْمِيَتُهُ لِهَذَا نِكَاحًا وَبَيْعًا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا بَاطِلًا بَلْ دَلَّ عَلَى إمْكَانِهِ حِسًّا . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ شَرْعِيٌّ . إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُسَمَّى بِمَا أَسْمَاهُ بِهِ الشَّارِعُ : فَهَذَا صَحِيحٌ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ : فَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ وَجَعَلَهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَيُلْزِمُ النَّاسَ حُكْمَهُ ؛ كَمَا فِي الْمُبَاحِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ هَؤُلَاءِ بِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ ؛ فَلَيْسَ مَعَهُمْ صُورَةٌ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا مَقْصُودُهُمْ ؛ لَا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ . وَكَذَلِكَ " الْمُحَلِّلُ " الْمَلْعُونُ لَعَنَهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ لِلْأَوَّلِ بِعَقْدِهِ ؛ لَا لِأَنَّهُ أَحَلَّهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ لَكَانَ قَدْ أَحَلَّهَا بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَهَذَا غَيْرُ مَلْعُونٍ بِالْإِجْمَاعِ
فَعُلِمَ أَنَّ اللَّعْنَةَ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ . وَعُلِمَ أَنَّ الْمَلْعُونَ لَمْ يُحَلِّلْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَدَلَّتْ اللَّعْنَةُ عَلَى تَحْرِيمِ فِعْلِهِ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ فِعْلُهُ مُبَاحٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَهُمْ بَلْ الصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضَ كَمَا تَنَاقَضَ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذِهِ . وَالْأُصُولُ الَّتِي لَا تَنَاقُضَ فِيهَا مَا أَثْبَتَ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَالتَّنَاقُضُ مَوْجُودٌ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ . وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَتَنَاقَضُ هُوَ مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ قَدْ دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَهَذَا مَعْنَى الْعِصْمَةِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَعْصُومِ لَا يَتَنَاقَضُ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَعْصُومٌ فِيمَا شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ أَيْضًا مَعْصُومَةٌ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ ؛ بِخِلَافِ مَا سِوَى ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ الْإِيمَانَ بِهِ وَطَاعَتَهُ وَتَحْلِيلَ مَا حَلَّلَهُ وَتَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ . فَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ الْهُدَى وَالرَّشَادِ : هُمْ مُتَّبِعُونَ . وَالْكُفَّارُ أَهْلُ النَّارِ وَأَهْلُ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ .
وَمَنْ آمَنَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَاجْتَهَدَ فِي مُتَابَعَتِهِ : فَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ فَلَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَفْهَمْهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : قَدْ فَعَلْت } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ؛ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فَقَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ بِالتَّفْهِيمِ مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا . فَهَكَذَا إذَا خَصَّ اللَّهُ أَحَدَ الْعَالِمَيْنِ بِعِلْمِ أَمْرٍ وَفَهْمِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ ذَمُّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ . بَلْ كُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ مَا فَهِمَهُ غَيْرُهُ . وَقَدْ { قَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ - وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَأَدْرَكَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاص وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَهَذِهِ الْأُصُولُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ مِمَّا يَقُولُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . إنَّهُ لَازِمٌ . وَالسَّلَفُ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْجُمْهُورِ يُسَلِّمُونَ : أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي
الْفَسَادَ . وَلَا يَذْكُرُونَ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ فَرْقًا صَحِيحًا . وَهَذَا مِمَّا تَسَلَّطَ بِهِ عَلَيْهِمْ مَنْ نَازَعُوهُمْ فِي أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ . وَاحْتَجَّ بِمَا سَلَّمُوهُ لَهُ مِنْ الصُّوَرِ ؛ وَهَذِهِ حُجَّةٌ جَدَلِيَّةٌ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ ؛ وَإِنَّمَا تُفِيدُ أَنَّ مُنَازَعِيهِ أَخْطَئُوا : إمَّا فِي صُوَرِ النَّقْضِ وَإِمَّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ . وَخَطَؤُهُمْ فِي إحْدَاهُمَا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ؛ بَلْ هَذَا الْأَصْلُ أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِ مَدَارُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ ؛ بَلْ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ لَا تُوَافِقُ بَلْ تُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُشَرِّعْ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ جُمْلَةً قَطُّ . وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْبَائِنُ فَإِنَّهُ شَرَعَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ لِمَنْ لَمْ يَجْعَلْ الثَّلَاثَ الْمَجْمُوعَةَ إلَّا وَاحِدَةً : أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ عُمَرَ ؛ وَقَدْ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ ذَلِكَ إجْمَاعًا فَيَقُولُ لَهُمْ : أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ عُمَرَ فِي الْأَمْرِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ؛ بَلْ وَفِي الْأَمْرِ الَّذِي مَعَهُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُجَوِّزُ التَّحْلِيلَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أُوتِيَ بِمُحَلِّلِ وَلَا مُحَلَّلَ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا . وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ : مِثْلَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَعَادَ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ . وَعُمَرُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ مَعَهُمْ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ { كَلَعْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ اجْتِهَادًا . وَاَللَّهُ يَرْضَى عَنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : إنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ . وَأَكْثَرُهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ خَيَّرَ الْمَفْقُودَ إذَا رَجَعَ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ تَزَوَّجَتْ خَيَّرَهُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ . وَهَذَا أَيْضًا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ . وَذَكَرَهُ أَحْمَد عَنْ ثَمَانِيَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَالَ : إلَى أَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ الَّذِي يُخَالِفُ هَؤُلَاءِ وَمَعَ هَذَا فَأَكْثَرُهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْقُضُ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِهِ . وَعُمَرُ وَالصَّحَابَةُ جَعَلُوا الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً ؛ كَأَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ : فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَمْ يُقَسِّمْ عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ أَرْضًا فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يَسْتَطِبْ عُمَرُ أَنْفُسَ جَمِيعِ الْغَانِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِينَ ؛ وَإِنْ ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ اسْتَطَابُوا أَنْفُسَهُمْ فِي السَّوَادِ ؛ بَلْ طَلَبَ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَالزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُمَا قِسْمَةَ أَرْضِ الْعَنْوَةِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ يُخَالِفُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ مِنْ زَمَنِهِمْ ؛ بَلْ يَنْقُضُ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِحُكْمِهِمْ أَيْضًا . فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ لَمْ يُخَمِّسُوا قَطُّ مَالَ فَيْءٍ وَلَا خَمَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا جَعَلُوا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ وَمَعَ هَذَا : فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ .
وَالْأَصْلُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَظُنَّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ شَرِيعَتِهِ . بَلْ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ ؛ وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى نَسْخِ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ بِإِجْمَاعِ أَحَدٍ بَعْدَهُ كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ مِنْ الغالطين ؛ بَلْ كُلُّ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا مُخَالِفًا لَهُ بَلْ كُلُّ نَصٍّ مَنْسُوخٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَمَعَ الْأُمَّةِ النَّصُّ النَّاسِخُ لَهُ ؛ تَحْفَظُ الْأُمَّةُ النَّصَّ النَّاسِخَ كَمَا تَحْفَظُ النَّصَّ الْمَنْسُوخَ وَحِفْظُ النَّاسِخِ أَهَمُّ عِنْدَهَا وَأَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ حِفْظِ الْمَنْسُوخِ وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ نَصِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ قَدْ يَجْتَهِدُ الْوَاحِدُ وَيُنَازِعُهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ . هَذَا مِنْهَا كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا . وَلِهَذَا لَمَّا رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَازَعَهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَهَا السُّكْنَى فَقَطْ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى . وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ لَك نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى } فَلَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهَا بِحُجَّةِ عُمَرَ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ }
قَالَتْ هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ - كَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ
وَغَيْرِهِمَا - هَذَا فِي الرَّجْعِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَدْرِي
لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ
الثَّلَاثِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ فِي ظَاهِرِ
مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مَعَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي " الطَّلَاقِ " لَمَّا قَالَ تَعَالَى : {
لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ؛ فَإِنَّهُ
لَوْ شَرَعَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ عَلَيْهِ لَكَانَ الْمُطَلِّقُ يَنْدَمُ إذَا
فَعَلَ ذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَى رَجْعَتِهَا : فَيَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ بِذَلِكَ
وَاَللَّهُ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ
؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }
وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لَا يَكُونُ فِي الثَّلَاثِ
وَلَا فِي الْبَائِنِ .
وَقَالَ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ
لِلَّهِ } فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا
مَأْمُورٌ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ : قِيلَ : أَمْرُ إيجَابٍ . وَقِيلَ أَمْرُ
اسْتِحْبَابٍ . وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ : أَنَّ الْإِشْهَادَ هُوَ الطَّلَاقُ
وَظَنَّ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ لَا يَقَعُ . وَهَذَا
خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَخِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ
مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِهِ ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ أَذِنَ فِيهِ
أَوَّلًا وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ
بِالْإِشْهَادِ
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ حِينَ قَالَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } . وَالْمُرَادُ
هُنَا بِالْمُفَارَقَةِ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا إذَا قَضَتْ الْعِدَّةَ وَهَذَا
لَيْسَ بِطَلَاقِ وَلَا بِرَجْعَةِ وَلَا نِكَاحٍ . وَالْإِشْهَادُ فِي هَذَا
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا هُوَ عَلَى
الرَّجْعَةِ . وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ : أَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُهَا
وَيَرْتَجِعُهَا فَيُزَيِّنُ لَهُ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ ذَلِكَ حَتَّى
يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُحَرَّمًا وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ فَتَكُونُ
مَعَهُ حَرَامًا فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الرَّجْعَةِ لِيُظْهِرَ
أَنَّهُ قَدْ وَقَعَتْ بِهِ طَلْقَةٌ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَجَدَ اللُّقَطَةَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا ؛ لِئَلَّا
يُزَيِّنَ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ اللُّقَطَةِ ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ
فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا بَلْ خَلَّى سَبِيلَهَا فَإِنَّهُ
يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَتَهُ ؛ بَلْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ ؛
بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَتْ زَوْجَةً عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي النَّاسُ
أَطَلَّقَهَا أَمْ لَمْ يُطَلِّقْهَا .
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ
وَاِتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَلِهَذَا مَضَتْ
السُّنَّةُ بِإِعْلَانِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَالسِّفَاحِ مَكْتُومًا ؛
لَكِنْ : هَلْ الْوَاجِبُ مُجَرَّدُ الْإِشْهَادِ ؟ أَوْ مُجَرَّد الْإِعْلَانِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إشْهَادٌ ؟ أَوْ يَكْفِي أَيُّهُمَا كَانَ ؟ هَذَا فِيهِ
نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ . وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }
وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ . وَسِيَاقُ الْآيَةِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مُرَادَةٌ مِنْ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ فَمَنْ
اتَّقَى اللَّهَ فِي الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ كَمَا
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَيَفْعَلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمَنْ كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ أَوْ إنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ : فَهَذَا إذَا عَرَفَ التَّحْرِيمَ وَتَابَ صَارَ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا . وَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ يُفْتِيه بِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ : فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً بِقَدْرِ ظُلْمِهِ كَمُعَاقَبَةِ أَهْلِ السَّبْتِ بِمَنْعِ الْحِيتَانِ أَنْ تَأْتِيَهُمْ فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَعُوقِبَ بِالضِّيقِ . وَإِنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَعَرَّفَهُ الْحَقَّ وَأَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَتَابَ : فَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنَبَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَقَدَ دَخَلَ فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ . فَكُلُّ مَنْ تَابَ فَلَهُ فَرَجٌ فِي شَرْعِهِ ؛ بِخِلَافِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْهُمْ كَانَ يُعَاقَبُ بِعُقُوبَاتِ : كَقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا يَقُولُ لَهُ : لَوْ اتَّقَيْت اللَّهَ لَجَعَلَ لَك مَخْرَجًا . وَكَانَ تَارَةً يُوَافِقُ عُمَرَ فِي الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ لِلْمُكْثِرِينَ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِمْ ؛ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ تَارَةً لَا يَلْزَمُ إلَّا وَاحِدَةً . وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَغْضَبُ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَيَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ ؛ وَإِلَّا فَوَاَللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِكُلِّ مَا تُحَدِّثُونَ .
وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ ؛ وَلَا عُثْمَانَ ؛ وَلَا عَلِيٍّ " نِكَاحُ تَحْلِيلٍ " ظَاهِرٌ تَعْرِفُهُ الشُّهُودُ وَالْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَنَّهُمْ أَعَادُوا الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي الْغَالِبِ طَلَاقَ السُّنَّةِ . وَلَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ نَقْلٌ خَاصٌّ فِي الْحَلِفِ ؛ وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ الْكَلَامُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ ؛ لَا فِي الْحَلِفِ بِهِ . وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِهِ كَمَا يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّذْرِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ حَاجَةً فَقَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرَضِي . أَوْ قَضَى دَيْنِي أَوْ خَلَّصَنِي مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ ؛ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ . أَوْ أَصُومَ شَهْرًا ؛ أَوْ أَعْتِقَ رَقَبَةً : فَهَذَا تَعْلِيقُ نَذْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَإِذَا عُلِّقَ النَّذْرُ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ فَقَالَ : إنْ سَافَرْت مَعَكُمْ إنْ زَوَّجْت فُلَانًا . أَنْ أَضْرِبَ فُلَانًا . إنْ لَمْ أُسَافِرْ مِنْ عِنْدِكُمْ : فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ : فَمَالِي صَدَقَةٌ . أَوْ : فَعَلَيَّ عِتْقٌ . فَهَذَا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ هُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ ؛ لَيْسَ بِنَاذِرِ : فَإِذَا لَمْ يَفِ بِمَا الْتَزَمَهُ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَكَذَلِكَ أَفْتَى الصَّحَابَةُ فِيمَنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ . أَنَّهُ يَمِينٌ يَجْزِيه فِيهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ التَّابِعِينَ فِي هَذَا كُلِّهِ لَمَّا أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ تَحْلِيفَ النَّاسِ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ - وَهُوَ التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ ؛ وَالْعَتَاقِ ؛ وَالتَّحْلِيفُ بِاسْمِ اللَّهِ ؛ وَصَدَقَةُ الْمَالِ . وَقِيلَ : كَانَ فِيهَا التَّحْلِيفُ بِالْحَجِّ -
نُكَلِّمُ
حِينَئِذٍ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ وَتَكَلَّمُوا
فِي بَعْضِهَا عَلَى ذَلِكَ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا حَنِثَ بِهَا لَزِمَهُ
مَا الْتَزَمَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الطَّلَاقُ
وَالْعَتَاقُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هَذَا جِنْسُ إيمَانِ أَهْلِ
الشِّرْكِ ؛ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هِيَ مِنْ
أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ يَلْزَمُ فِيهَا مَا يَلْزَمُ فِي سَائِرِ أَيْمَانِ
الْمُسْلِمِينَ . وَاتَّبَعَ هَؤُلَاءِ مَا نُقِلَ فِي هَذَا الْجِنْسِ عَنْ
الصَّحَابَةِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا بُسِطَ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ .
و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ لَمْ تَكُنْ امْرَأَةٌ
تُرَدُّ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ وَكَانَ إنَّمَا يُفْعَلُ سِرًّا ؛ وَلِهَذَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ
الرِّبَا وَمُوكِلَهُ ؛ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ
وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَلَعَنَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّبَا : الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ
وَالشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِبَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ يُكْتَبُ وَيُشْهَدُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَ فِي التَّحْلِيلِ : الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَلَمْ يَلْعَنْ
الشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِبَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ تُكْتَبُ
الصَّدَاقَاتِ فِي كِتَابٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ لِصَدَاقِ فِي
الْعَادَةِ الْعَامَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يَبْقَى دِينَارٌ فِي ذِمَّةِ
الزَّوْجِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ وَشُهُودٍ وَكَانَ الْمُحَلِّلُ يَكْتُمُ
ذَلِكَ هُوَ وَالزَّوْجُ الْمُحَلَّلُ لَهُ . وَالْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ
وَالشُّهُودُ لَا يَدْرُونَ بِذَلِكَ . { وَلَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } إذْ كَانُوا هُمْ
الَّذِينَ فَعَلُوا الْمُحَرَّمَ ؛ دُونَ هَؤُلَاءِ . وَالتَّحْلِيلُ لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ إذْ كَانَ الرَّجُلُ
إنَّمَا يَقَعُ مِنْهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ إذَا طَلَّقَ بَعْدَ رَجْعَةٍ أَوْ
عَقْدٍ فَلَا يَنْدَمُ بَعْدَ الثَّلَاثِ إلَّا نَادِرٌ مِنْ النَّاسِ ؛ وَكَانَ
يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ عِصْيَانِهِ وَتَعَدِّيه لِحُدُودِ اللَّهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فَيَلْعَنُ مَنْ يَقْصِدُ تَحْلِيلَ الْمَرْأَةِ لَهُ ؛ وَيَلْعَنُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا : لِأَنَّهُمَا تَعَاوَنَا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . فَلَمَّا حَدَثَ " الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ " وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ . أَنَّ الْحَانِثَ يَلْزَمُهُ مَا أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ وَلَا تَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ يُلْزِمُ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ يَقَعُ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ يَقَعُ . وَكَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ ؛ وَبَعْضُهَا مِمَّا قِيلَ بَعْدَهُمْ : كَثُرَ اعْتِقَادُ النَّاسِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ مَا يَقَعُ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ وَالْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِمُفَارَقَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فَصَارَ الْمُلْزَمُونَ بِالطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا " حِزْبَيْنِ " . " حِزْبًا " اتَّبَعُوا مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ فِي تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ فَحَرَّمُوا هَذَا مَعَ تَحْرِيمِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ فَصَارَ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ وَالْحَرَجِ الْعَظِيمِ الْمُفْضِي إلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا أُمُورٌ . مِنْهَا : رِدَّةُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمَّا أُفْتِيَ بِلُزُومِ مَا الْتَزَمَهُ . وَمِنْهَا سَفْكُ الدَّمِ الْمَعْصُومِ . وَمِنْهَا زَوَالُ الْعَقْلِ . وَمِنْهَا الْعَدَاوَةُ بَيْنَ النَّاسِ . وَمِنْهَا تَنْقِيصُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ . إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْآثَامِ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْعِظَامِ . " وَحِزْبًا " رَأَوْا أَنْ يُزِيلُوا ذَلِكَ الْحَرَجَ الْعَظِيمَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي بِهَا تَعُودُ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا .
وَكَانَ مِمَّا أُحْدِثَ أَوَّلًا " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " . وَرَأَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ فَاعِلَهُ يُثَابُ ؛ لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ إزَالَةِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بِإِعَادَةِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا وَكَانَ هَذَا حِيلَةً فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِرَفْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ . ثُمَّ أُحْدِثَ فِي " الْأَيْمَانِ " حِيَلٌ أُخْرَى . فَأُحْدِثَ أَوَّلًا الِاحْتِيَالُ فِي لَفْظِ الْيَمِينِ ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِخُلْعِ الْيَمِينِ ؛ ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِدَوْرِ الطَّلَاقِ ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِطَلَبِ إفْسَادِ النِّكَاحِ . وَقَدْ أَنْكَرَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّتُهُمْ هَذِهِ الْحِيَلَ وَأَمْثَالَهَا وَرَأَوْا أَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالَ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ وَإِبْطَالَ حَقَائِقِ الْأَيْمَانِ الْمُودَعَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْمُخَادَعَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ السختياني فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ : يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ ثُمَّ تَسَلَّطَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الْقَدْحِ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَنَصَرَهُ وَعَزَّرَهُ وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَصُدُّونَ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَمْنَعُونَ مَنْ أَرَادَ الْإِيمَانَ بِهِ وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَمْتَنِعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِهِ عَنْ الْإِيمَانِ كَمَا أَخْبَرَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَحَاسِنُ الْإِسْلَامِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ " التَّحْلِيلِ " فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يَجِدُ فِيهِ مَا يَشْفِي الْغَلِيلَ . وقد قَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَوَصَفَ رَسُولَهُ بِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَيُحِلُّ كُلَّ طَيِّبٍ وَيُحَرِّمَ كُلَّ خَبِيثٍ وَيَضَعُ الْآصَارَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ . وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ فَهِيَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي أَحْسَنُ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ الشَّرْعِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَ قَائِلُهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأُمَّةِ وَأَجَلِّهَا وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ مُجْتَهِدٌ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَهُوَ مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَتَقْوَاهُ مَغْفُورٌ لَهُ خَطَؤُهُ فَلَا يَلْزَمُ الرَّسُولَ قَوْلٌ قَالَهُ غَيْرُهُ بِاجْتِهَادِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { كَانَ يَقُولُ لِمَنْ بَعَثَهُ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَجَيْشٍ : وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك } . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَاصَرَهُمْ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ . فَأَنْزَلَهُمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ حِلْفًا وَهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِمْ وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ خِلَافَ مَا يَظُنُّ بِهِ بَعْضُ قَوْمِهِ : كَانَ مُقَدِّمًا لِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى رِضَا
قَوْمِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ فَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِهِ فَحَكَّمَ فِيهِمْ : أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى حَرِيمُهُمْ وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ } وَفِي رِوَايَةٍ . { لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ } وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ فِي حُكُومَةٍ وَاحِدَةٍ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِفَهْمِهَا مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ آتَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا فَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِلْمُصِيبِ مِنْهُمْ أَجْرَانِ وَلِلْآخَرِ أَجْرٌ . وَكُلٌّ مِنْهُمْ مُطِيعٌ لِلَّهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ وَلَا يُكَلِّفُهُ اللَّهُ مَا عَجَزَ عَنْ عِلْمِهِ . وَمَعَ هَذَا فَلَا يَلْزَمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ شَنِيعَةً . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ إذَا تَكَلَّمُوا بِاجْتِهَادِهِمْ يُنَزِّهُونَ شَرْعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَطَئِهِمْ وَخَطَأِ غَيْرِهِمْ . كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوَّضَةِ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي ؛ فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ فِي الْكَلَالَةِ وَكَذَلِكَ عَنْ عُمَرَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ؛ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصِيبُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى يُوجَدَ النَّصُّ مُوَافِقًا لِاجْتِهَادِهِمْ كَمَا وَافَقَ النَّصُّ اجْتِهَادَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ
وَإِنَّمَا كَانُوا أَعْلَمَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِمَا يَجِبُ مِنْ تَعْظِيمِ شَرْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضِيفُوا إلَيْهِ إلَّا مَا عَلِمُوهُ مِنْهُ ؛ وَمَا أَخْطَئُوا فِيهِ - وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ - قَالُوا : إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } وَقَالَ : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } . وَلِهَذَا تَجِدُ الْمَسَائِلَ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ عَلَى أَقْوَالٍ ؛ وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَسَائِرُهَا إذَا كَانَ أَهْلُهَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ : فَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَأْجُورُونَ غَيْرُ مَأْزُورِينَ ؛ كَمَا إذَا خَفِيَتْ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فِي السَّفَرِ اجْتَهَدَ كُلُّ قَوْمٍ فَصَلَّوْا إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ ؛ فَإِنَّ الْكَعْبَةَ لَيْسَتْ إلَّا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَسَائِرُ الْمُصَلِّينَ مَأْجُورُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ حَيْثُ اتَّقَوْا مَا اسْتَطَاعُوا . وَمِنْ آيَاتِ مَا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبِينِ ظَهَرَ النُّورُ وَالْهُدَى عَلَى مَا بُعِثَ بِهِ ؛ وَعُلِمَ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ دُونَهُ ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ ؛ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } وَهَذَا التَّحَدِّي
وَالتَّعْجِيزُ . ثَابِتٌ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ : مَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ فَإِنَّك تَجِدُ الْأَقْوَالَ فِيهِ " ثَلَاثَةً " : قَوْلٌ فِيهِ آصَارٌ وَأَغْلَالٌ . وَقَوْلٌ فِيهِ خِدَاعٌ وَاحْتِيَالٌ . وَقَوْلٌ فِيهِ عِلْمٌ وَاعْتِدَالٌ . وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ نَوْعًا مِنْ الظُّلْمِ وَالِاضْطِرَابِ . وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ نَوْعًا مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَاحِشَةِ وَالْعَارِ . وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَتَجِدُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالنَّذْرِ ؛ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . قَوْلٌ يُسْقِطُ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَيْمَانِ الْمُشْرِكِينَ . وَقَوْلٌ يَجْعَلُ الْأَيْمَانَ اللَّازِمَةَ لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَلَا تَحِلَّةٌ كَمَا كَانَ شَرْعُ غَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَقَوْلٌ يُقِيمُ حُرْمَةَ أَيْمَانِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ ؛ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَيْمَانِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ وَيَجْعَلُ فِيهَا مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالتَّحْلِيلِ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ وَالتَّنْزِيلُ وَاخْتَصَّ بِهِ أَهْلَ الْقُرْآنِ دُونَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ ؛ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ ؛ وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
مُخْتَصَرٌ جَامِعٌ فِي مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ " وَمَا
بَيْنَهُمَا مِنْ اتِّفَاقٍ وَافْتِرَاقٍ ؛ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ تَكُونُ
مِنْ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ دُونَ الطَّلَاقِ . وَقَدْ تَكُونُ مِنْ مَسَائِلِ
الطَّلَاقِ دُونَ الْأَيْمَانِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ مَسَائِلِ النَّوْعَيْنِ .
فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ .
وَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ . أَمَّا الْكَلَامُ الْمُتَعَلِّقُ
بِالطَّلَاقِ فَهُوَ : إمَّا صِيغَةُ تَنْجِيزٍ . وَإِمَّا صِيغَةُ تَعْلِيقٍ .
وَإِمَّا صِيغَةُ قَسَمٍ . أَمَّا " صِيغَةُ التَّنْجِيزِ " فَهُوَ
إيقَاعُ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا مُرْسَلًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِصِفَةِ وَلَا
يَمِينٍ ؛ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ . أَوْ مُطَلَّقَةٌ . أَوْ : فُلَانَةٌ
طَالِقٌ . أَوْ : أَنْتِ الطَّلَاقُ . أَوْ : طَلَّقْتُك وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا
يَكُونُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ أَوْ الْمَصْدَرِ أَوْ اسْمِ الْفَاعِلِ أَوْ اسْمِ
الْمَفْعُولِ : فَهَذَا يُقَالُ لَهُ : طَلَاقٌ مُنْجَزٌ . وَيُقَالُ . طَلَاقٌ
مُرْسَلٌ . وَيُقَالُ : طَلَاقٌ مُطْلَقٌ . أَيْ غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِصِفَةِ .
فَهَذَا إيقَاعٌ لِلطَّلَاقِ وَلَيْسَ هَذَا
بِيَمِينِ
يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْحِنْثِ وَعَدَمِهِ ؛ وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي عُرْفِهِمْ الْمَعْرُوفِ
بَيْنَهُمْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا يَمِينًا وَلَا حَلِفًا ؛ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ : حَلَفْت بِالطَّلَاقِ . وَمُرَادُهُ أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ .
وَأَمَّا " صِيغَةُ الْقَسَمِ " فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : الطَّلَاقُ
يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا . فَيَحْلِفُ بِهِ عَلَى
حَضٍّ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ مَنْعٍ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ
عَلَى تَصْدِيقِ خَبَرٍ أَوْ تَكْذِيبِهِ : فَهَذَا يَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ
الطَّلَاقِ وَالْأَيْمَانِ فَإِنَّ هَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ ؛
فَإِنَّهَا صِيغَةُ قَسَمٍ وَهُوَ يَمِينٌ أَيْضًا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ لَمْ
يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهَا تُسَمَّى يَمِينًا ؛ وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي
حُكْمِهَا . فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ غَلَّبَ عَلَيْهَا جَانِبَ الطَّلَاقِ
فَأَوْقَعَ بِهِ الطَّلَاقَ إذَا حَنِثَ . وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ عَلَيْهِ
جَانِبَ الْيَمِينِ فَلَمْ يُوقِعْ بِهِ الطَّلَاقَ بَلْ قَالَ : عَلَيْهِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ . أَوْ قَالَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالِ . وَكَذَلِكَ
تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَقَالَ : إذَا فَعَلْت كَذَا
فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا
النَّوْعَ اُشْتُهِرَ الْكَلَامُ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَغَيْرِهِمْ . وَقَالُوا : إنَّهُ أَيْمَانٌ تَجْزِي فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؛
لِكَثْرَةِ وُقُوعِ هَذَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ؛ بِخِلَافِ الْحَلِفِ
بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ إنَّمَا عُرِفَ عَنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ وَتَنَازَعُوا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ .
وَالثَّالِثُ " صِيغَةُ تَعْلِيقِ " كَقَوْلِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَيُسَمَّى هَذَا طَلَاقًا بِصِفَةِ . فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُ صَاحِبِهِ الْحَلِفَ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الصِّفَةِ . " فَالْأَوَّلُ " حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَلَوْ قَالَ : إنْ حَلَفْت يَمِينًا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَحِلْفٌ بِالطَّلَاقِ حَنِثَ بِلَا نِزَاعٍ نَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لِقَصْدِ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ هَدْيٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ : الْعِتْقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَعَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْمُؤَخَّرَ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ مُقَدَّمٌ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ وَالْمَنْفِيُّ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ مُثْبَتٌ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ . " وَالثَّانِي " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ . فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ كَمَا يَقَعُ الْمُنْجَزُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَكَذَلِكَ إذَا وَقَّتَ الطَّلَاقَ بِوَقْتِ ؛ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ . وَقَدّ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ وَلَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا قَدِيمًا ؛ لَكِنْ ابْنُ حَزْمٍ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ مَعَ أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ ذَكَرَ فِي " كِتَابِ الْإِجْمَاعِ " إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ
وَذَكَرَ
أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ : هَلْ
يَقَعُ الطَّلَاقُ ؟ أَوْ لَا يَقَعُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؟ أَوْ يَكُونُ
يَمِينًا مُكَفِّرَةً ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : كَمَا أَنَّ نَظَائِرَ ذَلِكَ
مِنْ الْأَيْمَانِ فِيهَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ . وَهَذَا الضَّرْبُ
وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِصِفَةِ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا
وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْحَضِّ وَالْمَنْعِ كَقَوْلِهِ : إنْ طَلَعَتْ
الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ . هَلْ هُوَ يَمِينٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ "
أَحَدُهُمَا " هُوَ يَمِينٌ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . " الثَّانِي " أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينِ
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهَذَا
الْقَوْلُ أَصَحُّ شَرْعًا . وَلُغَةً . وَأَمَّا الْعُرْفُ فَيَخْتَلِفُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا أَنْوَاعُ الْأَيْمَانِ الثَّلَاثَةِ " فَالْأَوَّلُ " . أَنْ
يَعْقِدَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ . و " الثَّانِي " أَنْ يَعْقِدَهَا
لِلَّهِ . " وَالثَّالِثُ " أَنْ يَعْقِدَهَا بِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ
لِغَيْرِ اللَّهِ . فَأَمَّا " الْأَوَّلُ " فَهُوَ الْحَلِفُ
بِاَللَّهِ . فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ مُكَفِّرَةٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا " الثَّالِثُ " وَهُوَ أَنْ
يَعْقِدَهَا بِمَخْلُوقِ أَوْ لِمَخْلُوقِ مِثْلَ : أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّوَاغِيتِ
؛ أَوْ بِأَبِيهِ . أَوْ الْكَعْبَةِ : أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ :
فَهَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ
مُحْتَرَمَةٍ
لَا تَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛
لَكِنَّ نَفْسَ الْحَلِفِ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ
فَقَالَ فِي حَلِفِهِ : واللات وَالْعُزَّى . فَلْيَقُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
} وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَلِفُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ إلَّا أَنَّ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَوْلَيْنِ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ
فِيهَا . وَأَمَّا عَقْدُهَا لِغَيْرِ اللَّهِ فَمِثْلَ أَنْ يُنْذِرَ
لِلْأَوْثَانِ وَالْكَنَائِسِ أَوْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ فَيَقُولُ : إنْ فَعَلْت
كَذَا فَعَلَيَّ لِلْكَنِيسَةِ كَذَا أَوْ لِقَبْرِ فُلَانٍ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ
. فَهَذَا إنْ كَانَ نَذْرًا فَهُوَ شِرْكٌ وَإِنْ كَانَ يَمِينًا : فَهُوَ شِرْكٌ
إذَا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُ :
إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ وَأَمَّا إذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْبُغْضِ
لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ .
أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَهَذَا لَيْسَ مُشْرِكًا وَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ لَهُ
قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرِ شِرْكٍ أَوْ
يَمِينِ شِرْكٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ مِنْ عَقْدِهَا ؛ لَيْسَ
فِيهَا وَفَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا كَانَ لِلَّهِ أَوْ
بِاَللَّهِ .
وَأَمَّا الْمَعْقُودُ لِلَّهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ . " أَحَدُهُمَا "
أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ ؛ لَا مُجَرَّدُ أَنْ يَحُضَّ
أَوْ يَمْنَعَ . وَهَذَا هُوَ النَّذْرُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } وَثَبَتَ عَنْهُ أَنْ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْإِنْسَانِ أَنْ يُنْذِرَ لِلَّهِ طَاعَةً فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ بِطَاعَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ . وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ ؛ لَكِنْ إذَا لَمْ يُوفِ بِالنَّذْرِ لِلَّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . قِيلَ : مُطْلَقًا . وَقِيلَ : إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ . " وَالثَّانِي " أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْحَضَّ أَوْ الْمَنْعَ أَوْ التَّصْدِيقَ أَوْ التَّكْذِيبَ فَهَذَا هُوَ الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْحَرَامُ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَصَوْمُ سَنَةٍ وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ . فَهَذَا الصِّنْفُ يَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ " وَيَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ " الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ " . وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ إذَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَلْزَمُهُ : كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " : هَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فَلَا شَيْءَ فِيهَا إذَا حَنِثَ ؛ لَا كَفَّارَةَ وَلَا وُقُوعَ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَسْكُتْ } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ { : لَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ } "
وَالْقَوْلُ
الثَّالِثُ " أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ مُكَفِّرَةٌ إذَا حَنِثَ فِيهَا
كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَيْمَانِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا
عَقَدَهُ لِلَّهِ مِنْ الْوُجُوبِ - وَهُوَ الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ - وَمَا
عَقَدَهُ لِلَّهِ مِنْ تَحْرِيمٍ - وَهُوَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ -
فَقَالُوا فِي الْأَوَّلِ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا حَنِثَ . وَقَالُوا
فِي الثَّانِي : يَلْزَمُهُ مَا عَلَّقَهُ وَهُوَ الَّذِي حَلَفَ بِهِ إذَا حَنِثَ
؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ فِي الْأَوَّلِ فِعْلٌ وَاجِبٌ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا
بِفِعْلِهِ فَيُمْكِنُهُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْمُلْتَزِمُ فِي
الثَّانِي وُقُوعُ حُرْمَةٍ . وَهَذَا يَحْصُلُ بِالشَّرْطِ فَلَا يَرْتَفِعُ
بِالْكَفَّارَةِ . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أَقْوَالِ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا قَدْ
بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ
} وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَهَذَا
يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ لَفْظًا وَمَعْنًى . أَمَّا اللَّفْظُ
فَلِقَوْلِهِ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
وَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } وَهَذَا خِطَابٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا
وَالْحِلْفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ لَيْسَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ ؛ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ
فَقَدْ أَشْرَكَ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ أَبُو دَاوُد
وَغَيْرُهُ فَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا مَا عَقَدَهُ بِاَللَّهِ أَوْ لِلَّهِ فَهُوَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَيْمَانُ الْبِيعَةِ تَلْزَمُنِي وَنَوَى دُخُولَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ : دَخَلَ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَلِفُ بِالْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ تَنَاوَلَهَا الْخِطَابُ . وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْكَفَّارَةَ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِئَلَّا تَكُونَ الْيَمِينُ مُوجِبَةً عَلَيْهِمْ أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ لَا مَخْرَجَ لَهُمْ كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ مَخْرَجٌ إلَّا الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ فَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَيْمَانِ مَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ كَانَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ مَوْجُودَةً . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } نَهَاهُمْ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاَللَّهِ مَانِعًا لَهُمْ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ ؛ لِئَلَّا يَمْتَنِعُوا عَنْ طَاعَتِهِ بِالْيَمِينِ الَّتِي حَلَفُوهَا فَلَوْ كَانَ فِي الْأَيْمَانِ مَا يَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ إذَا حَلَفُوا بِهِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } {وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، " وَالْإِيلَاءُ " هُوَ الْحَلِفُ وَالْقَسَمُ وَالْمُرَادُ بِالْإِيلَاءِ هُنَا أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ إذَا حَلَفَ بِمَا عَقَدَهُ بِاَللَّهِ كَانَ مُولِيًا وَإِنْ حَلَفَ بِمَا عَقَدَهُ لِلَّهِ
كَالْحَلِفِ
بِالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ كَانَ مُولِيًا عِنْدَ
جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي
قَوْلِهِ الْجَدِيدِ وَأَحْمَد . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعًا كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ وَذُكِرَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ يَمِينٍ مَنَعَتْ جِمَاعًا فَهِيَ إيلَاءٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ جَعَلَ الْمُولِيَ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ :
إمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ . وَالْفِيئَةُ هِيَ الْوَطْءُ :
خَيْرٌ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانِ . فَإِنْ
فَاءَ فَوَطِئَهَا حَصَلَ مَقْصُودُهَا وَقَدْ أَمْسَكَ بِمَعْرُوفِ وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى : { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَمَغْفِرَتُهُ
وَرَحْمَتُهُ لِلْمُولِي تُوجِبُ رَفْعَ الْإِثْمِ عَنْهُ وَبَقَاءَ امْرَأَتِهِ .
وَلَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بِمَا فَرَضَهُ مِنْ تَحِلَّةِ
الْأَيْمَانِ حَيْثُ رَحِمَ عِبَادَهُ بِمَا فَرَضَهُ لَهُمْ مِنْ الْكَفَّارَةِ
وَغَفَرَ لَهُمْ بِذَلِكَ نَقْضَهُمْ لِلْيَمِينِ الَّتِي عَقَدُوهَا ؛ فَإِنَّ
مُوجِبَ الْعَقْدِ الْوَفَاءُ لَوْلَا مَا فَرَضَهُ مِنْ التَّحِلَّةِ الَّتِي
جَعَلَهَا تَحِلُّ عُقْدَةَ الْيَمِينِ . وَإِنْ كَانَ الْمُولِي لَا يَفِيءُ ؛
بَلْ قَدْ عَزَمَ عَلَى الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . فَحَكَمَ
الْمُولِي فِي كِتَابِ اللَّهِ : أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ
يَعْزِمَ الطَّلَاقَ . فَإِنْ فَاءَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَقَعُ
بِهِ طَلَاقٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَأَمَّا " الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ " فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَقَعُ
بِهِ الطَّلَاقُ فَلَا يَكْفُرُ ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنْ فَاءَ الْمُولِي
بِالطَّلَاقِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ عَزَمَ الطَّلَاقَ فَأَوْقَعَهُ
وَقَعَ بِهِ
الطَّلَاقُ . فَالطَّلَاقُ عَلَى قَوْلِهِ لَازِمٌ سَوَاءٌ أَمَسَكَ بِمَعْرُوفِ ؛ أَوْ سَرَّحَ بِإِحْسَانِ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُولِيَ مُخَيَّرٌ : إمَّا أَنْ يَفِيءَ ؛ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ . فَإِذَا فَاءَ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ؛ فَإِنَّ الْمُولِيَ بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ إذَا فَاءَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ قَوْلٌ شَاذٌّ : أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالِ . وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } . فَإِنْ قِيلَ الْمُولِي بِالطَّلَاقِ إذَا فَاءَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَطْءِ لِلزَّوْجَةِ وَإِنْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَرَحِمَهُ بِذَلِكَ ؟ " قِيلَ " : هَذَا لَا يَصِحُّ . فَإِنَّ أَحَدَ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا بِحَالِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَوْلَجَ حَنِثَ وَكَانَ النَّزْعُ فِي أَجْنَبِيَّةٍ وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . " وَالثَّانِي " يَجُوزُ لَهُ وَطْأَةُ وَاحِدَةٍ يَنْزِعُ عَقِبَهَا وَتَحْرُمُ بِهَا عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَخْتَارُ وَطْأَةً يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَقِبَهَا إلَّا إذَا كَانَتْ كَارِهَةً لَهُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهَا بِهَذِهِ الْفِيئَةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا فَائِدَةَ فِي
التَّأْجِيلِ ؛ بَلْ تَعْجِيلُ الطَّلَاقِ أَحَبُّ إلَيْهَا لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ لِتُبَاحَ لِغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الطَّلَاقِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ : كَانَ التَّأْجِيلُ ضَرَرًا مَحْضًا لَهَا وَهَذَا خِلَافُ مَقْصُودِ الْإِيلَاءِ الَّذِي شُرِعَ لِنَفْعِ الْمَرْأَةِ ؛ لَا لِضَرِّهَا . وَمَا ذَكَرْته مِنْ النُّصُوصِ قَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْجِنْسِ فَأَفْتَوْا مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي هَدْيٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنَحْوَ ذَاكَ : بِأَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ فَجَعَلُوا هَذَا يَمِينًا مُكَفِّرَةً ؛ وَكَذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَعَلُوا هَذَا مُتَنَاوِلًا لِلْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ وَجَعَلُوا كُلَّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْحَالِفُ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ فِيهِ شِبْهٌ مِنْ النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَشِبْهٌ مِنْ الْأَيْمَانِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هَذِهِ أَيْمَانٌ مَحْضَةٌ ؛ لَيْسَتْ نَذْرًا وَلَا طَلَاقًا . وَلَا عَتَاقًا وَإِنَّمَا يُسَمِّيهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ " نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " تَسْمِيَةً مُقَيَّدَةً وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ النَّذْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الصَّحَابَةَ بَيَّنُوا أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ مَحْضَةٌ كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ ؛ لَكِنْ هِيَ أَيْمَانٌ عَلَّقَ الْحِنْثَ فِيهَا عَلَى شَيْئَيْنِ " أَحَدُهُمَا " فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ : و " الثَّانِي " عَدَمُ إيقَاعِ الْمَحْلُوفِ بِهِ .
فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ هَذَا الْعَامَ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا لَأَحُجَّن هَذَا الْعَامَ وَهُوَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ إلَّا إذَا فَعَلَ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ هَذَا الْعَامَ . إنَّمَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي . أَوْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي ؛ فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يُطَلِّقْ وَلَمْ يُعْتِقْ وَلَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَوَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَن امْرَأَتِي وَلَأُعْتِقَن عَبْدِي . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا لَيَقَعَن بِي الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَلَأُوقِعَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَهُوَ إذَا فَعَلَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَإِذَا لَمْ يُوقِعْهُ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ قَدْ يَكُونُ وُجُوبًا وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعًا . فَإِذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ . فَالْمُعَلَّقُ وُجُوبُ الصَّوْمِ . وَإِذَا قَالَ : فَعَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَالْمُعَلَّقُ وُقُوعُ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُعَلَّقَ إنْ كَانَ قَصْدُهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَقَعَ كَمَا إذَا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ فَقَالَ : إنْ أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَهُنَا إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ وَقَعَ الطَّلَاقُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الْحَلِفَ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَهَذَا حَالِفٌ كَمَا لَوْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ الْتَزَمَ الطَّلَاقَ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَلْزَمُهُ : فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّ الْحَالِفَ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . وَقَوْلُ الذِّمِّيِّ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ : هُوَ الْتِزَامٌ لِلْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ ؛ بَلْ قَصَدَ الْحَلِفَ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحِلْفِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ . " الثَّانِي " أَنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي : لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِالِاتِّفَاقِ إذَا فَعَلَهُ . " الثَّالِثُ " أَنَّ الْمُلْتَزِمَ لِأَمْرِ عِنْدَ الشَّرْطِ إنَّمَا يُلْزِمُهُ بِشَرْطَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَزِمُ قِرْبَةً . " وَالثَّانِي " أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِهِ ؛ لَا الْحَلِفُ بِهِ . فَلَوْ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةِ كَالتَّطْلِيقِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ . وَلَوْ الْتَزَمَ قُرْبَةً : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ : وَالْحَجِّ : عَلَى وَجْهِ الْحَلِفِ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ ؛ بَلْ تَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ وَآخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ .
وَهُنَا
الْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ هُوَ الْتَزَمَ وُقُوعُهُ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ ؛
وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ كَمَا يَكْرَهُ وُقُوعَ
الْكُفْرِ إذَا حَلَفَ بِهِ ؛ وَكَمَا يَكْرَهُ وُجُوبَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ إذَا
حَلَفَ بِهَا . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذَا حَالِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ
فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ ؟ " فَيُقَالُ " : النَّصُّ وَرَدَ فِيمَنْ
حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهُ شِرْكًا ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ
الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ ؛ فَمَنْ عَقَدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَهُوَ أَبْلَغُ
مِمَّنْ عَقَدَهَا بِاَللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّذْرُ أَبْلَغَ مِنْ
الْيَمِينِ ؛ فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيمَا عَقَدَ لِلَّهِ أَوْلَى مِنْ
وُجُوبِهَا فِيمَا عَقَدَ بِاَللَّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْحَلِفِ " وَإِيضَاحِ الْحُكْمِ فِي
ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
الصِّيَغُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
وَالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " .
" النَّوْعُ الْأَوَّلُ " صِيغَةُ التَّنْجِيزِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : امْرَأَتِي طَالِقٌ . أَوْ : أَنْتِ طَالِقٌ . أَوْ : فُلَانَةٌ طَالِقٌ . أَوْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ . وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَا تَنْفَعُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا فِيهِ كَفَّارَةٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : عَبْدِي حُرٌّ . أَوْ عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ . أَوْ : عِتْقُ رَقَبَةٍ . أَوْ : الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ . أَوْ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي : فَهَذِهِ كُلُّهَا إيقَاعَاتٌ لِهَذِهِ الْعُقُودِ بِصِيَغِ التَّنْجِيزِ وَالْإِطْلَاقِ . " وَالنَّوْعُ الثَّانِي " أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ فَيَقُولُ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا . أَوْ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِهِ - كَعَبْدِهِ وَصَدِيقِهِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يَبَرُّ قَسَمَهُ - لَيَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا . أَوْ يَقُولُ : الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُهُ . أَوْ يَقُولُ : عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذِهِ صِيَغُ قَسَمٍ وَهُوَ حَالِفٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ ؛ لَا مَوْقِعَ لَهَا . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ إذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا حَلَفَ بِهِ . " وَالثَّانِي " لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . و " الثَّالِثُ " يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِفِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَقَالَ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَأَبِي
مُوسَى أَنَّهُ قَالَ : { وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَجَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ حَلَفَ بِيَمِينِ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَحَنِثَ أَجْزَأَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَمَنْ حَلَفَ بِإِيمَانِ الشِّرْكِ : مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ بِتُرْبَةِ أَبِيهِ ؛ أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ نِعْمَةِ السُّلْطَانِ أَوْ حَيَاةِ الشَّيْخِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ : فَهَذِهِ الْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إذَا حَنِثَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . " وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ " مِنْ الصِّيَغِ : أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ أَوْ النَّذْرَ بِشَرْطِ ؛ فَيَقُولُ : إنْ كَانَ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ . أَوْ الْحَجُّ . أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ . وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا يُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ - كَمَنْ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَالِفِ ؛ وَهُوَ مِنْ " بَابِ الْيَمِينِ " . وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ : كَمَنَ غَرَضُهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ : مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : إنَّ أبرأتيني مِنْ طَلَاقِك أَنْتِ طَالِقٌ . فَتُبَرِّئُهُ . أَوْ يَكُونُ عَرْضُهُ أَنَّهَا إذَا فَعَلَتْ فَاحِشَةً أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيَقُولُ : إذَا فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا لِيَمْنَعَهَا ؛ وَلَوْ فَعَلَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي طَلَاقِهَا فَإِنَّهَا تَارَةً يَكُونُ طَلَاقُهَا أُكْرِهَ إلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ فَيَكُونُ حَالِفًا . وَتَارَةً يَكُونُ الشَّرْطُ الْمَكْرُوهُ أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا ؛ فَيَكُونُ مُوقِعًا لِلطَلَاقِ إذَا وُجِدَ
ذَلِكَ الشَّرْطُ فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ فَشُفِيَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ . فَالْأَصْلُ فِي هَذَا : أَنْ يُنْظَرَ إلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَقْصُودِهِ فَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْأُمُورُ وَقَعَتْ مُنْجَزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً إذَا قُصِدَ وُقُوعُهَا عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهَا ؛ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهَا إذَا حَنِثَ وَإِنْ وَقْعَ الشَّرْطُ فَهَذَا حَالِفٌ بِهَا ؛ لَا مُوقِعٌ لَهَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ مِنْ " بَابِ الْيَمِينِ " ؛ لَا مِنْ " بَابِ التَّطْلِيقِ وَالنَّذْرِ " فَالْحَالِفُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ ؛ أَوْ نَصْرَانِيٌّ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَمِينٌ ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ مِنْ نَاذِرٍ وَمُطَلِّقٍ وَمُعَلِّقٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْصِدُ وَيَخْتَارُ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ الْمَلْزُومُ كَمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَإِنَّ هَذَا يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَلَوْ وَقَعَ الشَّرْطُ : فَهَذَا حَالِفٌ . وَالْمَوْقِعُ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ اللَّازِمِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ الْمَلْزُومِ ؛ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مُرَادًا لَهُ أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ غَيْرَ مُرَادٍ لَهُ . فَهَذَا مُوقِعٌ لَيْسَ بِحَالِفِ . وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ مُعَلِّقٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهَا : فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ . قَالُوا : إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ النَّذْرَ فَقَالَ : لَئِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ الْحَجُّ . فَهُوَ نَاذِرٌ إذَا شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَهَذَا حَالِفٌ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَا حَجَّ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ . وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ . قَالُوا : يَكْفُرُ عَنْ يَمِينِهِ . وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ . هَذَا مَعَ أَنَّ الْعِتْقَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ ؛ فَالطَّلَاقُ لَا يَلْزَمُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ وَالْعِتْقُ مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ بِمَنْ غَرَضُهُ أَنْ يُوقِعَهُ ؛ لَا لِمَنْ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ كَالْحَالِفِ بِهِ وَالْمُكْرَهِ عَلَيْهِ وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ فَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ : مِنْ الْحِلْفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ . وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ مَذْهَبُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ لَكِنْ فِيهِمْ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ : كدَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ : كَطَاوُوسِ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْخَلْقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ . " أَحَدُهَا " يَمِينٌ مُحْتَرَمَةٌ مُنْعَقِدَةٌ : كَالْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى : فَهَذِهِ فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
" الثَّانِي " الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ : كَالْحَالِفِ بِالْكَعْبَةِ . فَهَذِهِ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . " وَالثَّالِثُ " أَنْ يَعْقِدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَيَقُولُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ . أَوْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ . أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ فِيهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ : إمَّا لُزُومُ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَإِمَّا الْكَفَّارَةُ وَإِمَّا لَا هَذَا وَلَا هَذَا . وَلَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا يَمِينَانِ : يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ . أَوْ يَمِينٌ لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ : فَهَذِهِ لَا شَيْءَ فِيهَا إذَا حَنِثَ . فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ إنْ كَانَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا كَفَّارَةٌ ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْزَمْ بِهَا شَيْءٌ . فَأَمَّا إثْبَاتُ يَمِينٍ يَلْزَمُ الْحَالِفُ بِهَا مَا الْتَزَمَهُ وَلَا تُجْزِئُهُ فِيهَا كَفَّارَةٌ : فَهَذَا لَيْسَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حُكْمَ طَلَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَبَيَّنَ فِي تِلْكَ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ . وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْرِفُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَيَعْرِفُوا مَا يَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ وَمَا يَدْخُلُ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْكُمُوا فِي هَذَا بِمَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فَيَجْعَلُوا حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكْمَ طَلَاقِهِمْ حُكْمَ أَيْمَانِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَبَهَ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِينَ مَيَّزُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُمْ أَجَلُّ قَدْرًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ هَذَا وَهَذَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالِاعْتِبَارُ - الَّذِي هُوَ أَصَحُّ الْقِيَاسِ وَأَجْلَاهُ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إذَا
فَرَّقُوا
بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ فَإِنَّ الَّذِينَ لَمْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا أَوْقَعَهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ : إمَّا فِي
آصَارٍ وَأَغْلَالٍ وَإِمَّا فِي مَكْرٍ وَاحْتِيَالٍ : كَالِاحْتِيَالِ فِي
أَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ وَالِاحْتِيَالِ بِطَلَبِ إفْسَادِ النِّكَاحِ
وَالِاحْتِيَالِ بِدَوْرِ الطَّلَاقِ وَالِاحْتِيَالِ بِخُلْعِ الْيَمِينِ
وَالِاحْتِيَالِ بِالتَّحْلِيلِ . وَاَللَّهُ أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ
بِنَبِيِّهِمْ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أَيْ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ ؛ وَمِنْ
الدُّخُولِ فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الْحِيَلِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ
وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ .
" فَالْأَوَّلُ " أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ
وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَكْرُوهًا لَهُ ؛ لَكِنَّهُ إذَا وَجَدَ الشَّرْطَ
فَإِنَّهُ يُرِيدُ الطَّلَاقَ ؛ لِكَوْنِ الشَّرْطِ أُكْرِهَ إلَيْهِ مِنْ
الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُ طَلَاقَهَا وَيَكْرَهُ الشَّرْطَ ؛
لَكِنْ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ طَلَاقَهَا : مِثْلَ أَنْ
يَكُونَ كَارِهًا لِلتَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ بَغِيٍّ أَوْ فَاجِرَةٍ أَوْ
خَائِنَةٍ أَوْ هُوَ لَا يَخْتَارُ طَلَاقَهَا ؛ لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ هَذِهِ
الْأُمُورَ : اخْتَارَ طَلَاقَهَا ؛ فَيَقُولُ إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت أَوْ
خُنْت فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَمُرَادُهُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا :
إمَّا عُقُوبَةً لَهَا ؛ وَإِمَّا كَرَاهَةً لِمُقَامِهِ مَعَهَا
عَلَى هَذَا الْحَالِ : فَهَذَا مُوقِعٌ لِلطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ ؛ لَا حَالِفٌ : وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ : كَابْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَابْنِ عُمَرَ ؛ وَعَنْ التَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا : إنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؛ وَلَكِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الشِّيعَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ . وَهَذَا لَيْسَ بِحَالِفِ ؛ وَلَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ سَمَّى هَذَا حَالِفًا كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُعَلِّقٍ حَالِفًا ؛ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُنْجِزٍ لِلطَّلَاقِ حَالِفًا . وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ ؛ وَلَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَا كَلَامِ الصَّحَابَةِ ؛ وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ يَمِينًا لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمِينِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْمُسَمَّى . وَهُوَ ظَنُّهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ . وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ فَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ . وَهَذَا الْقَسَمُ إذَا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ فَإِنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ كَارِهًا لِلْجَزَاءِ ؛ وَهُوَ أَكْرَهُ إلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ : فَيَكُونُ كَارِهًا لِلشَّرْطِ ؛ وَهُوَ لِلْجَزَاءِ أَكْرَهُ وَيَلْتَزِمُ أَعْظَمَ الْمَكْرُوهَيْنِ عِنْدَهُ لِيَمْتَنِعَ بِهِ مِنْ أَدْنَى الْمَكْرُوهَيْنِ . فَيَقُولُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ . أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ . أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ وَنَحْوَ ذَلِكَ . أَوْ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ : إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت أَوْ خُنْت : فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقْصِدُ زَجْرَهَا أَوْ تَخْوِيفَهَا بِالْيَمِينِ لَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُرِيدًا لَهَا وَإِنْ
فَعَلَتْ
ذَلِكَ ؛ لِكَوْنِ طَلَاقِهَا أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ مُقَامِهَا عَلَى تِلْكَ
الْحَالِ فَهُوَ عَلَّقَ بِذَلِكَ لِقَصْدِ الْحَظْرِ وَالْمَنْعِ ؛ لَا لِقَصْدِ
الْإِيقَاعِ : فَهَذَا حَالِفٌ لَيْسَ بِمُوقِعِ . وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الَّذِي تُجْزِئُهُ الْكَفَّارَةُ . وَالنَّاسُ
يَحْلِفُونَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَقَدْ يَحْلِفُونَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الَّتِي
فِي مَعْنَاهَا ؛ فَإِنْ عَلِمَ هَذَا وَهَذَا سَوَاءٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَبْنَى أَحْكَامِ أُصُولِ الدِّينِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَتَقَدَّمَ .
فَصْلٌ :
" وَالطَّلَاقُ نَوْعَانِ " نَوْعٌ أَبَاحَهُ اللَّهُ وَنَوْعٌ
حَرَّمَهُ . فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ
بَعْدَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا وَيُسَمَّى "
طَلَاقَ السُّنَّةِ " فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ طَلَّقَهَا أَيَّ
وَقْتٍ شَاءَ أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا فَإِنْ
طَلَّقَهَا بِالْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا : كَانَ هَذَا
طَلَاقًا مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَفِي وُقُوعِهِ "
قَوْلَانِ " لِلْعُلَمَاءِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ
وَطَلَاقُ السُّنَّةِ الْمُبَاحِ : إمَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَتَبِينُ أَوْ يُرَاجِعُهَا فِي الْعِدَّةِ . فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ : فَهَذَا حَرَامٌ وَفَاعِلُهُ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ أَوْ الْعَقْدِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ ؟ أَوْ ثَلَاثٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . قِيلَ : يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الثَّلَاثَةِ . وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ؛ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ : طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً } . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ ركانة بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ وَاحِدَةٌ } وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ ثَابِتٍ أَنَّهُ أَلْزَمَ بِالثَّلَاثِ لِمَنْ طَلَّقَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً ؛ وَحَدِيثُ ركانة الَّذِي يَرْوِي فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ ؛ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سَأَلَهُ " ؛ وَقَالَ : " مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً " ؟ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ : ضَعَّفَهُ أَحْمَد ، وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَابْنُ حَزْمٍ ؛ بِأَنَّ رُوَاتَهُ لَيْسُوا مَوْصُوفِينَ بِالْعَدْلِ وَالضَّبْطِ . وَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الصَّحِيحَ فِي حَدِيثِ ركانة أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَجَعَلَهَا وَاحِدَةً . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ يَمِينًا مِنْ الْأَيْمَانِ ، فَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ
أَقْسَامٍ :
" أَحَدُهَا " مَا لَيْسَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ
الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ . كَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ
وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ ؛ وَتُرْبَتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَهَذِهِ يَمِينٌ
غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ
هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّهْيِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ
فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ . فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ
بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَقَالَ { إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا
بِآبَائِكُمْ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ
اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } . " وَالثَّانِي " الْيَمِينُ بِاَللَّهِ
تَعَالَى كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ . فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ
فِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ
مَقْصُودُ الْحَالِفِ بِهَا تَعْظِيمَ الْخَالِقِ - لَا الْحَلِفَ
بِالْمَخْلُوقَاتِ - كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ أَوْ
الْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ . أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا
. أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ حَرَامٌ . أَوْ الطَّلَاقُ
يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُهُ . أَوْ إنْ
فَعَلْته فَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ . وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ إذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا عَلَّقَهُ وَحَلَفَ بِهِ . وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ يَجْزِيه فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَالْحِلْفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِلْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } فَإِذَا قَالَ : الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا . أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا . أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ : أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَإِنْ كَفَّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَهُوَ أَحْسَنُ . وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْعِتْقِ أَوْ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتِهِمْ وَإِذَا أَطْعَمَهُمْ أَطْعَمَ كُلَّ وَاحِدٍ جِرَايَةً مِنْ الْجِرَايَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي بَلَدِهِ : مِثْلَ أَنْ يُطْعِمَ ثَمَانِ أَوَاقٍ أَوْ تِسْعَ أَوَاقٍ بِالشَّامِيِّ وَيُطْعِمُ مَعَ ذَلِكَ إدَامَهَا ؛ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الشَّامِ فِي إعْطَاءِ الْجِرَايَاتِ خُبْزًا وَإِدَامًا . وَإِذَا كَفَّرَ يَمِينَهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ .
وَأَمَّا
إذَا قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ : مِثْلَ أَنْ
يُنَجِّزَ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ :
فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ
الطَّلَاقَ بِصِفَةِ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ
مُرِيدًا لِلطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ . فَيَقُولُ لَهَا :
إنْ فَعَلْته فَأَنْتِ طَالِقٌ . قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا فَعَلَتْهُ :
فَهَذَا مُطَلِّقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ السَّلَفِ وَجَمَاهِيرِ
الْخَلَفِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ قَصْدُهُ أَنْ يَنْهَاهَا وَيَزْجُرَهَا بِالْيَمِينِ
؛ وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ الَّذِي يَكْرَهُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛
بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لَهَا وَإِنْ فَعَلَتْهُ ؛ لَكِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ
لِمَنْعِهَا عَنْ الْفِعْلِ ؛ لَا مُرِيدًا أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ
فَعَلَتْهُ : فَهَذَا حَلِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
كَمَا تَقَدَّمَ .
فَصْلٌ :
وَالطَّلَاقُ الَّذِي يَقَعُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ
فِيهِ وَأَبَاحَهُ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا
أَوْ بَعْدَ مَا يَبِينُ حَمْلُهَا : طَلْقَةً وَاحِدَةً
فَأَمَّا " الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ " مِثْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَيْضِ أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ أَنْ يَطَأَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَبِينَ حَمْلُهَا : فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ أَوْ كَلِمَاتٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ : فَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا يَقَعُ بِهَا . فَقِيلَ : يَقَعُ بِهَا الثَّلَاثُ . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ بِهَا إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ فِي الْحَيْضِ وَبَعْدَ الْوَطْءِ : هَلْ يَلْزَمُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَمَا لَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ وَالْبَيْعُ الْمُحَرَّمُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ : طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً } . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَد : { أَنَّ ركانة بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ وَاحِدَةٌ } وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ هَذِهِ السُّنَّةِ بَلْ مَا يُخَالِفُهَا إمَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ ؛ بَلْ مَرْجُوحٌ . وَإِمَّا أَنَّهُ صَحِيحٌ لَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
:
الطَّلَاقُ مِنْهُ طَلَاقُ سُنَّةٍ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ
حَرَّمَهُ اللَّهُ . فَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً
إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا ؛ أَوْ يُطَلِّقَهَا
حَامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا . فَإِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ
وَطِئَهَا وَطَلَّقَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا
فَهَذَا " طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ " بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يَلْزَمُ ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُ ؟
عَلَى " قَوْلَيْنِ " . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ . وَإِنْ
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ أَوْ بِكَلِمَاتِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ قَبْلَ أَنْ
يُرَاجِعَهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ . ثَلَاثًا . أَوْ أَنْتِ
طَالِقٌ أَلْفَ طَلْقَةٍ . أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ .
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ : فَهَذَا حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد
وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ
تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا : فَهُوَ أَيْضًا حَرَامٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ . وَأَمَّا " السُّنَّةُ
" إذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً لَمْ يُطَلِّقْهَا الثَّانِيَةَ حَتَّى
يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ بَعْدَ
الْعِدَّةِ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ
وَكَذَلِكَ
الثَّالِثَةَ فَإِذَا طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .
وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا " الثَّلَاثَ " طَلَاقًا مُحَرَّمًا مِثْلَ
أَنْ يَقُولَ : لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً : فَهَذَا
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ " أَحَدُهُمَا " يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ .
و " الثَّانِي " لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهُ أَنْ
يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَيَنْكِحَهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ .
وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد ابْنِ حَنْبَلٍ ؛ وَهَذَا أَظْهَرُ
الْقَوْلَيْنِ ؛ لِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ : مِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
{ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ
خِلَافَةِ عُمَرَ وَاحِدَةً } . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد
وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ { ركانة بْنَ عَبْدٍ
يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَجَاءَ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ
وَرَدَّهَا عَلَيْهِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ثَبَّتَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ
وَغَيْرُهُ . وَضَعَّفَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ مَا
رُوِيَ { أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَقَدْ اسْتَحْلَفَهُ مَا أَرَدْت إلَّا
وَاحِدَةً ؟ } فَإِنَّ رُوَاةَ هَذَا مَجَاهِيلُ لَا يُعْرَفُ حِفْظُهُمْ وَعَدْلُهُمْ
؛ وَرُوَاةُ الْأَوَّلِ مَعْرُوفُونَ بِذَلِكَ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ مَقْبُولٍ أَنَّ
أَحَدًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ
الثَّلَاثَ ؛ بَلْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ
أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ وَلَكِنْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ : { أَنَّ فُلَانًا
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } . أَيْ ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً . وَجَاءَ { أَنَّ
الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ ثَلَاثًا } وَتِلْكَ امْرَأَةٌ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى
رَجْعَتِهَا ؛ بَلْ هِيَ
مُحَرَّمَةٌ
عَلَيْهِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا كَمَا لَوْ طَلَّقَ
الْمُسْلِمُ امْرَأَتَهُ إذَا ارْتَدَّتْ ثَلَاثًا . وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ
امْرَأَةُ الْيَهُودِيِّ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ؛ أَوْ أَسْلَمَ زَوْجُ
الْمُشْرِكَةِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا . وَإِنَّمَا الطَّلَاقُ الشَّرْعِيُّ أَنْ
يُطَلِّقَ مَنْ يَمْلِكُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِعِقْدِ جَدِيدٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : (*)
إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالْحَرَامِ فَقَالَ : الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا
أَفْعَلُ كَذَا . أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْت كَذَا . أَوْ مَا يَحِلُّ
لِلْمُسْلِمِينَ يَحْرُمُ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت كَذَا . أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَلَهُ
زَوْجَةٌ : فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ ؛ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ مِنْ
الْأَيْمَانِ لَا يَلْزَمُهُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْحَلِفَ
بِالطَّلَاقِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد الْمَشْهُورُ عَنْهُ حَتَّى
لَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ
الطَّلَاقُ عِنْدَهُ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَصَدَ
بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ
الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ
وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى . وَجَعَلَ الْإِيلَاءَ
يَمِينًا يَتَرَبَّصُ فِيهَا الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ : فَإِمَّا أَنْ
يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ . كَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إنَّهُ إذَا كَانَ مُزَوَّجًا فَحَرَّمَ امْرَأَتَهُ أَوْ
حَرَّمَ الْحَلَالَ مُطْلَقًا كَانَ مُظَاهِرًا وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد وَإِذَا
حَلَفَ بِالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَحَنِثَ
فِي
يَمِينِهِ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَذْهَبِهِ ؛ لَكِنْ قِيلَ إنَّ
الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَسَوَاءٌ حَلَفَ أَوْ أَوْقَعَ وَهُوَ
الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : بَلْ إنْ حَلَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَإِنْ أَوْقَعَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ . وَهَذَا
أَقْوَى وَأَقْيَسُ عَلَى أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَالْحَالِفُ بِالْحَرَامِ
يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا يُجْزِئُ الْحَالِفُ بِالنَّذْرِ إذَا قَالَ :
إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ كَذَلِكَ إذَا
حَلَفَ بِالْعِتْقِ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؛ كَذَلِكَ الْحَلِفُ . بِالطَّلَاقِ يُجْزِئُ فِيهِ
أَيْضًا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا أَفْتَى بِهِ [ جَمَاعَةٌ ] مِنْ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ؛ بَلْ
مَعْنَاهُ يُوَافِقُهُ . فَكُلُّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي
أَيْمَانِهِمْ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ أَنْ
يُعْتِقَ أَوْ أَنْ يُظَاهِرَ : فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أَوْقَعَهُ سَوَاءٌ كَانَ
مُنْجِزًا أَوْ مُعَلِّقًا وَلَا يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ : هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا قَوْلُهُ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهِيَ حَائِضٌ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ
عَلَى أَصْلَيْنِ " أَحَدِهِمَا " أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ
مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّهُ
لَا يُعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ نِزَاعٌ وَهُوَ طَلَاقٌ بِدْعَةٍ . وَأَمَّا " طَلَاقُ السُّنَّةِ " أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَا يَمَسُّهَا فِيهِ أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ ؛ أَوْ بَعْدَ مَا وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ حَمْلُهَا لَهُ : فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } . وَفِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ : أَنَّ { ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ فِيهَا النِّسَاءُ } . وَأَمَّا جَمْعُ " الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ " فَفِيهِ قَوْلَانِ " أَحَدُهُمَا " مُحَرَّمٌ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ أَحْمَد : تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَإِذَا كُلُّ طَلَاقٍ فِيهِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - يَعْنِي طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا - غَيْرَ قَوْلِهِ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ بِأَنْ يُفَرِّقَ الطَّلَاقَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَيُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً ؟ فِيهِ " قَوْلَانِ " هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد " إحْدَاهُمَا " لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . " وَالثَّانِيَةُ " لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ ؛ بَلْ هُوَ تَرْكُ الْأَفْضَلِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد : اخْتَارَهَا الخرقي . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ { فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُغِيرَةِ ثَلَاثًا وَبِأَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا وَبِأَنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ } . وَأَجَابَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ وَامْرَأَةِ رِفَاعَةَ إنَّمَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الثَّالِثَةَ آخِرُ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ؛ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا مُجْتَمَعَاتٍ . وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ : طَلَّقَ ثَلَاثًا . يَتَنَاوَلُ مَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ . بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا . وَهَذَا طَلَاقٌ سُنِّيٌّ وَاقِعٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ ثَلَاثًا . وَأَمَّا جَمْعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةِ فَهَذَا كَانَ مُنْكِرًا عِنْدَهُمْ إنَّمَا يَقَعُ قَلِيلًا ؛ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْقَلِيلِ الْمُنْكَرِ دُونَ الْكَثِيرِ الْحَقِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يُطَلِّقُ مُجْتَمِعَاتٍ لَا هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ هَذَا قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ ؛ بَلْ هُوَ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ . وَأَمَّا الْمُلَاعَنُ فَإِنَّ طَلَاقَهُ وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ؛ أَوْ بَعْدَ وُجُوبِ الْإِبَانَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِهَا الْمَرْأَةُ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْرُمُ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَكَانَ مُؤَكِّدًا لِمُوجَبِ اللِّعَانِ
وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي طَلَاقِ مَنْ يُمْكِنُهُ إمْسَاكُهَا ؛ لَا سِيَّمَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الثَّلَاثِ لَمْ يَقَعْ بِهَا ثَلَاثٌ وَلَا غَيْرُهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ . وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ لَمْ يَقَعْ بِهَا إذْ لَوْ وَقَعَتْ لَكَانَتْ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرِّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَلَكِنْ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : حَرَّمَهَا عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا . فَيُقَالُ : فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ؛ فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ وَأَنَّ الثَّلَاثَ لَمْ تَقَعْ جَمِيعًا ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ إنَّهُ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا . وَقَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ : طَلَّقَهَا ثَلَاثًا . فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى إنْفَاذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتِصَاصِ الْمُلَاعَنِ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مِنْ شَرْعِهِ أَنَّهَا تَحْرُمُ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلَاعِنِ اخْتِصَاصٌ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنْفَاذٍ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ الْمُلَاعِنَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ أَنْفَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُودَهُ ؛ بَلْ زَادَهُ ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ أَبْلَغُ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ ؛ إذْ تَحْرِيمُ اللِّعَانِ لَا يَزُولُ وَإِنْ نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ وَهُوَ مُؤَبَّدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ . وَاسْتَدَلَّ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ إلَّا الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ وَإِلَّا الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } إلَى قَوْلِهِ : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الرَّجْعِيِّ . وَقَوْلُهُ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إرْدَافُ الطَّلَاقِ لِلطَّلَاقِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ أَوْ يُرَاجِعَهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ . أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَمَتَى طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ وَلَمْ تَسْتَأْنِفْهَا بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ خِلَاسٍ وَابْنِ حَزْمٍ فَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ إضْرَارَ امْرَأَتِهِ طَلَّقَهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لِيُطِيلَ حَبْسَهَا فَلَوْ كَانَ إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى أَنْ يُرَاجِعَهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى قَصَرَهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دَفْعًا لِهَذَا الضَّرَرِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تُسْتَأْنَفُ بِدُونِ رَجْعَةٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ ؟ أَوْ يَقَعُ وَلَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْعِدَّةَ ؟ وَابْنُ حَزْمٍ إنَّمَا أَوْجَبَ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقٌ إلَّا يَتَعَقَّبُهُ عِدَّةٌ ؛ إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَلَزِمَهُ عَلَى ذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ الْفَاسِدُ . وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ بِمُقْتَضَى الْقُرْآنِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ هُوَ مَا يَتَعَقَّبُهُ الْعِدَّةُ وَمَا كَانَ صَاحِبُهُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانِ وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ فَلَا
يَكُونُ جَائِزًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا لِلْعِدَّةِ وَلِأَنَّهُ قَالَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدَعَهَا تَقْضِي الْعِدَّةَ فَيُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَانِيَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ يُمْسِكْ بِمَعْرُوفِ وَلَمْ يُسَرِّحْ بِإِحْسَانِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا حَالُ كُلِّ مُطَلَّقَةٍ فَلَمْ يُشَرِّعْ إلَّا هَذَا الطَّلَاقَ ثُمَّ قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } أَيْ هَذَا الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ ( مَرَّتَانِ . وَإِذَا قِيلَ : سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ . أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْطِقَ بِالتَّسْبِيحِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ : طَلَّقَ مَرَّتَيْنِ إلَّا إذَا طَلَّقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا . أَوْ مَرَّتَيْنِ : لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ : طَلَّقَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ ؛ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ طَلَّقَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ ؛ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ " { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَهَذِهِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَرَّتَيْنِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } الْآيَةَ . وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ طَلَاقٍ فَعُلِمَ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ . وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الثَّلَاثِ
كَثِيرَةٌ
قَوِيَّةٌ : مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَالْآثَارُ وَالِاعْتِبَارُ كَمَا
هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ " الْأَصْلَ فِي
الطَّلَاقِ الْحَظْرُ " وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَاجَةِ كَمَا
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّ إبْلِيسَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ وَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ
: فَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً فَيَأْتِيه
الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ : مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَعَلَ كَذَا ؛ حَتَّى يَأْتِيَهُ
الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ : مَازِلْت بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ
امْرَأَتِهِ ؛ فَيُدْنِيه مِنْهُ ؛ وَيَقُولُ : أَنْتَ أَنْتَ وَيَلْتَزِمُهُ }
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ السِّحْرِ : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ
وَالْمُنْتَزِعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ } وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا
امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ
عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ } وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ إلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ فَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ
بِوَاحِدَةٍ فَمَا زَادَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْحَظْرِ .
" الْأَصْلُ الثَّانِي " أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ الَّذِي
يُسَمَّى " طَلَاقَ الْبِدْعَةِ " إذَا أَوْقَعَهُ الْإِنْسَانُ هَلْ
يَقَعُ أَمْ لَا ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْأَكْثَرُونَ
يَقُولُونَ بِوُقُوعِهِ مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا
يَقَعُ . مِثْلَ طَاوُوسٍ وَعِكْرِمَةَ وَخِلَاسٍ وَعُمَرَ وَمُحَمَّدِ بْنِ
إسْحَاقَ وَحَجَّاجِ بْنِ أرطاة وَأَهْلِ الظَّاهِرِ :
كدَاوُد وَأَصْحَابِهِ . وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَيُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ : دَاوُد وَأَصْحَابُهُ ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ بِتَحْرِيمِ الثَّلَاثِ . وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مَجْمُوعُ الثَّلَاثِ إذَا أَوْقَعَهَا جَمِيعًا ؛ بَلْ يَقَعُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ وَلَمْ يُعْرَفْ قَوْلُهُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ ؛ وَلَكِنْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ جَمِيعًا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا ؛ لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ لَا يُعْرَفُ لِقَائِلِهِ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ ؛ لَكِنْ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ لَا يَقُولُ بِتَحْرِيمِ جَمْعِ الثَّلَاثِ ؛ فَلِذَا يُوقِعُهَا وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً . وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَفَ قَوْلَهُ فِي الثَّلَاثِ وَلَمْ يَعْرِفْ قَوْلَهُ فِي الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ كَمَنْ يَنْقُلْ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَابْنِ عُمَرَ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ . وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى أَشْهَرَ وَأَثْبَتَ : أَنَّهُ يَقَعُ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ . وَأَمَّا " جَمْعُ الثَّلَاثِ " فَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِيهَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ : رُوِيَ الْوُقُوعُ فِيهَا عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ . وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَغَيْرِهِمْ . وَرُوِيَ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِيهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَنْ عُمَرَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَنْ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُغِيثٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْمُقْنِعُ فِي أُصُولِ الْوَثَائِقِ . وَبَيَانُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّقَائِقِ " : وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ كَمْ يَلْزَمُهُ مِنْ الطَّلَاقِ ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " ثَلَاثًا " لَا مَعْنَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا مَضَى فَيَقُولُ : طَلَّقْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُخْبِرُ عَنْ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ أَتَتْ مِنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ كَانَتْ مِنْهُ فَذَلِكَ يَصِحُّ . وَلَوْ طَلَّقَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ : طَلَّقْتهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَكَانَ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ثَلَاثًا يُرَدِّدُ الْحَلِفَ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ وَأَمَّا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَالَ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ حَلَفَ إلَّا يَمِينًا وَاحِدَةً وَالطَّلَاقُ مِثْلُهُ . قَالَ : وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَ الزُّبَيْرُ ابْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ . روينا ذَلِكَ كُلَّهُ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ يَعْنِي الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ وَضَّاحٍ الَّذِي يَأْخُذُ عَنْ طَبَقَةِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وسحنون بْنِ سَعِيدٍ وَطَبَقَتُهُمْ . قَالَ : وَبِهِ قَالَ مِنْ شُيُوخِ قُرْطُبَةَ ابْنُ زنباع شَيْخُ هُدًى وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْحُسَيْنِيُّ فَقِيهُ عَصْرِهِ وَابْنُ بقي بْنِ مخلد وأصبغ ابْنُ الحباب وَجَمَاعَةٌ سِوَاهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ وَذَكَرَ هَذَا عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ فَقِيهًا مِنْ فُقَهَاءِ طُلَيْطِلَةَ الْمُتَعَبِّدِينَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . قُلْت : وَقَدْ ذَكَرَهُ التِّلْمِسَانِيُّ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِي مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ حَكَاهُ عَنْ الْمَازِنِيَّ وَغَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ
مَالِكٍ وَكَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ أَحْيَانًا الشَّيْخُ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَّة وَهُوَ وَغَيْرُهُ يَحْتَجُّونَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا أَمْرًا كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ } . وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّ { أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : هَاتِ مِنْ هَنَاتِك أَلَمْ يَكُنْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً ؟ قَالَ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ . فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ وَأَجَازَهُ } . وَاَلَّذِينَ رَدُّوا هَذَا الْحَدِيثَ تَأَوَّلُوهُ بِتَأْوِيلَاتِ ضَعِيفَةٍ وَكَذَلِكَ كَلُّ حَدِيثٍ فِيهِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْزَمَ الثَّلَاثَ بِيَمِينِ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً . أَوْ أَنَّ أَحَدًا فِي زَمَنِهِ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً فَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ } مِثْلَ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَآخَرَ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ وَآخَرَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ وَيُعْرَفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِنَقْدِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَأَقْوَى مَا رَدُّوهُ بِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا : ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَفْتَى بِلُزُومِ الثَّلَاثِ .
وَجَوَابُ الْمُسْتَدِلِّينَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُهَا وَاحِدَةً ؛ وَثَبَتَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُوَافِقُ حَدِيثَ طَاوُوسٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَرْفُوعُ { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ؛ فَرَّدَهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ؛ حَدَّثَنَا أَبِي ؛ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : { طَلَّقَ ركانة بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؛ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا قَالَ : فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَيْفَ طَلَّقْتهَا ؟ قَالَ : فَقَالَ : طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا قَالَ : فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ . فَإِنَّهَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إنْ شِئْت قَالَ فَرَاجَعَهَا ؛ } وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : إنَّمَا الطَّلَاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ . قُلْت وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ فِيهِ ابْنُ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي دَاوُد ؛ ودَاوُد مِنْ شُيُوخِ مَالِكٍ وَرِجَالِ الْبُخَارِيِّ ؛ وَابْنِ إسْحَاقَ إذَا قَالَ . حَدَّثَنِي . فَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَهَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ ؛ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد هَذَا الطَّرِيقَ الْجَيِّدَ ؛ فَلِذَلِكَ ظَنَّ أَنَّ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بَائِنًا أَصَحُّ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ بَلْ الْإِمَامُ أَحْمَد رَجَّحَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى تِلْكَ ؛ وَهُوَ كَمَا قَالَ أَحْمَد . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ ركانة مِنْ وَجْهَيْنِ وَهُوَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ { رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ ركانة وَنَافِعِ بْنِ عَجِيرٍ : أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ و أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْلَفَهُ فَقَالَ : مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ } فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَجَاهِيلُ لَا تُعْرَفُ أَحْوَالُهُمْ وَلَيْسُوا فُقَهَاءَ وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَهُمْ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدِيثُ ركانة فِي أَلْبَتَّةَ لَيْسَ بِشَيْءِ . وَقَالَ أَيْضًا : حَدِيثُ ركانة لَا يُثْبِتُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ ابْنَ إسْحَاقَ يَرْوِيه عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ " ثَلَاثًا " أَلْبَتَّةَ . فَقَدْ اسْتَدَلَّ أَحْمَد عَلَى بُطْلَانِ حَدِيثِ أَلْبَتَّةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ وَقَدْ بَيَّنَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ وَهَذَا الْإِسْنَادُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ : حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : هُوَ إسْنَادٌ ثَابِتٌ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ } وَصَحَّحَ ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَابْنُ إسْحَاقَ إذَا قَالَ : حَدَّثَنِي فَحَدِيثُهُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إنَّمَا يُخَافُ عَلَيْهِ التَّدْلِيسُ إذَا عَنْعَنَ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَكِلَاهُمَا يُوَافِقُ حَدِيثَ طَاوُوسٍ عَنْهُ وَأَحْمَد كَانَ يُعَارِضُ حَدِيثَ طَاوُوسٍ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَنَحْوَهُ .
وَكَانَ أَحْمَد يَرَى جَمْعَ الثَّلَاثِ جَائِزًا ثُمَّ رَجَعَ أَحْمَد عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَوَجَدْت الطَّلَاقَ الَّذِي فِيهِ هُوَ الرَّجْعِيُّ . أَوْ كَمَا قَالَ . وَاسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَتَبَيَّنَ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ ؛ لَا مَجْمُوعَةً وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ حَدِيثَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ جَمَعَ ثَلَاثًا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا وَاحِدَةٌ . وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ؛ بَلْ الْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ وَالنَّهْيُ عِنْدَهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ الثَّابِتَةُ عَنْهُ تَقْتَضِي مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا وَاحِدَةٌ وَعُدُولُهُ عَنْ الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ركانة وَغَيْرِهِ كَانَ أَوَّلًا لَمَّا عَارَضَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ جَوَازِ جَمْعِ الثَّلَاثِ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ ؛ ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ وَتَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ هَذَا الْمُعَارِضِ . وَأَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَا يَجُوزُ : فَوَجَبَ عَلَى أَصْلِهِ الْعَمَلُ بِالنُّصُوصِ السَّالِمَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَيْسَ يُعَلُّ حَدِيثِ طَاوُوسٍ بِفُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافِهِ ؛ وَهَذَا عِلْمُهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ وَلَكِنْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ عُذْرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْإِلْزَامِ . بِالثَّلَاثِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ عُذْرُهُ هُوَ الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ لَمَّا تَتَابَعُوا فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ فَعُوقِبُوا بِلُزُومِهِ ؛ بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُكْثِرِينَ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَكْثَرُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَاسْتَخَفُّوا بِحَدِّهَا كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ فِيهَا ثَمَانِينَ وَيَنْفِي فِيهَا وَيَحْلِقُ الرَّأْسَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا قَاتَلَ عَلِيٌّ بَعْضَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هُوَ مِمَّا كَانُوا يُعَاقِبُونَ بِهِ أَحْيَانًا : إمَّا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَإِمَّا بِدُونِهِ . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَالْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ لِيَمْتَنِعَ عَنْ الطَّلَاقِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَمَالِكِ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ حَرَّمُوا الْمَنْكُوحَةَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى النَّاكِحِ أَبَدًا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ وَالْحُكْمَانِ لَهُمَا عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا بِلَا عِوَضٍ إذَا رَأَيَا الزَّوْجَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجَةِ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِلْزَامُ عُمَرَ بِالثَّلَاثِ لَمَّا أَكْثَرُوا مِنْهُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ رَآهُ عُقُوبَةً تُسْتَعْمَلُ وَقْتَ الْحَاجَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَآهُ شَرْعًا لَازِمًا ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يُوقِعُونَهُ إلَّا قَلِيلًا : وَهَكَذَا كَمَا اخْتَلَفَ كَلَامُ النَّاسِ فِي نَهْيِهِ عَنْ الْمُتْعَةِ : هَلْ كَانَ نَهْيَ اخْتِيَارٍ لِأَنَّ إفْرَادَ الْحَجِّ بِسَفْرَةِ وَالْعُمْرَةِ بِسَفْرَةِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ التَّمَتُّعِ ؟ أَوْ كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ الْفَسْخِ ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِالصَّحَابَةِ ؟ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالصَّحَابَةُ قَدْ
نَازَعُوهُ فِي ذَلِكَ وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى وَغَيْرِهِمْ : فِي الْمُتْعَةِ وَفِي الْإِلْزَامِ بِالثَّلَاثِ . وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَرَى أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ . وَكَانَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَرَيَانِ أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَتَيَمَّمُ وَخَالَفَهُمَا عَمَّارٌ وَأَبُو مُوسَى وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَطْبَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ ؛ لَمَّا كَانَ مَعَهُمْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا كَثِيرٌ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَا أَخَذَ النَّاسُ بِهِ . وَاَلَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَازِمًا يَقُولُونَ : هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ : أَنَّ إيقَاعَاتِ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَا تَقَعُ لَازِمَةً : كَالْبَيْعِ الْمُحَرَّمِ وَالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ وَالْكِتَابَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَلِهَذَا أَبْطَلُوا نِكَاحَ الشَّغَارِ وَنِكَاحَ الْمُحَلِّلِ وَأَبْطَلَ مَالِكٌ وَأَحْمَد الْبَيْعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ النِّدَاءِ ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الظِّهَارِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْسَهُ مُحَرَّمٌ ؛ كَمَا يَحْرُمُ الْقَذْفُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي هِيَ نَفْسُهَا مُحَرَّمَةٌ : فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَسِمَ إلَى صَحِيحٍ وَغَيْرِ صَحِيحٍ ؛ بَلْ صَاحِبُهَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِكُلِّ حَالٍ فَعُوقِبَ الْمُظَاهِرُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَا قَصَدَهُ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهِ الطَّلَاقَ وَهُوَ مُوجِبُ لَفْظِهِ ؛ فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُحَرَّمٌ ؛ وَأَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ . أَمَّا الطَّلَاقُ فَجِنْسُهُ مَشْرُوعٌ : كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ ؛ فَهُوَ يَحُلُّ تَارَةً وَيَحْرُمُ تَارَةً
فَيَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ كَمَا يَنْقَسِمُ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ . وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الْجِنْسِ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطْلِقُونَ بِالظِّهَارِ فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُحَرَّمٌ : كَانَ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مُحَرَّمٍ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الطَّلَاقَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ ؛ كَلَفْظِ الْحَرَامِ وَهَذَا قِيَاسُ أَصْلِ الْأَئِمَّةِ : مَالِكٍ ؛ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَلَكِنْ الَّذِينَ خَالَفُوا قِيَاسَ أُصُولِهِمْ فِي الطَّلَاقِ خَالَفُوهُ لِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْآثَارِ . فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَدَّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ الَّتِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالُوا : هُمْ أَعْلَمُ بِقِصَّتِهِ فَاتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ نَازَعَهُمْ يَقُولُ : مَازَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَرْوُونَ أَحَادِيثَ وَلَا تَأْخُذُ الْعُلَمَاءُ بِمَا فَهِمُوهُ مِنْهَا ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا رَوَوْهُ ؛ لَا بِمَا رَأَوْهُ وَفَهِمُوهُ . وَقَدْ تَرَكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ قَوْلَهُ : " فَاقْدُرُوا لَهُ " وَتَرَكَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا تَفْسِيرَهُ لِحَدِيثِ { الْبَيِّعَيْنِ بِالْخِيَارِ } مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ . وَتَرَكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ تَفْسِيرَهُ لِقَوْلِهِ : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } . وَقَوْلِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا . وَكَذَلِكَ إذَا خَالَفَ الرَّاوِي مَا رَوَاهُ كَمَا تَرَكَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا ؛ مَعَ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثَ { بَرِيرَةَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهَا بَعْدَ أَنْ بِيعَتْ وَعَتَقَتْ } فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا رَوَوْهُ لَا مَا رَأَوْهُ وَفَهِمُوهُ .
وَلِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا بِالثَّلَاثِ الْمَجْمُوعَةِ قَالُوا : لَا يُلْزِمُونَ بِذَلِكَ إلَّا وَذَلِكَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ ؛ وَاعْتَقَدَ طَائِفَةٌ لُزُومَ هَذَا الطَّلَاقِ وَأَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ ؛ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْلَمُوا خِلَافًا ثَابِتًا ؛ لَا سِيَّمَا وَصَارَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ مَعْرُوفًا عَنْ الشِّيعَةِ الَّذِينَ لَمَّ يَنْفَرِدُوا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِحَقِّ . قَالَ الْمُسْتَدِلُّونَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ بَعْضُ الشِّيعَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ جَامِعُ الثَّلَاثِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ : هَذَا الْقَوْلُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ؛ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ عَلَى بَعْضِهِ ؛ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هَلْ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ ؟ أَوْ يَقَعُ ثَلَاثٌ ؟ وَالنِّزَاعُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ ثَابِتٌ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ ؛ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْعًا لَازِمًا لِلْأُمَّةِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا : مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ احْتَجَّ عَلَى هَذَا بِالْكِتَابِ وَبَعْضُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَبَعْضُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحُجَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْمُنَازِعَ يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ وَأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاعْتِبَارَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ اللُّزُومِ وَتُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا إجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ ؛ بَلْ الْآثَارُ الثَّابِتَةُ عَمَّنْ أَلْزَمَ بِالثَّلَاثِ مَجْمُوعَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِمَّا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ شَرْعًا لَازِمًا كَمَا شَرَعَ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ ؛ بَلْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِي الْعُقُوبَةِ بِإِلْزَامِ ذَلِكَ إذَا كَثُرَ وَلَمْ يَنْتَهِ النَّاسُ عَنْهُ .
وَقَدْ ذُكِرَتْ الْأَلْفَاظُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ الصَّحَابَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا بِالثَّلَاثِ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ بِإِيقَاعِهَا جُمْلَةً فَأَمَّا مَنْ كَانَ يَتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } فَمَنْ لَا يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ حَتَّى أَوْقَعَهَا ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ التَّحْرِيمَ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْمُحَرَّمِ : فَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ ؛ وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ : مَا يُوجِبُ لُزُومَ الثَّلَاثِ لَهُ وَنِكَاحُهُ ثَابِتٌ بِيَقِينِ وَامْرَأَتُهُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْغَيْرِ بِيَقِينِ وَفِي إلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ إبَاحَتُهَا لِلْغَيْرِ مَعَ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَذَرِيعَةٌ إلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . و " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ . وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ أَنَّ امْرَأَةً أُعِيدَتْ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى عَهْدِهِمْ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ ؛ بَلْ { لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } و { لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّحْلِيلِ الشُّهُودَ وَلَا الزَّوْجَةَ وَلَا الْوَلِيَّ ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ الَّذِي كَانَ يُفْعَلُ كَانَ مَكْتُومًا بِقَصْدِ الْمُحَلِّلِ أَوْ يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُطَلِّقُ الْمُحَلَّلُ لَهُ . وَالْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا لَا يَعْلَمُونَ قَصْدَهُ وَلَوْ عَلِمُوا لَمْ يَرْضَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ النَّاسِ ؛ وَلِأَنَّ عَادَاتِهِمْ لَمْ تَكُنْ بِكِتَابَةِ الصَّدَاقِ فِي كِتَابٍ وَلَا إشْهَادٍ عَلَيْهِ ؛ بَلْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ وَيُعْلِنُونَ النِّكَاحَ وَلَا يَلْتَزِمُونَ أَنْ يُشْهِدُوا عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ كَمَا هُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . هَكَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ . فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَحْلِيلٌ ظَاهِرٌ وَرَأْيٌ فِي إنْفَاذِ الثَّلَاثِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ الْمُحَرَّمِ : فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ . أَمَّا إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَإِنْفَاذُ الثَّلَاثِ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ التَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ - بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - وَالِاعْتِقَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَالَ مَفْسَدَةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِمَفَاسِدَ أَغْلَظَ مِنْهَا ؛ بَلْ جَعَلَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ كَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ أَوْلَى ؛ وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ أَبِي الْبَرَكَاتِ يُفْتُونَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ . وَهَذَا : إمَّا لِكَوْنِهِمْ رَأَوْهُ مِنْ " بَابِ التَّعْزِيرِ " الَّذِي يَجُوزُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ ؛ كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ فِي الْخَمْرِ وَالنَّفْيِ فِيهِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ . وَإِمَّا لِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ : فَرَأَوْهُ تَارَةً لَازِمًا . وَتَارَةً غَيْرَ لَازِمٍ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ " شَرْعًا لَازِمًا " إنَّمَا لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَسْخٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَحَدِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْصِدَ هَذَا ؛ لَا سِيَّمَا الصَّحَابَةُ ؛ لَا سِيَّمَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ؛ وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ : كَالرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ أَوْ يُفَسِّقُونَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ
لَمْ
يُقِرَّهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى أَعْظَمِ
الْمُنْكَرَاتِ وَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ : كَعِيسَى بْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ
الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ : أَنَّ الْإِجْمَاعَ يُنْسَخُ بِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَكُنَّا نَتَأَوَّلُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ
الْإِجْمَاعَ يَدُلُّ عَلَى نَصٍّ نَاسِخٍ فَوَجَدْنَا مَنْ ذَكَرَ عَنْهُمْ
أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْإِجْمَاعَ نَفْسَهُ نَاسِخًا فَإِنْ كَانُوا أَرَادُوا
ذَلِكَ فَهَذَا قَوْلٌ يَجُوزُ تَبْدِيلُ الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ بَعْدَ
نَبِيِّهِمْ كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى مِنْ : أَنَّ الْمَسِيحَ سَوَّغَ
لِعُلَمَائِهِمْ أَنْ يُحَرِّمُوا مَا رَأَوْا تَحْرِيمَهُ مَصْلَحَةً ؛
وَيُحِلُّوا مَا رَأَوْا تَحْلِيلَهُ مَصْلَحَةً وَلَيْسَ هَذَا دِينُ
الْمُسْلِمِينَ وَلَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُسَوِّغُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ .
وَمَنْ اعْتَقَدَ فِي الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ
فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ كَمَا يُسْتَتَابُ أَمْثَالُهُ ؛ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ
يَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي فَيُصِيبُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ
وَيُخْطِئُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ .
وَمَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " شَرْعًا
مُعَلَّقًا بِسَبَبِ " إنَّمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ
: كَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ؛ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ . وَبَعْضُ النَّاسِ ظَنَّ أَنَّ هَذَا نُسِخَ لِمَا رُوِيَ عَنْ
عُمَرَ : أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى عَنْ التَّأَلُّفِ فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وَهَذَا الظَّنُّ غَلَطٌ ؛ وَلَكِنْ
عُمَرُ اسْتَغْنَى فِي زَمَنِهِ عَنْ إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ
فَتَرَكَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ؛ لَا لِنَسْخِهِ كَمَا لَوْ فُرِضَ
أَنَّهُ عُدِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ابْنُ السَّبِيلِ وَالْغَارِمُ وَنَحْوُ
ذَلِكَ .
و " مُتْعَةُ الْحَجِّ " قَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهَا وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَقُولُونَ : لَمْ يُحَرِّمْهَا ؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالْأَفْضَلِ وَهُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَحَدُهُمْ مِنْ دويرة أَهْلِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةِ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ حَتَّى إنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد مَنْصُوصٌ عَنْهُ : أَنَّهُ إذَا اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَفْرَدَ الْحَجَّ فِي أَشْهُرِهِ : فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ ؛ مَعَ قَوْلِهِمَا بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ الْمُجَرَّدِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّ عُمَرَ أَرَادَ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ . قَالُوا إنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بِهِ لَا يَجُوزُ وَأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ مِنْ الْفَسْخِ كَانَ خَاصًّا بِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَآخَرُونَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَابَلُوا هَذَا وَقَالُوا : بَلْ الْفَسْخُ وَاجِبٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ إلَّا مُتَمَتِّعًا : مُبْتَدِئًا أَوْ فَاسِخًا كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةِ . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " : أَنَّ الْفَسْخَ جَائِزٌ وَهُوَ أَفْضَلُ . وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُفْسَخَ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ ؛ وَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً مُجْمَعًا عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يَحُجَّ مُتَمَتِّعًا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ . فَأَمَّا حَجُّ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ : فَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَجَوَازِ الْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصَّوْمِ وَالْقَصْرِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَعُمَرُ لَمَّا نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ ؛ بِخِلَافِ نَهْيِهِ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّ عَلِيًّا وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ وَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْكَرَ عَلِيٌّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إبَاحَةَ الْمُتْعَةِ قَالَ : إنَّك امْرُؤٌ تَائِهٌ ؛ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ مُتْعَةَ النِّسَاءِ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ عَامَ خَيْبَرَ فَأَنْكَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إبَاحَةَ الْحُمُرِ وَإِبَاحَةَ مُتْعَةِ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُبِيحُ هَذَا وَهَذَا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ ذَلِكَ وَذَكَرَ لَهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ وَحَرَّمَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ } وَيَوْمَ خَيْبَرَ كَانَ تَحْرِيمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ . وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ . وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا حُرِّمَتْ ؛ ثُمَّ أُبِيحَتْ ثُمَّ حُرِّمَتْ . فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ ثَلَاثًا ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَنَفَذْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِمْ : هُوَ بَيَانُ أَنَّ النَّاسَ أَحْدَثُوا مَا اسْتَحَقُّوا عِنْدَهُ أَنْ يُنَفِّذَ عَلَيْهِمْ الثَّلَاثَ فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ كَالنَّهْيِ عَنْ مُتْعَةِ الْفَسْخِ ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالصَّحَابَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ . وَبِهَذَا أَيْضًا تَبْطُلُ دَعْوَى مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخًا كَنَسْخِ مُتْعَةِ النِّسَاءِ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ عُمَرَ رَأَى ذَلِكَ لَازِمًا فَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ اجتهده فِي الْمَنْعِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ ؛ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا
وَهَذَا قَوْلٌ مَرْجُوحٌ قَدْ أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَعَ مَنْ أَنْكَرَهُ . وَهَكَذَا الْإِلْزَامُ بِالثَّلَاثِ . مَنْ جَعَلَ قَوْلَ عُمَرَ فِيهِ شَرْعًا لَازِمًا . قِيلَ لَهُ : فَهَذَا اجْتِهَادُهُ قَدْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْحُجَّةِ مَعَ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الْمَرْجُوحَ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُمَرُ جَعَلَ هَذَا عُقُوبَةً تُفْعَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بِعُمَرِ ثُمَّ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ يَدْخُلُهَا الِاجْتِهَادُ مِنْ " وَجْهَيْنِ " مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ بِذَلِكَ : هَلْ تُشْرَعُ ؟ أَمْ لَا ؟ فَقَدْ يَرَى الْإِمَامُ أَنْ يُعَاقِبَ بِنَوْعِ لَا يَرَى الْعُقُوبَةَ بِهِ غَيْرُهُ كَتَحْرِيقِ عَلِيٌّ الزَّنَادِقَةَ بِالنَّارِ ؛ وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا فَمَنْ كَانَ مِنْ ( الْمُتَّقِينَ اسْتَحَقَّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ لَهُ فَرْجًا وَمَخْرَجًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ . وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنْ لَا يُطَلِّقَ إلَّا طَلَاقًا سُنِّيًّا . فَإِنَّهُ مِنْ ( الْمُتَّقِينَ فِي بَابِ الطَّلَاقِ . فَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَوَجَّهُ إلْزَامُهُ بِالثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً ؛ بَلْ يُلْزَمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ عَظِيمَةٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مُجَلَّدَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهَا هَاهُنَا تَنْبِيهًا لَطِيفًا . وَاَلَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ الَّذِي يَجُوزُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ ( الْحَاجَةِ : كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ فِي الْخَمْرِ .
وَإِمَّا
لِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ فَرَأَوْهُ لَازِمًا وَتَارَةً غَيْرَ لَازِمٍ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِكَوْنِ لُزُومِ الثَّلَاثِ شَرْعًا لَازِمًا كَسَائِرِ
الشَّرَائِعِ : فَهَذَا لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ . وَعَلَى هَذَا
الْقَوْلِ الرَّاجِحِ لِهَذَا الْمَوْقِعِ أَنْ يَلْتَزِمَ طَلْقَةً وَاحِدَةً
وَيُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ ؛ وَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَائِضًا
إذَا كَانَ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَتَابَ مِنْ الْبِدْعَةِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ " فَمَنْشَأُ النِّزَاعِ فِي
وُقُوعِهِ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرِ
بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ
امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ
ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ } فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ :
" فَلْيُرَاجِعْهَا " أَنَّهَا رَجْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ . وَبَنَوْا
عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْحَيْضِ يُؤْمَرُ بِرَجْعَتِهَا مَعَ
وُقُوعِ الطَّلَاقِ . وَهَلْ هُوَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ ؟ أَوْ أَمْرُ إيجَابٍ ؟
عَلَى " قَوْلَيْنِ " هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد .
وَالِاسْتِحْبَابُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَالْوُجُوبُ
مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَهَلْ يُطَلِّقُهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي يَلِي
حَيْضَةَ الطَّلَاقِ ؟ أَوْ لَا يُطَلِّقُهَا إلَّا فِي طُهْرٍ مِنْ حَيْضَةٍ
ثَانِيَةٍ ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " أَيْضًا هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ
أَحْمَد وَوَجْهَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا
قَبْلَ الطَّلَاقِ الثَّانِي ؟ جُمْهُورُهُمْ لَا يُوجِبُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ
يُوجِبُهُ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ وَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى قِيَاسِ
قَوْلِ مَنْ يُوقِعُ الطَّلَاقَ ؛ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي الدَّلِيلِ .
وَتَنَازَعُوا فِي عِلَّةِ مَنْعِ طَلَاقِ الْحَائِضِ : هَلْ هُوَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد ؟ أَوْ لِكَوْنِهِ حَالَ الزُّهْدِ فِي وَطْئِهَا فَلَا تَطْلُقُ إلَّا فِي حَالِ رَغْبَةٍ فِي الْوَطْءِ ؛ لِكَوْنِ الطَّلَاقِ مَمْنُوعًا لَا يُبَاحُ إلَّا لِحَاجَةِ كَمَا يَقُولُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؟ أَوْ هُوَ تَعَبُّدٌ لَا يَعْقِلُ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : قَوْلُهُ : { مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } لَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بَلْ لَمَّا طَلَّقَهَا طَلَاقًا مُحَرَّمًا حَصَلَ مِنْهُ إعْرَاضٌ عَنْهَا وَمُجَانَبَةٌ لَهَا ؛ لِظَنِّهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى مَا كَانَتْ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لِمَنْ بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ : هَذَا هُوَ الرِّبَا فَرُدَّهُ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ { رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ فَجَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَرَدَّ أَرْبَعَةً لِلرِّقِّ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي العاص بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ } فَهَذَا رَدٌّ لَهَا . { وَأَمَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَرُدَّ الْغُلَامَ الَّذِي بَاعَهُ دُونَ أَخِيهِ } . { وَأَمَرَ بَشِيرًا أَنْ يَرُدَّ الْغُلَامَ الَّذِي وَهَبَهُ لِابْنِهِ } . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . وَلَفْظُ " الْمُرَاجِعَةِ " يَدُلُّ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْحَالِ الْأَوَّلِ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِعَقْدِ جَدِيدٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } وَقَدْ يَكُونُ بِرُجُوعِ بَدَنِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ طَلَاقٌ كَمَا
إذَا أَخْرَجَ الزَّوْجَةَ أَوْ الْأَمَةَ مِنْ دَارِهِ فَقِيلَ لَهُ : رَاجِعْهَا . فَأَرْجِعْهَا كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ : حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ . وَفِي كِتَابِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى : وَأَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ . وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الْمُرَاجَعَةِ " يَقْتَضِي الْمُفَاعَلَةَ . وَالرَّجْعَةُ مِنْ الطَّلَاقِ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ بِمُجَرَّدِ كَلَامِهِ فَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا لَفْظُ الْمُرَاجَعَةِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّ بَدَنَ الْمَرْأَةِ إلَيْهِ فَرَجَعَتْ بِاخْتِيَارِهَا فَإِنَّهُمَا قَدْ تَرَاجَعَا كَمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالْعَقْدِ بِاخْتِيَارِهِمَا بَعْدَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . وَأَلْفَاظُ الرَّجْعَةِ مِنْ الطَّلَاقِ : هِيَ الرَّدُّ وَالْإِمْسَاكُ . وَتُسْتَعْمَلُ فِي اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ : كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَلَاقٌ وَقَالَ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ . وَالرَّجْعَةُ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ وَيُؤْمَرُ فِيهَا بِالْإِشْهَادِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِالْإِشْهَادِ وَقَالَ : " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا " وَلَمْ يَقُلْ : لِيَرْتَجِعَهَا " وَأَيْضًا " فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ : كَانَ ارْتِجَاعُهَا لِيُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي زِيَادَةً وَضَرَرًا عَلَيْهَا وَزِيَادَةً فِي الطَّلَاقِ الْمَكْرُوهِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَا لَهُ وَلَا لَهَا ؛ بَلْ فِيهِ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ بِارْتِجَاعِهِ لِيُطَلِّقَ مَرَّةً ثَانِيَةً زِيَادَةُ ضَرَرٍ وَهُوَ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنْ الطَّلَاقِ ؛ بَلْ أَبَاحَهُ لَهُ فِي اسْتِقْبَالِ
الطُّهْرِ مَعَ كَوْنِهِ مُرِيدًا لَهُ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَمْسَحَهَا وَأَنْ يُؤَخِّرَ الطَّلَاقَ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُبَاحُ فِيهِ كَمَا يُؤْمَرُ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا قَبْلَ وَقْتِهِ أَنْ يَرُدَّ مَا فَعَلَ وَيَفْعَلَهُ إنْ شَاءَ فِي وَقْتِهِ . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ . وَأَمَرَهُ بِتَأْخِيرِ الطَّلَاقِ إلَى الطُّهْرِ الثَّانِي لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْوَطْءِ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَّا قَبْلَ الْوَطْءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي أَمْرِهِ بِإِمْسَاكِهَا إلَيْهِ إلَّا بِزِيَادَةِ ضَرَرٍ عَلَيْهَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ . " وَأَيْضًا " فَإِنَّ ذَلِكَ مُعَاقَبَةٌ لَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ . وَبُسِطَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتِيفَاءُ كَلَامِ الطَّائِفَتَيْنِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَمَأْخَذُهَا . لَا رَيْبَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى زَوَالِهِ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ ؛ بَلْ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ تَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
طَلَاقِ السَّكْرَانِ وَنَحْوَهُ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " السَّكْرَانِ غَائِبِ الْعَقْلِ " هَلْ يَحْنَثُ إذَا حَلَفَ
بِالطَّلَاقِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْمُسَالَةُ فِيهَا "
قَوْلَانِ " لِلْعُلَمَاءِ ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ
فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ السَّكْرَانِ وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ إذَا طَلَّقَ
وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عفان ؛ وَلَمْ
يَثْبُتْ عَنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فِيمَا أَعْلَمُ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : كَعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد : اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ
وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ :
كالطَّحَاوِي . وَهُوَ مَذْهَبُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ
الصَّوَابُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ
لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّ
أَنَّهُ زَنَى : أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يستنكهوه } لِيَعْلَمُوا هَلْ هُوَ سَكْرَانُ ؟ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ سَكْرَانَ
لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ ؛ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ عُلِمَ أَنَّ
أَقْوَالَهُ بَاطِلَةٌ كَأَقْوَالِ الْمَجْنُونِ ؛ وَلِأَنَّ
السَّكْرَانَ
وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا فِي الشُّرْبِ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَإِذَا
لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ { وَإِنَّمَا
الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } . وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ تَنَاوَلَ شَيْئًا
مُحَرَّمًا جَعَلَهُ مَجْنُونًا ؛ فَإِنَّ جُنُونَهُ وَإِنْ حَصَلَ بِمَعْصِيَةِ
فَلَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ . وَمَنْ تَأَمَّلَ
أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدَهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ
الصَّوَابُ وَأَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِالسَّكْرَانِ قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ
صَحِيحَةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ كَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْمَعَالِي
الجُوَيْنِي - يَجْعَلُونَ الشَّرَائِعَ فِي النَّشْوَانِ فَأَمَّا الَّذِي عُلِمَ
أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ فَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ بِلَا رَيْبٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا مِمَّنْ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ
كَمَا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صِلَاتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَنْ لَا تَصِحُّ صِلَاتُهُ
لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَقَدْ قَالَ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ " .
قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَفِيهِ النِّزَاعُ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَجْوِبَةِ أَحْمَد فِيهِ كَانَ
التَّوَقُّفُ . وَالْأَقْوَالُ الْوَاقِعَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ :
الْقَوْلُ بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِ مُطْلَقًا : أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ .
وَالْقَوْلُ بِفَسَادِهَا مُطْلَقًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَقْوَالِهِ
وَأَفْعَالِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا . وَالْفَرْقُ
بَيْنَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ . وَمَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَمَا لَا يَنْفَرِدُ بِهِ . وَهَذَا التَّنَازُعُ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . ثُمَّ تَنَازَعُوا فِيمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِغَيْرِ سُكْرٍ " كَالْبَنْجِ " هَلْ يَلْحَقُ بِالسَّكْرَانِ ؟ أَوْ الْمَجْنُونِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يَتَمَسَّكُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءِ مِنْ كَلَامِهِ ؛ وَلَيْسَ عَنْهُ رِوَايَةٌ وَوَجْهًا ؛ بَلْ رِوَايَتَانِ مُتَأَوَّلَتَانِ . وَتَنَازَعُوا فِيمَنْ " أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ " هَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَالْخَلَّالِ : مَنْ يَنْصُرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقُهُ . وَمِنْهُمْ كَالْقَاضِي مَنْ يَنْصُرُ وُقُوعَ طَلَاقِهِ . وَاَلَّذِينَ أَوْقَعُوا طَلَاقَهُ لَهُمْ " ثَلَاثَةُ . مَآخِذَ " " أَحَدُهَا " أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ . وَصَاحِبُ هَذَا قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُعَاقِبْ أَحَدًا بِهَذَا الْجِنْسِ مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ عَدَمِ إيقَاعِهِ ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذَا مِنْ الضَّرَرِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْبَرِيئَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ الشَّخْصُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ عُقُوبَتُهُ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْجَلْدِ وَنَحْوِهِ فَعُقُوبَتُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِحُدُودِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا عَاقَبَتْهُ بِمَا السُّكْرُ مَظِنَّتُهُ ؛ وَهُوَ الْهَذَيَانُ وَالِافْتِرَاءُ
فِي الْقَوْلِ : عَلَى أَنَّهُ إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ . فَبَيَّنَ أَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى السُّكْرِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الِافْتِرَاءِ يَلْحَقُهُ بِالْمُقْدِمِ عَلَى الِافْتِرَاءِ ؛ إقَامَةً لِمَظِنَّةِ الْحِكْمَةِ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ هُنَا خَفِيَّةٌ مُسْتَتِرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُعْلَمُ افْتِرَاؤُهُ وَلَا مَتَى يَفْتَرِي وَلَا عَلَى مَنْ يَفْتَرِي ؛ كَمَا أَنَّ الْمُضْطَجِعَ يُحْدِثُ وَلَا يَدْرِي هَلْ هُوَ أَحْدَثَ أَمْ لَا فَقَامَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ . فَهَذَا فِقْهٌ مَعْرُوفٌ فَلَوْ كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ : لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَطْلُقَ امْرَأَتُهُ سَوَاءٌ طَلَّقَ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ كَمَا يُحَدُّ حَدَّ الْمُفْتَرِي سَوَاءٌ افْتَرَى أَوْ لَمْ يَفْتَرِ . وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ . " الْمَأْخَذُ الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ زَوَالَ عَقْلِهِ إلَّا بِقَوْلِهِ وَهُوَ فَاسِقٌ بِشُرْبِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْعَقْلِ وَالسُّكْرِ . وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْبَاطِنِ ؛ وَلَكِنْ فِي الظَّاهِرِ لَا يَقْبَلُ دَعْوَى الْمُسْقِطِ . وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ . " الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ " وَهُوَ مَأْخَذُ الْأَئِمَّةِ مَنْصُوصًا عَنْهُمْ : الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد : أَنَّ حُكْمَ التَّكْلِيفِ جَارٍ عَلَيْهِ ؛ لَيْسَ كَالْمَجْنُونِ الْمَرْفُوعِ عَنْهُ الْقَلَمُ وَلَا النَّائِمِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانُ مُعَاقِبٌ كَمَا ذَكَرَهُ الصَّحَابَةُ . وَلَيْسَ مَأْخَذٌ أَجْوَدَ مِنْ هَذَا . وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد : مَا قِيلَ فِيهِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا . وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ وَقْتَ السُّكْرِ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ مَنْ
لَا
عَقْلَ لَهُ وَلَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ لَمْ يَدْرِ بِشَرْعِ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى
أَنَّهُ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى ؛ بَلْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ تَنْفِي أَنْ
يُخَاطَبَ مِثْلَ هَذَا . وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ قَدْ يُؤَاخَذُ بِمَا يَفْعَلُهُ
فِي سُكْرِهِ : فَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لَكِنَّ هَذَا لِأَنَّهُ
خُوطِبَ فِي صَحْوِهِ بِأَنْ لَا يَشْرَبَ الْخَمْرَ الَّذِي يَقْتَضِي تِلْكَ
الْجِنَايَاتِ فَإِذَا فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِيمَا
فَعَلَهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ كَمَا قُلْت فِي سُكْرِ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ :
إذَا كَانَ سَبَبُ السُّكْرِ مَحْذُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا .
هَذَا الَّذِي قُلْته قَدْ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي الْحُدُودِ كَالصَّاحِي وَهَذَا
قَرِيبٌ . وَأَنَا إنَّمَا تَكَلَّمْت عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ : صِحَّتُهَا
وَفَسَادُهَا . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى } فَهُوَ نَهْيٌ لَهُمْ أَنْ يَسْكَرُوا سُكْرًا يُفَوِّتُونَ بِهِ
الصَّلَاةَ أَوْ نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ الشُّرْبِ قَرِيبَ الصَّلَاةِ أَوْ نَهْيٌ
لِمَنْ يَدِبُّ فِيهِ أَوَائِلُ النَّشْوَةِ . وَأَمَّا فِي حَالِ السُّكْرِ فَلَا
يُخَاطَبُ بِحَالِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ
وُجُوهٌ :
" أَحَدُهَا " حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ الَّذِي فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ لَمَّا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ } .
" الثَّانِي " أَنَّ عِبَادَتَهُ كَالصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ بِالنَّصِّ
وَالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ مَعَ السُّكْرِ
حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُهُ وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى هَذَا ؛ بِخِلَافِ
الشَّارِبِ غَيْرِ السَّكْرَانِ فَإِنَّ عِبَادَتَهُ تَصِحُّ بِشُرُوطِهَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَلَاتَهُ إنَّمَا لَمْ تَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا
يَقُولُ ؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ . فَنَقُولُ : كُلُّ مَنْ بَطَلَتْ
عِبَادَتُهُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ فَبُطْلَانُ عُقُودِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ قَدْ تَصِحُّ عِبَادَاتُ مَنْ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ ؛ لِنَقْصِ عَقْلِهِ : كَالصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَالْعُقُودِ مَشْرُوطَةٌ بِوُجُودِ التَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ . فَمَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَلَا عَقْلَ لَيْسَ لِكَلَامِهِ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارٌ أَصْلًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يَتَكَلَّمُ وَيَتَصَرَّفُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ . أَوْ إثْبَاتُ مِلْكٍ أَوْ إزَالَتُهُ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ مَعَ تَقْرِيرِ الشَّارِعِ لَهُ . " وَالرَّابِعُ " أَنَّ الْعُقُودَ وَغَيْرَهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَشْرُوطَةٌ بالقصود . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَقَدْ قَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي " كِتَابِ بَيَانِ الدَّلِيلِ . عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " وَقَرَّرَتْ : أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ ؛ لَسَهْوٌ وَسَبْقُ لِسَانٍ وَعَدَمُ عَقْلٍ : فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ . وَأَمَّا إذَا قُصِدَ اللَّفْظُ وَلَمْ يُقْصَدْ مَعْنَاهُ : كَالْهَازِلِ ؛ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ . وَالْمُرَادُ هُنَا " بِالْقَصْدِ " الْقَصْدُ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْعَقْلِ . فَأَمَّا الْقَصْدُ الْحَيَوَانِيُّ الَّذِي يَكُونُ لِكُلِّ حَيَوَانٍ : فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ وَهَذَا وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَالصَّبِيَّ وَغَيْرَهُمَا لَهُمَا
هَذَا
الْقَصْدُ كَمَا هُوَ لِلْبَهَائِمِ وَمَعَ هَذَا فَأَصْوَاتُهُمْ وَأَلْفَاظُهُمْ
بَاطِلَةٌ مَعَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ ؛ لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ
وَالْمَجْنُونَ الَّذِي يُمَيِّزُ أَحْيَانًا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ حِينَ التَّمْيِيزِ
. " الْخَامِسُ " أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ
وَالْإِخْبَارِ ؛ لَا مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ : وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ
السَّكْرَانَ مُعَاقَبًا أَوْ غَيْرَ مُعَاقَبٍ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِصِحَّةِ
عُقُودِهِ وَفَسَادِهَا ؛ فَإِنَّ الْعُقُودَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ
الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا وَلَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا ؛
بَلْ هِيَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ
وَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ وُجُودِ الْخَلْقِ ؛ فَإِنَّ
الْعُهُودَ وَالْوَفَاءَ بِهَا أَمْرٌ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْآدَمِيِّينَ
إلَّا بِهَا ؛ لِاحْتِيَاجِ بَعْضِ النَّاسِ إلَى بَعْضٍ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ
وَدَفْعِ الْمَضَارِّ ؛ وَإِنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ الْعَقْلِ . فَمَنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ عَقْلٌ وَلَا تَمْيِيزٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَاهَدَ وَلَا حَلَفَ وَلَا بَاعَ
وَلَا نَكَحَ وَلَا طَلَّقَ وَلَا أَعْتَقَ .
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَانَ
كَلَامُ السَّكْرَانِ بَاطِلًا بِالِاتِّفَاقِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا تَكَلَّمَ
حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سُكْرِهِ قَبْلَ
التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ : هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي . لَمْ يَكُنْ
مُؤَاخَذًا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا خَلَطَ الْمُخَلِّطُ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }
قَبْلَ النَّهْيِ لَمْ يُعْتَبْ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ لَوْ شَرِبُوا
الْخَمْرَ وَعَاهَدُوا وَشَرَطُوا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ
بِالِاتِّفَاقِ وَمَنْ سَكِرَ سُكْرًا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ مِثْلُ أَنْ
يَشْرَبَ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُسْكِرُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَأَمَّا مَنْ
سَكِرَ بِشُرْبِ مُحَرَّمٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَأْثَمُ
بِذَلِكَ
وَيَسْتَحِقُّ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا جَاءَ بِهِ أَمْرُ
اللَّهِ تَعَالَى . فَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَكِرَ
سُكْرًا يُعْذَرُ فِيهِ فَأَمَّا كَوْنُ عَهْدِهِ الَّذِي يُعَاهِدُ بِهِ
الْآدَمِيِّينَ مُنْعَقِدًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَيَحْصُلُ بِهِ
مَقْصُودُهُ : فَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ سُكْرِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ
الْمَعْذُورِ ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ الْمُوجِبُ لِصِحَّتِهِ أَنَّ
صَاحِبَهُ فَعَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ ؛ لَا أَنَّهُ بَرٌّ وَفَاجِرٌ .
وَالشَّرْعُ لَمْ يَجْعَلْ السَّكْرَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّاحِي أَصْلًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اخْتَصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ خُصُومَةً شَدِيدَةً ؛ بِحَيْثُ تَغَيَّرَ
عَقْلُهُ فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا : فَهَلْ يَجِبُ
بِذَلِكَ أَمْ لَا .
فَأَجَابَ :
إذَا بَلَغَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ لَا يَعْقِلَ مَا يَقُولُ - كَالْمَجْنُونِ -
لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ غَضِبَ فَقَالَ : طَالِقٌ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ زَوْجَتَهُ ؛ وَاسْمَهَا
؟
فَأَجَابَ :
إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ تَطْلِيقَهَا لَمْ يَقَعْ بِهَذَا اللَّفْظِ طَلَاقٌ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَ
جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ . وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ .
وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ حِينَ الطَّلَاقِ
قَدْ أَحَاطَ بِهِ أَقْوَامٌ يُعْرَفُونَ بِأَنَّهُمْ يُعَادُونَهُ أَوْ
يَضْرِبُونَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَدْفَعَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ
وَادَّعَى أَنَّهُمْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الطَّلَاقِ : قُبِلَ قَوْلُهُ . فَإِنْ
كَانَ الشُّهُودُ بِالطَّلَاقِ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ وَادَّعَى الْإِكْرَاهَ :
قُبِلَ قَوْلُهُ وَفِي تَحْلِيفِهِ نِزَاعٌ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مُسِكَ وَضُرِبَ وَسَجَنُوهُ وَغَصَبُوهُ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ
فَطَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَرَاحَتْ وَهِيَ حَامِلَةٌ مِنْهُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ . وَأَمَّا نِكَاحُهَا وَهِيَ
حَامِلٌ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهُوَ نِكَاحٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ
قَدْ وَقَعَ وَيُعَزَّرُ مَنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ وَمَنْ تَوَلَّى هَذَا
النِّكَاحَ الْمُحَرَّمَ الْبَاطِلَ . وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا حَتَّى
تَقْضِيَ الْعِدَّةَ مِنْ الْأَوَّلِ بِالْوَضْعِ . وَالْعِدَّةُ مِنْ الثَّانِي
فِيهَا خِلَافٌ . إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ النِّكَاحَ مُحَرَّمٌ فَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ
النِّكَاحِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : أَنَا مَا أُرِيدُك قُومِي ؛ رُوحِي إلَى أَهْلِك أَنَا أَبَا
أُطَلِّقُكِ وَنَوَى بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّلَاقَ : فَهَلْ يُشْرَعُ أَنْ
يُرَاجِعَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا بِصَدَاقِ ثَانٍ . أَفْتُونَا ؟
فَأَجَابَ :
الْوَعْدُ بِالطَّلَاقِ لَا يَقَعُ وَلَوْ كَثُرَتْ أَلْفَاظُهُ وَلَا يَجِبُ
الْوَفَاءُ بِهَذَا الْوَعْدِ وَلَا يُسْتَحَبُّ . وَأَمَّا إذَا أَوْقَعَ بِهَا
الطَّلَاقَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ : اذْهَبِي إلَى بَيْتِ أُمِّك وَأَرَادَ يَذْكُرُ
أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا ؛ لَا أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا : فَهَذَا يَقَعُ بِهِ
طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي
الْعِدَّةِ بِلَا رِضَاهَا وَبِلَا وَلِيٍّ وَلَا مَهْرٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ وَلَهُ أَوْلَادٌ وَوَالِدَتُهُ تَكْرَهُ الزَّوْجَةَ
وَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ طَلَاقُهَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِقَوْلِ أُمِّهِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ
يَبَرَّ أُمَّهُ وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بَرِّهَا . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ وَزَوْجِهَا مُتَّفِقِينَ وَأُمُّهَا تُرِيدُ الْفُرْقَةَ فَلَمْ
تُطَاوِعْهَا الْبِنْتُ : فَهَلْ عَلَيْهَا إثْمٌ فِي دُعَاءِ أُمِّهَا عَلَيْهَا
؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا تَزَوَّجَتْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَ
أَبَاهَا وَلَا أُمَّهَا فِي فِرَاقِ زَوْجِهَا وَلَا فِي زِيَارَتِهِمْ وَلَا
يَجُوزُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ ؛ بَلْ طَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا إذَا لَمْ
يَأْمُرْهَا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَحَقُّ مِنْ طَاعَةِ أَبَوَيْهَا { وَأَيُّمَا
امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا رَاضٍ دَخَلَتْ الْجَنَّةَ } وَإِذَا
كَانَتْ الْأُمُّ تُرِيدُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَهِيَ
مِنْ
جِنْسِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ لَا طَاعَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهَا
. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ يَكُونَ
أَمْرُهُ لِلْبِنْتِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْأُمُّ تَأْمُرُهَا بِطَاعَةِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ نَوَى أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ إذَا حَاضَتْ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ
بِطَلَاقِ ؛ فَلَمَّا أَنْ حَاضَتْ عَلِمَ أَنَّهَا طَلُقَتْ بِمُجَرَّدِ
النِّيَّةِ فَقَالَ لِلشُّهُودِ : آنَ طَلْقَة زَوْجَتِي . قَالُوا : مَتَى
طَلَّقْتهَا ؟ قَالَ : أَوَّلَ أَمْسِ ؛ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ فَلَمَّا مَضَى
حَيْضَتَانِ غَيْرَ الْحَيْضَةِ الَّتِي ظَنَّ أَنَّهَا طَلُقَتْ فِيهَا
زَوَّجَهَا الشُّهُودُ بِرَجُلِ آخَرَ ثُمَّ مَكَثَتْ عِنْدَهُ وَطَلَّقَهَا ثُمَّ
وَفَتْ عِدَّتَهَا ثُمَّ أَرَادَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ رَدَّهَا : فَهَلْ هِيَ
حَلَالٌ لَهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَمْ يَجِبُ عَقْدٌ جَدِيدٌ . ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا نَوَى أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا إذَا حَاضَتْ
فَهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ
يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ
طَلَاقٌ . وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ طَلَاقٌ فَأَقَرَّ أَنَّهُ
طَلَّقَهَا بِتِلْكَ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فِي الْبَاطِنِ
؛ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحُكْمِ . وَإِذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ فَهِيَ
بَاقِيَةٌ عَلَى زَوْجِيَّتِهِ فِي الْبَاطِنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَأُمُّهُ مَا تُرِيدُ الزَّوْجَةَ فَطَلَّقَ
الزَّوْجَةَ ثُمَّ قَالَ . كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ هَذِهِ
الْمَدِينَةِ الَّتِي دَاخِلِ السُّورِ : لَا امْرَأَتُهُ وَلَا غَيْرُهَا .
فَإِنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ أَوْ تَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِنْ الْمَدِينَةِ يَكُونُ
الْعَقْدُ صَحِيحًا ؟
فَأَجَابَ :
بَلْ يَتَزَوَّجُ إنْ شَاءَ مِنْ الْمَدِينَةِ ؛ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا
وَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ : هِيَ طَالِقٌ
طَلْقَةً وَاحِدَةً فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ ثَلَاثَةً ؛ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
نِيَّتَهُ : فَمَا الْحُكْمُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ بِالثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ
وَإِنَّمَا قَصَدَ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ بَلْ لَوْ
أَرَادَ أَنْ يَقُولَ : طَاهِرٌ . فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِطَالِقِ لَمْ يَقَعْ بِهِ
الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ دَايَنَتْ زَوْجَهَا ثُمَّ قَالَتْ لَهُ : إنِّي أَخَافُ أَنَّك
لَا تُوَفِّينِي . فَقَالَ لَهَا : إنْ لَمْ أُوَفِّيك إلَى آخِرِ شَهْرِ
رَمَضَانَ هَذَا وَإِلَّا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ غَائِبٌ فِي قوص
وَمَا وَكَّلَ أَحَدًا : فَهَلْ إذَا أَبْرَأَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِنْ
الدِّينِ وَمَضَى الشَّهْرُ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا تَبَرَّعَ
أَحَدٌ ( بِقَضَاءِ الدَّيْنِ : فَهَلْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ وَلَا يَقَعُ
الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ ؟ أَوْ يَقَعُ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا أَبْرَأَتْهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ
الْفُقَهَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ ؛ لِوَجْهَيْنِ : " أَحَدِهِمَا " أَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ
تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ فَصَارَ الْإِيفَاءُ مُمْتَنِعًا . " الثَّانِي "
أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَى فِعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهِ ؛ وَقَدْ
عُلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ مَا كَانَ
ثَابِتًا ؛ فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ وَعُرْفُ النَّاسِ فَهَذَا كَهَذَا ؛ فَإِنَّ
الْحَالِفَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهَذَا فِي الْعَادَةِ تَبْرِئَةَ ذِمَّتِهِ
وَقَطْعَ مُطَالَبَةِ الْغَرِيمِ لَهُ وَوَفَاءَهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ بَاقِيًا
. وَكَذَلِكَ إذَا وَفَى الدَّيْنَ عَنْهُ مُوَفٍّ : فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ
مِنْ الدَّيْنِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ؛ كَمَا يَبْرَأُ بِالْإِبْرَاءِ وَتَعَذَّرَ
الْإِيفَاءُ مِنْ جِهَتِهِ وَحَصَلَ مَقْصُودُ الْغَرِيمِ فَقَدْ جَعَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْغَرِيمِ
كَقَضَائِهِ حَيْثُ قَالَ : { أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك } وَفِي حَدِيثٍ
آخَرَ { عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فقضيتيه عَنْهَا أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ قَالَتْ
نَعَمْ قَالَ اللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا
وَهِيَ بِكْرٌ : فَهَلْ لَهُ سَبِيلٌ فِي مُرَاجَعَتِهَا ؟
فَأَجَابَ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الطَّلَاقُ ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ
سَوَاءٌ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَالِغًا وَلَمْ يَدْخُلْ
بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَقَدَ عَلَيْهَا شَخْصٌ
آخَرُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا : فَهَلْ
يَجُوزُ لِلَّذِي طَلَّقَهَا أَوَّلًا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا
بَعْدَ الدُّخُولِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيُدْخَلَ بِهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ
لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ عَلَيَّ حَرَامٌ . فَهَلْ تَحْرُمُ
امْرَأَتُهُ وَأَمَتُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِلْعُلَمَاءِ
فِيهَا نِزَاعٌ . هَلْ تَطْلُقُ ؟ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ ؟
فَمَذْهَبُ مَالِكٍ . هُوَ طَلَاقٌ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ
فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد
عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ ؛ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ
. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ خَاصَمَ زَوْجَتَهُ وَضَرَبَهَا فَقَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي .
فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ : فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا قَوْلُهُ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ .
قِيلَ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ إذَا أَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا .
وَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهَا أَوْلَادٌ وَبَنَاتٌ مِنْهُ وَتَزَوَّجَ
غَيْرَهَا ثُمَّ إنَّهُ كَتَبَ وَكَالَةً لِزَوْجَتِهِ الْجَدِيدَةِ وَقَالَ :
مَتَى رَدَدْت أُمَّ أَوْلَادِي كَانَ طَلَاقُهَا بِيَدِك وَوَكَّلَهَا فِي
طَلَاقِهَا مُدَّةَ عَشَرَةِ سِنِينَ ؛ وَقَدْ طَلَّقَ الَّتِي بِيَدِهَا
الْوَكَالَةُ : فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْوَكَالَةُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا صَحَّتْ :
فَهَلْ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِطَلَاقِ الْمُوَكَّلَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ يَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ
الْوَكَالَةَ بِحَالِهَا ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا وَكَّلَ
امْرَأَتَهُ فِي بَيْعٍ وَنَحْوَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ تَبْطُلْ
الْوَكَالَةُ بِالتَّطْلِيقِ كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ؛ لَكِنْ هَذِهِ لَيْسَتْ
تِلْكَ . وَالصَّوَابُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَسْئُولُ عَنْهَا أَنَّهَا
تَبْطُلُ بِالتَّطْلِيقِ لِأَنَّهُ هُنَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَقَدْ
اسْتَنَابَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ فَيُوكِلُ
شَخْصًا ؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَمْكِينُهَا هِيَ مِنْ الطَّلَاقِ لِيَكُونَ
أَمْرُهَا بِيَدِ هَذِهِ الزَّوْجَةِ فَإِنْ شَاءَتْ طَلُقَتْ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ
تُطَلِّقْهَا ؛ وَهُوَ قَدْ اشْتَرَطَ لَهَا أَنْ يَكُونَ أَمْرُ هَذِهِ بِيَدِهَا
؛ لِئَلَّا تُبْقِيَ زَوْجَتَهُ إلَّا بِرِضَاهَا . فَالْمَقْصُودُ أَنِّي لَا
أَتَزَوَّجُهَا إلَّا بِرِضَاك . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنِّي لَا أَجْمَعَ بَيْنَك
وَبَيْنَهَا ؛ لِمَا تَكْرَهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الضَّرَّةِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ
مَوَانِعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَقْدِ مِنْ الْقَسْمِ وَنَحْوِهِ فَإِذَا
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يُبْقِ لَهَا عَلَيْهِ حَقُّ قَسْمٍ
وَلَا نَحْوَهُ فَلَا تُزَاحِمُهَا تِلْكَ فِي الْحُقُوقِ وَلَا تَكُونُ ضَرَّةً لَهَا وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا فِي تَزَوُّجِهِ بِتِلْكَ . فَإِنَّ الرَّجُلَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ إرْضَاءَ الْمَرْأَةَ بِتَرْكِ زَوْجَتِهِ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ فَأَمَّا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَلَا يَقْصِدُ إرْضَاءَهَا فَكَيْفَ وَهُوَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهَذَا غَايَةُ إسْخَاطِهَا فَمَنْ أَسْخَطَهَا بِذَلِكَ كَيْفَ يَقْصِدُ إرْضَاءَهَا بِمَا هُوَ دُونَهُ وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ يُعْلَمُ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّ هَذَا إنَّمَا جُعِلَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا مَا دَامَتْ هَذِهِ الْمُمْكِنَةُ زَوْجَةً ؛ فَإِذَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً لَمْ يَكُنْ بِيَدِهَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ تِلْكَ . وَهَذَا كُلُّهُ إذَا جُعِلَ هَذَا الشَّرْطُ لَازِمًا فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ شَرْطًا لَازِمًا فَيَكُونُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا ابْتِدَاءً : أَمْرُك بِيَدِك . أَوْ : أَمْرُ فُلَانَةَ بِيَدِك . وَهَذَا لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ . وَأَمَّا صُورَةُ السُّؤَالِ فِيهِ أَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَعَمْرِو بْنِ العاص وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَطَاوُوسٍ ؛ وَالْأَوْزَاعِي وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ : إذَا اشْتَرَطَ لَهَا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا . وَإِذَا تَزَوَّجَ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ كَوْنِهِ يُشْتَرَطُ لَهَا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ فَأَمْرُ الزَّوْجَةِ بِيَدِهَا ؛ وَمَقْصُودُهَا وَاحِدٌ ؛ وَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ زَوْجَةً .
وَأَمَّا
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فَعِنْدَهُمَا هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ
لَا يُلْزِمُ ؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا كَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ
شَرْطٍ . وَالْوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَلَهُ أَنْ
يَفْسَخَ عَقْدَ الْوَكَالَةِ . وَإِذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا قَالَ
لِزَوْجَتِهِ : أَمْرُك بِيَدِك فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا :
هُوَ كَالتَّوْكِيلِ . وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إنَّهُ كَالتَّمْلِيكِ . فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُخْرِجَهُ عَنْ يَدِهَا وَلَكِنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَقَعَتْ عَلَى مَذْهَبِ
مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا لِمَنْ يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي
الْعَقْدِ لَهَا مَا تَمْلِكُ بِهِ الطَّرْقَ إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا . وَلَا
رَيْبَ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ نِكَاحُهَا بَاقِيًا .
فَإِذَا أَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الشَّرْطِ حَقٌّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ كَلَامٌ وَكَانَ عَلَى عَزْمِ
السَّفَرِ فَقَالَ لِوَكِيلِهِ : إنْ كَانَتْ تَرْضَى بِهَذِهِ النَّفَقَةِ
الْعَادَةِ فَسَلِّمْ إلَيْهَا النَّفَقَةَ وَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِالنَّفَقَةِ
فَسَلِّمْ إلَيْهَا كِتَابَهَا وَأَنَّ الْوَكِيلَ بَعْدَمَا سَافَرَ الْمُوَكِّلُ
سَلَّمَ إلَيْهَا كِتَابَهَا وَطَلَّقَ عَلَيْهَا طَلْقَة رَجْعِيَّةً وَسَيَّرَ
عِلْمَ الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً فَلَمَّا
عَلِمَ الْمُوَكِّلُ مَا هَانَ عَلَيْهِ فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ
رَاجَعَهَا وَسَيَّرَ طَلَبَهَا فَلَمَّا سَمِعَ الْوَكِيلُ أَنَّهُ رَاجَعَ
زَوْجَتَهُ ذَكَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا : فَهَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ
الْمُرَاجَعَةُ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ قَوْلِ الْوَكِيلِ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَوْلُهُ : يُسَلِّمُ إلَيْهَا كِتَابَهَا . كِنَايَةً عَنْ
الطَّلَاقِ فَإِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ : إنَّهُ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ
عَلِمَ بِذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ : مَلَكَ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً وَلَمْ
يَمْلِكْ الْوَكِيلُ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا إلَّا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ .
وَإِذَا قَالَ لِلْوَكِيلِ لَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا
قَبْلَ قَوْلِهِ ؛ وَلَمْ يُمْكِنْ الْوَكِيلُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا وَإِذَا
طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا الزَّوْجُ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ
.
بَابُ
الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ يَمِينِ الْغَمُوسِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ
لِزَوْجَتِهِ : لَا يَدْخُلُ أَهْلُك بَيْتِي فَصَعُبَ عَلَيْهِ : فَحَلَفَ
بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَا قَالَهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَالَهُ .
فَأَجَابَ :
الْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا النَّاسُ نَوْعَانِ : " أَحَدُهُمَا
" أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ . و " الثَّانِي " أَيْمَانُ
الْمُشْرِكِينَ فَالْقِسْمُ الثَّانِي الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ : كَالْحَلِفِ
بِالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ
وَالسَّيْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْلِفُ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ .
فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لَا حُرْمَةَ لَهَا ؛ بَلْ هِيَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا
كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ مَنْ
حَلَفَ بِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُوَحِّدَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ
وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي
الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ
} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ . { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ }
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ . فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ
وَأَكْثَرِهِمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْهَا ؛ بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا قَالَ : وَهَذَا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ . وَالنَّذْرُ لِلْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْحَلِفِ بِهَا فَمَنْ نَذَرَ لِمَخْلُوقِ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ وَلَا وَفَاءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ : مِثْلَ مَنْ يُنْذِرُ لِمَيِّتِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ كَمَنْ يُنْذِرُ لِلشَّيْخِ جاكير . وَأَبِي الْوَفَاءِ أَوْ الْمُنْتَظِرِ أَوْ السِّتِّ نَفِيسَةَ أَوْ لِلشَّيْخِ رَسْلَانَ أَوْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ : زَيْتًا أَوْ شَمْعًا أَوْ سُتُورًا أَوْ نَقْدًا : ذَهَبًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : فَكُلُّ هَذِهِ النُّذُورِ مُحَرَّمَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجِبُ ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يُوفِي بِالنَّذْرِ إذَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَانَ طَاعَةً ؛ فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ عِبَادَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلَّا بِمَا شَرَعَ . فَمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ أَعْظَمُ مِنْ شِرْكِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كَالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَلَوْ نَذَرَ مَا لَيْسَ عِبَادَةً - كَمَا لَوْ نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ صَوْمَ أَيَّامِ الْحَيْضِ - لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِيه } وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ شَيْخٍ مِنْ الْمَشَايِخِ ؛ أَوْ مَشْهَدِهِ ؛ أَوْ مَقَامِهِ أَوْ مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ اعْتِكَافًا أَوْ أُضْحِيَّةً أَوْ هَدْيًا أَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْمَقْدِسِ : فَفِيهِ " قَوْلَانِ " لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ . " أَحَدُهُمَا " لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمَنْ أَصْلُهُ أَنْ لَا يَجِبَ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ : فَيَجِبُ بِالنَّذْرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعِنْدَ مَالِكٍ ؛ فَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَهُ . وَإِتْيَانُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُ بِالنَّذْرِ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " يَجِبُ الْوَفَاءُ إذَا نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدَيْنِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلَّهِ . فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ } هَذَا إنْ كَانَ قَصَدَ أَنْ يُسَافِرَ لِلْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَلِلِاعْتِكَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ نَفْسَ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِلْعِبَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ لَمْ يَفِ بِهَذَا النَّذْرِ ؛ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
فَمَنْ
نَذَرَ سَفَرًا إلَى بُقْعَةٍ لِيُعَظِّمَهَا غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ
كَالسَّفَرِ إلَى الطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ
عِمْرَانَ أَوْ غَارِ حِرَاءٍ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَحَنَّثُ فِيهِ أَوْ غَارِ ثَوْرٍ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : {
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } لَمْ يَفِ بِهَذَا النَّذْرِ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ فَكَيْفَ بِمَا سَوَّى ذَلِكَ مِنْ الْغِيَرَانِ
وَالْكُهُوفِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَوْ قَبْرِ أَبِي بريد أَوْ قَبْرِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَوْ
قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ ؛ فَإِنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ مَشْرُوعَةٌ لِمَنْ
كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا وَكَانَ مَقْصُودُهُ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ . فَأَمَّا
السَّفَرُ إلَيْهَا فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا
مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ ( هَذَا
قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَعَنْهُ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ .
فَصْلٌ :
" النَّوْعُ الثَّانِي " أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ حَلَفَ
بِاسْمِ اللَّهِ فَهِيَ أَيْمَانٌ مُنْعَقِدَةٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ
وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ . وَإِذَا حَلَفَ بِمَا يَلْتَزِمُهُ لِلَّهِ
كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ . أَوْ فَمَالِي
صَدَقَةٌ . أَوْ : عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ . أَوْ : فَنِسَائِي طَوَالِقُ : أَوْ
عَبِيدِي أَحْرَارٌ . أَوْ يَقُولُ : الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا
. أَوْ
الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا . أَوْ إلَّا فَعَلْت كَذَا . وَإِنْ فَعَلْت كَذَا فَنِسَائِي طَوَالِقُ . أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ أَيْمَانٌ مُنْعَقِدَةٌ . وَقَالَ طَائِفَةٌ : بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا تَنْعَقِدُ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ . وَكَانُوا يَأْمُرُونَ مَنْ حَلَفَ بِالنَّوْعِ الثَّانِي أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يَنْهَوْنَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ وَالنَّذْرِ لِلَّهِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } فَقَوْلُ الْقَائِلِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا . إنْ قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ ؛ كَمَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا . أَوْ إنْ أَقْتُلَ فُلَانًا فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الخراسانيون فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . فَاَلَّذِينَ قَالُوا : هَذَا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ . مِنْهُمْ مَنْ أَلْزَمَ الْحَالِفَ بِمَا الْتَزَمَهُ فَأَلْزَمَهُ إذَا حَنِثَ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا . وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الشَّافِعِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ كُلُّهَا فِيهَا كَفَّارَةٌ إذَا حَنِثَ وَلَا يَلْزَمُهُ إذَا حَنِثَ لَا نَذْرٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا حَرَامٌ . وَهَذَا مَعْنَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَقَدْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْهُمْ صَرِيحٌ بِذَلِكَ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالنَّذْرِ . وَتَعْلِيلُهُمْ وَعُمُومُ كَلَامِهِمْ
يَتَنَاوَلُ
الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ
لَا يَلْزَمُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ طَلَاقًا كَمَا ثَبَتَ عَنْ طَاوُوسٍ
وَعِكْرِمَةَ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَجَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ . وَمِنْ
هَؤُلَاءِ مَنْ أَلْزَمَ الْكَفَّارَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
يُلْزِمْهُ الْكَفَّارَةَ . فَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ أَكْثَرُ
مِنْ " أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ " قِيلَ : يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا ؛ كَقَوْلِ
الْأَرْبَعَةِ . وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا ؛ كَقَوْلِ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا . وَقِيلَ : إنْ قَصَدَ
بِهِ الْيَمِينَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِ الصَّحَابَةِ " الْيَمِينُ " .
فَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ " قَوْلَانِ " أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ
عَلَى مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ قَصْدُهُ بِهِ الْخَبَرَ - لَا الْحَضَّ وَالْمَنْعَ -
كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَقَدْ فَعَلْت كَذَا . أَوْ لَمْ أَفْعَلْهُ .
وَقَوْلُهُ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَقَدْ فَعَلْت كَذَا . أَوْ لَمْ أَفْعَلْهُ
. أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَقَدْ فَعَلْت كَذَا . فَهَذَا إمَّا أَنْ
يَكُونَ مُعْتَقِدًا صِدْقَ نَفْسِهِ ؛ أَوْ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ ؛ فَإِنْ
كَانَ يَعْتَقِدُ صِدْقَ نَفْسِهِ " فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " .
" أَحَدُهَا " لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ ؛
وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ
أَحْمَد . فَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَوْ غَيْرِهِمَا
عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ . " وَالثَّانِي " يَكُونُ كَالْحَلِفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْجَمِيعِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد . فَعَلَى هَذَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِيمَا يُكَفِّرُهُ " وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّ يَمِينَهُ إذَا كَانَتْ مُكَفِّرَةً كَالْحَلِفِ بِسْمِ اللَّهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ بَلْ هَذَا مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ فَإِذَا كَانَتْ الْيَمِينُ غَمُوسًا - وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا عَالِمًا بِكَذِبِ نَفْسِهِ - فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ مِنْهَا وَهِيَ كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } ثُمَّ إنْ كَانَتْ مِمَّا يُكَفِّرُ : فَفِيهَا كَفَّارَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا : هَذِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . قَالُوا : وَالْكَبَائِرُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا كَمَا لَا كَفَّارَةَ فِي السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ ؛ وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْعَمْدِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .
وَإِذَا حَلَفَ بِالْتِزَامِ يَمِينٍ غَمُوسٍ كَالصُّورَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا السَّائِلُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : الْحِلُّ عَلَيْهِ حَرَامٌ مَا فَعَلْت كَذَا . أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَا فَعَلْت كَذَا . أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا . فَمَالِي صَدَقَةٌ . أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ . أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ . فَقِيلَ : تَلْزَمُهُ هَذِهِ اللَّوَازِمُ إذَا قُلْنَا لَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ ؛ وَإِنْ قُلْنَا : هَذِهِ أَيْمَانٌ مُكَفِّرَةٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ لَخَلَتْ هَذِهِ الْأَيْمَانُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلُزُومُ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ " جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ " وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيَّ : مَنْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ يَمِينًا غَمُوسًا كَفَّرَ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ هَذَا كَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِاَللَّهِ هِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَا يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَرَامِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ نَذْرٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً أَوْ كَانَتْ غَمُوسًا أَوْ كَانَتْ لَغْوًا وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنَّذْرُ لِمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ " نَوْعَانِ " نَوْعٌ يُقْصَدُ بِهِ وُقُوعُ الْجَزَاءِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ : فَهَذَا تَعْلِيقٌ لَازِمٌ . فَإِذَا عَلَّقَ النَّذْرَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَزِمَهُ . فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا تَطَهَّرْت مِنْ الْحَيْضِ فَأَنْتِ طَالِقٌ . أَوْ إذَا تَبَيَّنَ حَمْلُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ عِنْدَ الصِّفَةِ وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَهُ بِالْهِلَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَهَاهَا عَنْ أَمْرٍ وَقَالَ : إنْ فَعَلْته فَأَنْتِ طَالِقٌ : وَهُوَ إذَا فَعَلَتْهُ يُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَنَحْوَ هَذَا .
بِخِلَافِ مِثْلَ أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ فَاحِشَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ ظُلْمٍ فَيَقُولُ : إنْ فعلتيه أَنْتِ طَالِقٌ . فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُ طَلَاقَهَا ؛ لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ كَانَ طَلَاقُهَا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَوْقَعُوا الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إذَا كَانَ قَصْدُهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ كَمَا أَلْزَمُوهُ بِالنَّذْرِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْيَمِينَ . وَاَلَّذِي قَصْدُهُ الْيَمِينَ هُوَ مِثْلَ الَّذِي يَكْرَهُ الشَّرْطَ وَيَكْرَهُ الْجَزَاءَ وَإِنْ وَقْعَ الشَّرْطُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنْ سَافَرْت مَعَكُمْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ . وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ تَلْزَمَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ . فَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ . فَيَجِبُ الْفَرْقُ فِي جَمِيعِ التَّعْلِيقَاتِ وَمَنْ قَصْدُهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَمَنْ قَصْدُهُ الْيَمِينَ . فَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِصِفَةِ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا : وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا كَانَ حَلَالًا وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ أَوْ حَامِلٌ قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا . " وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْحَرَامُ " كَمَا لَوْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ أَوْ الطُّهْرِ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا : فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَمَا لَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ وَنَحْوُهُ . وَجَمْعُ الثَّلَاثِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . فَإِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا : فَهَلْ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ ؟ أَوْ وَاحِدَةٌ ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا وَاحِدَةٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
إذَا " حَلَفَ الرَّجُلُ بِالطَّلَاقِ " فَقَالَ : الطَّلَاقُ
يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا ؛ أَوْ لَا أَفْعَلُهُ . أَوْ الطَّلَاقُ لَازِمٌ
لِي لَأَفْعَلَنهُ . أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْهُ فَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي . أَوْ
لَازِمٌ وَنَحْوُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْتِزَامَ الطَّلَاقِ
فِي يَمِينِهِ ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ : فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؟
فِيهِ " قَوْلَانِ " لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَذَاهِبِ
الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَذَاهِبِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . "
أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ :
كَالْقَفَّالِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي صَاحِبِ " التَّتِمَّةِ "
وَبِهِ يُفْتِي وَيَقْضِي فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ طَائِفَةٌ
مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ فِي بِلَادِ الشَّرْقِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ
وَخُرَاسَانَ وَالْحِجَازِ وَالْيُمْنِ وَغَيْرِهَا . وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد
وَأَصْحَابِهِ - كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ - كَانُوا يُفْتُونَ وَيَقْضُونَ فِي
بِلَادِ فَارِسَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ إلَى
الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ خَلْقٌ عَظِيمٌ وَفِيهِمْ قُضَاةٌ وَمُفْتُونَ عَدَدٌ
كَثِيرٌ . وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ كَطَاوُوسِ وَغَيْرِ طَاوُوسٍ ،
وَبِهِ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ
عُلَمَاءِ
الْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِ مِصْرَ يُفْتِي بِذَلِكَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى
ذَلِكَ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ وَأُصُولُ
مَذْهَبِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
وَلَوْ " حَلَفَ بِالثَّلَاثِ " فَقَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي
ثَلَاثًا لَأَفْعَلَن كَذَا ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ فَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ
يُفْتُونَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يُوقِعُ
بِهِ وَاحِدَةً وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّنْجِيزِ ؛ فَضْلًا عَنْ التَّعْلِيقِ
وَالْيَمِينِ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ
مَالِكٍ وَأَحْمَد ودَاوُد فِي التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ وَالْحَلِفِ . وَمِنْ
السَّلَفِ طَائِفَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ فَرَّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ
بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . وَاَلَّذِينَ لَمَّ يُوقِعُوا طَلَاقًا
بِمَنْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا : مِنْهُمْ مَنْ لَا
يُوقِعُ بِهِ طَلَاقًا ؛ وَلَا يَأْمُرُهُ بِكَفَّارَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ
يَأْمُرُهُ بِكَفَّارَةٍ . وَبِكُلِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَفْتَى كَثِيرٌ مِنْ
الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ بُسِطَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ
وَأَلْفَاظُهُمْ وَمَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ؛ وَالْكُتُبُ الْمَوْجُودُ ذَلِكَ
فِيهَا ؛ وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ تَبْلُغُ
عِدَّةَ مُجَلَّدَاتٍ .
وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْته فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَهُوَ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِصِيغَةِ اللُّزُومِ مِثْلَ قَوْلِهِ . الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا النِّزَاعُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَوْ مَحْلُوفًا بِهِ : فَفِي الْمَذْهَبَيْنِ : هَلْ ذَلِكَ صَرِيحٌ ؟ أَوْ كِنَايَةٌ ؟ أَوْ لَا صَرِيحٌ وَلَا كِنَايَةٌ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد قَوْلَانِ هَلْ ذَلِكَ صَرِيحٌ ؛ أَوْ كِنَايَةٌ . وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ أَوْ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْحَلِفُ : فَالنِّزَاعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّيغَةِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ مَنْ أَفْتَى بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَخَالَفَ كُلَّ قَوْلٍ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ وَاقْتَفَى مَا لَا عِلْمَ بِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } بَلْ أَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ مِثْلَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَضَى بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمِهِ . وَمَنْ أَفْتَى بِهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا سَاغَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَلَى مَنْ قَلَّدَهُ . وَلَوْ قَضَى أَوْ أَفْتَى بِقَوْلِ سَائِغٍ يَخْرُجُ عَنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا ثَبَتَ فِيهِ النِّزَاعُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُخَالِفْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا مَعْنَى ذَلِكَ ؛ بَلْ كَانَ الْقَاضِي بِهِ وَالْمُفْتِي بِهِ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - فَإِنَّ هَذَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ .
وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ نَقْضُ حُكْمِهِ إذَا حَكَمَ وَلَا مَنْعُهُ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ وَلَا مِنْ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا مَنْعِ أَحَدٍ مِنْ تَقْلِيدِهِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُسَوِّغُ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّدِّ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهُوَ الرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُرَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ بَلْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ قَوْلِنَا دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا - كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ مِثْلِ هَذَا وَعُقُوبَتُهُ كَمَا يُعَاقَبُ أَمْثَالُهُ . فَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَتَمَسَّكَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لَمْ يُحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَلَيْسَ مَعَ صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُهُ : لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ جَوَّزَ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ بِلَا حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ هَذَا الْقَوْلِ وَتُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ انْسَلَخَ مِنْ الدِّينِ تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ
كَأَمْثَالِهِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ أَوَّلًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَدَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنْ أَصَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ : فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَكُلُّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : مِثْلُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالْحَلِفِ بِالْحَجِّ وَالْمَشْيِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَقَالَ : الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي : أَوْ الْعِتْقُ يَلْزَمُنِي : لَأَفْعَلَن كَذَا . أَوْ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْعِتْقِ فَقَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَرَامُ وَنِسَائِي طَوَالِقُ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى . وَاتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ يَسُوغُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ جَمِيعِهَا بِأَنَّهُ إذَا حَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ . وَإِمَّا أَنْ تَجْزِيَهُ الْكَفَّارَةُ . وَيَسُوغُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ . وَمَا زَالَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُفْتِي بِذَلِكَ مِنْ حِينِ حَدَثَ الْحَلِفُ بِهَا . وَإِلَى هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ . مِنْهُمْ مَنْ يُفْتِي بِالْكَفَّارَةِ فِيهَا . وَمِنْهُمْ يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَا لُزُومَ الْمَحْلُوفِ بِهِ كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُفْتِي بِلُزُومِ الْمَحْلُوفِ بِهِ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُفْتِي بِهَا بِالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ . وَأَمَّا إذَا حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
فَالْأَيْمَانُ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " : أَمَّا الْحَلِفُ بِاَللَّهِ فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ بِالِاتِّفَاقِ . وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ إلَّا الْحَلِفَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَوْلَانِ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَقَدْ عَدَّى بَعْضُ أَصْحَابِ ذَلِكَ إلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ . وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَا عَقَدَ مِنْ الْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ هَذِهِ الْأَيْمَانُ فَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فِي بَعْضِهَا : فَهَذَا كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ يَدَّعِي فِيهَا الْإِجْمَاعَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ النِّزَاعَ وَمَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ نِزَاعًا . فَمَنْ عَلِمَ النِّزَاعَ وَأَثْبَتَهُ كَانَ مُثْبِتًا عَالِمًا وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ فِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ مَنْ أَلْزَمَ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ نَصُّ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ : كَانَ الْقَوْلُ بِنَفْيِ لُزُومِهِ سَائِغًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَمْنَعَ قَاضِيًا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ وَلَا يَمْنَعَ مُفْتِيًا يَصْلُحُ لِلْفُتْيَا أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ ؛ بَلْ هُمْ يُسَوِّغُونَ الْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ فِي أَقْوَالٍ ضَعِيفَةٍ ؛ لِوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهَا فَكَيْفَ يَمْنَعُونَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ وَالْقَوْلُ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ بَلْ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَفْتَوْا فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّلَاقِ : أَنَّهُ لَا يُلْزِمُ الْحَالِفَ بِهِ ؛ بَلْ يَجْزِيه
كَفَّارَةُ يَمِينٍ . فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُمْ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ ؟ وَهَلْ يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ حَلَفَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الطَّاعَاتِ - كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ بَلْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؛ وَيَقُولُونَ فِيمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ؛ بَلْ يُبْغِضُهُ : إنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ حَلَفَ بِهِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كُفْرٌ وَلَا إسْلَامٌ . فَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ وَفِعْلُهُ لَمْ يَصِرْ يَهُودِيًّا بِالِاتِّفَاقِ . وَهَلْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " " أَحَدُهُمَا " يَلْزَمُهُ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . " وَالثَّانِي " لَا يَلْزَمُهُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَد ؛ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا إذَا حَنِثَ وَحَلَفَ بِهِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ . قَالُوا : لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لِلْكُفْرِ . وَالْجُمْهُورُ قَالُوا : لَا يَكْفُرُ ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْكُفْرُ ؛ فَلِبُغْضِهِ لَهُ حَلَفَ بِهِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِفَرْطِ بُغْضِهِ لَهُ . وَبِهَذَا فَرَّقَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ " نَذْرِ التَّبَرُّرِ " و " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " قَالُوا : لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَصْدُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ؛ بِخِلَافِ الثَّانِي . فَإِذَا قَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ
مَرِيضِي فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ . أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ : لَزِمَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ . وَأَمَّا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ . أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ . وَقَصْدُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ فَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ : هَلْ يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ فِي الصُّورَتَيْنِ ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ ؟ أَوْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ أَوْ يَجْزِيه الْكَفَّارَةُ فِي تَعْلِيقِ الْوُجُوبِ دُونَ تَعْلِيقِ الْوُقُوعِ ؟ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الطَّلَاقِ وَلَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ وَفَعَلَهُ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْحَالِفَ حَلَفَ بِمَا يَلْزَمُهُ وُقُوعُهُ وَهَكَذَا إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ؛ وَأَنَا يَهُودِيٌّ : وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ نِسَاءَهُ وَيَعْتِقَ عَبِيدَهُ وَيُفَارِقَ دِينَهُ مَعَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وُقُوعُ الْعِتْقِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ : مِثْلَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قَالُوا هُمْ وَأَئِمَّةُ التَّابِعِينَ إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ الْمَحْلُوفُ بِهِ ؛ بَلْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ : كَانَ هَذَا الْقَوْلُ - مَعَ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . فَكَيْفَ يَسُوغُ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَنْ يُلْزِمَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ مَا لَهُمْ مِنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ؛ فَإِنَّ
فِي ذَلِكَ مِنْ صِيَانَةِ أَنْفُسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ ؛ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : مَا يُوجِبُ تَرْجِيحَهُ لِمَنْ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَإِنَّ الْقَائِلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُقَاوِمُ قَوْلَ مَنْ نَفَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ . وَلَوْ اجْتَهَدَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي إقَامَةِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ سَالِمٍ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْحَالِفِ لَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا عَجَزَ عَنْ تَحْدِيدِ ذَلِكَ . فَهَلْ يَسُوغُ لِأَحَدِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْرُجَ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ لَمْ يُعَارَضْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ لَيْسَ لِأَحَدِ الْمَنْعُ مِنْ الْفُتْيَا بِهِ وَالْقَضَاءِ بِهِ . وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ رُجْحَانُهُ فَكَيْفَ إذَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ مَا لِلَّهِ فِيهِ مِنْ الْمِنَّةِ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ
وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَدِيّ بْنِ
حَاتِمٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : {
إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلَتْهَا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ
الْكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ } . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : مَنْ اسْتَلَجَ
فِي أَهْلِهِ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " يَلِجُ " مِنْ اللَّجَاجِ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ
الْأَيْمَانُ " نُذُرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " .
وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ "
ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " . " صِيغَةُ التَّنْجِيزِ . وَالْإِرْسَالُ
" كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مُطَلَّقَةٌ فَهَذَا يَقَعُ بِهِ
الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . " الثَّانِي " صِيغَةُ قَسَمٍ
كَقَوْلِهِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا
. فَهَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَاتِّفَاقِ طَوَائِفِ
الْفُقَهَاءِ وَاتِّفَاقِ الْعَامَّةِ وَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَرْضِ . "
الثَّالِثُ " صِيغَةُ تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي
طَالِقٌ . فَهَذِهِ إنْ كَانَ قَصْدُهُ بِهِ الْيَمِينَ - وَهُوَ الَّذِي يَكْرَهُ
وُقُوعَ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا كَمَا يَكْرَهُ .
الِانْتِقَالَ عَنْ دِينِهِ - إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ . أَوْ يَقُولُ الْيَهُودِيُّ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ : فَهُوَ يَمِينٌ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . فَإِنَّ الْيَمِينَ هِيَ مَا تَضَمَّنَتْ حَضًّا أَوْ مَنْعًا أَوْ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ الْحَالِفُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ . فَالْحَالِفُ لَا يَكُونُ حَالِفًا إلَّا إذَا كَرِهَ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ . فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ الشَّرْطَ وَحْدَهُ وَلَا يَكْرَهُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُقُوعِهِ أَوْ كَانَ يُرِيدُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُقُوعِهِ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهُ أَوْ كَانَ مُرِيدًا لَهُمَا . فَأَمَّا إذَا كَانَ كَارِهًا لِلشَّرْطِ وَكَارِهًا لِلْجَزَاءِ مُطْلَقًا - يَكْرَهُ وُقُوعَهُ ؛ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الشَّرْطِ ؛ أَوْ لِيَحُضَّ بِذَلِكَ - فَهَذَا يَمِينٌ . وَإِنْ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ ؛ إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا طَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا زَنَيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَقَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْفَاحِشَةِ ؛ لَا مُجَرَّدُ الْحَلِفِ عَلَيْهَا : فَهَذَا لَيْسَ بِيَمِينِ ؛ وَلَا كَفَارَّةٍ فِي هَذَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ ؛ بَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا وَجَدَ الشَّرْطَ عِنْدَ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ .
فَالْيَمِينُ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا الْحَضَّ أَوْ الْمَنْعَ أَوْ التَّصْدِيقَ ؛ أَوْ التَّكْذِيبَ - بِالْتِزَامِهِ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ - سَوَاءٌ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ ؛ أَوْ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ : يَمِينٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ يَمِينًا مِثْلَ كَوْنِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا وَخَبَرًا . وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ : الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا تَتَنَوَّعُ اللُّغَاتُ فِي الْأَلْفَاظِ ؛ لَا فِي الْمَعَانِي ؛ بَلْ مَا كَانَ مَعْنَاهُ يَمِينًا أَوْ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا عِنْدَ الْعَجَمِ فَكَذَلِكَ مَعْنَاهُ يَمِينٌ أَوْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ عِنْدَ الْعَرَبِ . وَهَذَا أَيْضًا يَمِينُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَمِينٌ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ وَيَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ . وَإِذَا كَانَ " يَمِينًا " فَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلْيَمِينِ إلَّا حُكْمَانِ . إمَّا أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً مُحْتَرَمَةً فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ . وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مُنْعَقِدَةً مُحْتَرَمَةً - كَالْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ : مِثْلَ الْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ . فَأَمَّا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ ؛ مُحْتَرَمَةٌ غَيْرُ مُكَفِّرَةٍ : فَهَذَا حُكْمٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ سَالِمٌ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَامِ . فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِهِمْ ؛ بَلْ كَانَتْ مِنْ الْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ : فَلَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ لَا كَفَّارَةَ وَلَا غَيْرَهَا فَتَكُونُ مَهْدَرَةً .
فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِلْزَامَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لِلْحَالِفِ فِي يَمِينِهِ حَكَمٌ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَحَسَبُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ . فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ الْعَمَلُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ : فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ النِّزَاعِ وَالْأَدِلَّةِ . وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ كَانَ حَسْبُهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سَائِغًا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ وَالْفُتْيَا بِهِ . أَمَّا إلْزَامُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ : فَهَذَا خِلَافُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . فَمَنْ مَنَعَ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَتَقْلِيدِ مَنْ نَفَى بِذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَهَذَا حَسْبُهُ أَنْ يُعْذَرَ ؛ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَمُعَانِدٌ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ إذَا ظَهَرَ لَهُ وَلَا يُصْغِي لِمَنْ يَقُولُهُ لِيَعْرِفَ مَا قَالَ ؛ بَلْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } فَإِنَّهُ : إمَّا مُقَلِّدٌ وَإِمَّا مُجْتَهِدٌ . فَالْمُقَلِّدُ لَا يُنْكِرُ الْقَوْلَ الَّذِي يُخَالِفُ مَتْبُوعُهُ إنْكَارَ مَنْ يَقُولُ هُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُحْرَمَ الْقَوْلَ بِهِ وَيُوجِبَ الْقَوْلَ بِقَوْلِ سَلَفِهِ . وَالْمُجْتَهِدُ يَنْظُرُ وَيُنَاظِرُ وَهُوَ مَعَ ظُهُورِ قَوْلِهِ لَا يُسَوِّغُ قَوْلَ مُنَازِعِيهِ الَّذِي سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَهُوَ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ خَالَفَ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا فَمَنْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ
التَّقْلِيدِ
السَّائِغِ وَالِاجْتِهَادِ كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ الَّذِينَ { وَإِذَا قِيلَ
لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا } وَكَانَ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ
. وَمَنْ قَالَ إنَّهُ اتَّبَعَ هَذِهِ الْفُتْيَا فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ
ذَلِكَ فَهُوَ وَلَدُ زِنًا : كَانَ هَذَا الْقَائِلُ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ
وَالضَّلَالِ وَالْمُشَاقَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ . وَعَلَى الْجُمْلَةِ إذَا
كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى يَقْصِدُ بِهِ الْقُرْبَ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى : لَزِمَهُ فِعْلُهُ أَوْ الْكَفَّارَةُ . وَلَوْ الْتَزَمَ مَا
لَيْسَ بِقُرْبَةٍ : كَالتَّطْلِيقِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَمِثْلِ ذَلِكَ :
لَمْ يَلْزَمْهُ ؛ بَلْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ
وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ
مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ يُكْرَهُ
وُقُوعُهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ كَمَا يُكْرَهُ وُقُوعُ الْكُفْرِ : فَلَا يَقَعُ
وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ
نَحْوِ ذَلِكَ : هَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ كَمَا قَالَ ؟ أَمْ كَيْفَ الْحُكْمُ
؟.
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَالِفِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى مَذَاهِبِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَلْزَمُهُ بِالطَّلَاقِ ؛
لَا مَنْ يَجُوزُ فِي الْحَلِف بِهِ كَفَّارَةٌ . أَوْ فَعَلَيَّ
الْحَجُّ : عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَلْزَمُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا أَنِّي لَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِف بِالطَّلَاقِ . أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَلَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِحِلِّ يَمِينِي أَوْ رَجْعَةٍ فِي يَمِينِي وَنَحْوَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَغْلُظُ فِيهَا اللُّزُومُ تَغْلِيظًا يُؤَكِّدُ بِهِ لُزُومَ الْمُعَلِّقِ عِنْدَ الْحِنْثِ ؛ لِئَلَّا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ عِنْدَ الْيَمِينِ يُرِيدُ تَأْكِيدَ يَمِينِهِ بِكُلِّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّأْكِيدِ وَيُرِيدُ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ الْحِنْثِ فِيهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُخْرِجُ هَذِهِ الْعُقُودَ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَيْمَانًا مُكَفِّرَةً وَلَوْ غَلَّظَ الْأَيْمَانَ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ بِمَا غَلَّظَ وَلَوْ قَصَدَ أَلَّا يَحْنَثَ فِيهَا بِحَالِ : فَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ شَرْعَ اللَّهِ . وَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيِّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ ؛ بَلْ مَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ قَبْلَ يَمِينِهِ فَقَدْ أَمَرَ بِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ مَا زَادَتْهُ إلَّا تَوْكِيدًا . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُفْتِيَ أَحَدًا بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَلَا بِفِعْلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ ؟ وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ : مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَطَاعَةِ السُّلْطَانِ وَمُنَاصَحَتِهِ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ وَمُحَارَبَتِهِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَتْ قَبْلَ الْيَمِينِ وَاجِبَةً وَهِيَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَوْجَبُ .
وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَ الْيَمِينِ فَهُوَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ يُبَايِعُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَاعَتِهِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ وَلَوْ لَمْ يُبَايِعُوهُ فَالْبَيْعَةُ أَكَّدَتْهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْقُضَ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ . وَكَذَلِكَ مُبَايَعَةُ السُّلْطَانِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْقُضَهَا وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ بَلْ لَوْ عَاقَدَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ عَلَى بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ نِكَاحٍ : لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْعَقْدِ فَكَيْفَ بِمُعَاقَدَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ . فَكُلُّ عَقْدٍ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَانَتْ الْيَمِينُ مُوَكَّدَةً لَهُ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ فَسْخُ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ حَرَامًا ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِعْلُهُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا عَلَيْهِ بَلْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَلَا يَفْعَلُهُ وَلَوْ غَلَّظَ فِي الْيَمِينِ بِأَيِّ شَيْءٍ غَلَّظَهَا ؛ فَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيَّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحَرِّمَ بِيَمِينِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَلَا يُوجِبَ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ . هَذَا هُوَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَّا شَرْعُ مَنْ قَبْلَهُ فَكَانَ فِي شَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ شَيْئًا حُرِّمَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِمْ كَفَّارَةٌ فَقَالَ تَعَالَى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } فَإِسْرَائِيلُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَحُرِّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَهَذَا الْفَرْضُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا كَفَّارَةٌ بَلْ كَانَتْ الْيَمِينُ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَمَرَ اللَّهُ أَيُّوبَ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبُ بِهِ وَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَوْ كَانَ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَانَ ذَلِكَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرْبِ امْرَأَتِهِ وَلَوْ بِضِغْثِ ؛ فَإِنَّ أَيُّوبَ كَانَ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَا يُوجِبُونَهُ بِالْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ مَا
يَجِبُ بِالشَّرْعِ . كَانَتْ الْيَمِينُ عِنْدَهُمْ كَالنَّذْرِ . وَالْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ قَدْ يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يُرَخَّصُ فِي الْجَلْدِ الْوَاجِبِ فِي الْحَدِّ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ ؛ بِخِلَافِ مَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ بِيَمِينِهِ فِي شَرْعِنَا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالشَّرْعِ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ وَلَهُ مَخْرَجٌ مِنْ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا بِالْكَفَّارَةِ . وَلَكِنْ بَعْضُ عُلَمَائِنَا لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْأَيْمَانَ مِمَّا لَا مَخْرَجَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ بَلْ يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ فَطِنُوا أَنَّ شَرْعَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَشَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ احْتَاجُوا إلَى الِاحْتِيَالِ فِي الْأَيْمَانِ : إمَّا فِي لَفْظِ الْيَمِينِ وَإِمَّا بِخُلْعِ الْيَمِينِ وَإِمَّا بِدَوْرِ الطَّلَاقِ وَإِمَّا بِجَعْلِ النِّكَاحِ فَاسِدًا فَلَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ . وَإِنْ غَلَبُوا عَنْ هَذَا كُلِّهِ دَخَلُوا فِي التَّحْلِيلِ وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَمَا وَضَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَصَارَ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَا أَحْدَثَ غَيْرُهُ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ مَعَ شَرْعِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ
الَّذِينَ قَالُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ لَهُمْ سَعْيٌ مَشْكُورٌ وَعَمَلٌ مَبْرُورٌ وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى ذَلِكَ مُثَابُونَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ فَأَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ : مَنْ أَصَابَ هَذَا الْقَوْلَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إلَّا إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ ؛ وَالْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِسُنَّتِهِ مَعَ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ سَهْلٍ مُخَصَّبٍ يُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَتِلْكَ الْأَقْوَالُ فِيهَا بُعْدٌ وَفِيهَا وُعُورَةٌ وَفِيهَا حدوثة . فَصَاحِبُهَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْجُهْدِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَلِهَذَا أَذَاعُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ مِنْ لُزُومِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : مِنْ الْقَطِيعَةِ وَالْفُرْقَةِ ؛ وَتَشْتِيتِ الشَّمْلِ وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ وَمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ وَالسَّحَرَةُ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَظْهَرُ مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ لِكُلِّ عَاقِلٍ . ثُمَّ إمَّا أَنْ يَلْزَمُوا هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَيَدْخُلُوا فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ . وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الِاحْتِيَالِ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِمَا أَغْنَاهُمْ بِهِ مِنْ الْحَلَالِ . " فَالطُّرُقُ ثَلَاثَةٌ " : أَمَّا الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَحْضَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهِيَ طَرِيقُ أَفَاضِلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ وَإِنْ كَانَ مَنْ سَلَكَهَا مِنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا أُتُوا بِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ
الْمَأْمُورِ بِهِ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . وَهَذَا كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إذَا أَدَّى اجْتِهَادَ كُلِّ فِرْقَةٍ إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ : فَكُلُّهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُقِيمُونَ لِلصَّلَاةِ ؛ لَكِنْ الَّذِي أَصَابَ الْقِبْلَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ أَجْرَانِ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ : بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ ؛ وَلَكِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَكْفِيرَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ هُوَ مُكَفَّرٌ وَلَوْ غَلَّظَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ غَلَّظَ وَلَوْ الْتَزَمَ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ فَإِنَّ الْتِزَامَهُ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ الْتِزَامٌ لِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ بَلْ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ الْكَفَّارَةُ . فَهَذَا الْمُلْتَزِمُ لِهَذَا الِالْتِزَامِ الْغَلِيظِ هُوَ يَكْرَهُ لُزُومَهُ إيَّاهُ وَكُلَّمَا غَلَّظَ كَانَ لُزُومُهُ لَهُ أَكْرَهَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِقَصْدِهِ الْحَظْرَ وَالْمَنْعَ ؛ لِيَكُونَ لُزُومُهُ لَهُ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ ؛ لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِقَصْدِ لُزُومِهِ إيَّاهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ يُنَاقِضُ عَقْدَ الْيَمِينِ ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ ؛ وَلَا يَحْلِفُ قَطُّ إلَّا بِالْتِزَامِهِ مَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يَقُولُ حَالِفٌ إنْ فَعَلْت كَذَا غَفَرَ اللَّهُ لِي وَلَا أَمَاتَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ يَقُولُ : إنْ فَعَلْت
كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ . أَوْ كُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ أَوْ عَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ حَافِيًا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَوْ فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ . وَقَدْ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ : عَلَيَّ أَنْ لَا أَسْتَفْتِيَ مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ وَيَلْتَزِمُ عِنْدَ غَضَبِهِ مِنْ اللَّوَازِمِ مَا يَرَى أَنَّهُ لَا مَخْرَجَ لَهُ مِنْهُ إذَا حَنِثَ . لِيَكُونَ لُزُومُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَقْصِدُ قَطُّ أَنْ يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ اللَّوَازِمِ وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ أَوْ لَمْ يَقَعْ وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ الْتَزَمَهَا لِاعْتِقَادِهِ لُزُومَهَا إيَّاهُ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِأَنْ يَلْتَزِمَهُ ؛ لَا مَعَ إرَادَتِهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الْجَزَاءِ غَيْرُ قَصْدِهِ لِلُزُومِ الْجَزَاءِ . فَإِنْ قَصَدَ لُزُومَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ : لَزِمَهُ مُطْلَقًا ؛ وَلَوْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَوْ إذَا فَعَلَ هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرَ . فَقَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَفْعَلِينَ كَذَا . وَقَصْدُهُ أَنَّهَا تَفْعَلُهُ فَتَطْلُقُ ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ الْفِعْلِ وَلَا هُوَ كَارِهٌ لِطَلَاقِهَا ؛ بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لِطَلَاقِهَا : طَلُقَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ حَالِفًا ؛ بَلْ هُوَ مُعَلِّقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَمَعْنَى كَلَامِهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ هُنَا عِنْدَ الْحِنْثِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ . وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ التَّعْلِيقِ . وَالطَّلَاقُ هُنَا إنَّمَا
وَقَعَ
عِنْدَ الشَّرْطِ الَّذِي قُصِدَ إيقَاعُهُ عِنْدَهُ ؛ لَا عِنْدَ مَا هُوَ حِنْثٌ
فِي الْحَقِيقَةِ ؛ إذًا لِاعْتِبَارِ بِقَصْدِهِ وَمُرَادِهِ ؛ لَا بِظَنِّهِ
وَاعْتِقَادِهِ : فَهُوَ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } . وَالسَّلَفُ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَجَمَاهِيرِ الْخَلَفِ مِنْ
أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ
اللَّفْظَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ إذَا قُصِدَ بِهِ الطَّلَاقُ
فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا .
وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ ؛ فَلِهَذَا يَقُولُونَ :
إنَّهُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ . وَلَفْظُ الصَّرِيحِ عِنْدَهُمْ
كَلَفْظِ الطَّلَاقِ لَوْ وَصَلَهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ
لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ
وَثَاقِ الْحَبْسِ أَوْ مِنْ الزَّوْجِ الَّذِي كَانَ قَبْلِي وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَالْمَرْأَةُ إذَا أَبْغَضَتْ الرَّجُلَ كَانَ لَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا
مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وَهَذَا الْخُلْعُ
تَبِينُ بِهِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ إلَّا
بِرِضَاهَا وَلَيْسَ هُوَ كَالطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ
رَجْعِيًّا لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ بِدُونِ رِضَاهَا ؛ لَكِنْ
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْخُلْعِ : هَلْ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ
بَائِنَةٌ مَحْسُوبَةٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؟ أَوْ
تَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بَلْ هُوَ فَسْخٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . و " الْأَوَّلُ " مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِك وَكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَة مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَلْ ضَعَّفَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ خُزَيْمَة وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ . و " الثَّانِي " أَنَّهُ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَيْسَ مِنْ الثَّلَاثِ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ : كطاوس وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه ؛ وَأَبِي ثَوْرٍ ودَاوُد وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِمْ . وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْخُلْعَ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا . ثُمَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ تَنَازَعُوا : هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ ؟ أَوْ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْمُفَادَاةِ وَيُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَنْوِيَ الطَّلَاقَ ؟ أَوْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَهُ أَوْ لَا يَنْوِيَهُ وَهُوَ خُلْعٌ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ ؟ عَلَى أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَصَحُّهَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ وَهُوَ : أَنَّ الْخُلْعَ هُوَ الْفُرْقَةُ بِعِوَضِ فَمَتَى فَارَقَهَا بِعِوَضِ فَهِيَ
مُفْتَدِيَةٌ لِنَفْسِهَا بِهِ وَهُوَ خَالِعٌ لَهَا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ لَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَلَا عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْخُلْعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ بَلْ كَلَامُهُمْ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ . وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْخُلْعِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَمْ لَا ؟ قَالَ : وَأَحْسَبُ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ طَلَاقٌ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ ؟ وَلِهَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ والطَّحَاوِي أَنَّ هَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ هَذَا ؛ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ . وَهَذَا بَنَاهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا وَاحِدًا فَإِنَّ حُكْمَهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ . وَفِي مَذْهَبِهِ فِي نِزَاعٍ فِي الْأَصْلِ وَأَمَّا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَإِنَّ أُصُولَهُ وَنُصُوصَهُ وَقَوْلَ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِمَعَانِيهَا لَا بِالْأَلْفَاظِ وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ آخَرَ : أَنَّهُ تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَهَذَا يُذْكَرُ فِي التَّكَلُّمِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَفِي الْمُزَارَعَةِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَلْفَاظَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَلْفَاظَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَبَيَّنَّا أَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي عَدَمِ التَّفْرِيقِ . وَأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ لَا تَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ وَكَذَلِكَ أَصُولُ أَحْمَد . وَسَبَبُهُ ظَنُّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ تَدُلُّ دَلَالَةً بَيِّنَةً أَنَّهُ خُلْعٌ ؛ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ . وَالطَّلَاقُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ .
قَالَ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ أَصْلًا بَلْ كُلُّ طَلَاقٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ . وَقَالَ هَؤُلَاءِ : وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً لَمْ يَقَعْ بِهَا إلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ؛ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ . قَالُوا : وَتَقْسِيمُ الطَّلَاقِ إلَى رَجْعِيٍّ وَبَائِنٍ تَقْسِيمٌ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَقَعُ إلَّا رَجْعِيًّا وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً أَوْ طَلَاقًا بَائِنًا : لَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَهُمَا إلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ . وَأَمَّا الْخُلْعُ فَفِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِهِمَا . فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الصَّحِيحِ طَرَدَ هَذَا الْأَصْلَ وَاسْتَقَامَ قَوْلُهُ وَلَمْ يَتَنَاقَضْ كَمَا يَتَنَاقَضُ غَيْرُهُ ؛ إلَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : إنَّ الْخُلْعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَقَعُ طَلَاقًا بَائِنًا فَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا فِي الْجُمْلَةِ طَلَاقًا بَائِنًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ فَنَقَضُوا أَصْلَهُمْ الصَّحِيحَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ : إذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَانَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ؛ لَا بَائِنًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْعَلْهُ طَلَاقًا بَائِنًا لِمُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ ؛ وَظَنَّ أَنَّهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَكُونُ طَلَاقًا فَجَعَلَهُ رَجْعِيًّا وَهَذَا خَطَأٌ ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ الِافْتِدَاءِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مَعَ الْبَيْنُونَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ بِالْخُلْعِ مِمَّا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهُ جَائِزًا ؛ فَقَالَ : لِلزَّوْجِ أَنْ يَرُدَّ الْعِوَضَ وَيُرَاجِعَهَا ؛ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجَ وَحْدَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ وَلَكِنْ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى فَسْخِهِ كَالتَّقَايُلِ : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ آخَرُ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يُبَيِّنُ أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَكُونُ إلَّا رَجْعِيًّا وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ إلَّا قَبْلَ الدُّخُولِ . وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى وَهِيَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ لَا بِطَلْقَةِ وَاحِدَةٍ مُطْلَقَةٍ ؛ لَا يَحْصُلُ بِهَا لَا بَيْنُونَةٌ كُبْرَى وَلَا صُغْرَى . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ . إنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ عَامَّةً طَلَاقُهُمْ الْفِدَاءُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ الْفِدَاءُ بِطَلَاقِ . وَرَدَّ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَخُلْعٍ مَرَّةً . وَبِهَذَا أَخَذَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ : هَلْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَعْنَى إذَا كَانَ وَاحِدًا فَالِاعْتِبَارُ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَقَاصِدِ الْعُقُودِ وَحَقَائِقِهَا لَا بِاللَّفْظِ وَحْدَهُ فَمَا كَانَ خُلْعًا فَهُوَ خُلْعٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ إيلَاءٌ فَهُوَ إيلَاءٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ ظِهَارًا فَهُوَ ظِهَارٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ " الطَّلَاقُ " و " الْيَمِينُ " و " الظِّهَارُ " و " الْإِيلَاءُ " و " الِافْتِدَاءُ " وَهُوَ الْخُلْعُ وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُكْمًا فَيَجِبُ أَنْ نَعْرِفَ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَنَدْخُلَ فِي الطَّلَاقِ مَا كَانَ طَلَاقًا وَفِي الْيَمِينِ مَا كَانَ يَمِينًا وَفِي الْخُلْعِ مَا كَانَ خُلْعًا وَفِي الظِّهَارِ مَا كَانَ ظِهَارًا ؛ وَفِي الْإِيلَاءِ مَا كَانَ إيلَاءً . وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَعْضُ ذَلِكَ بِبَعْضِ
فَيَجْعَلُ مَا هُوَ ظِهَارٌ طَلَاقًا : فَيَكْثُرُ بِذَلِكَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَحْتَاجُونَ إمَّا إلَى دَوَامِ الْمَكْرُوه ؛ وَإِمَّا إلَى زَوَالِهِ بِمَا هُوَ أَكْرَهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَهُوَ " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " . وَأَمَّا الطَّلَاقُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ أَوْ كَانَتْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا ثُمَّ يَدَعُهَا تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا غَرَضٌ : ؟ سَرَّحَهَا بِإِحْسَانِ . ثُمَّ إنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ هَذَا إرْجَاعُهَا يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ ثُمَّ إذَا أَرَادَ ارْتِجَاعَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلَّقَهَا فَهَذَا طَلَاقُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعِ . وَمَنْ لَمْ يُطَلِّقْ إلَّا طَلَاقَ السُّنَّةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِ ؛ بَلْ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ لَهُ فِي كُلِّ طَلْقَةٍ رَجْعَةٌ أَوْ عَقْدٌ جَدِيدٌ : فَهُنَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَلَا يَجُوزُ عَوْدُهَا إلَيْهِ بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَصْلًا ؛ بَلْ قَدْ { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ فَلَا يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدًا مِنْ خُلَفَائِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ أَعَادَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إلَى زَوْجِهَا بَعْدَ نِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَبَدًا وَلَا كَانَ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ ظَاهِرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانَ مَنْ يَفْعَلُهُ سِرًّا وَقَدْ لَا تَعْرِفُ الْمَرْأَةُ وَلَا وَلِيُّهَا وَقَدْ { لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَفِي الرِّبَا قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } فَلَعَنَ الْكَاتِبَ وَالشُّهُودَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْهِدُونَ عَلَى دِينِ الرِّبَا وَلَمْ يَكُونُوا يُشْهِدُونَ عَلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ .
و
" أَيْضًا " فَإِنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْتَبُ فِيهِ صَدَاقٌ كَمَا تُكْتَبُ
الدُّيُونُ وَلَا كَانُوا يَشْهَدُونَ فِيهِ لِأَجْلِ الصَّدَاقِ ؛ بَلْ كَانُوا
يَعْقِدُونَهُ بَيْنَهُمْ وَقَدْ عَرَفُوا بِهِ وَيَسُوقُ الرَّجُلُ الْمَهْرَ
لِلْمَرْأَةِ فَلَا يَبْقَى لَهَا عَلَيْهِ دِينٌ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ
رَسُولُ اللَّهِ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الْكَاتِبَ وَالشُّهُودَ كَمَا
ذَكَرَهُمْ فِي الرِّبَا . وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ حَدِيثٌ .
وَنِزَاعُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . فَقِيلَ : يَجِبُ الْإِعْلَانُ أَشْهَدُوا أَوْ لَمْ يُشْهِدُوا
فَإِذَا أَعْلَنُوهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا تَمَّ الْعَقْدُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَقِيلَ : يَجِبُ الْإِشْهَادُ :
أَعْلَنُوهُ أَوْ لَمْ يُعْلِنُوهُ فَمَتَى أَشْهَدُوا وَتَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ
لَمْ يَبْطُلْ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي
إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَقِيلَ : يَجِبُ الْأَمْرَانِ الْإِشْهَادُ
وَالْإِعْلَانُ . وَقِيلَ : يَجِبُ أَحَدُهُمَا . وَكِلَاهُمَا يُذْكَرُ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَد .
وَأَمَّا " نِكَاحُ السِّرِّ " الَّذِي يَتَوَاصَوْنَ بِكِتْمَانِهِ
وَلَا يُشْهِدُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا : فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ السِّفَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسَافِحِينَ } ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا .
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ ؛ وَبَيْنَ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ وَأَنَّ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَجْمَعُ مَصَالِحَ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِي شَرِيعَتِهِ مَا فَرَّقَهُ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْكَمَالِ ؛ إذْ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ فَكَمُلَ بِهِ الْأَمْرُ كَمَا كَمُلَ بِهِ الدِّينُ . فَكِتَابُهُ أَفْضَلُ الْكُتُبِ وَشَرْعُهُ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ وَمِنْهَاجُهُ أَفْضَلُ الْمَنَاهِجِ وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ وَقَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ ؛ وَلَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ حَكَمَا فِي قِصَّةٍ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِالْفَهْمِ ؛ وَلَمْ يَعِبْ الْآخَرَ ؛ بَلْ أَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ . وَهَذَا حُكْمُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاءُ الرُّسُلِ الْعَامِلِينَ بِالْكِتَابِ . وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الَّتِي قَضَى فِيهَا دَاودُ وَسُلَيْمَانُ لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَمَا يُشْبِهُهَا أَيْضًا قَوْلَانِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي بِقَضَاءِ دَاوُد . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي بِقَضَاءِ سُلَيْمَانَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَقُولُ بِهِ ؛ بَلْ قَدْ لَا يَعْرِفُهُ . وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَأَمَّا إذَا " حَلَفَ بِالْحَرَامِ " فَقَالَ : الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ مَا يَحِلُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَحْرُمُ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَلَهُ زَوْجَةٌ . فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ لَكِنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ لَا يَلْزَمُهُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَشْهُورُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ . وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا : فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى وَجَعَلَ الْإِيلَاءَ يَمِينًا يَتَرَبَّصُ فِيهَا الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ . وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إنَّهُ إذَا كَانَ مُزَوِّجًا فَحَرَّمَ امْرَأَتَهُ أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ مُطْلَقًا كَانَ مُظَاهِرًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد . وَإِذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ أَوْ الْحَرَامِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ : أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَذْهَبِهِ ؛ لَكِنْ قِيلَ : إنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ سَوَاءٌ حَلَفَ
أَوْ أَوْقَعَ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : بَلْ إنْ حَلَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ أَوْقَعَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَهَذَا أَقْوَى وَأَقْيَسُ عَلَى أَصْلِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَالْحَالِفُ بِالْحَرَامِ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا تُجْزِئُ الْحَالِفَ بِالنَّذْرِ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ . وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالْعِتْقِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ تُجْزِئُ أَيْضًا فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا أَفْتَى مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يُخَالِفُ ذَاكَ ؛ بَلْ مَعْنَاهُ يُوَافِقُهُ . وَكُلُّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَعْتِقَ أَوْ أَنْ يُظَاهِرَ : فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أَوْقَعَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلِّقًا فَلَا تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَا بَقِيت أَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ ؛
إلَّا إنْ كُنْت سَاهِيًا ؛ أَوْ غالطا . لِأَنَّهُ تَخَاصَمَ مَعَ شَخْصٍ
وَحَصَلَ لَهُ حَرَجٌ فَقَالَ : أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُنِي . أَوْ
الْأَيْمَانُ تَلْزَمُنِي عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ : لَا بُدَّ أَنْ أَشْكُوَك إلَى
الْمُحْتَسِبِ . وَلَمْ يَكُنْ ذَكَرَ الْيَمِينَ الْأَوَّلَ ؛ وَهُوَ شَافِعِيُّ
الْمَذْهَبِ : فَمَا يَجِبُ عَلَى الْيَمِينِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ نَاسِيًا لِلْيَمِينِ الْأَوَّلِ وَحَلَفَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ
ذَكَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَتَى رَأَيْت فُلَانَةً
عِنْدَك طَلَّقْتُك : فَهَلْ يَحْنَثُ إذَا طَلَعَتْ وَلَمْ يَرَهَا أَوْ
اجْتَمَعُوا ثَلَاثَتُهُمْ فِي مَكَانٍ غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
إذَا طَلَعَتْ وَلَمْ يَرَهَا أَوْ اجْتَمَعَ بِهَا فِي بَيْتِ غَيْرِهِ لَمْ
يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ ؛ أَوْ [ فِي ] (1) سَبَبِ الْيَمِينِ
مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ خَرَجَتْ زَوْجَتُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ قَالَ لَهَا : الطَّلَاقُ
يَلْزَمُنِي ثَلَاثًا مَا بَقِيت أَرْفَعُ الْعَصَا عَنْك ؛ وَنِيَّتُهُ فِي
ذَلِكَ إذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ : فَهَلْ يَجِبُ الطَّلَاقُ بِالْحَالِ ؛
أَوْ إذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؟ وَهَلْ إذَا أَذِنَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ بِالْحَالِ ؛ بَلْ إذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ
فَإِنْ أَذِنَ لَهَا إذْنًا عَامًّا جَازَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ
سَبَبٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اتَّهَمَ زَوْجَتَهُ بِسَرِقَةِ دَرَاهِمَ ؛ فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ
مَا أَخَذْت شَيْئًا . فَقَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مِنْك ثَلَاثًا إنْ لَمْ
تُحْضِرِي الدَّرَاهِمَ : مَا تَكُونُ لَهُ زَوْجَتُهُ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَأْخُذْ الدَّرَاهِمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي
أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ ؛
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِرَدِّهَا إلَّا إذَا كَانَتْ أَخَذَتْهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ جَرَى مِنْهُ كَلَامٌ فِي زَوْجَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَقَالَ : إنْ
جَاءَتْ زَوْجَتِي بِبِنْتٍ فَهِيَ طَالِقٌ ثُمَّ إنَّهُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ
جَرَى بَيْنَهُمْ كَلَامٌ فَنَزَلَ عَنْ طَلْقَةٍ ثُمَّ إنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ
وَضَعَتْ بِنْتًا . فَهَلْ يَقَعُ عَلَى الزَّوْجِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ قَدْ أَبَانَهَا بِالطَّلْقَةِ بِأَنْ تَكُونَ الطَّلْقَة بِعِوَضِ أَوْ
وَدَّعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ
لِلْعُلَمَاءِ . وَفِيهَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ " أَحَدُهُمَا "
يَقَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ فَيَذْهَبُ أَحْمَد . وَإِنْ كَانَ لَمْ
يُبِنْهَا بَلْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ فَإِنْ وَجَدَتْ
الصِّفَةَ الْمُعَلِّقَ بِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَخَاصَمَا هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَانْجَرَحَ مِنْهَا ؛ فَقَالَ :
الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مِنْك ثَلَاثًا : إنْ قُلْت طَلِّقْنِي طَلَّقْتُك .
فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ لِأُمِّهَا : أَيُّ شَيْءٍ يَقُولُ ؟ قَالَتْ أُمُّهَا
يَقُولُ كَذَا . قُولِي لَهُ : طَلِّقْنِي : ثُمَّ قَالَتْ الْمَرْأَةُ :
طَلِّقْنِي . فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقٌ بِوَاحِدَةٍ ؛ أَوْ بِثَلَاثِ ؟ أَوْ لَا
يَقَعُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَنْوِ بِقَوْلِهِ : إذَا قُلْت طَلِّقْنِي
طَلَّقْتُك . أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ ؛ بَلْ يُطَلِّقُهَا عِنْدَ
الشُّهُودِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ إذَا افْتَرَقَا
مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ لَكِنْ يُطَلِّقُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ الَّذِي قَصَدَ
بِيَمِينِهِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا وَلَا اثْنَتَيْنِ
أَجْزَأَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً . هَذَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ
إجَابَةَ سُؤَالِهَا مُطْلَقًا . وَأَمَّا إذَا قَصَدَ إجَابَةَ سُؤَالِهَا إذَا
كَانَتْ طَالِبَةً لِلطَّلَاقِ فَإِذَا رَجَعَتْ وَقَالَتْ ؛ لَا أُرِيدُ
الطَّلَاقَ : لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهُوَ سَاكِنٌ بِهَا فِي غَيْرِ مَنْزِلٍ
سَكَنَهَا : إنْ قَعَدْت عِنْدَكُمْ فَأَنْتِ طَالِقٌ ؛ وَإِنْ سَكَنْت عِنْدَكُمْ
فَأَنْتِ طَالِقٌ ؛ ثُمَّ قَالَ أَيْضًا : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ؛ ثُمَّ
انْتَقَلَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ دُونَ زَوْجَتِهِ إلَى مَكَانٍ آخَرَ ؛
وَعَادَتْ زَوْجَتُهُ إلَى مَكَانِهَا الْأَوَّلِ ؛ فَإِذَا عَادَ وَقَعَدَ عِنْدَ
زَوْجَتِهِ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ؟ أَمْ طَلْقَتَانِ ؟ وَهَلْ
السَّكَنُ هُوَ الْقُعُودُ ؟ أَوْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ ؟ وَإِذَا لَمْ
يَنْوِ بِالْحَرَامِ الطَّلَاقَ : هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ نَوَى ؟ وَهَلْ
إذَا كَانَ مَذْهَبٌ تَزُولُ بِهِ هَذِهِ الصُّورَةُ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ هَلْ
يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا قَوْلُهُ : إنْ قَعَدْت عِنْدَكُمْ وَإِنْ سَكَنْت عِنْدَكُمْ فَإِنْ كَانَ نِيَّةُ الْحَالِفِ بِالْقُعُودِ إذَا انْتَقَضَ سَبَبُ تِلْكَ الْحَالِ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَتَغَدَّى ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْيَمِينِ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْغَدَاءَ الْمُعَيَّنَ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِغَدَاءِ غَيْرِ ذَلِكَ : وَهَكَذَا إذَا كَانَ قَدْ زَارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ قَوْمًا فَرَأَى مِنْ الْأَحْوَالِ مَا كَرِهَ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمْ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ وَلَا يَسْكُنُ وَقَصَدَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَوْ كَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ قَدْ نَوَى الْعُمُومَ بِحَيْثُ قَصَدَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ عِنْدَهُمْ وَلَا يُسَاكِنُهُمْ بِحَالِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ . وَإِنْ أَطْلَقَ الْيَمِينَ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَحَيْثُ يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْقُعُودُ الَّذِي قَصَدَهُ هُوَ السُّكْنَى لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ ؛ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ كَمَا لَوْ كَرَّرَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ . وَإِنْ كَانَ الْقُعُودُ دَاخِلًا فِي ضِمْنِ السُّكْنَى - كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدَاخُلُ الصِّفَاتِ كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ أَكَلْت تُفَّاحَةً وَاحِدَةً : فَقَدْ قِيلَ : تَقَعُ طَلْقَتَانِ ؛ لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ إلَّا طَلْقَة وَاحِدَةٌ أَيْضًا . وَهُوَ أَقْوَى فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّك طَالِقٌ سَوَاءٌ أَكَلَتْ تُفَّاحَةً كَامِلَةً أَوْ نِصْفَهَا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ قَعَدْت . فَالْقُعُودُ " لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ " يُرَادُ بِهِ السُّكْنَى مُشْتَمِلًا عَلَى الْعُقُودِ وَيَكُونُ
أَوَّلًا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ ثُمَّ حَلَفَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ السُّكْنَى فَإِذَا سَكَنَ كَانَ الْأَوَّلُ بَعْضَ الثَّانِي فَلَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ طَلْقَةٍ إذَا قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ عَلَى أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَفَعَلَهُ : فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ ؛ بَلْ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا : فَهَذَا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ فِي الصُّورَتَيْنِ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : يَقُولُونَ : إنَّ الْحَرَامَ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ إذَا لَمْ يَنْوِهِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَتْبَاعِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ : فَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ . وَقَدْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَرَوْنَ لَفْظَ " الظِّهَارِ " صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَتَّى تَظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْمُجَادِلَةِ الَّتِي ثَبَتَ حُكْمُهَا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ } وَأَفْتَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا بِالطَّلَاقِ حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ وَجَعَلَ الظِّهَارَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ .
"
وَالْحَرَامَ " نَظِيرَ الظِّهَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لَهَا
بِالْمُحَرَّمَةِ وَهَذَا نُطْقٌ بِالتَّحْرِيمِ وَكِلَاهُمَا مُنْكَرٌ مِنْ
الْقَوْلِ وَزُورٌ فَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ
يَمِينٌ بِقَوْلِهِ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إلَى قَوْلِهِ
: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . مَعَ أَنَّ هَذَا
لَيْسَ مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ . وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْمُسْتَفْتِي لِلْمُفْتِي
فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ
أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا شَرْعٍ لَهُ الْتِزَامُ قَوْلِ شَخْصٍ
مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ مَا يُوجِبُهُ وَيُحَرِّمُهُ وَيُبِيحُهُ ؛ إلَّا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : عَلَى
الْمُسْتَفْتِي أَنْ يُقَلِّدَ الْأَعْلَمَ الْأَرْوَعَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ
اسْتِفْتَاؤُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُفْتِينَ
وَإذَا كَانَ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ فَقَدْ قِيلَ : يَتَّبِعُ أَيَّ الْقَوْلَيْنِ
أَرْجَحُ عِنْدِهِ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ فَإِنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّخْيِيرِ
الْمُطْلَقِ . وَقِيلَ : لَا يَجْتَهِدُ إلَّا إذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ
الِاجْتِهَادِ . وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ . فَإِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَ الْمُسْتَفْتِي
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : إمَّا لِرُجْحَانِ دَلِيلِهِ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ
وَإِمَّا لِكَوْنِ قَائِلِهِ أَعْلَمَ وَأَرْوَعَ : فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَالَفَ
قَوْلُهُ الْمَذْهَبَ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِحَمَاتِهِ : إنْ لَمْ تَبِيعِينِي جَارِيَتَك وَإِلَّا
ابْنَتُك طَالِقٌ ثَلَاثًا . فَقَالُوا : مَا نَبِيعُك الْجَارِيَةَ . فَقَالَ ؛
ابْنَتُكُمْ طَالِقٌ ثَلَاثًا . وَنِيَّتُهُ إنْ لَمْ تُعْطِينِي الْجَارِيَةَ ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ قَدْ نَوَى الشَّرْطَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ الطَّلَاقَ فَلَا
حِنْثَ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ . فَأَنْتِ طَالِقٌ .
فَدَخَلَتْ نَاسِيَةً ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ
نَاسِيَةً لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَهْلِ مَكَّةَ . كَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَابْنِ جريج وَغَيْرِهِمَا
وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشُّجَاعُ الْمِقْدَامُ لَيْثُ الْحُرُوبِ وَأَسَدُ
السُّنَّةِ ؛ الصَّابِرُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَلَى الْمِحْنَةِ الْعَلَمُ
الْحُجَّةُ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ
تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ رَبُّ الْبَرِيَّةِ :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْقُرْآنَ صَوْتٌ وَحَرْفٌ
وَأَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى : عَلَى مَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ
وَيَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْ ظَاهِرِهِ هَلْ يَحْنَثُ فِي هَذَا ؟ أَمْ لَا ؟ (*)
فَأَجَابَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ كَانَ مَقْصُودُ هَذَا الْحَالِفِ
أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَالْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ
حُرُوفَ الْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ : فَقَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ . وَمَا
عَلِمْت أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُكْرَهُ
تَجْرِيدُ الْكَلَامِ فِي الْمِدَادِ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَفِي صَوْتِ
الْعَبْدِ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بِذَلِكَ إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَوْتِ الْعَبْدِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ
أَنَّ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهُ حَقِيقَةً ؛ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ
وَأَنَّ الَّذِي بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً ؛ لَكِنْ
مَا عَلِمْت أَحَدًا حَكَمَ عَلَى مَجْمُوعِ الْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ بِهِ
وَصَوْتِ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ : بِأَنَّهُ قَدِيمٌ . وَلَكِنْ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ كَلَامِ
اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ
وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فِي " بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ "
إلَّا الْمَعَانِيَ الَّتِي تَلِيقُ بِالْخَلْقِ ؛ لَا بِالْخَالِقِ ثُمَّ
يُرِيدُونَ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ
رَسُولِهِ إذَا وَجَدُوا ذَلِكَ فِيهَا وَإِنْ وَجَدُوهُ فِي كَلَامِ
التَّابِعِينَ لِلسَّلَفِ افْتَرَوْا الْكَذِبَ عَلَيْهِمْ وَنَقَلُوا عَنْهُمْ
بِحَسَبِ الْفَهْمِ الْبَاطِلِ الَّذِي فَهِمُوهُ أَوْ زَادُوا عَلَيْهِمْ فِي
الْأَلْفَاظِ وَغَيَّرُوهَا قَدْرًا وَوَصْفًا كَمَا نَسْمَعُ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ
وَنَرَى فِي كُتُبِهِمْ . ثُمَّ بَعْضُ مَنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهَؤُلَاءِ
النَّقْلَةِ قَدْ يَحْكِي هَذَا الْمَذْهَبَ عَمَّنْ حَكَوْهُ عَنْهُمْ وَيَذُمُّ
وَيَبْحَثُ مَعَ مَنْ لَا وُجُودَ لَهُ وَذَمُّهُ وَاقِعٌ عَلَى مَوْصُوفٍ غَيْرِ
مَوْجُودٍ نَظِيرَ مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ } . وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَحْكِي الرَّافِضَةُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ وَالْمَعْرِفَةِ أَنَّهُمْ نَاصِبَةٌ وَتَحْكِي الْقَدَرِيَّةُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُجْبِرَةٌ وَتَحْكِي الْجَهْمِيَّة عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ وَيَحْكِي مَنْ خَالَفَ الْحَدِيثَ وَنَابَذَ أَهْلَهُ عَنْهُمْ : أَنَّهُمْ نَابِتَةٌ وَحَشْوِيَّةٌ وَغُثَاءٌ وَغَثَرًا . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَكْذُوبَةِ . وَمَنْ تَأَمَّلَ كُتُبَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَجَدَهُمْ لَا يَبْحَثُونَ فِي الْغَالِبِ أَوْ فِي الْجَمِيعِ إلَّا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي مَا عَلِمْنَا لِقَائِلِهِ وُجُودًا . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْحَالِفِ : أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ هَذِهِ الْمِائَةُ وَالْأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً : حُرُوفُهَا وَمَعَانِيهَا وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ الْحُرُوفُ دُونَ الْمَعَانِي وَلَا الْمَعَانِي دُونَ الْحُرُوفِ ؛ بَلْ هُوَ مَجْمُوعُ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي وَأَنَّ تِلَاوَتَنَا لِلْحُرُوفِ وَتَصَوُّرَنَا لِلْمَعَانِي لَا يُخْرِجُ الْمَعَانِيَ وَالْحُرُوفَ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِنَا : فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يقرؤه الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ : هُوَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً ؛ لَا مَجَازًا وَأَنَّهُ
لَا يَجُوزُ نَفْيُ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ ؛ إذْ الْكَلَامُ يُضَافُ حَقِيقَةً لِمَنْ قَالَهُ مُتَّصِفًا بِهِ مُبْتَدِيًا وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا وَهُوَ كَلَامٌ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِ مُبْتَدِيًا ؛ لَا مَنْ بَلَغَهُ مُؤَدِّيًا . فَإِنَّا بِالِاضْطِرَارِ نَعْلَمُ مِنْ دِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ - حُرُوفُ الْقُرْآنِ - مَا هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ اسْمٌ لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي : لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ وَكَانَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هَذَا اسْمٌ لِلرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ . أَوْ يَقُولُ : إنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ اسْمًا لِحَرَكَاتِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ اسْمٌ لِأَعْمَالِ الْقَلْبِ فَقَطْ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الشَّهْرَستَانِي - وَهُوَ مِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْمَقَالَاتِ فِي نِهَايَةِ الْإِقْدَامِ - أَنَّ الْقَوْلَ بِحُدُوثِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ وَأَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ نَفْيُ الْخَلْقِ عَنْهَا ؛ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الطَّائِفَةِ الْقَائِلَةِ بِحُدُوثِهَا . وَلَا يَحْسَبُ اللَّبِيبُ أَنَّ فِي الْعَقْلِ أَوْ فِي السَّمْعِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ؛ بَلْ مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْمَقُولَاتِ وَوَقَفَ عَلَى أَسْرَارِهَا : عَلِمَ قَطْعًا أَنْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ قَطُّ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ؛ بَلْ يُخَالِفُ
مَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ بِظُلْمَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ ؛ أَوْ مَا قَدْ يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ التَّقْوَى وَقِلَّةِ الدِّينِ . وَلَوْ فُرِضَ - عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ - أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا يُكَذِّبُ يُنَاقِضُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ : لِلُزُومِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا تَكْذِيبُ النَّاقِلِ . أَوْ تَأْوِيلُ الْمَنْقُولِ ؛ لَكِنْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - هَذَا لَمْ يَقَعْ ؛ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ قَطُّ فَإِنَّ حِفْظَ اللَّهِ لِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَأْبَى ذَلِكَ . نَعَمْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي أَحَادِيثَ وَضَعَتْهَا الزَّنَادِقَةُ لِيَشِينُوا بِهَا أَهْلَ الْحَدِيثِ كَحَدِيثِ " عَرَقِ الْخَيْلِ " و " الْجَمَلِ الْأَوْرَقِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُ الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَذِبٌ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا مَا قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ : مِثْلَ الشَّافِعِيِّ والحميدي ؟ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمْ : مِنْ إنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ فِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَكِتَابِ اللكائي ؛ تِلْمِيذِ أَبِي حَامِدٍ الإسفراييني وَكِتَابِ الطَّبَرَانِي ؛ وَكِتَابِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّقْرِيرِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَسْوِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُرَادُ الْحَالِفِ بِذِكْرِ الصَّوْتِ : التَّصْدِيقُ بِالْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتِهِ وَتَابِعِيهِمْ الَّتِي وَافَقَتْ الْقُرْآنَ وَتَلَقَّاهَا السَّلَفُ بِالْقَبُولِ : مِثْلَ مَا خَرَّجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ { أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي آدَمَ بِصَوْتِ } وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ { أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ } وَمِثْلَ { أَنَّ اللَّهَ إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ - الْقُرْآنِ ؛ أَوْ غَيْرِهِ - سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ صَوْتَهُ } وَفِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : سَمِعُوا صَوْتَ الْجَبَّارِ . وَأَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الَّتِي قَالَهَا : إمَّا ذَاكِرًا وَإِمَّا آثِرًا : مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أنيس وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَسْرُوقٍ أَحَدِ أَعْيَانِ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ؛ وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً . وَلَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلَا قَالَ خِلَافَهُ ؛ بَلْ كَانَتْ الْآثَارُ مَشْهُورَةٌ بَيْنَهُمْ مُتَدَاوَلَةٌ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ ؛ بَلْ أَنْكَرَ ذَلِكَ شَخْصٌ فِي وَقْتِ الْإِمَامِ أَحْمَد ؛ وَهُوَ أَوَّلُ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي نَبَغَتْ فِيهَا الْبِدَعُ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى النُّصُوصِ وَإِلَّا فَقَبْلَهُ قَدْ نَبَغَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ فَهَجَرَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ مَا أَنْكَرَ ذَلِكَ . وَصَارَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَمَلِ الْأَجْرَبِ . فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ مَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ السَّلَفِ نَقْلًا صَحِيحًا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ
وَأَمَّا حَلِفُهُ : أَنَّ " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " عَلَى مَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ وَيَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْ ظَاهِرِهِ : فَلَفْظَةُ " الظَّاهِرِ " قَدْ صَارَتْ مُشْتَرِكَةً ؛ فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَالدِّينِ الْقَيِّمِ وَلِسَانِ السَّلَفِ غَيْرُ الظَّاهِرِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ بِالظَّاهِرِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْمُحَدِّثِينَ أَوْ مَا يَقْتَضِي نَوْعَ نَقْصٍ : بِأَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مِثْلَ اسْتِوَاءِ الْأَجْسَامِ عَلَى الْأَجْسَامِ أَوْ كَاسْتِوَاءِ الْأَرْوَاحِ إنْ كَانَتْ لَا تَدْخُلُ عِنْدَهُ فِي اسْمِ الْأَجْسَامِ : فَقَدْ حَنِثَ فِي ذَلِكَ وَكَذَبَ ؛ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ ؛ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ مِثْلِ دَاوُد الجواربي الْبَصْرِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْخُرَاسَانِيِّ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ الرَّافِضِيَّ ؛ وَنَحْوِهِمْ ؛ إنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ؛ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَإِنَّ مُبَايَنَتَهُ لِلْمَخْلُوقِينَ وَتَنَزُّهَهُ عَنْ مُشَارَكَتِهِمْ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا يَعْرِفُهُ الْعَارِفُونَ مِنْ خَلِيقَتِهِ وَيَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ . وَإِنَّ كُلَّ صِفَةٍ تَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا غَيْرَ الْحُدُوثِ فَيَجِبُ نَفْيُهَا عَنْهُ . وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ قَاسَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ : فَهُوَ إمَّا كَاذِبٌ ؛ أَوْ مُخْطِئٌ . وَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ بِالظَّاهِرِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ الْأَهْوَاءِ وَتَشَتُّتِ الْآرَاءِ ؛ وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي سَائِرِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَالْحَيَاةِ ؛ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ؛ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ؛ وَالْكَلَامِ ؛ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا كَقَوْلِهِ : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } و { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إذَا أُطْلِقَتْ عَلَيْنَا أَنْ تَكُونَ أَعْرَاضًا أَوْ أَجْسَامًا ؛ لِأَنَّ ذَوَاتَنَا كَذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ ظَاهِرُهَا إذَا أُطْلِقَتْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَّا مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيُنَاسِبُ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ ؛ فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ " ذَاتٍ " و " وُجُودٍ " و " حَقِيقَةٍ " : تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ ؛ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ ظَاهِرُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ مُسَاوِيًا لِظَاهِرِهِ فِي حَقِّنَا . وَلَا مُشَارِكًا لَهُ : فِيمَا يُوجِبُ نَقْصًا أَوْ حُدُوثًا سَوَاءٌ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَوَاطِئَةً أَوْ مُشْتَرَكَةً ؛ أَوْ مُشَكِّكَةً كَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } و { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } . الْبَابُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ . وَكَانَ قُدَمَاءُ " الْجَهْمِيَّة " يُنْكِرُونَ جَمِيعَ الصِّفَاتِ لِلَّهِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَعْرَاضٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . أَوْ أَجْسَامٍ : كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ . وحدثاؤهم أَقَرُّوا بِكَثِيرِ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَعْرَاضٌ : كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا وَالصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَجْسَامٌ . وَفِيهِمْ مَنْ أَقَرَّ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَجْسَامٌ كَالْيَدِ .
" وَأَمَّا السَّلَفِيَّةُ " فَعَلَى مَا حَكَاهُ الخطابي وَأَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا : مَذْهَبُ السَّلَفِ إجْرَاءُ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا . مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا ؛ فَلَا نَقُولُ : إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَلَا إنَّ مَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ . وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ . فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ . فَقَدْ أَخْبَرَك الخطابي وَالْخَطِيبُ - وَهُمَا إمَامَانِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مُتَّفَقٌ عَلَى عِلْمِهِمَا بِالنَّقْلِ وَعِلْمُ الخطابي بِالْمَعَانِي - أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ بَالَغْت فِي الْبَحْثِ عَنْ مَذَاهِبِ السَّلَفِ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْهُمْ خَالَفَ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ . فَيَجِبُ لِمَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " الظَّاهِرُ " الَّذِي يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ لَا بِالْخَالِقِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مُرَادٌ فَهُوَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَافِرٌ . فَهُنَا " بَحْثَانِ " : لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ . أَمَّا الْمَعْنَوِيّ : فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ فِي قَوْلِهِ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَنَحْوِهِ . أَنْ يُقَالَ : اسْتِوَاءٌ كَاسْتِوَاءِ
مَخْلُوقٍ : أَوْ يُفَسَّرُ بِاسْتِوَاءِ مُسْتَلْزَمٍ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا : فَهَذَا الَّذِي يَحْكِي عَنْ الضُّلَّالِ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِالْقُرْآنِ وَبِالْعَقْلِ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : مَا ثَمَّ اسْتِوَاءٌ حَقِيقِيٌّ أَصْلًا وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ وَلَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ : فَهَذَا مَذْهَبُ الضَّالَّةِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَبِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَلِيقَتَهُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ كَإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : مَا زَالَتْ الْأُمَمُ عَرَبُهَا وَعَجَمُهَا فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا مُعْتَرِفَةً بِأَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ أَيْ عَلَى السَّمَاءِ . أَوْ يُقَالُ : بَلْ اسْتَوَى سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيُنَاسِبُ كِبْرِيَاءَهُ وَأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ حَامِلٌ لِلْعَرْشِ وَلِحَمَلَةِ الْعَرْشِ وَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفَ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالَ عَنْهُ بِدْعَةٌ كَمَا قَالَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ اسْتَوَى عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَاقِينَ عَلَى الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَمْ تَنْحَرِفْ إلَى تَعْطِيلٍ وَلَا إلَى تَمْثِيلٍ . هَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ الْوَاسِطِيَّ الْمُتَّفَقُ عَلَى إمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ حَيْثُ قَالَ
مَنْ
زَعَمَ أَنَّ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } خِلَافَ مَا يَقَرُّ فِي
نُفُوسِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جهمي فَإِنَّ الَّذِي أَقَرَّهُ اللَّهُ فِي فِطَرِ
عِبَادِهِ وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهِ أَنَّ رَبَّهُمْ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ كَمَا {
أَنْشَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ * * * وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى
الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافَ * * * وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ
الْعَالَمِينَا }
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ - الَّذِي أَجْمَعَتْ فِرَقُ الْأُمَّةِ
عَلَى إمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ حَتَّى قِيلَ : إنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي
كُلِّ شَيْءٍ . وَقِيلَ : مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ
وَقَدْ أَخَذَ عَنْ عَامَّةِ عُلَمَاءِ وَقْتِهِ : مِثْلَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ
وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِي وَطَبَقَتِهِمْ - قِيلَ لَهُ : بِمَاذَا
نَعْرِفُ رَبَّنَا ؟ قَالَ : بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ
مِنْ خَلْقِهِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة - الْمُلَقَّبُ
إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ مِمَّنْ يُعَرِّجُ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ بِمَا
يَنْصُرُهُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَيَكَادُ يُقَالُ : لَيْسَ فِيهِمْ أَعْلَمُ بِذَلِكَ
مِنْهُ - : مَنْ لَمْ يَقُلْ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ
باين مِنْ خَلْقِهِ : وَجَبَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ
عُنُقُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ ؛ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِنَتِنِ رِيحِهِ
أَهْلُ الْمِلَّةِ وَلَا أَهْلُ الذِّمَّةِ وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا . وَقَالَ
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِمَامُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نَافِعٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ
عَنْهُ : إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ ؛ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : مِثْلَ مَا قَالَ مَالِكٌ وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ . وَالْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ مَنْ تَتَبَّعَهَا ؟ وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مُصَنَّفَاتٍ صِغَارًا وَكِبَارًا ؛ وَمَنْ تَتَبَّعَ الْآثَارَ عَلِمَ أَيْضًا قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُنَاقِضُ ذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَعَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ مِنْ بَعْضٍ ؛ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمَ بِخَصَائِصِ النُّبُوَّةِ وَمَزَايَاهَا وَحُقُوقِهَا وَمُوجِبَاتِهَا وَحَقِيقَتِهَا وَصِفَاتِهَا . ثُمَّ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَالَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ : ظَاهِرُ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ ؛ وَلَا قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْ هَذَا الْحَدِيثُ مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ ؛ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْمَصْرُوفَةِ عَنْ عُمُومِهَا وَظَاهِرِهَا ؛ وَتَكَلَّمُوا فِيمَا يَسْتَشْكِلُ مِمَّا قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَنَاقَضَ . وَهَذَا مَشْهُورٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ أَطْلَقُوهَا بِسَلَامَةِ وَطَهَارَةٍ وَصَفَاءٍ لَمْ يَشُوبُوهُ بِكَدَرِ وَلَا غِشٍّ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَلَفُ الْأُمَّةِ قَالُوا لِلْأُمَّةِ : الظَّاهِرُ الَّذِي تَفْهَمُونَهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَلَكَانَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا .
فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ زَاغَ قَلْبُهُ حَتَّى صَارَ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْآيَةِ مَعْنًى فَاسِدٌ مِمَّا يَقْتَضِي حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا : فَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّاهِرَ لِهَذَا الزايغ غَيْرُ مُرَادٍ . وَإِذَا رَأَيْنَا رَجُلًا يَفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ هَذَا الظَّاهِرَ الْفَاسِدَ قَرَّرْنَا عِنْدَهُ " أَوَّلًا " : أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مَفْهُومًا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ . ثُمَّ قَرَّرْنَا عِنْدَهُ " ثَانِيًا " أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى فَاسِدٌ . حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ - وَإِنْ كَانَ هَذَا فَرْضُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ - لَوَجَبَ صَرْفُ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا كَسَائِرِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي عَارَضَهَا مَا أَوْجَبَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا غَيْرُ الظَّاهِرِ . وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحَكِّمْ دَلَالَاتِ اللَّفْظِ وَيَعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ : تَارَةً يَكُونُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ ؛ أَوْ الْعُرْفِيِّ ؛ أَوْ الشَّرْعِيِّ ؛ إمَّا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَإِمَّا فِي الْمُرَكَّبَةِ . وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ مِنْ التَّرْكِيبِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَتُهُ فِي نَفْسِهِ . وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهُ مَجَازًا . وَتَارَةً بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْمُتَكَلَّمِ فِيهِ . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ الَّذِي يُعَيِّنُ أَحَدَ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ أَوْ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ مَجَازُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعْطِي اللَّفْظَ صِفَةَ الظُّهُورِ ؛ وَإِلَّا فَقَدْ يَتَخَبَّطُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ . نَعَمْ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِاللَّفْظِ قَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْقَرَائِنِ الْمُتَّصِلَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ ؛ بَلْ عَلِمَ مُرَادَهُ بِدَلِيلِ آخَرَ لَفْظِيٍّ مُنْفَصِلٍ : فَهُنَا أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ . كَالْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ . وَإِنْ كَانَ الصَّارِفُ عَقْلِيًّا ظَاهِرًا : فَفِي تَسْمِيَةِ الْمُرَادِ خِلَافُ الظَّاهِرِ . خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذَا عُرِفَ الْمَقْصُودُ فَقَوْلُنَا : هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ . أَوْ لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ : خِلَافٌ لَفْظِيٌّ ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ مُمَاثِلٌ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ : فَقَدْ حَنِثَ . وَإِنْ كَانَ فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَهَا هُوَ مَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحْنَثْ . وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عُرْفَ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ : وَلَمْ يَكُنْ سَبَبٌ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مُرَادِهِ وَتَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِنِيَّتِهِ : فَقَدْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى بَاطِلًا : فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ . وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ . كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُحَنِّثْهُ فَالْحُكْمُ فِي يَمِينِهِ ظَاهِرٌ . وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الصِّفَةَ وَأَمْثَالَهَا إذَا بَحَثْت عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَجَدْتهمْ قَدْ اعْتَقَدُوا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ . أَوْ اسْتِوَاءٍ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا ثُمَّ حَكَوْا عَنْ مُخَالِفِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ تَبِعُوا فِي إقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ ثُمَّ يَقُولُونَ : فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ : إمَّا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ بِالظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي أَوْ بِالْفَضْلِ وَالرُّجْحَانِ الَّذِي هُوَ عُلُوُّ الْقَدْرِ وَالْمَكَانَةِ . وَيَبْقَى " الْمَعْنَى الثَّالِثُ " وَهُوَ : اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ يَكُونُ دَلَالَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى مَعَانِيهَا : قَدْ دَلَّ السَّمْعُ عَلَيْهِ
بَلْ مَنْ أَكْثَرَ النَّظَرَ فِي آثَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ أَلْقَى إلَى الْأُمَّةِ إنَّ رَبَّكُمْ الَّذِي تَعْبُدُونَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ . فَوْقَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ السَّمَوَاتِ . وَعَلِمَ أَنَّ عَامَّةَ السَّلَفِ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِثْلَ مَا عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْ وَاحِدٍ لَفْظٌ يَدُلُّ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ . وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ إنَّ رَبَّنَا لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ كَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْبَحْرِ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تُرَّهَاتِ الْجَهْمِيَّة وَلَا مَثَّلَ اسْتِوَاءَهُ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ وَلَا أَثْبَتَ لَهُ صِفَةً تَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا . وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ لَك خَطَأَ مَنْ أَطْلَقَ " الظَّاهِرَ " عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِالْخَلْقِ : أَنَّ الْأَلْفَاظَ " نَوْعَانِ " . " أَحَدُهُمَا " مَا مَعْنَاهُ مُفْرَدٌ : كَلَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ وَالْبَحْرِ وَالْكَلْبِ . فَهَذِهِ إذَا قِيلَ : " أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ " أَوْ قِيلَ لِلْبَلِيدِ : حِمَارٌ . أَوْ لِلْعَالِمِ أَوْ السَّخِيِّ أَوْ الْجَوَادِ مِنْ الْخَيْلِ : بَحْرٌ . أَوْ قِيلَ لِلْأَسَدِ : كَلْبٌ . فَهَذَا مَجَازٌ ؛
ثُمَّ إنْ قُرِنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تَبَيَّنَ الْمُرَادُ { كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ : إنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا } وَقَوْلِهِ : { إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } { وَقَوْلِهِ لِعُثْمَانِ : إنَّ اللَّهَ يقمصك قَمِيصًا } وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ اسْتَلَمَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا بَايَعَ رَبَّهُ . أَوْ كَمَا قَالَ . وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَهَذَا اللَّفْظُ فِيهِ تَجَوُّزٌ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ مِنْ اللَّفْظِ مُرَادُ صَاحِبِهِ . وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ ؟ لَا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ عَلِمَ الْمُرَادَ بِهِ وَسَبَقَ ذَلِكَ إلَى ذِهْنِهِ لِاسْتِحَالَةِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَصًّا ؛ لَا مُحْتَمَلًا . وَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فِي شَيْءٍ . وَهَذَا أَحَدُ مثارات غَلَطِ الغالطين فِي هَذَا الْبَابِ حَيْثُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ وَأَنَّ اللَّفْظَ مُتَأَوَّلٌ . " النَّوْعُ الثَّانِي " مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا فِي مَعْنَاهُ إضَافَةٌ : إمَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إضَافَةً مَحْضَةً : كَالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ وَفَوْقُ وَتَحْتُ . وَنَحْوِ ذَلِكَ . أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا فِيهِ إضَافَةٌ : كَالْعِلْمِ وَالْحُبِّ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ
وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَعْنًى مُفْرَدٌ بِحَسَبِ بَعْضِ مَوَارِدِهِ ؛ لِوَجْهَيْنِ . " أَحَدِهِمَا " أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُفْرَدًا قَطُّ . " الثَّانِي " أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ أَوْ الْمَجَازُ ؛ بَلْ يُجْعَلُ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَوَارِدِهِ . وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ اسْتَوَى لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ جُلُوسِ الْآدَمِيِّ - مَثَلًا - عَلَى سَرِيرِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَصِيرَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا : كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الْعِلْمِ " لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ الْعُرْفِ الْقَائِمِ بِقَلْبِ الْبَشَرِ الْمُنْقَسِمِ إلَى " ضَرُورِيٍّ " و " نَظَرِيٍّ " حَقِيقَةً وَاسْتَعْمَلَتْهُ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا ؛ بَلْ الْمَعْنَى تَارَةً : يُسْتَعْمَلُ بِلَا تَعْدِيَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } . وَتَارَةً : يُعَدَّى بِحَرْفِ الْغَايَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } . وَتَارَةً : يُعَدَّى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ . ثُمَّ هَذَا تَارَةً : يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ . وَتَارَةً : يَكُونُ صِفَةً لِخَلْقِهِ . فَلَا يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً وَفِي الْآخَرِ مَجَازًا . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ اسْتِوَاءِ اللَّهِ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } وقَوْله تَعَالَى { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } وقَوْله
تَعَالَى { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } وقَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ } { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } فَهَلْ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يُثْبِتَ لِرَبِّهِ خَاصِّيَّةَ الْآدَمِيِّ الْبَانِي الصَّانِعِ الْكَاتِبِ الْعَامِلِ ؟ أَمْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ حَقِيقَةَ الْعَمَلِ وَالْبِنَاءِ كَمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَيَلِيقُ بِجَلَالِهِ ؟ أَمْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَصْرُوفَةٌ عَنْ ظَاهِرِهَا ؟ أَمْ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَقُولَ : عَمَلُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَوَاتِ خَلْقِهِ : فَعَمَلُهُ وَصُنْعُهُ وَبِنَاؤُهُ ؛ لَيْسَ مِثْلَ عَمَلِهِمْ وَصُنْعِهِمْ وَبِنَائِهِمْ . وَنَحْنُ لَمْ نَفْهَمْ مِنْ قَوْلِنَا : بَنَى فُلَانٌ . وَكَتَبَ فُلَانٌ : مَا فِي عَمَلِهِ مِنْ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّأَثُّرِ إلَّا مِنْ جِهَةِ عِلْمِنَا بِحَالِ الْبَانِي ؛ لَا مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْفِعْلِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِ إضَافَتِهِ إلَى الْفَاعِلِ الْمُعَيَّنِ . وَبِهَذَا يَنْكَشِفُ لَك كَثِيرٌ مِمَّا يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَتَرَى مَوَاقِعَ اللَّبْسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ . وَيَجْمَعُ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ وَبَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَاحِبِ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارَ جَارِهِ
ثُمَّ اُضْطُرَّ إلَى الدُّخُولِ فَدَخَلَ : فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ
بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى
لُزُومِهَا ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ يَمِينًا تَقْتَضِي
حَضًّا أَوْ مَنْعًا كَقَوْلِهِ : الطَّلَاقُ أَوْ الْعِتْقُ يَلْزَمُهُ
لَيَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا . أَوْ قَوْلُهُ : إنْ فَعَلْت كَذَا
فَامْرَأَتِي طَالِقٌ . أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ . وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَلِلْعُلَمَاءِ
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ إذَا حَنِثَ وَقَعَ
بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ . وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَهُوَ
الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . " وَالثَّانِي " لَا يَقَعُ
بِهِ شَيْءٌ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ
وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَابْنِ حَزْمٍ . وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛
وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة شَيْخُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَا
يُفْتِي بِالْوُقُوعِ ؛ فَإِنَّهُ رَوَى
عَنْ طاوس عَنْ أَبِيهِ : أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ شَيْئًا . فَقِيلَ لَهُ : أَكَانَ يَرَاهُ يَمِينًا قَالَ : لَا أَدْرِي . فَجَزَمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوقِعُ الطَّلَاقَ وَشَكَّ هَلْ كَانَ يَجْعَلُهُ يَمِينًا فِيهَا كَفَّارَةٌ ؟ " وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْعِتْقِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُمْ أَفْتَوْا مَنْ قَالَ لِفُلَانِ : إنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك فَمَالِي صَدَقَةٌ وَأَرِقَّائِي أَحْرَارٌ . فَقَالُوا : كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَدَعْ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأَتِهِ : يَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ . أَنَّهُ سَأَلَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ إنْ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ . فَقَالَ : يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي مُسْنَدِهِ ثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قَالَ أَبِي : ثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ قَالَ قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ ؛ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك أَوْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك . قَالَ : فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ - وَكَانَتْ إذَا ذُكِرَتْ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ قَالَ : فَأَتَيْتهَا فَجَاءَتْ - يَعْنِي إلَيْهَا -
فَقَالَتْ : فِي الْبَيْتِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ قَالَتْ يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاك : إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ . فَقَالَتْ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ يَعْنِي وَكَفِّرِي يَمِينَك . فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَأَتَتْهَا ؛ فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاك : إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ . فَقَالَتْ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِك . يَعْنِي وَكَفِّرِي عَنْ يَمِينِك . فَأَتَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَجَاءَ يَعْنِي إلَيْهَا ؛ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَسَلَّمَ ؛ فَقَالَتْ ( سا أَنْتَ وسا أَبُوك ؛ فَقَالَ : أَمِنْ حِجَارَةٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ أَنْتِ ؟ . مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ أَفْتَتْك زَيْنَبُ وَأَفْتَتْك حَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ تَقْبَلِي فُتْيَاهُمَا فَقَالَتْ : يَا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك : إنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ . فَقَالَ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ . وَهَذَا الْأَثَرُ مَعْرُوفٌ ؛ قَدْ رَوَاهُ حميد أَيْضًا وَغَيْرُهُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المزني . وَرَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَذَكَرُوا أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَفْتَوْهَا بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ لَكِنْ سُلَيْمَانُ التيمي ذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ حميد وَغَيْرُهُ . وَبِهَذَا أَجَابَ أَحْمَد لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِف بِالْعِتْقِ وَالْحَلِفِ بِغَيْرِهِ .
وَعَارَضَ ذَلِكَ أَثَرٌ آخَرُ ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ المروذي : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ : فَيُعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِمَا كَفَّارَةٌ . وَقَالَ : لَيْسَ قَوْلُ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ . فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ . وَحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ . وَزَيْنَبَ وَذَكَرَتْ الْعِتْقَ فَأَفْتَوْهَا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَأَمَّا حميد وَغَيْرُهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا الْعِتْقَ . قَالَ : وَسَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قِصَّةَ امْرَأَتِهِ وَأَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ فَأَمَرُوهَا بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ قُلْت فِيهَا الْمَشْيُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . أَذْهَبُ إلَى أَنَّ فِيهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَتْ تَقُولُ فِيهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ إلَّا (1) قُلْت : فَإِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ مَمْلُوكِهِ يَحْنَثُ ؟ قَالَ : يَعْتِقُ كَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا لِلْجَارِيَةِ تَعْتِقُ ثُمَّ قَالَ : مَا سَمِعْنَا إلَّا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ . وَقُلْت : فإيش إسْنَادُهُ ؟ قَالَ : مَعْمَرٌ ؛ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ : إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ وَأَيُّوبُ بْنُ مُوسَى : مَكِّيَّانِ . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَهُوَ يُحْرِمُ بِحَجَّةِ وَهُوَ يَهْدِي وَمَالُهُ فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ وَكُلُّ يَمِينٍ يُكَفِّرُ عِنْدَهَا عَقْدُ يَمِينٍ يَحْلِفُ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا هِيَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى حَدِيثِ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ فِي قِصَّةِ حَفْصَةَ . حَلَفَتْ لَتُفَرِّقَن بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَقَالَتْ : يَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَاعْتِقِي جَارِيَتَك فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ عَنْ الْعِتْقِ : فَهَذَا أَفْضَلُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَلَا اسْتِثْنَاءٌ . وَالِاسْتِثْنَاءُ
دَائِمًا يَكُونُ فِي الْيَمِينِ الَّتِي تُكَفِّرُ فَأَوْجَبَ الْعِتْقَ ؛ وَجَعَلَ فِي غَيْرِهِ كَفَّارَةً . قُلْت : فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَجْوِبَتِهِ ؛ وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ [ إلَّا ] (1) فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ : بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَد " الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني " وَمَنْ اتَّبَعَهُ : الْفَرْقُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَذَلِكَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَد ؛ إنَّمَا هَذَا قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْمَشِيئَةَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالْعِتْقِ طَاعَةٌ ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ . فَإِذَا قَالَ : عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَعَ الْعِتْقُ . وَإِذَا قَالَ : امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ . وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مُسْنَدًا مِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ مُعَاذٍ وَهُوَ مِمَّا وَضَعَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ كَانُوا بِالشَّامِ . وَسَبَبُ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ أَحْمَد قَالَ فِيمَنْ قَالَ : إنْ مَلَكْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَلَكَهُ عَتَقَ . وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ : إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ
فَتَزَوَّجَهَا لَمْ تَطْلُقْ . فَفَرْقٌ بَيْنَ التَّعْلِيقَيْنِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ كَالنَّذْرِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْمِلْكِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } وَالْعِتْقُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالْمِلْكِ ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ بَيْعُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ عِتْقِهِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ . فَلَوْ قِيلَ : إنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلنِّكَاحِ فَائِدَةٌ وَالْعُقُودُ الَّتِي لَا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُهَا بَاطِلَةٌ . فَلَمَّا فَرَّقَ أَحْمَد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ اعْتَقَدَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّ الْفَرْقَ لِأَجْلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ وَذَلِكَ غَلَطٌ عَلَيْهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ يَتَنَوَّعُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ ؛ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ نَفَعَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَإِذَا قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : كَأَبِي مُحَمَّدٍ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ - هُنَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ قَوْلًا وَاحِدًا . وَقِيلَ : بَلْ الرِّوَايَتَانِ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ وَفِي صِيغَةِ التَّعْلِيقِ ؛ وَهَذَا أَشْبَهُ بِكَلَامِ أَحْمَد ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ؛ فَإِنَّ لَهُمْ فِي النَّوْعَيْنِ قَوْلَيْنِ فَإِذَا كَانَ أَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَلِف بِالْعِتْقِ سَوَاءٌ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ أَوْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ مَعَ قَوْلِهِ : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ - لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ الْمُكَفِّرَةِ . قَالَ فِي رِوَايَةِ
أَبِي طَالِبٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ : الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يُكَفِّرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } فَكُلُّ يَمِينٍ فِيهَا كَفَّارَةٌ ؛ غَيْرُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ . وَأَمَّا كَوْنُ سُلَيْمَانَ التيمي هُوَ الَّذِي ذَكَرَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ . فَسُلَيْمَانُ التيمي ثِقَةٌ ثَبْتٌ ؛ وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الزِّيَادَةَ ؛ وَسَبَبُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الْعِتْقَ هَابُوهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ الْعِتْقَ فِي ذَلِكَ عَنْ التيمي أَيْضًا مَعَ أَنَّ التيمي كَانَ يَذْكُرُ الْعِتْقَ بِلَا نِزَاعٍ . قَالَ الْمَيْمُونِيَّ : قَالَ أَحْمَد وَابْنُ أَبِي عَدِيّ : لَمْ يَذْكُرُوا فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ عَتَقَ . قُلْت : وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيّ هُوَ أَجَلُّ مَنْ رَوَى عَنْ التيمي فَعَلِمَ أَنَّ مِنْ الرُّوَاةِ مَنْ كَانَ يَتْرُكُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَعَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الْحَدِيثِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ثَبَتَتْ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ أَخَذَ بِهَا . وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فَقَدْ قَالَ أَحْمَد مَا سَمِعْنَاهُ إلَّا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَعَنْ مَعْمَرٍ . وَعُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ سَمِعَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ : هُوَ يَمَانِيٌّ حِمْيَرِيٌّ ثِقَةٌ وَقَدْ رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه . وَالْأَثَرُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ ؛ وَرِجَالُهُ وَرُوَاتُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا يَرْوُونَ ؛ وَهَذَا الْأَثَرُ فِيهِ تَمْوِيهٌ ؛ وَلَمْ يُضْبَطْ لَنَا لَفْظُهُ . وَقَدْ بُسِطَ
الْكَلَامُ عَلَى تَضْعِيفِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ فَإِنْ صَحَّ كَانَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَثَرًا فِي الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَكُونَ مِنْهُ . " وَبِالْجُمْلَةِ " فَالنِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَابِتٌ بَيْنَ السَّلَفِ : كَعَطَاءِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي فِي شَرْحِ قَوْلِ الخرقي : " وَمَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ مَا يَمْلِكُ فَحَنِثَ عَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَمْلِكُ : مِنْ عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَمُكَاتِبِيهِ وَمُدَبِّرِيهِ وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَشِقْصٍ يَمْلِكُهُ مِنْ مَمْلُوكٍ " . فَقَالَ : مَعْنَاهُ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ وَعَتِيقٌ . أَوْ : فَكُلُّ مَا أَمْلِكُ حُرٌّ ؛ فَإِنَّ هَذَا إذَا حَنِثَ عَتَقَ مَمَالِيكُهُ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ كَفَّارَةٌ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ؛ وَالثَّوْرِيُّ ؛ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِي ؛ وَاللَّيْثُ ؛ وَالشَّافِعِيُّ ؛ وَإِسْحَاقُ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ؛ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ؛ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ : يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي رَافِعٍ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ : وَلَنَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ فَيَنْتَفِعُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ فِي مَعْنَاهُ ؛ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِيَمِينِ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ إنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ . قَالَ : فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ فَإِنَّ أَحْمَد
قَالَ فِيهِ : كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك . وَاعْتِقْ جَارِيَتَك ؛ وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَمْلُوكٌ سِوَاهَا . قُلْت : الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُمْ مُنْتَقِضٌ بِكُلِّ مَا يُعَلِّقُهُ بِالشَّرْطِ : مِنْ صَدَقَةِ الْمَالِ وَالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ وَالْهَدْيِ وَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ أَوْ أُطَلِّقَ وَقَوْلُهُ : إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا صِيغَتُهُ صِيغَةُ الشَّرْطِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ يَمِينٌ اعْتِبَارًا بِمَعْنَاهُ . وَالْأَصْلُ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِيهِ نِزَاعٌ ؛ بَلْ إذَا لَمْ يُوقِعُوا الْعَتَاقَ مَعَ كَوْنِهِ قُرْبَةً فَأَوْلَى أَلَّا يُوقِعُوا الطَّلَاقَ . وَأَبُو ثَوْرٍ لَمْ يُسَلِّمْ الطَّلَاقَ ؛ لَكِنْ قَالَ : إنْ كَانَ فِيهِ إجْمَاعٌ فَالْإِجْمَاعُ أَوْلَى مَا اتَّبَعَ ؛ وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ كَالْعَتَاقِ - وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إجْمَاعٌ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَأَنَّهُمْ قَالُوا : اعْتِقِي جَارِيَتَك . فَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُمْ قَالُوا : اعْتِقِي جَارِيَتَك وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد والجوزجاني وَالْأَثْرَمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَحَرْبٌ الكرماني وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ : فَلَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ . وَكَلَامُ أَحْمَد فِي عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَحْمَد عَنْهُمْ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا أَجَابَ بِكَوْنِ الْحَلِفِ بِعِتْقِ الْمَمْلُوكِ إنَّمَا ذَكَرَهُ التيمي . وَأَبُو مُحَمَّدٍ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ " جَامِعِ الْخَلَّالِ " وَالْخَلَّالُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ مَسْأَلَةِ أَبِي طَالِبٍ
كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ . وَذَلِكَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَد . وَأَبُو طَالِبٍ لَهُ أَحْيَانًا غَلَطَاتٌ فِي فَهْمِ مَا يَرْوِيه : هَذَا مِنْهَا . وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَد مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ : فَهَذَا نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَد غَيْرُ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ ثِقَةٌ وَالْغَالِبُ عَلَى رِوَايَتِهِ الصِّحَّةُ ؛ وَلَكِنْ رُبَّمَا غَلِطَ فِي اللَّفْظِ . فَأَمَّا نَقْلُهُ : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيمَا يُكَفِّرُ فَلَمْ يَغْلَطْ فِيهِ ؛ بَلْ نَقَلَهُ كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُهُ . قَالَ هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَلَيْسَ قَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ حِينٍ ؟ قَالَ : إنَّمَا هَذَا فِي الْقَوْلِ ؛ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ ؛ كَانَ يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إنَّمَا هَذَا فِي الْقَوْلِ ؛ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزًا فِيمَا تَكُونُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَكْفُرُ . فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ فَإِذَا كَانَ قَدْ نَصَّ مَعَ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَزِمَهُ إجْرَاءُ الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ مُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } فَجَعَلَ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا وَجَعَلَ ذَلِكَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ إذَا حَلَفْنَا
وَقَدْ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : إنْ شَاءَ
اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ } فَمَا دَخَلَ فِي قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
. وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْمُنَجَّزَانِ لَا يَدْخُلَانِ فِي مُسَمَّى
الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بِخِلَافِ الْحَلِفِ عَلَى
الْحَضِّ وَالْمَنْعِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الْمَحْضُ كَقَوْلِهِ : إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتِ
طَالِقٌ . فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لَهُمْ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَأَصْحَابِ أَحْمَد فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَيْسَ بِيَمِينِ كَاخْتِيَارِ
الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ أَحْمَد فِي
الْوَجْهِ الْآخَرِ : هُوَ يَمِينٌ كَاخْتِيَارِ أَبِي الْخَطَّابِ وَقَدْ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ
عَنْ يَمِينِهِ } وَهَذَا عَامٌّ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ فِيهَا هَذَا
فَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ هَذَا فَلَيْسَ بِيَمِينِ . " وَالْمَقْصُودُ
" هُنَا ذَكَرَ تَحْرِيرِ الْمَنْقُولِ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الدَّلَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ
: لَا طَلَاقَ إلَّا عَنْ وَطَرٍ وَلَا عِتْقَ إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ
اللَّهِ
. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ
بِالطَّلَاقِ وَلَا هُوَ مُتَقَرِّبٌ بِالْعِتْقِ ؛ بَلْ هُوَ حَالِفٌ بِهِمَا ؛
وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ فِيهِ كَفَّارَةً . وَقِيلَ : لَا
كَفَّارَةَ فِيهِ . وَهَذَا الثَّانِي قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ . وَالشِّيعَةُ
يَقُولُونَ : لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ . وَهُوَ
قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ
التَّكْفِيرِ ضَعِيفًا أَيْضًا وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ . وَالْقَوْلُ بِلُزُومِ
الْكَفَّارَةِ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ طَاوُوسٍ وَغَيْرِهِ ؛ وَهُوَ مُقْتَضَى
أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَبِهِ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِينَ
الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الطَّلَاقَ أَوْلَى أَلَّا
يَقَعَ مِنْ الْعِتْقِ فَإِذَا أَفْتَى الصَّحَابَةُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ
الْعِتْقُ فَالطَّلَاقُ أَوْلَى ؛ وَلَكِنَّ أَبَا ثَوْرٍ لَمْ يَبْلُغْهُ فِي
الطَّلَاقِ شَيْءٌ فَقَالَ ؛ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ
أَيْضًا ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ : إذَا فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي أَوْ
أُطَلِّقَ امْرَأَتِي وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَعَلَيَّ صَوْمُ
كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُنَا يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ . وَيُقَالُ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إلَيْهَا
وَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَامَّةِ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَيُسَمِّيه الْفُقَهَاءُ " نَذَرَ اللَّجَاجَ
وَالْغَضَبَ " . هَذَا إذَا كَانَ الْمَنْذُورُ قُرْبَةً : كَانَ الْعِتْقُ
وَنَحْوُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً كَالطَّلَاقِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ؛ لَكِنَّ
الْمَشْهُورَ عَنْهُ : أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ .
" فَنَذْرُ التَّبَرُّرِ " مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ النَّاذِرِ حُصُولَ الشَّرْطِ وَيَلْتَزِمُ فِعْلَ الْجَزَاءِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى ؛ كَقَوْلِهِ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ أَنْ أَصُومَ كَذَا أَوْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا النَّذْرُ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَأَمَّا " نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " فَقَصْدُ النَّاذِرِ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ : مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ : سَافِرْ مَعَ فُلَانٍ . فَيَقُولُ : إنْ سَافَرْت فَعَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَكَذَا أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ . فَمَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ الشَّرْطَ وَلَا الْجَزَاءَ وَكَمَا لَوْ قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا . أَوْ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَلَا يَكْفُرُ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : إنْ أَعْطَيْتُمُونِي الدَّرَاهِمَ كَفَرْت فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ ؛ بَلْ يُنَجَّزُ كُفْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ حُصُولَ الْكُفْرِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ . فَطَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ نَظَرُوا إلَى لَفْظِ النَّاذِرِ فَقَالُوا : قَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرْطِ فَيَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ؛ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ " نَذْرِ اللَّجَاجِ " و " نَذْرِ التَّبَرُّرِ " . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْمُحَقِّقُونَ فَقَالُوا : الِاعْتِبَارُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ . وَالْمُشْتَرِطُ هُنَا قَصْدُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ؛ وَهُنَاكَ قَصْدُهُ أَنْ لَا يَكُونَ
هَذَا وَلَا هَذَا ؛ وَلِهَذَا يَحْلِفُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ تَارَةً . وَبِصِيغَةِ الْقَسَمِ أُخْرَى . مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا فَعَلْت كَذَا أَوْ عَلَيَّ الْعِتْقُ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ لَا فَعَلْت كَذَا . وَهَذَا حُجَّةُ مَنْ أَمَرَهُ بِكَفَّارَةٍ فِي الْعِتْقِ وَكَذَا فِي الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ : سَافِرْ . فَقَالَ : عَلَيْهِ الْعِتْقُ أَوْ الطَّلَاقُ لَا يَفْعَلُ كَذَا أَوْ إنْ فَعَلَ كَذَا فَعَبْدُهُ حُرٌّ أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ : فَقَصْدُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ : فَهُوَ حَالِفٌ بِذَلِكَ ؛ لَا مُوقِعَ لَهُ . قَالُوا : وَهَذَا الْحَالِفُ الْتَزَمَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَهُوَ كَمَا لَوْ الْتَزَمَ إيقَاعَهُ بِأَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ أَوْ أُطَلِّقَ . وَلَوْ قَالَ هَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الْإِعْتَاقِ قَوْلَانِ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ ؛ لَكِنْ الشَّافِعِيُّ يُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ إذَا لَمْ يُعْتِقْ وَلَا يُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ إذَا لَمْ يُطَلِّقْ . فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ . وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَأَحْمَد يُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ فِيهِمَا عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الْمَشْهُورِ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد الْمَشْهُورُ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . قَالَ هَؤُلَاءِ : الْتِزَامُهُ الْوُقُوعَ كَالْتِزَامِهِ الْكُفْرَ ؛ وَلَوْ الْتَزَمَهُ لَمْ يَكْفُرْ بِالِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي إحْدَى الْقَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ الْمُوقِعُونَ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ هُنَا الْتَزَمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَهُوَ الْوُقُوعُ وَهُنَاكَ الْتَزَمَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِهِ وَهُوَ الْإِيقَاعُ كَقَوْلِهِ : فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ عَلَيَّ الصَّوْمُ أَوْ عَلَيَّ الصَّدَقَةُ وَهُوَ فِي الْفِعْلِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيُكَفِّرَ ؛ بِخِلَافِ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . قَالُوا : وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ أَعْطَيْتِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَأَعْطَتْهُ إيَّاهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ . فَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الشُّرُوطِ إذَا عُلِّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَقَعَ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ جَوَازُ الْكِتَابَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِي مَعْنَاهَا مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ حُرٌّ ؛ وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ . فَهَذَا مُنْتَهَى مَا يَحْتَجُّ بِهِ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا أُولَئِكَ فَيَقُولُونَ . قَوْلُكُمْ إنَّ اللَّازِمَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُنَاكَ فِعْلُ غَلَطٍ ؛ بَلْ اللَّازِمُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ؛ لَكِنْ فِي إحْدَاهُمَا وُقُوعٌ وَفِي الْآخِرَةِ وُجُوبٌ . فَقَوْلُهُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . إنَّمَا يَكُونُ فِيهِ وُجُوبُ الْحَجِّ ؛ لَا نَفْسُ فِعْلِهِ . ثُمَّ يُقَالُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لَهُ . كَالسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ اللَّازِمِ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا . فَقَدْ الْتَزَمَ حُكْمًا وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ بِلَا نِزَاعٍ . وَأَيْضًا فَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الصَّوْمُ ؛ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ . فَالْجَزَاءُ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ . ثُمَّ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ بِحُكْمِ الْوُجُوبِ فَالْوُجُوبُ
هُوَ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ ؛ لَيْسَ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ نَفْسَ فِعْلِهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ الْمُعَلَّقُ نَفْسَ فِعْلِهِ لَوُجِدَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ وَلَكِنَّ الْمُعَلَّقَ وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِ هَذَا الْوُجُوبِ ؛ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ . وَفِيمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ . فَالْجَزَاءُ نَفْسُ الْحُرِّيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا تَحْرِيمُ اسْتِعْبَادِهِ وَكَذَلِكَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مُوجِبُهُ تَحْرِيمُ اسْتِمْتَاعِهِ . فَالتَّحْرِيمُ هُنَا مُوجِبُ الْجَزَاءِ ؛ لَا نَفْسُ الْجَزَاءِ . وَهَذَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ . وَكَذَا قَوْلُهُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ ؛ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يَصِيرَ الْمَالُ صَدَقَةً . فَهَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ؛ لَا فِعْلٌ ؛ لَكِنْ إذَا صَارَ صَدَقَةً لَزِمَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ . وَلَوْ قَالَ : فَعَبْدِي حُرٌّ الْتَزَمَ أَنْ يَصِيرَ حُرًّا فَلَوْ قَالَ . فَعَلَيَّ أَنَّ أَعْتِقَ هَذَا فَالْمُلْتَزِمُ وُجُوبُ الْعِتْقِ . ثُمَّ إذَا وَجَبَ كَانَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ . وَمَعَ هَذَا فَلَهُ رَفْعُ الْوُجُوبِ ؛ وَإِذَا قَالَ : فَهُوَ حُرٌّ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ نَفْسَ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ إذَا صَارَ حُرًّا كَانَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا صَارَتْ طَالِقَةً ثَلَاثًا كَانَ عَلَيْهِ إرْسَالُهَا وَأَنْ لَا يَخْلُوَ بِهَا وَلَا يَطَأَهَا . فَالنَّاذِرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْتَزَمَ الْحُكْمَ وَالْفِعْلُ يَتْبَعُهُ . ثُمَّ إذَا فَعَلَ مَا أَوْجَبَهُ فَهُوَ الْإِيقَاعُ لِلطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ : حَصَلَ الْوُقُوعُ . فَمُوجِبُ التَّعْلِيقِ وُجُوبٌ يَتْبَعُهُ إيقَاعٌ وَوُقُوعٌ . ثُمَّ إذَا قَصَدَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ الْيَمِينَ صَارَ يَمِينًا ؛ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْوُجُوبُ وَلَا الْإِيقَاعُ وَلَا الْوُقُوعُ . فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْيَمِينِ مَنْعَ الثَّلَاثَةِ فَلَأَنْ يُمْنَعَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَهُوَ الْوُقُوعُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
قَالُوا : وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ وَالْمُحَرِّمَ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ . إنَّمَا الْتَزَمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا ؛ لَمْ يُلْتَزَمْ فِعْلًا . وَمَعَ هَذَا فَدَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ . قَالُوا : فَكَمَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ وُجُوبَ الْعِتْقِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَهُ أَوْ يُكَفِّرَ فَكَذَلِكَ إذَا الْتَزَمَ وُقُوعَهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ وُقُوعَهُ فَيُعْتِقَهُ وَيُرْسِلَ الْعَبْدَ فَيَكُونُ إعْتَاقُهُ إرْسَالَهُ إمْضَاءً لِلْمَنْذُورِ ؛ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُعْتِقَهُ وَلَا يُرْسِلَهُ فَلَا يُكَفِّرَ إمْضَاءً لَهُ ؛ بَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ كَمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَهَذَا الْمَالُ صَدَقَةٌ أَوْ هَذَا الْبَعِيرُ هَدْيٌ وَحِنْثٌ . فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْمَالِ وَيُرْسِلَ الْبَعِيرَ هَدْيًا ؛ فَيَكُونُ قَدْ الْتَزَمَ مُوجِبَ كَوْنِهِ صَدَقَةً وَهَدْيًا ؛ وَبَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ وَيُمْسِكَ الْمَالَ وَالْهَدْيَ فَلَا يُرْسِلُهُ . وَأَمَّا إذَا الْتَزَمَ مُحَرَّمًا ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ إهَانَةُ الْمُصْحَفِ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَهُنَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ النِّزَاعُ الْمُتَقَدِّمُ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا الْتَزَمَ حُكْمًا لَا يَجُوزُ الْتِزَامُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْتِزَامُ الْكُفْرِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَكَانَ كَافِرًا بِالْقَصْدِ . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ لَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْحُكْمَ الْمُوجِبَ عَلَيْهِ فِعْلًا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْفِعْلَ حُكْمًا آخَرَ يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلٍ أَوْ تَحْرِيمِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْحُكْمَ الْمُقْتَضِيَ لِوُجُوبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ تَحْرِيمِهِ . فَالْتِزَامُ وُجُوبِ الْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ الْحُكْمَ كَمَا إذَا قَالَ : فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ أَوْ أَعْتِقَ . فَإِنَّهُ
الْتَزَمَ وُجُوبَ الطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّطْلِيقِ وَذَلِكَ فِعْلٌ مِنْهُ يُوجِبُ حُكْمًا وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْتِزَامَهُ لِوُجُوبِ الْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْوُقُوعُ أَقْوَى مِنْ الْتِزَامِهِ الْوُقُوعَ ؛ فَإِنَّهُ هُنَاكَ الْتَزَمَ حُكْمَيْنِ وَفِعْلَيْنِ وَهُوَ هُنَا الْتَزَمَ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ وَأَحَدَ الْفِعْلَيْنِ فَاَلَّذِي الْتَزَمَهُ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ فِي بَعْضِ مَا الْتَزَمَهُ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ . فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ هَذَا فَذَاكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . فَهُوَ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ إذَا قَصَدَ بِالتَّعْلِيقِ الْيَمِينَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُوفِيَ بِمَا الْتَزَمَهُ فَيُوقِعُ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَالصَّدَقَةَ فَكَذَلِكَ الَّذِي الْتَزَمَهُ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَالْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ يَكُونُ بِأَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَلَا يُوجَدَ الْجَزَاءُ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ . فَإِذَا قَالَ : إذَا فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ الْعِتْقُ أَوْ الطَّلَاقُ : لَمْ يَحْنَثْ إلَّا إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يُوجَدْ الْجَزَاءُ الْمُعَلَّقُ بِهِ فَإِنْ أَوْقَعَ الْجَزَاءَ الْمُعَلَّقَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا عَتَقَ عَبْدِي أَوْ طَلُقَتْ امْرَأَتِي . فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ : فَعَلَيَّ عِتْقُ عَبْدِي أَوْ طَلَاقُ امْرَأَتِي . فَالْتِزَامُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُتَضَمِّنٌ لِالْتِزَامِ الْآخَرِ ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ يَقْتَضِي أَنَّ عَلَيْهِ فِعْلَ الْوَاجِبِ وَالتَّحْرِيمَ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ . وَالْإِيجَابُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْوُجُوبِ ؛ وَالتَّحْرِيمُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُرْمَةِ . وَالْوُجُوبُ يَقْتَضِي الْفِعْلَ وَالْإِيقَاعُ مُسْتَلْزِمُ الْوُقُوعِ مُقْتَضٍ لِلْحُرْمَةِ وَالْحُرْمَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّرْكِ . فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْإِيجَابَ
وَالْوُجُوبَ وَالْفِعْلَ أَوْ التَّحْرِيمَ أَوْ الْحُرْمَةَ أَوْ الْإِيقَاعَ أَوْ الْوُقُوعَ أَوْ الْحُرْمَةَ الَّتِي هِيَ مُوجَبُ ذَلِكَ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ احْتَجَّ بِالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَتَعْلِيقِ ذَلِكَ بِعِوَضِ فَجَوَابُهُ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ - ابْنِ حَزْمٍ وَنَحْوِهِ - أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَمَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِإِبَاحَتِهِ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ . وَلَا يَكْتَفُونَ فِي ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ وَالْعَهْدِ وَتَحْرِيمِ الْغَدْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ مَنْسُوخَةٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاسْمُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُنْجَزَ وَالْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى التَّطْلِيقِ ؛ بِخِلَافِ مَا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ عِنْدَ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ دَاخِلُ فِي مُسَمَّى التَّطْلِيقِ . وَعَلَى هَذَا فَالْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ وَالْجُمْهُورِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمَقْصُودِ وُجُودُهُ وَالشَّرْطِ الْمَقْصُودِ عَدَمُهُ وَعَدَمِ الْجَزَاءِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْحَلِفُ وَلَا يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ هُوَ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ ؛ لَا يُعْرَفُ عَنْهُمْ فِيهِ خِلَافٌ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ
وَالْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . فَيُقَالُ : إنَّهُ هُنَا قَصَدَ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ كَمَا قَصَدَ ذَاكَ نَذْرَ التَّبَرُّرِ . فَكَمَا أَنَّهُ فَرَّقَ فِي النُّذُورِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشُّرُوطِ بَيْنَ مَا يَقْصِدُ فِيهِ ثُبُوتَهَا وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُ فِيهِ نَفْيَهَا ؛ كَذَلِكَ هَذَا . فَإِنَّ هَذَا جَمِيعُهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهِيَ أَحْكَامٌ مُعَلَّقَةٌ بِشُرُوطِ وَإِذَا كَانَ الشَّرْعُ أَوْ الْعَقْلُ وَالْعُرْفُ تَفَرَّقَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ بَيْنَ مَا يَقْصِدُ ثُبُوتَهُ وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُ انْتِفَاءَهُ - كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - لَمْ يَجُزْ تَسْوِيَةُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ . وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ بِالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ كُلُّ مَنْ يَمْنَعُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ جُمْلَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَالْإِمَامِيَّةِ أَوْ بَعْضِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطِ لَا يَقَعُ بِحَالِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ عِنْدَهُمْ مِنْ الطَّلَاقِ إلَّا مَا ثَبَتَ أَنَّ الشَّارِعَ أَذِنَ فِيهِ . قَالُوا : وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَذِنَ فِي هَذَا فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ وَجَعَلُوا مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْحَلِف بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حُجَّةً لَهُمْ ؛ وَلَيْسَ بِحُجَّةِ لَهُمْ ؛ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ طاوس أَنَّهُ لَا يَرَى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ شَيْئًا وَهَذَا لَا يَقْضِي أَنَّهُ لَا يَرَى تَعْلِيقَهُ بِالشُّرُوطِ بِحَالِ بَلْ قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمَقْصُودِ ثُبُوتُهُ وَالْمَقْصُودِ عَدَمُهُ كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ طَاوُوسٍ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ "
وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ الشَّافِعِيُّ مِصْرَ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَعَلَيَّ الصَّوْمُ . فَأَفْتَاهُ الشَّافِعِيُّ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ قَوْلَ مَالِكٍ : إنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ وَالصَّوْمَ . وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا حَنِثَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ أَفْتَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ - الَّذِي هُوَ الْعُمْدَةُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ . وَقَالَ : أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِنْ عُدْت أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ مَالِكٍ . وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ مَالِكٍ يُرَجِّحُونَ الْإِفْتَاءَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ آخِرًا . وَأَمَّا جُمْهُورُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَبَيْنَ فِعْلِ الْمُلْتَزِمِ . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ : أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ عَيْنًا وَيَذْكُرُ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . كَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِينَ أَصْحَابِ مَالِكٍ يُفْتُونَ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَيَحْتَجُّونَ بِمَا رَوَوْهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ فَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ . وَهَذَا قَوْلُ طاوس وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسَائِلُ جَلِيلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
:
وَالْإِفْتَاءُ بِهَذَا الْأَصْلِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ ؛ بَلْ
غَالِبُ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْيَمِينِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَحْتَاجُ فِيهِ
إلَى قَوَاعِدَ . " الْقَاعِدَةُ الْأُولَى " إذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا
فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ .
فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . " أَحَدُهَا " لَا
يَحْنَثُ بِحَالِ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَكِّيِّينَ :
كَعَطَاءِ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرِهِمْ وَمَذْهَبُ
إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ بَلْ
أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَنَظَرْت جَوَابَهُ
فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَوَجَدْت النَّاقِلِينَ لَهُ بِقَدْرِ النَّاقِلِينَ
لِجَوَابِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ
صَاحِبُهُ والخرقي وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَهُوَ الْفَرْقُ
بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالظِّهَارِ
وَالْحَرَامِ وَالْيَمِينِ الَّتِي لَا تُكَفِّرُ - عَلَى مَنْصُوصِهِ - وَهِيَ
الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ "
أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْهُ .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْحَضَّ وَالْمَنْعَ فِي الْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ أَوْ صَدِيقِهِ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُطِيعُهُ هُوَ طَالِبٌ لِمَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ مَانِعٌ لِمَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ وَقَدْ وَكَّدَ طَلَبَهُ وَمَنَعَهُ بِالْيَمِينِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ . وَقَدْ اسْتَقَرَّ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا مُخَالِفًا : فَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا مُخَالِفًا لِيَمِينِهِ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا أَوْ مُقَلِّدًا لِمَنْ أَفْتَاهُ أَوْ مُقَلِّدًا لِعَالِمِ مَيِّتٍ أَوْ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئًا . فَحَيْثُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْمُخَالَفَةَ ؛ وَلَكِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْيَمِينِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا إذَا خَالَعَ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ الْخُلْعِ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ يَمِينُهُ فَهَذِهِ الصُّورَةُ تَدْخُلُ فِي يَمِينِ الْجَاهِلِ الْمُتَأَوِّلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ هَذَا الْخُلْعَ خُلْعَ الْأَيْمَانِ بَاطِلٌ وَهُوَ أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ صَحِيحًا فَذَلِكَ يَقُولُ : إنَّهُ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ وَالْمَرْأَةُ لَوْ فَعَلَتْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ يَحْنَثْ الرَّجُلُ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَتْهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ ؛ فَيَحْنَثُ عِنْدَهُ إذَا وَجَدَتْ الصِّفَةَ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ عَامِّيًّا فَقِيلَ لَهُ : خَالِعْ امْرَأَتَك وَافْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى الْخُلْعِ فَظَنَ أَنَّهُ طَلَاقٌ مُجَرَّدٌ
فَطَلَّقَهَا
ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ : لَمْ
يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ مَنْ لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ الْمُتَأَوِّلُ
وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ لَهُ : زِلْهَا بِطَلْقَةِ . فَأَزَالَهَا بِطَلْقَةِ ثُمَّ
فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ : لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ طَلْقَةً
ثَانِيَةً وَإِنْ كَانَتْ الطَّلْقَةُ الْأَوْلَى رَجْعِيَّةً ؛ لَكِنْ فِي
صُورَةِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ وَالْجَهْلِ لَا يَحْنَثُ وَتَبْقَى الْيَمِينُ
مَعْقُودَةً عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَيْسَ فِيهِ نِزَاعٌ إلَّا
وَجْهٌ ضَعِيفٌ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
" الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ " إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ
كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ . فَهَذَا أَوْلَى بِعَدَمِ
التَّحْنِيثِ مِنْ مَسْأَلَةِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ
جَاهِلًا ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا بَيْنَ
هَذِهِ الصُّورَةِ وَصُورَةِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ فَقَالُوا هُنَا لَا يَحْنَثُ
فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُنَاكَ يَحْنَثُ . قَالُوا : لِأَنَّهُ هنا
كانت الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي فَلَمْ تَنْعَقِدْ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى
مَاضٍ إنْ كَانَ عَالِمًا فَهُوَ : إمَّا صَادِقٌ بَارٌّ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَتَكُونُ يَمِينُهُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ . وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ :
فَهَذَا لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ عَلَى فَاعِلِهِ إثْمُ
الْكَذَّابِ . وَهَذَا هُوَ لَغْوُ الْيَمِينِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَمِثْلُ هَذَا
يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ النِّسْيَانُ
كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ذِي
الْيَدَيْنِ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ نَسِيَ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ : بَلَى قَدْ نَسِيت .
فَقَالَ : أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ } وَفِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ { أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ خَمْسًا فَقَالُوا لَهُ بَعْدَ
الصَّلَاةِ : أَزِيدُ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا صَلَّيْت
خَمْسًا . قَالَ : إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا
نَسِيَتْ فَذَكِّرُونِي } .
قَالُوا
:
وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ وَالْخَطَأُ
وَالنِّسْيَانُ وَاقِعٌ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْعَقْدِ فَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَ
الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ . وَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ
فَقَالُوا أَيْضًا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ كَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ
أَحْمَد فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَعَلَى
قَوْلِهِمَا لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ وَالنَّاسِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَكَذَلِكَ
لَا يَحْنَثُ الْمُخْطِئُ حِينَ عَقَدَ الْيَمِينَ الَّذِي حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ
يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ . وَأَمَّا
عَلَى قَوْلِهِمَا : إنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَحْنَثُ فِي
الْمَاضِي ؛ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَكَذَلِكَ لَا
يَحْنَثُ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ سَلَكَهَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد : كَأَبِي الْبَرَكَاتِ فِي " مُحَرَّرِهِ " . وَأَصْحَابُ
هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَقُولُونَ : إنَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا
حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ
: فَيَلْزَمُهُ أَلَّا يَحْنَثَ مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ
جَاهِلًا . وَيُضَعِّفُونَ قَوْلَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَرْقِ
وَقِيلَ : بَلْ لَا يَحْنَثُ فِي الْمَاضِي قَوْلًا وَاحِدًا وَفِي
الْمُسْتَقْبَلِ قَوْلَانِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد
سَلَكُوا مَسْلَكَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ : فَفَرَّقُوا بَيْنَ
الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَقَالُوا : إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ عَلَى شَيْءٍ
يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا
يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا
أَوْ جَاهِلًا فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي ؛ وَغَيْرِهِمْ فَجَعَلُوا النِّزَاعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي . وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : " لَغْوُ الْيَمِينِ " هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ بِلَا نِزَاعٍ . وَأَمَّا إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ : فَفِيهِ رِوَايَتَانِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " ؛ وَاخْتَارَ الْقَاضِي فِي " خِلَافِهِ " أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ لَيْسَ بِلَغْوِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَا يَسْبِقُ عَلَى اللِّسَانِ هُوَ لَغْوٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَفِيمَا إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ رِوَايَتَانِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ . " وَالصَّوَابُ " أَنَّ النِّزَاعَ فِي الصُّورَتَيْنِ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ عَنْهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ ؛ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا لَغْوٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَكَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ كِلَا النَّوْعَيْنِ لَغْوٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ وَلِهَذَا جَزَمَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا . وَلَمْ يَذْكُرُوا نِزَاعًا ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ كِلَيْهِمَا لَغْوٌ فِي جَوَابِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الخرقي وَابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَذَكَرَ طَائِفَةٌ عَنْهُ فِي اللَّغْوِ " رِوَايَتَيْنِ " رِوَايَةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَرِوَايَةً كَقَوْلِ
الشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ : مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا . وَصَرَّحَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ - كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ - بِأَنَّهُ إذَا قِيلَ : إنَّ اللَّغْوَ هُوَ أَنْ يَسْبِقَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَإِنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ . فَلِهَذَا صَارَ فِي مَذْهَبِهِ عِدَّةُ طُرُقٍ . " طَرِيقَةُ الْقُدَمَاءِ " أَنَّ كِلَيْهِمَا لَغْوٌ قَوْلًا وَاحِدًا . " وَطَرِيقَةُ الْقَاضِي " أَنَّ الْمَاضِيَ لَغْوٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَفِي سَبْقِ اللِّسَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ رِوَايَتَانِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تُوَافِقُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . " وَطَرِيقَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ " أَنَّ سَبْقَ اللِّسَانِ لَغْوٌ قَوْلًا وَاحِدًا . وَفِي الْمَاضِي رِوَايَتَانِ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تُوَافِقُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ . " وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ " وَهِيَ أَضْعَفُ الطُّرُقِ : أَنَّ اللَّغْوَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ هَذَا دُونَ هَذَا وَفِي الْأُخْرَى هَذَا دُونَ هَذَا . " وَالطَّرِيقَةُ الْخَامِسَةُ " وَهِيَ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الطُّرُقِ : أَنَّ فِي مَذْهَبِهِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فَإِذَا سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ : لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ : فَهَذَا لَغْوٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ .وَإِذَا سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ تَعَمَّدَ الْيَمِينَ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ : فَفِي الصُّورَتَيْنِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ ؛ هِيَ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ عَنْ أَحْمَد . " أَحَدُهَا " أَنَّ الْجَمِيعَ لَغْوٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَهِيَ وَمَذْهَبُهُ فِي إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ . وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَقَدْ فَسَّرَ اللَّغْوَ بِهَذَا . وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي " أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْمَاضِي دُونَ مَا سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا . " وَالثَّالِثُ " بِالْعَكْسِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُخْطِئَ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ هُوَ فِي إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ كَالنَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَفِي الْأُخْرَى لَا يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا . وَالْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَعَلَى هَذَا فَالْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ لَا يَحْنَثُ إذَا لَمْ يَحْنَثْ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ : إمَّا تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا . وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى اخْتِلَافِ الطَّرِيقَتَيْنِ . وَهَكَذَا ذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ .
وَقَدْ
ظَنَّ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ كَالسَّامِرِيِّ صَاحِبِ "
الْمُسْتَوْعِبِ " أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى
أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ أَنَّهُ
يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا لَغْوَ فِيهِ وَهَذَا خَطَأٌ
؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنَّ الطَّلَاقَ لَا لَغْوَ فِيهِ هُوَ الَّذِي
يَحْنَثُ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ
يَحْنَثْ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ لَا لَغْوَ فِي الطَّلَاقِ
- إذَا فَسَّرَ اللَّغْوَ بِأَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ
عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ - فَإِنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ فِي هَذِهِ
الصُّورَةِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي تِلْكَ
الصُّورَةِ أَوْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهَا ؛ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ . وَلَا
يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
عَلَى امْرَأَتِهِ لَا يَفْعَلُهُ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ وَيَقُولُ إذَا حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ
يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛
لِأَنَّ الْجَهْلَ الْمُقَارَنَ لِعَقْدِ الْيَمِينِ أَخَفُّ مِنْ الْجَهْلِ
الْمُقَارِنِ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَغَايَتِهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ ؛
وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الْأُولَى مُنْعَقِدَةٌ اتِّفَاقًا . وَأَمَّا الثَّانِيَةُ
فَفِي انْعِقَادِهَا نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ثُمَّ حَنِثَ فِي
يَمِينِهِ : هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ .
" أَحَدُهَا " أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ حَتَّى اعْتَقَدَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ عَامَّتُهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةً وَحُجَّتُهُمْ عَلَيْهِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا وَهِيَ : أَنَّهُ الْتَزَمَ أَمْرًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطٍ فَلَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ . وَهَذَا مَنْقُوضٌ بِصُوَرِ كَثِيرَةٍ وَبَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ : كَنَذْرِ الطَّلَاقِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْمُبَاحِ وَكَالْتِزَامِ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ ؛ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُقَاسُ بِهِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٌ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُوجِبُ الْعَقْدِ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ صَارَ يَظُنُّ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَازِمٌ وَهَذَا يُوَافِقُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ مُوجِبَةً وَمُحَرَّمَةً كَمَا يُقَالُ : إنَّهُ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا . لَكِنْ نَسَخَ هَذَا شَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ تَحِلَّةَ أَيْمَانِهِمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْ يُحِلُّوا عَقْدَ الْيَمِينِ بِمَا فَرَضَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِلَا رَيْبٍ ؛ إلَّا عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ يُرْوَى عَنْ شريح وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد فِيمَا إذَا قَدَّمَ الطَّلَاقَ . وَإِذَا قِيلَ : يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؛ فَإِنْ نَوَى بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ تَوْكِيدَ الْأُولَى - لَا إنْشَاءَ يَمِينٍ أُخْرَى - لَمْ يَقَعْ بِهِ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ وَإِنْ أَطْلَقَ وَقَعَ بِهِ ثَلَاثٌ وَقِيلَ : لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ .
و " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ . وَهَذَا مَذْهَبُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَطَوَائِفَ مِنْ الشِّيعَةِ . وَيَذْكُرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ ؛ بَلْ هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ صَرِيحًا كَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ رَاوِيَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ . وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ : لَغْوٌ كَالْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ . وَيُفْتِي بِهِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا بِالْتِزَامِ الطَّلَاقِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ : كَالْقَفَّالِ وَصَاحِبِ " التَّتِمَّةِ " وَيَنْقُلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَوْ لَازِمٌ لِي وَنَحْوَ ذَلِكَ : صِيغَةُ نَذْرٍ ؛ لَا صِيغَةُ إيقَاعٍ كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ . وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُطَلِّقَ لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ بِلَا نِزَاعٍ ؛ وَلَكِنْ فِي لُزُومِهِ الْكَفَّارَةَ لَهُ قَوْلَانِ . " أَحَدُهُمَا " يَلْزَمُهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : إمَّا مُطْلَقًا . وَإِمَّا إذَا قُصِدَ بِهِ الْيَمِينُ . " وَالثَّانِي " لَا . وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الخراسانيين مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْقَفَّالِ والبغوي وَغَيْرِهِمَا . فَمَنْ جَعَلَ هَذَا نَذْرًا وَلَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ
فِي
نَذْرِ الطَّلَاقِ : يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا أَفْتَى
بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ قَالَ :
عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَزِمَهُ عَلَى قَوْلِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا يُفْتَى
بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَأَمَّا "
الْحَنَفِيَّةُ " فَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِنَذْرِ
الْمَعَاصِي وَالْمُبَاحَاتِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَكَذَلِكَ يَقُولُ
ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَ أَنْ
يَقُولَ : عَلَيَّ نَذْرٌ . فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ :
إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ نَذْرٌ . فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . فَفَرَّقَ
هَؤُلَاءِ بَيْنَ نَذْرِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِنَذْرِ الطَّلَاقِ .
وَأَحْمَد عِنْدَهُ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ : أَنَّ نَذْرَ
الطَّلَاقِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَالْحَلِفُ بِنَذْرِهِ عَلَيْهِ فِيهِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ وَافَقَهُ مِنْ الخراسانيين
مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجَعَلَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ
وَغَيْرُهُمَا هُوَ الْمُرَجَّحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرُوا ذَلِكَ
فِي نَذْرِ جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُ : الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ
فِيهِ صِيغَةُ إيقَاعٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ النَّذْرَ
فَفِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَهُ .
وَ " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَهُوَ
الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ : أَنَّ هَذِهِ
يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْرِي فِيهَا مَا يَجْرِي فِي
أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ ؛
إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْحَالِفُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فَلَهُ أَنْ يُوقِعَهُ وَلَا كَفَّارَةَ . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : كَطَاوُوسِ وَغَيْرِهِ . وَهُوَ مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ وَبِهِ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مَنْ يُفْتِي بِذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى نُصُوصِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأُصُولُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِذَا كَرَّرَ الْيَمِينَ الْمُكَفِّرَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ : فَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ؟ أَوْ كَفَّارَاتٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ تَجْزِيه كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ حَكَاهَا ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ فِي الْحَلِف بِالطَّلَاقِ كَمَا حَكَوْهَا فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ : فَفِيهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ ؛ لَكِنْ هُنَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ : إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ كَمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ . فَيَصِحُّ نَذْرُهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ . وَرَوَوْهُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ .
وَأُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ ؛ كَطَاوُوسِ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ صَحَابِيٍّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ؛ لَا فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَلَا فِي الْحَلِفِ بِالْعَتَاقِ ؛ بَلْ إذَا قَالَ الصَّحَابَةُ : إنَّ الْحَالِفَ بِالْعِتْقِ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ فَالْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى عِنْدَهُمْ . وَهَذَا كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ مِثْلَ : أَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ . أَوْ ثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ . فَإِنَّ هَذَا يَمِينٌ تُجْزِئُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ التَّابِعِينَ : كَطَاوُوسِ وَعَطَاءٍ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ وَمَذْهَبُ أَحْمَد بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتَارَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ أَبِي الْغَمْرِ وَأَفْتَى ابْنُ الْقَاسِمِ ابْنَهُ بِذَلِكَ . وَالْمَعْرُوفُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ أَوْ النَّذْرِ : إمَّا أَنْ تُجْزِئَهُ الْكَفَّارَةُ فِي كُلِّ يَمِينٍ . وَإِمَّا أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِمَّا أَنْ يُلْزِمَهُ كَمَا حَلَفَ بِهِ ؛ بَلْ إذَا كَانَ قَوْلُهُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً . وَقَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ ؛ بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَوْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ لَزِمَهُ
بِالِاتِّفَاقِ فَقَوْلُهُ : فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَهُ لِأَنَّ قَصْدَ الْيَمِينِ إذَا مَنَعَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْوُجُوبُ فِي الْإِعْتَاقِ وَالْعِتْقِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ لُزُومَ الْعِتْقِ وَحْدَهُ أَوْلَى " وَأَيْضًا " فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُقُوقِ فِي الذِّمَمِ أَوْسَعُ نُفُوذًا ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَالْعَبْدَ قَدْ تَثْبُتُ الْحُقُوقُ فِي ذِمَمِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمْ فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْيَمِينِ مَعَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ فِي الذِّمَّةِ مَمْنُوعٌ فَلَأَنْ يُمْنَعَ وُقُوعُهُ أَوْلَى وَأَحْرَى وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ لَا يَلْزَمُهُ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ فَالطَّلَاقُ الَّذِي لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ أَوْلَى أَنْ لَا يُلْزِمَ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ ؛ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ إنَّمَا يَلْزَمُ فِيهِ الْجَزَاءُ إذَا قَصَدَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُوبِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : إنْ أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِيَحُضَّ نَفْسَهُ أَوْ يَمْنَعَهَا أَوْ يَحُضَّ غَيْرَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ : فَهَذَا مُخَالِفٌ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ وَصَوْمٌ : فَهَذَا حَالِفٌ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ
أَيْمَانَ
جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لَفْظًا وَمَعْنًى ؛ وَلَمْ يَخُصَّهُ نَصٌّ وَلَا
إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ تُحَقِّقُ عُمُومَهُ .
وَالْيَمِينُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ " نَوْعَانِ " :
نَوْعٌ مُحْتَرَمٌ مُنْعَقِدٌ مُكَفِّرٌ كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ . وَنَوْعٌ غَيْرُ
مُحْتَرَمٍ ؛ وَلَا مُنْعَقِدٍ وَلَا مُكَفِّرٍ وَهُوَ الْحَلِفُ
بِالْمَخْلُوقَاتِ . فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ مِنْ أَيْمَانِ
الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ . وَهِيَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ مِنْ الثَّانِي .
وَأَمَّا إثْبَاتُ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ ؛ غَيْرِ مُكَفِّرَةٍ فَهَذَا لَا أَصْلَ
لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَتَقْسِيمُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ إلَى
يَمِينٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ كَتَقْسِيمِ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ
إلَى خَمْرٍ وَغَيْرِ خَمْرٍ . وَتَقْسِيمِ السَّفَرِ إلَى طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ .
وَتَقْسِيمِ الْمُيَسَّرِ إلَى مُحَرَّمٍ وَغَيْرِ مُحَرَّمٍ ؛ بَلْ الْأُصُولُ
تَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ . وَبَسْطُ الْكَلَامِ لَهُ مَوْضُوعٌ آخَرُ لَكِنَّ
هَذَا " الْقَوْلَ الثَّالِثَ " وَهُوَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ
الْكَفَّارَةِ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي
تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَنَاقَضُ وَهُوَ
الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ :
إمَّا فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ . وَإِمَّا فِي بَعْضِهَا . وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ . وَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ . وَالصِّيَغُ ثَلَاثَةٌ " صِيغَةُ تَنْجِيزٍ " كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فَهَذِهِ لَيْسَتْ يَمِينًا وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ " وَالثَّانِي " صِيغَةُ قَسَمٍ كَمَا إذَا قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهَذِهِ يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءِ . " وَالثَّالِثُ " صِيغَةُ تَعْلِيقٍ . فَهَذِهِ إنْ قَصَدَ بِهَا الْيَمِينَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إنْ قَصَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّرْطِ : مِثْلَ أَنْ يَخْتَارَ طَلَاقَهَا إذَا أَعْطَتْهُ الْعِوَضَ فَيَقُولُ : إنْ أَعْطَيْتِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَيَخْتَارُ طَلَاقَهَا إذَا أَتَتْ كَبِيرَةً فَيَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت . وَقَصْدُهُ الْإِيقَاعَ عِنْدَ الصِّفَةِ ؛ لَا الْحَلِفِ : فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ رُوِيَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَعَلِيِّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ
وَمَا عَلِمْت أَحَدًا نَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالصِّفَةِ لَا يَقَعُ وَإِنَّمَا عُلِمَ النِّزَاعُ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ وَعَنْ ابْنِ حَزْمٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ . وَهَؤُلَاءِ الشِّيعَةُ بَلَغَتْهُمْ فَتَاوَى عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ فِيمَنْ قَصْدُهُ الْحَلِفُ : فَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ تَعْلِيقٍ كَذَلِكَ كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْجُمْهُورِ بَلَغَتْهُمْ فَتَاوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةِ أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَهَا : فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَمِينٌ . وَجَعَلُوا كُلَّ تَعْلِيقٍ يَمِينًا كَمَنْ قَصْدُهُ الْيَمِينَ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ ؛ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ أُولَئِكَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ الطَّلَاقِ . وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَفْتَى فِي الْيَمِينِ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ . كَمَا لَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا مِنْهُمْ أَفْتَى فِي التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ بِهِ دَاوُد وَأَصْحَابُهُ . فَفَرَّقُوا بَيْنَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ كَقَوْلِ الْمُسْلِمِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ : فَهُوَ يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ ؛ إنَّمَا الْتِزَامُهُ لِئَلَّا يُلْزِمَ وَلِيَمْتَنِعَ بِهِ مِنْ الشَّرْطِ ؛ لَا لِقَصْدِ وُجُودِهِ عِنْدَ الصِّفَةِ . وَهَكَذَا الْحَلِفُ بِالْإِسْلَامِ لَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ . وَالْحَالِفُ بِالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَمَالِي صَدَقَةٌ
فَهُوَ
يَكْرَهُ هَذِهِ اللَّوَازِمَ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا عَلَّقَهَا
لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الشَّرْطِ ؛ لَا لِقَصْدِ وُقُوعِهَا وَإِذَا وُجِدَ
الشَّرْطُ فَالتَّعْلِيقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ مِنْ بَابِ
الْإِيقَاعِ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ مِنْ بَابِ الْيَمِينِ . وَقَدْ
بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ وَأَحْكَامَ الْإِيمَانِ .
وَإِذَا قَالَ : إنْ سَرَقْت إنْ زَنَيْت : فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَهَذَا قَدْ
يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقَامُهَا مَعَ هَذَا الْفِعْلِ
أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا ؛ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ زَجْرُهَا وَتَخْوِيفُهَا
لِئَلَّا تَفْعَلُ : فَهَذَا حَلِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَدْ يَكُونُ
قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِرَاقُهَا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ
الْمُقَامِ مَعَهَا مَعَ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ إذَا فَعَلَتْهُ أَنْ تَطْلُقَ مِنْهُ
: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صِهْرَ أَخِيهِ وَحَلَفَ بِالثَّلَاثِ مَا يَدْخُلُ
مَنْزِلَهُ : ثُمَّ دَخَلَ بِغَيْرِ رِضَاهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يُطِيعُهُ
وَيَبَرُّ يَمِينَهُ وَلَا يَدْخُلُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ ؛ فَتَبَيَّنَ لَهُ
الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَمْ يَحْلِفْ . فَفِي
حِنْثِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَالْأَقْوَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يَسْكُنُ فِي الْمَكَانِ
الَّذِي هُوَ فِيهِ وَقَدْ انْتَقَلَ وَأَخْلَاهُ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَعُودَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ السَّبَبُ الَّذِي حَلَفَ لِأَجْلِهِ قَدْ زَالَ فَلَهُ أَنْ يَعُودَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهَا لَا
تَحُطُّ يَدَهَا فِي خَرِيطَتِهِ وَلَا تَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا وَقَالَ ذَلِكَ
مُدَّةَ أَرْبَعِ شُهُورٍ ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَفَ يَمِينًا ثَانِيًا
أَنَّهَا لَا تَنْقُلُ مَا سَمِعَتْ إلَى أَحَدٍ ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَقَلَتْهُ
لِلنَّاسِ فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا : مَا حَلَفْت عَلَيْك بِالطَّلَاقِ أَنَّك لَا
تَنْقُلِيهِ إلَى أَحَدٍ وَقَدْ نَقَلْته ؟ قَالَتْ : نَقَلْته وَمَا عَلِمْت
عَلَيَّ يَمِينًا . فَقَالَ : الْآنَ قَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ . قُومِي أَعْطِنِي
خَرِيطَتِي وَأَعْطِنِي مِنْهَا الْخَيْطَ فَمَا بَقِيَ عَلَيَّ يَمِينٌ وَقَدْ
وَقَعَ عَلَيَّ الطَّلَاقِ .
قَالَتْ
: أَنَا مَا عَلِمْت أَنَّ عَلَيْنَا يَمِينًا بِالدَّائِمِ ؛ إنَّمَا اعْتَقَدْت
الْيَمِينَ مُدَّةَ خَمْسَةِ أَوْ سِتَّةِ أَيَّامٍ . فَقَالَ لَهَا : أَنَا مَا
أَعْرِفُ ؛ أَنْتِ السَّاعَةَ طَالِقٌ مِنِّي بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ : فَهَلْ
يَلْزَمُهَا الطَّلَاقُ مِنْ أَوَّلِ يَمِينٍ ؟ أَوْ مِنْ الثَّانِي ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ قَدْ اعْتَقَدَتْ أَنَّ حُكْمَ يَمِينِهِ قَدْ انْقَضَى وَفَعَلَتْ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ : لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ . وَإِنْ كَانَ
قَدْ قَالَ أَنْتِ السَّاعَةَ طَالِقٌ مِنِّي ثَلَاثًا ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ
وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ : لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ شَيْءٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ وَحَصَلَ مِنْهُ حَرَجٌ أَوْجَبَ أَنَّهُ حَلَفَ
بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ مِنْ الضَّرْبِ وَالتَّرْسِيمِ
إلَى حَيْثُ يُحْضِرُ إلَيْهِ حِسَابَهُ أَوْ يُعِيدُ إلَيْهِ مَا الْتَمَسَهُ
مِنْ الجامكية : فَهَلْ يَجُوزُ خَلَاصُهُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ
الشَّرْعِيَّةِ ؟ أَفْتُونَا .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
إنْ كَانَ إحْضَارُ الْحِسَابِ الْمَطْلُوبِ قَدْ عَجَزَ عَنْهُ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ وَعَنْ إعَادَةِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الجامكية : لَمْ يَجُزْ أَنْ
يُطَالَبَ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا ؛ بَلْ يُلْزَمُ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْحَالِفِ
بِفِرَاقِهِ وَإِذَا أَلْزَمَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ سَوَاءٌ أَلْزَمَهُ
بِذَلِكَ وَالِي حَرْبِ السُّلْطَانِ وَنَحْوُهُ أَوْ وَالِي حُكْمٍ أَوْ كَاتِبٍ
فَوْقَهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيهِ بِالْعَدْلِ وَهَكَذَا إنْ
لَمْ
يَجِبْ عَلَيْهِ إحْضَارُ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي
الشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَجَبَ إلْزَامُهُ بِفِرَاقِهِ وَإِذَا فَارَقَهُ وَالْحَالُ هَذِهِ
لَمْ يَحْنَثْ . كَذَلِكَ إنْ اعْتَقَدَ الْحَالِفُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى صِفَةٍ
فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ : مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِي الْحِسَابِ
كَشْفَ أُمُورٍ يَجِبُ كَشْفُهَا فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا
يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا فَارَقَهُ وَكَذَلِكَ إنْ
اعْتَقَدَ أَنَّ إعَادَةَ الجامكية وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ؛
ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ : فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ
كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ
عَلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَاجِزٌ ؛
فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَهُوَ أَحْسَنُ
الْقَوْلَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا فِي الشَّرْعِ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ
خَانَ أَوْ سَرَقَ مَالًا : فَحَلَفَ عَلَى إعَادَتِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
لَمْ يَخُنْ وَلَمْ يَسْرِقْ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهُوَ غَضْبَانُ : أَنَّهَا مَا
تَدْخُلُ بَيْتَ عَمَّتِهَا وَرُزِقَتْ زَوْجَتُهُ وَلَدًا ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
دَخَلَتْ الْمَرْأَةُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا بَيْتَ عَمَّتِهَا وَكَانَ قَدْ
قَالَ لِلْحَالِفِ نَاسٌ : إنَّهُ إذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ وَدَخَلَتْ فَلَا
حِنْثَ عَلَيْهِ أَفْتُونَا ؟ .
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وُلِدَ لَهَا وَلَدٌ
لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَدَخَلَتْ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ : فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ؛
لَكِنَّ يَمِينَهُ بَاقِيَةٌ فَإِذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَالِمًا
عَامِدًا حَنِثَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ فَقَالَ لَهَا : إنْ خَرَجْت وَأَنَا غَائِبٌ
فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ؛ فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ قَالَتْ لَهُ :
وَاَللَّهِ احْتَجْت إلَى الْحَمَّامِ وَلَمْ أَقْدِرْ لِلْغَسْلِ بِالْبَيْتِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ اعْتَقَدَتْ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي
يَمِينِهِ وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِيَمِينِهِ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ :
لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ فِي يَمِينِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَتَانِ فَعُدِمَ مِنْ بَيْتِهِ مَبْلَغٌ فَحَلَفَ
بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنْ الْجَدِيدَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَطَّلِعْ لِهَذَا
الْمَبْلَغِ الَّذِي عُدِمَ مِنْ بَيْتِهِ مَا يُخَلِّي الْعَتِيقَةَ فِي بَيْتِهِ
وَكَانَ فِي عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْعَتِيقَةَ هِيَ الَّتِي خَانَتْ فِي الْمَبْلَغِ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ
- أَيَّدَهُ اللَّهُ - :
إذَا كَانَ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَتِيقَةَ قَدْ خَانَتْهُ فَحَلَفَ إنْ لَمْ
تَأْتِ بِذَلِكَ لَأَخْرَجَهَا ؛ لِأَجْلِ ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ
تَخُنْهُ : لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهَا وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَا يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ
لِرَجُلِ مُعَيَّنٍ ثُمَّ إنَّهُ زَوَّجَهَا بِغَيْرِهِ ثُمَّ بَانَتْ مِنْ
الثَّانِي بِالثَّلَاثِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِلرَّجُلِ الَّذِي كَانَ
قَدْ حَلَفَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ نِيَّةُ الْحَالِفِ أَوْ سَبَبُ الْيَمِينِ يَقْتَضِي الْحَلِفَ عَلَى
ذَلِكَ التَّزْوِيجِ خَاصَّةً : جَازَ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ
: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ امْتَنَعَ لِتَزْوِيجِهِ ؛ لِكَوْنِهِ طَلَبَ مِنْهُ
جِهَازًا كَثِيرًا ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ قَنِعَ بِهَا بِلَا جِهَازٍ
. وَأَمَّا إنْ كَانَ السَّبَبُ بَاقِيًا : حَنِثَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَجَّ لَهُ زَوْجَتَانِ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا
يُطْعِمُهُمْ شَيْئًا .
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنَّ سَبَبَ الْيَمِينِ يَقْتَضِي أَنَّهُ امْتَنَعَ
لِسَبَبِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ السَّبَبُ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ فِي أَظْهَرِ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنَّهَا لَا تَنْزِلُ
مَنْ بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ثُمَّ إنَّهَا قَالَتْ : أَنَا الْيَوْمَ
أَتَغَدَّى أَنَا وَأُمُّك فَاعْتَقَدَ أَنَّ أُمَّهُ تَجِيءُ إلَى عِنْدِهَا
وَاعْتَقَدَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا : فَذَهَبَتْ إلَى عِنْدِ أُمِّهِ
.
فَأَجَابَ :
الطَّلَاقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَقَعُ بِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ إحْدَى قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ مَسْأَلَةُ الْجَاهِلِ
وَالنَّاسِي وَالنِّزَاعُ فِيهَا مَشْهُورٌ هَلْ يَحْنَثُ ؟ أَمْ لَا يَحْنَثُ ؟
أَمْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ وَغَيْرِهَا ؟ وَالصَّوَابُ
أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ مُطْلَقًا ؟ لِأَنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ
بِمَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ ؛ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ جُمْلَةً طَلَبِيَّةً . فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ : إمَّا "
جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ " فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْحَالِفِ التَّصْدِيقَ
وَالتَّكْذِيبَ . وَإِمَّا " جُمْلَةٌ طَلَبِيَّةٌ " فَيَكُونُ
مَقْصُودُ الْحَالِفِ
الْحَيْضَ وَالْمَنْعَ فَهُوَ يَحُضُّ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيَمْنَعُ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ يَحْلِفُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ . فَالْحِنْثُ فِي ذَلِكَ كَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ : أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَنْهِيَّ - كَأَهْلِ التَّأْوِيلِ السَّائِغِ - فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا الْفَاعِلُ آثِمًا وَلَا عَاصِيًا كَمَا قَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الْيَمِينَ ؛ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ؛ لِتَأْوِيلِ ؛ أَوْ غَلَطٍ : كَسَمْعِ وَنَحْوِهِ : لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا الْيَمِينَ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا . فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِسَائِرِ الْأَيْمَانِ ؛ إذْ الْأَيْمَانُ يَفْتَرِقُ حُكْمُهَا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ . أَمَّا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَا فَرْقَ وَالْكَلَامُ هُنَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؛ لَا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ تَعْلِيقًا مَحْضًا : كَالتَّعْلِيقِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا مَقْصُودُهُ وُقُوعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ : كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ وَكَالتَّعْلِيقِ عَلَى الْعِوَضِ فِي مِثْلِ الْخُلْعِ ؛ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ حَضَّ نَفْسِهِ أَوْ مَنْعَ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ وَمَنْعَ نَفْسِهِ أَوْ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ ؛ كَمَا يَقْصِدُ ذَلِكَ النَّاذِرُ : نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَسْمِيَةِ ذَلِكَ يَمِينًا وَكَانَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَوَازَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ إيقَاعٌ مُؤَقَّتٌ فَلَيْسَ هُوَ يَمِينٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيقَاعِ : كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ ابْنَ خَالَتِهِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ :
أَنَّ ابْنَ خَالَتِهِ كَانَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ وَكَذَلِكَ كَانَ عِنْدَهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْحَالِفُ صَادِقًا فِي يَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ
إذَا اعْتَقَدَ صِدْقَ نَفْسِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ؛ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ
فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ : فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَتَزَوَّجُ فُلَانَةً ؛ ثُمَّ بَدَا
لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ - نَوَّرَ اللَّهُ مَرْقَدَهُ وَضَرِيحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعُ
بِهَا طَلَاقٌ إذَا تَزَوَّجَهَا عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ مِنْ مُجَامَعَتِهَا ؛ فَانْجَرَحَ
مِنْ امْتِنَاعِهَا عَلَيْهِ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَكَانَتْ حَامِلًا أَنْ لَا
يُجَامِعَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ : فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ إنْ
جَامَعَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَنْظُرُ إلَى السَّبَبِ
الْمُهَيِّجِ لِلْيَمِينِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا جَامَعَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ
وَسَبَبِ الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ حَلَفَ لِسَبَبِ وَزَالَ السَّبَبُ فَلَا حِنْثَ
عَلَيْهِ : فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛
فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ لِسَبَبِ : كَأَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا
يَدْخُلَ الْبَلَدَ لِظُلْمِ رَآهُ فِيهِ ثُمَّ يَزُولُ الظُّلْمُ . أَوْ لَا
يُكَلِّمُ فُلَانًا ثُمَّ يَزُولُ الْفِسْقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَفِي حِنْثِهِ
حِينَئِذٍ " قَوْلَانِ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَظْهَرُهُمَا
أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَضَّ وَالْمَنْعَ فِي الْيَمِينِ
كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ : فَالْحَلِفُ كُلُّ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ
النَّاهِي عَنْ الْفِعْلِ . وَمَنْ نَهَى عَنْ دُخُولِ بَلَدٍ أَوْ كَلَامٍ
شُخِّصَ لِمَعْنَى ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى زَالَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَمَا
إذَا امْتَنَعَ أَنْ يَبْدَأَ رَجُلًا بِالسَّلَامِ ؛ لِكَوْنِهِ كَافِرًا
فَأَسْلَمَ . وَأَنْ لَا يَدْخُلَ بَلَدًا ؛ لِكَوْنِهِ دَارَ حَرْبٍ فَصَارَ
دَارَ إسْلَامٍ . وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ
زَالَ بِزَوَالِهَا
فَالرَّجُلُ
إذَا حَلَفَ لَا يُوَاقِعُ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَ قَصْدُهُ عُقُوبَتَهَا ؛
لِكَوْنِهَا تُمَاطِلُهُ وَتَنْشُزُ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا
تَابَتْ مِنْ ذَلِكَ وَصَارَتْ مُطِيعَةً مُوَافِقَةً زَالَ سَبَبُ الْهَجْرِ
الَّذِي عَلَّقَهَا بِهِ كَمَا لَوْ هَجَرَهَا لِنُشُوزِ ثُمَّ زَالَ . وَأَمَّا
إنْ كَانَ قَصْدُهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ وَطْئِهَا أَبَدًا ؛ لِأَجْلِ الذَّنْبِ
الْمُتَقَدِّمِ . تَابَتْ أَوْ لَمْ تَتُبْ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا تَتُوبُ
تَوْبَةً صَحِيحَةً كَانَ مَقْصُودُهُ عُقُوبَتَهَا عَلَى مَا مَضَى كَمَا
يُعَاقِبُ الرَّجُلُ غَيْرَهُ لِذَنْبِ مَاضٍ تَابَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَتُبْ ؛ لَا
لِغَرَضِ الزَّجْرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ ؛ بَلْ لِمُجَرَّدِ شِفَاءِ غَيْظِهِ ؛
وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَطَؤُهَا
لِسِتَّةِ شُهُورٍ وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهَا غَيْرُ طَلْقَةٍ وَنِيَّتُهُ أَنْ
لَا يَطَأَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ : فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ
مَاذَا يَفْعَلُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَهُ وَطْؤُهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ
تُطَالِبْهُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ . هَذَا مَذْهَبُ
مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ . وَالْجُمْهُورِ . وَهُوَ يُسَمَّى "
مُولِيًا " .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَجَارِيَةٌ فَتَسَرَّى بِالْجَارِيَةِ فَغَارَتْ
الْمَرْأَةُ : فَحَلَفَ إلَّا يَعُودَ يَطَأُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا ؛
وَتَزَوَّجَتْ الْجَارِيَةُ فَأَقَامَتْ مَعَ الزَّوْجِ مُدَّةً وَتُوُفِّيَ
عَنْهَا : فَهَلْ لِلْمُعْتِقِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَوْ سَبَبُ الْيَمِينِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا
بِمِلْكٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَطَأَهَا ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا بِحَالِ لَا مِلْكٍ وَلَا عَقْدٍ حَنِثَ إذَا
فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ مَبْلَغٌ لِشَخْصَيْنِ قَالَ : الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَنَّ
الشَّهْرَ مَا يَنْفَصِلُ حَتَّى يُعْطِيَهُمَا الْمَبْلَغَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ
حَبَسَهُ . وَالْآنَ مَا حَصَلَ وَالشَّهْرُ بَقِيَ فِيهِ الْيَوْمُ ؛ وَهُوَ
خَائِفٌ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الْحِنْثُ : فَإِذَا خَالَعَ الزَّوْجَةَ بِطَلْقَةِ
وَاحِدَةٍ يُفِيدُهُ هَذَا وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ ؛ أَمْ
لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ بِأَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ
وَفَاءِ الدَّيْنِ
وَأُكْرِهَ
عَلَى الْيَمِينِ وَإِلَّا حُبِسَ وَضُرِبَ : لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلَا
حِنْثَ فِيهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَشْتَرِي الْبَقْلَ بِشَيْءِ يَزِنُ عَلَيْهِ الْحَقَّ ؛ وَالْبَعْضَ
يَشْتَرِيه بِلَا حَقٍّ وَحَضَرَ لَهُ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ ؛ فَحَلَفَ
بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ أَيُّ شَيْءٍ اشْتَرَيْته تَزِنُ حَقَّهُ : فَهَلْ يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْفَلْتَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ ؛ وَلَا
حِنْثَ عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ أَعْوَانِ الضَّمَانِ فَلَيْسَ لَهُ
عِنْدَهُ حَقٌّ ؛ لَا فِي الشَّرْعِ ؛ وَلَا فِي الْعَادَةِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
لَهُ عِنْدَهُ حَقٌّ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِ إعْطَائِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ وَضَعَ حُجَّةً فِي بَيْتِ أَخِيهِ فَعُدِمَتْ ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ
طَلَبَهَا وَلَمْ يَجِدْهَا فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَدْخُلُ بَيْتَ
أَخِيهِ حَتَّى يُعْطَى الْحُجَّةَ مُعْتَقِدًا وُجُودَهَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ الْحُجَّةُ قَدْ عُدِمَتْ قَبْلَ الْيَمِينِ وَلَكِنْ اعْتَقَدَ
بَقَاءَهَا : فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛
لِوَجْهَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى مُمْتَنِعٍ
لِذَاتِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا
مَاءَ فِيهِ . وَهَذَا لَا يَحْنَثُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ . و " الثَّانِي
" اعْتَقَدَ بَقَاءَهَا وَإِمْكَانَ إعْطَائِهَا فَحَلَفَ عَلَى شَيْءٍ
يَعْتَقِدُهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ .
بَابُ
تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ اسْتَثْنَى بَعْدَ هُنَيْهَةٍ بِقَدْرِ مَا
يُمْكِنُ فِيهِ الْكَلَامُ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَالْحَالُ هَذِهِ .
وَلَوْ قِيلَ لَهُ : قُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ وَلَوْ
لَمْ يَخْطُرْ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا لِمَا قِيلَ لَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَنِقَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَالَتْ
لَهُ زَوْجَتُهُ : قُلْ السَّاعَةَ قَالَ السَّاعَةَ وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ ؟ .
فَأَجَابَ : إنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَمَقْصُودُهُ تَخْوِيفُهَا بِهَذَا الْكَلَامِ ؛ لَا إيقَاعُ الطَّلَاقِ : لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ . فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ لَا يَقَعُ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد يَقَعُ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لَكِنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ صَارَ الْكَلَامُ عِنْدَهُ كَلَامًا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ فَلَمْ يُقْصَدْ التَّكَلُّمُ بِالطَّلَاقِ . وَإِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ : مِثْلَ مَا لَوْ تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَمْ يَقَعْ وَطَلَاقُ الْهَازِلِ : وَقَعَ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إيقَاعَهُ . وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ لَا هَذَا ؛ وَلَا هَذَا وَهُوَ يُشْبِهُ مَا لَوْ رَأَى امْرَأَةً فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً ؛ فَبَانَتْ امْرَأَتُهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ عَلَى الصَّحِيحِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اعْتَقَدَ مَسْأَلَةَ " الدَّوْرِ " الْمُسْنَدَةِ لِابْنِ
سُرَيْجٍ ثُمَّ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَفْعَلُهُ ثُمَّ فَعَلَهُ
ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَرَاجَعَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَفَ
عَلَى شَيْءٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ : فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ
الثَّلَاثُ ؟ أَمْ يَسْتَعْمِلُ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى : الْمُشَارَ إلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ :
" الْمَسْأَلَةُ السريجية " بَاطِلَةٌ فِي الْإِسْلَامِ " مُحْدَثَةٌ
لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ ؛
وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ
الصَّوَابُ ؛ فَإِنَّ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ يَظْهَرُ فَسَادُهُ مِنْ وُجُوهٍ .
مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ
اللَّهَ أَبَاحَ الطَّلَاقَ كَمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ وَأَنَّ دِينَ
الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفٌ لِدِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُبِيحُونَ
الطَّلَاقَ فَلَوْ كَانَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ
الطَّلَاقُ لَصَارَ دِينُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ دِينِ النَّصَارَى .
" وَشُبْهَةُ هَؤُلَاءِ " أَنَّهُمْ قَالُوا : إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُنَجَّزًا : لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَلَوْ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ فَكَانَ وُقُوعُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ : فَلَا يَقَعُ ؛ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ : لَوْ وَقَعَ الْمُنَجَّزُ لَوَقَعَ الْمُعَلَّقُ . إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بَاطِلًا لَا يَلْزَمُ وُقُوعُ التَّعْلِيقِ . وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ مَضْمُونَهُ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ بَاطِلٌ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَضْمُونُهُ أَيْضًا إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي لَمْ يَقَعْ عَلَيْك طَلَاقِي . وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقَعْ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ الْجَزَاءُ . وَإِذَا وَقَعَ الشَّرْطُ لَزِمَ الْوُقُوعُ . فَلَوْ قِيلَ : لَا يَقَعُ مَعَ ذَلِكَ . لَزِمَ أَنْ يَقَعَ وَلَا يَقَعَ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَأَيْضًا فَالطَّلَاقُ إذَا وَقَعَ لَمْ يَرْتَفِعْ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَلَمَّا كَانَ كَلَامُ الْمُطَلِّقِ يَتَضَمَّنُ مُحَالًا فِي الشَّرِيعَةِ - وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ - وَمُحَالًا فِي الْعَقْلِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ : كَانَ الْقَائِلُ بِالتَّسْرِيجِ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ ؛ لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ الْحَالِفُ صِحَّةَ هَذَا الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ وَطَلَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ : لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ التَّكَلُّمَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ طَلَاقًا ؛ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُهُ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ خَاطَبَ مَنْ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً بِالطَّلَاقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ : فَإِنَّهُ لَا لَا يَقَعُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ . وَلَوْ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ التَّسْرِيجِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ
لَمْ
يَكُنْ ظُهُورُ الْحَقِّ لَهُ فِيمَا بَعْدُ مُوجِبًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ
عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إنْ احْتَاطَ فَرَاجَعَ امْرَأَتَهُ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ
الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِ أَوْ مُعْتَقِدًا وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ : لَمْ يَقَعْ .
وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ التَّسْرِيجِ أَنَّ الطَّلَاقَ
وَقَعَ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ وَلَوْ اعْتَقَدَ وُقُوعَ
الطَّلَاقِ فَرَاجَعَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا
أَنَّهُ قَدْ حَنِثَ فِيهِ مَرَّةً فَلَا يَحْنَثُ فِي مَرَّةٍ ثَانِيَةٍ : لَمْ
يَقَعْ بِهِ : فَهَذَا الْفِعْلُ شَيْءٌ وَالْيَمِينُ الَّتِي حَلَفَ بِهَا
أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَاقِيَةٌ فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ
بَاقِيًا فِي بَاقِيَةٍ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ الْيَمِينِ فَلَهُ فِعْلُ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؛ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَحْنَثْ . وَكَذَلِكَ لَوْ
تَزَوَّجَهَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ
الْبَيْنُونَةَ حَصَلَتْ وَانْقَطَعَ حُكْمُ الْيَمِينِ الْأُولَى لَمْ يَحْنَثْ ؛
لِاعْتِقَادِهِ زَوَالَ الْيَمِينِ كَمَا لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ بِأَنَّ مَا
فَعَلَهُ هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا
قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ تَقَعُ هَذِهِ
الطَّلْقَةُ وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ قَدْ كَمُلَتْ
ثَلَاثًا وَأَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا : لَمْ يَقَعْ بِهَذَا
الِاعْتِقَادِ شَيْءٌ وَلَا بِهَذَا الْإِقْرَارِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مَا قَوْلُكُمْ فِي الْعَمَلِ " بالسريجية " وَهُوَ أَنْ يَقُولَ
الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى " مَسْأَلَةَ ابْنِ سُرَيْجٍ " ؟
الْجَوَابُ
:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا
أَئِمَّتِهَا ؛ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ وَلَا التَّابِعِينَ ؛ وَلَا أَئِمَّةِ
الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعِينَ ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد وَلَا أَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ : كَأَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ والمزني والبويطي وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَإِبْرَاهِيمَ
الْحَرْبِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمْ ؛ لَمْ
يُفْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا
طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ
جُمْهُورُ الْأُمَّةِ كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَكَثِيرٍ
مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ الْغَزَالِيُّ يَقُولُ بِهَا ثُمَّ رَجَعَ
عَنْهَا وَبَيَّنَ فَسَادَهَا وَقَدْ عُلِمَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ
نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ كَنِكَاحِ النَّصَارَى . وَالدَّوْرُ الَّذِي
تَوَهَّمُوهُ فِيهَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ إذَا وَقَعَ
الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَهُوَ إنَّمَا يَقَعُ لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا
؛ وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى مُحَالٍ فِي الشَّرِيعَةِ
وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي
الشَّرِيعَةِ وَالتَّسْرِيجُ يَتَضَمَّنُ لِهَذَا الْمُحَالِ فِي الشَّرِيعَةِ
فَيَكُونُ بَاطِلًا . وَإِذَا كَانَ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ
لَا يَحْنَثُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ :
فَلْيُمْسِكْ امْرَأَتَهُ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى وَيَتُوبُ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : إنْ
طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ
عَلَى الرَّاجِحِ وَلَا يَقَعُ مَعَهُ الْمُعَلَّقُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ
الْمُعَلَّقُ وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَمْ يَقَعْ الْمُنْجَزُ لِأَنَّهُ
زَائِدٌ عَلَى عَدَدِ الطَّلَاقِ وَإِذَا لَمْ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ
لَمْ
يَقَعْ الْمُعَلَّقُ . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّ وُقُوعَ الْمُنَجَّزِ
يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ وَوُقُوعَ الْمُعَلَّقِ يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ
الْمُنَجَّزِ وَهَذَا الْقِيلُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ . وَابْنُ سُرَيْجٍ
بَرِيءٌ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ فِيهَا قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ تَصِحُّ " مَسْأَلَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ " أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْنَا
: لَا تَصِحُّ فَمَنْ قَلَّدَهُ فِيهَا وَعَمِلَ فِيهَا فَلَمَّا عَلِمَ
بُطْلَانَهَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحْدَثَةٌ فِي
الْإِسْلَامِ ؛ وَلَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ
وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا
طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةُ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَلَّدَ فِيهَا شَخْصًا ثُمَّ تَابَ فَقَدْ عَفَا
اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَلَا يُفَارِقُ امْرَأَتَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ
بِهَا إذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَجَاءَهُ مِنْهَا وَلَدٌ وَأَوْصَاهُ
الشُّهُودُ أَوْ غَيْرُهُمْ : أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ يَقُولَ
لَهَا : إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ طَلَاقِك ثَلَاثًا . فَهَلْ
يَجُوزُ ذَلِكَ الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، النِّكَاحُ صَحِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافٍ "
وَالتَّسْرِيجُ " الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ بِهِ
الطَّلَاقُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَوْ
أَكْثَرَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ طَلَبَتْ مِنْهُ الطَّلَاقَ وَطَلَّقَهَا وَقَالَ : مَا
بَقِيت أَعُودُ إلَيْهَا أَبَدًا فَوَجَدَهُ صَاحِبَهُ فَقَالَ : مَا أَصْدُقك
عَلَى هَذَا إلَّا إنْ قُلْت : كُلَّمَا تَزَوَّجْت هَذِهِ كَانَتْ طَالِقًا عَلَى
مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلَمْ يَرَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ : فَهَلْ لَهُ أَنْ
يَرُدَّهَا ؟
فَأُحَابِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إنْ قَصَدَ كُلَّمَا تَزَوَّجْتهَا بِرَجْعَةِ أَوْ
عَقْدٍ جَدِيدٍ - وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ - فَمَتَى ارْتَجَعَهَا قَبْلَ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ طَلُقَتْ ثَانِيَةً ثُمَّ إنْ ارْتَجَعَهَا طَلُقَتْ
ثَالِثَةً - وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بَانَتْ مِنْهُ ؛
فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ : إنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ
يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ -
قَالَ إنَّ هَذِهِ إذَا تَزَوَّجَهَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ . وَأَمَّا مَنْ
لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ -
فَهَذِهِ لَمَّا عَلَّقَ طَلَاقَهَا كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَالرَّجْعِيَّةُ
كَالزَّوْجَةِ فِي مِثْلِ هَذَا ؛ لَكِنْ تَخَلَّلَ الْبَيْنُونَةَ : هَلْ
يَقْطَعُ
حُكْمَ
الصِّفَةِ ؟ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى
الْفَرْقِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى النِّكَاحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي
عِدَّةٍ أَوْ لَا يَكُونَ فَعَلَى مَذْهَبِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا إذَا
تَزَوَّجَهَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ
الَّذِي يَقُولُ فِيهِ : إنَّ الْبَيْنُونَةَ تَقْطَعُ حُكْمَ الصِّفَةِ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ إذَا تَزَوَّجَهَا كَقَوْلِهِ إذَا
دَخَلْت الدَّارَ . وَإِذَا بَانَتْ انْحَلَّتْ هَذِهِ الْيَمِينُ فَيَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ وَهُوَ الَّذِي يُرَجِّحُهُ
كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ
فَإِنَّهُ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِمَذْهَبِ بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ ؛ بَلْ
لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ . وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا
بِعِوَضِ وَالتَّعْلِيقُ بَعْدَ هَذَا فِي الْعِدَّةِ وَغَيْرُهُ تَعْلِيقٌ
بِأَجْنَبِيَّةٍ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ إذَا تَزَوَّجَهَا فِي مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ بِالطَّلَاقِ
الثَّلَاثِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ وَبَانَتْ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي ؛
ثُمَّ أَرَادَتْ صُلْحَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ لَهَا مِنْهُ أَوْلَادًا
فَقَالَ لَهَا : إنَّنِي لَسْت قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ ؛ وَعَاجِزًا عَنْ
الْكِسْوَةِ فَأَبَتْ ذَلِكَ : فَقَالَ لَهَا : كُلَّمَا حَلَلْت لِي حَرُمْت
عَلَيَّ : فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ فِيهَا قَوْلَانِ :
" أَحَدُهُمَا " أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
و " الثَّانِي " عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ : إمَّا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فِي
قَوْلٍ . وَإِمَّا كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي قَوْلٍ آخَرَ . وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا
يَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ ؛ لَكِنْ فِي التَّكْفِيرِ نِزَاعٌ . وَإِنَّمَا . يَقُولُ
بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمِثْلِ هَذِهِ مَنْ يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى
النِّكَاحِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَرَى الْحَرَامَ
طَلَاقًا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَإِذَا نَوَاهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَأَمَّا
الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فَعِنْدَهُمَا لَوْ قَالَ : كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك
فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ فَكَيْفَ فِي الْحَرَامِ ؛ لَكِنَّ
أَحْمَد يُجَوِّزُ عَلَيْهِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ تَصْحِيحُ الظِّهَارِ قَبْلَ
الْمِلْكِ ؛ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلِّدِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ
الْجُزْءُ
الْرَّابِعُ وَالْثَّلَاثُونَ
كِتَابُ الظِّهَارِ إِلَى قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ
بَعْدَهُ .
بَابُ الظِّهَارِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -
:
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي وَأُخْتِي ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي وَأُخْتِي فِي الْكَرَامَةِ
فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ يُشَبِّهُهَا بِأُمِّهِ
وَأُخْتِهِ فِي " بَابِ النِّكَاحِ " فَهَذَا ظِهَارٌ عَلَيْهِ مَا
عَلَى الْمُظَاهِرِ فَإِذَا أَمْسَكَهَا فَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ
كَفَّارَةَ ظِهَارٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ وَأَرَادَ الدُّخُولَ اللَّيْلَةَ الْفُلَانِيَّةَ ؛
وَإِلَّا كَانَتْ عِنْدِي مِثْلَ أُمِّي وَأُخْتِي وَلَمْ تَتَهَيَّأْ لَهُ ذَلِكَ
الْوَقْتَ الَّذِي طَلَبَهَا فِيهِ : فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقٌ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لَكِنْ يَكُونُ
مُظَاهِرًا فَإِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ قَبْلَ ذَلِكَ .
الْكَفَّارَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ
" فَيَعْتِقُ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَنِقَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَقَالَ : إنْ بَقِيت أَنْكِحُك أَنْكِحُ
أُمِّي تَحْتَ سُتُورِ الْكَعْبَةِ . هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا نَكَحَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ : عِتْقُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى
يُكَفِّرَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : يَا أَخِي لَا تَفْعَلْ هَذِهِ
الْأُمُورَ بَيْنَ يَدَيْ امْرَأَتِك قَبِيحٌ عَلَيْك فَقَالَ : مَا هِيَ إلَّا
مِثْلُ أُمِّي . فَقَالَ : لِأَيِّ شَيْءٍ قُلْت سَمِعْت أَنَّهَا تَحْرُمُ
بِهَذَا اللَّفْظِ ثُمَّ كَرَّرَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَالَ : أَيْ وَاَللَّهِ هِيَ
عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي : هَلْ تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ بِهَذَا اللَّفْظِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : إنَّهَا مِثْلُ
أُمِّي أَنَّهَا تَسْتُرُ عَلَيَّ وَلَا تَهْتِكُنِي وَلَا تَلُومُنِي كَمَا
تَفْعَلُ الْأُمُّ مَعَ وَلَدِهَا ؛ فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ
وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ : يَا أُخْتِي فَأَدَّبَهُ -
وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ يُؤَدَّبْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ اسْتَحَقَّ
الْعُقُوبَةَ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ - وَقَالَ أُخْتُك هِيَ فَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ امْرَأَتَهُ كَأُمِّهِ . وَإِنْ أَرَادَ
بِهَا عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي . أَيْ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ وَطْئِهَا
وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ مِنْ الْأُمِّ فَهِيَ
مِثْلُ أُمِّي الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا : فَهَذَا "
مُظَاهِرٌ " يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ فَلَا يَحِلُّ
لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ " كَفَّارَةَ الظِّهَارِ "
فَيَعْتِقَ رَقَبَةً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا . وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ
حَلَّ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ كَأُمِّيِّ : فَهَذَا يَكُونُ مُظَاهِرًا فِي مَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَحُكِيَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ نِزَاعٌ فِي
ذَلِكَ : هَلْ يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ ؟ أَمْ لَا ؟ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ
بِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى
يُكَفِّرَ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ بَائِنٍ عَنْهُ إنْ رَدَدْتُك تَكُونِي مِثْلَ
أُمِّي وَأُخْتِي : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهَا ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ
؟
فَأَجَابَ :
فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَإِذَا رَدَّهَا
فِي الْآخَرِ لَا شَيْءَ . وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ فِي غَيْظِهِ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلَ
أُمِّي .
فَأَجَابَ :
هَذَا مُظَاهِرٌ مِنْ امْرَأَتِهِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ
أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا
مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } { وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا } فَهَذَا إذَا أَرَادَ إمْسَاكَ زَوْجَتِهِ وَوَطِئَهَا فَإِنَّهُ لَا
يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ : أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلَ أَبِي
وَأُمِّي . وَقَالَ لَهَا : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلَ أُمِّي وَأُخْتِي :
فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ ؟
فَأَجَابَ :
لَا طَلَاقَ بِذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ إنْ اسْتَمَرَّ عَلَى النِّكَاحِ فَعَلَى كُلٍّ
مِنْهُمَا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؛ فَإِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
بَابُ
مَا يَلْحَقُ مِنْ النَّسَبِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِنْتًا بِكْرًا بَالِغًا وَدَخَلَ بِهَا ؛ فَوَجَدَهَا
بِكْرًا ثُمَّ إنَّهَا وَلَدَتْ وَلَدًا بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ
دُخُولِهِ بِهَا : فَهَلْ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ الزَّوْجُ
حَلَفَ فِي الطَّلَاقِ مِنْهَا أَنَّ الْوَلَدَ وَلَدُهُ مِنْ صُلْبِهِ : فَهَلْ
يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟ وَالْوَلَدُ ابْنٌ سَوِيٌّ كَامِلُ الْخِلْقَةِ
وَعَمَّرَ سِنِينَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَرِ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ
دَخَلَ بِهَا وَلَوْ بِلَحْظَةِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ -
وَمِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ . وَاسْتَدَلَّ الصَّحَابَةُ عَلَى إمْكَانِ كَوْنِ الْوَلَدِ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ
شَهْرًا } مَعَ قَوْلِهِ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فَإِذَا كَانَ مُدَّةُ الرَّضَاعِ مِنْ الثَّلَاثِينَ
حَوْلَيْنِ يَكُونُ الْحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ؛ فَجَمَعَ فِي الْآيَةِ أَقَلَّ
الْحَمْلِ وَتَمَامَ الرَّضَاعِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ فَكَيْفَ إذَا
اسْتَلْحَقَهُ وَأَقَرَّ بِهِ بَلْ لَوْ اسْتَلْحَقَ مَجْهُولَ النَّسَبِ ؛
وَقَالَ : إنَّهُ ابْنِي لَحِقَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إذَا كَانَ ذَلِكَ
مُمْكِنًا وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ : كَانَ بَارًّا فِي يَمِينِهِ ؛
وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً بِكْرًا وَبَاشَرَهَا وَهِيَ لَا تَخْرُجُ وَلَا
تَدْخُلُ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَأَخْرَجَهَا إلَى السُّوقِ وَيُنْكِرُ
وَيَحْلِفُ : أَنَّهُ مَا هُوَ وَلَدُهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اعْتَرَفَ أَنَّهُ وَطِئَهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ فَإِنَّ
الْوَلَدَ يَلْحَقُهُ وَيُجْعَلُ هَذَا الْحَمْلُ مِنْهُ إذَا وَضَعَتْ لِمُدَّةِ
الْإِمْكَانِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْحَمْلَ وَلَا أُمَّهُ ؛ لَكِنْ إذَا
ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ وَتَحْلِيفِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَقَامَتْ فِي صُحْبَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا ثُمَّ طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الْبَائِنَ وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِزَوْجِ
آخَرَ بَعْدَ إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ ثُمَّ
طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ وَجَاءَتْ بِابْنَةِ
وَادَّعَتْ أَنَّهَا مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ : فَهَلْ يَصِحُّ دَعْوَاهَا .
وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْبِنْتَ
وَهَذَا الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ مُقِيمَانِ بِبَلَدِ وَاحِدٍ وَلَيْسَ لَهَا
مَانِعٌ مِنْ دَعْوَى النِّسَاءِ وَلَا مُطَالَبَتِهِ بِنَفَقَةِ وَلَا فَرْضٍ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَلْحَقُ هَذَا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ الْبِنْتُ
بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ لَوْ
ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي حَالٍ يَلْحَقُ بِهِ نَسَبُهُ إذَا وَلَدَتْهُ
وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً وَأَنْكَرَ هُوَ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهُ لَمْ تُقْبَلْ فِي
دَعْوَى الْوِلَادَةِ بِلَا نِزَاعٍ حَتَّى تُقِيمَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً .
وَيَكْفِي امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ : عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي
الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا
بُدَّ مِنْ امْرَأَتَيْنِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيُحْتَاجُ عِنْدَهُ إلَى
أَرْبَعِ نِسْوَةٍ . وَيَكْفِي يَمِينُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا
وَلَدَتْهُ . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةٌ فَفِيهَا قَوْلَانِ
فِي مَذْهَبِ أَحْمَد " أَحَدُهُمَا " لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا
كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي " يُقْبَلُ كَمَذْهَبِ
مَالِكٍ . وَأَمَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَمَضَى لَهَا أَكْثَرُ الْحَمْلِ
ثُمَّ ادَّعَتْ وُجُودَ حَمْلٍ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ الْمُطَلِّقِ : فَهَذِهِ
لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بِلَا نِزَاعٍ بَلْ لَوْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا
ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلِدُونِ مُدَّةِ الْحَمْلِ
: فَهَلْ يَلْحَقُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد أَنَّهُ يَلْحَقُ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْن
سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لَكِنْ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ . وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا لَمْ
تَتَزَوَّجْ فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ
عِدَّتِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدِ لِأَكْثَرِ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ فَإِنَّ
هَذَا لَا يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِالْأَوَّلِ قَوْلًا وَاحِدًا . فَإِذَا عَرَفْت
مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَكَيْفَ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ
بِدَعْوَاهَا
بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ . وَلَوْ قَالَتْ وَلَدْته ذَلِكَ الزَّمَنَ قَبْلَ أَنْ
يُطَلِّقَنِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا أَيْضًا ؛ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ
يَمِينِهِ إنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا عَلَى فِرَاشِهِ وَلَوْ قَالَتْ هِيَ : وَضَعْت
هَذَا الْحَمْلَ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ
الْأَوَّلُ ذَلِكَ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَضَعْهَا قَبْلَ
تَزَوُّجِهَا بِالثَّانِي ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ تَأَخُّرِ دَعْوَاهَا إلَى أَنْ
تَزَوَّجَتْ الثَّانِيَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهَا فِي
دَعْوَاهَا ؛ لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فِي تَأَخُّرِ الدَّعْوَى
الْمُمْكِنَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَأَفْتَاهُ مُفْتٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ
الطَّلَاقُ فَقَلَّدَهُ الزَّوْجُ وَوَطِئَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَتَتْ
مِنْهُ بِوَلَدِ : فَقِيلَ : إنَّهُ وَلَدُ زِنَا ؟
فَأَجَابَ :
مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ وَالْمُشَاقَّةِ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ
نِكَاحٍ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ نِكَاحٌ سَائِغٌ إذَا وَطِئَ فِيهِ فَإِنَّهُ
يَلْحَقُهُ فِيهِ وَلَدُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ
كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ كَانَ النَّاكِحُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا .
وَالْيَهُودِيُّ إذَا تَزَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ كَانَ وَلَدُهُ مِنْهُ يَلْحَقُهُ
نَسَبُهُ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ
بَاطِلًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ كَانَ كَافِرًا تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ . وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْجَاهِلُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا كَمَا يَفْعَلُ جُهَّالُ الْأَعْرَابِ وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَةً كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . فَإِنَّ " ثُبُوتَ النَّسَبِ " لَا يَفْتَقِرُ إلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ بَلْ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } " فَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ : إمَّا لِجَهْلِهِ . وَإِمَّا لِفَتْوَى مُفْتٍ مُخْطِئٍ قَلَّدَهُ الزَّوْجُ . وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَيَتَوَارَثَانِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ وَلَا تُحْسَبُ الْعِدَّةُ إلَّا مِنْ حِينِ تَرَكَ وَطْأَهَا ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَطَؤُهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَهِيَ فِرَاشٌ لَهُ فَلَا تَعْتَدُّ مِنْهُ حَتَّى تَتْرُكَ الْفِرَاشَ . وَمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً " نِكَاحًا فَاسِدًا " مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ أَوْ مَلَكَهَا مِلْكًا فَاسِدًا مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ أَوْ وَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ : فَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْوَلَدُ أَيْضًا يَكُونُ حُرًّا ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْمَوْطُوءَةُ مَمْلُوكَةً لِلْغَيْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَوُطِئَتْ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهَا ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَاطِئُ مَغْرُورًا بِهَا زُوِّجَ بِهَا وَقِيلَ : هِيَ حُرَّةٌ أَوْ بِيعَتْ فَاشْتَرَاهَا يَعْتَقِدُهَا مِلْكًا لِلْبَائِعِ ؛ فَإِنَّمَا وَطِئَ مَنْ
يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ : فَوَلَدُهُ مِنْهَا حُرٌّ ؛ لِاعْتِقَادِهِ . وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ مُخْطِئًا وَبِهَذَا قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَطِئُوا وَجَاءَهُمْ أَوْلَادٌ لَوْ كَانُوا قَدْ وَطِئُوا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ مُتَّفَقٍ عَلَى فَسَادِهِ وَكَانَ الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ وَطِئُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ ؛ لِإِفْتَاءِ مَنْ أَفْتَاهُمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ : كَانَ نَسَبُ الْأَوْلَادِ بِهِمْ لَاحِقًا وَلَمْ يَكُونُوا أَوْلَادَ زِنَا ؛ بَلْ يَتَوَارَثُونَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . هَذَا فِي الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ فَكَيْفَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ ؟ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي وَطِئَ بِهِ قَوْلًا ضَعِيفًا : كَمَنْ وَطِئَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَوْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا إذَا وَطِئَ فِيهِ يَعْتَقِدُهُ نِكَاحًا لَحِقَهُ فِيهِ النَّسَبُ فَكَيْفَ بِنِكَاحِ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَقَدْ ظَهَرَتْ حُجَّةُ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَظَهَرَ ضَعْفُ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ وَعَجْزُ أَهْلِهِ عَنْ نُصْرَتِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ ؛ لِانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ؟ فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَوْ مِثْلَهُ يَكُونُ فِيهِ الْوَلَدُ وَلَدَ زِنًا لَا يَتَوَارَثَانِ هُوَ وَأَبُوهُ الْوَطْءُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . مُنْسَلِخٌ مِنْ رُتْبَةِ الدِّينِ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُرِّفَ وَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ الرَّاشِدِينَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَلْحَقُوا أَوْلَادَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ
مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّهُ
يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ
الْفُتْيَا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى
وُقُوعِهِ وَقَالَ إنَّ الْوَلَدَ وَلَدُ زِنَا : هُوَ الْمُخَالِفُ لِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ وَإِنَّ الْمُفْتِيَ بِذَلِكَ أَوْ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ فَعَلَ مَا
لَا يَسُوغُ لَهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْمَنْعُ مِنْ
الْفُتْيَا بِقَوْلِهِ وَلَا الْقَضَاءُ بِذَلِكَ وَلَا الْحُكْمُ بِالْمَنْعِ
مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَحْكَامُ بَاطِلَةٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ
عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ ادَّعَتْ عَلَيْهِ مُطَلَّقَتُهُ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِبِنْتِ
وَبَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ آخَرَ فَأَلْزَمَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ
بِالْيَمِينِ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَحْلِفُ أَنَّ هَذِهِ مَا هِيَ بِنْتِي .
فَقَالَ الْحَاكِمُ : مَا تَحْلِفُ إلَّا أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتُهَا فَامْتَنَعَ
أَنْ يَحْلِفَ إلَّا أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتِي وَكَانَ مَعَهُ إنْسَانٌ فَقَالَ
لِلْحَاكِمِ : هَذَا مَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتُ
هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَضَرَبَهُ الْحَاكِمُ بِالدِّرَّةِ وَأَحْرَقَ بِهِ فَحَلَفَ
الرَّجُلُ فَكَتَبَ عَلَيْهِ فَرْضَ الْبِنْتِ . فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْفَرْضُ ؟
.
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا فِي الْعِدَّةِ
أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا فِي
بَيْتِهِ ؛ بِحَيْثُ أَمْكَنَ لِحَوْقِ النَّسَبِ بِهِ . فَأَمَّا إذَا
تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ وَأَمْكَنَ أَنَّهَا وَلَدَتْهَا مِنْ الثَّانِي فَلَيْسَ
عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا . وَإِذَا حَلَفَتْ أَنَّهَا لَمْ
تَلِدْهَا قَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي آخِرًا . وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ
لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَا أَصَابَهَا
فَوَلَدَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ : فَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُ
الصَّدَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ
لِلْعُلَمَاءِ فِي الْعَقْدِ " قَوْلَانِ " أَصَحُّهُمَا أَنَّ
الْعَقْدَ بَاطِلٌ ؛ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَحِينَئِذٍ
فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ
وَلَا مُتْعَةَ ؛ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ إذَا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ
فِيهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَاكِمٌ
يَرَى فَسَادَ الْعَقْدِ لِقَطْعِ النِّزَاعِ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي
" أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ ؛ ثُمَّ لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى تَضَعَ
؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ الْوَضْعِ
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ،
فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لَكِنَّ هَذَا النِّزَاعَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ سَيِّدٍ أَوْ زَوْجٍ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إذَا فَارَقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَمَّا الْحَامِلُ مِنْ الزِّنَا فَلَا كَلَامَ فِي صِحَّةِ نِكَاحِهَا . وَالنِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ نَكَحَهَا طَائِعًا وَأَمَّا إذَا نَكَحَهَا مُكْرَهًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا
بَابُ
الْعِدَدِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ وَأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ جَاءَهَا مَرَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ
ذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرِ مِنْ السَّنَةِ
وَادَّعَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَلَمْ تَكُنْ حَاضَتْ إلَّا مَرَّةً
فَلَمَّا عَلِمَ الزَّوْجُ الثَّانِي طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً ثَانِيًا فِي
الْعَشْرِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ السَّنَةِ ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَزَوَّجَ
بِالْمُطَلِّقِ الثَّانِي وَادَّعَتْ أَنَّهَا آيِسَةٌ : فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهَا
وَهَلْ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْإِيَاسُ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمَرْأَةِ ؛ لَكِنَّ هَذِهِ إذَا قَالَتْ
إنَّهُ ارْتَفَعَ لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَإِنَّهَا تُؤَجَّلُ سَنَةً فَإِنْ
لَمْ تَحِضْ فِيهَا زُوِّجَتْ . وَإِذَا طَعَنَتْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَلَا
تَحْتَاجُ إلَى تَأْجِيلٍ . وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ حَيْضَهَا ارْتَفَعَ بِمَرَضِ
أَوْ رَضَاعٍ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ . فَهَذِهِ
الْمَرْأَةُ كَانَ عَلَيْهَا " عِدَّتَانِ " : عِدَّةٌ لِلْأَوَّلِ
وَعِدَّةٌ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي . وَنِكَاحُهُ فَاسِدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى
طَلَاقٍ فَإِذَا لَمْ تَحِضْ إلَّا مَرَّةً وَاسْتَمَرَّ انْقِطَاعُ الدَّمِ=ج50=
ج50. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
فَإِنَّهَا
تَعْتَدُّ الْعِدَّتَيْنِ بِالشُّهُورِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ فِرَاقِ الثَّانِي
إذَا كَانَتْ آيِسَةً . وَإِذَا كَانَتْ مُسْتَرِيبَةً كَانَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ . وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا
تَتَدَاخَلَانِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ ؛ لَكِنَّ عِنْدَهُ الْإِيَاسُ حُدَّ
بِالسِّنِّ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ أَحْسَنُ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ
وَأَسْهَلُهُمَا وَبِهِ قَضَى عُمَرُ وَغَيْرُهُ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ
الْآخَرِ فَهَذِهِ الْمُسْتَرِيبَةُ تَبْقَى فِي عِدَّةٍ حَتَّى تَطْعَنَ فِي
سِنِّ الْإِيَاسِ فَتَبْقَى عَلَى قَوْلِهِمْ تَمَامَ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ
سَنَةً لَا تَتَزَوَّجُ . وَلَكِنْ فِي هَذَا عُسْرٌ وَحَرَجٌ فِي الدِّينِ
وَتَضْيِيعُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَهَا عِنْدَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ لَمْ تَحِضْ
وَذَكَرَتْ أَنَّ لَهَا أَرْبَعَ سِنِينَ قَبْلَ زَوَاجِهَا لَمْ تَحِضْ فَحَصَلَ
مِنْ زَوْجِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ : فَكَيْفَ يَكُونُ تَزْوِيجُهَا
بِالزَّوْجِ الْآخَرِ ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ الْعِدَّةُ وَعُمْرُهَا خَمْسُونَ سَنَةً
.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ " ثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ " فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّهَا قَدْ عَرَفَتْ
أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ انْقَطَعَ وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ
انْقِطَاعًا مُسْتَمِرًّا ؛ بِخِلَافِ الْمُسْتَرِيبَةِ الَّتِي لَا تَدْرِي مَا
رَفَعَ حَيْضَهَا : هَلْ هُوَ ارْتِفَاعُ
إيَاسٍ ؟ أَوْ ارْتِفَاعٌ لِعَارِضِ ثُمَّ يَعُودُ : كَالْمَرَضِ وَالرَّضَاعِ ؟ فَهَذِهِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " . فَمَا ارْتَفَعَ لِعَارِضِ : كَالْمَرَضِ وَالرَّضَاعِ ؛ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ زَوَالَ الْعَارِضِ بِلَا رَيْبٍ . وَمَتَى ارْتَفَعَ لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ : فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ بَعْدَ أَنْ تَمْكُثَ مُدَّةَ الْحَمْلِ كَمَا قَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهَا تَمْكُثُ حَتَّى تَطْعَنَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدَّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ . وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَيْهَا ؛ فَإِنَّهَا تَمْكُثُ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا تَتَزَوَّجُ . وَمِثْلُ هَذَا الْحَرَجِ مَرْفُوعٌ عَنْ الْأُمَّةِ ؛ وَإِنَّمَا اللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ فَإِنَّهُنَّ يَعْتَدِدْنَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ . لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ : هَلْ لِلْإِيَاسِ سِنٌّ لَا يَكُونُ الدَّمُ بَعْدَهُ إلَّا دَمَ إيَاسٍ ؟ وَهَلْ ذَلِكَ السِّنُّ خَمْسُونَ أَوْ سِتُّونَ ؟ أَوْ فِيهِ تَفْصِيلٌ ؟ وَمُتَنَازِعُونَ : هَلْ يُعْلَمُ الْإِيَاسُ بِدُونِ السِّنِّ ؟ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ قَدْ طَعَنَتْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الْخَمْسُونَ وَلَهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ لَمْ تَحِضْ وَقَدْ ذَكَرَتْ أَنَّهَا شَرِبَتْ مَا يَقْطَعُ الدَّمَ وَالدَّمُ يَأْتِي بِدَوَاءِ : فَهَذِهِ لَا تَرْجُو عَوْدَ الدَّمِ إلَيْهَا فَهِيَ مِنْ الْآيِسَاتِ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ فَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَهَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ لِمَا ثَبَتَ
عِنْدَهُ مِنْ تَضَرُّرِهَا بِانْقِطَاعِ نَفَقَةِ زَوْجِهَا وَعَدَمِ تَصَرُّفِهِ
الشَّرْعِيِّ عَلَيْهَا الْمُدَّةَ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا فَسْخُ النِّكَاحِ
لِمِثْلِهَا . وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ شُهُورٍ مِنْ فَسْخِ النِّكَاحِ رَغِبَ فِيهَا
مَنْ يَتَزَوَّجُهَا : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَعْتَدَّ بِالشُّهُورِ ؛ إذْ أَكْثَرُ
النِّسَاءِ لَا يَحِضْنَ مَعَ الرَّضَاعَةِ أَوْ يَسْتَمِرُّ بِهَا الضَّرَرُ إلَى
حَيْثُ يَنْقَضِي الرَّضَاعُ وَيَعُودُ إلَيْهَا حَيْضُهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ
وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَبِذَلِكَ قَضَى عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَلَمْ يُخَالِفْهُمَا أَحَدٌ . فَإِنْ أَحَبَّتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَسْتَرْضِعَ
لِابْنِهَا مَنْ يُرْضِعُهُ لِتَحِيضَ أَوْ تَشْرَبَ مَا تَحِيضُ بِهِ : فَلَهَا
ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَحِيضُ وَهِيَ بِكْرٌ فَلَمَّا تَزَوَّجَتْ وَلَدَتْ
سِتَّةَ أَوْلَادٍ وَلَمْ تَحِضْ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ
زَوْجِهَا وَهِيَ مُرْضِعٌ وَأَقَامَتْ عِنْدَ أَهْلِهَا
نِصْفَ
سَنَةٍ وَلَمْ تَحِضْ وَجَاءَ رَجُلٌ يَتَزَوَّجُهَا غَيْرُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ
فَحَضَرُوا عِنْدَ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ فَسَأَلَهَا عَنْ الْحَيْضِ ؟ فَقَالَتْ
: لِي مُدَّةُ سِنِينَ مَا حِضْت . فَقَالَ الْقَاضِي : مَا يَحِلُّ لَك عِنْدِي
زَوَاجٌ فَزَوَّجَهَا حَاكِمٌ آخَرُ وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ الْحَيْضِ فَبَلَغَ
خَبَرُهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَاسْتَحْضَرَ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ فَضَرَبَ
الرَّجُلَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَقَالَ : زَنَيْت وَطَلَّقَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ
الزَّوْجُ الطَّلَاقَ فَهَلْ يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ قَدْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا بِمَرَضِ أَوْ رَضَاعٍ فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ
حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ وَتَحِيضَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِنْ كَانَ
ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَهَذِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ : تَمْكُثُ سَنَةً ثُمَّ تَزَوَّجُ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِهِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ : وَإِنْ
كَانَتْ " فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ " فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَاَلَّذِي
فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَصَابَ فِي ذَلِكَ وَأَصَابَ فِي تَأْدِيبِ مَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ " الْقِسْمِ الثَّانِي " قَدْ زَوَّجَهَا
حَاكِمٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا
وَلَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ فَإِنَّ فِعْلَ الْحَاكِمِ لِمِثْلِ ذَلِكَ يَجُوزُ
فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ مُرْضِعٍ اسْتَبْطَأَتْ الْحَيْضَ فَتَدَاوَتْ لِمَجِيءِ الْحَيْضِ فَحَاضَتْ
ثَلَاثَ حِيَضٍ وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً : فَهَلْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا ؛ أَمْ لَا .
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ إذَا أَتَى الْحَيْضُ الْمَعْرُوفُ لِذَلِكَ اعْتَدَّتْ بِهِ . كَمَا
أَنَّهَا لَوْ شَرِبَتْ دَوَاءً قَطَعَ الْحَيْضَ أَوْ بَاعَدَ بَيْنَهُ : كَانَ
ذَلِكَ طُهْرًا . وَكَمَا لَوْ جَاعَتْ أَوْ تَعِبَتْ ؛ أَوْ أَتَتْ غَيْرَ ذَلِكَ
مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُسَخِّنُ طَبْعَهَا وَتُثِيرُ الدَّمَ فَحَاضَتْ
بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ شَابَتْ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْإِيَاسِ وَكَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ
تَحِيضَ فَشَرِبَتْ دَوَاءً فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَاسْتَمَرَّ
انْقِطَاعُهُ ؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ :
فَهَلْ تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ بِالشُّهُورِ أَوْ تَتَرَبَّصُ
حَتَّى تَبْلُغَ سِنَّ الْآيِسَاتِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ الدَّمَ [
لَا ] (1) يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ . وَإِنْ كَانَ
يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ الدَّمُ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَعُودَ فَإِنَّهَا
تَتَرَبَّصُ بَعْدَ سَنَةٍ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ فِي الْمَرْأَةِ يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ ؛
فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ سَنَةً وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ
وَالشَّافِعِيِّ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا تَدْخُلُ فِي سِنِّ الْآيِسَاتِ :
فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي لَا
تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِمِثْلِهِ ؛ أَوْ تُمْنَعُ مِنْ النِّكَاحِ وَقْتَ حَاجَتِهَا
إلَيْهِ وَيُؤْذَنُ لَهَا فِيهِ حِينَ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مَرِضَ مَرَضًا مُتَّصِلًا بِمَوْتِهِ وَلَهُ زَوْجَةٌ فَأَمَرَهَا
أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دَاخِلِ الدَّارِ إلَى خَارِجِهَا فَتَوَقَّفَتْ عَنْ الْخُرُوجِ
فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ . فَخَرَجَتْ وَحَجَبَتْ وَجْهَهَا عَنْهُ
فَطَلَبَهَا فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ مُحْتَجِبَةً فَسَأَلَهَا عَنْ احْتِجَابِهَا
لِمَا هُوَ ؟ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَوْقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ ؛ فَأَنْكَرَ وَقَالَ
: مَا حَلَفْت وَلَا طَلَّقْت وَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ : فَهَلْ يَلْزَمُهَا
الطَّلَاقُ ؟ أَمْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ ؟
فَأَجَابَ :
عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ مَعَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ؛ وَلَهَا الْمِيرَاثُ .
هَذَا إنْ كَانَ عَقْلُهُ حَاضِرًا حِينَ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ ؛ وَإِنْ كَانَ
عَقْلُهُ غَائِبًا لَمْ يَلْزَمْهَا إلَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ وَرُزِقَ مِنْهَا
وَلَدًا لَهُ مِنْ الْعُمْرِ سَنَتَانِ وَذَكَرَتْ أَنَّهَا لَمَّا تَزَوَّجَتْ
لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ وَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا
ثَانِيًا عَلَى هَذَا الْعَقْدِ الْمَذْكُورِ : فَهَلْ يَجُوزُ الطَّلَاقُ عَلَى
هَذَا الْعَقْدِ الْمَفْسُوخِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي كَوْنِهَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الْحَيْضَةِ
الثَّالِثَةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَهَا . وَعَلَيْهَا
أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي . فَإِنْ
كَانَتْ حَاضَتْ الثَّالِثَةَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا الثَّانِي فَقَدْ انْقَضَتْ
عِدَّةُ الْأَوَّلِ ؛ ثُمَّ إذَا فَارَقَهَا الثَّانِي اعْتَدَّتْ لَهُ ثَلَاثَ
حِيَضٍ ثُمَّ تَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ بِنِكَاحِ جَدِيدٍ . وَوَلَدُهُ وَلَدُ
حَلَالٍ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ بِوَطْءِ فِي عَقْدٍ
فَاسِدٍ لَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ
فَصْلٌ : الْمُعْتَدَّةُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ
تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَتَجْتَنِبُ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ
فِي بَدَنِهَا وَثِيَابِهَا وَلَا تَتَزَيَّنُ وَلَا تَتَطَيَّبُ وَلَا تَلْبَسُ ثِيَابَ
الزِّينَةِ وَتَلْزَمُ مَنْزِلَهَا فَلَا تَخْرُجُ بِالنَّهَارِ إلَّا لِحَاجَةِ
وَلَا بِاللَّيْلِ إلَّا لِضَرُورَةِ وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا
أَبَاحَهُ اللَّهُ : كَالْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ : لَحْمِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
وَلَهَا أَكْلُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ شُرْبُ
مَا يُبَاحُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ ثِيَابَ الْقُطْنِ
وَالْكَتَّانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ ؛ وَلَيْسَ عَلَيْهَا
أَنْ تَصْنَعَ ثِيَابًا بَيْضَاءَ أَوْ غَيْرَ بِيضٍ لِلْعِدَّةِ ؛ بَلْ يَجُوزُ
لَهَا لُبْسُ الْمُقَفَّصِ ؛ لَكِنْ لَا تَلْبَسُ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ
الْمَرْأَةُ : مِثْلَ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَخْضَرِ الصَّافِي
وَالْأَزْرَقِ الصَّافِي وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا تَلْبَسُ الْحُلِيَّ مِثْلَ الْأَسْوِرَةِ
وَالْخَلَاخِلِ والقلايد وَلَا تَخْتَضِبُ بِحِنَّاءِ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلَا
يَحْرُمُ عَلَيْهَا عَمَلُ شُغْلٍ مِنْ الْأَشْغَالِ الْمُبَاحَةِ : مِثْلَ
التَّطْرِيزِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْغَزْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَفْعَلُهُ
النِّسَاءُ .
وَيَجُوزُ
لَهَا سَائِرُ مَا يُبَاحُ لَهَا فِي غَيْرِ الْعِدَّةِ : مِثْلَ كَلَامِ مَنْ
تَحْتَاجُ إلَى كَلَامِهِ مِنْ الرِّجَالِ إذَا كَانَتْ مُسْتَتِرَةً وَغَيْرَ
ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ إذَا مَاتَ
أَزْوَاجُهُنَّ وَنِسَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بِغَيْرِهِ أَبَدًا لَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا
بَعْدَهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِنَّ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ احْتِرَامُهُنَّ كَمَا
يَحْتَرِمُ الرَّجُلُ أُمَّهُ ؛ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ مَحْرَمٍ يَخْلُو
بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَا يُسَافِرُ بِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُعْتَدَّةٍ عِدَّةَ وَفَاةٍ ؛ وَلَمْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا
بَلْ تَخْرُجُ فِي ضَرُورَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا
إعَادَةُ الْعِدَّةِ ؟ وَهَلْ تَأْثَمُ بِذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْعِدَّةُ انْقَضَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مِنْ حِينِ
الْمَوْتِ وَلَا تَقْضِي الْعِدَّةَ . فَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ لِأَمْرِ يُحْتَاجُ
إلَيْهِ وَلَمْ تَبِتْ إلَّا فِي مَنْزِلِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا . وَإِنْ
كَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَبَاتَتْ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا
لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ بَاتَتْ فِي غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ تَرَكَتْ الْإِحْدَادَ :
فَلْتَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَتَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَلَا إعَادَةَ
عَلَيْهَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَقَعَدَتْ زَوْجَتُهُ فِي عِدَّتِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ؛
فَمَا قَدَرَتْ تُخَالِفُ مَرْسُومَ السُّلْطَانِ ؛ ثُمَّ سَافَرَتْ وَحَضَرَتْ
إلَى الْقَاهِرَةِ وَلَمْ تَتَزَيَّنْ لَا بِطِيبٍ ؛ وَلَا غَيْرِهِ : فَهَلْ
تَجُوزُ خِطْبَتُهَا ؛ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْعِدَّةُ تَنْقَضِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ ؛ فَإِنْ
كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ فَلْتُتِمَّهُ فِي بَيْتِهَا وَلَا تَخْرُجُ
لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِأَمْرِ ضَرُورِيٍّ ؛ وَتَجْتَنِبُ الزِّينَةَ
وَالطِّيبَ فِي بَدَنِهَا وَثِيَابِهَا . وَلْتَأْكُلْ مَا شَاءَتْ مِنْ حَلَالٍ
وَتَشُمَّ الْفَاكِهَةَ وَتَجْتَمِعْ بِمَنْ يَجُوزُ لَهَا الِاجْتِمَاعُ بِهِ فِي
غَيْرِ الْعِدَّةِ ؛ لَكِنْ إنْ خَطَبَهَا إنْسَانٌ لَا تُجِيبُهُ صَرِيحًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ عَزَمَتْ عَلَى الْحَجِّ هِيَ وَزَوْجُهَا فَمَاتَ زَوْجُهَا فِي
شَعْبَانَ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ فِي الْعِدَّةِ عَنْ الْوَفَاةِ إلَى الْحَجِّ فِي
مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
بَابُ
الِاسْتِبْرَاءِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً ؛ ثُمَّ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ
وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثُمَّ بَاعَهَا بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ : فَهَلْ
يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ الثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ؟
فَأَجَابَ :
لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا
تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ
بِحَيْضَةِ } وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا
قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ عِنْدَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَبِيعَهَا الْوَاطِئُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا
. وَهَلْ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ وَعَلَى الْمُشْتَرِي اسْتِبْرَاءٌ ؟ أَوْ
اسْتِبْرَاءَانِ ؟ أَوْ يَكْفِيهِمَا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الرَّضَاعِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ " فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ
النَّسَبِ } وَفِي لَفْظٍ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ
الْوِلَادَةِ } وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا
أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ . فَإِذَا ارْتَضَعَ
الطِّفْلُ مِنْ امْرَأَةٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ قَبْلَ الْفِطَامِ
صَارَ وَلَدَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَصَارَ الرَّجُلُ الَّذِي دَرَّ
اللَّبَنَ بِوَطْئِهِ أَبًا لِهَذَا الْمُرْتَضِعِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ
وَهَذَا يُسَمَّى " لَبَنُ الْفَحْلِ " وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِسُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ
قَدْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو
الْقُعَيْسِ فَجَاءَ أَخُوهُ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا فَأَبَتْ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ
حَتَّى سَأَلَتْ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا : إيذني لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّك فَقَالَتْ عَائِشَةُ : إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ ؛ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ فَقَالَ : إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك } . وَقَالَ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } . وَإِذَا صَارَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالِدَيْ الْمُرْتَضِعِ صَارَ كُلٌّ مِنْ أَوْلَادِهِمَا إخْوَةَ الْمُرْضَعِ ؛ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْأَبِ فَقَطْ أَوْ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْهُمَا أَوْ كَانُوا أَوْلَادًا لَهُمَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَصِيرُونَ إخْوَةً لِهَذَا الْمُرْتَضِعِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ لِرَجُلِ امْرَأَتَانِ فَأَرْضَعَتْ هَذِهِ طِفْلًا وَهَذِهِ طِفْلَةً : كَانَا أَخَوَيْنِ ؛ وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا التَّزَوُّجُ بِالْآخَرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " سُئِلَ عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ : اللِّقَاحُ وَاحِدٌ يَعْنِي الرَّجُلُ الَّذِي وَطِئَ الْمَرْأَتَيْنِ حَتَّى دَرَّ اللَّبَنَ وَاحِدٌ . وَلَا فَرْقَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ أَوْلَادِ الْمَرْأَةِ الَّذِينَ رَضَعُوا مَعَ الطِّفْلِ وَبَيْنَ مَنْ وُلِدَ لَهَا قَبْلَ الرَّضَاعَةِ وَبَعْدَ الرَّضَاعَةِ : بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ مَنْ رَضَعَ مَعَهُ : هُوَ ضَلَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اسْتِحْلَالِ ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ كَمَا يُسْتَتَابُ سَائِرُ مَنْ أَبَاحَ الْإِخْوَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَمِيعُ " أَقَارِبِ الْمَرْأَةِ أَقَارِبُ لِلْمُرْتَضِعِ مِنْ الرَّضَاعَةِ " أَوْلَادُهَا إخْوَتُهُ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهَا أَوْلَادُ إخْوَتِهِ وَآبَاؤُهَا وَأُمَّهَاتُهَا
أَجْدَادُهُ وَإِخْوَتُهَا وَأَخَوَاتُهَا أَخْوَالُهُ وَخَالَاتُهُ : وَكُلُّ هَؤُلَاءِ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا " بَنَاتُ أَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ " فَحَلَالٌ كَمَا يَحِلُّ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ ؛ وَأَقَارِبُ الرَّجُلِ أَقَارِبُهُ مِنْ الرَّضَاعِ : أَوْلَادُ إخْوَتِهِ وَأَوْلَادُهُمْ أَوْلَادُ إخْوَتِهِ . وَإِخْوَتُهُ أَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ وَهُنَّ حَرَامٌ عَلَيْهِ . وَحَلَّ لَهُ بَنَاتُ عَمِّهِ وَبَنَاتُ عَمَّاتِهِ . وَأَوْلَادُ الْمُرْتَضِعِ بِمَنْزِلَتِهِ كَمَا أَنَّ أَوْلَادَ الْمَوْلُودِ بِمُنْزِلَتِهِ فَلَيْسَ لِأَوْلَادِهِ مِنْ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا إخْوَتَهُ وَلَا إخْوَةَ أَبِيهِ لَا مِنْ نَسَبٍ وَلَا رَضَاعٍ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُهُمْ وَعَمَّاتُهُمْ وَأَخْوَالُهُمْ وَخَالَاتُهُمْ . وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ غَيْرِ رَضَاعِ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ فَهُمْ أَجَانِبُ مِنْهَا وَمِنْ أَقَارِبِهَا فَيَجُوزُ لِإِخْوَةِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَوْلَادَ الْمُرْضِعَةِ ؛ كَمَا إذَا كَانَ أَخٌ لِلرَّجُلِ مِنْ أَبِيهِ وَأُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ . وَبِالْعَكْسِ : جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ؛ وَهُوَ نَفْسُهُ لَا يَتَزَوَّجُ وَاحِدًا مِنْهُمَا : فَكَذَلِكَ الْمُرْتَضِعُ هُوَ نَفْسُهُ لَا يَتَزَوَّجُ وَاحِدًا مِنْ أَوْلَادِ مُرْضِعِهِ ؛ وَلَا أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ وَالِدَيْهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إخْوَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ ؛ وَهَؤُلَاءِ إخْوَتُهُ مِنْ النَّسَبِ . وَيَجُوزُ لِإِخْوَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا إخْوَتَهُ مِنْ النَّسَبِ كَمَا يَجُوزُ لِإِخْوَتِهِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا إخْوَتَهُ مِنْ أُمِّهِ . وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
وَلَكِنْ بَعْضُ الْمُنْتَصِبِينَ لِلْفُتْيَا قَدْ يُغَلِّظُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ لِالْتِبَاسِ أَمْرِهَا عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ وَلَا يَذْكُرُونَ مَا يُسْأَلُونَ عَنْهُ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : اثْنَانِ تَرَاضَعَا : هَلْ يَتَزَوَّجُ هَذَا بِأُخْتِ هَذَا ؟ وَهَذَا سُؤَالٌ مُجْمَلٌ . فَالْمُرْتَضِعُ نَفْسُهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أَخَوَاتِ الْآخَرِ اللَّاتِي هُنَّ مِنْ أُمِّهِ الَّتِي أَرْضَعَتْ ؛ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَخَوَاتٌ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْأُمِّ فَهُنَّ أَجَانِبُ مِنْ الْمُرْتَضِعِ فَلِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُنَّ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : طِفْلٌ وَطِفْلَةٌ تَرَاضَعَا أَوْ طِفْلَانِ تَرَاضَعَا : هَلْ يَحِلُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِإِخْوَةِ الْآخَرِ وَيَتَزَوَّجَ الْأَخَوَاتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ ؟ فَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ إخْوَةَ كُلٍّ مِنْ الْمُتَرَاضِعَيْنِ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَخَوَاتِ الْآخَرِ ؛ إذَا لَمْ يَرْتَضِعْ الْخَاطِبُ مِنْ أُمِّ الْمَخْطُوبَةِ وَلَا الْمَخْطُوبَةُ مِنْ أُمِّ الْخَاطِبِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْمُتَرَاضِعَانِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ شَيْئًا مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ هَذَا بِأَحَدِ مِنْ إخْوَةِ الْآخَرِ مِنْ الْأُمِّ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ أَوْ مِنْ الْأَبِ صَاحِبِ اللَّبَنِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ إخْوَةِ الْآخَرِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَوْلَادِ أَبَوَيْهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ . فَهَذَا جَوَابُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ . فَإِنَّ الرَّضِيعَ : إمَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ إخْوَةِ الْمُرْتَضِعِ الْآخَرِ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ أَوْ الرَّجُلِ وَإِمَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ إخْوَةِ الْمُرْتَضِعِ الْآخَرِ مِنْ النَّسَبِ أَوْ مِنْ رَضَاعَةٍ أُخْرَى . وَإِخْوَةُ الرَّضِيعِ إمَّا أَنْ يَتَزَوَّجُوا مِنْ هَؤُلَاءِ وَإِمَّا مِنْ هَؤُلَاءِ وَإِمَّا مِنْ هَؤُلَاءِ . فَإِخْوَةُ الرَّضِيعِ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا الْجَمِيعَ : أَوْلَادُ الْمُرْضِعَةِ
وَزَوْجِهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ . وَلِإِخْوَةِ هَذَا أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِإِخْوَةِ هَذَا ؛ بَلْ لأب هَذَا مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَه مِنْ الرَّضَاعِ . وَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُرْضِعَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ أَحَدٌ مِنْهُنَّ الْمُرْتَضِعَ ؛ وَلَا أَوْلَادَهُ ؛ وَلَا يَتَزَوَّجُ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ ؛ لَا مِنْ نَسَبٍ ؛ وَلَا مِنْ رَضَاعٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ : إمَّا عَمًّا وَإِمَّا خَالًا . وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . " ثُمَّ الرَّضَاعُ الْمُحَرَّمُ " فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد " أَحَدُهَا " أَنَّهُ يَحْرُمُ كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ . وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِإِطْلَاقِ الْقُرْآنِ . " وَالثَّانِي " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ وَيُحَرِّمُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ . وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ } " وَرُوِيَ " { الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ } " وَرُوِيَ { الإملاجة ؛ والإملاجتان } " فَنَفَى التَّحْرِيمَ عَنْهُمَا وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ . " وَالثَّالِثُ " أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد لِحَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ . حَدِيثِ عَائِشَةَ : { إنَّ مِمَّا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نسخن بِخَمْسِ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ } وَلِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ؛ لِيَصِيرَ مَحْرَمًا لَهَا بِذَلِكَ .
وَعَلَى
هَذَا فَالرَّضْعَةُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَيْسَتْ هِيَ
الشِّبْعَةُ وَهُوَ أَنْ يَلْتَقِمَ الثَّدْيَ ثُمَّ يسيبه ثُمَّ يَلْتَقِمَهُ
ثُمَّ يسيبه حَتَّى يَشْبَعَ بَلْ إذَا أَخَذَ الثَّدْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ
بِاخْتِيَارِهِ فَهِيَ رَضْعَةٌ سَوَاءٌ شَبِعَ بِهَا أَوْ لَمْ يَشْبَعْ إلَّا
بِرَضَعَاتِ فَإِذَا الْتَقَمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَضَعَ ثُمَّ تَرَكَهُ
فَرَضْعَةٌ أُخْرَى وَإِنْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ثُمَّ عَادَ قَرِيبًا
فَفِيهِ نِزَاعٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
مَا الَّذِي يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ ؟ وَمَا الَّذِي لَا يَحْرُمُ ؟ وَمَا
دَلِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " { أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ
الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } . وَلْتُبَيِّنُوا جَمِيعَ التَّحْرِيمِ
مِنْهُ ؟ وَهَلْ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ اخْتِلَافٌ ؟ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ اخْتِلَافٌ
فَمَا هُوَ الصَّوَابُ وَالرَّاجِحُ فِيهِ ؟ وَهَلْ حُكْمُ رَضَاعِ الصَّبِيِّ
الْكَبِيرِ الَّذِي دُونَ الْبُلُوغِ أَوْ الَّذِي يَبْلُغُ حُكْمُهُ حُكْمَ
الصَّغِيرِ الرَّضِيعِ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النِّسْوَةِ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
خَمْسَ سِنِينَ ؛ وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ ؟ وَهَلْ يَقَعُ تَحْرِيمٌ بَيْنَ
الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ الْمُتَزَوِّجَيْنِ بِرِضَاعِ بَعْضِ قَرَابَاتِهِمْ
لِبَعْضِ ؟ وَبَيِّنُوهُ بَيَانًا شَافِيًا ؟
الْجَوَابُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ
؛ وَهُوَ مُتَلَقًّى بِالْقَبُولِ ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ اتَّفَقُوا عَلَى
الْعَمَلِ بِهِ وَلَفْظُهُ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ
النَّسَبِ } " وَالثَّانِي : " { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } " : وَقَدْ اسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ صُورَتَيْنِ ؛ وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُحْتَاجُ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ الْحَدِيثِ شَيْءٌ . وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فَنَقُولُ . إذَا ارْتَضَعَ الرَّضِيعُ مِنْ الْمَرْأَةِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَتْ الْمَرْأَةُ أُمَّهُ وَصَارَ زَوْجُهَا الَّذِي جَاءَ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ أَبَاهُ فَصَارَ ابْنًا لِكُلِّ مِنْهُمَا مِنْ الرَّضَاعَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ جَمِيعُ أَوْلَادِ الْمَرْأَةِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَمِنْ غَيْرِهِ وَجَمِيعُ أَوْلَادِ الرَّجُلِ مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهَا إخْوَةً لَهُ سَوَاءٌ وُلِدُوا قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِذَا كَانَ أَوْلَادُهُمَا إخْوَتَهُ كَانَ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمَا أَوْلَادَ إخْوَتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمَا وَلَا أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمَا ؛ فَإِنَّهُمْ : إمَّا إخْوَتُهُ وَإِمَّا أَوْلَادُ إخْوَتِهِ وَذَلِكَ يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ . وَإِخْوَةُ الْمَرْأَةِ وَأَخَوَاتُهَا أَخْوَالُهُ وَخَالَاتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَأَبُوهَا وَأُمُّهَا أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ إخْوَتِهَا . وَلَا مِنْ أَخَوَاتِهَا وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ أَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ . وَأَبُو الرَّجُلِ وَأُمَّهَاتُهُ أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ ؛ فَلَا يَتَزَوَّجُ بِأَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ وَلَا بِأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ ؛ لَكِنْ يَتَزَوَّجُ بِأَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ أَقَارِبِ الرَّجُلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ ؛ أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ؛ وَأَوْلَادُ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } فَهَؤُلَاءِ " الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ " هِيَ الْمُبَاحَاتُ مِنْ الْأَقَارِبِ فيبحن مِنْ الرَّضَاعَةِ . وَإِذَا كَانَ الْمُرْتَضِعُ ابْنًا لِلْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا فَأَوْلَادُهُ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمَا وَيَحْرُمُ عَلَى أَوْلَادِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَوْلَادِ مِنْ النَّسَبِ . فَهَذِهِ الْجِهَاتُ الثَّلَاثُ مِنْهَا تَنْتَشِرُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ . وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ ؛ وَأَبُوهُ مِنْ النَّسَبِ وَأُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ : فَهُمْ أَجَانِبُ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَإِخْوَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ؛ لَيْسَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ صِلَةٌ وَلَا نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَخٌ مِنْ أَبِيهِ وَأَخٌ مِنْ أُمِّهِ وَلَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا ؛ بَلْ يَجُوزُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَتَزَّوَجَ أخْتَهُ مِنْ أُمِّهِ ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَخٌ مِنْ النَّسَبِ وَأُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعِ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِهَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذَا وَلِهَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذَا . وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ بِأُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ كَمَا يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ . وَيَجُوزُ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَه مِنْ الرَّضَاعَةِ وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي النَّسَبِ ؛ فَإِنَّ أخ الرَّجُلِ مِنْ النَّسَبِ لَا يَتَزَوَّجُ بِأُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ . وَأُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لَيْسَتْ بِنْتَ أَبِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَلَا رَبِيبَتَهُ فَلِهَذَا جَازَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ .
فَيَقُولُ مَنْ لَا يُحَقِّقُ : يَحْرُمُ فِي النَّسَبِ عَلَى أَخِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمِّي وَلَا يَحْرُمُ مِثْلُ هَذَا فِي الرَّضَاعِ . وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ نَظِيرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ النَّسَبِ أَنْ تَتَزَوَّجَ أُخْتُهُ أَوْ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ بِابْنِ هَذَا الْأَخِ أَوْ بِأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ كَمَا لَوْ ارْتَضَعَ هُوَ وَآخَرُ مِنْ امْرَأَةٍ وَاللَّبَنُ لِفَحْلِ ؛ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ أَخَاهُ وَأُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ لِكَوْنِهِمَا أَخَوَيْنِ لِلْمُرْتَضِعِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَا أَبَاهُ وَأُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ لِكَوْنِهِمَا وَلَدَيْهِمَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ لَا لِكَوْنِهِمَا أَخَوَيْ وَلَدَيْهِمَا . فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَنَحْوَهُ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ . وَأَمَّا " رَضَاعُ الْكَبِيرِ " فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ لَا يَحْرُمُ إلَّا رَضَاعُ الصَّغِيرِ كَاَلَّذِي رَضَعَ فِي الْحَوْلَيْنِ . وَفِيمَنْ رَضَعَ قَرِيبًا مِنْ الْحَوْلَيْنِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ . فَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ فَلَا يَحْرُمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِرَضَاعِ القرايب : مِثْلَ أَنْ تُرْضِعَ زَوْجَتُهُ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ : فَهُنَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِاَلَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ ؛ إذْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا صِلَةُ نَسَبٍ وَلَا رَضَاعٍ ؛ وَإِنَّمَا حَرُمَتْ عَلَى أَخِيهِ لِأَنَّهَا أُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَيْسَتْ أُمَّ نَفْسِهِ مِنْ الرَّضَاعِ . وَأُمُّ الْمُرْتَضِعِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا تَكُونُ أُمًّا لِإِخْوَتِهِ مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا أَرْضَعَتْ الرَّضِيعَ وَلَمْ تُرْضِعْ غَيْرَهُ . نَعَمْ :
لَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ نِسْوَةٌ يَطَأَهُنَّ وَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طِفْلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ قَالَ : اللِّقَاحُ وَاحِدٌ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي الْقُعَيْسِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ . وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهَا أُمُّهُ أَوْ امْرَأَةُ أَبِيهِ ؛ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا أُمُّ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَلَيْسَتْ أُمَّهُ وَلَا امْرَأَةَ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا صَاحِبَ اللَّبَنِ لَيْسَ أَبًا لِهَذَا ؛ لَا مِنْ النَّسَبِ وَلَا مِنْ الرَّضَاعَةِ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } " وَأُمُّ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعِ . قُلْنَا : هَذَا تَلْبِيسٌ وَتَدْلِيسٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُ أَخَوَاتِكُمْ ؛ وَإِنَّمَا قَالَ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } فَحَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أُمَّهُ وَمَنْكُوحَةَ أَبِيهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ . وَهَذِهِ تَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ أُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ . وَأَمَّا مَنْكُوحَةُ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهَا تَحْرُمُ ؛ لَكِنْ فِيهَا نِزَاعٌ لِكَوْنِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ بِالصِّهْرِ ؛ لَا بِالنَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ . وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِي تَحْرِيمِهَا فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ : تَحْرُمُ مَنْكُوحَةُ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَفَّيْنَا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ . وَأَمَّا أُمُّ أَخِيهِ الَّتِي لَيْسَتْ أُمًّا وَلَا مَنْكُوحَةَ أَب : فَهَذِهِ لَا تُوجَدُ فِي
النَّسَبِ
؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : تَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ فَلَا يَحْرُمُ
نَظِيرُهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَتَبْقَى أُمُّ الْأُمِّ مِنْ النَّسَبِ لِأَخِيهِ
مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ الْأُمُّ مِنْ الرَّضَاعَةِ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ :
لَا نَظِيرَ لَهَا مِنْ الْوِلَادَةِ فَلَا تَحْرُمُ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ طِفْلٍ ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ مَعَ وَلَدِهَا رَضْعَةً أَوْ بَعْضَ
رَضْعَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلِ آخَرَ فَرُزِقَتْ مِنْهُ ابْنَةً : فَهَلْ
يَحِلُّ لِلطِّفْلِ الْمُرْتَضِعِ تَزْوِيجُ الِابْنَةِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ
أَمْ لَا ؟ وَمَا دَلِيلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي
أَنَّ " الْمَصَّةَ الْوَاحِدَةَ " أَوْ " الرَّضْعَةَ
الْوَاحِدَةَ " تُحَرِّمُ ؛ مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي
خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ : مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ }
" وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
لَا تُحَرِّمُ الإملاجة وَلَا الإملاجتان } " وَمِنْهَا " { أَنَّ
رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ
تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ ؟ قَالَ : لَا } " وَمِنْهَا عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ
مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ نُسِخَتْ بِخَمْسِ
مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ
فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ } وَمَا حُجَّتُهُمَا مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
الصَّحِيحَةِ .
فَأَجَابَ
:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ ؛ لِحَدِيثِ
عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ وَحَدِيثِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لَمَّا {
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ
بْنِ عتبة بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ } وَهُوَ فِي
الصَّحِيحِ أَيْضًا فَيَكُونُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْ فَيَحْتَاجُ إلَى
خَمْسِ رَضَعَاتٍ . وَقِيلَ يُحَرِّمُ الثَّلَاثُ فَصَاعِدًا وَهُوَ قَوْلُ "
طَائِفَةٍ " مِنْهُمْ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد
. وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحِ : { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا
الْمَصَّتَانِ وَلَا الإملاجة وَلَا الإملاجتان } " قَالُوا : مَفْهُومُهُ
أَنَّ الثَّلَاثَ تُحَرِّمُ وَلَمْ يَحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ .
قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قُرْآنٌ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ وَلَيْسَ
هَذَا بِمُتَوَاتِرِ . فَقَالَ لَهُمْ الْأَوَّلُونَ : مَعَنَا حَدِيثَانِ
صَحِيحَانِ مُثْبِتَانِ . أَحَدُهُمَا يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ حُكْمًا وَكَوْنَهُ
قُرْآنًا . فَمَا ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ يَثْبُتُ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ .
وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا فَهَذَا لَمْ نُثْبِتْهُ وَلَمْ
نَتَصَوَّرْ أَنَّ ذَلِكَ قُرْآنٌ ؛ إنَّمَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ .
فَقَالَ أُولَئِكَ : هَذَا تَنَاقُضٌ وَقِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ؛
فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ
بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ كَقِرَاءَةِ
ابْنِ مَسْعُودٍ : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ . وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ هَذَا فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ صَحِيحٌ وَأَيْضًا فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ بَقِيَ قُرْآنٌ لَكِنْ بَقِيَ حُكْمُهُ . و " الثَّانِي " أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ بَلْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ إذَا صَحَّ النَّقْلُ بِهَا عَنْ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُحَرِّمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؛ وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَهَؤُلَاءِ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ } وَقَالَ اسْمُ " الرَّضَاعَةِ " فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقٌ . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَتَقْيِيدُ مُطْلَقِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ . فَقَالَ " الْأَوَّلُونَ " : هَذِهِ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَكَوْنُهَا لَمْ تَبْلُغْ بَعْضَ السَّلَفِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ صِحَّتَهَا . وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : فَكَمَا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِدَلِيلِ آخَرَ أَنَّ الرَّضَاعَةَ مُقَيَّدَةٌ بِسِنِّ مَخْصُوصٍ فَكَذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِقَدْرِ مَخْصُوصٍ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ عُلِمَ بِالسُّنَّةِ مِقْدَارُ الْفِدْيَةِ فِي قَوْلِهِ : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ خَبَرًا وَاحِدًا ؛ بَلْ كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ " { أَنَّهُ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا } وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؛ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ . وَكَذَلِكَ فُسِّرَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَغَيْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِحَمْلِ قَوْلِهِ { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . وَفُسِّرَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أُمُورٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ : مَا هُوَ مُطْلَقٌ مِنْ الْقُرْآنِ . فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ . وَالتَّقْيِيدُ " بِالْخَمْسِ " لَهُ أُصُولٌ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ وَالصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ خَمْسٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ صَدَقَةٌ وَالْأَوْقَاصُ بَيْنَ النَّصْبِ خَمْسٌ أَوْ عَشْرٌ أَوْ خَمْسُ عَشَرَةٍ وَأَنْوَاعُ الْبِرِّ خَمْسٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وَقَالَ فِي الْكُفْرِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَأُولُو الْعَزْمِ ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ بِقَدْرِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ لَيْسَ بِغَرِيبِ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ . وَالرَّضَاعُ إذَا حَرَّمَ لِكَوْنِهِ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ فَيَصِيرُ نَبَاتُهُ بِهِ كَنَبَاتِهِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَحْرُمْ رَضَاعُ الْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَالرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا كَمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ مَا دُون نِصَابِ السَّرِقَةِ حَتَّى لَا تُقْطَعَ الْأَيْدِي بِشَيْءِ مِنْ التَّافِهِ ؛ وَاعْتِبَارُهُ فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ إذَا كَانَ أَقَلَّ . وَلَا بُدَّ مِنْ حَدٍّ فَاصِلٍ . فَهَذَا هُوَ
التَّنْبِيهُ
عَلَى مَأْخَذِ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَبَسْطُ الْكَلَامِ
فِيهَا يَحْتَاجُ إلَى وَرَقَةٍ أَكْبَرَ مِنْ هَذِهِ ؛ وَهِيَ مِنْ أَشْهَرِ
مَسَائِلِ النِّزَاعِ . وَالنِّزَاعُ فِيهَا مِنْ زَمَانِ الصَّحَابَةِ
وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَنَازَعُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
وَالتَّابِعُونَ بَعْدَهُمْ . وَأَمَّا إذَا شُكَّ : هَلْ دَخَلَ اللَّبَنُ فِي
جَوْفِ الصَّبِيِّ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ ؟ فَهُنَا لَا نَحْكُمُ بِالتَّحْرِيمِ
بِلَا رَيْبٍ . وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي فَمِهِ فَإِنَّ حُصُولَ
اللَّبَنِ فِي الْفَمِ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ أُخْتَيْنِ وَلَهُمَا بَنَاتٌ وَبَنِينَ فَإِذَا أَرْضَعَ الْأُخْتَانِ :
هَذِهِ بَنَاتَ هَذِهِ وَهَذِهِ بَنَاتَ هَذِهِ : فَهَلْ يَحْرُمْنَ عَلَى
الْبَنِينَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَرْضَعَتْ الْمَرْأَةُ الطِّفْلَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ
صَارَتْ بِنْتًا لَهَا ؛ فَصَارَ جَمِيعُ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ إخْوَةً
لِهَذِهِ الْمُرْتَضِعَةِ : ذُكُورُهُمْ ؛ وَإِنَاثُهُمْ مَنْ وُلِدَ قَبْلَ
الرَّضَاعِ ؛ وَمَنْ وُلِدَ بَعْدَهُ . فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلَادِ
الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَضِعَةَ ؛ بَلْ يَجُوزُ لِإِخْوَةِ
الْمُرْتَضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِأَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ الَّذِينَ لَمْ
يَرْتَضِعُوا مِنْ أُمِّهِنَّ . فَالتَّحْرِيمُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُرْتَضِعَةِ
؛ لَا عَلَى
إخْوَتِهَا
الَّذِينَ لَمْ يَرْتَضِعُوا . فَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُخْتِهِ إذَا
كَانَ هُوَ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ أُمِّهَا وَهِيَ لَمْ تَرْضَعْ مِنْ أُمِّهِ .
وَأَمَّا هَذِهِ الْمُرْتَضِعَةُ فَلَا تَتَزَوَّجُ وَاحِدًا مِنْ أَوْلَادِ مَنْ
أَرْضَعَتْهَا . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ
الْمُرْتَضِعَةَ تَصِيرُ الْمُرْضِعَةُ أُمَّهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا
أَوْلَادُهَا وَتَصِيرُ إخْوَتُهَا وَأَخَوَاتُهَا وَأَخْوَالُهَا وَخَالَاتُهَا
وَيَصِيرُ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ اللَّبَنُ أَبَاهَا وَأَوْلَادُهُ مِنْ تِلْكَ
الْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا إخْوَتَهَا وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ أَعْمَامَهَا
وَعَمَّاتِهَا وَيَصِيرُ الْمُرْتَضِعُ وَأَوْلَادُهُ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِ
أَوْلَادَ الْمُرْضِعَةِ وَالرَّجُلِ الَّذِي دَرَّ اللَّبَنَ بِوَطْئِهِ .
وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ وَأَخَوَاتُهُ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ
فَهُمْ أَجَانِبُ ؛ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الرَّضَاعِ شَيْءٌ . وَهَذَا
كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ نِزَاعٌ فِي غَيْرِ
ذَلِكَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ ارْتَضَعَ مَعَ رَجُلٍ وَجَاءَ لِأَحَدِهِمَا بِنْتٌ : فَهَلْ
لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْبِنْتِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ الطِّفْلُ مِنْ الْمَرْأَةِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ
صَارَ ابْنًا لَهَا وَصَارَ جَمِيعُ أَوْلَادِهَا إخْوَتَهُ الَّذِينَ
وَلَدَتْهُمْ قَبْلَ الرَّضَاعَةِ وَاَلَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الرَّضَاعَةِ
. وَالرَّضَاعَةُ يَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ بِسُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ
يَتَزَوَّجَ بِنْتَ الْآخَرِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ
مِنْ النَّسَبِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بَنَاتُ خَالَةٍ أُخْتَانِ وَاحِدَةٌ رَضَعَتْ مَعَهُ
وَالْأُخْرَى لَمْ تَرْضِعْ مَعَهُ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ
الَّتِي لَمْ تَرْضِعْ مَعَهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ مَعَهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَ ابْنًا لَهَا ؛
حَرُمَ عَلَيْهِ جَمِيعُ بَنَاتِهَا مِنْ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَمَنْ وُلِدَ
بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَمَتَى
ارْتَضَعَتْ الْمَخْطُوبَةُ مِنْ أُمٍّ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ
وَاحِدًا مِنْ بَنِي الْمُرْضِعَةِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَاطِبُ لَمْ
يَرْتَضِعْ مِنْ أُمِّ الْمَخْطُوبَةِ وَلَا هِيَ رَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ ؛
فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ . بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ إخْوَتُهَا تَرَاضَعَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ اسْتَأْجَرَتْ لِبِنْتِهَا مُرْضِعَةً يَوْمًا أَوْ شَهْرًا
وَمَضَتْ السُّنُونَ وَلِلْمُرْضِعَةِ وَلَدٌ قَبْلَهَا : فَهَلْ يَحِلُّ لَهُمَا
الزَّوَاجُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا أَرْضَعَتْهَا الدَّايَةُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي
الْحَوْلَيْنِ صَارَتْ بِنْتًا لَهَا ؛ فَجَمِيعُ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ حَرَامٌ
عَلَى هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ ؛ وَإِنْ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ .
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
يُسْتَتَابُ ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ وَلَكِنْ إذَا كَانَ
لِلْمُرْتَضِعَةِ أَخَوَاتٌ مِنْ النَّسَبِ جَازَ لَهُنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ
بِأَخَوَاتِهَا مِنْ الرَّضَاعِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ امْرَأَةٍ وَقَدْ ارْتَضَعَ طِفْلٌ مِنْ
الْأُولَى وَلِلْأَبِ مِنْ الثَّانِيَةِ بِنْتٌ : فَهَلْ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ
يَتَزَوَّجَ هَذِهِ الْبِنْتَ ؟ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا : فَهَلْ
يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؟ وَهَلْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ .
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذِهِ
الْبِنْتَ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ ؛
لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْفَحْلِ وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ
امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا طِفْلًا وَالْأُخْرَى طِفْلَةً : فَهَلْ
يَتَزَوَّجُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ؟ فَقَالَ : لَا . اللِّقَاحُ وَاحِدٌ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ { عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَالَتْ .
قَالَتْ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ وَكَانَتْ قَدْ
أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَقَالَتْ : لَا آذَنُ لَك حَتَّى
أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ فَسَأَلْته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك يَحْرُمُ
مِنْ
الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } " وَإِذَا تَزَوَّجَهَا
وَدَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ
الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ قَرِينَةٌ لَمْ يَتَرَاضَعْ هُوَ وَأَبُوهَا ؛ لَكِنْ لَهُمَا
إخْوَةٌ صِغَارٌ تَرَاضَعُوا فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا ؟ وَإِنْ
دَخَلَ بِهَا وَرُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا : فَمَا حُكْمُهُمْ ؟ وَمَا قَوْلُ
الْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَرْتَضِعْ هُوَ مِنْ أُمِّهَا وَلَمْ تَرْضِعْ
هِيَ مِنْ أُمِّهِ بَلْ إخْوَتُهُ رَضَعُوا مِنْ أُمِّهَا وَإِخْوَتُهَا رَضَعُوا
مِنْ أُمِّهِ : كَانَتْ حَلَالًا لَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ
أُخْتِ أَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ . فَإِنَّ الرَّضَاعَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ إلَى
الْمُرْتَضِعِ وَذُرِّيَّتِهِ وَإِلَى الْمُرْضِعَةِ وَإِلَى زَوْجِهَا الَّذِي
وَطِئَهَا حَتَّى صَارَ لَهَا لَبَنٌ فَتَصِيرُ الْمُرْضِعَةُ امْرَأَتَهُ
وَوَلَدُهَا قَبْلَ الرَّضَاعِ وَبَعْدَهُ أَخُو الرَّضِيعِ ؛ وَيَصِيرُ الرَّجُلُ
أَبَاهُ وَوَلَدُهُ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَبَعْدَهُ أَخُو الرَّضِيعِ . فَأَمَّا
إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ وَأَبَوْهُ مِنْ النَّسَبِ فَهُمْ أَجَانِبُ
مِنْ أَبَوَيْهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِخْوَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ . وَهَذَا
كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ انْتِشَارَ الْحُرْمَةِ
إلَى الرَّجُلِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى " مَسْأَلَةُ الْفَحْلِ "
وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ . وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ : لَبَنُ
الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ . وَالنُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ : هِيَ تُقَرِّرُ مَذْهَبَ
الْجَمَاعَةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ لِإِحْدَاهُمَا بِنْتَانِ وَلِلْأُخْرَى ذَكَرٌ
وَقَدْ ارْتَضَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْبِنْتَيْنِ وَهِيَ الْكَبِيرَةُ مَعَ
الْوَلَدِ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِاَلَّتِي لَمْ تَرْضِعْ .
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَتْ الْوَاحِدَةُ مِنْ أُمِّ الصَّبِيِّ وَلَمْ يَرْتَضِعْ هُوَ مِنْ
أُمِّهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا : بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ أَوْدَعَتْ بِنْتَهَا عِنْدَ امْرَأَةِ أَخِيهَا وَغَابَتْ
وَجَاءَتْ فَقَالَتْ : أَرْضَعْتهَا . فَقَالَتْ : لَا . وَحَلَفَتْ عَلَى ذَلِكَ
ثُمَّ إنَّ وَلَدَ أَخِيهَا كَبُرَ وَكَبُرَتْ بِنْتُهَا الصَّغِيرَةُ وَأُخْتُهَا
ارْتَضَعَتْ مَعَ أَخِيهِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا فَهَلْ يَجُوزُ
ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ الْبِنْتُ لَمْ تَرْضَعْ مِنْ أُمِّ الْخَاطِبِ وَلَا الْخَاطِبُ
ارْتَضَعَ مِنْ أُمِّهَا : جَازَ أَنَّ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَإِنْ
كَانَ أَخُوهَا وَأَخَوَاتُهَا مِنْ أُمِّ الْخَاطِبِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا
يُؤَثِّرُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ الطِّفْلُ إذَا ارْتَضَعَ مِنْ
امْرَأَةٍ
صَارَتْ أُمَّهُ وَزَوْجُهَا صَاحِبُ اللَّبَنِ أَبَاهُ وَصَارَ أَوْلَادُهَا إخْوَتَهُ
وَأَخَوَاتِهِ . وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ وَأَبُوهُ مِنْ
النَّسَبِ وَأُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ فَهُمْ أَجَانِبُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ
يَتَزَوَّجُوا أَخَوَاتِهِ كَمَا يَجُوزُ مِنْ النَّسَبِ أَنْ تَتَزَوَّجَ أُخْتُ
الرَّجُلِ مِنْ أُمِّهِ بِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ . وَكُلُّ هَذَا مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا نِزَاعٍ فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ ذَاتِ بَعْلٍ وَلَهَا لَبَنٌ عَلَى غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا حَمْلٍ
فَأَرْضَعَتْ طِفْلَةً لَهَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ
وَهَذِهِ الْمُرْضِعَةُ عَمَّةُ الرَّضِيعَةِ مِنْ النَّسَبِ ثُمَّ أَرَادَ ابْنُ
بِنْتِ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَذِهِ الرَّضِيعَةِ : فَهَلْ
يَحْرُمُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا وَطِئَهَا زَوْجٌ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ثَابَ لَهَا لَبَنٌ : فَهَذَا
اللَّبَنُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فَإِذَا ارْتَضَعَتْ طِفْلَةٌ خَمْسَ رَضَعَاتٍ
صَارَتْ بِنْتَهَا وَابْنُ بِنْتِهَا ابْنَ أُخْتِهَا وَهِيَ خَالَتُهُ سَوَاءٌ
كَانَ الِارْتِضَاعُ مَعَ طِفْلٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَأَمَّا أُخْتُهَا مِنْ
النَّسَبِ الَّتِي لَمْ تَرْضِعْ فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا . وَلَوْ
قَدَّرَ أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ ثَابَ لِامْرَأَةٍ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ فَهَذَا
يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَنْشُرُ
الْحُرْمَةَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ قَرِيبَتَهُ فَقَالَ : وَالِدُهَا هِيَ رَضَعَتْ مَعَك وَنَهَاهُ
عَنْ التَّزْوِيجِ بِهَا فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ تَزَوَّجَ بِهَا وَكَانَ
الْعُدُولُ شَهِدُوا عَلَى وَالِدَتِهَا أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ أَنْكَرَتْ وَقَالَتْ : مَا قُلْت هَذَا الْقَوْلَ إلَّا لِغَرَضِ : فَهَلْ
يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مَعْرُوفَةً بِالصِّدْقِ وَذَكَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ
خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ فَيُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا إذَا تَزَوَّجَهَا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا ثَبَتَ
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ لَمَّا
ذَكَرَتْ الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا } " . وَأَمَّا
إذَا شَكَّ فِي صِدْقِهَا أَوْ فِي عَدَدِ الرَّضَعَاتِ : فَإِنَّهَا تَكُونُ مِنْ
الشُّبُهَاتِ : فَاجْتِنَابُهَا أَوْلَى وَلَا يُحْكَمُ بِالتَّفْرِيقِ
بَيْنَهُمَا إلَّا بِحُجَّةِ تُوجِبُ ذَلِكَ . وَإِذَا رَجَعَتْ عَنْ الشَّهَادَةِ
قَبْلَ التَّزْوِيجِ لَمْ تَحْرُمْ الزَّوْجَةُ ؛ لَكِنْ إنْ عُرِفَ أَنَّهَا
كَاذِبَةٌ فِي رُجُوعِهَا وَأَنَّهَا رَجَعَتْ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا حَتَّى
كَتَمَتْ الشَّهَادَةَ : لَمْ يَحِلَّ التَّزْوِيجُ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ ؛ وَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ عَدِيدَةٌ
فَلَمَّا كَانَ فِي فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ حَضَرَ مَنْ نَازَعَ الزَّوْجَةَ
وَذَكَرَ لِزَوْجِهَا أَنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ فِي عِصْمَتِك شَرِبَتْ مِنْ
لَبَنِ أُمِّك ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ وَهُوَ خَبِيرٌ بِمَا ذَكَرَ
وَأَخْبَرَ أَنَّهَا رَضَعَتْ مِنْ أُمِّ الزَّوْجِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي
الْحَوْلَيْنِ : رُجِعَ إلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ ؛ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ
الرُّجُوعُ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَايَنَ الرَّضَاعَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ عَلَى بِنْتٍ لَهَا ؛
وَلَهَا أَخَوَاتٌ أَصْغَرُ مِنْهَا : فَهَلْ يَحْرُمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ أَمْ لَا
؟
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَ ابْنًا
لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَجَمِيعُ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ وُلِدُوا قَبْلَ
الرَّضَاعِ ؛ وَاَلَّذِينَ وُلِدُوا بَعْدَهُ : هُمْ إخْوَةٌ لِهَذَا
الْمُرْتَضِعِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أُخْتَيْنِ إحْدَاهُمَا لَهَا ابْنٌ ذَكَرٌ وَالْأُخْرَى لَهَا أُنْثَى
فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الذَّكَرِ الْأُنْثَى وَلَمْ تُرْضِعْ أُمُّ الْأُنْثَى
الذَّكَرَ ثُمَّ جَاءَتْ هَذِهِ بَنَاتٌ وَهَذِهِ ذُكُورٌ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ
يَتَزَوَّجَ أَخُو الْمُرْتَضِعِ بِالْبِنْتِ الَّتِي ارْتَضَعَتْ بِلَبَنِ
أَخِيهِ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ هَلْ يَتَزَوَّجُ أَوْلَادُ هَذِهِ بِأَوْلَادِ
هَذِهِ بِسِوَى الْمُرْضِعَيْنِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْأُنْثَى الْمُرْتَضِعَةُ لَا تَتَزَوَّجُ أَحَدًا مِنْ
أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ ؛ لَا مَنْ وُلِدَ لَهَا قَبْلَ الرَّضَاعَةِ وَلَا بَعْدَهَا
. وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعَةِ فَيَتَزَوَّجُونَ مَنْ شَاءُوا مِنْ أَوْلَادِ
الْمُرْضِعَةِ . فَيَتَزَوَّجُ وَاحِدٌ لَمْ يَرْتَضِعْ بِأَوْلَادِ الْمَرْأَةِ
الَّتِي لَمْ تُرْضِعْهُ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِأَحَدِ مِنْ أَوْلَادِ مَنْ
أَرْضَعَتْهُ . وَإِذَا رَضَعَ طِفْلٌ مِنْ أُمِّ هَذَا ؛ أَوْ طِفْلَةٌ مِنْ
أَوْلَادِ هَذَا : لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْلَادَ
الْأُخْرَى ؛ وَيَجُوزُ لِإِخْوَةِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَرَاضِعَيْنِ أَنْ
يَتَزَوَّجَ بِإِخْوَةِ الْآخَرِ إذَا لَمْ يَرْضَعْ وَاحِدٌ مِنْهَا مِنْ أُمِّ
الْآخَرِ ؛ وَالتَّحْرِيمُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُرْتَضِعِ خَاصَّةً ؛
دُونَ مَنْ لَمْ يَرْضِعْ مِنْ إخْوَتِهِ ؛ لَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ جَمِيعُ
أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ رَمِدَ فَغَسَلَ عَيْنَيْهِ بِلَبَنِ زَوْجَتِهِ : فَهَلْ تَحْرُمُ
عَلَيْهِ . إذَا حَصَلَ لَبَنُهَا فِي بَطْنِهِ ؟ وَرَجُلٌ يُحِبُّ زَوْجَتَهُ
فَلَعِبَ مَعَهَا فَرَضِعَ مِنْ لَبَنِهَا : فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَا غَسَلَ عَيْنَيْهِ بِلَبَنِ امْرَأَتِهِ يَجُوزُ وَلَا
تَحْرُمُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ لِوَجْهَيْنِ . " أَحَدُهُمَا "
أَنَّهُ كَبِيرٌ . وَالْكَبِيرُ إذَا ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ
امْرَأَتِهِ لَمْ تُنْشَرْ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ؛ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ
مُخْتَصٌّ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَبَنَّوْهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ
التَّبَنِّي . " الثَّانِي " أَنَّ حُصُولَ اللَّبَنِ فِي الْعَيْنِ لَا
يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا ؛ وَلَكِنْ تَنَازَعَ
الْعُلَمَاءُ فِي السَّعُوطِ وَهُوَ مَا إذَا دَخَلَ فِي أَنْفِهِ بَعْدَ
تَنَازُعِهِمْ فِي الْوُجُورِ وَهُوَ مَا يُطْرَحُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رَضَاعٍ
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوُجُورَ يَحْرُمُ وَهُوَ أَشْهَرُ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ السَّعُوطُ فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ . وَالْجَوَابُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ
ارْتِضَاعَهُ لَا يُحَرِّمُ امْرَأَتَهُ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
.
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
إذَا ارْتَضَعَ الطِّفْلُ مِنْ امْرَأَةٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ
لَهُ حَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ وَلَدَهَا ؛ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ
وُلِدَ لَهَا قَبْلَ الرَّضَاعِ وَبَعْدَهُ ؛ وَيَصِيرُ زَوْجُهَا الَّذِي
أَحْبَلَهَا دَرَّ لَبَنَهَا أَبَاهُ ؛ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَوْلَادِ
ذَلِكَ الرَّجُلِ . فَإِذَا ارْتَضَعَتْ امْرَأَتُهُ طِفْلًا وَطِفْلَةً كُلَّ
وَاحِدٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ؛
بَلْ هُمَا أَخَوَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَبِيٍّ أَرْضَعَتْهُ كَرَّتَيْنِ ثُمَّ حَمَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَشْرِ
سِنِينَ ؛ وَجَاءَتْ بِبِنْتٍ وَصَارَ الصَّبِيُّ شَابًّا : فَهَلْ لَهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَ بِتِلْكَ الْبِنْتِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ مِنْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي حَوْلَيْنِ فَقَدْ صَارَ ابْنُهَا ؛
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا وَلَدَتْهُ الْمَرْأَةُ : سَوَاءٌ وَلَدَتْهُ
قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ : بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
و
" الرَّضْعَةُ " أَنْ يَلْتَقِمَ الثَّدْيَ فَيَشْرَبَ مِنْهُ ثُمَّ
يَدَعُهُ : فَهَذِهِ رَضْعَةٌ . فَإِذَا كَانَ فِي كَرَّةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ جَرَى
لَهُ خَمْسُ مَرَّاتٍ فَهَذِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ ؛ وَإِنْ جَرَى ذَلِكَ خَمْسَ
مَرَّاتٍ فِي كَرَّتَيْنِ فَهُوَ أَيْضًا خَمْسُ رَضَعَاتٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ
بِالرَّضْعَةِ مَا يَشْرَبُهُ فِي نَوْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي شُرْبِهِ ؛ فَإِنَّهَا
قَدْ تُرْضِعُهُ بِالْغَدَاةِ ثُمَّ بِالْعَشِيِّ وَيَكُونُ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ
قَدْ أَرْضَعَتْهُ رَضَعَاتٍ كَثِيرَةً . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الصَّبِيِّ إذَا رَضَعَ مِنْ غَيْرِ أُمِّهِ ؛ وَكَذَلِكَ الصَّبِيَّةُ إذَا
رَضَعَتْ : مَاذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ وَمَا حَدُّ
الرَّضْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ ؟ وَهَلْ لِلرَّضَاعَةِ بَعْدَ الْفِطَامِ تَأْثِيرٌ
فِي التَّحْرِيمِ ؟ وَهَلْ تَبْقَى الْمَرْأَةُ حَرَامٌ عَلَى مَنْ تَعَدَّى
سِنِينَ الرَّضَاعَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ الطِّفْلُ أَوْ الطِّفْلَةُ مِنْ امْرَأَةٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي
الْحَوْلَيْنِ فَقَدْ صَارَ وَلَدَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ وَصَارَ الرَّجُلُ
الَّذِي دَرَّ اللَّبَنَ بِوَطْئِهِ أَبَاهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِخْوَةُ
الْمَرْأَةِ أَخْوَالَهُ وَخَالَاتِهِ وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ أَعْمَامَهُ
وَعَمَّاتِهِ . وَآبَاؤُهَا أَجْدَادَهُ وَجَدَّاتِهِ ؛ وَأَوْلَادُ كُلٍّ
مِنْهُمَا إخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ . وَكُلُّ هَؤُلَاءِ حَرَامٌ عَلَيْهِ
فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ . وَكَذَلِكَ
أَوْلَادُ هَذَا الْمُرْتَضِعِ يَحْرُمُونَ عَلَى أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ ؛
وَإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَأَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ ؛
وَأَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ . وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَيَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ وَمِنْ جِهَةِ الْوَلَدِ . وَأَمَّا أَبُو الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ وَأُمَّهَاتُهُ وَإِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ مِنْ النَّسَبِ : فَكُلُّ هَؤُلَاءِ أَجَانِبُ مِنْ الْمُرْتَضِعَةِ وَأَقَارِبِهَا : بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَيَجُوزُ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَه مِنْ الرَّضَاعَةِ وَيَجُوزُ لِجَمِيعِ إخْوَةِ الْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِمَنْ شَاءُوا مِنْ بَنَاتِ الْمُرْضِعَةِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الَّتِي أُرْضِعَتْ مَعَ الطِّفْلِ وَغَيْرُهَا . وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ ؛ لَا بِمَنْ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَلَا مَنْ وُلِدَ بَعْدَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ إخْوَةِ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ الَّذِينَ هُمْ أَجَانِبُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَوْلَادِ الْمُرْتَضِعَةِ الَّذِينَ إخْوَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَيَجْعَلُ الْجَمِيعَ نَوْعًا وَاحِدًا ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ يَجُوزُ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا مِنْ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا الْمُرْتَضِعُ فَلَا يَتَزَوَّجُ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ . وَلَوْ تَرَاضَعَ طِفْلَانِ فَرَضَعَ هَذَا أُمَّ هَذَا وَرَضَعَتْ هَذِهِ أُمَّ هَذَا وَلَمْ يَرْضَعْ أَحَدٌ مِنْ إخْوَتِهَا مِنْ أُمِّ الْآخَرِ حَرُمَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْلَادَ مُرْضِعَتِهِ سَوَاءٌ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى أَخٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ الْآخَرِ مِنْ الرَّضَاعَةِ .
و " الرَّضَاعَةُ الْمُحَرِّمَةُ بِلَا رَيْبٍ " أَنْ يَرْضَعَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَيَأْخُذَ الثَّدْيَ فَيَشْرَبَ مِنْهُ ثُمَّ يَدَعَهُ ثُمَّ يَأْخُذَهُ فَيَشْرَبَ مَرَّةً ثُمَّ يَدَعَهُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ مِثْلَ غَدَائِهِ وَعَشَائِهِ . وَأَمَّا دُونَ الْخَمْسِ فَلَا يُحَرِّمُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : يُحَرِّمُ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ : كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَقِيلَ لَا يُحَرِّمُ إلَّا ثَلَاثُ رَضَعَاتٍ . وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ عَنْهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ { كَانَ مِمَّا نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشَرُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ } " " وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ امْرَأَةً أَنْ تُرْضِعَ شَخْصًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ ؛ لِتَحْرُمَ عَلَيْهِ } . " وَالرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ " مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ ؛ فَإِنَّ تَمَامَ الرَّضَاعِ حَوْلَانِ كَامِلَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } وَمَا كَانَ بَعْدَ تَمَامِ الرَّضَاعَةِ فَلَيْسَ مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ فَقَالَ مَنْ هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ قُلْت : أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ قَالَ . يَا عَائِشَةُ اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ ؟ إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ } . وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي : " الثَّدْيِ " أَيْ وَقْتُهُ وَهُوَ الْحَوْلَانِ كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ { إنَّ ابْنِي إبْرَاهِيمَ مَاتَ فِي الثَّدْيِ } أَيْ وَهُوَ فِي زَمَنِ الرَّضَاعِ . وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَلَا بَعْدَ الْفِطَامِ وَإِنْ كَانَ الْفِطَامُ قَبْلَ تَمَامَ الْحَوْلَيْنِ . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ إرْضَاعَ الْكَبِيرِ يُحَرِّمُ . وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِعَائِشَةَ : إنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْك الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : مَا لَك فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قَالَتْ : إنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ رَجُلٌ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْك } وَفِي رِوَايَةٍ لِمَالِكِ فِي الْمُوَطَّأِ قَالَ : " { أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ } " فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخَذَتْ بِهِ عَائِشَةُ وَأَبَى غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذْنَ بِهِ ؛ مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ عَنْهُ قَالَ : " { الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } " لَكِنَّهَا رَأَتْ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ رَضَاعَةً أَوْ تَغْذِيَةً . فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ الثَّانِي لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ . وَهَذَا هُوَ إرْضَاعُ عَامَّةِ النَّاسِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَجُوزُ إنْ اُحْتِيجَ إلَى جَعْلِهِ ذَا مَحْرَمٍ . وَقَدْ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا . وَهَذَا قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ . وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ طَاهِرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَكِنْ شَكَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ . هُوَ نَجِسٌ .
وَتَنَازَعَ
الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ مُنْفَرِدًا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
. وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يَجُوزُ بَيْعُ
لَبَنِ الْأَمَةِ دُونَ لَبَنِ الْحُرَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا لَهَا ابْنٌ وَالْأُخْرَى بِنْتٌ فَأَرْضَعَتْ
أُمُّ الْبِنْتِ الِابْنَ مِرَارًا ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ ؛ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُ
ابْنٌ آخَرُ وَلَمْ يَرْضِعْ مِمَّا رَضَعَ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَ بِالْبِنْتِ الْمَذْكُورَةِ ؟ أَمْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ
رَضَاعَةِ أَخِيهِ .
الْجَوَابُ :
إذَا أَرَادَ أَخُو الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْلَادَ
الْمُرْضِعَةِ جَازَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرْتَضِعُ
حَيًّا أَوْ مَيِّتًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بِنْتُ عَمٍّ ؛ وَوَالِدُ الْبِنْتِ الْمَذْكُورَةِ قَدْ رَضَعَ
بِأُمِّ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ مَعَ أَحَدِ إخْوَتِهِ وَذَكَرَتْ أُمُّ الرِّجْلِ
الْمَذْكُورِ : أَنَّهُ لَمَّا رَضَعَهَا كَانَ عُمْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَوْلَيْنِ
: فَهَلْ لِلرَّجُلِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الرَّضَاعُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ أَعْطَتْ لِامْرَأَةٍ أُخْرَى وَلَدًا ؛ وَهُمَا فِي الْحَمَّامِ
فَلَمْ تَشْعُرْ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَخَذَتْ الْوَلَدَ إلَّا وَثَدْيُهَا فِي
فَمِ الصَّبِيِّ فَانْتَزَعَتْهُ مِنْهُ فِي سَاعَتِهِ وَمَا عَلِمَتْ هَلْ
ارْتَضَعَ أَمْ لَا : فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ أَنْ
يَتَزَوَّجَ مِنْ بَنَاتِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ ؛ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ بِذَلِكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً
مِنْ أَوْلَادِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّهُ وَلَا تَحْرُمُ
عَلَيْهِ بِالشَّكِّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
بَابُ
النَّفَقَاتِ وَالْحَضَانَةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي قَوْله تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا
} إلَى قَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } مَعَ
قَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } إلَى
قَوْلِهِ : { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } وَفِي ذَلِكَ أَنْوَاعٌ
مِنْ الْأَحْكَامِ بَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُتَنَازَعٌ فِيهِ .
وَإِذَا تَدَبَّرْت كِتَابَ اللَّهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يُفَصِّلُ النِّزَاعَ
بَيَّنَ مَنْ يَحْسُنُ الرَّدُّ إلَيْهِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إلَى ذَلِكَ ؛
فَهُوَ إمَّا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ فَيُعْذَرَ . أَوْ لِتَفْرِيطِهِ فَيُلَامَ
.
وقَوْله تَعَالَى { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَامُ الرَّضَاعَةِ وَمَا بَعْدَ
ذَلِكَ فَهُوَ غِذَاءٌ مِنْ الْأَغْذِيَةِ . وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ :
الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ . وَقَوْلُهُ :
{ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ " الْحَوْلَيْنِ
" يَقَعُ عَلَى حَوْلٍ وَبَعْضِ آخَرَ . وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ
يُقَالُ : لِفُلَانِ عِشْرُونَ عَامًا إذَا أَكْمَلَ ذَلِكَ . قَالَ الْفَرَّاءُ
وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا : لَمَّا جَازَ أَنْ يَقُولَ : " حَوْلَيْنِ
" وَيُرِيدُ أَقَلَّ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ
فِي يَوْمَيْنِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ
فِي يَوْمٍ وَبَعْضِ آخَرَ ؛ وَتَقُولُ : لَمْ أَرَ فُلَانًا يَوْمَيْنِ . وَإِنَّمَا تُرِيدُ يَوْمًا وَبَعْضَ آخَرَ . قَالَ " كَامِلَيْنِ " لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُمَا . وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } فَإِنَّ لَفْظَ " الْعَشَرَةِ " يَقَعُ عَلَى تِسْعَةٍ وَبَعْضِ الْعَاشِرِ . فَيُقَالُ : أَقَمْت عَشَرَةَ أَيَّامٍ . وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا . فَقَوْلُهُ هُنَاكَ { كَامِلَةٌ } بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ هُنَا { كَامِلَيْنِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ : قَالَ { الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مَوْفُورًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ } " فَالْكَامِلُ الَّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ إذْ الْكَمَالُ ضِدُّ النُّقْصَانِ . وَأَمَّا " الْمُوَفَّرُ " فَقَدْ قَالَ : أَجْرُهُمْ مُوَفَّرًا . يُقَالُ : الْمُوَفَّرُ . لِلزَّائِدِ ؛ وَيُقَالُ : لَمْ يُكْلَمْ . أَيْ يُجْرَحْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " كِتَابِ الزُّهْدِ " عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ : { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى وَمَا ذَاكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي سَالِمًا مُوَفَّرًا ؛ لَمْ تَكْلِمْهُ الدُّنْيَا وَلَمْ تَكْلِمْهُ نطعة الْهَوَى } وَكَانَ هَذَا تَغْيِيرَ الصِّفَةِ وَذَاكَ نُقْصَانَ الْقَدْرِ وَذَكَرَ " أَبُو الْفَرَجِ " هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْوَالِدَاتِ ؟ أَوْ يَخْتَصُّ بِالْمُطَلَّقَاتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْخُصُوصُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ والسدي وَمُقَاتِلٍ فِي آخَرِينَ . وَالْعُمُومُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي آخَرِينَ . قَالَ الْقَاضِي وَلِهَذَا نَقُولُ : لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا لِرِضَاعِ وَلَدِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ الزَّوْجِ أَوْ مُطَلَّقَةً . " قُلْت " الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّهَا أَوْجَبْت لِلْمُرْضِعَاتِ رِزْقَهُنَّ وَكِسْوَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ؛ لَا زِيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ . وَهُوَ يَقُولُ : تُؤَجِّرُ نَفْسَهَا
بِأُجْرَةِ غَيْرِ النَّفَقَةِ . وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ بَلْ إذَا كَانَتْ الْآيَةُ عَامَّةً دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا تُرْضِعُ وَلَدَهَا مَعَ إنْفَاقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَتَدْخُلُ نَفَقَةُ الْوَلَدِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَغَذَّى بِغِذَاءِ أُمِّهِ وَكَذَلِكَ فِي حَالِ الرَّضَاعِ فَإِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ هِيَ نَفَقَةُ الْمُرْتَضِعِ . وَعَلَى هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ؛ فَاَلَّذِينَ خَصُّوهُ بِالْمُطَلَّقَاتِ أَوْجَبُوا نَفَقَةً جَدِيدَةً بِسَبَبِ الرَّضَاعِ كَمَا ذُكِرَ فِي " سُورَةِ الطَّلَاقِ " وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْمُطَلَّقَةِ وقَوْله تَعَالَى { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } قَدّ عُلِمَ أَنَّ مَبْدَأَ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ الْوِلَادَةِ وَالْكَمَالَ إلَى نَظِيرِ ذَلِكَ . فَإِذَا كَانَ مِنْ عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ كَانَ الْكَمَالُ فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ ؛ فَإِنَّ الْحَوْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْ الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَهَكَذَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِدَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا أَوَّلُهَا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ وَآخِرُهَا إذَا مَضَتْ عَشْرٌ بَعْدَ نَظِيرِهِ ؛ فَإِذَا كَانَ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ فَآخِرُهَا خَامِسُ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ وَكَذَلِكَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى فِي الْبُيُوعِ وَسَائِرِ مَا يُؤَجَّلُ بِالشَّرْعِ وَبِالشَّرْطِ . وَلِلْفُقَهَاءِ هُنَا قَوْلَانِ آخَرَانِ ضَعِيفَانِ . " أَحَدُهُمَا " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إذَا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ كَانَ جَمِيعُ الشُّهُورِ بِالْعَدَدِ فَيَكُونُ الْحَوْلَانِ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَزِيدُ الْمُدَّةُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ .
و " الْقَوْلُ الثَّانِي " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : مِنْهَا وَاحِدٌ بِالْعَدَدِ وَسَائِرُهَا بِالْأَهِلَّةِ . وَهَذَا أَقْرَبُ ؛ لَكِنْ فِيهِ غَلَطٌ ؛ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمَبْدَأُ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ نَقَصَ الْمُحَرَّمُ كَانَ تَمَامُهُ تَاسِعَهُ فَيَكُونُ التَّكْمِيلُ أَحَدَ عَشَرَ فَيَكُونُ الْمُنْتَهِي حَادِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا . وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأُمِّ إرْضَاعُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { يُرْضِعْنَ } خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ . وَهِيَ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ ؛ وَلِهَذَا تَأَوَّلَهَا مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : وَهَذَا الْأَمْرُ انْصَرَفَ إلَى الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ الِاسْتِرْضَاعَ ؛ لَا عَلَى الْوَالِدَاتِ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } وَقَوْلُهُ : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَلَوْ كَانَ مُتَحَتِّمًا عَلَى الْوَالِدَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ . فَيُقَالُ : بَلْ الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِلِابْنِ عَلَى الْأُمِّ الْفِعْلَ وَعَلَى الْأَبِ النَّفَقَةَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَالْأَجْنَبِيَّةُ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا . وقَوْله تَعَالَى { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ إتْمَامَ الرَّضَاعِ وَيَجُوزُ الْفِطَامُ قَبْلَ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَصْلَحَةً وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْصَلُ إلَّا بِرِضَى الْأَبَوَيْنِ فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الْإِتْمَامَ وَالْآخَرُ الْفِصَالَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } وقَوْله تَعَالَى { يُرْضِعْنَ } صِيغَةُ خَبَرٍ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ . وَالتَّقْدِيرُ وَالْوَالِدَةُ مَأْمُورَةٌ بِإِرْضَاعِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ إذَا أُرِيدَ إتْمَامُ الرَّضَاعَةِ ؛ فَإِذَا أَرَادَتْ الْإِتْمَامَ كَانَتْ مَأْمُورَةً بِذَلِكَ وَكَانَ عَلَى الْأَبِ رِزْقُهَا وَكِسْوَتُهَا وَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ الْإِتْمَامَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُبَحْ الْفِصَالُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } . وَلَفْظَةُ ( مَنْ ) إمَّا أَنْ يُقَالَ : هُوَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَيَدْخُلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فَمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ أَرْضَعْنَ لَهُ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : قَوْله تَعَالَى { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } إنَّمَا هُوَ الْمَوْلُودُ لَهُ وَهُوَ الْمُرْضِعُ لَهُ . فَالْأُمُّ تَلِدُ لَهُ وَتُرْضِعُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } . وَالْأُمُّ كَالْأَجِيرِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ . فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ الْإِتْمَامَ أَرْضَعْنَ لَهُ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يُتِمَّ فَلَهُ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَمَنْطُوقُ الْآيَةِ أَمْرُهُنَّ بِإِرْضَاعِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الْأَبِ وَمَفْهُومُهَا أَيْضًا جَوَازُ الْفَصْلِ بِتَرَاضِيهِمَا . يَبْقَى إذَا أَرَادَتْ الْأُمُّ دُونَ الْأَبِ مَسْكُوتًا عَنْهُ ؛ لَكِنَّ مَفْهُومَ قَوْله تَعَالَى { عَنْ تَرَاضٍ } أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ ؛ وَلَكِنْ تَنَاوَلَهُ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَإِنَّهَا إذَا أَرْضَعَتْ تَمَامَ الْحَوْلِ فَلَهُ أَرْضَعَتْ وَكَفَتْهُ بِذَلِكَ مُؤْنَةَ الطِّفْلِ فَلَوْلَا رَضَاعُهَا لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُطْعِمَهُ شَيْئًا آخَرَ .
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْأُمِّ الْإِتْمَامَ إذَا أَرَادَ الْأَبُ وَفِي تِلْكَ بَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْأَبِ الْأَجْرَ إذَا أَبَتْ الْمَرْأَةُ . قَالَ مُجَاهِدٌ : " التَّشَاوُرُ " فِيمَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ : إنْ أَرَادَتْ أَنْ تَفْطِمَ وَأَبَى فَلَيْسَ لَهَا وَإِنْ أَرَادَ هُوَ وَلَمْ تُرِدْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَقَعَ ذَلِكَ عَلَى تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ يَقُولُ : غَيْرُ مُسِيئِينَ إلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا رَضِيعِهِمَا . وقَوْله تَعَالَى { إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } قَالَ إذَا أَسْلَمْتُمْ أَيُّهَا الْآبَاءُ إلَى أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَجْرَ مَا أَرْضَعْنَ قَبْلَ امْتِنَاعِهِنَّ : رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ والسدي . وَقِيلَ : إذَا أَسْلَمْتُمْ إلَى الظِّئْرِ أَجْرَهَا : بِالْمَعْرُوفِ : رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ : ( أَتَيْتُمْ ) بِالْقَصْرِ . وقَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَلَمْ يَقُلْ : وَعَلَى الْوَالِدِ كَمَا قَالَ { وَالْوَالِدَاتُ } لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي تَلِدُهُ وَأَمَّا الْأَبُ فَلَمْ يَلِدْهُ ؛ بَلْ هُوَ مَوْلُودٌ لَهُ لَكِنْ إذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا قِيلَ : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } فَأَمَّا مَعَ الْإِفْرَادِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَتُهُ وَالِدًا بَلْ أَبًا . وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْوَلَدَ وُلِدَ لِلْأَبِ ؛ لَا لِلْأُمِّ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ حَمْلًا وَأُجْرَةَ رَضَاعِهِ . وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْله تَعَالَى { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } فَجَعَلَهُ مَوْهُوبًا لِلْأَبِ . وَجَعَلَ بَيْتَهُ بَيْتَهُ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } وَإِذَا كَانَ الْأَبُ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَيْهِ جَنِينًا وَرَضِيعًا وَالْمَرْأَةُ وِعَاءٌ : فَالْوَلَدُ زَرْعٌ لِلْأَبِ قَالَ تَعَالَى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فَالْمَرْأَةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمَزْرُوعَةُ وَالزَّرْعُ فِيهَا لِلْأَبِ وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ
زَرْعَ غَيْرِهِ } " يُرِيدُ بِهِ النَّهْيَ عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى فَإِنَّ مَاءَ الْوَاطِئِ يَزِيدُ فِي الْحَمْلِ كَمَا يَزِيدُ الْمَاءُ فِي الزَّرْعِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ : " { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ كَيْفَ يُورِثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَكَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ } ؟ " وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ لِلْأَبِ وَهُوَ زَرْعُهُ كَانَ هَذَا مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } " وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } " فَقَدْ حَصَلَ الْوَلَدُ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ ؛ فَإِنَّ الزَّرْعَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ كَسْبُ الْمُزْدَرِعِ لَهُ الَّذِي بَذَرَهُ وَسَقَاهُ وَأَعْطَى أُجْرَةَ الْأَرْضِ فَإِنَّ الرَّجُلَ أَعْطَى الْمَرْأَةَ مَهْرَهَا وَهُوَ أَجْرُ الْوَطْءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } وَقَدْ فُسِّرَ { وَمَا كَسَبَ } بِالْوَلَدِ . فَالْأُمُّ هِيَ الْحَرْثُ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ وَالْأَبُ اسْتَأْجَرَهَا بِالْمَهْرِ كَمَا يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ وَأَنْفَقَ عَلَى الزَّرْعِ بِإِنْفَاقِهِ لَمَّا كَانَتْ حَامِلًا ثُمَّ أَنْفَقَ عَلَى الرَّضِيعِ كَمَا يُنْفِقُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ إذَا كَانَ مَسْتُورًا وَإِذَا بَرَزَ ؛ فَالزَّرْعُ هُوَ الْوَلَدُ وَهُوَ مِنْ كَسْبِهِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ ؛ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَأَنَّ مَالَهُ لِلْأَبِ مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلِابْنِ فَهُوَ مُبَاحٌ لِلْأَبِ أَنْ يَمْلِكَهُ وَإِلَّا بَقِيَ لِلِابْنِ ؛ فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتَمَلَّكْهُ وَرِثَ عَنْ الِابْنِ . وَلِلْأَبِ أَيْضًا أَنْ يَسْتَخْدِمَ الْوَلَدَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ . وَفِي هَذَا وُجُوبُ طَاعَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ مُبَاحًا لَا يَضُرُّ بِالِابْنِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَخْدَمَ عَبَدَهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ اعْتَدَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ فَالِابْنُ أَوْلَى .
وَنَفْعُ الِابْنِ لَهُ إذَا لَمْ يَأْخُذْهُ الْأَبُ ؛ بِخِلَافِ نَفْعِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّهُ لِمَالِكِهِ كَمَا أَنَّ مَالَهُ لَوْ مَاتَ لِمَالِكِهِ لَا لِوَارِثِهِ . وَدَلَّ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا كَانَ كَسَقْيِ الزَّرْعِ يَزِيدُ فِيهِ وَيُنَمِّيهِ وَيَبْقَى لَهُ شَرِكَةٌ فِي الْوَلَدِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْبَادُ هَذَا الْوَلَدِ فَلَوْ مَلَكَ أَمَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ وَوَطِئَهَا حَرُمَ اسْتِعْبَادُ هَذَا الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ سَقَاهُ ؛ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ . وَكَيْفَ يُورِثُهُ أَيْ يَجْعَلُهُ مَوْرُوثًا مِنْهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ } . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ : كَيْفَ يَجْعَلُهُ وَارِثًا . فَقَدْ غَلِطَ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ كَانَتْ أَمَةً لِلْوَاطِئِ وَالْعَبْدُ لَا يُجْعَلُ وَارِثًا إنَّمَا يُجْعَلُ مَوْرُوثًا . فَأَمَّا إذَا اُسْتُبْرِئَتْ الْمَرْأَةُ عُلِمَ أَنَّهُ لَا زَرْعَ هُنَاكَ . وَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ عِنْدَ مَنْ لَا يَطَؤُهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا زَرْعَ هُنَاكَ وَظُهُورُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ هُنَا أَقْوَى مِنْ بَرَاءَتِهَا مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةِ ؛ فَإِنَّ الْحَامِلَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الدَّمِ مِثْلُ دَمِ الْحَيْضِ ؛ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ حَيْضٌ أَوْ لَا ؟ فَالِاسْتِبْرَاءُ لَيْسَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ؛ بَلْ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ . وَالْبَكَارَةُ وَكَوْنُهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِصَبِيِّ أَوْ امْرَأَةٍ أَدَلُّ عَلَى الْبَرَاءَةِ . وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ صَادِقًا وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَاسْتِبْرَاءُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ وَالْعَجُوزُ وَالْآيِسَةُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ .
وَلِهَذَا اضْطَرَبَ الْقَائِلُونَ هَلْ تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرِ ؟ أَوْ شَهْرٍ وَنِصْفٍ ؟ أَوْ شَهْرَيْنِ ؟ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ؟ وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ . وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَبْرِئُ الْبِكْرَ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِالِاسْتِبْرَاءِ إلَّا فِي الْمَسْبِيَّاتِ كَمَا قَالَ فِي سَبَايَا أوطاس : " { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } " لَمْ يَأْمُرْ كُلَّ مَنْ وَرِثَ أَمَةً أَوْ اشْتَرَاهَا أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْحَالِ ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا . وَكَذَلِكَ مَنْ مُلِكَتْ وَكَانَ سَيِّدُهَا يَطَؤُهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا ؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا ؛ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَحَدٌ أَنْ يَبِيعَ أَمَتَهُ الْحَامِلَ مِنْهُ ؛ بَلْ لَا يَبِيعُهَا إذَا وَطِئَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا فَلَا يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى اسْتِبْرَاءٍ ثَانٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَنْهَ عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى مِنْ السَّادَاتِ إذَا مُلِكَتْ بِبَيْعِ أَوْ هِبَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ يَقَعُ ؛ بَلْ هَذِهِ دَخَلَتْ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ . } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْآيَةِ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ هُوَ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُسَمًّى
تَرْجِعَانِ إلَيْهِ . " وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ " إنَّمَا تُقَدَّرُ بِالْمُسَمَّى إذَا كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى يَرْجِعَانِ إلَيْهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لَمَّا كَانَ السِّلْعَةُ هِيَ أَوْ مِثْلُهَا بِثَمَنِ مُسَمًّى وَجَبَ ثَمَنُ الْمِثْلِ إذَا أُخِذَتْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَكَمَا قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قَوَّمَ عَلَيْهِ قِيمَةً عَدْلٌ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ الْعَبْدُ } فَهُنَاكَ أُقِيمَ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّهُ وَمِثْلَهُ يُبَاعُ فِي السُّوقِ فَتُعْرَفُ الْقِيمَةُ الَّتِي هِيَ السِّعْرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ الْأَجِيرُ وَالصَّانِعُ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَلِيِّ { أَنْ يُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْ الْبُدْنِ شَيْئًا وَقَالَ : نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا } " فَإِنَّ الذَّبْحَ وَقِسْمَةَ اللَّحْمِ عَلَى الْمُهْدِي ؛ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْجَازِرِ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ نَظِيرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِثْلُهُ إذَا عَمِلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِزَارَةَ مَعْرُوفَةٌ وَلَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّنَاعَاتِ : كَالْحِيَاكَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْبِنَاءِ . وَقَدْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخِيطُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى عَهْدِهِ فَيَسْتَحِقُّ هَذَا الْخَيَّاطُ مَا يَسْتَحِقُّهُ نُظَرَاؤُهُ وَكَذَلِكَ أَجِيرُ الْخِدْمَةِ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَظِيرُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ النَّاسِ . وَأَمَّا " الْأُمُّ الْمُرْضِعَةُ " فَهِيَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ لَهُنَّ عَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ إلَّا اعْتِبَارُ حَالِ الرَّضَاعِ بِمَا ذُكِرَ وَهِيَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفَقَةٌ عَلَى الْحَمْلِ . وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .
وَلِلْعُلَمَاءِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مُعْتَدَّةٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِلْبَائِنِ كَمَا يُوجِبُهَا لِلرَّجْعِيَّةِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ ؛ وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ل يس لِكَوْنِهَا حَامِلًا تَأْثِيرٌ فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا . " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا نَفَقَةَ زَوْجَةٍ ؛ لِأَجْلِ الْحَمْلِ ؛ كَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ نَفَقَةَ زَوْجَةٍ فَقَدْ وَجَبَ لِكَوْنِهَا زَوْجَةً لَا لِأَجْلِ الْوَلَدِ . وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ تَجِبُ مَعَ غَيْرِ الزَّوْجَةِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى سُرِّيَّتِهِ الْحَامِلِ إذَا أَعْتَقَهَا . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : هَلْ وَجَبَتْ النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ ؟ أَوْ لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَإِنْ أَرَادُوا لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ . أَيْ لِهَذِهِ الْحَامِلِ مِنْ أَجْلِ حَمْلِهَا فَلَا فَرْقَ . وَإِنْ أَرَادُوا - وَهُوَ مُرَادُهُمْ - أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ : فَهَذَا تَنَاقُضٌ فَإِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ . وَنَفَقَةُ الْحَمْلِ تَجِبُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَمْلِ ؛ وَلَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ ؛ لِكَوْنِهَا حَامِلًا بِوَلَدِهِ ؛ فَهِيَ نَفَقَةٌ عَلَيْهِ ؛ لِكَوْنِهِ أَبَاهُ
لَا عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا زَوْجَةً . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَقَالَ هُنَا : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَجَعَلَ أَجْرَ الْإِرْضَاعِ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَامِلِ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَجْرَ الْإِرْضَاعِ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ لِكَوْنِهِ أَبًا فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ ؛ وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ وَرِزْقَهَا وَكِسْوَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَقَدْ جَعَلَ أَجْرَ الْمُرْضِعَةِ كَذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } أَيْ وَارِثِ الطِّفْلِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ . وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ مِنْ " بَابِ نَفَقَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ " ؛ لَا مِنْ " بَابِ نَفَقَةِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ " . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً بَلْ كَانَتْ حَامِلًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ يَلْحَقهُ نَسَبُهُ أَوْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ وَقَدْ أَعْتَقَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْإِرْضَاعِ ؛ وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ لِغَيْرِهِ كَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحِ أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ إرْثٍ فَالْوَلَدُ هُنَا لِسَيِّدِ الْأَمَةِ فَلَيْسَ عَلَى الْوَاطِئِ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ زَوْجًا وَلَوْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ حُرَّةً فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَالنَّسَبُ هَاهُنَا لَاحِقٌ ؛ لَكِنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ ؛ وَالْوَلَدُ الْحُرُّ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ الْعَبْدِ ؛ وَلَا أُجْرَةُ رَضَاعِهِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مَالٌ يُنْفَقُ مِنْهُ عَلَى وَلَدِهِ وَسَيِّدُهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي وَلَدِهِ ؛ فَإِنَّ وَلَدَهُ : إمَّا حُرٌّ وَإِمَّا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ . نَعَمْ . لَوْ كَانَتْ الْحَامِلُ أَمَةً وَالْوَلَدُ حُرٌّ مِثْلَ الْمَغْرُورِ الَّذِي اشْتَرَى أَمَةً فَظَهَرَ أَنَّهَا
مُسْتَحَقَّةٌ
لِغَيْرِ الْبَائِعِ أَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةٌ : فَهُنَا
الْوَلَدُ حُرٌّ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً مَمْلُوكَةً لِغَيْرِ الْوَاطِئِ لِأَنَّهُ
إنَّمَا وَطِئَ مَنْ يَعْتَقِدُهَا مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ زَوْجَةً حُرَّةً
وَبِهَذَا قَضَتْ الصَّحَابَةُ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ بِشِرَاءِ الْوَلَدِ وَهُوَ
نَظِيرُهُ . فَهُنَا الْآنَ يُنْفِقُ عَلَى الْحَامِلِ كَمَا يُنْفِقُ عَلَى
الْمُرْضِعَةِ لَهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ
تَرْضَعُ وَقَدْ أَلْزَمُوهُ بِنَفَقَةِ الْعِدَّةِ : فَكَمْ تَكُونُ مُدَّةُ
الْعِدَّةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ فِيهَا لِأَجْلِ الرَّضَاعَةِ
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد فَعِنْدَهُمْ لَا نَفَقَةَ لِلْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ الْمُطَلَّقَةِ
ثَلَاثًا . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُوجِبُ لَهَا النَّفَقَةَ مَا دَامَتْ فِي
الْعِدَّةِ . وَإِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَلَا تَزَالُ فِي الْعِدَّةِ
حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ . وَالْمُرْضِعُ يَتَأَخَّرُ حَيْضُهَا فِي
الْغَالِبِ . وَأَمَّا أَجْرُ الرَّضَاعِ فَلَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }
وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ ؛ فَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَلَا
نَفَقَةَ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ مُحْتَاجَةٍ . فَهَلْ تَكُونُ نَفَقَتُهَا وَاجِبَةً
عَلَى زَوْجِهَا ؟ أَوْ مِنْ صَدَاقِهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْمُزَوَّجَةُ الْمُحْتَاجَةُ نَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَاجِبَةٌ مِنْ غَيْرِ
صَدَاقِهَا وَأَمَّا صَدَاقُهَا الْمُؤَخَّرُ فَيَجُوزُ أَنْ تُطَالِبَهُ ؛ وَإِنْ
أَعْطَاهَا فَحَسَنٌ ؛ وَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ حَتَّى يَقَعَ بَيْنَهُمَا
فُرْقَةٌ : بِمَوْتِ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ نَحْوِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : (*)
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا تُطَاوِعُهُ فِي
أَمْرٍ وَتَطْلُبُ مِنْهُ نَفَقَةً وَكِسْوَةً وَقَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْهِ
أُمُورَهُ : فَهَلْ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَكِسْوَةً ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ خَرَجَتْ مِنْ دَارِهِ بِغَيْرِ
إذْنِهِ : فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَبَ مِنْهَا
أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ
فَحَيْثُ كَانَتْ نَاشِزًا عَاصِيَةً لَهُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ
لَمْ يَجِبْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا كِسْوَةٌ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ إذَا تَحَاكَمَا فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ ؛
هَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهَا ؟ أَمْ قَوْلُ الرَّجُلِ ؟ وَهَلْ لِلْحَاكِمِ تَقْدِيرُ
النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ ؟ وَالْمَسْئُولُ بَيَانُ حُكْمِ
هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِدَلَائِلِهِمَا .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُقِيمَةً فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
مُدَّةً تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَتَكْتَسِي كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ؛ ثُمَّ
تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ هِيَ : أَنْتَ مَا أَنْفَقْت عَلَيَّ
وَلَا كَسَوْتَنِي ؛ بَلْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِك . وَقَالَ هُوَ : بَلْ
النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ كَانَتْ مِنِّي . فَفِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ .
" أَحَدُهُمَا " الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي
عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُصْدِقَهَا تَعَلُّمَ صِنَاعَةٍ
وَتَتَعَلَّمُهَا ثُمَّ يَتَنَازَعَانِ فِيمَنْ عَلِمَهَا فَيَقُولُ هُوَ : أَنَا
عَلَّمْتهَا وَتَقُولُ هِيَ : أَنَا تَعَلَّمْتهَا مِنْ غَيْرِهِ . فَفِيهَا
وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا
كُلِّهِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ
عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ عِنْدَهُ
كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَأَصْحَابُ هَذَا
الْقَوْلِ يَقُولُونَ :
وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الصِّلَةِ فَتَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالْجُمْهُورُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ يَقُولُونَ : وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ . وَلَكِنْ إذَا تَنَازَعَا فِي قَبْضِهَا فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَقْبُوضِ كَمَا لَوْ تَنَازُعًا فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الرَّجُلَ يُنْفِقُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهِ وَيَكْسُوهَا وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَسُوغُ غَيْرُهُ لِأَوْجُهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُمْ امْرَأَةٌ قُبِلَ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَقْبُولًا فِي ذَلِكَ لَكَانَتْ الْهِمَمُ مُتَوَفِّرَةً عَلَى دَعْوَى النِّسَاءِ وَذَلِكَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ . فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقِرًّا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا . " الثَّانِي " أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الرَّجُلِ إلَّا بِبَيِّنَةِ فَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا كُلَّمَا أَطْعَمَهَا وَكَسَاهَا وَكَانَ تَرْكُهُ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنْهُ إذَا تَرَكَ الْإِشْهَادَ عَلَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ مُسْلِمٌ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ .
"
الثَّالِثُ " أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي هَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ
فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَالْإِشْهَادِ عَلَى الْوَطْءِ ؛ فَإِنَّهُمَا لَوْ
تَنَازَعَا فِي الْوَطْءِ وَهِيَ ثَيِّبٌ لَمْ يُقْبَلْ مُجَرَّدُ قَوْلِهَا فِي
عَدَمِ الْوَطْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ ؛ بَلْ
إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّجُلِ أَوْ يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ
الْمَنِيِّ أَوْ يُجَامِعُهَا فِي مَكَانٍ وَقَرِيبٍ مِنْهُمَا مَنْ يَعْلَمُ
ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَطْءِ . عَلَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مِنْ
النِّزَاعِ . فَهُنَا دَعْوَاهَا وَافَقَتْ الْأَصْلَ وَلَمْ تُقْبَلْ لِتَعَذُّرِ
إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ . وَالْإِنْفَاقُ فِي الْبُيُوتِ بِهَذِهِ
الْمَثَابَةِ وَلَا يُكَلَّفُ النَّاسُ الْإِشْهَادَ عَلَى إعْطَاءِ النَّفَقَةِ ؛
فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ فِي الدِّينِ وَحَرَجٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاتِّبَاعٌ
لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ .
" الرَّابِعُ " أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ : هَلْ يَجِبُ
تَمْلِيكُ النَّفَقَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ
وَلَا يَجِبُ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا شَيْئًا ؛ بَلْ يُطْعِمُهَا وَيَكْسُوهَا
بِالْمَعْرُوفِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ فِي النِّسَاءِ {
: لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } " كَمَا فِي
الْمَمْلُوكِ { وَكِسْوَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ : " { حَقُّهَا أَنْ
تُطْعِمَهَا إذْ طَعِمْت وَتَكْسُوَهَا إذَا اكْتَسَيْت } كَمَا قَالَ فِي
الْمَمَالِيكِ : " { إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ
أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ
وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ . } هَذِهِ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ لَا يُعْلَمُ
قَطُّ أَنَّ رَجُلًا فَرَضَ لِزَوْجَتِهِ نَفَقَةً ؛ بَلْ يُطْعِمُهَا وَيَكْسُوهَا
.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا كَمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ عَلَى رَقِيقِهِ وَبَهَائِمِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَقَرَأَ قَوْلَهُ : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : النِّكَاحُ رِقٌّ ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ وَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ } " فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ عَانِيَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ ؛ وَالْعَانِي الْأَسِيرُ وَأَنَّ الرَّجُلَ أَخَذَهَا بِأَمَانَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا وَلِهَذَا أَبَاحَ اللَّهُ لِلرَّجُلِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنْ يَضْرِبَهَا وَإِنَّمَا يُؤَدِّبُ غَيْرَهُ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ ؛ فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا وَلَهُ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ : كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ وَوُلِّيَ عَلَيْهِ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتِيمِ وَكَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمُسَاقِي وَالْمُزَارِعِ فِيمَا أَنْفَقَهُ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ . وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ . وَعِنْدَ النِّكَاحِ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ وَالرَّجُلُ مُؤْتَمَنٌ فِيهِ فَقَبُولُ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ قَبُولِ قَوْلِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ نَفَقَتَهَا مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا نَفَقَةً : قُبِلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ الشَّارِعَ سَلَّطَهَا عَلَى ذَلِكَ ؛ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ لَمَّا قَالَتْ : إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ؛ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي فَقَالَ : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسَافِرًا عَنْهَا مُدَّةً وَهِيَ مُقِيمَةٌ فِي بَيْتِ أَبِيهَا وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِنَفَقَةِ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْمَاضِي مُطْلَقًا فِي هَذَا الْبَابِ . وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَنْ تَدَبَّرَهَا تَبَيَّنَ لَهُ سِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ قَبُولَ قَوْلِ النِّسَاءِ فِي عَدَمِ النَّفَقَةِ فِي الْمَاضِي فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ . مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ . وَهُوَ يَئُولُ إلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُقِيمُ مَعَ الزَّوْجِ خَمْسِينَ سَنَةً ثُمَّ تَدَّعِي نَفَقَةَ خَمْسِينَ سَنَةً وَكِسْوَتَهَا وَتَدَّعِي أَنَّ زَوْجَهَا مَعَ يَسَارِهِ وَفَقْرِهَا لَمْ يُطْعِمْهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ شَيْئًا وَهَذَا مِمَّا يَتَبَيَّنُ النَّاسُ كَذِبَهَا فِيهِ قَطْعًا وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ ؛ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ . " الْوَجْهُ الْخَامِسُ " أَنَّ الْأَصْلَ الْمُسْتَقِرَّ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ فِي جَنَبَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ ؛ سَوَاءٌ تَرَجَّحَ ذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ؛ أَوْ الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ أَوْ الْعَادَةِ الْعَمَلِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا إذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْمُدَّعِي كَانَتْ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ كَالْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ وَكَمَا لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا عَدْلًا فِي الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُدَّعِي حُجَّةٌ تُرَجِّحُ جَانِبَهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي الزَّوْجَيْنِ إذَا تَنَازَعَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لِكُلِّ مِنْهُمَا بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ إيَّاهُ فَيُحْكَمُ لِلْمَرْأَةِ بِمَتَاعِ النِّسَاءِ
وَلِلرَّجُلِ بِمَتَاعِ الرِّجَالِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ الْحِسِّيَّةُ مِنْهُمَا ثَابِتَةً عَلَى هَذَا وَهَذَا لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَتَاعِ جِنْسِهِ . وَهُنَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الرَّجُلَ يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَيَكْسُوهَا فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهَا جِهَةٌ تُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهَا أُجْرِيَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَادَةِ : " الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ أَكَلَتْ وَاكْتَسَتْ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الزَّوْجِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ . وَالْأَصْلُ عَدَمُ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ : إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ عَلَّمَهَا الصِّنَاعَةَ وَالْقِرَاءَةَ الَّتِي أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَهَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْحَادِثَ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ ؛ كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ فَرُئِيَ مُتَغَيِّرًا بَعْدَ ذَلِكَ وَشُكَّ هَلْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ غَيْرِهَا ؟ فَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ يُضَافُ التَّغَيُّرُ إلَى النَّجَاسَةِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْتَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ فِيمَا إذَا رَمَى الصَّيْدَ وَغَابَ عَنْهُ وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ زَهَقَتْ بِهِ نَفْسُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَدَّى فِي مَاءٍ أَوْ خَالَطَ كَلْبُهُ كِلَابًا أُخْرَى فَإِنَّ تِلْكَ لِأَسْبَابِ شَارَكَتْ فِي الزُّهُوقِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْحَاكِمِ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ فَهَذَا يَكُونُ عِنْدَ
التَّنَازُعِ فِيهَا كَمَا يُقَدِّرُ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا تَنَازَعَا فِيهِ
وَكَمَا يُقَدِّرُ مِقْدَارَ الْوَطْءِ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ
يَضْرِبُهَا ؛ فَإِنَّ الْحُقُوقَ الَّتِي لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهَا إلَّا
بِالْمَعْرُوفِ مَتَى تَنَازَعَ فِيهَا الْخَصْمَانِ قَدَّرَهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ
. وَأَمَّا الرَّجُلُ إذَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا
جَرَتْ عَادَةُ مِثْلِهِ لِمِثْلِهَا : فَهَذَا يَكْفِي وَلَا يَحْتَاجُ إلَى
تَقْدِيرِ الْحَاكِمِ . وَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا نَفَقَةً
يُسَلِّمُهَا إلَيْهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا
بِالْمَعْرُوفِ فَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ
أَنَّهُ لَا يَفْرِضُ لَهَا نَفَقَةً وَلَا يَجِبُ تَمْلِيكُهَا ذَلِكَ كَمَا
تَقَدَّمَ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَالِاعْتِبَارُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْعَدْلِ . وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مَرْجِعُهَا إلَى
الْعُرْفِ وَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ ؛ بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
أَحْوَالِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمِنَةِ وَحَالِ الزَّوْجَيْنِ وَعَادَتِهِمَا ؛
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { خُذِي مَا يَكْفِيك
وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } " وَقَالَ : { لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي
ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } إلَى قَوْله تَعَالَى {
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } . فَجَعَلَ
الْمُبَاحَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ : إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
. وَأَخْبَرَ أَنَّ الرِّجَالَ لَيْسُوا أَحَقَّ بِالرَّدِّ إلَّا إذَا أَرَادُوا
إصْلَاحًا ؛ وَجَعَلَ لَهُنَّ مِثْلَ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ
تَعَالَى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَقَالَ تَعَالَى
فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَوْلُهُ هُنَا : {
بِالْمَعْرُوفِ } . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ رَضِيَتْ بِغَيْرِ
الْمَعْرُوفِ لَكَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ الْعَضْلُ وَالْمَعْرُوفُ تَزْوِيجُ الْكُفْءِ
. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ : مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ الْمَعْرُوفِ ؛
فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أُولَئِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ
كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } إلَى
قَوْلِهِ : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ التَّرَاضِيَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِمْسَاكَ
بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَالتَّسْرِيحَ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُعَاشَرَةَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنَّ لَهُنَّ وَعَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْوَاجِبُ الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ مِنْ أُمُورِ النِّكَاحِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ ؛ فَكَمَا أَنَّ مَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ هُوَ بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَهُوَ الْعُرْفُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ فِي حَالِهِمَا نَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِهِمَا مِنْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالزَّمَانِ كَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؛ وَالْمَكَانِ فَيُطْعِمُهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ مِمَّا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَهُوَ الْعُرْفُ بَيْنَهُمْ . وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ مِنْ الْمُتْعَةِ وَالْعِشْرَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا وَيَطَأَهَا بِالْمَعْرُوفِ . وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِهَا وَحَالِهِ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَطْءِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْمَعْرُوفِ ؛ لَا بِتَقْدِيرِ مِنْ الشَّرْعِ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمِثَالُ الْمَشْهُورُ هُوَ " النَّفَقَةُ " فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْمَعْرُوفِ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ نَوْعًا وَقَدْرًا : مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ مُدًّا وَنِصْفًا أَوْ مُدَّيْنِ ؛ قِيَاسًا عَلَى الْإِطْعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ مَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ عِلْمًا وَعَمَلًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{
أَنَّهُ قَالَ لِهِنْدِ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي
مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } فَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ
الْكِفَايَةَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهَا نَوْعًا وَلَا قَدْرًا وَلَوْ
تَقَدَّرَ ذَلِكَ بِشَرْعِ أَوْ غَيْرِهِ لَبَيَّنَ لَهَا الْقَدْرَ وَالنَّوْعَ
كَمَا بَيَّنَ فَرَائِضَ الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ
الْعَظِيمَةِ بِعَرَفَاتِ : { لَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ } .
وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْكِفَايَةُ بِالْمَعْرُوفِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْكِفَايَةَ بِالْمَعْرُوفِ تَتَنَوَّعُ بِحَالَةِ الزَّوْجَةِ فِي حَاجَتِهَا
وَبِتَنَوُّعِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَبِتَنَوُّعِ حَالِ الزَّوْجِ فِي
يَسَارِهِ وَإِعْسَاره وَلَيْسَتْ كِسْوَةُ الْقَصِيرَةِ الضَّئِيلَةِ كَكُسْوَةِ
الطَّوِيلَةِ الْجَسِيمَةِ وَلَا كِسْوَةُ الشِّتَاءِ كَكِسْوَةِ الصَّيْفِ وَلَا
كِفَايَةُ طَعَامِهِ كَطَعَامِهِ وَلَا طَعَامُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ
كَالْبَارِدَةِ وَلَا الْمَعْرُوفُ فِي بِلَادِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ .
كَالْمَعْرُوفِ فِي بِلَادِ الْفَاكِهَةِ وَالْخَمِيرِ . وَفِي مُسْنَدِ
الْإِمَامِ أَحْمَد وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَه عَنْ { حَكِيمِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ القشيري عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ ؟ قَالَ : تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت
وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت ؛ وَلَا تَضْرِبُ الْوَجْهَ ؛ وَلَا تُقَبِّحْ ؛
وَلَا تَهْجُرْ إلَّا فِي الْبَيْتِ . } فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلزَّوْجَةِ مَرَّةً أَنْ
تَأْخُذَ كِفَايَةَ وَلَدِهَا بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ فِي الْخُطْبَةِ الَّتِي
خَطَبَهَا يَوْمَ أَكْمَلَ اللَّهُ
الدِّينَ فِي أَكْبَرِ مَجْمَعٍ كَانَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ : { لَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ لِلسَّائِلِ الْمُسْتَفْتِي لَهُ عَنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ : { تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت } " وَلَمْ يَأْمُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مُعَيَّنٍ ؛ لَكِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ تَارَةً وَبِالْمُوَاسَاةِ بِالزَّوْجِ أُخْرَى . وَهَكَذَا قَالَ فِي نَفَقَةِ الْمَمَالِيكِ ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : هُمْ إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ؛ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ؛ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ؛ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا يُطِيقُ } فَفِي الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ أَمْرُهُ وَاحِدٌ : تَارَةً يَذْكُرُ أَنَّهُ يَجِبُ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ . وَتَارَةً يَأْمُرُ بِمُوَاسَاتِهِمْ بِالنَّفْسِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الْمَعْرُوفَ هُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُوَاسَاةُ مُسْتَحَبَّةٌ . وَقَدْ يُقَالُ أَحَدُهُمَا تَفْسِيرٌ لِلْآخَرِ . وَعَلَى هَذَا فَالْوَاجِبُ هُوَ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ فِي النَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَصِفَةِ الْإِنْفَاقِ . وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ . أَمَّا " النَّوْعُ " فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُعْطِيَهَا مَكِيلًا كَالْبُرِّ وَلَا مَوْزُونًا كَالْخُبْزِ وَلَا ثَمَنَ ذَلِكَ كَالدَّرَاهِمِ ؛ بَلْ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ . فَإِذَا أَعْطَاهَا كِفَايَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَادَتُهُمْ أَكْلَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ فَيُعْطِيَهَا ذَلِكَ .
أَوْ يَكُونَ أَكْلَ الْخُبْزِ وَالْإِدَامِ فَيُعْطِيَهَا ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُمْ أَنْ يُعْطِيَهَا حَبًّا فَتَطْحَنَهُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ يَطْحَنُ فِي الطَّاحُونِ وَيَخْبِزُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ يَخْبِزُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ يَشْتَرِي خُبْزًا مِنْ السُّوقِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الطَّبِيخُ وَنَحْوُهُ فَعَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ وَلَا حَبَّاتٍ أَصْلًا ؛ لَا بِشَرْعِ وَلَا بِفَرْضِ ؛ فَإِنَّ تَعَيُّنَ ذَلِكَ دَائِمًا مِنْ الْمُنْكَرِ لَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ مُضِرٌّ بِهِ تَارَةً وَبِهَا أُخْرَى . وَكَذَلِكَ " الْقَدْرُ " لَا يَتَعَيَّنُ مِقْدَارٌ مُطَّرِدٌ ؛ بَلْ تَتَنَوَّعُ الْمَقَادِيرُ بِتَنَوُّعِ الْأَوْقَاتِ . وَأَمَّا " الْإِنْفَاقُ " فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْوَاجِبَ تَمْلِيكَهَا النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ التَّمْلِيكُ . وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفَ ؛ بَلْ عُرْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ يَأْتِي بِالطَّعَامِ إلَى مَنْزِلِهِ فَيَأْكُلُ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَمَمْلُوكُهُ : تَارَةً جَمِيعًا . وَتَارَةً أَفْرَادًا . وَيَفْضُلُ مِنْهُ فَضْلٌ تَارَةً فَيَدَّخِرُونَهُ وَلَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ يُمَلِّكُهَا كُلَّ يَوْمٍ دَرَاهِمَ تَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمَالِكِ ؛ بَلْ مَنْ عَاشَرَ امْرَأَةً بِمِثْلِ هَذَا الْفَرْضِ كَانَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَعَاشَرَا بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ وَتَضَارَّا فِي الْعِشْرَةِ ؛ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ بِصَاحِبِهِ عِنْدَ الضَّرَرِ ؛ لَا عِنْدَ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ .
وَأَيْضًا
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ فِي الزَّوْجَةِ
مِثْلَ مَا أَوْجَبَ فِي الْمَمْلُوكِ . تَارَةً قَالَ : " { لَهُنَّ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } " كَمَا قَالَ فِي
الْمَمْلُوكِ . وَتَارَةً قَالَ : { تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت وَتَكْسُوهَا إذَا
اكْتَسَيْت } " كَمَا قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ . وَقَدْ اتَّفَقَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَمْلِيكُ الْمَمْلُوكِ نَفَقَتَهُ
فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَقْتَضِي إيجَابَ التَّمْلِيكِ . وَإِذَا
تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فَمَتَى اعْتَرَفَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ يُطْعِمهَا إذَا
أَكَلَ وَيَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَى وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ لِمِثْلِهَا فِي
بَلَدِهَا فَلَا حَقَّ لَهَا سِوَى ذَلِكَ . وَإِنْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ أَمَرَهُ
الْحَاكِمُ أَنْ يُنْفِقَ بِالْمَعْرُوفِ ؛ بَلْ وَلَا لَهُ أَنْ يَأْمُرَ
بِدَرَاهِمَ مُقَدَّرَةٍ مُطْلَقًا أَوْ حَبٍّ مُقَدَّرٍ مُطْلَقًا ؛ لَكِنْ
يَذْكُرُ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَلِيقُ بِهِمَا.
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ " قَسْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْوَطْءِ وَالْعِشْرَةِ وَالْمُتْعَةِ
" وَاجِبَانِ كَمَا قَدْ قَرَّرْنَاهُ بِأَكْثَرِ مِنْ عَشَرَةِ أَدِلَّةٍ
وَمَنْ شَكَّ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْعَدَ تَأَمُّلَ الْأَدِلَّةِ
الشَّرْعِيَّةِ وَالسِّيَاسَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ . ثُمَّ الْوَاجِبُ قِيلَ .
مَبِيتُ لَيْلَةٍ مِنْ أَرْبَعِ لَيَالٍ وَالْوَطْءُ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ مُرَّةٌ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَوْلَى وَالْمُتَزَوِّجِ أَرْبَعًا
. وَقِيلَ : إنَّ الْوَاجِبَ وَطْؤُهَا بِالْمَعْرُوفِ فَيَقِلُّ وَيَكْثُرُ
بِحَسَبِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ كَالْقُوتِ سَوَاءً .
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهَا مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِي الْمَسْكَنِ وَعِشْرَتِهِ
وَمُطَاوَعَتِهِ فِي الْمُتْعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ
. عَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ فِي أَيِّ بَلَدٍ أَوْ دَارٍ إذَا
كَانَ
ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ تَشْتَرِطْ خِلَافَهُ ؛ وَعَلَيْهَا أَنْ لَا
تُفَارِقَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا لِمُوجِبِ شَرْعِيٍّ فَلَا تَنْتَقِلُ
وَلَا تُسَافِرُ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَّا
بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ } بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ وَالْأَسِيرِ
وَعَلَيْهَا تَمْكِينُهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إذَا طَلَبَ ذَلِكَ وَذَلِكَ
كُلُّهُ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ
اسْتِمْتَاعًا يَضُرُّ بِهَا وَلَا يُسْكِنَهَا مَسْكَنًا يَضُرُّ بِهَا وَلَا
يَحْبِسَهَا حَبْسًا يَضُرُّ بِهَا .
فَصْلٌ :
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَخْدِمَهُ فِي مِثْلِ فِرَاشِ
الْمَنْزِلِ وَمُنَاوَلَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْخُبْزِ وَالطَّحْنِ
وَالطَّعَامِ لِمَمَالِيكِهِ وَبَهَائِمِهِ : مِثْلَ عَلْفِ دَابَّتِهِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا تَجِبُ الْخِدْمَةُ . وَهَذَا الْقَوْلُ
ضَعِيفٌ كَضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِشْرَةُ
وَالْوَطْءُ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مُعَاشَرَةً لَهُ بِالْمَعْرُوفِ ؛ بَلْ
الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ الْإِنْسَانِ وَصَاحِبُهُ فِي
الْمَسْكَنِ إنْ لَمْ يُعَاوِنْهُ عَلَى مَصْلَحَةٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَاشَرَهُ
بِالْمَعْرُوفِ . وَقِيلَ - وَهُوَ الصَّوَابُ - وُجُوبُ الْخِدْمَةِ ؛ فَإِنَّ
الزَّوْجَ سَيِّدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ وَهِيَ عَانِيَةٌ عِنْدَهُ بِسُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْعَانِي وَالْعَبْدِ
الْخِدْمَةُ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ
قَالَ : تَجِبُ الْخِدْمَةُ الْيَسِيرَةُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَجِبُ
الْخِدْمَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَخْدِمَهُ
الْخِدْمَةَ
الْمَعْرُوفَةَ مِنْ مِثْلِهَا لِمِثْلِهِ وَيَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِتَنَوُّعِ
الْأَحْوَالِ : فَخِدْمَةُ الْبَدَوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الْقَرَوِيَّةِ
وَخِدْمَةِ الْقَوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الضَّعِيفَةِ .
فَصْلٌ :
وَالْمَعْرُوفُ فِيمَا لَهُ وَلَهَا هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ ؛ فَإِنَّ
الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يُرْجَعُ فِي مُوجَبِهِ إلَى الْعُرْفِ كَمَا يُوجِبُ
الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ فِي الْبَيْعِ النَّقْدَ الْمَعْرُوفَ فَإِنْ شَرَطَ
أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَرْطًا لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا يُحَلِّلُ
حَرَامًا فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ؛ فَإِنَّ مُوجِبَاتِ الْعُقُودِ
تُتَلَقَّى مِنْ اللَّفْظِ تَارَةً . وَمِنْ الْعُرْفِ تَارَةً أُخْرَى ؛ لَكِنْ
كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ لِكُلِّ
مِنْ الْعَاقِدَيْنِ أَنْ يُوجِبَ لِلْآخَرِ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ
اللَّهُ مِنْ إيجَابِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ أَنْ يُوجِبَ فِي الْمُعَاوَضَةِ مَا
يُبَاحُ بَذْلُهُ بِلَا عِوَضٍ : كَعَارِيَةِ الْبُضْعِ ؛ وَالْوَلَاءِ لِغَيْرِ
الْمُعْتِقِ ؛ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يَجِبَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ إذَا حُرِّمَ
بَذْلُهُ كَيْفَ يَجِبُ بِالشَّرْطِ فَهَذِهِ أُصُولٌ جَامِعَةٌ مَعَ اخْتِصَارٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَةِ وَسَافَرَ عَنْهَا سَنَةً كَامِلَةً ؛ وَلَمْ
يَتْرُكْ عِنْدَهَا شَيْئًا وَلَا لَهَا شَيْءٌ تُنْفِقُهُ عَلَيْهَا وَهَلَكَتْ
مِنْ الْجُوعِ فَحَضَرَ مَنْ يَخْطُبُهَا
وَدَخَلَ
بِهَا وَحَمَلَتْ مِنْهُ فَعَلِمَ الْحَاكِمُ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ
مَوْجُودٌ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَوَضَعَتْ الْحَمْلَ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي ؛
وَالزَّوْجُ الثَّانِي يُنْفِقُ عَلَيْهَا إلَى أَنْ صَارَ عُمْرُ الْمَوْلُودِ
أَرْبَعَ سِنِينَ وَلَمْ يَحْضُرْ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَلَا عُرِفَ لَهُ مَكَانٌ
: فَهَلْ لَهَا أَنْ تُرَاجِعَ الزَّوْجَ الثَّانِيَ ؟ أَوْ تَنْتَظِرَ الْأَوَّلَ
.
فَأَجَابَ :
إذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَتِهِ فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ فَإِذَا
انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ . وَالْفَسْخُ لِلْحَاكِمِ ؛ فَإِذَا
فَسَخَتْ هِيَ نَفْسَهَا لِتَعَذُّرِ فَسْخِ الْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِهِ : فَفِيهِ
نِزَاعٌ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَفْسَخْ الْحَاكِمُ بَلْ شَهِدَ لَهَا أَنَّهُ قَدْ
مَاتَ وَتَزَوَّجَتْ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَلَمْ يَمُتْ الزَّوْجُ : فَالنِّكَاحُ
بَاطِلٌ ؛ لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ الزَّوْجُ الثَّانِي أَنَّهُ صَحِيحٌ لِظَنِّهِ
مَوْتَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَانْفِسَاخِ النِّكَاحِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ
فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ ؛ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛
لَكِنْ تَعْتَدُّ لَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَوَّلِ إنْ أَمْكَنَ وَتَتَزَوَّجُ بِمَنْ شَاءَتْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ لِرَجُلِ وَأَرَادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ إلَى
بِلَادِهِ فَقَالَ لَهُ وَكِيلُ الْأَبِ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ : لَا تُسَافِرْ
إمَّا أَنْ تُعْطِيَ الْحَالَّ مِنْ الصَّدَاقِ وَتَنْتَقِلَ بِالزَّوْجَةِ أَوْ
تُرْضِيَ الْأَبَ . فَسَافَرَ وَلَمْ يُجِبْ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ غَائِبٌ
عَنْ
الزَّوْجَةِ الْمَذْكُورَةِ مُدَّةَ سَنَةٍ وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُ نَفَقَةٌ :
فَهَلْ لِوَالِدِ الزَّوْجَةِ أَنْ يَطْلُبَ فَسْخَ النِّكَاحِ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ إذَا عَرَضَتْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ فَبَذَلَ لَهُ تَسْلِيمُهَا ؛ وَهِيَ
مِمَّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِذَلِكَ ؛ فَإِذَا
تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ
بِالْفَسْخِ ؛ إذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فِي رَجُلٍ تَبَرَّعَ وَفَرَضَ لِأُمِّهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ
عَاقِلَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ وَأَذِنَ لَهَا أَنْ تَسْتَدِينَ
وَتُنْفِقَ عَلَيْهَا وَتَرْجِعَ عَلَيْهِ وَبَقِيَتْ مُقِيمَةً عِنْدَهُ مُدَّةً
وَلَمْ تَسْتَدِنْ لَهَا نَفَقَةٌ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تَتْرُكْ عَلَيْهَا
دَيْنًا وَخَلَّفَتْ مِنْ الْوَرَثَةِ ابْنَهَا هَذَا وَبِنْتَيْنِ . ثُمَّ
تُوُفِّيَ ابْنُهَا بَعْدَهَا : فَهَلْ يَصِيرُ مَا فَرَضَ عَلَى نَفْسِهِ دَيْنًا
فِي ذِمَّتِهِ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَيُقْسَمُ عَلَى وَرَثَتِهَا أَمْ لَا ؟
وَهَلْ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ مَعَ قَوْلِكُمْ النَّفَقَةُ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ
الْمُدَّةِ : هَلْ يُنَفَّذُ حُكْمُهُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ اسْتِرْجَاعُ مَا
أَخَذَ وَرَثَتُهَا مِنْ تَرِكَةِ وَلَدِهَا بِهَذَا الْوَجْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ ذَاكَ دَيْنًا لَهَا فِي
ذِمَّتِهِ وَلَا يُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ وَالْمُسْتَحِقَّةُ وَرَثَتُهَا وَمَا
عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ إنَّ نَفَقَةَ
الْقَرِيبِ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ لِمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ ؛ إلَّا إذَا كَانَ قَدْ اسْتَدَانَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِإِذْنِ حَاكِمٍ أَوْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِ حَاكِمٍ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ وَطَلَبَ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ : فَهَذَا فِي رُجُوعِهِ خِلَافٌ . فَأَمَّا اسْتِقْرَارُهَا فِي الذِّمَّةِ بِمُجَرَّدِ الْفَرْضِ - إمَّا بِإِنْفَاقِ مُتَبَرِّعٍ أَوْ بِكَسْبِهِ كَمَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ - فَمَا عَلِمْت لَهُ قَائِلًا فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ لَمْ يُلْزَمْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ وَلِمَنْ أَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَخَذَهُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ؛ وَإِنْ قَضَى بِهَا الْقَاضِي ؛ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي فِي الِاسْتِدَانَةِ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً عَامَّةً فَصَارَ كَإِذْنِ الْغَائِبِ ؛ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي هَلْ يَصِيرُ بِهِ دَيْنًا ؟ رِوَايَتَيْنِ ؛ لَكِنْ حَمَلُوا رِوَايَةَ الْوُجُوبِ عَلَى مَا إذَا أَمَرَ بِالِاسْتِدَانَةِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ . وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا وَتَمَرَّدَ وَامْتَنَعَ عَنْ الْإِنْفَاقِ فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَأْمُرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ فَأَمَرَهَا الْقَاضِي بِذَلِكَ وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي كَأَمْرِهِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ فَأَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَكَانَتْ فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ لِتَأْكِيدِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ . لَكِنْ لَوْ أَمَرَ الْقَرِيبَ بِالِاسْتِدَانَةِ وَلَمْ يَسْتَدِنْ ؛ بَلْ اسْتَغْنَى بِنَفَقَةِ مُتَبَرِّعٍ ؛ أَوْ بِكَسْبِ لَهُ : فَقَدْ فَهِمَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لِإِطْلَاقِهِمْ الْأَمْرَ بِالِاسْتِدَانَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ وُجُودِ الِاسْتِدَانَةِ وَغَيْرُهُ إنَّمَا فَهِمَ أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لِأَجْلِ وُجُودِ الِاسْتِدَانَةِ . وَأَمَّا الْإِذْنُ فِي الِاسْتِدَانَةِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِهَا لَا يُصَيِّرُ الْمَأْذُونَ فِيهِ دَيْنًا حَتَّى يُسْتَدَانَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ وَخَلَّفْت مِنْ الْوَرَثَةِ وَلَدًا ذَكَرًا وَقَدْ
ادَّعَى عَلَى أَبِيهِ بِالصَّدَاقِ وَالْكِسْوَةِ : فَهَلْ يَلْزَمُ الزَّوْجَ
الْكِسْوَةُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ مَوْتِهَا وَالِابْنُ مُحْتَاجٌ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَ فَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُوَفِّيَهُ مَا
يَسْتَحِقُّهُ ؛ بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ مِيرَاثٌ وَكَانَ مُحْتَاجًا
عَاجِزًا عَنْ الْكِسْوَةِ : فَعَلَى الْأَبِ إذَا كَانَ مُوسِرًا أَنْ يُنْفِقَ
عَلَيْهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الْمُحْتَاجِينَ
وَالْعَاجِزِينَ عَنْ الْكَسْبِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ وَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ مُسْتَمِرُّ النَّفَقَةِ
وَهِيَ نَاشِزٌ ؛ ثُمَّ إنَّ وَالِدَهَا أَخَذَهَا وَسَافَرَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ
الزَّوْجِ : فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ
يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ وَتُعَزَّرُ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ
يُمْكِنُهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينِ سَافَرَتْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ عِنْدَ قَوْمٍ مُدَّةَ سَنَةٍ ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمْ
كَلَامٌ فَادَّعَوْا عَلَيْهِ بِكِسْوَةِ سَنَةٍ فَأَخَذُوهَا مِنْهُ ثُمَّ ادَّعَوْا
عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَقَالُوا : هِيَ تَحْتَ الْحَجْرِ ؛ وَمَا أَذِنَّا لَك
أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا كَانَ الزَّوْجُ تَسَلَّمَهَا
التَّسْلِيمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ أَوْ أَبُوهُ أَوْ نَحْوُهُمَا يُطْعِمُهَا
كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ : لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ وَلَا لَهَا أَنْ تَدَّعِيَ
بِالنَّفَقَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْفَاقُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي كَانَ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ
وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَى
ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ مَنْ كَلَّفَ الزَّوْجَ أَنْ يُسَلِّمَ إلَى
أَبِيهَا دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ لَهَا بِهَا مَا يُطْعِمُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ
فَقَدْ خَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ . فَكَيْفَ
إذَا كَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارِ الْأَبِ لَهَا بِذَلِكَ
وَتَسْلِيمِهَا إلَيْهِمْ ؛ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الْأَكْلِ ؛ ثُمَّ
أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ النَّفَقَةَ ؛ وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا
؛ فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَحْتَمِلُهُ أَصْلًا . وَمَنْ
تَوَهَّمَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لَهَا كَالدَّيْنِ فَلَا
بُدَّ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَلِيُّ وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ : كَانَ مُخْطِئًا
مِنْ وُجُوهٍ
مِنْهَا
: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّفَقَةِ إطْعَامُهَا ؛ لَا حِفْظُ الْمَالِ لَهَا .
" الثَّانِي " أَنَّ قَبْضَ الْوَلِيِّ لَهَا لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ :
" الثَّالِثُ " أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إلَى إذْنِهِ ؛ فَإِنَّهُ
وَاجِبٌ لَهَا بِالشَّرْعِ وَالشَّارِعُ أَوْجَبَ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا فَلَوْ
نَهَى الْوَلِيُّ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ . " الرَّابِعُ "
إقْرَارُهُ لَهَا مَعَ حَاجَتِهِ إلَى النَّفَقَةِ إذْنٌ عُرْفِيٌّ وَلَا يُقَالُ
: إنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ الزَّوْجَ عَلَى النَّفَقَةِ ؛ لِوَجْهَيْنِ : "
إحْدَاهُمَا " أَنَّ الِائْتِمَانَ بِهَا حَصَلَ بِالشَّرْعِ كَمَا
اُؤْتُمِنَ الزَّوْجُ عَلَى بَدَنِهَا وَالْقَسْمِ لَهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
حُقُوقِهَا ؛ فَإِنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ وَالنِّسَاءُ
عَوَانٍ عِنْدَ الرِّجَالِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .
" الثَّانِي " أَنَّ الِائْتِمَانَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَبَسَتْهُ زَوْجَتُهُ عَلَى كِسْوَتِهَا وَصَدَاقِهَا وَبَقِيَ
مُدَّةً : فَهَلْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَتِهَا مُدَّةَ إقَامَتِهِ فِي
حَبْسِهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَحَبَسَتْهُ كَانَتْ ظَالِمَةً لَهُ مَانِعَةً لَهُ مِنْ
التَّمَكُّنِ مِنْهَا : فَلَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ
نَفَقَةً . وَإِنْ كَانَ لَهَا حَقٌّ وَاجِبٌ حَالٌّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
أَدَائِهِ فَمَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ الشَّرْعِيِّ كَانَ ظَالِمًا فَإِذَا
كَانَتْ مَعَ هَذَا بَاذِلَةً مَا يَجِبُ عَلَيْهَا وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهُ مُدَّةُ سَبْعِ سِنِينَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ؛
لِأَجْلِ مَرَضِهَا : فَهَلْ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ نَفَقَةً أَمْ لَا ؟ فَإِنْ
لَمْ تَكُنْ تَسْتَحِقُّ وَحَكَمَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ
إعْطَاؤُهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَكَانَتْ حَامِلًا
فَأَسْقَطَتْ : فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ النَّفَقَةُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، إذَا أَلْقَتْ سِقْطًا انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ وَسَقَطَتْ بِهِ
النَّفَقَةُ وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ أَمْ لَا إذَا كَانَ قَدْ
تَبَيَّنَ فِيهِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ فَفِيهِ نِزَاعٌ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَأَلْزَمَهَا بِوَفَاءِ الْعِدَّةِ فِي
مَكَانِهَا فَخَرَجَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تُوُفِّيَ الْعِدَّةَ وَطَلَبَهَا
الزَّوْجُ مَا وَجَدَهَا : فَهَلْ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ .
فَأَجَابَ :
لَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِنَفَقَةِ الْمَاضِي فِي
مِثْلِ هَذِهِ الْعِدَّةِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ وَخَلَّفَتْ لَهُ ثَلَاثَ بَنَاتٍ : فَأَعْطَاهُمْ
لِحَمِيهِ وَحَمَاتِهِ وَقَالَ : رُوحُوا بِهِمْ إلَى بَلَدِكُمْ حَتَّى أَجِيءَ
إلَيْهِمْ ؛ فَغَابَ عَنْهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ فَهَلْ عَلَى وَالِدِهِمْ
نَفَقَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
مَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى
وَالِدِهِمْ فَلَهُمْ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً حَمَلَتْ مِنْهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ
بِهَا : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْوَلَدِ فِي تَرْبِيَتِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْوَلَدُ وَلَدُ زِنَا ؛ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
؛ وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ؛ فَإِنَّهُ يَتِيمٌ
مِنْ الْيَتَامَى وَنَفَقَةُ الْيَتَامَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُؤَكَّدَةٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَةِ وَلَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهِ وَلَهُ فَرْضٌ
عَلَى أَبِيهِ تَتَنَاوَلُهُ أُمُّهُ وَالزَّوْجُ يَقُومُ بِالصَّبِيِّ
بِكُلْفَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ مُدَّةَ سِنِينَ وَحِينَ تَزَوَّجَ الرَّجُلُ كَانَ
مِنْ الصَّدَاقِ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ حَالَّةٍ فَشَارَطَتْهُ عَلَى أَنَّهَا لَا
تُطَالِبُهُ بِهَا إذَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى الْوَلَدِ مَا دَامَ الصَّبِيُّ
عِنْدَهُ ؛ وَلَمْ تُعَيِّنْ لَهُ كُلْفَةً وَلَا نَفَقَةً : فَهَلْ لَهُ
مُطَالَبَةُ أُمِّ الصَّبِيِّ بِكُلْفَةِ مُدَّةِ مَقَامِهِ عِنْدَهُ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَ وَلَمْ يُوَفِّ امْرَأَتَهُ بِمَا شَرَطَتْ
لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا كَانَ
الْإِنْفَاقُ بِمَعْرُوفِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ سَوَاءٌ
أَنْفَقَ بِإِذْنِ أُمِّهِ أَمْ لَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ تَطْعَمُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا ؛ بِحُكْمِ أَنَّهَا تَتْعَبُ
فِيهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تَطْعَمُ بِالْمَعْرُوفِ : مِثْلَ الْخُبْزِ وَالطَّبِيخِ
وَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِطْعَامِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ وَلَا لَهُ شَيْءٌ وَلَهُ زَوْجَةٌ وَأَوْلَادٌ
: فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلَدِهِ الْمُوسِرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَعَلَى
زَوْجَتِهِ وَإِخْوَتِهِ الصِّغَارِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَعَمْ عَلَى الْوَلَدِ الْمُوسِرِ أَنْ
يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ وَزَوْجَةِ أَبِيهِ وَعَلَى إخْوَتِهِ الصِّغَارِ وَإِنْ
لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ عَاقًّا لِأَبِيهِ قَاطِعًا لِرَحِمِهِ مُسْتَحِقًّا
لِعُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ وَطَلَبَ مِنْهُ مَا يَمُونُهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ مُوسِرًا وَأَبُوهُ مُحْتَاجًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ تَمَامَ كِفَايَتِهِ
وَكَذَلِكَ إخْوَتُهُ إذَا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ الْكَسْبِ : فَعَلَيْهِ أَنْ
يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَلِأَبِيهِ أَنْ يَأْخُذَ
مِنْ مَالِهِ مَا يَحْتَاجُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الِابْنِ ؛ وَلَيْسَ لِلِابْنِ
مَنْعُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ مَالٌ وَالْوَالِدُ فَقِيرٌ وَلَهُ عَائِلَةٌ
وَزَوْجُهُ غَيْرُ وَالِدَةِ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلَدِهِ
نَفَقَةُ وَالِدِهِ وَنَفَقَةُ إخْوَتِهِ وَزَوْجَتِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْأَبُ عَاجِزًا عَنْ النَّفَقَةِ وَالِابْنُ قَادِرًا عَلَى
الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ فَعَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ عَاجِزٍ عَنْ نَفَقَةِ بِنْتِهِ وَكَانَ غَائِبًا وَهِيَ عِنْدَ
أُمِّهَا وَجَدَّتُهَا تُنْفِقُ عَلَيْهَا ؛ مَعَ أَنَّهَا مُوسِرَةٌ وَلَيْسَ
عَلَيْهِ فَرْضٌ : فَهَلْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ الْمُدَّةَ الَّتِي
كَانَ عَاجِزًا عَنْ النَّفَقَةِ فِيهَا ؟ وَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي
إعْسَارِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ ؟ أَوْ قَوْلُ الْمُدَّعِي ؟ وَإِذَا
كَانَ مُقِيمًا فِي بَلَدٍ فِيهَا خَيْرُهُ وَيُرِيدُ أَخْذَ بِنْتِهِ مَعَهُ
وَهُوَ يُسَافِرُ سَفَرَ نُقْلَةٍ : فَيَسْتَحِقُّ السَّفَرَ بِهَا وَتَكُونُ
الْحَضَانَةُ لِأُمِّهَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي كَانَ عَاجِزًا عَنْ النَّفَقَةِ فِيهَا فَلَا نَفَقَةَ
عَلَيْهِ وَلَا رُجُوعَ لِمَنْ أَنْفَقَ فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِغَيْرِ نِزَاعٍ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا أَنْفَقَ مُنْفِقٌ بِدُونِ
إذْنِهِ مَعَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ . فَقِيلَ : يَرْجِعُ بِمَا
أَنْفَقَ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ . وَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُ عَلَى هَذِهِ النَّفَقَةِ وَلَا
عَلَى الرُّجُوعِ بِهَا حَتَّى يَثْبُتَ الْوُجُوبُ بِيَسَارِهِ . فَإِذَا
اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
مَعَ يَمِينِهِ . وَإِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي غَيْرِ بَلَدِ الْأُمِّ
فَالْحَضَانَةُ لَهُ ؛ لَا لِلْأُمِّ ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ
بِالْحَضَانَةِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ . وَهَذَا أَيْضًا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مُطَلَّقَةٌ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ؛ وَقَدْ بَلَغَ مِنْ
الْعُمْرِ سَبْعَ سِنِينَ وَهُمْ يُرِيدُونَ فَرْضَهُ . وَقَدْ تَزَوَّجَتْ
أُمُّهُ ؛ وَكَفَلَتْهُ جَدَّتُهُ وَوَجَّهَتْ كَفِيلَهُ وَسَافَرُوا بِهِ إلَى
الإسكندرية وَغَيَّبُوهُ مُدَّةَ سَبْعِ سِنِينَ ؛ وَطُلِبَ مِنْهُ فَرْضُ
السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا حَكَمَ لَهُ حَاكِمٌ لَمْ يَكُنْ لِأُمِّهِ أَنْ تُغَيِّبَهُ عَنْهُ ؛
وَإِذَا غَيَّبَتْهُ عَنْهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ
تُطَالِبَهُ بِالنَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَلَا بِمَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ وَقْفٌ مِنْ جَدِّهِ ثُمَّ عَلَى وَلَدِهِ ؛ وَهُوَ
يَتَنَاوَلُ أُجْرَتَهُ ؛ وَلَهُ مِلْكٌ زَادَ أُجْرَةً كَثِيرَةً وَغَيْرَهَا ؛
وَالْكُلُّ مُعَطَّلٌ وَلَهُ وَلَدٌ مُعْسِرٌ ؛ وَلَهُ أَهْلٌ وَأَوْلَادٌ ؛
فَطَلَبَ ابْنُهُ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ ليدولبه فَلَمْ يُجِبْهُ : فَهَلْ
يَجُوزُ
لَهُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ أَنْ يُؤَجِّرَهُمْ وَيُنْفِقَ عَلَى
وَلَدِهِ ؟ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مَعَ غِنَى الْوَالِدِ وَإِعْسَارِ
الْوَلَدِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ إذَا كَانَ الْوَلَدُ
فَقِيرًا عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ وَالْوَالِدُ مُوسِرًا وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ
الْإِنْفَاقُ عَلَى الْوَلَدِ إلَّا بِإِجَارَةِ مَا هُوَ مُتَعَطِّلٌ فِي
عَقَارِهِ وَبِعِمَارَةِ مَا يُمْكِنُ عِمَارَتُهُ مِنْهُ أَوْ يُمَكَّنُ
الْوَلَدُ مِنْ أَنْ يُؤَجِّرَ وَيُعَمِّرَ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ ؛
فَعَلَى الْوَالِدِ ذَلِكَ ؛ بَلْ مَنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ لَا يُعَمِّرُهُ وَلَا
يُؤَجِّرُهُ فَهُوَ سَفِيهٌ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْجُرَ
عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَضِيعَ مَالُهُ . فَأَمَّا
إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَصْلَحَتِهِ وَمَصْلَحَةِ
وَلَدِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَلَفْظُ { الْمَوْلُودِ لَهُ } أَجْوَدُ مِنْ
لَفْظِ " الْوَالِدِ " لِوُجُوهِ : أَنَّهُ يَعُمُّ الْوَالِدَ
وَسَيِّدَ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَلَدَ لِأَبِيهِ لَا لِأُمِّهِ
. فَيُفِيدُ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ لِأَبِيهِ كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ مِنْ : أَنَّ
الْأَبَ يَسْتَبِيحُ مَالَ وَلَدِهِ وَمَنَافِعَهُ وَأَنَّهُ يُبَيِّنُ جِهَةَ
الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَدِ لَهُ ؛ لَا لِلْأُمِّ . وَأَنَّ
الْأُمَّ هِيَ الَّتِي وَلَدَتْهُ حَقِيقَةً ؛ دُونَ الْأَبِ . فَهَذِهِ
أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ . وَلِهَذَا يُقَالُ : وُلِدَ لِفُلَانِ مَوْلُودٌ . وُلِدَ
لِي وَلَدٌ .
وَهَذِهِ
الْآيَةُ تُوجِبُ رِزْقَ الْمُرْتَضِعِ عَلَى أَبِيهِ ؛ لِقَوْلِهِ : { وَإِنْ
كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَأَوْجَبَ نَفَقَتَهُ
حَمْلًا وَرَضِيعًا بِوَاسِطَةِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ
فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رِزْقُهُ بِدُونِ رِزْقِ حَامِلِهِ وَمُرْضِعِهِ .
فَسُئِلْت : فَأَيْنَ نَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ بَعْدَ فِطَامِهِ ؟
فَقُلْت : دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ تَنْبِيهًا ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي حَالِ
اخْتِفَائِهِ وَارْتِضَاعِهِ أَوْجَبَ نَفَقَةَ مَنْ تَحْمِلُهُ وَتُرْضِعُهُ ؛
إذْ لَا يُمْكِنُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ إلَّا بِذَلِكَ : فَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ
بَعْدَ فِصَالِهِ إذَا كَانَ يُبَاشِرُ الِارْتِزَاقَ بِنَفْسِهِ أَوْلَى
وَأَحْرَى . وَهَذَا مِنْ حُسْنِ الِاسْتِدْلَالِ فَقَدْ تَضَمَّنَ الْخِطَابُ
التَّنْبِيهَ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْكُوتِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْمَنْطُوقِ
؛ وَتَضَمَّنَ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِكَوْنِ النَّفَقَةِ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى
الْأَبِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْوَلَدُ دُونَ الْأُمِّ ؛ وَمَنْ كَانَ
الشَّيْءُ لَهُ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ؛ وَلِذَا سُمِّيَ الْوَلَدُ كَسْبًا
فِي قَوْلِهِ : ( وَمَا كَسَبَ وَفِي قَوْلِهِ : " { إنَّ أَطْيَبَ مَا
أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ؛ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ }.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ تَائِبَةٌ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ : أَيُّ شَيْءٍ
يَلْزَمُ سَيِّدَهَا إذَا لَمْ يُجَامِعْهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ مُحْتَاجَةً إلَى النِّكَاحِ فَلْيُعِفَّهَا : إمَّا بِأَنْ
يَطَأَهَا وَإِمَّا بِأَنْ يُزَوِّجَهَا لِمَنْ يَطَؤُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَطَأَهَا إلَّا زَوْجٌ أَوْ سَيِّدُهَا
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مَالُ الْإِنْسَانِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ فَإِنَّ
نَفَقَةَ الْقَرِيبِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يُعْطَى الْبَعِيدُ مَا يَضُرُّ
بِالْقَرِيبِ . وَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى
مِنْهَا الْقَرِيبُ الَّذِي لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ . وَالْقَرِيبُ أَوْلَى إذَا
اسْتَوَتْ الْحَالَةُ .
بَابُ الْحَضَانَةِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ وَتُوُفِّيَ وَلَدُهُ وَخَلَّفَ وَلَدًا عُمْرُهُ ثَمَانِ
سِنِينَ وَالزَّوْجَةُ تُطَالِبُ الْجَدَّ بِالْفَرْضِ وَبَعْدَ ذَلِكَ
تَزَوَّجَتْ وَطَلُقَتْ وَلَمْ يَعْرِفْ الْجِدُّ بِهَا وَقَدْ أَخَذَتْ الْوَلَدَ
وَسَافَرَتْ وَلَا يَعْلَمُ الْجَدُّ بِهَا : فَهَلْ يَلْزَمُ الْجَدَّ فَرْضٌ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا تَزَوَّجَتْ الْأُمُّ فَلَا حَضَانَةَ لَهَا وَإِذَا سَافَرَتْ سَفَرَ
نُقْلَةٍ فَالْحَضَانَةُ لِلْجَدِّ دُونَهَا ؛ وَمَنْ حَضَنَتْهُ وَلَمْ تَكُنْ
الْحَضَانَةُ لَهَا وَطَالَبَتْ بِالنَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ ؛
فَإِنَّهَا ظَالِمَةٌ بِالْحَضَانَةِ ؛ فَلَا تَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ
بِالنَّفَقَةِ : وَإِنْ كَانَ الْجَدُّ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ ابْنِ ابْنِهِ لَمْ
تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ .
وَقَالَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
" الْيَتِيمُ " فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ ؛ لِأَنَّ
أَبَاهُ هُوَ الَّذِي يُهَذِّبُهُ ؛ وَيَرْزُقُهُ ؛ وَيَنْصُرُهُ : بِمُوجَبِ
الطَّبْعِ الْمَخْلُوقِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَابِعًا فِي الدِّينِ لِوَالِدِهِ ؛
وَكَانَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَحَضَانَتُهُ عَلَيْهِ وَالْإِنْفَاقُ هُوَ
الرِّزْقُ . و " الْحَضَانَةُ " هِيَ النَّصْرُ لِأَنَّهَا الْإِيوَاءُ
وَدَفْعُ الْأَذَى . فَإِذَا عُدِمَ أَبُوهُ طَمِعَتْ النُّفُوسُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ ظَلُومٌ جَهُولٌ وَالْمَظْلُومُ عَاجِزٌ ضَعِيفٌ فَتَقْوَى جِهَةُ
الْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الْمُقْتَضَى وَمِنْ جِهَةِ ضَعْفِ الْمَانِعِ
وَيَتَوَلَّدُ عَنْهُ فَسَادَانِ : ضَرَرُ الْيَتِيمِ ؛ الَّذِي لَا دَافِعَ
عَنْهُ وَلَا يُحْسَنُ إلَيْهِ وَفُجُورُ الْآدَمِيِّ الَّذِي لَا وَازِعَ لَهُ .
فَلِهَذَا أَعْظَمَ اللَّهُ أَمْرَ الْيَتَامَى فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ
كَثِيرَةٍ مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا
تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } وَقَوْلِهِ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ }
وَقَوْلِهِ : { قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ }
وَقَوْلِهِ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } وَقَوْلِهِ : { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ إنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى } - إلَى قَوْلِهِ - { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } وَقَوْلِهِ : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } وَقَوْلِهِ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } - إلَى قَوْلِهِ - { وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } وَقَوْلِهِ : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } وَقَوْلِهِ : فِي الْأَنْعَامِ : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } وَقَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } وَقَوْلِهِ : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } وَقَوْلِهِ : { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } وَقَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } وَقَوْلِهِ : { فَذَلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ } { وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } وَسُئِلَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بِنْتٌ لَهَا سَبْعُ سِنِينَ وَلَهَا وَالِدَةٌ مُتَزَوِّجَةٌ
وَقَدْ أَخَذَهَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بِحَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ لَهَا
كَافِلٌ غَيْرُهُ وَقَدْ اخْتَارَتْ أُمُّ الْمَذْكُورَةِ أَنْ تَأْخُذَهَا مِنْ
الرَّجُلِ بِكَفَالَتِهَا إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ تَرْجِعَ
عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدُ بِالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ
وَكَيْفَ نُسْخَةُ مَا يُكْتَبُ بَيْنَهُمَا .
الْجَوَاب :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، مَا دَامَ الْوَلَدُ عِنْدَهَا وَهِيَ
تُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَدْ أَخَذَتْهُ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِهَا
وَلَا تَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ : لَا نَفَقَةَ لَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
أَيْ لَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَتْ هَذِهِ الْمُدَّةَ ؛ لَكِنْ لَوْ
أَرَادَتْ أَنْ تَطْلُبَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلِلْأَبِ أَنْ
يَأْخُذَ الْوَلَدَ مِنْهَا أَيْضًا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجْمَعُ لَهَا بَيْنَ
الْحَضَانَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَمُطَالَبَةِ الْأَبِ بِالنَّفَقَةِ مَعَ مَا
ذَكَرْنَا بِلَا نِزَاعٍ ؛ لَكِنْ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ : فَهَلْ يَكُونُ
الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لَازِمًا ؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ وَالْمَشْهُورُ مِنْ
مَذْهَبِ مَالِكٍ هُوَ لَازِمٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا ضَرَرَ لِلْأَبِ
فِي هَذَا الِالْتِزَامِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : (*)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ
يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ
وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
فَصْلٌ :
فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي "
حَضَانَةِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ " هَلْ هِيَ لِلْأَبِ ؟ أَوْ لِلْأُمِّ ؟
أَوْ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ أَحْمَد
إنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْغُلَامَ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ خُيِّرَ بَيْنَ
أَبَوَيْهِ وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا . وَهَؤُلَاءِ
الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذَا كالخرقي وَغَيْرِهِ بَلَغَهُمْ بَعْضُ نُصُوصِ أَحْمَد
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ سَائِرُ نُصُوصِهِ ؛ فَإِنَّ
كَلَامَ أَحْمَد كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ جِدًّا وَقَلَّ مَنْ يَضْبِطُ جَمِيعَ
نُصُوصِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ ؛ لِكَثْرَةِ كَلَامِهِ وَانْتِشَارِهِ
وَكَثْرَةِ مَنْ كَانَ يَأْخُذُ الْعِلْمَ عَنْهُ . " وَأَبُو بَكْرٍ
الْخَلَّالُ " قَدْ طَافَ الْبِلَادَ وَجَمَعَ مِنْ نُصُوصِهِ فِي مَسَائِلِ
الْفِقْهِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ مُجَلَّدًا وَفَاتَهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ
فِي كُتُبِهِ وَأَمَّا مَا جَمَعَهُ مِنْ
نُصُوصِهِ فَمِنْ أُصُولِ الدِّينِ مِثْلَ : " كِتَابِ السُّنَّةِ " نَحْوَ ثَلَاثِ مُجَلَّدَاتٍ وَمِثْلَ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ مِثْلَ " كِتَابِ الْعِلْمِ " الَّذِي جَمَعَهُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى عِلَلِ الْأَحَادِيثِ مِثْلَ " كِتَابِ الْعِلَلِ " الَّذِي جَمَعَهُ مِنْ كَلَامِهِ فِي " أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَدَبِ " وَمِنْ كَلَامِهِ فِي " الرِّجَالِ وَالتَّارِيخِ " فَهُوَ مَعَ كَثْرَتِهِ لَمْ يَسْتَوْعِبْ مَا نَقَلَهُ النَّاسُ عَنْهُ . " وَالْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ النِّزَاعَ عَنْهُ مَوْجُودٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا فِي " مَسْأَلَةِ الْبِنْتِ " وَفِي " مَسْأَلَةِ الِابْنِ " وَعَنْهُ فِي الِابْنِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ مَعْرُوفَةٍ وَمِمَّنْ ذَكَرَهُنَّ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي " مُحَرَّرِهِ " . وَعَنْهُ فِي الْجَارِيَةِ رِوَايَتَيْنِ ؛ وَمِمَّنْ ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّة فِي كِتَابَيْهِ : " التَّلْخِيصِ " " وَتَرْغِيبِ الْقَاصِدِ " وَالرِّوَايَاتُ مَوْجُودَةٌ بِأَلْفَاظِهَا وَنَقَلَتِهَا وَأَسَانِيدِهَا فِي عِدَّةِ كُتُبٍ . وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي " تَعْلِيقِهِ " نُقِلَ عَنْ أَحْمَد فِي الْغُلَامِ : أُمُّهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا ؛ ثُمَّ الْأَبُ أَحَقُّ بِهِ . فَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ : إذَا عَقَلَ الْغُلَامُ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْأُمِّ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَالْأَبُ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ إذَا عَقَلَ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْأُمِّ . وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالثَّانِي وَغَيْرُهُمَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : إذَا أَكَلَ وَحْدَهُ وَلَبِسَ وَحْدَهُ وَتَوَضَّأَ وَحْدَهُ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ . وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ . وَالْأَوَّلُ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ؛ فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ : الْأُمُّ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى
يَثْغَرَ ؛ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ . وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ تَخْيِيرُ الْغُلَامِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ : فَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَمُوَافَقَتُهُ لِلشَّافِعِيِّ وَإِسْحَقَ أَكْثَرُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ لِغَيْرِهِمَا وَأُصُولُهُ بِأُصُولِهِمَا أَشْبَهُ مِنْهَا بِأُصُولِ غَيْرِهِمَا وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِمَا وَيُعَظِّمُهُمَا وَيُرَجِّحُ أُصُولَ مَذَاهِبِهِمَا عَلَى مَنْ لَيْسَتْ أُصُولُ مَذَاهِبِهِ كَأُصُولِ مَذَاهِبِهِمَا . وَمَذْهَبُهُ أَنَّ أُصُولَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَصَحُّ مِنْ أُصُولِ غَيْرِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَقُ هُمَا عِنْدَهُ مِنْ أَجَلِّ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ فِي عَصْرِهِمَا وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ فَتَنَاظَرَا فِي " مَسْأَلَةِ إجَارَةِ بُيُوتِ مَكَّةَ " وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ وَذَكَرَ أَحْمَد أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَا إسْحَقَ بِالْحُجَّةِ فِي مَوْضِعٍ وَأَنَّ إسْحَقَ عَلَاهُ بِالْحُجَّةِ فِي مَوْضِعٍ . فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يُبِيحُ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَإِسْحَقَ يَمْنَعُ مِنْهُمَا وَكَانَتْ الْحُجَّةُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا وَمَعَ إسْحَقَ فِي الْمَنْعِ مِنْ إجَارَتِهَا . وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ أُخِذَتْ مِنْ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ فَالْأُمُّ أعطف عَلَيْهِمْ مِقْدَارَ مَا يَعْقِلُونَ الْأَدَبَ فَتَكُونُ الْأُمُّ بِهِمْ أَحَقَّ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَإِذَا تَزَوَّجَتْ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِوَلَدِهِ : غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْبَرَكَاتِ . فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَبُرَ وَصَارَ يَعْقِلُ الْأَدَبَ
فَإِنَّهُ يَكُونُ مَقَرُّهُ أَيْضًا عِنْدَ الْأُمِّ ؛ لَكِنْ فِي وَقْتِ الْأَدَبِ وَهُوَ النَّهَارُ يَكُونُ عِنْدَ الْأَبِ وَهَذِهِ الْمُدَوَّنَةُ مَذْهَبُ مَالِكٍ بِعَيْنِهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ . فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي " التَّهْذِيبِ " أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ وَالْأَبَ يَتَعَاهَدُهُ عِنْدَهَا وَأَدَبُهُ وَبَعْثُهُ إلَى الْمَكْتَبِ وَلَا يَبِيتُ إلَّا عِنْدَ الْأُمِّ . قُلْت : وَحَنْبَلٌ وَأَحْمَد بْنُ الْفَرَجِ كَانَا يَسْأَلَانِ الْإِمَامَ أَحْمَد عَنْ مَسَائِلِ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا كَانَ يَسْأَلُهُ إسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَسَائِلِ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ وَكَمَا كَانَ يَسْأَلُهُ الميموني عَنْ مَسَائِلِ الأوزاعي وَكَمَا كَانَ يَسْأَلُهُ إسْمَاعِيلُ فِي سَعِيدِ الشالنجي عَنْ مَسَائِلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجْتَهَدَ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ رَجَّحَ فِيهَا مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَسَأَلَ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَحْمَد وَغَيْرَهُ وَشَرَحَهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجوزجاني إمَامُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ . وَأَمَّا " حَضَانَةُ الْبِنْتِ " إذَا صَارَتْ مُمَيِّزَةً فَوَجَدْنَا عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ وَقَدْ نَقَلَهُمَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّة وَغَيْرِهِ . " إحْدَاهُمَا " أَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ بِهَا كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الْمَعْرُوفَةِ فِي مَذْهَبِهِ . و " الثَّانِيَةُ " أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِهَا . قَالَ فِي رِوَايَةِ إسْحَقَ بْنِ مَنْصُورٍ يَقْضِي بِالْجَارِيَةِ لِلْأُمِّ وَالْخَالَةِ حَتَّى إذَا احْتَاجَتْ إلَى التَّزْوِيجِ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مَهْنَا بْنِ يَحْيَى : إنَّ الْأُمَّ وَالْجَدَّةَ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي " تَرْغِيبِ الْقَاصِدِ " وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا بِغَيْرِ تَخْيِيرٍ . وَعَنْهُ : الْأُمُّ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَحِيضَ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ نَحْوَ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . فَفِي " الْمُدَوَّنَةِ " مَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مَا لَمْ يَبْلُغْ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَإِذَا بَلَغَ وَهُوَ أُنْثَى نَظَرَتْ فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ فِي حَوْزٍ وَمَنَعَةٍ وَتَحَصُّنٍ فَهِيَ أَحَقُّ بِهَا أَبَدًا مَا لَمْ تُنْكَحْ وَإِنْ بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَنْعٍ وَحِرْزٍ وَتَحَصُّنٍ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ فِي نَفْسِهَا فَلِلْأَبِ أَخْذُهَا مِنْهَا وَالْوَصِيِّ وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ وَالْوَصِيُّ كَالْأَبِ فِي ذَلِكَ إذَا أَخَذَ إلَى أَمَانَةٍ وَتَحَصُّنٍ . وَمَذْهَبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ نَحْوُ ذَلِكَ قَالَ : الْأُمُّ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَبْلُغَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ فِي نَفْسِهَا وَأَدَبِهَا لِوَلَدِهَا أُخِذَتْ مِنْهَا إذَا بَلَغَتْ ؛ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً لَا يُخَافُ عَلَيْهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْأُمُّ وَالْجَدَّةُ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَحِيضَ وَمَنْ سِوَى الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَبْلُغَ حَدًّا تُشْتَهَى وَلَفْظُ الطَّحَاوِي : حَتَّى تَسْتَغْنِيَ كَمَا فِي الْغُلَامِ مُطْلَقًا . وَأَمَّا " التَّخْيِيرُ فِي الْجَارِيَةِ " فَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَمْ أَجِدْهُ مَنْقُولًا لَا عَنْ أَحْمَد وَلَا عَنْ إسْحَاقَ كَمَا نُقِلَ عَنْهُمَا التَّخْيِيرُ فِي الْغُلَامِ ؛ وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حيي : أَنَّهَا تُخَيَّرُ إذَا كَانَتْ كَاعِبًا وَالتَّخْيِيرُ فِي الْغُلَامِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِسْحَاقَ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ
فِي ذَلِكَ حَيْثُ { خَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا بَيْنَ أَبَوَيْهِ } " وَهِيَ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ نَصٌّ عَامٌّ فِي تَخْيِيرِ الْوَلَدِ مُطْلَقًا . وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي تَخْيِيرِ الْجَارِيَةِ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَخْيِيرِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ وَتَخْيِيرُ رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ ؛ كَتَخْيِيرِ مَنْ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ كَالْإِمَامِ وَالْوَلِيِّ ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا خُيِّرَ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ حَاكِمًا بِحُكْمِ اللَّهِ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ ؛ وَقَدْ لَا يُصِيبُهُ فَيُثَابَ كُلَّ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ وَلَا يَأْثَمُ بِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَصْلَحَةِ كَاَلَّذِي يُنْزِلُ أَهْلَ حِصْنٍ عَلَى حُكْمِهِ كَمَا { نَزَلَ بنوا قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا سَأَلَهُ فِيهِمْ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ : أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ أَجْعَلَ الْأَمْرَ إلَى سَيِّدِكُمْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَرَضَوْا بِذَلِكَ وَطَمِعَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ اسْتِبْقَاءَهُمْ أَنَّ سَعْدًا يُحَابِيهِمْ ؛ لِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْمُوَالَاةِ فَلَمَّا أَتَى سَعْدٌ حَكَمَ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ . وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَتُقَسَّمُ أَمْوَالُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا لِلَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إنْفَاذِهِ . وَمِثْلَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بريدة الْمَشْهُورِ قَالَ فِيهِ : { وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى
حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ : وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك } . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّهُ إذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا فَنَزَلُوا عَلَى حَكَمِ حَاكِمٍ جَازَ ؛ إذَا كَانَ رَجُلًا حُرًّا مُسْلِمًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ وَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِمَا فِيهِ حَظُّ الْإِسْلَامِ : مِنْ قَتْلٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ فِدَاءٍ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا حَكَمَ بِالْمَنِّ فَأَبَاهُ الْإِمَامُ : هَلْ يَلْزَمُ حُكْمُهُ أَوْ لَا يَلْزَمُ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ لِظَنِّ الْمُنَازِعِ أَنَّ الْمَنَّ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ . و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ تَخْيِيرَ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ الَّذِي نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ هُوَ تَخْيِيرُ رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ يَطْلُبُ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَعَلَهُ كَمَا يَنْظُرُ الْمُجْتَهِدُ فِي أَدِلَّةِ الْمَسَائِلِ فَأَيُّ الدَّلِيلَيْنِ كَانَ أَرْجَحَ اتَّبَعَهُ ؛ وَلَكِنْ مَعْنَى قَوْلِنَا " تَخْيِيرٌ " أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ؛ بَلْ قَدْ يَتَعَيَّنُ فِعْلُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } يَقْتَضِي فِعْلَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَغْيِيرَ هَذَا فِي حَالٍ وَهَذَا فِي حَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } فَتَرَبُّصُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يَمْتَنِعُ بِعَيْنِهِ إذَا كَانَ الْجِهَادُ فَرْضًا عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ فَحِينَئِذٍ يُصِيبُهُ اللَّهُ بِعَذَابٍ بِأَيْدِينَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ }
وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ تَخْيِيرَ مَشِيئَةٍ . فَفَعَلَ هَذِهِ الْأَرْبَعُ مَسَائِلُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ هَذَا فِي حَالٍ وَهَذَا فِي حَالٍ . ثُمَّ أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ : تِلْكَ الْأَحْوَالُ مَضْبُوطَةٌ بِالنَّصِّ فَإِنْ قَتَلُوا تَعَيَّنَ قَتْلُهُمْ وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا تَعَيَّنَ قَطْعُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلَافٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : التَّعْيِينُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ كَقَوْلِ مَالِكٍ فَإِذَا رَأَى أَنَّ الْقَتْلَ هُوَ الْمَصْلَحَةُ قَتَلَ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَتَلَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ " تَخْيِيرُ الْإِمَامِ فِي الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً " بَيْنَ جَعْلِهَا فَيْئًا وَبَيْنَ جَعْلِهَا غَنِيمَةً كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ جَعَلَهَا غَنِيمَةً قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَإِنْ رَأَى أَنْ لَا يَقْسِمَهَا جَازَ كَمَا لَمْ يَقْسِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ مَعَ أَنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً . شَهِدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ ؛ وَالسِّيرَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ وَكَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَلِأَنَّ خُلَفَاءَهُ بَعْدَهُ - أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ - فَتَحُوا مَا فَتَحُوا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ وَالرُّومِ وَفَارِسَ : كَالْعِرَاقِ ؛ وَالشَّامِ وَمِصْرَ ؛ وَخُرَاسَانَ وَلَمْ يَقْسِمْ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ شَيْئًا مِنْ الْعَقَارِ الْمَغْنُومِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ؛ لَا السَّوَادَ وَلَا غَيْرَ السَّوَادِ بَلْ جَعَلَ الْعَقَارَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } الْآيَةُ ؛ وَلَمْ يَسْتَأْذِنُوا فِي ذَلِكَ الْغَانِمِينَ ؛ بَلْ طَلَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْغَانِمِينَ قَسْمَ الْعَقَارِ فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ إلَى ذَلِكَ كَمَا طَلَبَ بِلَالٌ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَقْسِمَ أَرْضَ الشَّامِ وَطَلَبَ مِنْهُ الزُّبَيْرُ أَنْ يَقْسِمَ أَرْضَ مِصْرَ فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَطِبْ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَحَدًا مِنْ الْغَانِمِينَ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ فَيْئًا بِنَفْسِ الْفَتْحِ وَمِنْ ذَلِكَ نَصُّ مَذْهَبِهِ كَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إسْحَاقَ وَقَالُوا الْأَرْضُ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي الْغَنِيمَةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ الْمَغَانِمَ وَمِلْكَهُمْ الْعَقَارَ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَغَانِمِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد ؛ كَمَا ذَكَرَ عَنْهُ رِوَايَةً ثَالِثَةً كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ يَجِبُ قَسْمُ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَغْنُومٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ مَكَّةَ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً ؛ بَلْ صُلْحًا فَلَا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْهَا حُجَّةٌ . وَمَنْ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً - كَصَاحِبِ " الْوَسِيطِ " وَغَيْرِهِ - فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ ؛ وَقَالَ : لِأَنَّ السَّوَادَ لَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فِيهِ إلَّا أَنْ أَظُنَّ فِيهِ ظَنًّا مَقْرُونًا بِعِلْمِ وَظَنٍّ أَنَّ عُمَرَ اسْتَطَابَ الْغَانِمِينَ كَمَا رَوَى قَيْسُ بْنُ حَارِثَةَ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَعْدَلُ الْأَقَاوِيلِ وَأَشْبَهُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأُصُولِ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا : نُخَيِّرُ الْإِمَامَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَخْيِيرَ رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ ؛ لَا تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُخَيَّرُ فِيهِ وُلَاةُ الْأَمْرِ وَمَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَةِ : كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَوَصِيِّ الْيَتِيمِ وَالْوَكِيلِ الْمُطْلَقِ لَا يُخَيَّرُونَ تَخْيِيرَ . مَشِيئَةٍ وَشَهْوَةٍ ؛ بَلْ تَخْيِيرَ اجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ وَطَلَبُ الْجَوَازِ الْأَصْلَحِ : كَالرَّجُلِ الْمُبْتَلَى
بِعَدُوَّيْنِ وَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى الِابْتِدَاءِ بِأَحَدِهِمَا فَيَبْتَدِئُ بِمَالِهِ أَنْفَعَ : كَالْإِمَامِ فِي تَوْلِيَةِ مَنْ يُوَلِّيهِ مِنْ وُلَاةِ الْحَرْبِ وَالْحُكْمِ وَالْمَالِ : يَخْتَارُ الْأَصْلَحَ فَالْأَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ " فَمَنْ وَلَّى رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ يَجِدُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ " . وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّهمَا شَاءَ : كَالْمُكَفِّرِ إذَا خُيِّرَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْعِتْقِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْخِصَالِ أَفْضَلَ فَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُ الْمَفْضُولِ . وَكَذَلِكَ لَابِسُ الْخُفِّ إذَا خُيِّرَ بَيْنَ الْمَسْحِ وَبَيْنَ الْغَسْلِ ؛ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ . وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي إذَا خُيِّرَ بَيْنَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ . وَكَذَلِكَ تَخْيِيرُ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ ؛ وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاجِبًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَتَّى إذَا تَعَيَّنَ الْمَأْكُولُ وَجَبَ أَكْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا فِي الْمَشْهُورِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَفِي " كَفَّارَةِ الْمَجَامِعِ فِي رَمَضَانَ " هَلْ هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ ؟ أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ ؟ فِيهَا قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ ؛ لَكِنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا ثَبَتَ بِحِكَايَةِ الْمَجَامِعِ ؛ لَا بِلَفْظِ عَامٍّ ؛ فَلِهَذَا أَقْدَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنْ أَلْزَمَ بَعْضَ الْمُلُوكِ بِالصَّوْمِ عَيْنًا وَأَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا لَيْسَ شَرْعًا عَامًّا ؛ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَقَدَّمَ الْعِتْقَ فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ أَصْعَبَ مِنْ الصِّيَامِ : كَالْأَعْرَابِ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ الْعِتْقُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ .
وَكَذَلِكَ " تَخْيِيرُ الْحَاجِّ " بَيْنَ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَتَخْيِيرُ الْمُسَافِرِينَ بَيْنَ الْفِطْرِ وَالصَّوْمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ إلَّا مُتَمَتِّعًا أَوْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ - كَمَا تَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ - فَلَا يَجِئْ هَذَا عَلَى أَصْلِهِمْ . وَكَذَلِكَ " الْقَصْرُ " عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ قَطُّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي حَيَاتِهِ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهَا صَلَّتْ فِي حَيَاتِهِ السَّفَرَ أَرْبَعًا كُذِّبَ عِنْدَ حُذَّاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " التَّخْيِيرَ فِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ " فَمَنْ خُيِّرَ فِيمَا يَفْعَلُهُ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَبِوَكَالَةِ مُطْلَقَةٍ : لَمْ يُبَحْ لَهُ فِيهَا فِعْلُ مَا شَاءَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَصْلَحَ وَأَمَّا مَنْ تَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ : فَتَارَةً يَأْمُرُهُ الشَّارِعُ بِاخْتِيَارِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ كَمَا يَأْمُرُ الْمُجْتَهِدَ بِطَلَبِ أَقْوَى الْأَقَاوِيلِ وَأَصْلَحِ الْأَحْكَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَتَارَةً يُبِيحُ لَهُ مَا شَاءَ مِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي خُيِّرَ بَيْنَهَا كَمَا تَقَدَّمَ . هَذَا إذَا كَانَ مُكَلَّفًا . وَأَمَّا " الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ " يُخَيَّرُ تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ حَيْثُمَا كَانَ كُلٌّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ نَطِيرَ الْآخَرِ ؛ وَلَمْ يُضْبَطْ فِي حَقِّهِ حَكَمٌ عَامٌّ لِلْأَبِ أَوْ لِلْأُمِّ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ :
كُلُّ أَب فَهُوَ أَصْلَحُ لِلْمُمَيِّزِ مِنْ الْأُمِّ وَلَا كُلُّ أُمٍّ هِيَ أَصْلَحُ لَهُ مِنْ الْأَبِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْآبَاءِ أَصْلَحَ وَبَعْضُ الْأُمَّهَاتِ أَصْلَحَ . وَقَدْ يَكُونُ الْأَبُ أَصْلَحَ فِي حَالٍ وَالْأُمُّ أَصْلَحَ فِي حَالٍ . فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُعَيَّنَ أَحَدُهُمَا فِي هَذَا ؛ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ فَإِنَّ الْأُمَّ أَصْلَحُ لَهُ مِنْ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ أَرْفَقَ بِالصَّغِيرِ وَأَخْبَرَ بِتَغْذِيَتِهِ وَحَمْلِهِ وَأَصْبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَأَرْحَمَ بِهِ : فَهِيَ أَقْدَرُ . وَأَخْبَرُ وَأَرْحَمُ وَأَصْبَرُ : فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَعُيِّنَتْ الْأُمُّ فِي حَقِّ الطِّفْلِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِالشَّرْعِ . وَلَكِنْ يَبْقَى " تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ " : هَلْ عَيَّنَهُنَّ الشَّارِعُ ؛ لِكَوْنِ قَرَابَةِ الْأُمِّ مُقَدَّمَةً عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ فِي الْحَضَانَةِ ؟ أَوْ لِكَوْنِ النِّسَاءِ أَقْوَمَ بِمَقْصُودِ الْحَضَانَةِ مِنْ الرِّجَالِ فَقَطْ ؟ وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . يَظْهَرُ أَمْرُهُمَا فِي تَقْدِيمِ نِسَاءِ الْعَصَبَةِ عَلَى أَقَارِبِ الْأُمِّ : مِثْلَ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْأَبِ . وَالْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ . وَمِثْلَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَأَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحُجَّةِ تَقْدِيمُ نِسَاءِ الْعَصَبَةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الخرقي فِي " مُخْتَصَرِهِ " فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ . وَعَلَى هَذَا أُمُّ الْأَبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى أُمِّ الْأُمِّ . وَالْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ . وَالْعَمَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْخَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَقَارِبُ الْأَبِ مِنْ الرِّجَالِ عَلَى أَقَارِبِ الْأُمِّ وَالْأَخُ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ الْأَخِ لِلْأُمِّ وَالْعَمُّ أَوْلَى مِنْ الْخَالِ ؛ بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَا حَضَانَةَ لِلرِّجَالِ مِنْ أَقَارِبِ الْأُمِّ بِحَالِ وَالْحَضَانَةُ
لَا تَثْبُتُ إلَّا لِرَجُلِ مِنْ الْعَصَبَةِ أَوْ لِامْرَأَةٍ وَارِثَةٍ أَوْ مُدْلِيَةٍ بِعَصَبَةِ أَوْ وَرَاثٍ فَإِنْ عُدِمُوا فَالْحَاكِمُ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا حَضَانَةَ لِلرِّجَالِ مِنْ أَقَارِبِ الْأُمِّ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . فَلَوْ كَانَتْ جِهَاتُ الْأَقْرِبَةِ رَاجِحَةً لَتَرَجَّحَ رِجَالُهَا وَنِسَاؤُهَا فَلَمَّا لَمْ يَتَرَجَّحْ رِجَالُهَا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ نِسَاؤُهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مُجْمَعَ أُصُولِ الشَّرْعِ إنَّمَا يُقَدِّمُ أَقَارِبَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْعَقْدِ وَالنَّفَقَةِ وَوِلَايَةِ الْمَوْتِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُقَدِّمْ الشَّارِعُ قَرَابَةَ الْأُمِّ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَمَنْ قَدَّمَهُنَّ فِي الْحَضَانَةِ فَقَدْ خَالَفَ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَلَكِنْ قَدَّمَ الْأُمَّ لِأَنَّهَا امْرَأَةٌ ؛ وَجِنْسُ النِّسَاءِ فِي الْحَضَانَةِ مُقَدَّمَاتٌ عَلَى الرِّجَالِ . وَهَذَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ كَمَا قُدِّمَ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ وَتَقْدِيمُ أَخَوَاتِهِ عَلَى إخْوَتِهِ وَعَمَّاتِهِ عَلَى أَعْمَامِهِ وَخَالَاتِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ . هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَالِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ . وَأَمَّا تَقْدِيمُ جِنْسِ نِسَاءِ الْأُمِّ عَلَى نِسَاءِ الْأَبِ فَمُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالْعُقُولِ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَالَ هَذَا مَوْضِعٌ يَتَنَاقَضُ وَلَا يَطَّرِدُ أَصْلُهُ ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ لِمَنْ لَمْ يَضْبِطْ أَصْلَ الشَّرْعِ وَمَقْصُودَهُ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً حَتَّى تُوجَدَ فِي الْحَضَانَةِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ أُمَّ الْأُمِّ عَلَى أُمِّ الْأَبِ ؛ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُقَدِّمُ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ
مِنْ الْأُمِّ وَيُقَدِّمُ الْخَالَةَ عَلَى الْعَمَّةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَبَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى أَنَّ الْخَالَاتِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعَمَّاتِ ؛ لِكَوْنِهِنَّ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ . ثُمَّ قَالُوا فِي الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْأَخَوَاتِ : مَنْ كَانَتْ لِأَبَوَيْنِ أَوْلَى ثُمَّ مَنْ كَانَتْ لِأَبٍ ؛ ثُمَّ مَنْ كَانَتْ لِأُمِّ . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ هُنَا مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ ؛ لَكِنْ إذَا ضُمَّ هَذَا إلَى قَوْلِهِمْ بِتَقْدِيمِ قَرَابَةِ الْأُمِّ ظَهَرَ التَّنَاقُضُ . وَهُمْ أَيْضًا قَالُوا بِتَقْدِيمِ أُمَّهَاتِ الْأَبِ وَالْجَدِّ عَلَى الْخَالَاتِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمِّ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ ؛ لَكِنَّهُ يُنَاقِضُ هَذَا الْأَصْلَ وَلِهَذَا لَا يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْآخَرَ أَنَّ الْخَالَةَ وَالْأُخْتَ لِلْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أُمِّ الْأَبِ ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ؛ وَهَذَا أطرد لِأَصْلِهِمْ ؛ لَكِنَّهُ فِي غَايَةِ الْمُنَاقَضَةِ لِأُصُولِ الشَّرْعِ . " وَطَائِفَةٌ أُخْرَى " طَرَدَتْ أَصْلَهَا فَقَدَّمَتْ مِنْ الْأَخَوَاتِ مَنْ كَانَتْ لِأُمِّ عَلَى مَنْ كَانَتْ لِأَبٍ ؛ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ والمزني وَابْنِ سُرَيْجٍ . وَبَالَغَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي طَرْدِ قِيَاسِهِ حَتَّى قَدَّمَ الْخَالَةَ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ لِقَوْلِ زُفَرَ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَافَقَهَا ابْنُ سُرَيْجٍ ؟ وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ اسْتَشْنَعَ ذَلِكَ فَقَدَّمَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ أَمْعَنَ فِي طَرْدِ قِيَاسِهِ حَتَّى قَالَ : إنَّ الْخَالَةَ أَوْلَى مِنْ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ . وَيَرْوُونَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَأْخُذُوا بِمَقَايِيسِ زُفَرَ ؛ فَإِنَّكُمْ إذَا أَخَذْتُمْ بِمَقَايِيسِ زُفَرَ حَرَّمْتُمْ الْحَلَالَ وَحَلَّلْتُمْ الْحَرَامَ . وَكَانَ يَقُولُ : مِنْ الْقِيَاسِ
قِيَاسٌ أَقْبَحُ مِنْ الْبَوْلِ فِي الْمَسْجِدِ . وَزُفَرُ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِمْعَانِ فِي طَرْدِ قِيَاسِهِ إلَى الْأَصْلِ الثَّابِتِ فِي الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ وَمِنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ " وَهُوَ جَوَابُ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ " . فَمَنْ أَحْكَمَ هَذَا الْأَصْلَ اسْتَقَامَ قِيَاسُهُ . كَمَا أَنَّ زُفَرَ اعْتَقَدَ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ يَبْطُلُ فِيهِ التَّوْقِيتُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ لَازِمًا . وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَكَانَ مَضْمُونُ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ يَصِحُّ لَازِمًا غَيْرَ مُوَقَّتٍ وَهُوَ خِلَافُ الْمَنْصُوصِ وَخِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ . وَالْأُمَّةُ إذَا اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ يُنَاقِضُ الْقَوْلَيْنِ وَيَتَضَمَّنُ إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى الْخَطَأِ وَالْعُدُولِ عَنْ الصَّوَابِ ؛ وَلَيْسَ فِي السَّلَفِ مَنْ يَقُولُ فِي الْمُتْعَةِ إلَّا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ أَوْ تَصِحُّ مُؤَجَّلَةً . فَالْقَوْلُ بِلُزُومِهَا مُطْلَقٌ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ : وَسَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ فَاسِدٍ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ لَازِمًا مَعَ إبْطَالِ شَرْطِ التَّحْلِيلِ . وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } " فَدَلَّ النَّصُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي الْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِدُونِهَا ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِمَنْ فَاتَ غَرَضُهُ بِالِاشْتِرَاطِ إذَا بَطَلَ الشَّرْطُ فَكَيْفَ بِالْمَشْرُوطِ فِي النِّكَاحِ : وَأَصْلُ " عُمْدَتِهِمْ " كَوْنُ النِّكَاحِ يَصِحُّ بِدُونِ تَقْدِيرِ الصَّدَاقِ كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَقَاسُوا الَّذِي يُشْرَطُ فِيهِ نَفْيُ الْمَهْرِ
عَلَى النِّكَاحِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ تَقْدِيرُ الصَّدَاقِ فِيهِ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد . ثُمَّ طَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ قِيَاسَهُ فَصَحَّحَ " نِكَاحَ الشِّغَارِ " بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ إشْغَارَهُ عَنْ الْمَهْرِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَتَكَلَّفُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الشِّغَارِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْرِيكًا فِي الْبُضْعِ أَوْ تَعْلِيقَ الْعَقْدِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ فُرُوقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ . وَأَنَّ الصَّوَابَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ ؛ وَعَامَّةُ أَكْثَرِ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي إفْسَادِهِ بِشَرْطِ إشْغَارِ النِّكَاحِ عَنْ الْمَهْرِ وَأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِلَازِمِ إذَا شُرِطَ فِيهِ نَفْيُ الْمَهْرِ أَوْ مَهْرٌ فَاسِدٌ فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فِيهِ الْمَهْرَ ؛ فَلَمْ يَحِلَّ لِغَيْرِ الرَّسُولِ النِّكَاحُ بِلَا مَهْرٍ . فَمَنْ تَزَوَّجَ بِشَرْطِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَهْرٌ فَلَمْ . يَعْتَبِرْ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَبَاحَ الْعَقْدَ لِمَنْ يَبْتَغِي بِمَالِهِ مُحْصِنًا غَيْرَ مُسَافِحٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } فَمَنْ طَلَبَ النِّكَاحَ بِلَا مَهْرٍ فَلَمْ يَفْعَلْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَهْرٍ ؛ لَكِنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } فَهَذَا نِكَاحُ الْمَهْرِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ .
وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَهُوَ السِّعْرُ أَوْ الْإِجَارَةَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ : لَا يَصِحُّ . وَقَدْ سَلَّمَ لَهُمْ هَذَا الْأَصْلَ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي الْبَيْعِ . وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : يَجِبُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي مَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَمَنْ دَخَلَ حَمَّامَ حمامي يَدْخُلُهَا النَّاسُ بالكرا أَوْ يَسْكُنُ فِي خَانٍ أَوْ حُجْرَةٍ عَادَتُهَا بِذَلِكَ أَوْ دَفَعَ طَعَامَهُ أَوْ خُبْزَهُ إلَى مَنْ يَطْبُخُ أَوْ يَخْبِزُ بِالْأُجْرَةِ أَوْ بِنَايَةً إلَى مَنْ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ أَوْ رَكِبَ دَابَّةَ مُكَارِي يُكَارِي بِالْأُجْرَةِ أَوْ سَفِينَةَ مَلَّاحٍ يُرْكِبُ بِالْأُجْرَةِ فَإِنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَيَجِبُ فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ . فَهَذِهِ إجَارَةٌ عَنْ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ إذَا ابْتَاعَ طَعَامًا مِثْلَ مَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ أَوْ بِسِعْرِ مَا يَبِيعُونَ النَّاسَ أَوْ بِمَا اشْتَرَاهُ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ بِرَقْمِهِ : فَهَذَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَمِثْلِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ ؛ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ إلَّا الْقَوْلُ بِفَسَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا كَانَ " مَسَائِلَ الْحَضَانَةِ " وَإِنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأُمَّ قُدِّمَتْ لِتَقَدُّمِ قَرَابَةِ الْأُمِّ لَمَّا كَانَ أَصْلُهُمْ ضَعِيفًا كَانَتْ الْفُرُوعُ اللَّازِمَةُ لِلْأَصْلِ الضَّعِيفِ ضَعِيفَةً وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ فَسَادَ الْمَلْزُومِ ؛ بَلْ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ أَنَّهَا
قُدِّمَتْ لِكَوْنِهَا امْرَأَةً فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ أَحَقَّ بِحَضَانَةِ الصَّغِيرِ مِنْ الرَّجُلِ . فَتُقَدَّمُ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ وَالْجَدَّةُ عَلَى الْجَدِّ وَالْأُخْتُ عَلَى الْأَخِ وَالْخَالَةُ عَلَى الْخَالِ وَالْعَمَّةُ عَلَى الْعَمِّ . وَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ امْرَأَةٌ بَعِيدَةٌ وَرَجُلٌ قَرِيبٌ فَهَذَا بَسْطُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ مَسْأَلَةِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ فَتَخْيِيرُ الصَّبِيِّ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ تَعْيِينُ الْأَبِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . . . (1) الْأُمُّ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَالتَّخْيِيرُ تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا : إذَا اخْتَارَ الْأَبُ مُدَّةً ثُمَّ اخْتَارَ الْأُمَّ فَلَهُ ذَلِكَ حَتَّى قَالُوا : مَتَى اخْتَارَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرَ نُقِلَ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارَ أَبَدًا . وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالتَّخْيِيرِ : الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ . وَقَالُوا : إذَا اخْتَارَ الْأُمَّ كَانَ عِنْدَهَا لَيْلًا وَأَمَّا بِالنَّهَارِ فَيَكُونُ عِنْدَ الْأَبِ ؛ لِيُعَلِّمَهُ وَيُؤَدِّبَهُ . هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ يَقُولُ يَكُونُ عِنْدَهَا بِلَا تَخْيِيرٍ وَالْأَبُ يَتَعَاهَدُهُ عِنْدَهَا وَأَدَبَهُ وَبَعْثَهُ لِلْمَكْتَبِ وَلَا يَبِيتُ إلَّا عِنْدَ الْأُمِّ . قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : إنْ اخْتَارَ الْأَبَ كَانَ عِنْدَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ زِيَارَةِ أُمِّهِ وَلَا تُمْنَعْ الْأُمُّ مِنْ تَمْرِيضِهِ إذَا اعْتَلَّ . فَأَمَّا " الْبِنْتُ " إذَا خُيِّرَتْ : فَكَانَتْ عِنْدَ الْأُمِّ تَارَةً وَعِنْدَ الْأَبِ تَارَةً . أَفْضَى ذَلِكَ إلَى كَثْرَةِ بُرُوزِهَا وَتَبَرُّجِهَا وَانْتِقَالِهَا مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ
وَلَا يَبْقَى الْأَبُ مُوَكَّلًا بِحِفْظِهَا وَلَا الْأُمُّ مُوَكَّلَةً بِحِفْظِهَا . وَقَدْ عُرِفَ بِالْعَادَةِ أَنَّ مَا يَتَنَاوَبُ النَّاسُ عَلَى حِفْظِهِ ضَاعَ وَمِنْ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ " لَا يَصْلُحُ الْقِدْرُ بَيْنَ طَبَّاخَيْنِ " . " وَأَيْضًا " فَاخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا يُضْعِفُ رَغْبَةَ الْآخَرِ فِي الْإِحْسَانِ وَالصِّيَانَةِ فَلَا يَبْقَى الْأَبُ تَامَّ الرَّغْبَةِ وَلَا الْأُمُّ تَامَّةَ الرَّغْبَةِ فِي حِفْظِهَا وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى كَمَا قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ : { رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } { وَإنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى } { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } فَهَذِهِ مَرْيَمُ احْتَاجَتْ إلَى مَنْ يَكْفُلُهَا وَيَحْضُنُهَا حَتَّى أَسْرَعُوا إلَى كَفَالَتِهَا فَكَيْفَ غَيْرُهَا مِنْ النِّسَاءِ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ مِنْ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّبِيُّ وَكُلُّ مَا كَانَ أَسْتَرَ لَهَا وأصون كَانَ أَصْلَحَ لَهَا . وَلِهَذَا كَانَ لِبَاسُهَا الْمَشْرُوعُ لِبَاسًا يَسْتُرُهَا وَلُعِنَ مَنْ يَلْبَسُ لِبَاسَ الرِّجَالِ وَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي عِصَابَتِهَا { : لَيَّةٌ لَا لَيَّتَيْنِ } " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . " { صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ : نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ } .
و " أَيْضًا " يَأْمُرُونَ الْمَرْأَةَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَجْمَعَ وَلَا تُجَافِيَ بَيْنَ أَعْضَائِهَا وَتَتَرَبَّعَ وَلَا تَفْتَرِشَ وَفِي الْإِحْرَامِ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا إلَّا بِقَدْرِ مَا تَسْمَعُ رَفِيقَتُهَا وَأَنْ لَا تَرْقَى فَوْقَ الصَّفَا والمروة . كُلُّ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ سَتْرِهَا وَصِيَانَتِهَا وَنُهِيَتْ أَنْ تُسَافِرَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ ؛ لِحَاجَتِهَا فِي حِفْظِهَا إلَى الرِّجَالِ مَعَ كِبَرِهَا وَمَعْرِفَتِهَا . فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً مُمَيِّزَةً وَقَدْ بَلَغَتْ سِنَّ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ فِيهَا وَهِيَ قَابِلَةٌ لِلِانْخِدَاعِ وَفِي الْحَدِيثِ { النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وظم إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُ . } فَهَذَا قِيَاسُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصِّفَةِ الْمُمَيِّزَةِ مِنْ أَحْوَجِ النِّسَاءِ إلَى حِفْظِهَا وَصَوْنِهَا وَتَرَدُّدُهَا بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مِمَّا يُخِلُّ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا هِيَ لَا يَجْتَمِعُ قَلْبُهَا عَلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَلَا يَجْتَمِعُ قَلْبُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى حِفْظِهَا . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ تَمْكِينَهَا مِنْ اخْتِيَارِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً يُخِلُّ بِكَمَالِ حِفْظِهَا وَهُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى ظُهُورِهَا وَبُرُوزِهَا فَكَانَ الْأَصْلَحُ لَهَا أَنْ تُجْعَلَ عِنْدَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا لَا تُمَكَّنُ مِنْ التَّخْيِيرِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ . وَلَيْسَ فِي تَخْيِيرِهَا نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ تَخْيِيرِهَا وَتَخْيِيرِ الِابْنِ ؛ لَا سِيَّمَا وَالذَّكَرُ مَحْبُوبٌ مَرْغُوبٌ وَالْبِنْتُ مَزْهُودٌ فِيهَا . فَأَحَدُ الْوَالِدَيْنِ قَدْ يَزْهَدُ فِيهَا مَعَ رَغْبَتِهَا فِيهِ فَكَيْفَ مَعَ زُهْدِهَا فِيهِ فَالْأَصْلَحُ لَهَا لُزُومُ أَحَدِهِمَا ؛ لَا التَّرَدُّدُ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ هُنَاكَ يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا : فَمَنْ عَيَّنَ الْأُمَّ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يُرَاعُوا مَعَ ذَلِكَ صِيَانَةَ الْأُمِّ لَهَا وَلِهَذَا قَالُوا مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَغَيْرُهُمَا : إذَا لَمْ تَكُنْ الْأُمُّ فِي مَوْضِعِ حِرْزٍ
وَتَحْصِينٍ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ : فَلِلْأَبِ أَخْذُهَا مِنْهَا . وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَاعَاهُ أَحْمَد فِي الرَّاوِيَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَصْحَابِهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ حِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا وَأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ الْأُمِّ إذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظَةً لَهَا بِلَا رَيْبٍ فَالْأَبُ أَقْدَرُ عَلَى حِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا وَهِيَ مُمَيِّزَةٌ لَا تَحْتَاجُ فِي بَدَنِهَا إلَى أَحَدٍ وَالْأَبُ لَهُ مِنْ الْهَيْبَةِ وَالْحُرْمَةِ مَا لَيْسَ لِلْأُمِّ . وَأَحْمَد وَأَصْحَابُهُ إنَّمَا يُقَدِّمُونَ الْأَبَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ حِرْزٌ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَبَ عَاجِزٌ عَنْ حِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا أَوْ مُهْمِلٌ لِحِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْأُمَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ . فَكُلُّ مَنْ قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ إنَّمَا نُقَدِّمُهُ إذَا حَصَلَ بِهِ مَصْلَحَتُهَا أَوْ انْدَفَعَتْ بِهِ مَفْسَدَتُهَا . فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ فَسَادِ أَمْرِهَا مَعَ أَحَدِهِمَا فَالْآخَرُ أَوْلَى بِهَا بِلَا رَيْبٍ حَتَّى الصَّغِيرُ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ وَقَدَّمْنَاهُ إنَّمَا نُقَدِّمُهُ بِشَرْطِ حُصُولِ مَصْلَحَتِهِ وَزَوَالِ مَفْسَدَتِهِ . فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْأَبَ دَيُّوثٌ لَا يَصُونُهُ وَالْأُمُّ تَصُونُهُ : لَمْ نَلْتَفِتْ إلَى اخْتِيَارِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ ضَعِيفُ الْعَقْلِ قَدْ يَخْتَارُ أَحَدَهُمَا لِكَوْنِهِ يُوَافِقُ هَوَاهُ الْفَاسِدَ وَيَكُونُ الصَّبِيُّ قَصْدُهُ الْفُجُورُ وَمُعَاشَرَةُ الْفُجَّارِ وَتَرْكُ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْأَدَبِ وَالصِّنَاعَةِ فَيَخْتَارُ مِنْ أَبَوَيْهِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ مَعَهُ مَا يَهْوَاهُ وَالْآخَرُ قَدْ يَرُدُّهُ وَيُصْلِحُهُ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَنْ يَفْسُدُ مَعَهُ حَالُهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } " فَمَتَى كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ وَالْآخَرُ
لَا يَأْمُرُهُ كَانَ عِنْدَ الَّذِي يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْآمِرَ لَهُ هُوَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَرْبِيَتِهِ وَالْآخَرُ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَلَا نُقَدِّمُ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ فِيهِ عَلَى مَنْ يُطِيعُ اللَّهَ فِيهِ ؛ بَلْ يَجِبُ إذَا كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ يَفْعَلُ مَعَهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَتْرُكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْآخَرُ لَا يَفْعَلُ مَعَهُ الْوَاجِبَ أَوْ يَفْعَلُ مَعَهُ الْحَرَامَ : قُدِّمَ مَنْ يَفْعَلُ الْوَاجِبَ وَلَوْ اخْتَارَ الصَّبِيُّ غَيْرَهُ ؛ بَلْ ذَلِكَ الْعَاصِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِحَالِ ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ فِي وِلَايَتِهِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ ؛ بَلْ إمَّا تُرْفَعُ يَدُهُ عَنْ الْوِلَايَةِ وَيُقَامُ مَنْ يَفْعَلُ الْوَاجِبَ وَإِمَّا أَنْ نَضُمَّ إلَيْهِ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ بِالْوَاجِبِ . فَإِذَا كَانَ مَعَ حُصُولِهِ عِنْدَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لَا تَحْصُلُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي حَقِّهِ وَمَعَ حُصُولِهِ عِنْدَ الْآخَرِ تَحْصُلُ : قُدِّمَ الْأَوَّلُ قَطْعًا . وَلَيْسَ هَذَا الْحَقُّ مِنْ جِنْسِ الْمِيرَاثِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالرَّحِمِ وَالنِّكَاحِ وَالْوِلَايَةِ إنْ كَانَ الْوَارِثُ حَاجِزًا أَوْ عَاجِزًا . بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ " الْوِلَايَةِ " وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْمَالِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَفِعْلُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَبَ تَزَوَّجَ ضَرَّةً وَهِيَ تُتْرَكُ عِنْدَ ضَرَّةِ أُمِّهَا لَا تَعْمَلُ مَصْلَحَتَهَا بَلْ تُؤْذِيهَا أَوْ تُقَصِّرُ فِي مَصْلَحَتِهَا وَأُمُّهَا تَعْمَلُ مَصْلَحَتُهَا وَلَا تُؤْذِيهَا فَالْحَضَانَةُ هُنَا لِلْأُمِّ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ التَّخْيِيرَ مَشْرُوعٌ وَأَنَّهَا اخْتَارَتْ الْأُمَّ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ لَيْسَ لَهُ نَصٌّ عَامٌّ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا وَلَا تَخْيِيرِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا . وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا مُطْلَقًا ؛ بَلْ مَعَ الْعُدْوَانِ وَالتَّفْرِيطِ لَا يُقَدَّمُ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ عَلَى الْبَرِّ الْعَادِلِ الْمُحْسِنِ الْقَائِمِ بِالْوَاجِبِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ كَبِيرٌ فَسَافَرَ مَعَ كَرَائِمِ أَمْوَالِهِ فِي
الْبَحْرِ الْمَالِحِ وَلَهُ آخَرُ مُرَاهِقٌ مِنْ أُمٍّ أُخْرَى مُطَلَّقَةٍ
مِنْهُ وَلَهَا أَبٌ وَأُمٌّ ؛ وَالْوَلَدُ عِنْدَهُمْ مُقِيمٌ فَأَرَادَ
وَالِدُهُ أَخْذَهُ وَتَسْفِيرَهُ صُحْبَةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ رِضَا الْوَالِدَةِ
وَغَيْرِ رِضَا الْوَلَدِ : فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
يُخَيَّرُ الْوَلَدُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ ؛ فَإِنْ اخْتَارَ الْمُقَامَ عِنْدَ
أُمِّهِ وَهِيَ غَيْرُ مُزَوَّجَةٍ كَانَ عِنْدَهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ
تَسْفِيرُهُ ؛ لَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ أَبِيهِ نَهَارًا لِيُعَلِّمَهُ
وَيُؤَدِّبَهُ وَعِنْدَ أُمِّهِ لَيْلًا . وَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ
الْأَبِ كَانَ عِنْدَهُ . وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْأَبِ وَرَأَى مِنْ
الْمَصْلَحَةِ لَهُ تَسْفِيرَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْوَلَدِ
فَلَهُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ وَمَعَهَا بِنْتٌ وَتُوُفِّيَتْ الزَّوْجَةُ
وَبَقِيَتْ الْبِنْتُ عِنْدَهُ رَبَّاهَا ؛ وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ الْجُنْدِ
لِأَخْذِهَا : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ .
الْجَوَابُ :
لَيْسَ لِلْجُنْدِ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
لَهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ بِالنَّسَبِ فَمَنْ كَانَ أَصْلَحَ لَهَا
حَضَنَهَا وَزَوْجُ أُمِّهَا مَحْرَمٌ لَهَا . وَأَمَّا الْجُنْدُ فَلَيْسَ
مَحْرَمًا لَهَا : فَإِذَا كَانَ يَحْضُنُهَا حَضَانَةً تُصْلِحُهَا لَمْ تُنْقَلْ
مِنْ عِنْدِهِ لِأَجْنَبِيٍّ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَالْخَلْوَةُ
بِهَا .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
إذَا كَانَ الِابْنُ فِي حَضَانَةِ أُمِّهِ فَأَنْفَقَتْ عَلَيْهِ تَنْوِي
بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَبِ فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ فِي
أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ
مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا
أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا رَجَعَ عَلَيْهِ وَإِنْ فَعَلَهُ
بِغَيْرِ إذْنٍ : مِثْلَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ أَوْ يُنْفِقَ عَلَى عَبْدِهِ
أَوْ يَخْشَى أَنْ يَقْتُلَهُ الْعَدُوُّ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ
بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ ؛ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا . فَإِنْ
تَبَرَّعَتْ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ . فَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهَا
أَنَّهَا إنْ سَافَرَتْ بِالْبِنْتِ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ
فَسَافَرَتْ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ ؛ وَلَوْ نَوَتْ الرُّجُوعَ ؛
لِأَنَّهَا ظَالِمَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ بِالسَّفَرِ بِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا
أَنْ تُسَافِرَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهَا وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي
السَّفَرِ إلَّا إذَا كَانَتْ مُتَبَرِّعَةً بِالنَّفَقَةِ ؛ فَمَتَى سَافَرَتْ
وَطَلَبَتْ الرُّجُوعَ بِالنَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
بَابُ
الْجِنَايَاتِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْقِصَاصِ
فَأَجَابَ :
الْقِصَاصُ ثَابِتٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ يُقْتَصُّ
لِلْهَاشِمِيِّ الْمُسْلِمِ مِنْ الْحَبَشِيِّ الْمُسْلِمِ وَلِلْحَبَشِيِّ
الْمُسْلِمِ مِنْ الْهَاشِمِيِّ الْمُسْلِمِ : فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ
وَالْأَعْرَاضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . بِحَيْثُ يَجُوزُ الْقِصَاصُ فِي الْأَعْرَاضِ
يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتَصَّ . فَإِذَا قَالَ لَهُ الْهَاشِمِيُّ : يَا
كَلْبُ قَالَ لَهُ يَا كَلْبُ وَإِذَا قَالَ : لَعَنَك اللَّهُ . قَالَ لَهُ :
لَعَنَك اللَّهُ . وَيَجُوزُ ذَلِكَ . وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } {
إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { وَلَمَنْ
صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . وَلَوْ كَذَبَ عَلَيْهِ
لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ سَبَّ أَبَا رَجُلٍ
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسُبَّ أَبَاهُ سَوَاءٌ كَانَ هَاشِمِيًّا أَوْ غَيْرَ
هَاشِمِيٍّ ؛ فَإِنَّ أَبَا السَّابِّ
لَمْ
يَظْلِمْهُ ؛ وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ السَّابُّ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى } . وَلَكِنْ إنْ سَبَّ مُسْلِمٌ أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ
عَلَى ذَلِكَ . فَالْهَاشِمِيُّ إذَا سَبَّ أَبَا مُسْلِمٍ عُزِّرَ الْهَاشِمِيُّ
عَلَى ذَلِكَ . وَمَنْ سَبَّ أَبَا هَاشِمِيٍّ عُزِّرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا
يُجْعَلُ ذَلِكَ سَبًّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ
سَبَّ أَبَاهُ وَجَدَّهُ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ ظَاهِرًا فِي ذَلِكَ ؛ إذْ الْجَدُّ الْمُطْلَقُ
: هُوَ أَبُو الْأَبِ . وَإِذَا سُمِّيَ الْعَبْدُ جَدًّا فَأَجْدَادُهُ كَثِيرَةٌ
فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ ؛ وَسَبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كُفْرٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ فَلَا يَزُولُ الْإِيمَانُ الْمُتَعَيِّنُ
بِالشَّكِّ وَلَا يُبَاحُ الدَّمُ الْمَعْصُومُ بِالشَّكِّ ؛ لَا سِيَّمَا
وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ هُوَ أَنْ لَا يَقْصِدَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا لَفْظُهُ وَلَا حَالُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَا
يُقْبَلُ عَلَيْهِ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَصَدَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا حُجَّةٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ حُكْمِ قَتْلِ الْمُتَعَمِّدِ وَمَا هُوَ : هَلْ إنْ قَتَلَهُ عَلَى مَالٍ ؟
أَوْ حِقْدٍ ؟ أَوْ عَلَى أَيِّ شَيٍّ يَكُونُ قَتْلُ الْمُتَعَمِّدِ ؟ وَقَالَ
قَائِلٌ : إنْ كَانَ عَلَى مَالٍ فَمَا هُوَ هَذَا أَوْ عَلَى حِقْدٍ ؛ أَوْ عَلَى
دَيْنٍ : فَمَا هُوَ مُتَعَمِّدٌ . فَقَالَ الْقَائِلُ : فَالْمُتَعَمِّدُ ؟ قَالَ
: إذَا قَتَلَهُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا قَتَلَهُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ : مِثْلَ مَا
يُقَاتِلُ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى دِينِهِمْ : فَهَذَا كَافِرٌ
شَرٌّ مِنْ الْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ فَإِنَّ هَذَا كَافِرٌ مُحَارَبٌ بِمَنْزِلَةِ
الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ وَهَؤُلَاءِ مُخَلَّدُونَ فِي جَهَنَّمَ كَتَخْلِيدِ غَيْرِهِمْ
مِنْ الْكُفَّارِ وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ قَتْلًا مُحَرَّمًا ؛ لِعَدَاوَةِ أَوْ
مَالٍ أَوْ خُصُومَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ ؛ وَلَا
يُكَفَّرُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا
يُكَفَّرُ بِمِثْلِ هَذَا الْخَوَارِجُ ؛ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ
أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ
الَّذِينَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ
يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } . وَجَوَابُهُمْ : عَلَى أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ
عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِقَتْلِهِ عَلَى إيمَانِهِ . وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ
يَحْمِلُوهَا عَلَى هَذَا ؛ بَلْ قَالُوا : هَذَا وَعِيدٌ مُطْلَقٌ قَدْ فَسَّرَهُ
قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَفِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ
السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ شَيْخُ
الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ عَمْرٌو : يُؤْتَى بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لِي
: يَا عَمْرَوًا مِنْ أَيْنَ قُلْت . إنِّي لَا أَغْفِرُ لِقَاتِلِ ؟ فَأَقُولُ :
أَنْتَ يَا رَبُّ قُلْت : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } . قَالَ : فَقُلْت لَهُ : فَإِنْ قَالَ لَك :
فَإِنِّي قُلْت : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنِّي لَا أَشَاءُ أَنْ
أَغْفِرَ لِهَذَا ؟ فَسَكَتَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْقَاتِلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً : هَلْ يَدْفَعُ الْكَفَّارَةَ
الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } ؟ أَوْ
يُطَالَبُ بِدِيَةِ الْقَتْلِ ؟
فَأَجَابَ :
" قَتْلُ الْخَطَأِ " لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ
وَلَا إثْمَ فِيهِ . وَأَمَّا الْقَاتِلُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْإِثْمُ فَإِذَا
عفى عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ أَوْ أَخَذُوا الدِّيَةَ : لَمْ يَسْقُطْ
بِذَلِكَ حَقُّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ . وَإِذَا قَتَلُوهُ فَفِيهِ نِزَاعٌ
فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا يَسْقُطَ ؛ لَكِنَّ الْقَاتِلَ
إذَا كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْهُ بَعْضُهَا مَا يَرْضَى بِهِ الْمَقْتُولُ
أَوْ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ إذَا تَابَ الْقَاتِلُ تَوْبَةً نَصُوحًا
. وَقَاتِلُ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ
الْأُمَّةِ وَالدِّيَةُ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهَدِ كَمَا قَدْ دَلَّ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ؛ وَلَا يُعْرَفُ
فِيهِ خِلَافٌ مُتَقَدِّمٌ ؛ لَكِنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي الظَّاهِرِيَّةِ زَعَمَ
أَنَّهُ الَّذِي لَا دِيَةَ لَهُ .
وَأَمَّا
" الْقَاتِلُ عَمْدًا " فَفِيهِ الْقَوَدُ فَإِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى
الدِّيَةِ . جَازَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَكَانَتْ الدِّيَةُ مِنْ
مَالِ الْقَاتِلِ ؛ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّ دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
وَأَمَّا " الْكَفَّارَةُ " فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ :
قَتْلُ الْعَمْدِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ كَذَلِكَ قَالُوا فِي الْيَمِينِ
الْغَمُوسِ . هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي
الْمَشْهُورِ عَنْهُ كَمَا اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الزِّنَى أَعْظَمُ
مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ ؛ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِوَطْءِ الْمُظَاهِرِ
وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ
الْأُخْرَى : بَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الْكَفَّارَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ جَمَاعَةٍ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ رَجُلٍ وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ
: فَهَلْ لِأَوْلَادِهِ الْكِبَارِ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ ؛ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا
وَافَقَ وَلِيُّ الصِّغَارِ - الْحَاكِمُ أَوْ غَيْرُهُ - عَلَى الْقَتْلِ مَعَ
الْكِبَارِ : فَهَلْ يُقْتَلُونَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْتُلُوا وَلَهُمْ أَنْ
يَعْفُوا . فَإِذَا اتَّفَقَ الْكِبَارُ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى
قَتْلِهِمْ
فَلَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَكَذَا إذَا وَافَقَ وَلِيُّ الصِّغَارِ
الْحَاكِمُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْكِبَارِ فَيَقْتُلُونَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْإِنْسَانِ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا أَوْ خَطَأً وَأَخَذَ مِنْهُ
الْقِصَاصَ فِي الدُّنْيَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ وَالسُّلْطَانُ : فَهَلْ
عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الْقَاتِلُ خَطَأً فَلَا يُؤْخَذُ
مِنْهُ قِصَاصٌ ؛ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ ؛ لَكِنَّ الْوَاجِبَ
فِي ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِ الْقَتِيلِ إلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا . وَأَمَّا " الْقَاتِلُ عَمْدًا " إذَا اُقْتُصَّ مِنْهُ
فِي الدُّنْيَا : فَهَلْ لِلْمَقْتُولِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي الْآخِرَةِ
؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ فِيمَا أَظُنُّ مَنْ
يَقُولُ : لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ اُسْتُوْفِيَ
مِنْهُ فِي الدُّنْيَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ عَلَيْهِ حَقٌّ ؛ فَإِنَّ
حَقَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِقَتْلِ الْوَرَثَةِ كَمَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اللَّهِ
بِذَلِكَ ؛ وَكَمَا لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ الَّذِي غُصِبَ مَالُهُ
وَأُعِيدَ إلَى وَرَثَتِهِ ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الظَّالِمَ بِمَا حَرَمَهُ
مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا ؛ وَلِلْمَقْتُولِ بِنْتٌ عُمْرُهَا خَمْسُ
سِنِينَ وَزَوْجَتُهُ حَامِلٌ مِنْهُ وَأَبْنَاءُ عَمٍّ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ
يُقْتَصَّ مِنْهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْبِنْتِ وَوَضْعِ الْحَمْلِ ؛ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ أَنْ
يَقْتَصُّوا مِنْهُ ؛ إلَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ لِلْعَصَبَةِ أَنْ
يَقْتَصُّوا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ . أَمَّا إنْ وَضَعَتْ بِنْتًا أَوْ بِنْتَيْنِ
بِحَيْثُ يَكُونُ لِبَنِي الْعَمِّ نَصِيبٌ مِنْ التَّرِكَةِ : كَانَ لِلْعَصَبَةِ
أَنْ يَقْتَصُّوا قَبْلَ بُلُوغِ الْبَنَاتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ؛ وَلَمْ يَجُزْ لَهُنَّ الْقِصَاصُ فِي الْمَشْهُورِ
عَنْهُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَهَلْ لِوَلِيِّ الْبَنَاتِ كَالْحَاكِمِ
أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُنَّ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالصُّلْحِ عَلَى مَالِ ؟
رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . " إحْدَاهُمَا " وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ جَوَازُ ذَلِكَ . و " الثَّانِيَةُ " لَا يَجُوزُ الْقِصَاصُ
؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْبَنَاتُ مَحَاوِيجُ هَلْ
لِوَلِيِّهِنَّ الْمُصَالَحَةُ عَلَى مَالٍ لَهُنَّ ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ وَكَانَ اثْنَانِ حَاضِرَانِ قَتَلَهُ وَاتَّفَقَ
الْجَمَاعَةُ عَلَى قَتْلِهِ وَقَاضِي النَّاحِيَةِ عَايَنَ الضَّرْبَ فِيهِ
وَنُوَّابُ الْوِلَايَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ
وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ لِأَوْلِيَاءِ الدَّمِ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ
كُلَّهُمْ وَلَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا بَعْضَهُمْ . وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُ
الْقَاتِلِ فَلِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى وَاحِدٍ
بِعَيْنِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَيُحْكَمُ لَهُمْ بِالدَّمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا وَتَحَالَفُوا عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَقَدْ
أَخَذُوا مَعَهُمْ جَمَاعَةً أُخْرَى مَا حَضَرُوا تَحْلِيفَهُمْ وَتَقَدَّمُوا
إلَى الشَّخْصِ وَضَرَبُوهُ بِالسَّيْفِ وَالدَّبَابِيسِ ؛ وَرَمَوْهُ فِي
الْبَحْرِ : فَهَلْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ مَعْصُومٍ بِحَيْثُ أَنَّهُمْ جَمِيعُهُمْ بَاشَرُوا
قَتْلَهُ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ
بَاشَرَ وَبَعْضُهُمْ قَائِمٌ يَحْرُسُ
الْمُبَاشِرَ
؛ وَيُعَاوِنُهُ . فَفِيهَا قَوْلَانِ " أَحَدُهُمَا " لَا يَجِبُ
الْقَوَدُ إلَّا عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي فِعْلِ كُلِّ شَخْصٍ
مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلزُّهُوقِ . و " الثَّانِي " يَجِبُ عَلَى
الْجَمِيعِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ لِغَرَضِ خَاصٍّ :
مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ أَوْ خُصُومَةٌ أَوْ يُكْرِهُونَهُ
عَلَى فِعْلٍ لَا يُبِيحُ قَتْلَهُ : فَهُنَا الْقَوَدُ لِوَارِثِهِ : إنْ شَاءَ
قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ . وَإِنْ كَانَ
الْوَارِثُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ فَلِمَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ فَالسُّلْطَانُ وَلَيُّهُ وَالْحَاكِمُ نَائِبُهُ فِي
أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لَا حَتَّى
يَبْلُغَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اتَّفَقَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْلَادُهُ وَجِوَارُهُ وَرَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ :
فَمَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُمْ جَمِيعُهُمْ وَالْأَمْرُ فِي
ذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُشَارِكِينَ فِي قَتْلِهِ ؛ بَلْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ وَرَثَتِهِ
فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ كَانُوا هُمْ أَوْلِيَاءَهُ ؛ وَكَانُوا أَيْضًا
الْوَارِثِينَ لِمَالِهِ ؛ فَإِنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ . وَلَيْسَ
لِلسُّلْطَانِ حَقٌّ لَا فِي دَمِهِ وَلَا فِي مَالِهِ ؛ بَلْ الْإِخْوَةُ لَهُمْ
الْخِيَارُ : إنْ شَاءُوا قَتَلُوا جَمِيعَ الْمُشْتَرِكِينَ فِي قَتْلِهِ
الْبَالِغِ مِنْهُمْ وَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَأَمَّا الْمُبَاشِرُونَ لِقَتْلِهِ فَيَجُوزُ
قَتْلُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَأَمَّا
الَّذِينَ أَعَانُوا بِمِثْلِ إدْخَالِ الرَّجُلِ إلَى الْبَيْتِ وَحِفْظِ
الْأَبْوَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَفِي قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ
وَيَجُوزُ قَتْلُهُمْ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَالْمُمْسِكُ يُقْتَلُ
فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا
مِيرَاثَ لَهُمَا . وَإِنْ كَانَ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِهِ أَعَانُوا أَيْضًا
عَلَى قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ دَمُهُ إلَيْهِمْ وَلَا إلَى وَلِيِّهِمْ ؛ بَلْ إلَى
الْإِخْوَةِ . وَأَمَّا مِيرَاثُهُمْ مِنْ مَالِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ .
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ
مِنْ مَالِهِ وَالصِّغَارُ يُعَاقَبُونَ بِالتَّأْدِيبِ وَلَا يُقْتَلُونَ
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ : الصِّغَارُ يَرِثُونَ مِنْ مَالِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَضَارَبَا وَتَخَانَقَا فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا فَمَاتَ : فَمَا
يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إذَا خَنَقَهُ الْخَنْقَ الَّذِي يَمُوتُ
بِهِ الْمَرْءُ غَالِبًا وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَلَوْ
ادَّعَى أَنَّ هَذَا لَا يُقْتَلُ غَالِبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ
. فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ غُشِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْخَنْقِ
وَرَفَسَهُ الْآخَرُ بِرِجْلِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ فَمِهِ شَيْءٌ فَمَاتَ :
فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ هَذَا قَاتِلٌ نَفْسًا
عَمْدًا ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ؛ إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ يُكَافِئُهُ
بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا مُسْلِمًا فَيُسْلَمُ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ إنْ
شَاءُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا
الدِّيَةَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَخَاصَمَا وَتَقَابَضَا فَقَامَ وَاحِدٌ وَنَطَحَ الْآخَرَ فِي
أَنْفِهِ فَجَرَى دَمُهُ فَقَامَ الَّذِي جَرَى دَمُهُ خَنَقَهُ وَرَفَسَهُ
بِرِجْلِهِ فِي مَخَاصِيهِ فَوَقَعَ مَيِّتًا ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْخَانِقِ الَّذِي رَفَسَ الْآخَرَ فِي أُنْثَيَيْهِ ؛
فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ قَدْ يَقْتُلُ غَالِبًا ؛ فَإِنَّ مَوْتَهُ
بِهَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ بِهِ مَا يَقْتُلُ غَالِبًا ؛
وَالْفِعْلُ الَّذِي يَقْتُلُ غَالِبًا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي مَذْهَبِ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ : مِثْلَ مَا لَوْ
ضَرَبَهُ فِي أُنْثَيَيْهِ حَتَّى مَاتَ فَيَجِبُ الْقَوَدُ وَلَوْ خَنَقَهُ
حَتَّى مَاتَ وَجَبَ الْقَوَدُ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَا ؟ وَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ
مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا
عَنْهُ ؛ وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْقَاتِلِ شَيْئًا
لِنَفْسِهِ وَلَا لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي ذَلِكَ
لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبَةً فَمَكَثَ زَمَانًا ثُمَّ مَاتَ وَالْمُدَّةُ
الَّتِي مَكَثَ فِيهَا كَانَ ضَعِيفًا مِنْ الضَّرْبَةِ : مَا الَّذِي يَجِبُ
عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا ضَرَبَهُ عُدْوَانًا فَهَذَا شِبْهُ
عَمْدٍ فِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ وَلَا قَوَدَ فِيهِ وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ
مَوْتُهُ مِنْ الضَّرْبَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ : فَهَلْ يُقْتَلُ بِهِ ؟ أَوْ مَاذَا
يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا
يَجُوزُ قَتْلُ الذِّمِّيِّ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {
لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ } " . وَلَكِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ .
فَقِيلَ : الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ . وَقِيلَ : ثُلُثُ
دِيَتِهِ . وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَيَجِبُ فِي
الْعَمْدِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانِ بْنِ
عَفَّانِ : أَنَّ مُسْلِمًا قَتَلَ ذِمِّيًّا فَغَلَّظَ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ
عَلَيْهِ كَمَالَ الدِّيَةِ . وَفِي الْخَطَأِ نِصْفَ الدِّيَةِ . فَفِي السُّنَنِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ
الذِّمِّيِّ نِصْفَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ } . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَجِبُ كَفَّارَةُ
الْقَتْلِ أَيْضًا وَهُمَا عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ طَائِفَةٍ تُسَمَّى " الْعَشِيرَةَ قَيْسٌ وَيَمَنُ " يَكْثُرُ
الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ وَلَا يُبَالُونَ بِهِ وَإِذَا طُلِبَ مِنْهُمْ الْقَاتِلُ
أَحْضَرُوا شَخْصًا غَيْرَ الْقَاتِلِ يَتَّفِقُونَ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَعْتَرِفَ
بِالْقَتْلِ
عِنْدَ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَإِذَا اعْتَرَفَ جَهَّزُوا إلَى الْمُتَوَلِّي مَنْ
يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ قَرَابَةِ الْمَقْتُولِ وَيَقُولُ : أَنَا قَدْ أَبْرَيْت
هَذَا الْقَاتِلَ مِمَّا أَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً
إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِقَامَةِ الْفِتَنِ فَإِذَا رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ
وَضْعَ دِيَةِ الْمَقْتُولِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ مِنْ الطَّوَائِفِ
الَّذِينَ أَثْبَتَ أَسْمَاءَهُمْ فِي الدِّيوَانِ عَلَى جَمِيعِ الطَّوَائِفِ
مِنْهُمْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ أَوْ رَأَى وَضْعَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّةِ
الْقَاتِلِ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؟ أَوْ
رَأَى تَعْزِيرَ هَؤُلَاءِ الْعَشِيرَ عِنْدَ إظْهَارِهِمْ الْفِتَنَ وَسَفْكَ
الدِّمَاءِ وَالْفَسَادَ بِوَضْعِ مَالٍ عَلَيْهِمْ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ لِيَكُفَّ
نُفُوسَهُمْ الْعَادِيَةَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ : فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
وَهَلْ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ - أَيَّدَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا عُرِفَ الْقَاتِلُ فَلَا تُوضَعُ الدِّيَةُ عَلَى
أَهْلِ مَكَانِ الْمَقْتُولِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ
يُعْرَفْ قَاتِلُهُ لَا بِبَيِّنَةِ وَلَا إقْرَارٍ : فَفِي مِثْلِ هَذَا تَشْرَعُ
الْقَسَامَةُ . فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ حَلَفَ الْمُدَّعُونَ خَمْسِينَ
يَمِينًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَمَا ثَبَتَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْقَتِيلِ
الَّذِي وُجِدَ بِخَيْبَرِ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ أَوَّلًا ؛ فَإِنَّ
مَذْهَبَهُ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ هِيَ فِي جَنْبِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ . فَأَمَّا
إذَا عُرِفَ الْقَاتِلُ فَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ لِأَخْذِ مَالٍ فَهُوَ مُحَارَبٌ
يَقْتُلُهُ الْإِمَامُ حَدًّا وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ ؛ لَا
أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ وَلَا غَيْرُهُمْ . وَإِنْ قَتَلَ لِأَمْرِ خَاصٍّ
فَهَذَا أَمْرُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ .
وَلِلْإِمَامِ فِي مَذْهَبِ
مَالِكٍ
أَنْ يَجْلِدَهُ مِائَةً وَيَحْبِسَهُ سَنَةً . فَهَذَا التَّعْزِيرُ يُحَصِّلُ
الْمَقْصُودَ . وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ قَدْ
رَضَوْا بِقَتْلِ صَاحِبِهِمْ فَلَا أَرْغَمَ اللَّهُ إلَّا بِآنَافِهِمْ .
وَإِذَا قِيلَ : تُوضَعُ الدِّيَةُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَلَى أَهْلِ الْمَكَانِ
مَعَ الْقَسَامَةِ فِي الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ ؛ لَا لِبَيْتِ الْمَالِ
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ لِبَيْتِ
الْمَالِ . وَكَذَلِكَ لَا تُوضَعُ الدِّيَةُ بِدُونِ قَسَامَةٍ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ . وَهَؤُلَاءِ الْمَعْرُوفُونَ بِالْفِتَنِ وَالْفَسَادِ لِوَلِيِّ
الْأَمْرِ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهُمْ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ فَيَحْبِسَهُ ؛ وَلَهُ
أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى لِيَكُفَّ بِذَلِكَ عِدْوَانَهُ ؛ وَلَهُ
أَنْ يُعَزِّرَ أَيْضًا مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الشَّرُّ لِيَكُفَّ بِهِ شَرَّهُ
وَعُدْوَانَهُ . فَفِي الْعُقُوبَاتِ الْجَارِيَةِ عَلَى سُنَنِ الْعَدْلِ
وَالشَّرْعِ مَا يَعْصِمُ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ وَيُغْنِي وُلَاةَ الْأُمُورِ
عَنْ وَضْعِ جِبَايَاتٍ تُفْسِدُ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ . وَمَنْ اُتُّهِمَ
بِقَتْلِ وَكَانَ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ عِنْدَ طَائِفَةٍ
مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُعَاقِبَهُ تَعْزِيزًا عَلَى فُجُورِهِ وَتَعْزِيرًا لَهُ
وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ قَالَ : أَنَا ضَارِبُهُ وَاَللَّهُ قَاتِلُهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ
عَلَى الْقَاتِلِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَاَللَّهُ قَاتِلُهُ . إنْ أَرَادَ بِهِ
أَنَّ اللَّهَ قَابِضٌ رُوحَهُ أَوْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُمِيتُ كُلَّ أَحَدٍ
وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا لَا يَنْدَفِعُ
عَنْهُ مُوجَبُ الْقَتْلِ بِذَلِكَ ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى
الْقَاتِلِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ رَاكِبِ فَرَسٍ مَرَّ بِهِ دباب وَمَعَهُ دُبٌّ فَجَفَلَ الْفَرَسُ
وَرَمَى رَاكِبَهُ ثُمَّ هَرَبَ وَرَمَى رَجُلًا فَمَاتَ ؟
فَأَجَابَ :
لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؛ لَكِنْ الدباب
عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أُخِذَ لَهُ مَالٌ فَاتَّهَمَ بِهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ
ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَضَرَبَهُ عَلَى تَقْرِيرِهِ فَأَقَرَّ ثُمَّ أَنْكَرَ .
فَضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ : فَمَا عَلَيْهِ ؟ وَلَمْ يَضْرِبْهُ إلَّا لِأَجْلِ مَا
أُخْبِرَ عَنْهُ بِذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
عَلَيْهِ أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً كَفَّارَةً وَتَجِبُ دِيَةُ هَذَا
الْمَقْتُولِ ؛ إلَّا أَنْ يُصَالِحَ وَرَثَتَهُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ
كَانَ قَدْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا يَقْتُلُ غَالِبًا بِلَا حَقٍّ وَلَا شُبْهَةٍ
لَوَجَبَ الْقَوَدُ وَلَوْ كَانَ بِحَقِّ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ جُنْدِيٍّ وَلَهُ إقْطَاعٌ فِي بَلَدِ الرِّيعِ وَقَالَ فِي الْبَلَدِ
قَتِيلٌ فَقَالُوا إنَّ الْفَلَّاحَ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ الرِّيعِ
هُوَ الْقَاتِلُ فَطَلَبَ الْقَاتِلَ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فَلَمْ يُوجَدْ ؛
وَمَسَكُوا أَخَا النَّصْرَانِيِّ الْمُتَّهَمِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ وَمَعَ
ذَلِكَ يتطلبون الْجُنْدِيَّ بِإِحْضَارِ النَّصْرَانِيِّ وَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا
؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْجُنْدِيُّ لَا يَعْلَمُ حَالَ الْمُتَّهَمِ وَلَا هُوَ ضَامِنٌ لَهُ
لَمْ تَجُزْ مُطَالَبَتُهُ لَكِنْ إذَا كَانَ مَطْلُوبًا بِحَقِّ وَهُوَ يَعْرِفُ
مَكَانَهُ دَلَّ عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ عَثَرَ عَلَى سَبْعَةِ أَنْفُسٍ فَحَصَلَ بَيْنَهُمْ خُصُومَةٌ ؛
فَقَامُوا بِأَجْمَعِهِمْ ضَرَبُوهُ بِحَضْرَةِ رَجُلَيْنِ لَا يَقْرَبَا
لِهَؤُلَاءِ وَلَا لِهَؤُلَاءِ ؛ وَعَايَنَاهُ إلَى أَنْ مَاتَ مِنْ ضَرْبِهِمْ ؛
فَمَا يَلْزَمُ السَّبْعَةَ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَ عَلَى قَتْلِهِ ؟
فَأَجَابَ
: إذَا شَهِدَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ شَاهِدَانِ وَلَمْ يَثْبُتْ
عَدَالَتُهُمَا : فَهَذَا لَوْثٌ إذَا حَلَفَ مَعَهُ الْمُدَّعُونَ خَمْسِينَ
يَمِينًا - أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ - عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ حُكِمَ لَهُمْ
بِالدَّمِ ؛ وَإِنْ أَقْسَمُوا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ فَفِي الْقَوَدِ
نِزَاعٌ . وَأَمَّا إنْ ادَّعَوْا أَنَّ الْقَتْلَ كَانَ خَطَأً أَوْ شِبْهَ
عَمْدٍ مِثْلَ أَنْ يَضْرِبُوهُ بِعَصَا ضَرْبًا لَا يَقْتُلُ مِثْلَهُ غَالِبًا :
فَهُنَا إذَا ادَّعَوْا عَلَى الْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي ذَلِكَ
فَدَعْوَاهُمْ مَقْبُولَةٌ وَيَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا إذَا قَالَ الْمَضْرُوبُ : مَا قَاتِلِي إلَّا فُلَانٌ : فَهَلْ يُقْبَلُ
قَوْلُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يُؤْخَذُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ بِلَا
نِزَاعٍ ؛ وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ لَوْثًا يَحْلِفُ مَعَهُ أَوْلِيَاءُ
الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ دَمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ مَذْكُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ : " أَحَدُهُمَا "
أَنَّهُ لَيْسَ بِلَوْثِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي
حَنِيفَةَ . و " الثَّانِي " أَنَّهُ لَوْثٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ شَرِبَا ؛ وَكَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ آخَرُ فَلَمَّا أَرَادُوا
أَنْ يَرْجِعُوا إلَى بُيُوتِهِمْ تَكَلَّمَا فَضَرَبَ وَاحِدٌ صَاحِبَهُ ضَرْبَةً
بِالدَّبُّوسِ فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ فَوَقَفَ
عِنْدَهُ
ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي مَعَهُمَا حَتَّى رَكِبَ فَرَسَهُ وَجَاءَ مَعَهُ إلَى
مَنْزِلِهِ ؛ وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَهُ فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ ثَانِيَةً ثُمَّ
إنَّهُ أَصْبَحَ مَيِّتًا ؛ فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَيِّتِ ذَلِكَ
الرَّجُلَ خِفْيَةً ؛ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِمَوْتِهِ ؛ فَذَكَرَ لَهُ
قَضِيَّتَهُمَا فَشَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِأَنَّ فُلَانًا ضَرَبَهُ وَلَمْ
يَسْمَعْ الشُّهُودُ مِنْ الْمَيِّتِ ؛ وَأَنَّ الْمُتَّهَمَ لَمْ يُظْهِرْ
نَفْسَهُ خَوْفَ الْعُقُوبَةِ ؛ لِكَيْ لَا يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ
بِنْتٌ تَرْضَعُ وَإِخْوَةٌ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الَّذِي شَرِبَ الْخَمْرَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ فَهَذَا إذَا قَتَلَ
فَهُوَ قَاتِلٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَعُقُوبَةُ قَاتِلِ النَّفْسِ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ قَدْ سَكِرَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ
مَا يَقُولُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَقَتَلَ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ
الْقَوَدُ وَيُسَلَّمُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ لِيَقْتُلُوهُ إنْ شَاءُوا ؟
هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ
أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الْقَوَدَ ؛ كَمَا
يُوجِبُونَهُ عَلَى الصَّاحِي فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِالْقَتْلِ إلَّا وَاحِدٌ
لَمْ يُحْكَمْ بِهِ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ مَعَ ذَلِكَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ
خَمْسِينَ يَمِينًا ؛ وَهَذَا إذَا مَاتَ بِضَرْبِهِ وَكَانَ ضَرْبُهُ عُدْوَانًا
مَحْضًا فَأَمَّا إنْ مَاتَ مَعَ ضَرْبِ الْآخَرِ : فَفِي الْقَوَدِ نِزَاعٌ
وَكَذَلِكَ إنْ ضَرَبَهُ دَفْعًا لِعُدْوَانِهِ عَلَيْهِ أَوْ ضَرْبِهِ مِثْلَ مَا
ضَرَبَهُ سَوَاءٌ مَاتَ بِسَبَبِ آخَرَ أَوْ غَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَاعَدَ آخَرَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِمَالِ مُعَيَّنٍ ثُمَّ
قَتَلَهُ ؛ فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ ، إذَا قَتَلَهُ الْمَوْعُودُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَجَبَ الْقَوَدُ
وَأَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ بِالْخِيَارِ : إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ
أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا . وَأَمَّا الْوَاعِدُ
فَيَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا .
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْقَاتِلِ وَلَدَهُ عَمْدًا لِمَنْ دِيَتُهُ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْوَارِثُ كَالْأَبِ وَغَيْرِهِ إذَا قَتَلَ مُورِثَهُ عَمْدًا
فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ؛ وَلَا دِيَتِهِ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ تَكُونُ دِيَتُهُ كَسَائِرِ مَالِهِ يَحْرِمُهَا الْقَاتِلُ
أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَيَرِثُهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ غَيْرِ الْقَاتِلِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ شَخْصٍ فَرَاحَ إلَى بَيْتِهِ فَحَصَلَ لَهُ ضَعْفٌ
فَلَمَّا قَارَبَ الْوَفَاةَ أَشْهَدَ كُلَّ نَفْسِهِ أَنَّ قَاتِلَهُ فُلَانٌ
فَقِيلَ لَهُ . كَيْفَ قَتَلَك ؟ فَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا . فَهَلْ يَلْزَمُهُ
شَيْءٌ أَمْ لَا ؟ وَلَيْسَ بِهَذَا الْمَرِيضِ أَثَرُ قَتْلٍ وَلَا ضَرْبٍ
أَصْلًا وَقَدْ شَهِدَ خَلْقٌ مِنْ الْعُدُولِ أَنَّهُ لَمْ يَضْرِبْهُ وَلَا
فَعَلَ بِهِ شَيْئًا ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا بِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينُ
بِنَفْيِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ إمَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَإِمَّا خَمْسُونَ يَمِينًا :
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الرَّجُلِ إذَا
كَانَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ - كَجُرْحِ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ - فَقَالَ فُلَانٌ :
ضَرَبَنِي عَمْدًا : هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا ؟ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ كَأَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : لَيْسَ بِلَوْثِ ؛ وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ
لَوْثٌ فَإِذَا حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ خَمْسِينَ يَمِينًا حُكِمَ بِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ فِي أَصَحِّ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ قِيلَ : لَمْ تَكُنْ خَطَأً
فَكَيْفَ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرُ قَتْلٍ ؛ وَقَدْ شَهِدَ النَّاسُ بِمَا شَهِدُوا
بِهِ : فَهَذِهِ الصُّورَةُ لَيْسَ فِيهَا قَسَامَةٌ بِلَا رَيْبٍ عَلَى مَذْهَبِ
الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ اُتُّهِمَ بِقَتِيلِ ، فَهَلْ يُضْرَبُ لِيُقِرَّ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ وَهُوَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ
جَازَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا
وَيَسْتَحِقُّونَ دَمَهُ وَأَمَّا ضَرْبُهُ لِيُقِرَّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ
الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ
جَوَّزَ تَقْرِيرَهُ بِالضَّرْبِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَبَعْضُهُمْ مَنَعَ مِنْ
ذَلِكَ مُطْلَقًا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ أَهْلِ قَرْيَتَيْنِ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ فِي الِاعْتِقَادِ وَخَاصَمَ
رَجُلٌ آخَرَ فِي غَنَمٍ ضَاعَتْ لَهُ وَقَالَ : مَا يَكُونُ عِوَضُ هَذَا إلَّا
رَقَبَتَك . ثُمَّ وُجِدَ هَذَا مَقْتُولًا وَأَثَرُ الدَّمِ أَقْرَبُ إلَى
الْقَرْيَةِ الَّتِي مِنْهَا الْمُتَّهَمُ وَذَكَرَ رَجُلٌ لَهُ قَتَلَهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّ ذَلِكَ
الْمُخَاصِمَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ حُكِمَ لَهُمْ بِدَمِهِ ؛ وَبَرَاءَةِ مَنْ
سِوَاهُ فَإِنَّمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْخُصُومَةِ وَالْوَعِيدِ
بِالْقَتْلِ وَأَثَرِ الدَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَوْثٌ وَقَرِينَةٌ وَأَمَارَةٌ
عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُتَّهَمَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ فَإِذَا حَلَفُوا مَعَ
ذَلِكَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ الشَّرْعِيَّةِ اسْتَحَقُّوا دَمَ الْمُتَّهَمِ
وَسُلِّمَ إلَيْهِمْ بِرُمَّتِهِ كَمَا قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرِ وَلَمْ
يَجِبْ عَلَى أَهْلِ الْبُقْعَةِ جِنَايَةٌ ؛ لَا فِي الْعَادَةِ
السُّلْطَانِيَّةِ وَلَا فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ شَخْصَيْنِ اُتُّهِمَا بِقَتِيلِ فَأُمْسِكَا وَعُوقِبَا الْعُقُوبَةَ
الْمُؤْلِمَةَ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى رَفِيقِهِ وَلَمْ
يُقِرَّ الْآخَرُ وَلَا اعْتَرَفَ بِشَيْءِ : فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ شَهِدَ شَاهِدٌ مَقْبُولٌ عَلَى شَخْصٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ كَانَ لِأَوْلِيَاءِ
الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّوا الدَّمَ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الصِّدْقُ ؛
وَإِلَّا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِلَا حُجَّةٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
مَنْ اُتُّهِمُوا بِقَتِيلِ فَضَرَبُوهُمْ وَاعْتَرَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ
بِالْعُقُوبَةِ : فَهَلْ يَسْرِي عَلَى الْبَاقِي ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ أَقَرَّ وَاحِدٌ عَدْلٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ كَانَ لَوْثًا
فَلِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّوا
بِهِ الدَّمَ . وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ مُكْرَهًا وَلَمْ يَتَبَيَّنْ صِدْقَ
إقْرَارِهِ : فَهُنَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا يُؤْخَذُ هُوَ بِهِ
وَلَا غَيْرُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ سُفَّارٍ جَاءَتْهُمْ حَرَامِيَّةٌ فَقَاتَلُوهُمْ فَقَتَلَ الْحَرَامِيَّةُ
مِنْ السُّفَّارِ رَجُلًا ثُمَّ إنَّ ابْنَ عَمِّ الْمَقْتُولِ اتَّبَعَ
الْحَرَامِيَّةَ هُوَ وَنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ فَلَحِقَهُمْ وَقَبَضَهُمْ وَسَأَلَ
عَنْ الْقَاتِلِ فَعَيَّنَ الْحَرَامِيَّةُ شَخْصًا مِنْهُمْ وَقَالُوا : هَذَا
قَتَلَ ابْنَ عَمِّك : فَقَتَلَهُ ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَلَعَ الْقَاتِلُ أَخَا
ذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْحَرَامِيَّةُ ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا الْمُسَافِرُ الْمَقْتُولُ ظُلْمًا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مِنْ
الْحَرَامِيَّةِ الْقَوَدُ بِشُرُوطِهِ وَأَمَّا الشَّخْصُ الثَّانِي الْمَقْتُولُ
ظُلْمًا إذَا كَانَ مَعْصُومًا فَإِنْ كَانَ الدَّالُّ عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا
الْكَذِبَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى
عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ ؛ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ . وَأَمَّا قَاتِلُهُ
فَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُ ؛ بَلْ أَخْطَأَ فِيهِ ؛ فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ
يُطَالِبُوا بِالدِّيَةِ لَهُ أَوْ لِعَاقِلَتِهِ ؛ لَكِنْ إذَا ضَمِنَ الدِّيَةَ
رَجَعَ بِهَا عَلَى الدَّالِّ أَوْ عَاقِلَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُضَافُ
إلَيْهِ الْقَتْلُ فِي مِثْلِ هَذَا ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا تَعَمَّدَ
الْكَذِبَ ؛ كَمَا يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا عَنْ
الشَّهَادَةِ وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ قَتِيلًا ؛ وَلَهُ أَبٌ وَأُمٌّ وَقَدْ وَهَبَا لِلْقَاتِلِ
دَمَ وَلَدِهِمَا وَكَتَبَا عَلَيْهِ حُجَّةً أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِلَادَهُمْ
وَلَا يَسْكُنُ فِيهَا وَمَتَى سَكَنَ فِي الْبِلَادِ كَانَ دَمُ وَلَدِهِمَا عَلَى
الْقَاتِلِ فَإِذَا سَكَنَ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّمِ ؛
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا عَفَوْا عَنْهُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يَفِ بِهَذَا
الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ الْعَفْوُ لَازِمًا ؛ بَلْ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ
بِالدِّيَةِ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَبِالدَّمِ فِي قَوْلٍ آخَرَ .
وَسَوَاءٌ قِيلَ : هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحٌ ؛ أَمْ فَاسِدٌ . وَسَوَاءٌ قِيلَ :
يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِفَسَادِهِ أَوْ لَا يَفْسُدُ ؛ فَإِنَّ ذَيْنِك
الْقَوْلَيْنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ صَبِيٍّ دُونَ الْبُلُوغِ جَنَى جِنَايَةً يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا دِيَةٌ :
مِثْلَ أَنْ يَكْسِرَ سِنًّا أَوْ يَفْقَأَ عَيْنًا وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ خَطَأً :
فَهَلْ لِأَوْلِيَاءِ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذُوا دِيَةَ الْجِنَايَةِ مِنْ أَبِي
الصَّبِيِّ وَحْدَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا ؟ أَمْ يَطْلُبُوهَا مِنْ عَمِّ
الصَّبِيِّ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَطَأً فَدِيَتُهُ عَلَى
عَاقِلَتِهِ بِلَا رَيْبٍ ؛ كَالْبَالِغِ وَأَوْلَى . وَإِنْ فَعَلَ عَمْدًا
فَعَمْدُهُ خَطَأٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد
فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ . وَفِي الْقَوْلِ
الْآخَرِ عَنْهُ وَعَنْ أَحْمَد أَنَّ عَمْدَهُ إذَا كَانَ غَيْرَ بَاغٍ فِي
مَالِهِ . وَأَمَّا " الْعَاقِلَةُ " الَّتِي تَحْمِلُ : فَهُمْ
عَصَبَتُهُ : كَالْعَمِّ وَبَنِيهِ وَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا أَبُو الرَّجُلِ وَابْنُهُ فَهُوَ مِنْ عَاقِلَتِهِ
أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي
أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ : أَبُوهُ وَابْنُهُ لَيْسَا مِنْ الْعَاقِلَةِ .
وَاَلَّذِي
" تَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ " بِالِاتِّفَاقِ مَا كَانَ فَوْقَ ثُلُثِ
الدِّيَةِ : مِثْلَ قَلْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ .
وَأَمَّا دُونَ الثُّلُثِ : كَدِيَةِ السِّنِّ : وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ
وَدِيَةِ الْأُصْبُعِ وَهِيَ عُشْرُ الدِّيَةِ : فَهَذَا لَا تَحْمِلُهُ
الْعَاقِلَةُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد ؛ بَلْ هُوَ فِي مَالِهِ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ دِيَةِ السِّنِّ
وَالْمُوضِحَةِ وَهُوَ الْمُقَدَّرُ كَأَرْشِ الشَّجَّةِ الَّتِي دُونَ
الْمُوضِحَةِ . وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ
حَمَلَهُ عَنْهُ أَبُوهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ
الْأَكْثَرِينَ : أَنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ ؛ وَلَيْسَ عَلَى أَبِيهِ شَيْءٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَسْقِطِي مَا فِي بَطْنِك وَالْإِثْمُ عَلَيَّ
. فَإِذَا فَعَلَتْ هَذَا وَسَمِعَتْ مِنْهُ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا مِنْ
الْكَفَّارَةِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمَا كَفَّارَةُ عِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنْ
لَمْ يَجِدَا فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَعَلَيْهِمَا غُرَّةُ عَبْدٍ
أَوْ أَمَةٍ لِوَارِثِهِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْهُ ؛ لَا لِلْأَبِ فَإِنَّ الْأَبَ
هُوَ الْآمِرُ بِقَتْلِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَدْلٍ لَهُ جَارِيَةٌ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا بِحَضْرَةِ عُدُولٍ
وَأَنَّهَا حَبِلَتْ مِنْهُ وَأَنَّهُ سَأَلَ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ أَشْيَاءَ
تُسْقِطُ الْحَمْلَ وَأَنَّهُ ضَرَبَ الْجَارِيَةَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا عَلَى
فُؤَادِهَا فَأَسْقَطَتْ عَقِيبَ ذَلِكَ ؛ وَأَنَّ الْجَارِيَةَ قَالَتْ : إنَّهُ
كَانَ يُلَطِّخُ ذَكَرَهُ بِالْقَطْرَانِ وَيَطَؤُهَا حَتَّى يُسْقِطَهَا
وَأَنَّهُ أَسْقَاهَا السُّمَّ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُسْقِطَةِ
مُكْرَهَةً . فَمَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْجَارِيَةِ بِمَا ذُكِرَ ؟ وَهَلْ
هَذَا مُسْقِطٌ لِعَدَالَتِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إسْقَاطُ الْحَمْلِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ
وَهُوَ مِنْ الْوَأْدِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ
سُئِلَتْ } { بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } وَقَدْ قَالَ : { وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّخْصَ أَسْقَطَ
الْحَمْلَ خَطَأً مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأَةَ خَطَأً فَتَسْقُطُ :
فَعَلَيْهِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ؛ بِنَصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَتَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ
بِقَدْرِ عُشْرِ دِيَةِ الْأُمِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . كَذَلِكَ عَلَيْهِ " كَفَّارَةُ الْقَتْلِ
" عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } إلَى قَوْله تَعَالَى {
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
تَوْبَةً
مِنَ اللَّهِ } وَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ الْإِسْقَاطَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى
ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِمَّا يَقْدَحُ فِي دِينِهِ
وَعَدَالَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ حَامِلٍ تَعَمَّدَتْ إسْقَاطَ الْجَنِينِ إمَّا بِضَرْبِ وَإِمَّا
بِشُرْبِ دَوَاءٍ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ عَلَيْهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ غُرَّةٌ : عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ تَكُونُ هَذِهِ الْغُرَّةُ
لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ ؛ غَيْرَ أُمِّهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ كَانَتْ
الْغُرَّةُ لِأَبِيهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ الْمَرْأَةِ فَلَهُ
ذَلِكَ وَتَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ عُشْرَ دِيَةٍ أَوْ خَمْسِينَ دِينَارًا .
وَعَلَيْهَا أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ لَمْ
تَجِدْ صَامَتْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَطْعَمَتْ
سِتِّينَ مِسْكِينًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ دَفَنَتْ ابْنَهَا بِالْحَيَاةِ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهَا كَانَتْ
مَرِيضَةً ؛ وَهُوَ مَرِيضٌ فَضَجِرَتْ مِنْهُ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا هُوَ الْوَأْدُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ :
{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } { بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ
لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك . قِيلَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ
وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك } وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ حَرَّمَ
قَتْلَ الْوَلَدِ مَعَ الْحَاجَةِ وَخَشْيَةِ الْفَقْرِ فَلَأَنْ يُحَرِّمَ
قَتْلَهُ بِدُونِ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذِهِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ
يَجِبُ عَلَيْهَا الدِّيَةُ تَكُونُ لِوَرَثَتِهِ ؛ لَيْسَ لَهَا مِنْهَا شَيْءٌ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ يَلْطِمُ الرَّجُلَ أَوْ يَكْلِمُهُ أَوْ يَسُبُّهُ : هَلْ يَجُوزُ
أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا " الْقِصَاصُ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ
: فَمَذْهَبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعَيْنِ أَنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ
الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشالنجي .
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَعُ فِي ذَلِكَ قِصَاصٌ
؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِيهِ مُتَعَذِّرَةٌ فِي الْغَالِبِ وَهَذَا قَوْلُ
كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَتْ بِالْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ مُتَعَذِّرَةٌ . فَيُقَالُ : لَا بُدَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ مِنْ عُقُوبَةٍ : إمَّا قِصَاصٌ وَإِمَّا تَعْزِيرٌ . فَإِذَا جُوِّزَ أَنْ يُعَزَّزَ تَعْزِيرًا غَيْرَ مَضْبُوطِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فَلَأَنْ يُعَاقِبَ إلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَالْعَدْلُ فِي الْقِصَاصِ مُعْتَبَرٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الضَّارِبَ إذَا ضُرِبَ ضَرْبَةً مِثْلَ ضَرْبَتِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا كَانَ هَذَا أَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ مِنْ أَنْ يُعَزَّرَ بِالضَّرْبِ بِالسَّوْطِ ؛ فَاَلَّذِي يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فِي ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ الظُّلْمِ يُبِيحُ مَا هُوَ أَعْظَمُ ظُلْمًا مِمَّا فَرَّ مِنْهُ . فَعُلِمَ أَنَّمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَعْدَلُ وَأَمْثَلُ . وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسُبَّهُ كَمَا يَسُبُّهُ : مِثْلَ أَنْ يَلْعَنَهُ كَمَا يَلْعَنُهُ . أَوْ يَقُولُ : قَبَّحَك اللَّهُ . فَيَقُولُ : قَبَّحَك اللَّهُ . أَوْ : أَخْزَاك اللَّهُ . فَيَقُولُ لَهُ : أَخْزَاك اللَّهُ . أَوْ يَقُولُ : يَا كَلْبُ يَا خِنْزِيرُ فَيَقُولُ : يَا كَلْبُ يَا خِنْزِيرُ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ مِثْلَ تَكْفِيرِهِ أَوْ الْكَذِبِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ وَلَا يَكْذِبَ عَلَيْهِ . وَإِذَا لَعَنَ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْعَنَ أَبَاهُ لِأَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَظْلِمْهُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ فَعَطَّلَ مَنْفَعَةَ أُصْبُعِهِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ أُصْبُعِهِ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي اعْتَدَى فِيهَا
وَجَبَتْ دِيَةُ الْأُصْبُعِ وَهِيَ عُشْرُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّه رُوحَهُ - :
عَنْ اثْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ عَبْدٌ : حَمَلُوا خَشَبَةً
فَتَهَوَّرَتْ مِنْهُمْ الْخَشَبَةُ مِنْ غَيْرِ عَمْدٍ ؛ فَأَصَابَتْ رَجُلًا ؛
فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ وَتُوُفِّيَ : فَمَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ؟
وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْعَبْدِ إذَا تَغَيَّبَ الْعَبْدُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا حَصَلَ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ أَوْ عُدْوَانٌ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا .
وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطَ بِوُقُوفِهِ حَيْثُ لَا يَصْلُحُ فَلَا ضَمَانَ .
وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ تَفْرِيطٌ مِنْهُمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا . وَإِنْ
كَانَ بِطَرِيقِ السَّبَبِ فَلَا ضَمَانَ .
وَإِذَا
وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَنَصِيبُ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ
بِرَقَبَتِهِ فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي الْجِنَايَةِ وَإِنْ
شَاءَ أَنْ يَفْتَدِيَهُ . وَإِذَا افْتَدَاهُ فَإِنَّهُ يَفْتَدِيهِ بِأَقَلِّ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَفِي الْأُخْرَى وَفِي مَذْهَبِ
مَالِكٍ يَفْدِيهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ . فَأَمَّا إنْ
جَنَى الْعَبْدُ وَهَرَبَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ سَيِّدَهُ تَسْلِيمُهُ فَلَيْسَ
عَلَى السَّيِّدِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ ثَلَاثَةٍ حَمَلُوا عَمُودَ رُخَامٍ ثُمَّ أَنَّ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ رَمَوْا
الْعَمُودَ عَلَى الْآخَرِ كَسَرُوا رِجْلَهُ . فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ إذَا أَلْقَوْا عَلَيْهِ عَمُودَ الرُّخَامِ حَتَّى
كَسَرُوا سَاقَهُ وَجَبَ ضَمَانُ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُوجِبُ
بَعِيرَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد : وَمِنْهُمْ
مَنْ يُوجِبُ فِيهِ حُكُومَةً وَهُوَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ
كَأَنَّهُ لَا كَسْرَ بِهِ ثُمَّ يُقَوَّمَ مَكْسُورًا ؛ فَيُنْظَرُ مَا نَقَصَ
مِنْ قِيمَتِهِ : فَيَجِبُ بِقِسْطِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَخَاصَمَا وَتَمَاسَكَا بِالْأَيْدِي وَلَمْ يَضْرِبْ
أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا ثُمَّ تَفَارَقَا فِي
عَافِيَةٍ ثُمَّ بَعْدَ أُسْبُوعٍ تُوُفِّيَ أَحَدُهُمَا وَهَرَبَ الْآخَرُ قَبْلَ
مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَمُسِكَ أَبُو الْهَارِبِ وَأَلْزَمُوهُ
بِإِحْضَارِ وَلَدِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْخَصْمَ لَمْ يَمُتْ ؛ وَالْتَزَمَ
لِأَهْلِهِ أَنَّهُ مَهْمَا تَمَّ عَلَيْهِ كَانَ هُوَ الْقَائِمَ بِهِ ؛ فَلَمَّا
مَاتَ اعْتَقَلُوا أَبَاهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَرَاضَى أَبُوهُ أَهْلَ الْمَيِّتِ
بِمَالِ وَأُبْرِئَ المتهوم وَكُلُّ أَهْلِهِ : فَهَلْ لِهَذَا الْمُلْتَزِمِ
بِالْمَبْلَغِ أَنْ يَرْجِعَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ بَنِي عَمِّهِ بِشَيْءِ مِنْ
الْمَبْلَغِ وَهَلْ يَبْرَأُ الْهَارِبُ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ ثَبَتَ أَنَّ الْهَارِبَ قَتَلَهُ خَطَأً بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا
وَقَدْ ضَرَبَهُ الْآخَرُ ضَرْبًا شَدِيدًا يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ وَكَانَ سَبَبًا
فِي مَوْتِهِ : فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ . فَعَلَى عَصَبَةِ بَنِي الْعَمِّ
وَغَيْرِهَا أَنْ يَتَحَمَّلُوا هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي رَضِيَ بِهِ أَهْلُ
الْقَتِيلِ فَإِنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الدِّيَةِ وَأَمَّا إنْ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ أَخَذَ الْأَبُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ : لَمْ يَلْزَمْهُمْ
بِإِقْرَارِ الْأَبِ شَيْءٌ ؛ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الدِّيَةِ الَّذِينَ صَالَحُوا
عَلَى هَذَا الْقَدْرِ أَنْ يُطَالِبُوا بِأَكْثَرَ مِنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ رَأَى رَجُلًا قَتَلَ ثَلَاثَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ وَلَحِسَ السَّيْفَ بِفَمِهِ . وَأَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ لَمْ يَقْدِرْ
عَلَيْهِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأَنَّ الَّذِي رَآهُ قَدْ وَجَدَهُ فِي
مَكَانٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَسْكِهِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ
الْمَذْكُورَ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ وَإِذَا قَتَلَهُ هَلْ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ
يُطَالَبُ بِدَمِهِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ قَاطِعَ طَرِيقٍ قَتَلَهُمْ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَجَبَ قَتْلُهُ
وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُمْ لِغَرَضِ خَاصٍّ مِثْلِ
خُصُومَةٍ بَيْنَهُمْ أَوْ عَدَاوَةٍ : فَأَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْقَتِيلِ : إنْ
أَحَبُّوا قَتْلَهُ قَتَلُوهُ وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا عَنْهُ وَإِنْ أَحَبُّوا
أَخَذُوا الدِّيَةَ . فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ الْآخَرِينَ
. وَأَمَّا إنْ كَانَ قَاطِعَ طَرِيقٍ : فَقِيلَ : بِإِذْنِ الْإِمَامِ ؛ فَمَنْ
عَلِمَ أَنَّ الْإِمَامَ أَذِنَ فِي قَتْلِهِ بِدَلَائِلِ الْحَالِ جَازَ أَنْ
يَقْتُلَهُ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ وُلَاةَ الْأُمُورِ
يَطْلُبُونَهُ لِيَقْتُلُوهُ وَأَنَّ قَتْلَهُ وَاجِبٌ فِي الشَّرْعِ : فَهَذَا
يَعْرِفُ أَنَّهُمْ آذِنُونَ فِي قَتْلِهِ ؛ وَإِذَا وَجَبَ قَتْلُهُ كَانَ
قَاتِلُهُ مَأْجُورًا فِي ذَلِكَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ قَبَضَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَاحِدٍ وَالْآخَرُ ضَرَبَهُ فَشُلَّتْ
يَدُهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
الِاثْنَيْنِ الْقَوَدُ إنْ وَجَبَ وَإِلَّا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا فَقَتَلَهَا ثُمَّ
تَابَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فَلَمَّا كَبُرَ
أَحَدُهُمَا أَرَادَ أَدَاءَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَلَمْ يَجِدْ قُدْرَةً عَلَى
الْعِتْقِ فَأَرَادَ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ : فَهَلْ تَجِبُ
الْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ ؟ وَهَلْ يُجْزِئُ قِيَامُ الْوَلَدِ بِهَا ؟
وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ امْرَأَةً فَحَاضَتْ فِي زَمَنِ الشَّهْرَيْنِ : هَلْ
يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ ؟ وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّ الطُّهْرَ
يَحْصُلُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِمْسَاكُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ قَدْ وَجَدَهُمَا يَفْعَلَانِ الْفَاحِشَةَ
وَقَتَلَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ وَإِنْ كَانَ
يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ وَطْئِهَا بِالْكَلَامِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ أَنَّ
رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَيْتِك فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك شَيْءٌ } و {
نَظَرَ رَجُلٌ مَرَّةً فِي بَيْتِهِ فَجَعَلَ يَتْبَعُ عَيْنَهُ بِمِدْرَى لَوْ
أَصَابَتْهُ لَقَلَعَتْ عَيْنَهُ } وَقَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ
مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ } وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالْكَلَامِ . وَجَاءَ
رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَبِيَدِهِ سَيْفٌ مُتَلَطِّخٌ بِدَمِ قَدْ قَتَلَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَ أَهْلَهَا يَشْكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ الرَّجُلُ : إنِّي قَدْ وَجَدْت لُكَاعًا قَدْ تفخذها فَضَرَبْت مَا هُنَالِكَ بِالسَّيْفِ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَهَزَّهُ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَيْهِ فَقَالَ : إنْ عَادَ فَعُدْ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ إذَا كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ إنَّمَا مَأْخَذُهُ أَنَّهُ جَنَى عَلَى حُرْمَتِهِ فَهُوَ كَفَقْءِ عَيْنِ النَّاظِرِ وَكَاَلَّذِي انْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِ الْعَاضِّ حَتَّى سَقَطَتْ ثَنَايَاهُ فَأَهْدَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ وَقَالَ : { يَدَعُ يَدَهُ فِي فِيك فَتَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ } وَهَذَا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ الْقَوْلُ بِهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ قَالَ : لِأَنَّ دَفْعَ الصَّائِلِ يَكُونُ بِالْأَسْهَلِ . وَالنَّصُّ يُقَدَّمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ فَقَدْ دَخَلَ اللِّصُّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَصْلَتَ لَهُ السَّيْفَ قَالُوا : فَلَوْلَا أَنَّا نَهَيْنَاهُ عَنْهُ لَضَرَبَهُ وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَمْ يَفْعَلْ بَعْدُ فَاحِشَةً ؛ وَلَكِنْ وَصَلَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَحْوَطُ لِهَذَا أَنْ يَتُوبَ مِنْ الْقَتْلِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَفِي
وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ فَإِذَا كَفَرَ فَقَدْ فَعَلَ الْأَحْوَطَ ؛
فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ . وَأَمَّا قَتْلُ الْعَمْدِ
فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَإِذَا مَاتَ مَنْ
عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُكَفِّرْ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ وَلَيُّهُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا فَإِنَّهُ بَدَلُ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَتْ عَنْهُ قُوَّتُهُ
فَإِذَا أَطْعَمَ عَنْهُ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ فَهَذَا أَوْلَى . وَالْمَرْأَةُ
إنْ صَامَتْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يَقْطَعْ الْحَيْضُ تَتَابُعَهَا
بَلْ تَبْنِي بَعْدَ الطُّهْرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِسَيْفِ شَلَّ يَدَهُ ثُمَّ إنَّهُ جَاءَهُ وَدَفَعَ
إلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَفْدِنَةِ طِينٍ سَوَاءً ؛ مُصَالَحَةً ثُمَّ أَكَلَهَا
اثْنَيْ عَشَرَ سَنَةً وَلَمْ يَكْتُبْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَبَدًا وَحَالُ
الْمَضْرُوبِ ضَعِيفٌ : فَهَلْ يَلْزَمُ الضَّارِبَ الدِّيَةُ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إنْ كَانَ صَالَحَهُ عَنْ شَلَلِ يَدِهِ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ مَا
اصْطَلَحَا عَلَيْهِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا أَنْ يَزِيدَهُ وَلَا لِهَذَا أَنْ
يَنْقُصَهُ . وَأَمَّا إنْ كَانَ أَعْطَاهُ شَيْئًا بِلَا مُصَالَحَةٍ فَلَهُ أَنْ
يَطْلُبَ تَمَامَ حَقِّهِ . وَشَلَلُ الْيَدِ فِيهِ دِيَةُ الْيَدِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا فَتَحَوَّلَ حَنَكُهُ وَوَقَعَتْ أَنْيَابُهُ
وَخَيَّطُوا حَنَكَهُ بِالْإِبَرِ فَمَا يَجِبُ ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ فِي الْأَسْنَانِ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ خَمْسُونَ
دِينَارًا أَوْ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَجِبُ فِي
تَحْوِيلِ الْحَنَكِ الْأَرْشُ : يُقَوَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ
عَبْدٌ سَلِيمٌ ثُمَّ يُقَوَّمُ وَهُوَ عَبْدٌ مَعِيبٌ ثُمَّ يُنْظَرُ تَفَاوُتُ
مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَيَجِبُ بِنِسْبَتِهِ مِنْ الدِّيَةِ . وَإِذَا
كَانَتْ الضَّرْبَةُ مِمَّا تَقْلَعُ الْأَسْنَانَ فِي الْعَادَةِ فَلِلْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ أَنْ يَقْلَعَ لَهُ مِثْلَ تِلْكَ الْأَسْنَانِ مِنْ
الضَّارِبِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مُسْلِمٍ قَتَلَ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ تَابَ بَعْدَ
ذَلِكَ : فَهَلْ تُرْجَى لَهُ التَّوْبَةُ وَيَنْجُو مِنْ النَّارِ أَمْ لَا ؟
وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
قَاتِلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَيْهِ " حَقَّانِ " : حَقٌّ
لِلَّهِ بِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ وَانْتَهَكَ حُرُمَاتِهِ . فَهَذَا
الذَّنْبُ يَغْفِرُهُ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أَيْ لِمَنْ تَابَ . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَجُلًا ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ : هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ : أَبَعْدَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ تَكُونُ لَك تَوْبَةٌ فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ : وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَ التَّوْبَةِ وَلَكِنْ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا فَإِنَّ فِيهَا قَوْمًا صَالِحِينَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَأَمَرَ أَنْ يُقَاسَ فَإِلَى أَيِّ الْقَرْيَتَيْنِ كَانَ أَقْرَبَ أُلْحِقَ بِهِ ؛ فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ } " وَالْحَقُّ الثَّانِي " حَقُّ الْآدَمِيِّينَ . فَعَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يُعْطِيَ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ فَيُمَكِّنَهُمْ مِنْ الْقِصَاصِ ؛ أَوْ يُصَالِحَهُمْ بِمَالِ أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ الْعَفْوَ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِمْ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ .
وَهَلْ
يَبْقَى لِلْمَقْتُولِ عَلَيْهِ حَقٌّ يُطَالِبُهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ وَمَنْ قَالَ يَبْقَى
لَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَكْثِرُ الْقَاتِلُ مِنْ الْحَسَنَاتِ حَتَّى يُعْطِيَ
الْمَقْتُولَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَيَبْقَى لَهُ مَا يَبْقَى
فَإِذَا اسْتَكْثَرَ الْقَاتِلُ التَّائِبُ مِنْ الْحَسَنَاتِ رُجِيَتْ لَهُ
رَحْمَةُ اللَّهِ ؛ وَأَنْجَاهُ مِنْ النَّارِ وَلَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا . فَقَالَ أَحَدُهُمَا :
إنَّ هَذَا ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ وَقَالَ الْآخَرُ : إذَا تَابَ تَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا حَقُّ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِاسْتِغْفَارِ الظَّالِمِ
الْقَاتِلِ ؛ لَا فِي قَتْلِ النَّفْسِ ؛ وَلَا فِي سَائِرِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ
؛ فَإِنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِغْفَارِ ؛ لَكِنْ
تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الظُّلْمَةِ ؛ فَيَغْفِرُ اللَّهُ
لَهُ بِالتَّوْبَةِ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ . وَأَمَّا حُقُوقُ الْمَظْلُومِينَ فَإِنَّ
اللَّهَ يُوَفِّيهِمْ إيَّاهَا : إمَّا مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ وَإِمَّا مِنْ
عِنْدِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ اتَّهَمُوهُ النَّصَارَى فِي قَتْلِ نَصَارَى وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ ؛
فَأَحْضَرُوهُ إلَى النَّائِبِ بالكرك ؛ وَأَلْزَمُوهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ ؛
فَعُوقِبَ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُقِرَّ بِشَيْءِ : فَمَا يَلْزَمُ النَّصَارَى
الَّذِينَ الْتَزَمُوا بِدَمِهِ ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ الَّذِي الْتَزَمُوا دَمَهُ إنْ مَاتَ تَحْتَ
الْعُقُوبَةِ بَلْ يُعَاقَبُونَ كَمَا عُوقِبَ أَيْضًا ؛ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد
فِي السُّنَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ : قَضَى نَحْوَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
كِتَابُ
الْحُدُودِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
خَاطَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ خِطَابًا مُطْلَقًا
كَقَوْلِهِ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا } وَقَوْلِهِ : {
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ }
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } لَكِنْ قَدْ
عُلِمَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْفِعْلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ
وَالْعَاجِزُونَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا فَرْضٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ وَهُوَ مِثْلُ الْجِهَادِ ؛ بَلْ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْجِهَادِ .
فَقَوْلُهُ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } وَقَوْلُهُ : { وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ } وَنَحْوَ
ذَلِكَ هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ الْقَادِرِينَ و " الْقُدْرَةُ
" هِيَ السُّلْطَانُ ؛ فَلِهَذَا : وَجَبَ إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى ذِي
السُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ .
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ إمَامٌ وَاحِدٌ وَالْبَاقُونَ
نُوَّابُهُ فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْأُمَّةَ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ لِمَعْصِيَةِ
مِنْ بَعْضِهَا وَعَجْزٍ مِنْ الْبَاقِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
فَكَانَ لَهَا عِدَّةُ أَئِمَّةٍ : لَكَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إمَامٍ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَيَسْتَوْفِيَ الْحُقُوقَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يُنَفَّذُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ مَا يُنَفَّذُ مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ شَارَكُوا الْإِمَارَةَ وَصَارُوا أَحْزَابًا لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ حِزْبٍ فِعْلَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ طَاعَتِهِمْ فَهَذَا عِنْدَ تَفَرُّقِ الْأُمَرَاءِ وَتَعَدُّدِهِمْ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا ؛ لَكِنْ طَاعَتُهُمْ لِلْأَمِيرِ الْكَبِيرِ لَيْسَتْ طَاعَةً تَامَّةً ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا إذَا أُسْقِطَ عَنْهُ إلْزَامُهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ الْقِيَامُ بِذَلِكَ ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمُوا ذَلِكَ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ فُرِضَ عَجْزُ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ عَنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ أَوْ إضَاعَتِهِ لِذَلِكَ : لَكَانَ ذَلِكَ الْفَرْضُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ إلَّا السُّلْطَانُ وَنُوَّابُهُ . إذَا كَانُوا قَادِرِينَ فَاعِلِينَ بِالْعَدْلِ . كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ إنَّمَا هُوَ الْعَادِلُ الْقَادِرُ فَإِذَا كَانَ مُضَيِّعًا لِأَمْوَالِ الْيَتَامَى ؛ أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا : لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ حِفْظِهَا بِدُونِهِ وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا كَانَ مُضَيِّعًا لِلْحُدُودِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا لَمْ يَجِبْ تَفْوِيضُهَا إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ إقَامَتِهَا بِدُونِهِ . وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ تُقَامُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ . فَمَتَى أَمْكَنَ إقَامَتُهَا مِنْ أَمِيرٍ لَمْ يُحْتَجْ إلَى اثْنَيْنِ وَمَتَى لَمْ يَقُمْ إلَّا بِعَدَدِ وَمِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ أُقِيمَتْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي إقَامَتِهَا فَسَادٌ يَزِيدُ عَلَى إضَاعَتِهَا فَإِنَّهَا مِنْ " بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ " فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ وُلَاةِ الْأَمْرِ أَوْ الرَّعِيَّةِ مَا يَزِيدُ عَلَى إضَاعَتِهَا لَمْ يُدْفَعْ فَسَادٌ بِأَفْسَدَ مِنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
حَدِّ الزِّنَا
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَمَّنْ زَنَى بِأُخْتِهِ : مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَجَبَ قَتْلُهُ
وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ { الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ : مَرَّ بِي
خَالِي أَبُو بُرْدَةَ وَمَعَهُ رَايَةٌ فَقُلْت : أَيْنَ تَذْهَبُ يَا خَالِي
قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ
تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ ؛ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ
مَالَهُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ بِزَوْجِ كَامِلٍ وَلَهَا أَوْلَادٌ فَتَعَلَّقَتْ
بِشَخْصِ مِنْ الْأَطْرَافِ أَقَامَتْ مَعَهُ عَلَى الْفُجُورِ ؛ فَلَمَّا ظَهَرَ
أَمْرُهَا سَعَتْ فِي مُفَارَقَةِ الزَّوْجِ : فَهَلْ بَقِيَ لَهَا حَقٌّ عَلَى
أَوْلَادِهَا بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ ؟ وَهَلْ عَلَيْهِمْ إثْمٌ فِي قَطْعِهَا ؟
وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهَا قَتْلُهَا سِرًّا ؟ وَإِنْ فَعَلَ
ذَلِكَ غَيْرُهُ يَأْثَمُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْوَاجِبُ عَلَى أَوْلَادِهَا وَعُصْبَتِهَا أَنْ
يَمْنَعُوهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ إلَّا بِالْحَبْسِ
حَبَسُوهَا ؛ وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى الْقَيْدِ قَيَّدُوهَا . وَمَا يَنْبَغِي
لِلْوَلَدِ أَنْ يَضْرِبَ أُمَّهُ . وَأَمَّا بِرُّهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ
يَمْنَعُوهَا بِرَّهَا وَلَا يَجُوزَ لَهُمْ مُقَاطَعَتُهَا بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُ
بِذَلِكَ مِنْ السُّوءِ ؛ بَلْ يَمْنَعُوهَا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ . وَإِنْ
احْتَاجَتْ إلَى رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ رَزَقُوهَا وَكَسَوْهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ
إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِقَتْلِ وَلَا غَيْرِهِ وَعَلَيْهِمْ الْإِثْمُ فِي
ذَلِكَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بَلَدٍ فِيهَا جَوَارٍ سَائِبَاتٍ يَزْنُونَ مَعَ النَّصَارَى
وَالْمُسْلِمِينَ ؟
فَأَجَابَ :
عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدَّ كَمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا ؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ
فَلْيَجْلِدْهَا ؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فِي
الرَّابِعَةِ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بظفير } والظفير الْحَبْلُ . فَإِنْ لَمْ
يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَكَانَ إصْرَارُهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ
قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ يُرْسِلُهَا لِتَبْغِيَ
وَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ مَهْرِ الْبِغَاءِ أَوْ يَأْخُذَ هُوَ شَيْئًا
مِنْ ذَلِكَ : فَهَذَا مِمَّنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَهُوَ فَاسِقٌ
خَبِيثٌ ؛ أَذِنَ فِي الْكَبِيرَةِ وَأَخَذَ مَهْرَ الْبَغِيِّ ؛ وَلَمْ يَنْهَهَا
عَنْ الْفَاحِشَةِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْدِلًا ؛ بَلْ
لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ
الْغَلِيظَةَ
حَتَّى يَصُونَ إمَاءَهُ . وَأَقَلُّ الْعُقُوبَةِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يُسَلَّمُ
عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ إذَا أَمْكَنَتْ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِ
وَلَا يُسْتَشْهَدُ وَلَا يُوَلَّى وِلَايَةً أَصْلًا . وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ
فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَكَانَ
مُرْتَدًّا لَا تَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ . وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا
بِالتَّحْرِيمِ عُرِّفَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِنَّ هَذَا
مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ حَلَفَ لِوَلَدِهِ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ مُنْكَرًا يُقِيمُ عَلَيْهِ
الْحَدَّ فَأَقَرَّ لِوَالِدِهِ فَضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَبَقِيَ تَغْرِيبُ
عَامٍ : فَهَلْ يَجُوزُ فِي تَغْرِيبِ الْعَامِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَنَّهُ إذَا غَرَّبَهُ فِي الْحَبْسِ وَلَوْ فِي دَارِ الْأَبِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ
وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا
يَجِبُ الْقَيْدُ وَلَا جَعْلُهُ فِي مَكَانٍ مُظْلِمٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا فَتَابَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ : فَهَلْ
يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ ؟
فَأَجَابَ
: إنْ تَابَ مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ؛ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ قَبْلَ أَنْ
يُرْفَعَ إلَى الْإِمَامِ : فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ كَمَا
يَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارَبِينَ بِالْإِجْمَاعِ إذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ : مِثْلَ
جَلْدٍ أَوْ حَصْبٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ وَأَقْلَعَ وَاسْتَغْفَرَ
وَنَوَى أَنْ لَا يَعُودَ : فَهَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ ؟ أَوْ يَحْتَاجُ ذَلِكَ
إلَى أَنْ يَأْتِيَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَيُعَرِّفَهُ بِذَنْبِهِ لِيُقِيمَ
عَلَيْهِ الْحَدَّ ؛ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ سَتْرُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَتَوْبَتُهُ
أَفْضَلُ أَمْ لَا ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إذَا تَابَ تَوْبَةً صَحِيحَةً تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ
حَاجَةٍ إلَى أَنْ يُقِرَّ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَفِي
الْحَدِيثِ : { مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ
فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ
عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ } وَفِي الْأَثَرِ أَيْضًا : { مَنْ أَذْنَبَ سِرًّا
فَلْيَتُبْ سِرًّا وَمَنْ أَذْنَبَ عَلَانِيَةً فَلْيَتُبْ عَلَانِيَةً } وَقَدْ
قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } الْآيَةُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إثْمِ الْمَعْصِيَةِ وَحَدِّ الزِّنَا : هَلْ تُزَادُ فِي الْأَيَّامِ
الْمُبَارَكَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، الْمَعَاصِي فِي الْأَيَّامِ الْمُفَضَّلَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الْمُفَضَّلَةِ
تُغَلَّظُ وَعِقَابُهَا بِقَدْرِ فَضِيلَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ قَوَّادَةٍ تَجْمَعُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَقَدْ ضُرِبَتْ
وَحُبِسَتْ ؛ ثُمَّ عَادَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ لَحِقَ الْجِيرَانَ الضَّرَرُ
بِهَا : فَهَلْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ نَقْلُهَا مِنْ بَيْنِهِمْ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، لِوَلِيِّ الْأَمْرِ كَصَاحِبِ الشُّرْطَةِ أَنْ يَصْرِفَ ضَرَرَهَا
بِمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً : إمَّا بِحَبْسِهَا وَإِمَّا بِنَقْلِهَا عَنْ
الْحَرَائِرِ ؛ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَقَدْ
كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْمُرُ الْعُزَّابَ أَنْ لَا تَسْكُنَ بَيْنَ
الْمُتَأَهِّلِينَ وَأَنْ لَا يَسْكُنَ الْمُتَأَهِّلُ بَيْنَ الْعُزَّابِ ؛
وَهَكَذَا فَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَوْا شَابًّا خَافُوا
الْفِتْنَةَ بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْبَصْرَةِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
. { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى الْمُخَنَّثِينَ و
أَمَرَ بِنَفْيِهِمْ مِنْ الْبُيُوتِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْسِدُوا النِّسَاءَ } .
فَالْقَوَّادَةُ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَاَللَّهُ يُعَذِّبُهَا مَعَ أَصْحَابِهَا
.
وَسُئِلَ :
عَنْ " الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ " بَعْدَ إدْرَاكِهِمَا مَا
يَجِبُ عَلَيْهِمَا ؟ وَمَا يُطَهِّرُهُمَا ؟ وَمَا يَنْوِيَانِ عِنْدَ
الطَّهَارَةِ ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ فَيَجِبُ قَتْلُهُمَا رَجْمًا
بِالْحِجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ ؛ لِمَا فِي
السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ
وَالْمَفْعُولَ بِهِ } وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِهِمَا . وَعَلَيْهِمَا الِاغْتِسَالُ مِنْ
الْجَنَابَةِ وَتَرْتَفِعُ الْجَنَابَةُ مِنْ الِاغْتِسَالِ ؛ لَكِنْ لَا
يَطْهُرَانِ مِنْ نَجَاسَةِ الذَّنْبِ إلَّا بِالتَّوْبَةِ وَهَذَا مَعْنَى مَا
رُوِيَ : { أَنَّهُمَا لَوْ اغْتَسَلَا بِالْمَاءِ يَنْوِيَانِ رَفْعَ
الْجَنَابَةِ وَاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ . . . } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ فِي " التَّهْذِيبِ " : مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوا
الْمَفْعُولَ وَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ بِهَا : فَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ ؛
وَهُوَ قَوْلُهُ : { مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا } وَهُوَ
أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
بَابُ
حَدِّ الْقَذْفِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ قَذَفَ رَجُلًا لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى حَرِيمِ النَّاسِ وَهُوَ كَذِبٌ
عَلَيْهِ : فَمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ ؟ .
الْجَوَابُ :
إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى افْتِرَائِهِ
عَلَى هَذَا الشَّخْصِ بِمَا يَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ إذَا طَلَبَ الْمَقْذُوفُ
ذَلِكَ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَلَهُ مُطَلَّقَةٌ
وَشَرَطَ إنْ رَدَّ مُطَلَّقَتَهُ كَانَ الصَّدَاقُ حَالًّا ثُمَّ إنَّهُ رَدَّ
الْمُطَلَّقَةَ وَقَذَفَ هُوَ وَمُطَلَّقَتُهُ عِرْضَ الزَّوْجَةِ وَرَمَوْهَا
بِالزِّنَا ؟ بِإِنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ الزِّنَا وَطَلَّقَهَا بَعْدَ
دُخُولِهِ بِهَا : فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمَا ؟ وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهَا
؟ وَهَلْ يَسْقُطُ الصَّدَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا مُطَلَّقَتُهُ فَتُحَدُّ عَلَى
قَذْفِهَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمَقْذُوفَةُ
وَلَا تُقْبَلُ لَهَا شَهَادَةٌ أَبَدًا لِأَنَّهَا فَاسِقَةٌ . وَكَذَلِكَ
الرَّجُلُ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ وَلَا
تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا وَهُوَ فَاسِقٌ إذَا لَمْ يَتُبْ . وَهَلْ لَهُ
إسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ ؟ فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
" فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يُلَاعِنُ . وَقِيلَ : لَا
يُلَاعِنُ . وَقِيلَ : إنْ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ لَاعَنَ ؛
وَإِلَّا فَلَا . وَصَدَاقُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ لَا يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ كَمَا
سَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كُلُّهُ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ اللِّعَانِ
فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ " أَحَدُهَا " لَا يُلَاعِنُ ؛ بَلْ
يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَتَسْقُطُ شَهَادَتُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد فِي
أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
. و " الثَّانِي " يُلَاعِنُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد
فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ . و " الثَّالِثُ " إنْ كَانَ هُنَاكَ حَمْلٌ
لَاعَنَ ؛ لِنَفْيِهِ ؛ وَإِلَّا فَلَا . وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلِ : أَنْتَ فَاسِقٌ شَارِبُ الْخَمْرِ وَمَنَعَهُ مِنْ
أُجْرَةِ مِلْكِهِ الَّذِي يَمْلِكُ انْتِفَاعَهُ شَرْعًا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا وَجَبَ عَلَى الْقَاذِفِ حَدُّ الْقَذْفِ إذَا
طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ وَأَمَّا شَتْمُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَاذِبًا
فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَزَّرَ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا ضَرْبُهُ وَحَبْسُهُ إذَا
كَانَ ظَالِمًا ؛ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ وَمَا عَطَّلَهُ عَلَيْهِ
مِنْ الْمَنْفَعَةِ ضَمِنَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَذَفَ رَجُلًا وَقَالَ لَهُ : أَنْتَ عِلْقٌ وَلَدُ زِنَا : فَمَا
الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا قَذَفَهُ بِالزِّنَا أَوْ اللِّوَاطِ كَقَوْلِهِ : أَنْتَ عِلْقٌ وَكَانَ
ذَلِكَ الرَّجُلُ حُرًّا مُسْلِمًا لَمْ يُشْتَهَرْ عَنْهُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ
حَدُّ الْقَذْفِ إذَا طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إنْ كَانَ
الْقَاذِفُ حُرًّا ؛ وَأَرْبَعُونَ إنْ كَانَ رَقِيقًا . عِنْدَ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ.
بَابُ
حَدِّ الْمُسْكِرِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
أَمَّا " الْأَشْرِبَةُ الْمُسْكِرَةُ " فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ
الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ
كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ
: مِثْلَ أَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ وَغَيْرِهِ . وَهَذَا قَوْلُ
الأوزاعي وَأَصْحَابِهِ وَاللَّيْثِ ابْنِ سَعْدٍ وَأَصْحَابِهِ وَإِسْحَاقِ بْنِ
رَاهَوَيْه وَأَصْحَابِهِ ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ وَأَبِي ثَوْرٍ
وَأَصْحَابِهِ وَابْنِ جَرِيرٍ الطبري وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَالنَّخْعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَشَرِيكٍ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ مِنْ غَيْرِ الشَّجَرَتَيْنِ -
النَّخْلِ وَالْعِنَبِ - كَنَبِيذِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ
وَالْعَسَلِ وَلَبَنِ الْخَيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ
مِنْهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُسْكِرُ . وَأَمَّا الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يُسْكِرُ فَلَا يَحْرُمُ . وَأَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَهُوَ خَمْرٌ يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَصْحَابُ " الْقَوْلِ الثَّانِي " قَالُوا : لَا يُسَمَّى خَمْرًا إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْعِنَبِ . وَقَالُوا : إنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا كَانَ نَيْئًا مُسْكِرًا حَرُمَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَلَا يُسَمَّى خَمْرًا فَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ حَلَّ . وَأَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ وَهُوَ مُسْكِرٌ لَمْ يَحِلَّ إلَّا أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ . فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا فَلَا يَحِلُّ وَإِنْ طُبِخَ إذَا كَانَ مُسْكِرًا بِلَا نِزَاعٍ . و " الْقَوْلُ الْأَوَّلُ " الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } . وَاسْمُ " الْخَمْرِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ كَانَ يَتَنَاوَلُ الْمُسْكِرَ مِنْ التَّمْرِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْكِرِ مِنْ الْعِنَبِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّقُولِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَكَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي السُّنَّةِ الثَّالِثَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَيْسَ
فِيهَا شَجَرُ عِنَبٍ ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ خَمْرُهُمْ مِنْ التَّمْرِ . فَلَمَّا حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَرَاقُوهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَكَسَرُوا أَوْعِيَتَهَا وَشَقُّوا ظُرُوفَهَا ؛ وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا " خَمْرًا " . فَعُلِمَ أَنَّ اسْمَ " الْخَمْرِ " فِي كِتَابِ اللَّهِ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِعَصِيرِ الْعِنَبِ . فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمئِذٍ لَخَمْسَةُ أَشْرِبَةٍ ؛ مَا مِنْهَا شَرَابُ الْعِنَبِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ يَوْمئِذٍ مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ : لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيهَا الْخَمْرَ ؛ وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ إلَّا مِنْ تَمْرٍ وَبُسْرٍ . وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ : وَحُرِّمَتْ عَلَيْنَا حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الْأَعْنَابِ إلَّا قَلِيلًا ؛ وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ . كُنْت أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وأبي بْنَ كَعْبٍ مِنْ فريخ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ : إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : يَا أَنَسُ قُمْ إلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَأَهْرِقْهَا فأهرقتها . وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ يَكُونُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ؛ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْعِنَبِ } فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ : مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ ؛
وَالْعَسَلِ
؛ وَالْحِنْطَةِ ؛ وَالشَّعِيرِ ؛ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ . وَرَوَى
أَهْلُ السُّنَنِ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه عَنْ النُّعْمَانِ
بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَمِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا وَمِنْ الزَّبِيبِ
خَمْرًا ؛ وَمِنْ التَّمْرِ خَمْرًا وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا } زَادَ أَبُو
دَاوُد : { وَأَنَا أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ } .
وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَهُوَ حَرَامٌ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَكَانَ
أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ
} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا
نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ : الْبِتْعُ . وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى
يَشْتَدَّ ؟ قَالَ . فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِيمِهِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ
حَرَامٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ حُبْشَانَ .
وَحُبْشَانُ مِنْ الْيَمَنِ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرَاضِيِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ :
الْمِزْرُ فَقَالَ : أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ
حَرَامٌ ؛ إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ
مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ
؟ قَالَ : عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ
مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ
خَمْرٍ
حَرَامٌ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِي وَصَحَّحَهُ وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ . وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ . وَلَكِنَّ عُذْرَ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُمْ وَسَمِعُوا أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ وَبَلَغَتْهُمْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ : فَظَنُّوا أَنَّ الَّذِي شَرِبُوهُ كَانَ مُسْكِرًا وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ هُوَ مَا نُبِذَ فِي الْأَوْعِيَةِ الصُّلْبَةِ ؛ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَهُوَ الْقَرْعُ وَفِي الْحَنْتَمِ وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنْ التُّرَابِ مِنْ الْفَخَّارِ وَنَهَى عَنْ النَّقِيرِ وَهُوَ الْخَشَبُ الَّذِي يُنْقَرُ وَنَهَى عَنْ الْمُزَفَّتِ وَهُوَ الظَّرْفُ الْمُزَفَّتُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الظُّرُوفِ الْمُوكَاةِ } وَهُوَ أَنْ يُنْقَعَ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ فَيُشْرَبَ حُلْوًا قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ . فَهَذَا حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا هَذَا النَّبِيذَ الْحَلَالَ فِي تِلْكَ الْأَوْعِيَةِ ؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ تَدِبُّ فِي الشَّرَابِ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَشْرَبُهُ الْمُسْلِمُ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ قَدْ اشْتَدَّ فَيَكُونُ قَدْ شَرِبَ مُحَرَّمًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الظَّرْفِ الَّذِي يَرْبُطُونَ فَمَه لِأَنَّهُ إنْ اشْتَدَّ الشَّرَابُ انْشَقَّ الظَّرْفُ فَلَا يَشْرَبُونَ مُسْكِرًا . وَالنَّهْيُ عَنْ " نَبِيذِ الْأَوْعِيَةِ الْقَوِيَّةِ " فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ إبَاحَةُ ذَلِكَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة بْنِ الحصيب قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ إلَّا فِي ظُرُوفِ الْأُدْمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } وَفِي رِوَايَةٍ { نَهَيْتُكُمْ عَنْ الظُّرُوفِ وَإِنَّ ظَرْفًا لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } فَمِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ النَّسْخُ فَأَخَذَ بِالْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ النَّسْخِ فَأَبَاحَ الِانْتِبَاذَ فِي كُلِّ وِعَاءٍ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَالنَّهْيُ عَنْ بَعْضِ الْأَوْعِيَةِ قَوْلُ مَالِكٍ . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . فَلَمَّا سَمِعَ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ شَرِبُوا الْمُسْكِرَ : فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : كَالشَّافِعِيِّ وَالنَّخْعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَشَرِيكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِمْ : يَحِلُّ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدُونَ قَاصِدُونَ لِلْحَقِّ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ . وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَأَمَّا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا بِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَعَلَيْهِ دَلَّ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَمْرَ هِيَ أَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . وَهَذَا أَمْرٌ تَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُسْكِرَاتِ ؛ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مُسْكِرٍ وَمُسْكِرٍ
وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ الْقَلِيلَ ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْمُسْكِرَاتِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ " هَلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ؟ وَمَا هِيَ الْمَنَافِعُ ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ مَا نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّهُمْ سَأَلُوا
عَنْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ
الْآيَةَ ؛ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ فِيهَا " إثْمًا "
وَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ
وَفِيهَا " مَنْفَعَةٌ " وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مِنْ اللَّذَّةِ
وَمَنْفَعَةِ الْبَدَنِ وَالتِّجَارَةُ فِيهَا فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَمْ
يَشْرَبْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ شَرِبَ ؛ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا شَرِبَ قَوْمٌ الْخَمْرَ
فَقَامُوا يُصَلُّونَ وَهُمْ سُكَارَى ؛ فَخَلَطُوا فِي الْقِرَاءَةِ ؛ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فَنَهَاهُمْ عَنْ
شُرْبِهَا قُرْبَ الصَّلَاةِ ؛ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهَا . ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ } . " فَحَرَّمَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ
مُتَعَدِّدَةٍ ؛ فَقَالُوا : انْتَهَيْنَا . انْتَهَيْنَا . وَمَضَى حِينَئِذٍ
أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاقَتِهَا ؛ فَكُسِرَتْ
الدِّنَانُ وَالظُّرُوفُ ؛ وَلَعَنَ عَاصَرَهَا ؛ وَمُعْتَصِرَهَا ؛ وَشَارِبَهَا
؛ وَآكِلَ ثَمَنِهَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَلْ يَجُوزُ شُرْبُ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ
. كالصرماء وَالْقُمَزِ وَالْمِزْرِ ؟ أَوْ لَا يَحْرُمُ إلَّا الْقَدَحُ
الْأَخِيرُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ :
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا
بِالْيَمَنِ الْبِتْعُ وَهُوَ الْعَسَلُ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ . و الْمِزْرُ
وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ :
كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } { وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ
وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ
حَرَامٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَمَنِ
سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ : الْمِزْرُ
فَقَالَ : أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ
إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ
طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا : يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟
قَالَ : عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ ؛ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } .
فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَشْرِبَةٍ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ كَالْمِزْرِ وَغَيْرِهِ فَأَجَابَهُمْ بِكَلِمَةِ جَامِعَةٍ وَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ : { إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ شَرَابٍ كَانَ جِنْسُهُ مُسْكِرًا حَرَامٌ سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ كَمَا فِي خَمْرِ الْعِنَبِ . وَلَوْ أَرَادَ بِالْمُسْكِرِ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ الشَّرَابُ كُلُّهُ حَرَامًا ؛ وَلَكَانَ بَيَّنَ لَهُمْ ؛ فَيَقُولُ اشْرَبُوا مِنْهُ وَلَا تَسْكَرُوا . وَلِأَنَّهُ { سَأَلَهُمْ عَنْ الْمِزْرِ أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ . فَقَالَ . كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . فَلَمَّا سَأَلَهُمْ " أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ " إنَّمَا أَرَادَ يُسْكِرُ كَثِيرُهُ كَمَا يُقَالُ . الْخُبْزُ يُشْبِعُ ؛ وَالْمَاءُ يَرْوِي وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الرَّيُّ وَالشِّبَعُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُ لَا بِالْقَلِيلِ . كَذَلِكَ الْمُسْكِرُ إنَّمَا يَحْصُلُ السُّكْرُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُ فَلَمَّا قَالُوا لَهُ : هُوَ مُسْكِرٌ . قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُسْكِرِ كَمَا يُرَادُ بِالْمُشْبِعِ وَالْمُرْوِي وَنَحْوِهِمَا وَلَمْ يُرِدْ آخِرَ قَدَحٍ ؛ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ؛ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَفِي لَفْظٍ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ لَا يَقُولُ : إنَّهُ خَمْرٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامًا . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ . قَالَ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَمِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ؛ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَيِّنُ أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي حَرَّمَهَا اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعَسَلِ أَوْ التَّمْرِ أَوْ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ ؛ أَوْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ ؛ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَغَيْرِهِ وَصَحَّحَهُ الدارقطني وَغَيْرُهُ . وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ وَالْآثَارِ وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي النَّبِيذِ ؛ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ : فَظَنُّوا أَنَّهُ السُّكْرُ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ النَّبِيذُ الَّذِي شَرِبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْبِذُونَ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ فَيَشْرَبُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وَثَانِيَ يَوْمٍ ؛ وَثَالِثَ يَوْمٍ ؛ وَلَا يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ ؛ لِئَلَّا تَكُونَ الشِّدَّةُ قَدْ بَدَتْ فِيهِ ؛ وَإِذَا اشْتَدَّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُشْرَبْ . وَقَدْ
رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا } وَرُوِيَ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَنْ شَرِبَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الصرماء وَغَيْرَ ذَلِكَ ؛ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاضِحٌ ؛ فَإِنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ؛ وَلَا فَرْقَ فِي الْحِسِّ وَلَا الْعَقْلِ بَيْنَ خَمْرِ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ؛ وَهَذَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ؛ وَهَذَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ؛ وَهَذَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالِاعْتِبَارِ ؛ وَهَذَا هُوَ " الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ " وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ ؛ فَلَا يُفَرِّقُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَ شَرَابٍ مُسْكِرٍ وَشَرَابٍ مُسْكِرٍ فَيُبِيحُ قَلِيلَ هَذَا وَلَا يُبِيحُ قَلِيلَ هَذَا ؛ بَلْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ الْقَلِيلَ مِنْ أَحَدِهِمَا حَرَّمَ الْقَلِيلَ مِنْهُمَا ؛ فَإِنَّ الْقَلِيلَ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِإِرَاقَتِهَا ؛ وَيَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهَا وَحَكَمَ بِنَجَاسَتِهَا ؛ وَأَمَرَ بِجِلْدِ شَارِبِهَا ؛ كُلُّ ذَلِكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ ؛ فَكَيْفَ يُبِيحُ الْقَلِيلُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ نَبِيذِ التَّمْرِ ؛ وَالزَّبِيبِ وَالْمِزْرِ " وَالسَّوِيقَةِ "
الَّتِي تُعْمَلُ مِنْ الْجَزَرِ وَاَلَّذِي يُعْمَلُ مِنْ الْعِنَبِ "
يُسَمَّى " النَّصُوحَ " : هَلْ هُوَ حَلَالٌ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ
شَيْءٍ مِنْ هَذَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ فَهُوَ خَمْرٌ
فَهُوَ حَرَامٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي
الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى : { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَرَابٍ يُصْنَعُ
مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ وَشَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ
لَهُ الْبِتْعُ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ }
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ
خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي لَفْظِ الصَّحِيحِ : { كُلُّ مُسْكِرٍ
خَمْرٌ ؛ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا
أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَقَدْ صَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنْ الْحُفَّاظِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَصِيرَ الْعِنَبِ النَّيْءِ
إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزُّبْدِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الشِّدَّةِ
الْمُطْرِبَةِ الَّتِي تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَتُوقِعُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . وَكُلُّ مَا كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الشِّدَّةُ
الْمُطْرِبَةُ فَهُوَ خَمْرٌ مِنْ أَيِّ مَادَّةٍ كَانَ : مِنْ الْحُبُوبِ ؛
وَالثِّمَارِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَسَوَاءٌ كَانَ نَيْئًا أَوْ مَطْبُوخًا ؛
لَكِنَّهُ
إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ لَمْ يَبْقَ مُسْكِرًا ؛
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ أَفَاوِيهُ أَوْ نَوْعٌ آخَرُ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ { أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَهَذَا
مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ وَهَذَا الْمُسْكِرُ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى شَارِبِهِ
وَهُوَ نَجِسٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ . وَكَذَلِكَ " الْحَشِيشَةُ "
الْمُسْكِرَةُ يَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ ؛ وَهِيَ نَجِسَةٌ فِي أَصَحِّ الْوُجُوهِ ؛
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا طَاهِرَةٌ . وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ يَابِسِهَا وَمَائِعِهَا
: وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا تُسْكِرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالْخَمْرِ
النَّيْءِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَا يُسْكِرُ بَلْ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ كَالْبَنْجِ ؛
أَوْ يُسْكِرُ بَعْدَ الِاسْتِحَالَةِ كَجَوْزَةِ الطِّيبِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ
لَيْسَ بِنَجِسِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحَشِيشَةَ لَا تُسْكِرُ وَإِنَّمَا
تُغَيِّبُ الْعَقْلَ بِلَا لَذَّةٍ فَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ أَمْرِهَا ؛
فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا فِيهَا مِنْ اللَّذَّةِ لَمْ يَتَنَاوَلُوهَا وَلَا
أَكَلُوهَا ؛ بِخِلَافِ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا لَذَّةَ فِيهِ .
وَالشَّارِعُ فَرَّقَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ بَيْنَ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ
وَمَا لَا تَشْتَهِيهِ فَمَا لَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ
اُكْتُفِيَ فِيهِ بِالزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ ؛ فَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ فِيهِ
التَّعْزِيزُ . وَأَمَّا مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ فَجَعَلَ فِيهِ مَعَ
الزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ زَاجِرًا طَبِيعِيًّا وَهُوَ الْحَدُّ . "
وَالْحَشِيشَةُ " مِنْ هَذَا الْبَابِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " النُّصُوحِ " هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ ؟ وَهْم يَقُولُونَ
: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَعْمَلُهُ . "
وَصُورَتُهُ " أَنْ يَأْخُذَ ثَلَاثِينَ رِطْلًا مِنْ مَاءِ عِنَبٍ وَيَغْلِي
حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُهُ ؛ فَهَلْ هَذِهِ صُورَتُهُ ؟ وَقَدْ نَقَلَ
مَنْ
فَعَلَ بَعْضَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْكِرُ ؛ وَهُوَ الْيَوْمَ جِهَارًا فِي
الإسكندرية وَمِصْرَ ؛ وَنَقُولُ لَهُمْ : هُوَ حَرَامٌ ؛ فَيَقُولُونَ : كَانَ
عَلَى زَمَنِ عُمَرَ ؛ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ أَنَّهُ
حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ وَجَعَلَهُ خَمْرًا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَفِي لَفْظٍ { كُلُّ مُسْكِرٍ
حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ }
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَرَابِ الْعَسَلِ يُسَمَّى الْبِتْعَ
وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ؛ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ عَلَى
الْمِنْبَرِ - مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ
اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : مِنْ الْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَالْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ؛ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ
الْعَقْلَ . وَهُوَ فِي السُّنَنِ مُسْنَدٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ
قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَقَدْ صَحَّحَهُ
طَائِفَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ . وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . فَمَذْهَبُ
أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ ؛ وَمِصْرَ ؛ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَفُقَهَاءِ
الْحَدِيثِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ :
أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ
كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حِرَامٌ ؛ وَهُوَ خَمْرٌ عِنْدَهُمْ مِنْ أَيِّ مَادَّةٍ كَانَتْ : مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعِنَبِ أَوْ التَّمْرِ ؛ أَوْ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ أَوْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ كَانَ نَيْئًا أَوْ مَطْبُوخًا وَسَوَاءٌ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ أَوْ ثُلُثُهُ ؛ أَوْ نِصْفُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ . فَمَتَى كَانَ كَثِيرُهُ مُسْكِرًا حَرُمَ قَلِيلُهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ . وَمَعَ هَذَا فَهُمْ يَقُولُونَ بِمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَأَرَادَ أَنْ يَطْبُخَ لِلْمُسْلِمِينَ شَرَابًا لَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ طَبَخَ الْعَصِيرَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَصَارَ مِثْلَ الرُّبِّ فَأَدْخَلَ فِيهِ أُصْبُعَهُ فَوَجَدَهُ غَلِيظًا فَقَالَ : كَأَنَّهُ الطَّلَا . يَعْنِي الطَّلَا الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ فَسَمَّوْا ذَلِكَ " الطَّلَا " . فَهَذَا الَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ لَمْ يَكُنْ يُسْكِرُ وَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ صَاحِبُ الْخَلَّالِ : أَنَّهُ مُبَاحٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْكِرُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ إنَّهُ يُبَاحُ مَعَ كَوْنِهِ مُسْكِرًا وَلَكِنْ نَشَأَتْ " شُبْهَةٌ " مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا الْمَطْبُوخَ قَدْ يُسْكِرُ ؛ لِأَشْيَاءَ إمَّا لِأَنَّ طَبْخَهُ لَمْ يَكُنْ تَامًّا ؛ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا صِفَةَ طَبْخِهِ أَنَّهُ يَغْلِي عَلَيْهِ أَوَّلًا حَتَّى يَذْهَبَ وَسَخُهُ ثُمَّ يَغْلِي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَالْوَسَخُ فِيهِ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَسَخَ يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِ الذَّاهِبِ . وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَطْبُوخِ مِنْ الْأَفَاوِيهِ وَغَيْرِهَا
مَا
يُقَوِّيهِ وَيَشُدُّهُ حَتَّى يَصِيرَ مُسْكِرًا فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ
الْخَلِيطَيْنِ وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ } لِتَقْوِيَةِ أَحَدِهِمَا
صَاحِبَهُ كَمَا نَهَى عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَعَنْ الرُّطَبِ
وَالتَّمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلِلْعُلَمَاءِ نِزَاعٌ فِي " الْخَلِيطَيْنِ
" إذَا لَمْ يُسْكِرْ كَمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي نَبِيذِ
الْأَوْعِيَةِ الَّتِي لَا يَشْتَدُّ مَا فِيهَا بِالْغَلَيَانِ وَكَمَا
تَنَازَعُوا فِي الْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ . وَأَمَّا إذَا صَارَ
الْخَلِيطَانِ مِنْ الْمُسْكِرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ هَؤُلَاءِ
الْأَئِمَّةِ . فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ مِنْ الْمَطْبُوخِ كَانَ صِرْفًا
فَإِذَا خَلَطَهُ بِمَا قَوَّاهُ وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَا
أَبَاحَهُ عُمَرُ . وَرُبَّمَا يَكُونُ لِبَعْضِ الْبِلَادِ طَبِيعَةٌ يُسْكِرُ
فِيهَا مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَيَحْرُمُ إذَا أَسْكَرَ ؛ فَإِنَّ مَنَاطَ
التَّحْرِيمِ هُوَ السُّكْرُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَمَنْ قَالَ . إنَّ
عُمَرَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبَاحَ مُسْكِرًا فَقَدْ كَذَبَ
عَلَيْهِمْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ قَالَ : إنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ وَالْحَشِيشَةِ يَجُوزُ بَعْضُهُ إذَا لَمْ
يُسْكِرْ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ : فَهَلْ هُوَ صَادِقٌ فِي
هَذِهِ الصُّورَةِ ؟ أَمْ كَاذِبٌ فِي نَقْلِهِ ؟ وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ : هَلْ
يَكْفُرُ أَمْ لَا ؟ وَذَكَرَ أَنَّ قَلِيلَ الْمَزْرِ يَجُوزُ شُرْبُهُ فَهَلْ
حُكْمُهُ حُكْمُ خَمْرِ الْعِنَبِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ ؟ أَمْ
لَهُ حُكْمٌ آخَرُ كَمَا ادَّعَاهُ هَذَا الرَّجُلُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْخَمْرُ الَّتِي هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي
إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إبَاحَةَ قَلِيلِ
ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ ؛ بَلْ مَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ
تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَوْ اسْتَحَلَّ شُرْبَ الْخَمْرِ بِنَوْعِ شُبْهَةٍ
وَقَعَتْ لِبَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا إنَّمَا تَحْرُمُ عَلَى
الْعَامَّةِ ؛ لَا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ؛ فَاتَّفَقَ
الصَّحَابَةُ كَعُمَرِ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّ مُسْتَحِلَّ ذَلِكَ
يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَقَرَّ بِالتَّحْرِيمِ جُلِدَ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى
اسْتِحْلَالِهَا قُتِلَ . بَلْ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُحَرِّمُ الْقَلِيلَ
وَالْكَثِيرَ مِنْ أَشْرِبَةٍ أُخَرَ : وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهَا خَمْرًا كَنَبِيذِ
التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ النَّيْءِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَهُ قَلِيلُهُ
وَكَثِيرُهُ إذَا كَانَ مُسْكِرًا وَكَذَلِكَ الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ
الَّذِي لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَهُ قَلِيلُهُ إذَا
كَانَ كَثِيرُهُ يُسْكِرُ . فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ تَحْرُمُ
عِنْدَهُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهَا . وَإِنَّمَا
وَقَعَتْ " الشُّبْهَةُ " فِي سَائِرِ الْمُسْكِرِ كَالْمِزْرِ الَّذِي
يُصْنَعُ مِنْ الْقَمْحِ وَنَحْوِهِ : فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ
{ أَهْلَ الْيَمَنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عِنْدَنَا شَرَابًا يُقَالُ
لَهُ الْبِتْعُ مِنْ الْعَسَلِ ؛ وَشَرَابًا مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ
الْمِزْرُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ
جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَاسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَابٌ يَشْرَبُونَهُ إلَّا مِنْ التَّمْرِ فَكَانَتْ تِلْكَ خَمْرَهُمْ وَجَاءَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ } وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيذُ الْحُلْوُ وَهُوَ أَنْ يُوضَعَ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ ثُمَّ يَشْرَبُهُ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الْقَرْعِ وَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ وَالظَّرْفِ الْمُزَفَّتِ } لِأَنَّهُمْ إذَا انْتَبَذُوا فِيهَا دَبَّ السُّكْرُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَيَشْرَبُ الرَّجُلُ مُسْكِرًا { وَنَهَاهُمْ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا } لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُقَوِّي الْآخَرَ ؛ { وَنَهَاهُمْ عَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ } لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ فِيهِ السُّكْرُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَدْرِي . كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيذَ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ يَكُونُ مُسْكِرًا - يَعْنِي مِنْ نَبِيذِ الْعَسَلِ وَالْقَمْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ : يُبَاحُ أَنْ يُتَنَاوَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ - فَقَدْ أَخْطَأَ . وَأَمَّا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ فَعَرَفُوا أَنَّ الَّذِي أَبَاحَهُ هُوَ الَّذِي لَا يُسْكِرُ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي النَّصِّ وَالْقِيَاسِ . أَمَّا " النَّصُّ " فَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ فِيهِ . وَأَمَّا " الْقِيَاسُ " فَلِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي كَوْنِهَا تُسْكِرُ
وَالْمَفْسَدَةُ
الْمَوْجُودَةُ فِي هَذَا مَوْجُودَةٌ فِي هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا
يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بَلْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا
مِنْ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ . فَتَبَيَّنَ . أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ
خَمْرٌ حَرَامٌ وَالْحَشِيشَةُ الْمُسْكِرَةُ حَرَامٌ وَمَنْ اسْتَحَلَّ السُّكْرَ
مِنْهَا فَقَدْ كَفَرَ ؛ بَلْ هِيَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ نَجِسَةٌ
كَالْخَمْرِ . فَالْخَمْرُ كَالْبَوْلِ وَالْحَشِيشَةُ كَالْعَذِرَةِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ تَيْمِيَّة
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْحَشِيشَةُ " الْمَلْعُونَةُ الْمُسْكِرَةُ : فَهِيَ
بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُسْكِرُ مِنْهَا حَرَامٌ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ كُلُّ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ
أَكْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا : كَالْبَنْجِ فَإِنَّ الْمُسْكِرَ يَجِبُ
فِيهِ الْحَدُّ وَغَيْرَ الْمُسْكِرِ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ . وَأَمَّا
قَلِيلُ " الْحَشِيشَةِ الْمُسْكِرَةِ " فَحَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ
الْعُلَمَاءِ كَسَائِرِ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ
حَرَامٌ } يَتَنَاوَلُ مَا يُسْكِرُ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
الْمُسْكِرُ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا ؛ أَوْ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا . فَلَوْ
اصْطَبَغَ كَالْخَمْرِ كَانَ حَرَامًا وَلَوْ أَمَاعَ
الْحَشِيشَةَ وَشَرِبَهَا كَانَ حَرَامًا . وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَإِذَا قَالَ كَلِمَةً جَامِعَةً كَانَتْ عَامَّةً فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَعْيَانُ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ أَوْ مَكَانِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ . فَلَمَّا قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } تَنَاوَلَ ذَلِكَ مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خَمْرِ التَّمْرِ وَغَيْرِهَا وَكَانَ يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ مِنْ خَمْرِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ خَمْرِ لَبَنِ الْخَيْلِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ التُّرْكُ وَنَحْوُهُمْ . فَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ مِنْ لَبَنِ الْخَيْلِ وَالْمُسْكِرِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَوْجُودًا فِي زَمَنِهِ كَانَ يَعْرِفُهُ وَالْآخَرُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مَنْ يَتَّخِذُ خَمْرًا مِنْ لَبَنِ الْخَيْلِ . وَهَذِهِ " الْحَشِيشَةِ " فَإِنَّ أَوَّلَ مَا بَلَغَنَا أَنَّهَا ظَهَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَأَوَائِلِ السَّابِعَةِ حَيْثُ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التتر ؛ وَكَانَ ظُهُورُهَا مَعَ ظُهُورِ سَيْفِ " جنكسخان " لَمَّا أَظْهَرَ النَّاسُ مَا نَهَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنْ الذُّنُوبِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْعَدُوَّ وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَشِيشَةُ الْمَلْعُونَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَهِيَ شَرٌّ مِنْ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالْمُسْكِرُ شَرٌّ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهَا مَعَ أَنَّهَا تُسْكِرُ آكِلَهَا حَتَّى يَبْقَى مصطولا تُورِثُ التَّخْنِيثَ والديوثة وَتُفْسِدُ الْمِزَاجَ فَتَجْعَلُ الْكَبِيرَ كَالسَّفْتَجَةِ وَتُوجِبُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ وَتُورِثُ الْجُنُونَ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ صَارَ مَجْنُونًا بِسَبَبِ أَكْلِهَا .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ . إنَّهَا تُغَيِّرُ الْعَقْلَ فَلَا تُسْكِرُ كَالْبَنْجِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تُورِثُ نَشْوَةً وَلَذَّةً وَطَرَبًا كَالْخَمْرِ وَهَذَا هُوَ الدَّاعِي إلَى تَنَاوُلِهَا وَقَلِيلُهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا كَالشَّرَابِ الْمُسْكِرِ وَالْمُعْتَادُ لَهَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ فِطَامُهُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ الْخَمْرِ ؛ فَضَرَرُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ أَعْظَمُ مِنْ الْخَمْرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ كَمَا يَجِبُ فِي الْخَمْرِ . وَتَنَازَعُوا فِي " نَجَاسَتِهَا " عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَقِيلَ هِيَ نَجِسَةٌ . وَقِيلَ : لَيْسَتْ بِنَجِسَةِ . وَقِيلَ : رُطَبُهَا نَجِسٌ كَالْخَمْرِ وَيَابِسُهَا لَيْسَ بِنَجِسِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّجَاسَةَ تَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ كَمَا تَتَنَاوَلُ النَّجَاسَةُ جَامِدَ الْخَمْرِ وَمَائِعَهَا فَمَنْ سَكِرَ مِنْ شَرَابٍ مُسْكِرٍ أَوْ حَشِيشَةٍ مُسْكِرَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قُرْبَانُ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَصْحُوَ وَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَغْسِلَ فَمَهُ وَيَدَيْهِ وَثِيَابَهُ فِي هَذَا وَهَذَا وَالصَّلَاةُ فَرْضُ عَيْنِيَّةٍ ؛ لَكِنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يَتُوبَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قِيلَ : وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ } وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذِهِ مَا فِيهَا آيَةٌ وَلَا حَدِيثٌ : فَهَذَا مِنْ جَهْلِهِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ فِيهِمَا كَلِمَاتٌ جَامِعَةٌ هِيَ قَوَاعِدُ عَامَّةٌ وَقَضَايَا كُلِّيَّةٌ ، تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا
دَخَلَ فِيهَا وَكُلُّ مَا دَخَلَ فِيهَا فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِاسْمِهِ الْعَامِّ وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُ كُلِّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَقَالَ : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا } وَقَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } وَقَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فَاسْمُ " النَّاسِ " و " الْعَالَمِينَ " يَدْخُلُ فِيهِ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ مِنْ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالْبَرْبَرِ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ مُحَمَّدًا مَا أُرْسِلَ إلَى التُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالْبَرْبَرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْهُمْ فِي الْقُرْآنِ كَانَ جَاهِلًا كَمَا لَوْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْهُ إلَى بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِيَّ أَسَدٍ وغطفان وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْقَبَائِلَ بِأَسْمَائِهَا الْخَاصَّةِ ؛ وَكَمَا لَوْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْهُ إلَى أَبِي جَهْلٍ وعتبة وَشَيْبَةَ ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ الْخَاصَّةِ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } دَخَلَ فِي الْمَيْسِرِ الَّذِي لَمْ تَعْرِفْهُ الْعَرَبُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ الْمَيْسِرِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهِ بِالْعِوَضِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ ( الْمَيْسِرُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ ؛ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . و " النَّرْدُ " أَيْضًا مِنْ ( الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ ؛ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ بِاسْمِ
خَاصٍّ ؛ بَلْ لَفْظُ الْمَيْسِرِ يَعُمُّهَا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النَّرْدَ وَالشِّطْرَنْجَ مُحَرَّمَانِ بِعِوَضِ وَغَيْرِ عِوَضٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَوْلُهُ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } تَنَاوَلَ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي كَانُوا يَحْلِفُونَ بِهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّتِي صَارُوا يَحْلِفُونَ بِهَا بَعْدُ ؛ فَلَوْ حَلَفَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالْهِنْدِيَّةِ وَالْبَرْبَرِيَّةِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِتِلْكَ اللُّغَةِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ؛ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ بِهَذِهِ اللُّغَاتِ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ : كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هِيَ شِرْكٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا } يَعُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى صَعِيدًا وَيَعُمُّ كُلَّ مَاءٍ : سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمِيَاهِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِمَّا حَدَثَ بَعْدَهُ . فَلَوْ اسْتَخْرَجَ قَوْمٌ عُيُونًا وَكَانَ فِيهَا مَاءٌ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ وَالرِّيحَ وَالطَّعْمِ وَأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَجَبَ الِاغْتِسَالُ بِهِ بِلَا نِزَاعٍ نَعْرِفُهُ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمِيَاهُ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مُشْرِكٍ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ كَمُشْرِكِي التُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالْبَرْبَرِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ قُتِلُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ قُتِلُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا عَلَى زَمَانِهِ كَانُوا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَالرُّومِ ؛ وَقَاتَلَ الْيَهُودَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَقَدْ دَخَلَ فِيهَا النَّصَارَى : مِنْ الْقِبْطِ ؛ وَالْحَبَشَةِ ؛ والجركس وَالْأَلِّ وَاللَّاصِّ ؛ وَالْكَرَجِ ؛ وَغَيْرِهِمْ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ نَظِيرَ عُمُومِ الْقُرْآنِ لِكُلِّ مَا دَخَلَ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ . وَلَوْ قُدِّرَ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ وَكَانَ فِي مَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أُلْحِقَ بِهِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ ؛ كَمَا دَخَلَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْفُرْسُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَدَخَلَتْ جَمِيعُ الْمُسْكِرَاتِ فِي مَعْنَى خَمْرِ الْعِنَبِ وَأَنَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَ (
الْكِتَابُ ) الْقُرْآنُ ، وَ ( الْمِيزَانُ ) الْعَدْلُ . وَالْقِيَاسُ
الصَّحِيحُ هُوَ مِنْ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ
الْمُتَمَاثِلَيْنِ ؛ بَلْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَاسْتَوَتْ السَّيِّئَاتُ فِي
الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ ؛ لَمْ يَخُصَّ أَحَدَهَا بِالتَّحْرِيمِ
دُونَ الْآخَرِ ؛ بَلْ مِنْ الْعَدْلِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ
يُسَوِّ بَيْنَهُمَا كَانَ تَنَاقُضًا وَحُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُنَزَّهٌ
عَنْ التَّنَاقُضِ . وَلَوْ أَنَّ الطَّبِيبَ حَمَى الْمَرِيضَ عَنْ شَيْءٍ لِمَا
فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَأَبَاحَهُ لَهُ لَخَرَجَ عَنْ قَانُونِ الطِّبِّ .
وَالشَّرْعُ طِبُّ الْقُلُوبِ وَالْأَنْبِيَاءُ أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ
وَالْأَدْيَانِ وَلَا بُدَّ إذَا أَحَلَّ الشَّرْعُ شَيْئًا مِنْهُ أَنْ يُخَصَّ
هَذَا بِمَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ مَعْنَى
خَاصٌّ بِمَا حَرَّمَهُ دُونَ مَا أَحَلَّهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْحَشِيشَةُ الصُّلْبَةُ حَرَامٌ سَوَاءٌ سَكِرَ
مِنْهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ ؛ وَالسُّكْرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّهُ حَلَالٌ فَإِنَّهُ
يُسْتَتَابُ ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ مُرْتَدًّا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛
وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا إنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ
قُرْبَةً وَقَالَ : هِيَ لُقَيْمَةُ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَتُحَرِّكُ الْعَزْمَ
السَّاكِنَ إلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ وَتَنْفَعُ فِي
الطَّرِيقِ
: فَهُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى
الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ ؛ وَمِنْ جِنْسِ مَنْ يَعْتَقِدُ
الْفَوَاحِشَ قُرْبَةً وَطَاعَةً ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ
إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ } وَمَنْ كَانَ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ جَاهِلًا وَقَدْ سَمِعَ
الْفُقَهَاءَ :
يَقُولُ حَرَّمُوهَا مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَنَقْلٍ * * * وَحَرَامٌ تَحْرِيمُ
غَيْرِ الْحَرَامِ
فَإِنَّهُ مَا يَعْرِفُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَالسُّكْرُ
مِنْهَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ وَلَمْ يُقِرَّ
بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا مُرْتَدًّا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَكُلُّ مَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ بِهِ
نَشْوَةٌ وَلَا طَرَبٌ فَإِنَّ تَغَيُّبَ الْعَقْلِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا تَعَاطِي " الْبَنْجِ " الَّذِي لَمْ
يُسْكِرْ وَلَمْ يُغَيِّبْ الْعَقْلَ . فَفِيهِ التَّعْزِيرُ . وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ
مِنْ الْفُقَهَاءِ فَعَلِمُوا أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ ؛ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهَا
الْفُجَّارُ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ النَّشْوَةِ وَالطَّرَبِ فَهِيَ تُجَامِعُ
الشَّرَابَ الْمُسْكِرَ فِي ذَلِكَ وَالْخَمْرُ تُوجِبُ الْحَرَكَةَ
وَالْخُصُومَةَ وَهَذِهِ تُوجِبُ الْفُتُورَ وَالذِّلَّةَ وَفِيهَا مَعَ ذَلِكَ
مِنْ فَسَادِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ ؛ وَفَتْحِ بَابِ الشَّهْوَةِ ؛ وَمَا
تُوجِبُهُ مِنْ الدِّيَاثَةِ : مِمَّا هِيَ مِنْ شَرِّ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ
وَإِنَّمَا حَدَثَتْ فِي النَّاسِ بِحُدُوثِ التَّتَارِ .
وَعَلَى تَنَاوُلِ الْقَلِيلِ مِنْهَا وَالْكَثِيرِ حَدُّ الشُّرْبِ : ثَمَانُونَ سَوْطًا ؛ أَوْ أَرْبَعُونَ . إذَا كَانَ مُسْلِمًا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ وَيُغَيِّبُ الْعَقْلَ . وَتَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " أَحَدُهَا " أَنَّهَا لَيْسَتْ نَجِسَةً . " وَالثَّانِي " أَنَّ مَائِعَهَا نَجِسٌ ؛ وَأَنَّ جَامِدَهَا طَاهِرٌ . و " الثَّالِثُ " وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ فَهَذِهِ تُشْبِهُ الْعَذِرَةَ ؛ وَذَلِكَ يُشْبِهُ الْبَوْلَ وَكِلَاهُمَا مِنْ الْخَبَائِثِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ أَكْلُ الْحَشِيشَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ ؛ وَشَرٌّ مِنْهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؛ وَيُهْجَرُ وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يُعَاقَبُ هَذَا ؛ لِلْوَعِيدِ الْوَارِدِ فِي الْخَمْرِ ؛ مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا ؛ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا ؛ وَحَامِلَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ؛ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ عَادَ وَشَرِبَهَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ؛ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ؛ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ ؛ وَهِيَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّا يَجِبُ عَلَى آكِلِ الْحَشِيشَةِ ؟ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ أَكْلَهَا جَائِزٌ
حَلَالٌ مُبَاحٌ ؟
فَأَجَابَ :
أَكْلُ هَذِهِ الْحَشِيشَةِ الصُّلْبَةِ حَرَامٌ وَهِيَ مِنْ أَخْبَثِ
الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ وَسَوَاءٌ أَكَلَ مِنْهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ؛ لَكِنَّ
الْكَثِيرَ الْمُسْكِرَ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ
اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ
كَافِرًا مُرْتَدًّا ؛ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَحُكْمُ الْمُرْتَدِّ شَرٌّ مِنْ حُكْمِ الْيَهُودِيِّ
وَالنَّصْرَانِيِّ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَحِلُّ لِلْعَامَّةِ أَوْ
لِلْخَاصَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا لُقْمَةُ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ
وَأَنَّهَا تُحَرِّكُ الْعَزْمَ السَّاكِنَ إلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ
وَأَنَّهُمْ لِذَلِكَ يَسْتَعْمِلُونَهَا . وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ ظَنَّ
أَنَّ الْخَمْرَ تُبَاحُ لِلْخَاصَّةِ مُتَأَوِّلًا قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا
مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا
ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا } فَلَمَّا رُفِعَ أَمْرُهُمْ إلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَتَشَاوَرَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ اتَّفَقَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ
وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى
أَنَّهُمْ إنْ أَقَرُّوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى
الِاسْتِحْلَالِ
قُتِلُوا
. وَهَكَذَا حَشِيشَةُ الْعُشْبِ مَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهَا وَتَنَاوَلَهَا
فَإِنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ سَوْطًا أَوْ أَرْبَعِينَ . هَذَا هُوَ
الصَّوَابُ . وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجَلْدِ لِأَنَّهُ ظَنَّ
أَنَّهَا مُزِيلَةٌ لِلْعَقْلِ غَيْرُ مُسْكِرَةٍ كَالْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِمَّا
يُغَطِّي الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ سُكْرٍ فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ : إنْ كَانَ مُسْكِرًا فَفِيهِ جَلْدُ الْخَمْرِ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مُسْكِرًا فَفِيهِ التَّعْزِيرُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ . وَمَنْ اعْتَقَدَ
حِلَّ ذَلِكَ كَفَرَ وَقُتِلَ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَشِيشَةَ مُسْكِرَةٌ
كَالشَّرَابِ ؛ فَإِنَّ آكِلِيهَا يَنْشَوْنَ بِهَا وَيُكْثِرُونَ تَنَاوُلَهَا
بِخِلَافِ الْبَنْجِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُنْشِي وَلَا يُشْتَهَى .
وَقَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ أَنْ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ
كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا فَفِيهِ الْحَدُّ وَمَا لَا تَشْتَهِيهِ كَالْمَيْتَةِ
فَفِيهِ التَّعْزِيرُ . " وَالْحَشِيشَةُ " مِمَّا يَشْتَهِيهَا
آكِلُوهَا وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ تَرْكِهَا ؛ وَنُصُوصُ التَّحْرِيمِ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ
ذَلِكَ وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي النَّاسِ أَكْلُهَا قَرِيبًا مِنْ نَحْوِ ظُهُورِ
التَّتَارِ ؛ فَإِنَّهَا خَرَجَتْ وَخَرَجَ مَعَهَا سَيْفُ التَّتَارِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ الْعِنَبِ وَيُضِيفُ إلَيْهِ أَصْنَافًا مِنْ
الْعِطْرِ ثُمَّ يَغْلِيهِ إلَى أَنْ يَنْقُصَ الثُّلُثَ وَيَشْرَبَ مِنْهُ
لِأَجْلِ الدَّوَاءِ وَمَتَى أَكْثَرَ شُرْبَهُ أُسْكِرَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَتَى كَانَ كَثِيرُهُ يُسْكِرُ فَهُوَ حَرَامٌ وَهُوَ خَمْرٌ
وَيُحَدُّ صَاحِبُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ
كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ }
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَكَانَ
أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ
} وَفِي الصَّحِيحِ { عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ :
أَفْتِنَا فِي شَرَابٍ كُنَّا نَصْنَعُهُ فِي الْيَمَنِ الْبِتْعُ وَهُوَ مِنْ
نَبِيذِ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ }
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ حُبْشَانِ الْيَمَنِ
سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ
يَصْنَعُونَهُ بِأَرْضِهِمْ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ فَقَالَ : أَيُسْكِرُ ؟ قَالَ
نَعَمْ . فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ؛ إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ
يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا : يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ ؛
أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ
فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَقَدْ صَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ .
وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ . وَإِذَا طُبِخَ الْعَصِيرُ حَتَّى
يَذْهَبَ ثُلُثُهُ أَوْ نِصْفُهُ وَهُوَ يُسْكِرُ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ هُوَ خَمْرٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَأَمَّا إنْ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ
ثُلُثُهُ
: فَهَذَا لَا يُسْكِرُ فِي الْعَادَةِ ؛ إلَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَا
يُقَوِّيهِ أَوْ لِسَبَبِ آخَرَ . فَمَتَى أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ " الطِّلَاءُ " الَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ لِلْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا إنْ أَسْكَرَ بَعْدَ مَا طُبِخَ وَذَهَبَ
ثُلُثَاهُ : فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَا حُكْمُهُ
فِي الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا " شَارِبُ الْخَمْرِ " فَيَجِبُ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ أَنْ يُجْلَدَ الْحَدَّ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَحَدُّهُ
أَرْبَعُونَ جَلْدَةً أَوْ ثَمَانُونَ جَلْدَةً . فَإِنْ جَلَدَهُ ثَمَانِينَ
جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَفِي
الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد
فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَجِبُ الثَّمَانُونَ وَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ أَنَّ الْأَرْبَعِينَ
الثَّانِيَةَ تَعْزِيرٌ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَإِنْ
احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الشُّرْبِ أَوْ إصْرَارِ الشَّارِبِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ فَعَلَ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعَزِّرُ بِأَكْثَرِ مِنْ
ذَلِكَ ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْفِي الشَّارِبَ عَنْ بَلَدِهِ
وَيُمَثِّلُ بِهِ بِحَلْقِ رَأْسِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ : فَاقْتُلُوهُ } فَأَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُوجِبُونَ الْقَتْلَ ؛ بَلْ يَجْعَلُونَ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخًا ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ . وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ : إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الشُّرْبِ إلَّا بِالْقَتْلِ جَازَ ذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ قَالَ : { فَإِنْ لَمْ يَدَعُوا ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُمْ } . وَالْحَقُّ مَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حَمَّارًا وَهُوَ كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ؛ فَكَانَ كُلَّمَا شَرِبَ جَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا تَلْعَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ جُلِدَ مَعَ كَثْرَةِ شُرْبِهِ . وَأَمَّا " تَارِكُ الصَّلَاةِ " فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَأَكْثَرُهُمْ - كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - يَقُولُونَ : إنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا مُرْتَدًّا أَوْ فَاسِقًا كَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَإِذَا لَمْ تُمْكِنْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ يُعْمَلُ مَعَهُ الْمُمْكِنُ : فَيُهْجَرُ : وَيُوَبَّخُ حَتَّى يَفْعَلَ الْمَفْرُوضَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَلَا يَكُونُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } مَعَ أَنَّ إضَاعَتَهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَكَيْفَ بِتَارِكِهَا ؟
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ حُجْرَةٌ خَلْفَهَا فَلُوَّةٌ : فَهَلْ يَجُوزُ الشُّرْبُ
مِنْ لَبَنِهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ الشُّرْبُ مِنْ لَبَنِهَا ؛ إذَا لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّه رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اعْتَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ الْعَصْرِ شَيْئًا
مِنْ الْمَعَاجِينِ مُدَّةَ سِنِينَ . فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَرَى
فِيهِ أَشْيَاءَ مِنْ الْمَنَافِعِ : فَهَلْ يُبَاحُ ذَلِكَ لَهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ ذَلِكَ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُهُ فَإِنَّ كُلَّ
مَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ
فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ } هَلْ لِهَذَا
الْحَدِيثِ أَصْلٌ ؟ وَمَنْ رَوَاهُ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، لَهُ أَصْلٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَهُوَ ثَابِتٌ
عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : هُوَ
مَنْسُوخٌ . وَتَنَازَعُوا فِي نَاسِخِهِ ؟ عَلَى عِدَّةِ أَقَاوِيلَ . وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ : بَلْ حُكْمُهُ بَاقٍ . وَقِيلَ : بَلْ الْوُجُوبُ مَنْسُوخٌ
وَالْجَوَازُ بَاقٍ . وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا وَلَا
أَعْلَمُ أَحَدًا قَدَحَ فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ هَشَّ الذُّرَةَ فَأَخَذَ يَغْلِي فِي قِدْرِهِ ثُمَّ يُنْزِلُهُ
وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ قَمْحًا وَيُخَلِّيهِ إلَى بُكْرَةٍ وَيُصَفِّيهِ : فَيَكُونُ
مِمَّا لَا يُسْكِرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ثُمَّ يُخَلِّيهِ يَوْمَيْنِ أَوْ
ثَلَاثَةً بَعْدَ ذَلِكَ فَيَبْقَى يُسْكِرُ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
يَجُوزُ شُرْبُهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . فَأَمَّا إذَا
أَسْكَرَ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَوَاءٌ أَسْكَرَ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَوْ قَبْلَ الثَّلَاثَةِ وَمَتَى
أَسْكَرَ حَرُمَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ
مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الْخَمْرِ " إذَا غَلَى عَلَى النَّارِ وَنَقَصَ الثُّلُثَ :
هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا صَارَ مُسْكِرًا فَإِنَّهُ حَرَامٌ تَجِبُ إرَاقَتُهُ
وَلَا يَحِلُّ بِالطَّبْخِ . وَأَمَّا إذَا طُبِخَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا
حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَلَمْ يُسْكِرْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ
عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا إنْ طُبِخَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ
مُسْكِرًا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُهُ أَوْ نِصْفُهُ فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا فَإِنَّهُ
حَرَامٌ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا
فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَا لَمْ يُسْكِرْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رِجَالٍ كُهُولٍ وَشُبَّانٍ وَهُمْ حُجَّاجٌ
مُوَاظِبُونَ عَلَى أَدَاءِ مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِمْ : مِنْ صَوْمٍ وَصَلَاةٍ
وَعِبَادَةٍ . وَفِيهِمْ كَبِيرُ الْقَدْرِ مَعْرُوفُونَ بِالثِّقَةِ
وَالْأَمَانَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ؛ لَيْسَ
عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ظَوَاهِرِ السُّوءِ وَالْفُسُوقِ وَقَدْ اجْتَمَعَتْ
عُقُولُهُمْ وَأَذْهَانُهُمْ وَرَأْيُهُمْ عَلَى أَكْلِ " الْغُبَيْرَاءِ
" وَكَانَ قَوْلُهُمْ وَاعْتِقَادُهُمْ فِيهَا أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ
وَسَيِّئَةٌ ؛ غَيْرَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُونَ فِي اعْتِقَادِهِمْ
بِدَلِيلِ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ { إنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّهَا حَرَامٌ ؛ غَيْرَ أَنَّ
لَهُمْ وِرْدًا بِاللَّيْلِ وَتَعَبُّدَاتٍ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا إذَا حَصَلَتْ
نَشْوَتُهَا بِرُءُوسِهِمْ تَأْمُرُهُمْ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ وَلَا تَأْمُرُهُمْ
بِسُوءِ وَلَا فَاحِشَةٍ وَنَسَبُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ضَرَرٌ لِأَحَدِ مِنْ
خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَأَنَّهُ
لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَكَلَهَا حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ ؛ إلَّا أَنَّهَا
تَتَعَلَّقُ بِمُخَالَفَةِ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَاَللَّهُ يَغْفِرُ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ . وَاجْتَمَعَ بِهِمْ رَجُلٌ
صَادِقُ الْقَوْلِ وَذَكَرَ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَوَافَقَهُمْ عَلَى أَكْلِهَا
بِحُكْمِهِمْ عَلَيْهِ وَحَدِيثِهِمْ لَهُ وَاعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ :
فَهَلْ يَجِبُ عَلَى آكِلِهَا حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَعَمْ يَجِبُ عَلَى آكِلِهَا حَدُّ
شَارِبِ الْخَمْرِ . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ضُلَّالٌ جُهَّالٌ عُصَاةٌ لِلَّهِ
وَلِرَسُولِهِ وَكَفَى بِرَجُلِ جَهْلًا أَنْ يَعْرِفَ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ
مُحَرَّمٌ وَأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ يَقُولُ : إنَّهُ
تَطِيبُ لَهُ الْعِبَادَةُ وَتَصْلُحُ لَهُ حَالُهُ وَيْحُ هَذَا الْقَائِلِ
أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ عَلَى الْخَلْقِ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيُصْلِحُ لَهُمْ
حَالَهُمْ نَعَمْ قَدْ يَكُونُ فِي الشَّيْءِ مَنْفَعَةٌ وَفِيهِ مَضَرَّةٌ
أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ فَيُحَرِّمُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؛
لِأَنَّ الْمَضَرَّةَ إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بَقِيَتْ
الزِّيَادَةُ مَضَرَّةً مَحْضَةً وَصَارَ هَذَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ قَالَ
لِرَجُلِ : خُذْ مِنِّي هَذَا الدِّرْهَمَ وَاعْطِنِي دِينَارًا فَجَهْلُهُ
يَقُولُ لَهُ : هُوَ يُعْطِيك دِرْهَمًا فَخُذْهُ وَالْعَقْلُ يَقُولُ : إنَّمَا
يَحْصُلُ الدِّرْهَمُ بِفَوَاتِ الدِّينَارِ وَهَذَا ضَرَرٌ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ ؛
بَلْ جَمِيعُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إنْ ثَبَتَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَا
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ . فَهَذِهِ " الْحَشِيشَةُ
الْمَلْعُونَةُ " هِيَ وَآكِلُوهَا وَمُسْتَحِلُّوهَا الْمُوجِبَةُ لِسُخْطِ
اللَّهِ وَسُخْطِ رَسُولِهِ وَسُخْطِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعَرِّضَةُ
صَاحِبَهَا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ ؛ إذَا كَانَتْ كَمَا يَقُولُهُ الضَّالُّونَ :
مِنْ أَنَّهَا تَجْمَعُ الْهِمَّةَ : وَتَدْعُو إلَى الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا
مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ضَرَرٍ فِي دِينِ الْمَرْءِ وَعَقْلِهِ وَخُلُقِهِ وَطَبْعِهِ
أَضْعَافَ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ ؛ وَلَا خَيْرَ فِيهَا ؛ وَلَكِنْ هِيَ
تُحَلِّلُ الرُّطُوبَاتِ ؛ فَتَتَصَاعَدُ الْأَبْخِرَةُ إلَى الدِّمَاغِ ؛
وَتُورِثُ خَيَالَاتٍ فَاسِدَةً فَيَهُونُ عَلَى الْمَرْءِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ
عِبَادَةٍ ؛ وَيَشْغَلُهُ بِتِلْكَ التَّخَيُّلَاتِ عَنْ إضْرَارِ النَّاسِ .
وَهَذِهِ رِشْوَةُ الشَّيْطَانِ يَرْشُو بِهَا الْمُبْطِلِينَ لِيُطِيعُوهُ
فِيهَا ؛ بِمَنْزِلَةِ الْفِضَّةِ الْقَلِيلَةِ فِي الدِّرْهَمِ الْمَغْشُوشِ ؛ وَكُلُّ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ بِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ مَضَرَّةً فِي الْمَآلِ ؛ وَلَا يُبَارَكُ لِصَاحِبِهَا فِيهَا ؛ وَإِنَّمَا هَذَا نَظِيرَ السَّكْرَانِ بِالْخَمْرِ ؛ فَإِنَّهَا تَطِيشُ عَقْلَهُ حَتَّى يَسْخُوَ بِمَالِهِ ؛ وَيَتَشَجَّعَ عَلَى أَقْرَانِهِ ؛ فَيَعْتَقِدُ الْغِرُّ أَنَّهَا أَوْرَثَتْهُ السَّخَاءَ وَالشَّجَاعَةَ وَهُوَ جَاهِلٌ ؛ وَإِنَّمَا أَوْرَثَتْهُ عَدَمَ الْعَقْلِ . وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَيَجُودُ بِجَهْلِهِ ؛ لَا عَنْ عَقْلٍ فِيهِ . وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحَشِيشَةُ الْمُسْكِرَةُ إذَا أَضْعَفَتْ الْعَقْلَ ؛ وَفَتَحَتْ بَابَ الْخَيَالِ : تَبْقَى الْعَادَةُ فِيهَا مِثْلَ الْعِبَادَاتِ فِي الدِّينِ الْبَاطِلِ دِينِ النَّصَارَى ؛ فَإِنَّ الرَّاهِبَ تَجِدُهُ يَجْتَهِدُ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَا يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ الْحَنِيفُ ؛ فَإِنَّ دِينَهُ بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ خَفِيفٌ وَلِهَذَا تَجُودُ النُّفُوسُ فِي السَّمَاعِ الْمُحَرَّمِ وَالْعِشْرَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَمْوَالِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ بِمَا لَا تَجُودُ بِهِ فِي الْحَقِّ ؛ وَمَا هَذَا بِاَلَّذِي يُبِيحُ تِلْكَ الْمَحَارِمِ أَوْ يَدْعُو الْمُؤْمِنُ إلَى فِعْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الطَّبْعَ لَمَّا أَخَذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْحَظِّ الْمُحَرَّمِ وَلَمْ يُبَالِ بِمَا بَذَلَهُ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَنْفَعَةٌ فِي دِينِ الْمَرْءِ وَلَا دُنْيَاهُ ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لَذَّةُ سَاعَةٍ بِمَنْزِلَةِ لَذَّةِ الزَّانِي حَالَ الْفِعْلِ وَلَذَّةُ شِفَاءِ الْغَضَبِ حَالَ الْقَتْلِ وَلَذَّةُ الْخَمْرِ حَالَ النَّشْوَةِ ثُمَّ إذَا صَحَا مِنْ ذَلِكَ وَجَدَ عَمَلَهُ بَاطِلًا وَذُنُوبَهُ مُحِيطَةً بِهِ وَقَدْ نَقَصَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ وَخُلُقُهُ . وَأَيْنَ هَؤُلَاءِ الضُّلَّالُ مِمَّا تُورِثُهُ هَذِهِ الْمَلْعُونَةُ مِنْ قِلَّةِ الْغَيْرَةِ ؛ وَزَوَالِ الْحَمِيَّةِ حَتَّى يَصِيرَ آكِلُهَا إمَّا دَيُّوثًا وَإِمَّا مَأْبُونًا ؛ وَإِمَّا كِلَاهُمَا . وَتُفْسِدُ الْأَمْزِجَةَ
حَتَّى جَعَلَتْ خَلْقًا كَثِيرًا مَجَانِينَ وَتَجْعَلُ الْكَبِدَ بِمَنْزِلَةِ السفتج وَمَنْ لَمْ يُجَنَّ مِنْهُمْ فَقَدْ أَعْطَتْهُ نَقْصَ الْعَقْلِ وَلَوْ صَحَا مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي عَقْلِهِ خَبَلٌ ؛ ثُمَّ إنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ حَتَّى يَصُدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ قُوَّةَ نَفْسِ صَاحِبِهَا حَتَّى يُضَارِبَ وَيُشَاتِمَ فَكَفَى بِالرَّجُلِ شَرًّا أَنَّهَا تَصُدُّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ إذَا سَكِرَ مِنْهَا وَقَلِيلُهَا وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَلِيلِ الْخَمْرِ . ثُمَّ إنَّهَا تُورِثُ مِنْ مَهَانَةِ آكِلِهَا وَدَنَاءَةِ نَفْسِهِ وَانْفِتَاحِ شَهْوَتِهِ : مَا لَا يُورِثُهُ الْخَمْرُ . فَفِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَيْسَ فِي الْخَمْرِ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْخَمْرِ مَفْسَدَةٌ لَيْسَتْ فِيهَا وَهِيَ الْحِدَّةُ فَهِيَ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى مِنْ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ آكِلِ الْحَشِيشَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْخَمْرِ ؛ وَضَرَرَ شَارِبِ الْخَمْرِ عَلَى النَّاسِ أَشَدُّ ؛ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ لِكَثْرَةِ أَكْلِ الْحَشِيشَةِ صَارَ الضَّرَرُ الَّذِي مِنْهَا عَلَى النَّاسِ أَعْظَمَ مِنْ الْخَمْرِ ؛ وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَحَارِمَ لِأَنَّهَا تَضُرُّ أَصْحَابَهَا . وَإِلَّا فَلَوْ ضَرَّتْ النَّاسَ وَلَمْ تَضُرَّهُ لَمْ يُحَرِّمْهَا ؛ إذْ الْحَاسِدُ يَضُرُّهُ حَالُ الْمَحْسُودِ وَلَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ اكْتِسَابَ الْمَعَالِي لِدَفْعِ تَضَرُّرِ الْحَاسِدِ . هَذَا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ؛ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَهَذِهِ مُسْكِرَةٌ وَلَوْ لَمْ يَشْمَلْهَا لَفْظٌ بِعَيْنِهَا لَكَانَ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِأَجْلِهَا ؛ مَعَ أَنَّ فِيهَا مَفَاسِدَ أُخَرَ غَيْرَ مَفَاسِدِ الْخَمْرِ تُوجِبُ تَحْرِيمَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
التَّعْزِيرِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ :
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَمَالِيكُ وَعِنْدَهُ غِلْمَانٌ
: فَهَلْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَحَدِهِمْ حَدًّا إذَا ارْتَكَبَهُ ؟ وَهَلْ
لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِوَاجِبِ إذَا تَرَكُوهُ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
وَنَحْوِهَا ؟ وَمَا صِفَةُ السَّوْطِ الَّذِي يُعَاقِبُهُمْ بِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ كُلَّهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَأَقَلُّ مَا
يَفْعَلُ أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا مِنْهُمْ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ ذَلِكَ
كَمَا يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ مَا يَشْتَرِطُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ وَمَتَى خَرَجَ
وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ طَرَدَهُ . وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى
عُقُوبَتِهِمْ بِحَيْثُ يُقِرُّهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ
الَّذِي اعْتَادَ النَّاسُ وَغَيْرُهُ لَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ
لِكَوْنِهِمْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يُعَزِّرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يُؤَدُّوا الْوَاجِبَاتِ وَيَتْرُكُوا
الْمُحَرَّمَاتِ إلَّا بِالْعُقُوبَةِ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ حِينَئِذٍ
فَإِنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ وَغَيْرُهُ
لَا
يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ؛ مُرَاعَاةً لَهُ . فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقِيمَ
هُوَ الْوَاجِبَ وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِالْوَاجِبِ صَارَ الْجَمِيعُ
مُسْتَحِقِّينَ الْعُقُوبَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ
يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ } وَقَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ
مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } لاسيما إذَا كَانَ
يَضْرِبُهُمْ لِمَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ حُقُوقِهِ فَمِنْ الْقَبِيحِ أَنْ
يُعَاقِبَهُمْ عَلَى حُقُوقِهِ وَلَا يُعَاقِبَهُمْ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ .
وَالتَّأْدِيبُ يَكُونُ بِسَوْطِ مُعْتَدِلٍ وَضَرْبٍ مُعْتَدِلٍ . وَلَا يَضْرِبُ
الْوَجْهَ وَلَا الْمَقَاتِلَ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّه رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يُسَفِّهُ عَلَى وَالِدَيْهِ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا شَتَمَ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ
يُعَاقَبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بَلْ
وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ
يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا : وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ
؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ
أُمَّهُ } فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
جَعَلَ مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ أَبَا غَيْرِهِ لِئَلَّا يَسُبَّ
أَبَاهُ فَكَيْفَ إذَا سَبَّ هُوَ أَبَاهُ مُبَاشَرَةً : فَهَذَا يَسْتَحِقُّ
الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَمْنَعُهُ عَنْ عُقُوقِ
الْوَالِدَيْنِ
اللَّذَيْنِ قَرَنَ اللَّهُ حَقَّهُمَا بِحَقِّهِ حَيْثُ قَالَ : { أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا }
فَكَيْفَ بِسَبِّهِمَا ؟ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَكَابِرِ مُقَدِّمِي الْعَسْكَرِ مَعْرُوفٌ بِالْخَيْرِ
وَالدِّينِ وَكَذَبَ عَلَيْهِ بَعْضُ المكاسين حَتَّى ضَرَبَهُ وَعَلَّقَهُ
وَطَافَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ ؛ وَحَبَسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ : هَلْ يَجِبُ عَلَى
وَلِيِّ الْأَمْرِ ضَرْبُ مَنْ ظَلَمَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَظَلَمَهُ حَتَّى فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَجِبُ
عُقُوبَتُهُ الَّتِي تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ جُمْهُورُ السَّلَفِ يُثْبِتُونَ الْقِصَاصَ فِي مِثْلِ
ذَلِكَ ؛ فَمَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ وَجَرَحَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ
بِهِ كَمَا فَعَلَ ؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " أَيُّهَا
النَّاسُ إنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ
وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ وَلَكِنْ لِيُعَلِّمُوكُمْ كِتَابَ اللَّهِ
وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَيَقْسِمُوا بَيْنَكُمْ فَيْأَكُمْ فَلَا يَبْلُغُنِي
أَنَّ أَحَدًا ضَرَبَهُ عَامِلُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَقَدْته . فَرَاجَعَهُ
عَمْرُو بْنُ العاص فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَادَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ } .
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَمَّنْ شَتَمَ رَجُلًا وَسَبَّهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اعْتَدَى عَلَيْهِ بِالشَّتْمِ وَالسَّبِّ فَلَهُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْهِ ؛ فَيَشْتُمَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ : كَالْكَذِبِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ
كَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا
بَلِيغًا يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ السُّفَهَاءِ وَلَوْ عُزِّرَ عَلَى
النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّتْمِ جَازَ ؛ وَهُوَ الَّذِي يَشْرَعُ إذَا
تَكَرَّرَ سَفَهُهُ أَوْ عُدْوَانُهُ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ شَتَمَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ مَلْعُونٌ وَلَدُ زِنًا ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ تَعْزِيرُهُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إنْ
لَمْ يَقْصِدْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا يَقْصِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ
قَصْدِهِمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الْمَشْتُومَ فِعْلُهُ خَبِيثٌ كَفِعْلِ
وَلَدِ الزِّنَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ سَامِرِيٍّ ضَرَبَ مُسْلِمًا وَشَتَمَهُ ؟
فَأَجَابَ :
تَجِبُ عُقُوبَتُهُ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " الِاسْتِمْنَاءِ "
فَأَجَابَ :
أَمَّا الِاسْتِمْنَاء فَالْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
وَعَلَى فَاعِلِهِ التَّعْزِيرُ ؛ وَلَيْسَ مِثْلَ الزِّنَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الِاسْتِمْنَاءِ " هَلْ هُوَ حَرَامٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الِاسْتِمْنَاء بِالْيَدِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ يُعَزَّرُ مَنْ
فَعَلَهُ . وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ هُوَ
مَكْرُوهٌ
غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُبِيحُونَهُ لِخَوْفِ الْعَنَتِ وَلَا
غَيْرِهِ وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ
رَخَّصُوا فِيهِ لِلضَّرُورَةِ : مِثْلَ أَنْ يَخْشَى الزِّنَا فَلَا يُعْصَمُ
مِنْهُ إلَّا بِهِ وَمِثْلَ أَنْ يَخَافَ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ أَنْ يَمْرَضَ
وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا بِدُونِ الضَّرُورَةِ فَمَا عَلِمْت
أَحَدًا رَخَّصَ فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ يَهِيجُ عَلَيْهِ بَدَنُهُ فَيَسْتَمْنِي بِيَدِهِ ؛ وَبَعْضَ
الْأَوْقَاتِ يُلْصِقُ وَرِكَيْهِ عَلَى ذَكَرِهِ ؛ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ
إزَالَةَ هَذَا بِالصَّوْمِ ؛ لَكِنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَا نَزَلَ مِنْ الْمَاءِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ
فِيهِ ؟ لَكِنْ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إذَا أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ . وَأَمَّا
إنْزَالُهُ بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ يَسْتَمْنِيَ بِيَدِهِ : فَهَذَا حَرَامٌ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ بَلْ
أَظْهَرُهُمَا . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ؛ لَكِنْ إنْ اُضْطُرَّ
إلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَخَافَ الزِّنَا إنْ لَمْ يَسْتَمْنِ أَوْ يَخَافَ الْمَرَضَ
: فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ وَقَدْ رَخَّصَ فِي
هَذِهِ الْحَالِ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَنَهَى عَنْهُ آخَرُونَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ جَلَدَ ذَكَرَهُ بِيَدِهِ حَتَّى أَمْنَى : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا جَلْدُ الذَّكَرِ بِالْيَدِ حَتَّى يُنْزِلَ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مُطْلَقًا وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَرَامٌ
إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِثْلَ أَنْ يَخَافَ الْعَنَتَ أَوْ يَخَافَ الْمَرَضَ
أَوْ يَخَافَ الزِّنَا : فَالِاسْتِمْنَاءُ أَصْلَحَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ فَاتُّهِمَ وَضُرِبَ بِالْمَقَارِعِ ؛ وَخَسِرَ
وَالِدُهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ وُجِدَتْ السَّرِقَةُ فَجَاءَ صَاحِبُ
السَّرِقَةِ وَصَالَحَ المتهوم عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ : فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ
إبْرَاءٌ بِغَيْرِ رِضَى وَالِدِهِ إذَا كَانَ تَحْتَ الْحَجْر ؟ وَإِذَا لَمْ
يَصِحَّ فَمَا يَجِبُ فِي دِيَةِ الضَّرْبِ ؟ وَهَلْ لِوَالِدِهِ بَعْدَ إبْرَاءِ
الصَّغِيرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِضَرْبِ وَلَدِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ تَحْتَ حَجْرِ أَبِيهِ لَمْ يَصِحَّ صُلْحُهُ وَلَا
إبْرَاؤُهُ . وَمَا غَرِمَهُ أَبُوهُ بِسَبَبِ هَذِهِ التُّهْمَةِ الْبَاطِلَةِ
فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّمَهُ إيَّاهُ بِعُدْوَانِهِ سَوَاءٌ
أَبْرَأَهُ الِابْنُ أَوْ لَمْ يُبْرِئْهُ فَالْمَضْرُوبُ يَسْتَحِقُّ أَنْ
يَضْرِبَ مَنْ طَلَبَ ضَرْبَهُ مِنْ الْمُتَّهِمِينَ لَهُ مِثْلَ مَا ضَرَبَهُ
إذَا لَمْ يُعْرَفْ بِالشَّرِّ قَبْلَ ذَلِكَ . هَكَذَا ذَكَرَهُ النُّعْمَانُ
بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَوَاهُ { أَبُو دَاوُد
وَغَيْرُهُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ لِقَوْمِ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَضْرِبَ رَجُلًا
عَلَى تُهْمَةٍ : إنْ شِئْتُمْ ضَرَبْته لَكُمْ فَإِنْ ظَهَرَ مَا لَكُمْ عِنْدَهُ
وَإِلَّا ضَرَبْتُكُمْ مِثْلَ مَا ضَرَبْته فَقَالُوا هَذَا حُكْمُك ؟ فَقَالَ
هَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } . وَهَذَا فِي ضَرْبِ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ
بِالشَّرِّ وَأَمَّا ضَرْبُ مِنْ عُرِفَ بِالشَّرِّ فَذَاكَ مَقَامٌ آخَرُ وَقَدْ
ثَبَتَ الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبِ وَاللَّطْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَجَاءَتْ بِهِ
سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَّ عَلَيْهِ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ ؛ وَإِنْ
كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَى الْقِصَاصَ فِي مِثْلِ هَذَا ؛ بَلْ
يَرَى فِيهِ التَّعْزِيرَ فَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ وَلَكِنْ هَلْ لِلْأَبِ
أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّ الْقِصَاصِ الَّذِي لِابْنِهِ ؟ أَمْ يَتْرُكَهُ حَتَّى
يَبْلُغَ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إنْ
كَانَ الِابْنُ بَالِغًا فَلَهُ الْعُقُوبَاتُ الْبَدَنِيَّةُ وَاسْتِبْقَاؤُهَا .
بَابُ
الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ سُرِقَ بَيْتُهُ مِرَارًا ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ
مَمْلُوكٌ بَعْدَ أَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَأُخِذَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ دَخَلَ
الْبَيْتَ مُخْتَلِسًا مِرَارًا عَدِيدَةً وَلَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا
: فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَا عُدِمَ لَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِيهِ ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا الْعَبْدُ يُعَاقَبُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ
مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ ؛ وَيُعَاقَبُ أَيْضًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
فَإِذَا أَقَرَّ بِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ : مِثْلَ أَنْ يَدُلَّ
عَلَى مَوْضِعِ الْمَالِ أَوْ عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ :
أُخِذَ الْمَالُ وَأُعْطِيَ لِصَاحِبِهِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا وَغَرِمَهُ إنْ
كَانَ تَالِفًا . وَيَنْبَغِي لِلْمُعَاقِبِ لَهُ أَنْ يَحْتَالَ عَلَيْهِ بِمَا
يُقِرُّ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْحُذَّاقُ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ بِمَنْ
يَظْهَرُ لَهُمْ فُجُورُهُ حَتَّى يَعْتَرِفَ وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ
يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي فَإِذَا حَلَفَ رَبُّ
الْمَالِ حِينَئِذٍ حُكِمَ لِرَبِّ الْمَالِ إذَا حَلَفَ . وَأَمَّا الْحُكْمُ
لِرَبِّ الْمَالِ بِيَمِينِهِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ اللَّوْثِ وَالْأَمَارَاتِ
الَّتِي
يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي : فَهَذَا فِيهِ اجْتِهَادُهُ .
وَأَمَّا فِي النُّفُوسِ فَالْحُكْمُ بِذَلِكَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ
كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ ذَكَرَ أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ قُمَاشًا وَذَكَرَ
الْغُلَامُ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ ؟ عِنْدَ سَيِّدِهِ الْقَدِيمِ فِي مِنْدِيلٍ :
فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ
فَأَجَابَ :
لَا يُؤْخَذُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْغُلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ
كَانَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَالِيَ الْحَرْبِ أَوْ قَاضِيَ الْحُكْمِ ؛ بَلْ
الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُتَّهَمِ بِسَرِقَةِ وَنَحْوِهَا
أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمُتَّهَمِ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ . فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْبِرِّ
لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَتُهُ وَلَا عُقُوبَتُهُ . وَهَلْ يَحْلِفُ ؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُعَزَّرُ مَنْ رَمَاهُ
بِالتُّهْمَةِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَإِنَّهُ يُحْبَسَ
حَتَّى يُكْشَفَ أَمْرُهُ . قِيلَ : يُحْبَسُ شَهْرًا . وَقِيلَ : اجْتِهَادُ
وَلِيِّ الْأَمْرِ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ
فِي تُهْمَةٍ }
وَإِنْ
كَانَ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ الْمُنَاسِبِ لِلتُّهْمَةِ
فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : يَضْرِبُهُ الْوَالِي ؛ دُونَ الْقَاضِي .
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَالْإِمَامِ أَحْمَد . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ : لَا يُضْرَبُ وَقَدْ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَنَّهُ أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَنْ يَمَسَّ بَعْضَ الْمُعَاهَدِينَ
بِالْعَذَابِ لَمَّا كَتَمَ إخْبَارَهُ بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ :
أَيْنَ كَنْزُ حيي بْنِ أَخْطَبَ ؟ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَذْهَبَتْهُ
النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ . فَقَالَ : الْمَالُ كَثِيرٌ وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ مِنْ
هَذَا وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ : دُونَك هَذَا فَمَسَّهُ الزُّبَيْرُ بِشَيْءِ مِنْ
الْعَذَابِ فَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ } . وَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ
اسْتَوْدَعَ الْمَالَ فَهَذَا أَخَفُّ فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ لَمْ
يَجُزْ إلْزَامُهُ بِالْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يَحْلِفُ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ وَالِيًا أَوْ قَاضِيًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتُّهَمِ فِي الْمَسْرُوقَاتِ فِي وِلَايَتِهِ ؛ فَإِنْ
تَرَكَ الْفَحْصَ فِي ذَلِكَ ضَاعَتْ الْأَمْوَالُ وَطَمِعَتْ الْفُسَّاقُ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
أَنَّهُ يَظْلِمُ فِيهَا أَوْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا يَفِي بِالْمَقْصُودِ فِي
ذَلِكَ ؟ وَإِنْ
أَقْدَمَ
وَسَأَلَ أَوْ أَمْسَكَ المتهومين وَعَاقَبَهُمْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى فِي
إقْدَامِهِ عَلَى أَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ ؟ وَهُوَ يَسْأَلُ ضَابِطًا فِي هَذِهِ
الصُّورَةِ وَفِي أَمْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا التُّهَمُ فِي السَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يُفَوِّضَهَا إلَى مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَظْلِمُ فِيهَا
مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُقِيمَ فِيهَا مِنْ الْعُدُولِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ فِي التُّهَمِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " .
" صِنْفٌ " مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ بِالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَأَنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ . فَهَذَا لَا يُحْبَسُ وَلَا يُضْرَبُ ؛ بَلْ وَلَا
يُسْتَحْلَفُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ يُؤَدَّبُ مَنْ يَتَّهِمُهُ
فِيمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ . و " الثَّانِي " مَنْ يَكُونُ
مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ بِبِرِّ وَلَا فُجُورٍ . فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى
يُكْشَفَ عَنْ حَالِهِ . وَقَدْ قِيلَ : يُحْبَسُ شَهْرًا . وَقِيلَ : يُحْبَسُ
بِحَسَبِ اجْتِهَادِ وَلِيِّ الْأَمْرِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو
دَاوُد وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ
فِي تُهْمَةٍ } وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ
بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مُدَّعٍ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ مَجْلِسَ
وَلِيِّ الْأَمْرِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَعْوِيقُهُ
عَنْ أَشْغَالِهِ فَكَذَلِكَ تَعْوِيقُ هَذَا إلَى أَنْ يُعْلَمَ أَمْرُهُ ثُمَّ
إذَا سَأَلَ عَنْهُ وَوُجِدَ بَارًّا أُطْلِقَ . وَإِنْ وُجِدَ فَاجِرًا كَانَ
مِنْ " الصِّنْفِ الثَّالِثِ " وَهُوَ الْفَاجِرُ الَّذِي قَدْ عُرِفَ
مِنْهُ السَّرِقَةُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ عُرِفَ بِأَسْبَابِ السَّرِقَةِ : مِثْلَ
أَنْ يَكُونَ
مَعْرُوفًا بِالْقِمَارِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي لَا تَتَأَتَّى إلَّا بِالْمَالِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا لَوْثٌ فِي التُّهْمَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ مِثْلَ هَذَا يُمْتَحَنُ بِالضَّرْبِ يَضْرِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي - كَمَا قَالَ أَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ - حَتَّى يُقِرَّ بِالْمَالِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ . يَضْرِبُهُ الْوَالِي ؛ دُونَ الْقَاضِي كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِيَانِ الماوردي وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابَيْهِمَا فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الطرسوسي وَغَيْرُهُ . ثُمَّ الْمُتَوَلِّي لَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِضَرْبِهِ مَعَ تَقْرِيرِهِ عُقُوبَتَهُ عَلَى فُجُورِهِ الْمَعْرُوفِ فَيَكُونُ تَعْزِيرًا وَتَقْرِيرًا . وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَوَلِّي أَنْ يُرْسِلَ جَمِيعَ المتهومين حَتَّى يَأْتِيَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ سَرَقَ ؛ " بَلْ قَدْ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ فِي قِصَّةٍ كَانَتْ تُهْمَةً فِي سَرِقَةٍ قَوْله تَعَالَى { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أبيرق سَرَقُوا
لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ طَعَامًا وَدِرْعَيْنِ فَجَاءَ صَاحِبُ الْمَالِ يَشْتَكِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ قَوْمٌ يُزَكُّونَ الْمُتَّهَمِينَ بِالْبَاطِلِ ؛ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ صِدْقَ الْمُزَكِّينَ فَلَامَ صَاحِبُ الْمَالِ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ " وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ الْمَالِ : أَقِمْ الْبَيِّنَةَ ؛ وَلَا حَلِّفْ الْمُتَّهَمِينَ ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَّهَمِينَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالشَّرِّ وَظَهَرَتْ الرِّيبَةُ عَلَيْهِمْ . وَهَكَذَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ فِي الدِّمَاءِ إذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِينَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ الْحُدُودِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ؛ لَيْسَتْ مِنْ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ فَلَوْلَا الْقَسَامَةُ فِي الدِّمَاءِ لَأَفْضَى إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ فَيَقْتُلُ الرَّجُلُ عَدُوَّهُ خُفْيَةً وَلَا يُمْكِنُ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ؛ وَالْيَمِينُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالسَّارِقِ وَالْقَاطِعِ سَهْلَةٌ فَإِنَّ مَنْ يَسْتَحِلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَكْتَرِثُ بِالْيَمِينِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ ؛ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } هَذَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ مِنْ الْمُدَّعِي حُجَّةٌ غَيْرَ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى بِهَا شَيْئًا وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . فَأَمَّا إذَا أَقَامَ شَاهِدًا بِالْمَالِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ فِي الْمَالِ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَإِذَا كَانَ فِي دَعْوَى الدَّمِ لَوْثٌ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِينَ : { أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ ؟ }
كَذَلِكَ أَمَرَ " قُطَّاعَ الطَّرِيقِ " وَأَمَرَ " اللُّصُوصَ " وَهُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَأْمَنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي الْمَسَاكِنِ وَالطُّرُقَاتِ إلَّا بِمَا يَزْجُرُهُمْ فِي قَطْعِ هَؤُلَاءِ وَلَا يَزْجُرُهُمْ أَنْ يَحْلِفَ كُلٌّ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ لِأَخْذِ الْمَالِ يُقْتَلُ حَتْمًا وَقَتْلُهُ حَدٌّ لِلَّهِ ؛ وَلَيْسَ قَتْلُهُ مُفَوَّضًا إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ . قَالُوا ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَقْتُلْهُ لِغَرَضِ خَاصٍّ مَعَهُ ؛ إنَّمَا قَتَلَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذَا الْمَقْتُولِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَقَتْلُهُ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ . فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ " السَّارِقُ " لَيْسَ غَرَضُهُ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا غَرَضُهُ أَخْذُ مَالِ هَذَا وَمَالِ هَذَا كَذَلِكَ كَانَ قَطْعُهُ حَقًّا وَاجِبًا لِلَّهِ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ بَلْ رَبُّ الْمَالِ يَأْخُذُ مَالَهُ وَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ حَتَّى لَوْ قَالَ صَاحِبُ الْمَالِ : أَنَا أُعْطِيهِ مَالِي لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ كَمَا { قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَهَبُهُ رِدَائِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلَّا فَعَلْت قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سُخْطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ } { وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ } .
وَمِمَّا
يُشْبِهُ هَذَا مَنْ ظَهَرَ عِنْدَهُ مَالٌ يَجِبُ عَلَيْهِ إحْضَارُهُ
كَالْمَدِينِ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ غَيَّبَ مَالَهُ وَأَصَرَّ عَلَى الْحَبْسِ
وَكَمَنَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا ظَهَرَ
كَذِبُهُ . فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ ؛ لَكِنْ يُضْرَبُ حَتَّى يُحْضِرَ الْمَالَ
الَّذِي يَجِبُ إحْضَارُهُ أَوْ يُعَرِّفُ مَكَانَهُ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَامَ خَيْبَرٍ
فِي عَمِّ حيي بْنِ أَخْطَبَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ؛ فَقَالَ لِهَذَا
الرَّجُلِ : أَيْنَ كَنْزُ حيي بْنِ أَخْطَبَ ؟ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ
أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ فَقَالَ : الْمَالُ كَثِيرٌ وَالْعَهْدُ
أَحْدَثُ مِنْ هَذَا ثُمَّ قَالَ : دُونَك هَذَا فَمَسَّهُ بِشَيْءِ مِنْ
الْعَذَابِ فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ فِي خَرِبَةٍ هُنَاكَ } فَهَذَا لَمَّا قَالَ أَذْهَبَتْهُ
النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ وَالْعَادَةُ تُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ
إلَيْهِ بَلْ أَمَرَ بِعُقُوبَتِهِ حَتَّى دَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ ؛ فَكَذَلِكَ
مَنْ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَادَّعَى ذَهَابَهَا دَعْوَى تُكَذِّبُهُ
فِيهَا الْعَادَةُ كَانَ هَذَا حُكْمَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مَخِيطٌ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ لِلْغَسَّالِ
نِسْيَانًا ؛ فَلَمَّا رَدَّهُ الْغَسَّالُ إلَيْهِ بَعْدَ غَسْلِهِ وَجَدَ
مَكَانَ الذَّهَبِ مُفَتَّقًا وَلَمْ يَجِدْهُ : فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ ؟
الْجَوَابُ :
إمَّا أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يَبْرِيهِ وَإِمَّا أَنْ يَحْلِفَ
الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَخَذَ الذَّهَبَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَضْمَنُهُ ؛ فَإِنْ كَانَ
الْغَسَّالُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ وَظَهَرَتْ الرِّيبَةُ بِظُهُورِ الْفَتْقِ
جَازَ ضَرْبُهُ وَتَعْزِيرُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ أَقْوَامٍ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَقْتُلُونَ مَنْ
يُمَانَعُهُمْ عَنْ مَالِهِ وَيَفْجُرُونَ بِحَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ
وَيُعَذِّبُونَ كُلَّ مَنْ يَمْسِكُونَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى حَتَّى يَدُلَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ؛ ثُمَّ
الْإِمَامُ بَلَغَهُ خَبَرُهُمْ ؛ فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بَعْضَ النَّاسِ أَنْ
يَرُوحَ إلَيْهِمْ وَيَمْنَعَهُمْ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذِ
أَمْوَالِهِمْ ؛ فَخَرَجُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا الْمُسَيَّرِينَ إلَيْهِمْ ؛
وَامْتَنَعُوا مِنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ فَهَلْ يَحِلُّ قِتَالُهُمْ أَمْ لَا ؟
وَهَلْ إذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ مَالِهِمْ شَيْئًا وَبَاعَهُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَحِلُّ قِتَالُ هَؤُلَاءِ بَلْ يَجِبُ ؛ وَإِذَا
أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِإِزَاءِ مَا أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِ
الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَعْرِفْ مُسْتَحِقَّهُ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَإِنْ
كَانُوا أَخَذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَفِي أَخْذِ
أَمْوَالِهِمْ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ . وَإِذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ أَحَدَ
الْقَوْلَيْنِ بِطَرِيقَةِ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ؛ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ النَّاسِ
وَدِمَاءَهُمْ : مِثْلَ السَّارِقِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ : هَلْ لِلْإِنْسَانِ
أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ؟ أَوْ يُقَاتِلَهُمْ ؟ وَهَلْ إذَا
قَتَلَ رَجُلٌ أُحُدًا مِنْهُمْ : فَهَلْ يَكُونُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى
النِّفَاقِ ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي قَتْلِ مَنْ طَلَبَ قَتْلَهُ ؟
فَأَجَابَ :
أَجَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ مُقَاتَلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَقَدْ
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ
قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } . " فَالْقُطَّاعُ " إذَا
طَلَبُوا مَالَ الْمَعْصُومِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ يَدْفَعُهُمْ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ فَإِنْ
لَمْ يَنْدَفِعُوا إلَّا بِالْقِتَالِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَإِنْ قُتِلَ
كَانَ شَهِيدًا وَإِنْ قَتَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ
دَمُهُ هَدَرًا ؛ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَبُوا دَمَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُمْ
وَلَوْ بِالْقَتْلِ إجْمَاعًا ؛ لَكِنَّ الدَّفْعَ عَنْ الْمَالِ لَا يَجِبُ بَلْ
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ الْمَالَ وَلَا يُقَاتِلَهُمْ . وَأَمَّا
الدَّفْعُ عَنْ النَّفْسِ فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ
أَحْمَد .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ تَاجِرٍ نَصَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ ؛ وَأَخَذُوا مَبْلَغًا فَحَمَلَهُمْ
لِوَلِيِّ الْأَمْرِ ؛ وَعَاقَبَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَالِ وَهُمْ
مَحْبُوسُونَ عَلَى الْمَالِ وَلَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى
أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ الْمَالُ بِيَدِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ
إعْطَائِهِ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْمَالَ الَّذِي بِيَدِهِ
لِغَيْرِهِ . وَمَنْ كَانَ قَدْ غَيَّبَ الْمَالَ وَجَحَدَ مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ
يُضْرَبُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهِ . وَمَنْ كَانَ مُتَّهَمًا لَا يَعْرِفُ
هَلْ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ أَمْ لَا ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ضَرْبُهُ
مُعَاقَبَةً لَهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . وَيُقَرَّرُ مَعَ
ذَلِكَ عَلَى الْمَالِ أَيْنَ هُوَ . وَيُطْلَبُ مِنْهُ إحْضَارُهُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - :
عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ اللُّصُوصِ أَخَذَ اثْنَانِ مِنْهُمْ جِمَالًا وَالثَّالِثُ
قَتَلَ الْجِمَالَ : هَلْ تُقْتَلُ الثَّلَاثَةُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الثَّلَاثَةُ حَرَامِيَّةً اجْتَمَعُوا لِيَأْخُذُوا الْمَالَ
بِالْمُحَارَبَةِ قُتِلَ الثَّلَاثَةُ وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَاشَرَ الْقَتْلَ
وَاحِدًا مِنْهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
آخِرُ المُجَلَّدِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ
الْجُزْءُ
الْخَامِسُ وَالْثَّلَاثُونَ
كِتَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ إِلَى نِهَايَةِ الْإِقْرَارِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ
أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
بَابٌ الْخِلَافَةُ وَالْمُلْكُ وَقِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ؛ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا
مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
أَمَّا بَعْدُ : فَهَذِهِ " قَاعِدَةٌ مُخْتَصَرَةٌ فِي وُجُوبِ طَاعَةِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ " فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَأَنَّ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَوُلَاةِ
الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ : وَاجِبٌ ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ . وَأَمَرَهُمْ إذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : الرَّدُّ إلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إلَى كِتَابِهِ وَالرَّدُّ إلَى الرَّسُولِ بَعْدَ مَوْتِهِ هُوَ الرَّدُّ إلَى سُنَّتِهِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَجَعَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل
وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ : اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك ؛ إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ تَمِيمٍ الداري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا ؛ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تناصحوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ . ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ : إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ } . و " يَغَلُّ " بِالْفَتْحِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَيُقَالُ : غَلَّى صَدْرَهُ فَغَلَّ إذَا كَانَ ذَا غِشٍّ وَضَغَنٍ وَحِقْدٍ أَيْ قَلْبُ الْمُسْلِمِ لَا يُغِلُّ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تناصحوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } فَإِنَّ اللَّهَ إذَا
كَانَ يَرْضَاهَا لَنَا لَمْ يَكُنْ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ يُغِلُّ عَلَيْهَا يُبْغِضُهَا وَيَكْرَهُهَا فَيَكُونُ فِي قَلْبِهِ عَلَيْهَا غِلٌّ ؛ بَلْ يُحِبُّهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَيَرْضَاهَا . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ ؛ وَعَلَى أُثْرَةٍ عَلَيْنَا وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا ؛ لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ ؛ إلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةِ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِك وَيُسْرِك وَمَنْشَطِك وَمَكْرَهِك وَأُثْرَةٍ عَلَيْك } . وَمَعْنَى قَوْلِهِ { وَأُثْرَةٍ عَلَيْك } { وَأُثْرَةٍ عَلَيْنَا } أَيْ وَإِنْ اسْتَأْثَرَ : وُلَاةُ الْأُمُورِ عَلَيْك فَلَمْ يُنْصِفُوك وَلَمْ يُعْطُوك حَقَّك ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أسيد بْنِ حضير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَلَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلَّا تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْت فُلَانًا ؟ فَقَالَ : إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ } . وَهَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا تَكُونُ بَعْدِي أُثْرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا :
يَا
رَسُول اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ ؟ قَالَ ؟ تُؤَدُّونَ
الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ } وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ وَائِلِ بْنِ حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { سَأَلَ
سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الجعفي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَنَا
حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ؛
ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ ؛ ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي
الثَّالِثَةِ فَحَدَّثَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ
مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } . فَذَلِكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ : هُوَ وَاجِبٌ
عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ وَإِنْ اسْتَأْثَرُوا عَلَيْهِ . وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ : فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ أُكْرِهَ
عَلَيْهِ .
فَصْلٌ :
وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ
وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَاجِبٌ عَلَى الْإِنْسَانِ وَإِنْ لَمْ يُعَاهِدْهُمْ عَلَيْهِ
وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَهُمْ الْأَيْمَانَ الْمُؤَكَّدَةَ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَحَجُّ الْبَيْتِ . وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الطَّاعَةِ ؛ فَإِذَا حَلَفَ
عَلَى ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ تَوْكِيدًا وَتَثْبِيتًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ . فَالْحَالِفُ
عَلَى هَذِهِ
الْأُمُورِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ خِلَافَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ ؛ فَإِنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ ؛ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَمَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِمْ وَغِشِّهِمْ مُحَرَّمٌ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَيُصَلِّيَنَّ الْخَمْسَ وَلَيَصُومَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ لَيَقْضِيَنَّ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ وَيَشْهَدَنَّ بِالْحَقِّ : فَإِنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَغِشِّ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْخُرُوجِ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ : هُوَ مُحَرَّمٌ ؛ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا مَنْ كَانَ حَالِفًا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الزَّكَاةِ أَوْ صَوْمِ رَمَضَانَ أَوْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْعَدْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُفْتِيَهُ بِمُخَالَفَةِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَالْحِنْثِ فِي يَمِينِهِ ؛ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ أَفْتَى مِثْلَ هَؤُلَاءِ بِمُخَالَفَةِ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ وَالْحِنْثِ فِي أَيْمَانِهِمْ : فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مُفْتٍ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ لَوْ أَفْتَى آحَادُ الْعَامَّةِ بِأَنْ يَفْعَلَ خِلَافَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَفَاءِ فِي عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ
الْعُقُودِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهَا فَإِذَا حَلَفَ كَانَ أَوْكَدَ فَمَنْ أَفْتَى مِثْلَ هَذَا بِجَوَازِ نَقْضِ هَذِهِ الْعُقُودِ . وَالْحِنْثِ فِي يَمِينِهِ : كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مُفْتِيًا بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مُعَاقَدَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْعُقُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا . وَهَذَا كَمَا أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : يَمِينُ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَنْعَقِدُ سَوَاءٌ كَانَ بِاَللَّهِ أَوْ النَّذْرِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتَاقِ ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . ثُمَّ إذَا أَكْرَهَ وَلِيُّ الْأَمْرِ النَّاسَ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ وَحَلِفِهِمْ عَلَى ذَلِكَ : لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي تَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُرَخِّصَ لَهُمْ فِي الْحِنْثِ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا بِدُونِ الْيَمِينِ فَالْيَمِينُ تُقَوِّيهِ ؛ لَا تُضْعِفُهُ ؛ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ صَاحِبَهَا أُكْرِهَ عَلَيْهَا . وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ بِلُزُومِ الْمَحْلُوفِ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ الْأَيْمَانِ ؛ لِأَجْلِ تَحْلِيفِ وُلَاةِ الْأُمُورِ أَحْيَانًا . قِيلَ لَهُ : وَهَذَا يُرَدُّ عَلَيْك فِيمَا تَعْتَقِدُهُ فِي يَمِينِ الْمُكْرَهِ ؛ فَإِنَّك تَقُولُ : لَا يَلْزَمُ وَإِنْ حَلَفَ بِهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ . وَيُرَدُّ عَلَيْك فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ تُفْتِي بِهَا فِي الْحِيَلِ ؛ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْفَضْلِ فَلَا يُرَخِّصُونَ لِأَحَدِ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغِشِّهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ : بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالدِّينِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمِنْ سِيرَةِ غَيْرِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرِهِ } قَالَ : وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ . يَعْنِي بِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا حَدَّثَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَمَّا قَامَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَةِ وَلِيِّ أَمْرِهِمْ ؛ يَنْقُضُونَ بَيْعَتَهُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { نَافِعٍ قَالَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ ؛ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ؛ فَقَالَ : اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً . فَقَالَ : إنِّي لَمْ آتِك لِأَجْلِسَ أَتَيْتُك لِأُحَدِّثَك حَدِيثًا ؛ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ خَلَعَ يَدًا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ ؛ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَخْرُجُ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ؛ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ؛ وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِيَّةٍ ؛ يَغْضَبُ لِعَصَبَيَّةِ ،
أَوْ
يَدْعُو إلَى عَصَبَيَّةٍ ؛ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَيَّةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ
جَاهِلِيَّةٌ } وَفِي لَفْظٍ { لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مِنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي
يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يُوفِي
لِذِي عَهْدِهَا ؛ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْت مِنْهُ } .
" فَالْأَوَّلُ " هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ عَنْ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ
؛ وَيُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ .
" وَالثَّانِي " هُوَ الَّذِي يُقَاتِلُ لِأَجْلِ الْعَصَبِيَّةِ ؛
وَالرِّيَاسَةِ ؛ لَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ : مِثْلِ قَيْسٍ
وَيُمْنٍ .
" وَالثَّالِثُ " مِثْلُ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَيَقْتُلُ مَنْ
لَقِيَهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ ؛ لِيَأْخُذَ مَالَهُ وكالحرورية الْمَارِقِينَ
الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي قَالَ فِيهِمْ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ
مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ
يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ
الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا
لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ
لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ ؛ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا
حَبَشِيًّا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ
حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ } وَعَنْ { أَبِي ذَرٍّ قَالَ : أَوْصَانِي
خَلِيلِي أَنْ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ؛ وَلَوْ كَانَ حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ
الْأَطْرَافِ } وَعَنْ الْبُخَارِيِّ : { وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { أُمِّ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقُولُ : وَلَوْ اسْتَعْمَلَ عَبْدًا يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } وَفِي رِوَايَةٍ : { عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ عِنْدَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا ؛ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ لَا ؛ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ أَلَا مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةٍ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ . الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ عَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ
فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ : إنِّي مُحَدِّثُك حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ الْجَنَّةَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُ . وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ؛ فَأَوْقَدَ نَارًا فَقَالَ : اُدْخُلُوهَا . فَأَرَادَ النَّاسُ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَقَالَ الْآخَرُونَ . إنَّا فَرَرْنَا مِنْهَا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا : لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ لِلْآخَرِينَ قَوْلًا حَسَنًا ؛ وَقَالَ : لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ؛ إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ } .
فَصْلٌ
:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا
لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا
لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }
وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }
وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا
أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ } { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ } { رَبَّنَا آتِهِمْ
ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى :
{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } . فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ؛ وَطَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَاجِبَةٌ لِأَمْرِ
اللَّهِ بِطَاعَتِهِمْ فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِطَاعَةِ وُلَاةِ
الْأَمْرِ لِلَّهِ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ . وَمَنْ كَانَ لَا يُطِيعُهُمْ إلَّا
لِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ فَإِنْ أَعْطَوْهُ أَطَاعَهُمْ ؛
وَإِنْ
مَنَعُوهُ عَصَاهُمْ : فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ ؛ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ؛ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ ؛ وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاَللَّهِ لِآخِذِهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ غَيْرُ ذَلِكَ وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِدُنْيَا ؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَّى ؛ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ } .
وَقَالَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
قَاعِدَةٌ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ
ثَلَاثُونَ سَنَةً ؛ ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ مُلْكَهُ - أَوْ الْمُلْكَ - مَنْ
يَشَاءُ } لَفْظُ أَبِي دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ وَالْعَوَّامِ {
تَكُونُ الْخِلَافَةُ ثَلَاثِينَ عَامًا ثُمَّ يَكُونُ الْمُلْكُ } { تَكُونُ
الْخِلَافَةُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا } وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ
مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ
وَالْعَوَّامِ بْنِ حوشب وَغَيْرِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جمهان عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ :
كَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ
فِي تَقْرِيرِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةِ وَثَبَتَهُ
أَحْمَد ؛ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَنْ تَوَقَّفَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ ؛ مِنْ
أَجْلِ افْتِرَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ ؛ حَتَّى قَالَ أَحْمَد : مَنْ لَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيِّ فِي الْخِلَافَةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ ؛ وَنَهَى عَنْ مُنَاكَحَتِهِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَعُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْعَامَّةِ . وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ : كَالرَّافِضَةِ الطَّاعِنِينَ فِي خِلَافَةِ الثَّلَاثَةِ أَوْ الْخَوَارِجِ الطَّاعِنِينَ فِي خِلَافَةِ الصِّهْرَيْنِ الْمُنَافِيَيْنِ : عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَوْ بَعْضِ النَّاصِبَةِ النَّافِينَ لِخِلَافَةِ عَلِيٍّ أَوْ بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنْ الْمُتَسَنِّنَةِ الْوَاقِفِينَ فِي خِلَافَتِهِ وَوَفَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ هِجْرَتِهِ وَإِلَى عَامِ ثَلَاثِينَ سَنَةَ كَانَ إصْلَاحُ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ السَّيِّدِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِنُزُولِهِ عَنْ الْأَمْرِ عَامَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ فِي شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى وَسُمِّيَ " عَامَ الْجَمَاعَةِ " لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى " مُعَاوِيَةَ " وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ : { سَتَكُونُ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ وَرَحْمَةٍ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَجَبْرِيَّةٌ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ عَضُوضٌ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ وَهُوَ صَحِيحٌ : { إنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } .
وَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ مَنْ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ " خُلَفَاءَ " وَإِنْ كَانُوا مُلُوكًا ؛ وَلَمْ يَكُونُوا خُلَفَاءَ الْأَنْبِيَاءِ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ يَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ ؛ قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ قَالَ : فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ ؛ ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ } . فَقَوْلُهُ : " فَتَكْثُرُ " دَلِيلٌ عَلَى مَنْ سِوَى الرَّاشِدِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَثِيرًا . وَأَيْضًا قَوْلُهُ : { فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ } دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ ؛ وَالرَّاشِدُونَ لَمْ يَخْتَلِفُوا . وَقَوْلُهُ : { فَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ } دَلِيلٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ ؛ فِي إعْطَاءِ الْأُمَرَاءِ حَقَّهُمْ ؛ مِنْ الْمَالِ وَالْمَغْنَمِ . وَقَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ مَصِيرَ الْأَمْرِ إلَى الْمُلُوكِ وَنُوَّابِهِمْ مِنْ الْوُلَاةِ ؛ وَالْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ لَيْسَ لِنَقْصِ فِيهِمْ فَقَطْ بَلْ لِنَقْصِ فِي الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ جَمِيعًا ؛ فَإِنَّهُ " كَمَا تَكُونُونَ : يُوَلَّى عَلَيْكُمْ " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا } وَقَدْ اسْتَفَاضَ وَتَقَرَّرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا قَدْ أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ ؛ وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِمْ وَقَسْمِهِمْ ؛ وَالْغَزْوِ مَعَهُمْ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ
مِنْ مُتَابَعَتِهِمْ فِي الْحَسَنَاتِ الَّتِي لَا يَقُومُ بِهَا إلَّا هُمْ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ " بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى " وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ تَصْدِيقِهِمْ بِكَذِبِهِمْ وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ مِمَّا هُوَ مِنْ " بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " وَمَا أَمَرَ بِهِ أَيْضًا مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ : لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ؛ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ إلَيْهِمْ ؛ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ ذَلِكَ جُبْنًا وَلَا بُخْلًا وَلَا خَشْيَةً لَهُمْ وَلَا اشْتِرَاءً لِلثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِآيَاتِ اللَّهِ ؛ وَلَا يَفْعَلُ أَيْضًا لِلرِّئَاسَةِ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى الْعَامَّةِ وَلَا لِلْحَسَدِ وَلَا لِلْكِبَرِ وَلَا لِلرِّيَاءِ لَهُمْ وَلَا لِلْعَامَّةِ . وَلَا يُزَالُ الْمُنْكَرُ بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ . بِحَيْثُ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ بِالسِّلَاحِ ؛ وَتُقَامُ الْفِتَنُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي يَرْبُو عَلَى فَسَادِ مَا يَكُونُ مِنْ ظُلْمِهِمْ ؛ بَلْ يُطَاعُ اللَّهُ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ وَيُفْعَلُ مَا أَمَرَ بِهِ وَيُتْرَكُ مَا نَهَى عَنْهُ . وَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَفْصِيلُهَا يَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ كَثِيرٍ وَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ " جِمَاعِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ " الْوَاقِعَةِ بَعْدَ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ : فِي الْإِمَارَةِ وَفِي تَرْكِهَا ؛ فَإِنَّهُ مَقَامُ خَطَرٍ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ خَبَرَهُ بِانْقِضَاءِ " خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ " فِيهِ الذَّمُّ لِلْمَلِكِ وَالْعَيْبِ لَهُ ؛ لَا سِيَّمَا وَفِي حَدِيثِ { أَبِي
بَكْرَةَ : أَنَّهُ اسْتَاءَ لِلرُّؤْيَا وَقَالَ : خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ } . ثُمَّ النُّصُوصُ الْمُوجِبَةُ لِنَصْبِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَمَا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَتَوَلَّوْنَهَا مِنْ الثَّوَابِ : حَمْدٌ لِذَلِكَ وَتَرْغِيبٌ فِيهِ ؛ فَيَجِبُ تَخْلِيصُ مَحْمُودِ ذَلِكَ مِنْ مَذْمُومِهِ وَفِي حُكْمِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا وَبَيْنَ أَنْ أَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا فَاخْتَرْت أَنْ أَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا } فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ شَوْبُ الْوِلَايَةِ ؛ مِنْ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْمُلْكُ : هَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْأَصْلِ وَالْخِلَافَةُ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ أَمْ لَيْسَ بِجَائِزِ إلَّا لِحَاجَةِ مِنْ نَقْصِ عِلْمٍ أَوْ نَقْصِ قُدْرَةٍ بِدُونِهِ ؟ فَنَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزِ فِي الْأَصْلِ بَلْ الْوَاجِبُ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا ؛ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } بَعْدَ قَوْلِهِ : { مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا } فَهَذَا أَمْرٌ وَتَحْضِيضٌ عَلَى لُزُومِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْرٌ بِالِاسْتِمْسَاكِ بِهَا وَتَحْذِيرٌ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ الْمُخَالِفَةِ لَهَا وَهَذَا الْأَمْرُ مِنْهُ وَالنَّهْيُ : دَلِيلٌ بَيِّنٌ فِي الْوُجُوبِ .
ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { اقْتَدُوا بالذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } فَهَذَانِ أُمِرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أُمِرَ بِلُزُومِ سُنَّتِهِمْ . وَفِي هَذَا تَخْصِيصٌ لِلشَّيْخَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ " السُّنَّةَ " مَا سَنُّوهُ لِلنَّاسِ . وَأَمَّا " الْقُدْوَةُ " فَيَدْخُلُ فِيهَا الِاقْتِدَاءُ بِهِمَا فِيمَا فَعَلَاهُ مِمَّا لَمْ يَجْعَلُوهُ سُنَّةً " الثَّانِي " أَنَّ السُّنَّةَ أَضَافَهَا إلَى الْخُلَفَاءِ ؛ لَا إلَى كُلٍّ مِنْهُمْ . فَقَدْ يُقَالُ : أَمَّا ذَلِكَ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ؛ دُونَ مَا انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُهُمْ . وَأَمَّا الْقُدْوَةُ فَعَيْنُ الْقُدْوَةِ بِهَذَا وَبِهَذَا . وَفِي هَذَا الْوَجْهِ نَظَرٌ . وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا . أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي سَبَقَهُمَا بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَدَلَّتْ النُّصُوصُ وَمُوَافَقَةُ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ عَلَى رُجْحَانِهِ وَكَانَ سَبَبَهُ افْتِرَاقُ الْأُمَّةِ : لَا يُؤْمَرُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا فِيهِ ؛ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ سَاسَا الْأُمَّةَ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَسَلِمَا مِنْ التَّأْوِيلِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ . وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَلَّبَ الرَّغْبَةَ وَتَأَوَّلَ فِي الْأَمْوَالِ . وَعَلِيٌّ غَلَّبَ الرَّهْبَةَ وَتَأَوَّلَ فِي الدِّمَاءِ . وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَمُلَ زُهْدُهُمَا فِي الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ . وَعُثْمَانُ كَمُلَ زُهْدُهُ فِي الرِّيَاسَةِ . وَعَلِيٌّ كَمُلَ زُهْدُهُ فِي الْمَالِ .
وَأَيْضًا فَكَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَاءَ لِلْمُلْكِ بَعْدَ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ تَرْكَ بَعْضِ الدِّينِ الْوَاجِبِ . وَقَدْ يَحْتَجُّ مَنْ يُجَوِّزُ " الْمُلْكَ " بِالنُّصُوصِ الَّتِي مِنْهَا { قَوْلُهُ لِمُعَاوِيَةَ : إنْ مَلَكْت فَأَحْسِنْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ وَفِيهِ نَظَرٌ . وَيُحْتَجُّ بِأَنَّ عُمَرَ أَقَرَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ عَلَى مَا رَآهُ مِنْ أُبَّهَةِ الْمُلْكِ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ فَإِنَّ عُمَرَ قَالَ : لَا آمُرُك وَلَا أَنْهَاك وَيُقَالُ فِي هَذَا : إنَّ عُمَرَ لَمْ يَنْهَهُ ؛ لَا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ ذَكَرَ وَجْهَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَثِقْ عُمَرُ بِالْحَاجَةِ . فَصَارَ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ فِي الْجُمْلَةِ فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَوَسِّطَانِ : أَنْ يُقَالَ : الْخِلَافَةُ وَاجِبَةٌ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ . أَوْ أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ قَبُولُهَا مِنْ الْمُلْكِ بِمَا يُيَسِّرُ فِعْلَ الْمَقْصُودِ بِالْوِلَايَةِ وَلَا يُعَسِّرُهُ ؛ إذْ مَا يَبْعُدُ الْمَقْصُودُ بِدُونِهِ لَا بُدَّ مِنْ إجَازَتِهِ وَأَمَّا مُلْك فَإِيجَابُهُ أَوْ اسْتِحْبَابُهُ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ . وَهُنَا طَرَفَانِ " أَحَدُهُمَا " مَنْ يُوجِبُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ وَزَمَانٍ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَيَذُمُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَوْ لِحَاجَةِ كَمَا هُوَ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِج وَالْمُعْتَزِلَةِ وَطَوَائِفَ مِنْ الْمُتَسَنِّنَةِ وَالْمُتَزَهِّدَةِ . وَالثَّانِي :
مَنْ يُبِيحُ الْمُلْكَ مُطْلَقًا ؛ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ ؛ كَمَا هُوَ فِعْلُ الظَّلَمَةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ وَأَفْرَادِ الْمُرْجِئَةِ . وَهَذَا تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ . و " تَحْقِيقُ الْأَمْرِ " أَنْ يُقَالَ : انْتِقَالُ الْأَمْرِ عَنْ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ إلَى الْمُلْكِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَجْزِ الْعِبَادِ عَنْ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ أَوْ اجْتِهَادٍ سَائِغٍ أَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ عِلْمًا وَعَمَلًا ؛ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعَجْزِ عِلْمًا أَوْ عَمَلًا كَانَ ذُو الْمُلْكِ مَعْذُورًا فِي ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَتْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ وَاجِبَةً مَعَ الْقُدْرَةِ ؛ كَمَا تَسْقُطُ سَائِرُ الْوَاجِبَاتِ مَعَ الْعَجْزِ كَحَالِ النَّجَاشِيِّ لَمَّا أَسْلَمَ وَعَجَزَ عَنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فِي قَوْمِهِ ؛ بَلْ حَالُ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ تُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؛ لَكِنَّ الْمُلْكَ كَانَ جَائِزًا لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كدَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَيُوسُفَ . وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَقُدِّرَ أَنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَأَنَّ اخْتِيَارَ الْمُلْكِ جَائِزٌ فِي شَرِيعَتِنَا كَجَوَازِهِ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِنَا : فَهَذَا التَّقْدِيرُ إذَا فُرِضَ أَنَّهُ حَقٌّ فَلَا إثْمَ عَلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَيْضًا . وَهَذَا الْوَجْهُ قَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي " الْمُعْتَمَدِ " لَمَّا تَكَلَّمَ فِي تَثْبِيتِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى ظُهُورِ إسْلَامِهِ وَعَدَالَتِهِ وَحُسْنِ سِيرَتِهِ وَأَنَّهُ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ لَمَّا عَقَدَهَا الْحَسَنُ لَهُ وَسُمِّيَ ذَلِكَ " عَامُ الْجَمَاعَةِ " وَذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : { تَدُورُ رَحَا الْإِسْلَامِ عَلَى رَأْسِ خَمْسٍ
وَثَلَاثِينَ } قَالَ : قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ : يَرْوِي عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ أَمْرُهُ خَمْسَ سِنِينَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ فَكَانَ هَذَا عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً " : قَالَ ابْنُ الْحَكَمِ : قُلْت لِأَحْمَدَ : مَنْ قَالَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ { تَدُورُ رَحَا الْإِسْلَام لِخَمْسِ وَثَلَاثِينَ } إنَّهَا مِنْ مُهَاجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : لَقَدْ أَخْبَرَ هَذَا وَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِفُ الْإِسْلَامَ بِسَيْرِ هُوَ بِالْجِنَايَةِ إنَّمَا يَصِفُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ مِنْ السِّنِينَ . قَالَ : وَظَاهِرُ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَد أَنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ؛ وَأَنَّ خِلَافَةَ مُعَاوِيَةَ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْخَمْسِ وَالثَّلَاثِينَ وَذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَحْمَد عَنْ الْخِلَافَةِ فَقَالَ : كُلُّ بَيْعَةٍ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ لَنَا . قَالَ الْقَاضِي : وَظَاهِرُ هَذَا : أَنَّ مَا كَانَ بِغَيْرِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ خِلَافَةَ نُبُوَّةٍ . قُلْت : نُصُوصُ أَحْمَد عَلَى أَنَّ الْخِلَافَةَ تَمَّتْ بِعَلِيِّ كَثِيرَةٌ جِدًّا . ثُمَّ عَارَضَ الْقَاضِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا } قَالَ السَّائِلَ : فَلَمَّا خَصَّ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ بِثَلَاثِينَ سَنَةً : كَانَ آخِرُهَا آخِرَ أَيَّامِ عَلِيٍّ وَأَنَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُلْكًا : دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِخِلَافَةِ فَأَجَابَ الْقَاضِي : بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ " الْخِلَافَةُ " الَّتِي لَا يَشُوبُهَا مُلْكٌ بَعْدَهُ " ثَلَاثُونَ
سَنَةً " وَهَكَذَا كَانَتْ خِلَافَةُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ . وَمُعَاوِيَةُ : قَدْ شَابَهَا الْمُلْكَ ؛ وَلَيْسَ هَذَا قَادِحًا فِي خِلَافَتِهِ ؛ كَمَا أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ لَمْ يَقْدَحْ فِي نُبُوَّتِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقِيرًا . قُلْت : فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ شَوْبَ الْخِلَافَةِ بِالْمُلْكِ جَائِزٌ فِي شَرِيعَتِنَا وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْعَدَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ الْخِلَافَةُ الْمَحْضَةُ أَفْضَلَ . وَكُلُّ مَنْ انْتَصَرَ لمعاوية وَجَعَلَهُ مُجْتَهِدًا فِي أُمُورِهِ وَلَمْ يَنْسِبْهُ إلَى مَعْصِيَةٍ : فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : إمَّا جَوَازُ شَوْبِهَا بِالْمُلْكِ أَوْ عَدَمُ اللَّوْمِ عَلَى ذَلِكَ فَيُتَّجَهُ إذَا (1) قَالَ إنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ وَاجِبَةٌ ؛ فَلَوْ قُدِّرَ فَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَكَبِيرَةٌ وَإِنْ كَانَ دِينًا ؛ أَوْ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مَنْ غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتِهِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا رَحْمَتُهُ بِالْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ ؛ إذْ هُمْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ . وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ : فَيُفَسِّقُونَ مُعَاوِيَةَ لِحَرْبِ عَلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ كَبِيرَةً وَهِيَ تُوجِبُ التَّفْسِيقَ فَلَا بُدَّ مِنْ مَنْعِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ . ثُمَّ إذَا سَاغَ هَذَا لِلْمُلُوكِ : سَاغَ لِلْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ وَاجِبَةً وَهِيَ مَقْدُورَةٌ ؛ وَقَدْ تُرِكَتْ : فَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَبَبٌ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ . ثُمَّ هَلْ تَرْكُهَا كَبِيرَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ ؟
إنْ كَانَ صَغِيرَةً لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعَدَالَةِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً فَفِيهِ الْقَوْلَانِ . لَكِنْ يُقَالُ هُنَا : إذَا كَانَ الْقَائِمُ بِالْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ يَفْعَلُ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَيَتْرُكُ مِنْ السَّيِّئَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مَا يَزِيدُ بِهِ ثَوَابُهُ عَلَى عُقُوبَةِ مَا يَتْرُكُهُ مِنْ وَاجِبٍ أَوْ يَفْعَلُهُ مِنْ مَحْظُورٍ : فَهَذَا قَدْ تَرَجَّحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ ؛ فَإِذَا كَانَ غَيْرُهُ مُقَصِّرًا فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ الَّتِي فَعَلَهَا مَعَ سَلَامَتِهِ عَنْ سَيِّئَاتِهِ ؛ فَلَهُ " ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ " إمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ مِنْ حَسَنَاتِ الْأَمِيرِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْمُوعِ حَسَنَاتِ هَذَا أَوْ أَقَلَّ . فَإِنْ كَانَتْ فَاضِلَةً أَكْثَرَ كَانَ أَفْضَلَ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ كَانَ مَفْضُولًا وَإِنْ تَسَاوِيًا تَكَافَآ . هَذَا مُوجَبُ الْعَدْلِ ؛ وَمُقْتَضَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَعْتَبِرُ الْمُوَازَنَةَ وَالْمُقَابَلَةَ فِي الْجَزَاءِ ؛ وَفِي الْعَدَالَةِ أَيْضًا . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ بِالْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ ؛ وَلَوْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ كَثِيرَةٌ عَظِيمَةٌ : فَلَا يَجِيءُ هَذَا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَدَالَةِ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ . وَيَتَفَرَّعُ مِنْ هُنَا " مَسْأَلَةٌ " وَهُوَ مَا إذَا كَانَ لَا يَتَأَتَّى لَهُ فِعْلُ الْحَسَنَةِ الرَّاجِحَةِ إلَّا بِسَيِّئَةٍ دُونَهَا فِي الْعِقَابِ : فَلَهَا صُورَتَانِ :
إحْدَاهُمَا : إذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَلِكَ فَهُنَا لَا يَبْقَى سَيِّئَةٌ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ ؛ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ إلَّا بِهِ : فَهُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ . ثُمَّ إنْ كَانَ مَفْسَدَتُهُ دُونَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَحْظُورَةِ الَّتِي تُبِيحُهَا الْحَاجَاتُ كَلُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْبَرْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَسْتَشْعِرُ سُوءَ الْفِعْلِ ؛ وَلَا يَنْظُرُ إلَى الْحَاجَةِ الْمُعَارِضَةِ لَهُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ مَا يَرْبُو عَلَى ذَلِكَ ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَحْظُورُ مُنْدَرِجًا فِي الْمَحْبُوبِ أَوْ يَصِيرُ مُبَاحًا إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ إلَّا مُجَرَّدُ الْحَاجَةِ كَمَا أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ ؛ بَلْ وَالْمَأْمُورِ بِهَا إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا : مَا يُعَارِضُهَا مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ تَجْعَلُهَا مُحَرَّمَةً أَوْ مَرْجُوحَةً كَالصِّيَامِ لِلْمَرِيضِ وَكَالطِّهَارَةِ بِالْمَاءِ لِمَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ } . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى جَوَازُ الْعُدُولِ أَحْيَانًا عَنْ بَعْضِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ كَمَا يَجُوزُ تَرْكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ وَارْتِكَابُ بَعْضِ مَحْظُورَاتِهَا لِلضَّرُورَةِ ؛ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِ سُنَّتِهِمْ أَوْ وَقَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى بَعْضِ مَا نَهَوْا عَنْهُ ؛ بِأَنْ تَكُونَ الْوَاجِبَاتُ الْمَقْصُودَةُ بِالْإِمَارَةِ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَا مَضَرَّتُهُ أَقَلُّ .
وَهَكَذَا " مَسْأَلَةُ التَّرْكِ " كَمَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُ إلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَنَحْوُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ . " وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ " إذَا كَانَ يُمْكِنُ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ بِلَا سَيِّئَةٍ ؛ لَكِنْ بِمَشَقَّةِ لَا تُطِيعُهُ نَفْسُهُ عَلَيْهَا أَوْ بِكَرَاهَةِ مِنْ طَبْعِهِ بِحَيْثُ لَا تُطِيعُهُ نَفْسُهُ إلَى فِعْلِ تِلْكَ الْحَسَنَاتِ الْكِبَارِ الْمَأْمُورِ بِهَا إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا إنْ لَمْ يَبْذُلْ لِنَفْسِهِ مَا تُحِبُّهُ مِنْ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا الَّتِي إثْمُهَا دُونَ مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ فَهَذَا الْقِسْمُ وَاقِعٌ كَثِيرًا : فِي أَهْلِ الْإِمَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْجِهَادِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْقَضَاءِ وَالْكَلَامِ ؛ وَأَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَفِي الْعَامَّةِ . مِثْلُ مَنْ لَا تُطِيعُهُ نَفْسُهُ إلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْإِمَارَةِ - مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَأَمْنِ السُّبُلِ وَجِهَادِ الْعَدُوِّ وَقِسْمَةِ الْمَالِ - إلَّا بِحُظُوظِ مَنْهِيٍّ عَنْهَا مِنْ الِاسْتِئْثَارِ بِبَعْضِ الْمَالِ ؛ وَالرِّيَاسَةِ عَلَى النَّاسِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْقَسْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَكَذَلِكَ فِي الْجِهَادِ : لَا تُطِيعُهُ نَفْسُهُ عَلَى الْجِهَادِ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ التَّهَوُّرِ . وَفِي الْعِلْمِ لَا تُطِيعُهُ نَفْسُهُ عَلَى تَحْقِيقِ عِلْمِ الْفِقْهِ وَأُصُولِ الدِّينِ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ . وَلَا تُطِيعُهُ نَفْسُهُ عَلَى تَحْقِيقِ عِلْمِ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ وَالْمُعَرَّفَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ . فَهَذَا الْقِسْمُ كَثُرَ فِي دُوَلِ الْمُلُوكِ ؛ إذْ هُوَ وَاقِعٌ فِيهِمْ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ أُمَرَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ . أَعْنِي أَهْلَ زَمَانِهِمْ . وَبِسَبَبِهِ
نَشَأَتْ الْفِتَنُ بَيْنَ الْأُمَّةِ . فَأَقْوَامٌ نَظَرُوا إلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ؛ فَذَمُّوهُمْ وَأَبْغَضُوهُمْ . وَأَقْوَامٌ نَظَرُوا إلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَأَحَبُّوهُمْ . ثُمَّ الْأَوَّلُونَ رُبَّمَا عَدُّوا حَسَنَاتِهِمْ سَيِّئَاتٍ . وَالْآخَرُونَ رُبَّمَا جَعَلُوا سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَعَسَّرَ فِعْلُ الْوَاجِبِ فِي الْإِمَارَةِ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْمُلْكِ : فَهَلْ يَكُونُ الْمُلْكُ مُبَاحًا كَمَا يُبَاحُ عِنْدَ التَّعَذُّرِ ؟ ذَكَرْنَا فِيهِ الْقَوْلَيْنِ ؛ فَإِنْ أُقِيمَ التَّعَسُّرُ مَقَامَ التَّعَذُّرِ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إثْمًا وَإِنْ لَمْ يَقُمْ كَانَ إثْمًا . وَأَمَّا مَا لَا تَعَذُّرَ فِيهِ وَلَا تَعَسُّرَ : فَإِنَّ الْخُرُوجَ فِيهِ عَنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى . " فَالتَّحْقِيقُ " أَنَّ الْحَسَنَاتِ : حَسَنَاتٌ وَالسَّيِّئَاتِ : سَيِّئَاتٌ وَهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا . وَحُكْمُ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَلَا يُؤْمَرُونَ بِهِ . وَلَا يُجْعَلُ حَظُّ أَنْفُسِهِمْ عُذْرًا لَهُمْ فِي فِعْلِهِمْ ؛ إذَا لَمْ تَكُنْ الشَّرِيعَةُ عَذَرَتْهُمْ ؛ لَكِنْ يُؤْمَرُونَ بِمَا فَعَلُوهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَيُحَضُّونَ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَيُرَغَّبُونَ فِيهِ . وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهُ إلَّا بِالسَّيِّئَاتِ الْمَرْجُوحَةِ ؛ كَمَا يُؤْمَرُ الْأُمَرَاءُ بِالْجِهَادِ ؛ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُجَاهِدُونَ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي تَقِلُّ مَفْسَدَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ . ثُمَّ إذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ إذَا نُهُوا عَنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ تَرَكُوا الْحَسَنَاتِ الرَّاجِحَةَ الْوَاجِبَةَ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا ؛ لِمَا فِي النَّهْيِ عَنْهَا مِنْ مَفْسَدَةِ تَرْكِ الْحَسَنَاتِ الْوَاجِبَةِ ؛ إلَّا أَنْ يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَيُفْعَلُ حِينَئِذٍ تَمَامُ الْوَاجِبِ كَمَا كَانَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَعْمِلُ مَنْ فِيهِ فَجُوِّرَ ؛ لِرُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ فِي عَمَلِهِ ؛ ثُمَّ يُزِيلُ فُجُورَهُ بِقُوَّتِهِ وَعَدْلِهِ . وَيَكُونُ تَرْكُ النَّهْيِ عَنْهَا حِينَئِذٍ : مِثْلَ تَرْكِ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ أَوْ بِالسِّلَاحِ إذَا كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمُنْكَرِ . فَإِذَا كَانَ النَّهْيُ مُسْتَلْزِمًا فِي الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لِتَرْكِ الْمَعْرُوفِ الرَّاجِحِ : كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِفِعْلِ الْمُنْكَرِ الرَّاجِحِ كَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا صَلَاتَيْنِ كَمَا هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَوْ يَفْعَلُ بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَوْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ . فَفَرْقٌ بَيْنَ تَرْكِ الْعَالِمِ أَوْ الْأَمِيرِ لِنَهْيِ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ الشَّيْءِ إذَا كَانَ فِي النَّهْيِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ وَبَيْنَ إذْنِهِ فِي فِعْلِهِ . وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ . فَفِي حَالٍ أُخْرَى يَجِبُ إظْهَارُ النَّهْيِ : إمَّا لِبَيَانِ التَّحْرِيمِ وَاعْتِقَادِهِ وَالْخَوْفِ مِنْ فِعْلِهِ . أَوْ لِرَجَاءِ التَّرْكِ . أَوْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ ؛ وَلِهَذَا تَنَوَّعَ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَجِهَادِهِ وَعَفْوِهِ ؛ وَإِقَامَتِهِ الْحُدُودَ وَغِلْظَتِهِ وَرَحْمَتِهِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
قَدْ ذَكَرْت فِيمَا تَقَدَّمَ : الْكَلَامُ عَلَى " الْمُلْكِ " : هَلْ
هُوَ جَائِزٌ فِي شَرِيعَتِنَا وَلَكِنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ مُسْتَحَبَّةٌ
وَأَفْضَلُ مِنْهُ ؟ أَمْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ وَاجِبَةٌ ؟ وَإِنَّمَا
تَجْوِيزٌ تَرْكِهَا إلَى الْمُلْكِ لِلْعُذْرِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ ؟
تَكَلَّمْت عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا ؛ فَإِنَّ
الْمُلْكَ جَائِزٌ ؛ كَالْغِنَى يَكُونُ لِلْأَنْبِيَاءِ تَارَةً وَلِلصَّالِحِينَ
أُخْرَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي دَاوُد : { وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } وَقَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ : { رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ } وَقَالَ عَنْ يُوسُفَ : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ
الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةُ
أَنْبِيَاءٍ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ آتَاهُمْ الْمُلْكَ وَقَالَ : { أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا
آلَ إبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } {
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ
سَعِيرًا } فَهَذَا مُلْكٌ لِآلِ إبْرَاهِيمَ وَمُلْكٌ لِآلِ دَاوُد وَقَدْ قَالَ
مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ } قَالَ :
النُّبُوَّةُ فَجَعَلَ النُّبُوَّةَ نَفْسَهَا مُلْكًا .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِنْ النُّبُوَّةِ مَا يَكُونُ مُلْكًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إمَّا أَنْ يَكْذِبَ ؛ وَلَا يَتَّبِعَ وَلَا يُطَاعَ : فَهُوَ نَبِيٌّ لَمْ يُؤْتَ مُلْكًا . وَإِمَّا أَنْ يُطَاعَ . فَنَفْسُ كَوْنِهِ مُطَاعًا هُوَ مُلْكٌ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا أُمِرَ بِهِ : فَهُوَ عَبْدٌ رَسُولٌ لَيْسَ لَهُ مُلْكٌ . وَإِنْ كَانَ يَأْمُرُ بِمَا يُرِيدُهُ مُبَاحًا لَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَكِ كَمَا قِيلَ لِسُلَيْمَانَ : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فَهَذَا نَبِيٌّ مَلَكٌ . فَالْمَلَكُ هُنَا قَسِيمُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ كَمَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اخْتَرْ إمَّا عَبْدًا رَسُولًا وَإِمَّا نَبِيًّا مَلَكًا } . وَأَمَّا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ " الطَّاعَةُ وَالِاتِّبَاعُ " فَقِسْمٌ مِنْ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَهَؤُلَاءِ أَكْمَلُ . وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ عَبْدًا رَسُولًا . مُؤَيَّدًا مُطَاعًا مَتْبُوعًا فَأُعْطِيَ فَائِدَةَ كَوْنِهِ مُطَاعًا مَتْبُوعًا لِيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ اتَّبَعَهُ وَلِيَنْتَفِعَ بِهِ الْخَلْقُ وَيُرْحَمُوا بِهِ . وَيُرْحَمُ بِهِمْ . وَلَمْ يَخْتَرْ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا لِئَلَّا يُنْقَصَ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِالرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ عَنْ نَصِيبِهِ فِي الْآخِرَةِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ النَّبِيِّ الْمَلَكِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَمْرُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ : أَفْضَلَ مِنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ . وَيُوسُفَ حَتَّى إنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ طَعَنَ فِي نُبُوَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ كَمَا يَطْعَنُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي وِلَايَةِ بَعْضِ أَهْلِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا " الْمُلُوكُ الصَّالِحُونَ " فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا } { إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } الْآيَةُ . قَالَ مُجَاهِدٌ : مَلَكَ الْأَرْضَ مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ فَالْمُؤْمِنَانِ سُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ . وَالْكَافِرَانِ بختنصر ونمرود وَسَيَمْلِكُهَا خَامِسٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وقَوْله تَعَالَى { يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } . وَأَمَّا " جِنْسُ الْمُلُوكِ " فَكَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ : { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } وَقَوْلِهِ : { وَقَالَ الْمَلِكُ إنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ } .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَأَكْمَلَ لِأُمَّتِهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ وَجَعَلَهُ
عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَهَا وَلَا يَتَّبِعْ
سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَمُصَدِّقًا لَهَا وَجَعَلَ لَهُ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا وَشَرَعَ لِأُمَّتِهِ سُنَنَ الْهُدَى ؛ وَلَنْ يَقُومَ الدِّينُ
إلَّا بِالْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَدِيدِ . كِتَابٌ يَهْدِي بِهِ وَحَدِيدٌ
يَنْصُرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ } فَالْكِتَابُ بِهِ يَقُومُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ . وَالْمِيزَانُ بِهِ
تَقُومُ الْحُقُوقُ فِي الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ والقبوض . وَالْحَدِيدُ بِهِ
تَقُومُ الْحُدُودُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ . وَلِهَذَا كَانَ فِي
الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْكِتَابُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ .
وَالْمِيزَانُ لِلْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَأَهْلِ الدِّيوَانِ . وَالْحَدِيدُ
لِلْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ . وَالْكِتَابُ لَهُ الصَّلَاةُ ؛ وَالْحَدِيدُ لَهُ
الْجِهَادُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ
فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَكَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ : اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك يَشْهَدْ
لَك صَلَاةً ؛ وَيَنْكَأْ لَك عَدُوًّا } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ
سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَالصَّلَاةُ أَوَّلُ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ ؛ وَأَصْلُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهَا إيمَانًا فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . هَكَذَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ وَقَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } وَقَالَ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } فَوَصَفَهُمْ بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } فَوَصَفَهُمْ بِالشِّدَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالضَّلَالِ . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ فَقِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ } مَعَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَمَّا سَأَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَإِنَّ قَوْلَهُ " إيمَانٌ بِاَللَّهِ " دَخَلَ فِيهِ الصَّلَاةُ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ ؛ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالِدَانِ . فَالْأَوَّلُ مُطْلَقٌ وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ بِمَنْ لَهُ وَالِدَانِ .
وَلِهَذَا كَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ - فِي الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ - أَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ إمَامًا فِي هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا : الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ . فَاَلَّذِي يَؤُمُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ يَؤُمُّهُمْ فِي الْجِهَادِ وَأَمْرُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ وَاحِدٌ فِي الْمُقَامِ وَالسَّفَرِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى بَلَدٍ : مِثْلَ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي العاص عَلَى الطَّائِفِ . وَغَيْرِهِمَا : كَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ غَزْوَةٍ ؛ كَاسْتِعْمَالِهِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَابْنَهُ أُسَامَةَ وَعَمْرَو بْنَ العاص وَغَيْرَهُمْ : كَانَ أَمِيرُ الْحَرْبِ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ ؛ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمُسْلِمُونَ بِتَقْدِيمِهِ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّهُ قَدَّمَهُ فِي الْإِمَامَةِ الْعَامَّةِ . وَكَذَلِكَ كَانَ أُمَرَاءُ " الصِّدِّيقِ " - كيزيد بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَشُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ . وَعَمْرِو بْنِ العاص وَغَيْرِهِمْ - أَمِيرُ الْحَرْبِ هُوَ إمَامُ الصَّلَاةِ . وَكَانَ نُوَّابَ " عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " كَاسْتِعْمَالِهِ عَلَى الْكُوفَةِ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَلَى الْحَرْبِ وَالصَّلَاةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْقَضَاءِ وَبَيْتِ الْمَالِ وَعُثْمَانَ بْنِ حنيف عَلَى الْخَرَاجِ . وَمِنْ هُنَا أَخَذَ النَّاسُ وِلَايَةَ الْحَرْبِ وَوِلَايَةَ الْخَرَاجِ وَوِلَايَةَ الْقَضَاءِ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا انْتَشَرَ الْمُؤْمِنُونَ وَغَلَبُوا الْكَافِرِينَ عَلَى الْبِلَادِ وَفَتَحُوهَا وَاحْتَاجُوا إلَى زِيَادَةٍ فِي التَّرْتِيبِ : وَضَعَ
لَهُمْ
" الدِّيوَانَ " دِيوَانَ الْخَرَاجِ لِلْمَالِ الْمُسْتَخْرَجِ
وَدِيوَانَ الْعَطَاءِ وَالنَّفَقَاتِ لِلْمَالِ الْمَصْرُوفِ وَمَصَّرَ لَهُمْ
الْأَمْصَارَ : فَمَصَّرَ الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ وَمَصَّرَ الْفُسْطَاطَ ؛
فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْثِرْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ
نَهْرٌ عَظِيمٌ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ ؛ فَجَعَلَ هَذِهِ
الْأَمْصَارَ مِمَّا يَلِيهِ .
فَصْلٌ :
وَكَانَتْ " مَوَاضِعُ الْأَئِمَّةِ وَمَجَامِعُ الْأُمَّةِ " هِيَ
الْمَسَاجِدَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَّسَ
مَسْجِدَهُ الْمُبَارَكَ عَلَى التَّقْوَى : فَفِيهِ الصَّلَاةُ وَالْقِرَاءَةُ
وَالذِّكْرُ ؛ وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ وَالْخُطَبُ . وَفِيهِ السِّيَاسَةُ وَعَقْدُ
الْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ وَتَأْمِيرُ الْأُمَرَاءِ وَتَعْرِيفُ الْعُرَفَاءِ .
وَفِيهِ يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُ لِمَا أَهَمَّهُمْ مِنْ أَمْرِ
دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . وَكَذَلِكَ عُمَّالُهُ فِي : مِثْلِ مَكَّةَ
وَالطَّائِفِ وَبِلَادِ الْيَمَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى
وَكَذَلِكَ عُمَّالُهُ عَلَى الْبَوَادِي ؛ فَإِنَّ لَهُمْ مَجْمَعًا فِيهِ
يُصَلُّونَ وَفِيهِ يُسَاسُونَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ ؛ كُلَّمَا
ذَهَبَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَتَكُونُ
خُلَفَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ قَالَ :
أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ وَاسْأَلُوا اللَّهَ لَكُمْ ؛
فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا استرعاهم } .
وَكَانَ
" الْخُلَفَاءُ وَالْأُمَرَاءُ " يَسْكُنُونَ فِي بُيُوتِهِمْ كَمَا
يَسْكُنُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي بُيُوتِهِمْ ؛ لَكِنَّ مَجْلِسَ الْإِمَامِ
الْجَامِعَ هُوَ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ . وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
قَدْ بَنَى لَهُ بِالْكُوفَةِ قَصْرًا وَقَالَ : أَقْطَعُ عَنِّي النَّاسُ
فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُحَمَّدَ بْنَ مسلمة وَأَمَرَهُ أَنْ
يُحْرِقَهُ فَاشْتَرَى مِنْ نَبَطِيٍّ حُزْمَة حَطَبٍ وَشَرْطٍ عَلَيْهِ حَمَلَهَا
إلَى قَصْرِهِ فَحَرَقَهُ ؛ فَإِنَّ عُمْر كُرْه لِلْوَالِي الِاحْتِجَاب عَنْ
رَعِيَّتِهِ ؛ وَلَكِنْ بُنِيَتْ قُصُورُ الْأُمَرَاءِ . فَلَمَّا كَانَتْ إمَارَة
مُعَاوِيَة احْتَجَبَ لِمَا خَافَ أَنْ يَغْتَالَ كَمَا اُغْتِيلَ عَلَيَّ
وَاُتُّخِذَ الْمَقَاصِير فِي الْمَسَاجِدِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا ذُو السُّلْطَانِ
وَحَاشِيَته وَاِتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ ؛ فَاسْتَنَّ بِهِ الْخُلَفَاءُ الْمُلُوك
بِذَلِكَ فَصَارُوا مَعَ كَوْنِهِمْ يَتَوَلَّوْنَ الْحَرْبَ وَالصَّلَاةَ
بِالنَّاسِ وَيُبَاشِرُونَ الْجُمْعَة وَالْجَمَاعَة وَالْجِهَاد وَإِقَامَة
الْحُدُودِ : لَهُمْ قُصُور يَسْكُنُونَ فِيهَا وَيَغْشَاهُمْ رُءُوس النَّاسِ
فِيهَا كَمَا كَانَتْ " الْخَضْرَاء " لِبَنِي أُمِّيَّة قَبَلِيّ
الْمَسْجِد الْجَامِع وَالْمَسَاجِد يَجْتَمِعُ فِيهَا لِلْعِبَادَاتِ وَالْعِلْمِ
وَنَحْوَ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
طَالَ الْأَمَدُ وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ وَتَمَسَّكَ كُلُّ قَوْمٍ بِشُعْبَةِ
مِنْ الدِّينِ بِزِيَادَاتِ زَادُوهَا فَأَعْرَضُوا عَنْ شُعْبَةٍ مِنْهُ أُخْرَى
. أَحْدَثَتْ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ " الْقِلَاعَ وَالْحُصُونَ "
وَإِنَّمَا كَانَتْ تُبْنَى الْحُصُونُ وَالْمَعَاقِلُ قَدِيمًا فِي الثُّغُورِ
خَشْيَةَ
أَنْ يَدْهَمَهَا الْعَدُوُّ ؛ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْهَا وَكَانُوا يُسَمُّونَ الثُّغُورَ الشَّامِيَّةَ " الْعَوَاصِمَ " وَهِيَ قنسرين وَحَلَبُ . وَأُحْدِثَتْ " الْمَدَارِسُ " لِأَهْلِ الْعِلْمِ . وَأُحْدِثَتْ " الرُّبُطُ وَالْخَوَانِقُ " لِأَهْلِ التَّعَبُّدِ . وَأَظُنُّ مَبْدَأَ انْتِشَارِ ذَلِكَ فِي " دَوْلَةِ السَّلَاجِقَةِ " . فَأَوَّلُ مَا بُنِيَتْ الْمَدَارِسُ وَالرِّبَاطَاتُ لِلْمَسَاكِينِ وَوُقِفَتْ عَلَيْهَا وُقُوفٌ تَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا فِي وِزَارَةِ " نِظَامِ الْمَلِكِ " . وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ ذِكْرُ الْمَدَارِسِ وَذِكْرُ الرُّبُطِ ؛ لَكِنْ مَا أَظُنُّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا لِأَهْلِهَا ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ مَسَاكِنَ مُخْتَصَّةً وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ مَعْمَرُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوَاحِدِيِّ فِي " أَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ " أَنَّ أَوَّلَ دويرة بُنِيَتْ لَهُمْ فِي الْبَصْرَةِ . وَأَمَّا " الْمَدَارِسُ " فَقَدْ رَأَيْت لَهَا ذِكْرًا قَبْلَ دَوْلَةِ السَّلَاجِقَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَدَوْلَتُهُمْ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ وَكَذَلِكَ هَذِهِ " الْقِلَاعُ وَالْحُصُونُ " الَّتِي بِالشَّامِ عَامَّتُهَا مُحْدَثٌ كَمَا بَنَى الْمَلِكُ الْعَادِلُ قَلْعَةَ دِمَشْقَ وبصرى وَحَرَّانَ وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا كَثِيرِي الْغَزْوِ إلَيْهِمْ وَكَانَ النَّاسُ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ قَدْ ضَعُفُوا عَنْ دِفَاعِ النَّصَارَى عَنْ السَّوَاحِلِ حَتَّى اسْتَعْلَوْا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ثُغُورِ الشَّامِ السَّاحِلِيَّةِ .
فَصْلٌ
:
فِي " الْخِلَافَةِ وَالسُّلْطَانِ " وَكَيْفِيَّةِ كَوْنِهِ ظِلَّ
اللَّهِ فِي الْأَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ
بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ } . وَقَوْلُهُ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } يَعُمُّ
آدَمَ وَبَنِيهِ ؛ لَكِنَّ الِاسْمَ مُتَنَاوِلٌ لِآدَمَ عَيْنًا كَقَوْلِهِ : {
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } وَقَوْلُهُ : { خَلَقَ
الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } { وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ
مِنْ نَارٍ } وَقَوْلُهُ : { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ } { ثُمَّ
جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ بَيْنَ
" دَاوُد وَآدَمَ " مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَا أَحَبَّ بِهِ دَاوُد حِينَ
أَرَاهُ ذُرِّيَّتَهُ وَسَأَلَ عَنْ عُمْرِهِ ؟ فَقِيلَ : أَرْبَعُونَ سَنَةً .
فَوَهَبَهُ مِنْ عُمْرِهِ الَّذِي هُوَ أَلْفُ سَنَةٍ سِتِّينَ سَنَةً .
وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ ؛ وَلِهَذَا
كِلَاهُمَا اُبْتُلِيَ بِمَا ابْتَلَاهُ بِهِ مِنْ الْخَطِيئَةِ كَمَا أَنَّ
كُلًّا مِنْهُمَا
مُنَاسَبَةٌ
لِلْأُخْرَى ؛ إذْ جِنْسُ الشَّهْوَتَيْنِ وَاحِدٌ وَرَفْعُ دَرَجَتِهِ
بِالتَّوْبَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي نَالَ بِهَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ
وَفَرَحِهِ بِهِ مَا نَالَ وَيُذْكَرُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْبُكَاءِ
وَالنَّدَمِ وَالْحُزْنِ مَا يُنَاسِبُ بَعْضُهُ بَعْضًا .
" وَالْخَلِيفَةُ " هُوَ مَنْ كَانَ خَلَفًا عَنْ غَيْرِهِ . فَعِيلَةٌ
بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ . كَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا
سَافَرَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي
الْأَهْلِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا
فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } وَقَالَ : {
أَوَكُلَّمَا خَرَجْنَا فِي الْغَزْوِ خَلْفَ أَحَدِهِمْ وَلَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ
التَّيْسِ يَمْنَحُ إحْدَاهُنَّ اللَّبِنَةَ مِنْ اللَّبِنِ لَئِنْ أَظْفَرَنِي
اللَّهُ بِأَحَدِ مِنْهُمْ لَأَجْعَلَنَّهُ نَكَالًا } وَفِي الْقُرْآنِ : {
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ } وَقَوْلُهُ : { فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ } .
وَالْمُرَادُ " بِالْخَلِيفَةِ " أَنَّهُ خَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ
مِنْ الْخَلْقِ . وَالْخَلْفُ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَنَّهُ خَلَفَهُ عَلَى أُمَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَكَمَا { كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَافَرَ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ
غَزْوَةٍ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَنْ يَكُونُ خَلِيفَةً لَهُ مُدَّةً
مُعَيَّنَةً } . فَيَسْتَخْلِفُ تَارَةً ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَتَارَةً غَيْرَهُ
{ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ . } وَتُسَمَّى
الْأَمْكِنَةُ الَّتِي يَسْتَخْلِفُ فِيهَا الْإِمَامُ " مَخَالِيفَ "
مِثْلَ : مَخَالِيفِ الْيَمَنِ وَمَخَالِيفِ أَرْضِ الْحِجَازِ وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ : { حَيْثُ خَرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ } وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } - إلَى قَوْله تَعَالَى - { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } الْآيَةُ . وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْقَائِلِينَ الغالطين - كَابْنِ عَرَبِيٍّ - أَنَّ " الْخَلِيفَةَ " هُوَ الْخَلِيفَةُ عَنْ اللَّهِ مِثْلَ نَائِبِ اللَّهِ ؛ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَخْلَفًا وَرُبَّمَا فَسَّرُوا " تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " الَّتِي جَمَعَ مَعَانِيهَا الْإِنْسَانُ . وَيُفَسِّرُونَ " خَلْقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ الْفَلَاسِفَةِ قَوْلَهُمْ : الْإِنْسَانُ هُوَ الْعَالِمُ الصَّغِيرُ . وَهَذَا قَرِيبٌ . وَضَمُّوا إلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالِمُ الْكَبِيرُ ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ الكفري فِي وِحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ . فَالْإِنْسَانُ مِنْ بَيْنِ الْمَظَاهِرِ هُوَ الْخَلِيفَةُ الْجَامِعُ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مَا يَصِيرُونَ إلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ الْمُخْرِجَةِ لَهُمْ إلَى الْفِرْعَوْنِيَّةِ والقرمطية وَالْبَاطِنِيَّةِ وَرُبَّمَا جَعَلُوا " الرِّسَالَةَ " مَرْتَبَةً مِنْ الْمَرَاتِبِ وَأَنَّهُمْ أَعْظَمُ مِنْهَا فَيُقِرُّونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ والوحدانية وَالْأُلُوهِيَّةِ ؛ وَبِالرِّسَالَةِ وَيَصِيرُونَ فِي الْفِرْعَوْنِيَّةِ . هَذَا إيمَانُهُمْ . أَوْ يَخْرُجُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ أَنْ يَصِيرُوا ( سُدًى لَا أَمْرَ عَلَيْهِمْ وَلَا نَهْيَ ؛ وَلَا إيجَابَ وَلَا تَحْرِيمَ .
وَاَللَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ خَلِيفَةٌ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ : يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ قَالَ : لَسْت بِخَلِيفَةِ اللَّهِ ؛ وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبِي ذَلِكَ . بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَكُونُ خَلِيفَةً لِغَيْرِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا } وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ حَيٌّ شَهِيدٌ مُهَيْمِنٌ قَيُّومٌ رَقِيبٌ حَفِيظٌ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ وَلَا ظَهِيرٌ وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ . وَالْخَلِيفَةُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْتَخْلَفِ بِمَوْتِ أَوْ غَيْبَةٍ وَيَكُونُ لِحَاجَةِ الْمُسْتَخْلَفِ إلَى الِاسْتِخْلَافِ . وَسُمِّيَ " خَلِيفَةً " لِأَنَّهُ خُلِّفَ عَنْ الْغَزْوِ وَهُوَ قَائِمٌ خَلْفَهُ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهَا ؛ فَإِنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ شَهِيدٌ لَا يَمُوتُ وَلَا يَغِيبُ وَهُوَ غَنِيٌّ يَرْزُقُ وَلَا يَرْزُقُ يَرْزُقُ عِبَادَهُ وَيَنْصُرُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ وَيُعَافِيهِمْ : بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَلْقِهِ وَاَلَّتِي هِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ كَافْتِقَارِ الْمُسَبَّبَاتِ إلَى أَسْبَابِهَا . فَاَللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ خَلَفًا مِنْهُ وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا كُفْءَ لَهُ . فَمَنْ جَعَلَ لَهُ خَلِيفَةً فَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ { السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يَأْوِي إلَيْهِ كُلُّ ضَعِيفٍ وَمَلْهُوفٍ } وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الظِّلَّ مُفْتَقِرٌ إلَى آوٍ وَهُوَ رَفِيقٌ لَهُ
مُطَابِقٌ لَهُ نَوْعًا مِنْ الْمُطَابَقَةِ وَالْآوِي إلَى الظِّلِّ الْمُكْتَنِفِ بِالْمُظِلِّ صَاحِبُ الظِّلِّ فَالسُّلْطَانُ عَبْدُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ؛ وَفِيهِ مِنْ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ وَالْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي السُّؤْدُدِ وَالصَّمَدِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْخَلْقِ مَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ظِلَّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يُصْلِحُ أُمُورَ خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ فَإِذَا صَلَحَ ذُو السُّلْطَانِ صَلَحَتْ أُمُورُ النَّاسِ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَتْ بِحَسَبِ فَسَادِهِ ؛ وَلَا تَفْسُدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَصَالِحَ ؛ إذْ هُوَ ظِلُّ اللَّهِ ؛ لَكِنَّ الظِّلَّ تَارَةً يَكُونُ كَامِلًا مَانِعًا مِنْ جَمِيعِ الْأَذَى . وَتَارَةً لَا يَمْنَعُ إلَّا بَعْضَ الْأَذَى . وَأَمَّا إذَا عُدِمَ الظِّلُّ فَسَدَ الْأَمْرُ كَعَدَمِ سِرِّ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِيَامُ الْأُمَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَالَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- :
فَصْلٌ :
حَكَى أَصْحَابُنَا - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ - عَنْ الْإِمَامِ
أَحْمَد فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ هَلْ ثَبَتَتْ بِاخْتِيَارِ الْمُسْلِمِينَ
لَهُ ؟ أَوْ بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؟ أَوْ الْبَيِّنِ ؟ " أَحَدُهُمَا " بِالِاخْتِيَارِ وَهُوَ
قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ .
وَالْمُتَكَلِّمِين : كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . و
" الثَّانِيَةُ " بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفِ أَهْلِ
الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ . وَبَعْضُ
أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُونَ بِالنَّصِّ الْجَلِيِّ . وَأَمَّا قَوْلُ
" الْإِمَامِيَّةِ " إنَّهَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ الْجَلِيِّ عَلَى
عَلِيٍّ . وَقَوْلُ " الزَّيْدِيَّةِ الجارودية " إنَّهَا بِالنَّصِّ
الْخَفِيِّ عَلَيْهِ . وَقَوْلُ " الراوندية " إنَّهَا بِالنَّصِّ عَلَى
الْعَبَّاسِ . فَهَذِهِ أَقْوَالٌ ظَاهِرَةُ الْفَسَادِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَالدِّينِ . وَإِنَّمَا يَدِينُ بِهَا . إمَّا جَاهِلٌ وَإِمَّا ظَالِمٌ .
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدِينُ بِهَا زِنْدِيقٌ .
وَالتَّحْقِيقُ فِي " خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ " وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَد : أَنَّهَا انْعَقَدَتْ بِاخْتِيَارِ الصَّحَابَةِ وَمُبَايَعَتِهِمْ لَهُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِوُقُوعِهَا عَلَى سَبِيلِ الْحَمْدِ لَهَا وَالرِّضَى بِهَا ؛ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ دَلَّ الْأُمَّةَ وَأَرْشَدَهُمْ إلَى بَيْعَتِهِ . فَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ : الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ وَالْإِرْشَادُ : ثَابِتٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . " فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ : { رَأَيْت كَأَنِّي عَلَى قَلِيبٍ أَنْزِعُ مِنْهَا فَأَتَى ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ . ذَنُوبًا أَوْ ذنوبين } الْحَدِيثُ وَكَقَوْلِهِ : { كَأَنَّ مِيزَانًا دُلِّيَ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ . فَوُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ } الْحَدِيثُ . وَكَقَوْلِهِ : { اُدْعِي لِي أَبَاك وَأَخَاك حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي ثُمَّ قَالَ : يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ } . فَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ : لَا يَعْقِدُونَهَا إلَّا لِأَبِي بَكْرٍ الَّذِي هُمْ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ . وَكَقَوْلِهِ : { أُرِيَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللَّهِ } الْحَدِيثُ وَقَوْلُهُ : { خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا } وَأَمَّا " الْأَمْرُ " فَكَقَوْلِهِ : { اقْتَدَوْا بالذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } وَقَوْلِهِ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي } { وَقَوْلِهِ : لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ إنْ لَمْ أَجِدْك ؟ قَالَ : فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ } { وَقَوْلِهِ لِأَصْحَابِ الصَّدَقَاتِ : إذَا لَمْ تَجِدُوهُ أَعْطُوهَا لِأَبِي بَكْرٍ } وَنَحْوَ ذَلِكَ .
و " الثَّالِثُ " تَقْدِيمُهُ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُ : { سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ } وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَمَزَايَاهُ . وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الثَّابِتَةُ بِالسُّنَّةِ دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ . " فَالْأَوَّلُ " فِي قَوْلِهِ : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } الْآيَةُ : وَقَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَقَوْلِهِ : { وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } وَالثَّانِي قَوْلُهُ : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } الْآيَةُ . وَالثَّالِثُ كَقَوْلِهِ : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } وَقَوْلِهِ : { النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَثَبَتَتْ صِحَّةُ خِلَافَتِهِ وَوُجُوبُ طَاعَتِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَتْ إنَّمَا انْعَقَدَتْ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِيَارِ . كَمَا أَنَّ اللَّهَ إذَا أَمَرَ بِتَوْلِيَةِ شَخْصٍ أَوْ إنْكَاحِهِ . أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ مَعَهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِعَقْدِ الْوِلَايَةِ وَالنِّكَاحِ وَالنُّصُوصُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ بِذَلِكَ الْعَقْدِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ فَالنُّصُوصُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاخْتِيَارِهِ وَالْعَقْدُ لَهُ وَأَنَّ اللَّهَ يَرْضَى ذَلِكَ وَيُحِبُّهُ . وَأَمَّا حُصُولُ الْمَأْمُورِ بِهِ الْمَحْبُوبِ : فَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِامْتِثَالِ . فَلَمَّا امْتَثَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ عَقَدُوا لَهُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَكَانَ هَذَا أَفْضَلَ فِي حَقِّهِمْ وَأَعْظَمَ فِي دَرَجَتِهِمْ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فِي " قِتَالِ عَلِيٍّ وَمَنْ حَارَبَهُ " عَلَى
أَقْوَالٍ :
أَمَّا " الْخَوَارِجُ " فَتُكَفِّرُ الطَّائِفَتَانِ الْمُقْتَتِلَانِ
جَمِيعًا . (*)
وَأَمَّا " الرَّافِضَةُ " فَتُكَفِّرُ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا ؛ مَعَ
الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ حَكَمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ
وَمَنَعَ مِنْ تَكْفِيرِهِمْ . وَلَهُمْ فِي قِتَالِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ؛
وَعَائِشَةَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : " أَحَدُهَا " تَفْسِيقُ إحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ ؛ لَا بِعَيْنِهَا . وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ
وَأَصْحَابِهِ . و " الثَّانِي " تَفْسِيقُ مَنْ قَاتَلَهُ إلَّا مَنْ تَابَ
وَيَقُولُونَ : إنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ تَابُوا وَهَذَا
مُقْتَضَى مَا حُكِيَ عَنْ جُمْهُورِهِمْ ؛ كَأَبِي الهذيل وَأَصْحَابِهِ وَأَبِي
الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ . وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى تَخْطِئَتِهِ فِي
قِتَالِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ؛ دُونَ قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ . فَفِي
الْجُمْلَةِ " أَهْلُ الْبِدَعِ " : مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ
وَالْمُعْتَزِلَةِ ؛ وَنَحْوِهِمْ : يَجْعَلُونَ الْقِتَالَ مُوجِبًا لِكُفْرِ
أَوْ لِفِسْقِ .
وَأَمَّا
" أَهْلُ السُّنَّةِ " فَمُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَالَةِ الْقَوْمِ ؛ ثُمَّ
لَهُمْ فِي التَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ مَذَاهِبُ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ .
" أَحَدُهَا " أَنَّ الْمُصِيبَ عَلِيٌّ فَقَطْ . و " الثَّانِي
" الْجَمِيعُ مُصِيبُونَ . و " الثَّالِثُ " الْمُصِيبُ وَاحِدٌ ؛
لَا بِعَيْنِهِ . و " الرَّابِعُ " الْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ مُطْلَقًا ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ هُمْ
أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ كَمَا فِي حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ لَمَّا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ
فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ
} وَهَذَا فِي حَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَرْبَ
الْجَمَلِ فِتْنَةٌ وَأَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ فِيهَا أَوْلَى فَعَلَى هَذَا
نُصُوصُ أَحْمَد وَأَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَذَلِكَ الشِّجَارُ
بِالْأَلْسِنَةِ وَالْأَيْدِي أَصْلٌ لِمَا جَرَى بَيْنَ الْأُمَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ
؛ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا . فَلْيَعْتَبِرْ الْعَاقِلُ بِذَلِكَ ؛ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ طَائِفَتَيْنِ مِنْ الْفَلَّاحِينَ اقْتَتَلَتَا فَكَسَرَتْ إحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى ؛ وَانْهَزَمَتْ الْمَكْسُورَةُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ
جَمَاعَةٌ : فَهَلْ يُحْكَمُ لِلْمَقْتُولِينَ مِنْ الْمَهْزُومِينَ بِالنَّارِ
وَيَكُونُونَ دَاخِلِينَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكُونُ حُكْمُ
الْمُنْهَزِمِ حُكْمَ مَنْ يَقْتُلُ مِنْهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الْمُنْهَزِمُ قَدْ انْهَزَمَ بِنِيَّةِ
التَّوْبَةِ عَنْ الْمُقَاتَلَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالنَّارِ
فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ
السَّيِّئَاتِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ انْهِزَامُهُ عَجْزًا فَقَطْ وَلَوْ قَدَرَ
عَلَى خَصْمِهِ لَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا
فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا
الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ }
فَإِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي النَّارِ لِأَنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ
فَالْمُنْهَزِم بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْإِرَادَةِ
وَالْفِعْلِ وَالْمَقْتُولُ أَصَابَهُ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَمْ يُصِبْ
الْمَهْزُومَ ؛ ثُمَّ إذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ مُكَفِّرَةً لِإِثْمِ
الْمُقَاتَلَةِ فَلَأَنْ لَا تَكُونَ مُصِيبَةُ الْهَزِيمَةِ مُكَفِّرَةً أَوْلَى
؛ بَلْ إثْمُ الْمُنْهَزِمِ الْمُصِرِّ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ
الْمَقْتُولِ فِي الْمَعْرَكَةِ وَاسْتِحْقَاقُهُ لِلنَّارِ أَشَدُّ ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ السَّيِّئُ بِمَوْتِهِ ؛ وَهَذَا مُصِرٌّ عَلَى
الْخُبْثِ الْعَظِيمِ ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ
مُنْهَزِمَ الْبُغَاةِ يُقْتَلُ إذَا كَانَ لَهُ طَائِفَةٌ يَأْوِي إلَيْهَا
فَيُخَافُ عَوْدُهُ ؛ بِخِلَافِ الْمُثْخَنِ بِالْجُرْحِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَا
يُقْتَلُ . وَسَبَبُهُ أَنَّ هَذَا انْكَفَّ شَرُّهُ وَالْمُنْهَزِمُ لَمْ
يَنْكَفْ شَرُّهُ . وَأَيْضًا فَالْمَقْتُولُ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ بِمُصِيبَةِ
الْقَتْلِ قَدْ يُخَفَّفُ عَنْهُ الْعَذَابُ ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ
وَمُصِيبَةُ الْهَزِيمَةِ دُونَ مُصِيبَةِ الْقَتْلِ . فَظَهَرَ أَنَّ
الْمَهْزُومَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمَقْتُولِ إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى قَتْلِ
أَخِيهِ . وَمَنْ تَابَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ " : هَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ
مُتَرَادِفَةٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ؟ أَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ؟ وَهَلْ فَرَّقَتْ
الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمَا أَمْ لَا ؟
وَإِذَا ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ الْأَئِمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ
بَيْنَهُمْ إلَّا فِي الِاسْمِ ؛ وَخَالَفَهُ مُخَالِفٌ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَّقَ بَيْنَ أَهْلِ
الشَّامِ وَأَهْلِ النهروان : فَهَلْ الْحَقُّ مَعَ الْمُدَّعِي ؟ أَوْ مَعَ
مُخَالِفِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ الْأَئِمَّةَ اجْتَمَعَتْ
عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي الِاسْمِ . فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ وَمُدَّعِيهَا
مُجَازِفٌ فَإِنَّ نَفْيَ الْفَرْقِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ
: مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي " قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ
" فَإِنَّهُمْ قَدْ يَجْعَلُونَ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ
وَقِتَالَ عَلِيٍّ الْخَوَارِجَ وَقِتَالَهُ لِأَهْلِ الْجَمَلِ وصفين إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ قِتَالِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ . مِنْ بَابِ "
قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ "
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِ وَلَا فِسْقٍ ؛ بَلْ مُجْتَهِدُونَ : إمَّا مُصِيبُونَ وَإِمَّا مُخْطِئُونَ . وَذُنُوبُهُمْ مَغْفُورَةٌ لَهُمْ . وَيُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْبُغَاةَ لَيْسُوا فُسَّاقًا فَإِذَا جُعِلَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ سَوَاءً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْخَوَارِجُ وَسَائِرُ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْبَاقِينَ عَلَى الْعَدَالَةِ سَوَاءً ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ بِفِسْقِ الْبُغَاةِ وَلَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ " الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ " وَبَيْنَ " أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين " وَغَيْرِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين . مِمَّنْ يُعَدُّ مِنْ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ . وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَعَلَيْهِ نُصُوصُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ } وَهَذَا الْحَدِيث يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمَارِقِينَ نَوْعٌ ثَالِثٌ لَيْسُوا
مِنْ جِنْسِ أُولَئِكَ ؛ فَإِنَّ طَائِفَةَ عَلِيٍّ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ طَائِفَةِ مُعَاوِيَةَ . وَقَالَ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ : { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي لَفْظٍ : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ } . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَحَادِيثَهُمْ فِي الصَّحِيحِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ وَرَوَى هَذَا الْبُخَارِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ ؛ وَهِيَ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَلَقَّاةٌ بِالْقَبُولِ أَجْمَعَ عَلَيْهَا عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجِ . وَأَمَّا " أَهْلُ الْجَمَلِ وصفين " فَكَانَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَاتَلَتْ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَأَكْثَرُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُقَاتِلُوا لَا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَلَا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَاسْتَدَلَّ التَّارِكُونَ لِلْقِتَالِ بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا قِتَالُ فِتْنَةٍ . وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَسْرُورًا لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَيَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ ؛ وَأَمَّا قِتَالُ " صَفِّينَ " فَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ نَصٌّ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ وَكَانَ أَحْيَانًا يَحْمَدُ مَنْ لَمْ يَرَ الْقِتَالَ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَقَدْ مَدَحَ الْحَسَنَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِإِصْلَاحِ اللَّهِ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ : أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ كَانَ أَحْسَنَ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْقِتَالُ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا . " وَقِتَالُ الْخَوَارِجِ " قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُسَوِّي بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا مَدَحَ تَارِكَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ قِتَالِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا بِالْجَمَلِ وصفين وَبَيْنَ قِتَالِ ذِي الخويصرة التَّمِيمِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ والحرورية الْمُعْتَدِينَ : كَانَ قَوْلُهُمْ مِنْ جِنْسِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الْمُبِينِ . وَلَزِمَ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَصِيرَ مِنْ جِنْسِ الرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَوْ يُفَسِّقُونَ الْمُتَقَاتِلَيْنِ بِالْجَمَلِ وصفين كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ ؛ فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي كُفْرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ الْمُقْتَتِلِينَ بِالْجَمَلِ وصفين وَالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ . فَكَيْفَ نِسْبَةُ هَذَا بِهَذَا وَأَيْضًا { فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلُوا } . وَأَمَّا " أَهْلُ الْبَغْيِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهِمْ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } فَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ ابْتِدَاءً . فَالِاقْتِتَالُ ابْتِدَاءً لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ ؛ وَلَكِنْ إذَا اقْتَتَلُوا أَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ ؛ ثُمَّ إنْ بَغَتْ الْوَاحِدَةُ قُوتِلَتْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الْبُغَاةَ لَا يُبْتَدَءُونَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُقَاتِلُوا . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ : { أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَكَذَلِكَ مَانِعُو الزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ وَالصَّحَابَةَ ابْتَدَءُوا قِتَالَهُمْ قَالَ الصِّدِّيقُ : وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ . وَهُمْ يُقَاتَلُونَ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ . ثُمَّ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي كُفْرِ مَنْ مَنَعَهُمَا وَقَاتَلَ الْإِمَامُ عَلَيْهَا مَعَ إقْرَارِهِ بِالْوُجُوبِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد كَالرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ وَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُجَرِّدِ فَلَا يَكْفُرُونَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَصَّ عَلَى إيمَانِهِمْ وَإِخْوَتِهِمْ مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَلْعَنُ " مُعَاوِيَةَ " فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ ، وَهِيَ
إذَا { اقْتَتَلَ خَلِيفَتَانِ فَأَحَدهمَا مَلْعُونٌ } ؟ وَأَيْضًا { إنَّ
عَمَّارًا تَقْتُلهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } وَقَتَلَهُ عَسْكَرُ مُعَاوِيَةَ ؟
وَهَلْ سَبُّوا أَهْلَ الْبَيْتِ ؟ أَوْ قَتَلَ الْحَجَّاجُ شَرِيفًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَنْ لَعَنَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كمعاوية بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَعَمْرِو بْنِ
العاص وَنَحْوِهِمَا ؛ وَمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ : كَأَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَنَحْوِهِمَا ؛ أَوْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ
مِنْ هَؤُلَاءِ كَطَلْحَةِ ، وَالزُّبَيْرِ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ ، أَوْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَعُمَرَ ، أَوْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ بِاتِّفَاقِ
أَئِمَّةِ الدِّينِ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يُعَاقَبُ بِالْقَتْلِ ؟
أَوْ مَا دُونَ الْقَتْلِ ؟ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِك فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَسُبُّوا
أَصْحَابِي ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ
أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } . وَاللَّعْنَةُ أَعْظَمُ مِنْ السَّبِّ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ } فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنَ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ . وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ . ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَكُلُّ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا بَهْ فَلَهُ مِنْ الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِك ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَغْزُو جَيْشٌ ، فَيَقُولُ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . فَيُفْتَحُ لَهُمْ . ثُمَّ يَغْزُو جَيْشٌ فَيَقُولُ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَيَقُولُونَ ، نَعَمْ . فَيُفْتَحُ لَهُمْ ، وَذَكَرَ الطَّبَقَةَ الثَّالِثَةَ } فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِرُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عَلَّقَهُ بِصُحْبَتِهِ . وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ " الصُّحْبَةِ " فِيهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ : كَانَ مَنْ اخْتَصَّ مِنْ الصَّحَابَةِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بَهْ عَنْ غَيْرِهِ يُوصَفُ بِتِلْكَ الصُّحْبَةِ ، دُونَ مَنْ لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهَا ، { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَمَّا اخْتَصَمَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ : يَا خَالِدُ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا قَبْلَ الْفَتْحِ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنْفَقُوا وَقَاتَلُوا دُونَ أُولَئِكَ ، قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ
وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وَالْمُرَادُ " بِالْفَتْحِ " فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، وَكَانَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ، وَهُمْ الَّذِينَ فَتَحُوا خَيْبَرَ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } . " وَسُورَةُ الْفَتْحِ " الَّذِي فِيهَا ذَلِك أَنْزَلَهَا اللَّهُ قَبْلَ أَنَّ تُفْتَحَ مَكَّةُ ؛ بَلْ قَبْلَ أَنْ يَعْتَمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَدْ بَايَعَ أَصْحَابَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَصَالَحَ الْمُشْرِكِينَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ الْمَشْهُورَ ، وَبِذَلِك الصُّلْحِ حَصَلَ مِنْ الْفَتْحِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ ؛ مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ كَرِهَهُ خَلْقٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ حَتَّى قَالَ سَهْلُ بْنُ حنيف : أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ ، فَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْت . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ هُوَ وَمَنْ اعْتَمَرَ مَعَهُ مَكَّةَ مُعْتَمِرِينَ ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَوْمئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ ؛ وَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الثَّامِنِ فَتَحَ مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } فَوَعَدَهُمْ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ آمَنِينَ ؛ وَأَنْجَزَ مَوْعِدَهُ مِنْ
الْعَامِ الثَّانِي ، وَأَنْزَلَ فِي ذَلِك : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } وَذَلِك كُلُّهُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ . فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ " سُورَةَ الْفَتْحِ " نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا . " وَالْمَقْصُودُ " أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَحِبُوهُ قَبْلَ الْفَتْحِ اخْتَصُّوا مِنْ الصُّحْبَةِ بِمَا اسْتَحَقُّوا بَهْ التَّفْضِيلَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، حَتَّى قَالَ لِخَالِدِ : { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي } فَإِنَّهُمْ صَحِبُوهُ قَبْلَ أَنْ يَصْحَبَهُ خَالِدٌ وَأَمْثَالُهُ . وَلَمَّا كَانَ " لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَزِيَّةِ الصُّحْبَةِ مَا تَمَيَّزَ بَهْ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ خَصَّهُ بِذَلِك فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، أَنَّهُ { كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَلَامٌ ، فَطَلَبَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عُمَرَ أَنَّ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَامْتَنَعَ عُمَرُ ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ مَا جَرَى ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ ، فَخَرَجَ يَطْلُبُ أَبَا بَكْرٍ فِي بَيْتِهِ ، فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءَ عُمَرُ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْضَبُ لِأَبِي بَكْرٍ ؛ وَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي جِئْت إلَيْكُمْ فَقُلْت : إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ ، فَقُلْتُمْ كَذَبْت ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْت فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي } فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا . فَهُنَا خَصَّهُ بِاسْمِ الصُّحْبَةِ ، كَمَا خَصَّهُ بَهْ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى
{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَاخْتَارَ ذَلِك الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ : بَلْ نَفْدِيك بِأَنْفُسِنَا ؛ وَأَمْوَالِنَا . قَالَ : فَجَعَلَ النَّاسُ يَعْجَبُونَ أَنْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا ؛ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي ، سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ } وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ يَكُونُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالِهِ ، وَأَحْوَالِهِ " وَالْمَقْصُودُ " أَنَّ الصُّحْبَةَ فِيهَا خُصُوصٌ وَعُمُومٌ ، وَعُمُومُهَا يَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ مَنْ رَآهُ مُؤْمِنًا بَهْ ، وَلِهَذَا يُقَال صَحِبْته سَنَةً ؛ وَشَهْرًا ، وَسَاعَةً ، وَنَحْوَ ذَلِك . و " مُعَاوِيَةُ ، وَعَمْرُو بْنُ العاص ، وَأَمْثَالُهُمْ " مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ؛ لَمْ يَتَّهِمْهُمْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ بِنِفَاقِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { عَمْرَو بْنَ العاص لَمَّا بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي . فَقَالَ :
يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْهَادِمَ هُوَ إسْلَامُ الْمُؤْمِنِينَ ؛ لَا إسْلَامُ الْمُنَافِقِينَ . وَأَيْضًا فَعَمْرُو بْنُ العاص وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ قَدِمَ مُهَاجِرًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ هَاجَرُوا إلَيْهِ مِنْ بِلَادِهِمْ طَوْعًا لَا كَرْهًا ، وَالْمُهَاجِرُونَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُنَافِقٌ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي بَعْضِ مَنْ دَخَلَ مِنْ الْأَنْصَارِ ؛ وَذَلِك أَنَّ الْأَنْصَارَ هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ؛ فَلَمَّا أَسْلَمَ أَشْرَافُهُمْ وَجُمْهُورُهُمْ احْتَاجَ الْبَاقُونَ أَنْ يُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ نِفَاقًا ؛ لِعِزِّ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ فِي قَوْمِهِمْ . وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَكَانَ أَشْرَافُهُمْ وَجُمْهُورُهُمْ كُفَّارًا فَلَمْ يَكُنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ إلَّا مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يُؤْذَى وَيُهْجَرُ ؛ وَإِنَّمَا الْمُنَافِقُ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ لِمَصْلَحَةِ دُنْيَاهُ . وَكَانَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ يَتَأَذَّى فِي دُنْيَاهُ ؛ ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ مَعَهُ أَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمُنِعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَيْهِ ، كَمَا مُنِعَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَخُو خَالِدٍ أَخُو أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ ؛ وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ لِهَؤُلَاءِ وَيَقُولُ فِي قُنُوتِهِ : اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ ، والمستضعفين مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سنينا كَسِنِي يُوسُفَ } . وَالْمُهَاجِرُونَ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ اتَّهَمَهُ أَحَدٌ بِالنِّفَاقِ ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ مَشْهُودٌ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ { وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ } .
وَأَمَّا " مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَمْثَالُهُ " مِنْ الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ : كَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؛ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ حَسُنَ إسْلَامُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يُتَّهَمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِك بِنِفَاقِ . { وَمُعَاوِيَةُ قَدْ اسْتَكْتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ ، وَقِه الْعَذَابَ } . وَكَانَ أَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ خَيْرًا مِنْهُ وَأَفْضَلَ ، وَهُوَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فَتْحِ الشَّامِ ، وَوَصَّاهُ بِوَصِيَّةِ مَعْرُوفَةٍ ، وَأَبُو بَكْرٍ مَاشٍ ، وَيَزِيدُ رَاكِبٌ ، فَقَالَ لَهُ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ إمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ ، فَقَالَ : لَسْت بِرَاكِبِ ، وَلَسْت بِنَازِلِ . إنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَكَانَ عَمْرُو بْنُ العاص هُوَ الْأَمِيرَ الْآخَرَ وَالثَّالِثُ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ ، وَالرَّابِعُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَهُوَ أَمِيرُهُمْ الْمُطْلَقُ ، ثُمَّ عَزَلَهُ عُمَرُ ، وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ عَامِرَ بْنَ الْجَرَّاحِ ، الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ لَهُ أَنَّهُ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَكَانَ فَتْحُ الشَّامِ عَلَى يَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ ، وَفَتْحُ الْعِرَاقِ عَلَى يَدِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ . ثُمَّ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فَرَاسَةً ، وَأَخْبَرِهِمْ بِالرِّجَالِ ، وَأَقْوَمِهِمْ
بِالْحَقِّ ، وَأَعْلَمِهِمْ بِهِ ، حَتَّى قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّه ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ } وَقَالَ : { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ } وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : مَا سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ فِي الشَّيْءِ إنِّي لَأَرَاهُ كَذَا وَكَذَا إلَّا كَانَ كَمَا رَآهُ . وَقَدْ { قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَآك الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّك } . وَلَا اسْتَعْمَلَ عُمَرُ قَطُّ ؛ بَلْ وَلَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ : مُنَافِقًا ، وَلَا اسْتَعْمَلَا مِنْ أَقَارِبِهِمَا ، وَلَا كَانَ تَأْخُذُهُمَا فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ ؛ بَلْ لَمَّا قَاتَلَا أَهْلَ الرِّدَّةِ وَأَعَادُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ مَنَعُوهُمْ رُكُوبَ الْخَيْلِ وَحَمْلَ السِّلَاحِ حَتَّى تَظْهَرَ صِحَّةُ تَوْبَتِهِمْ ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ : لَا تَسْتَعْمِلْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، وَلَا تُشَاوِرْهُمْ فِي الْحَرْبِ . فَإِنَّهُمْ كَانُوا أُمَرَاءَ أَكَابِرَ : مِثْلَ طليحة الأسدي ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ ، وعُيَيْنَة بْنِ حِصْنٍ ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ ، وَأَمْثَالِهِمْ ، فَهَؤُلَاءِ لَمَّا تَخَوَّفَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنْهُمْ نَوْعَ نِفَاقٍ لَمْ يُوَلِّهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَلَوْ كَانَ " عَمْرُو بْنُ العاص " وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَمْثَالُهُمَا " مِمَّنْ يُتَخَوَّفُ مِنْهُمَا النِّفَاقُ لَمْ يُوَلَّوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ عَمْرُو بْنُ العاص قَدْ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَلِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُنَافِقًا ، { وَقَدْ اسْتَعْمَلَ عَلَى نَجْرَانَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَبَا مُعَاوِيَةَ ، وَمَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ
نَائِبُهُ عَلَى نَجْرَانَ } وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ إسْلَامَ مُعَاوِيَةَ خَيْرٌ مِنْ إسْلَامِ أَبِيهِ أَبِي سُفْيَانَ ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ مُنَافِقِينَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتَمِنُهُمْ عَلَى أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرَو بْنَ العاص وَغَيْرَهُمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْفِتَنِ مَا كَانَ ، وَلَمْ يَتَّهِمْهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ ، لَا مُحَارِبُوهُمْ ، وَلَا غَيْرُ مُحَارِبِيهِمْ : بِالْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ صَادِقُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ، مَأْمُونُونَ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، وَالْمُنَافِقُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ كَاذِبٌ عَلَيْهِ ، مُكَذِّبٌ لَهُ . وَإِذَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ، مُحِبِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ : فَمَنْ لَعَنَهُمْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَا مَعْنَاهُ : { أَنَّ رَجُلًا يُلَقَّبُ حِمَارًا ، وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ، وَكَانَ كُلَّمَا شَرِبَ أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَيْهِ مَرَّةً ، فَقَالَ رَجُلٌ : لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنُوهُ ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ لَمْ يُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ ، وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْإِيمَانِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ حُبٍّ وَغَيْرِهِ . هَذَا مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ الْخَمْرَ ، وَعَاصِرَهَا ، وَمُعْتَصِرَهَا ، وَشَارِبَهَا ، وَسَاقِيَهَا ، وَحَامِلَهَا ، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا } وَقَدْ نَهَى عَنْ لَعْنَةِ هَذَا الْمُعَيَّنِ ، لِأَنَّ اللَّعْنَةَ مِنْ " بَابِ الْوَعِيدِ " فَيُحْكَمُ بَهْ
عُمُومًا وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَقَدْ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْوَعِيدُ لِتَوْبَةِ صَحِيحَةٍ ، أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ ، أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِك مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي ضَرَرُهَا يَرْفَعُ الْعُقُوبَةَ عَنْ الْمُذْنِبِ . فَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ ذَنْبٌ مُحَقَّقٌ . وَكَذَلِك " حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة " فَعَلَ مَا فَعَلَ وَكَانَ يُسِيءُ إلَى مَمَالِيكِهِ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { غُلَامَهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة النَّارَ . قَالَ : كَذَبْت ، إنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا ؛ وَالْحُدَيْبِيَةَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ { عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَهُ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ ، وَقَالَ لَهُمَا : ائْتِيَا رَوْضَةَ خاخ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً ، وَمَعَهَا كِتَابٌ قَالَ عَلِيٌّ : فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى لَقِينَا الظَّعِينَةَ ، فَقُلْنَا : أَيْنَ الْكِتَابُ ؟ فَقَالَتْ : مَا مَعِي كِتَابٌ . فَقُلْنَا لَهَا : لتخرجن الْكِتَابَ ، أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ ، قَالَ فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بَهْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبٍ إلَى بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَذَا يَا حَاطِبُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فَعَلْت هَذَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي ، وَلَا رِضَاءً بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ؛ وَلَكِنْ كُنْت امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهِمْ أَهَالِيهمْ بِمَكَّةَ ، فَأَحْبَبْت إذْ فَاتَنِي ذَلِك مِنْهُمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَفِي لَفْظٍ : وَعَلِمْت أَنَّ ذَلِك لَا يَضُرُّك . يَعْنِي لِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا . فَقَالَ عُمَرُ : دَعْنِي
أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمْ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } فَهَذِهِ السَّيِّئَةُ الْعَظِيمَةُ غَفَرَهَا اللَّهُ لَهُ بِشُهُودِ بَدْرٍ . فَدَلَّ ذَلِك عَلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ الْعَظِيمَةَ يَغْفِرُ اللَّهُ بِهَا السَّيِّئَةَ الْعَظِيمَةَ ، وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَأَمْثَالَ ذَلِك ؛ مَعَ قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } وَلِهَذَا لَا يُشْهَدُ لِمُعَيَّنِ بِالْجَنَّةِ إلَّا بِدَلِيلِ خَاصٍّ ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَى مُعَيَّنٍ بِالنَّارِ إلَّا بِدَلِيلِ خَاصٍّ ؛ وَلَا يُشْهَدُ لَهُمْ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ مِنْ انْدِرَاجِهِمْ فِي الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْدَرِجُ فِي العمومين فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَالْعَبْدُ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ سَيِّئَاتٌ وَحَسَنَاتٌ فَإِنَّهُ وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ ، وَلَا يُحْبِطُ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِ لِأَجْلِ مَا صَدَرَ مِنْهُ ؛ وَإِنَّمَا يَقُولُ بِحُبُوطِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا بِالْكَبِيرَةِ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَبْقَى مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ . وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ ، مُخَالِفَةٌ لِلْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ .
وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ لَا يَعْتَقِدُونَ عِصْمَةَ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا الْقَرَابَةِ وَلَا السَّابِقِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ وُقُوعُ الذُّنُوبِ مِنْهُمْ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ ، وَيَرْفَعُ بِهَا دَرَجَاتِهِمْ ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِك مِنْ الْأَسْبَابِ ، قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إنِّي تُبْتُ إلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } . وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ هُمْ الَّذِينَ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ . فَأَمَّا الصِّدِّيقُونَ ، وَالشُّهَدَاءُ ؛ وَالصَّالِحُونَ : فَلَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ . وَهَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ . وَأَمَّا مَا اجْتَهَدُوا فِيهِ : فَتَارَةً يُصِيبُونَ ، وَتَارَةً يُخْطِئُونَ . فَإِذَا اجْتَهَدُوا فَأَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ ، وَإِذَا اجْتَهَدُوا وَأَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ ، وَخَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ . وَأَهْلُ الضَّلَالِ يَجْعَلُونَ الْخَطَأَ وَالْإِثْمَ مُتَلَازِمَيْنِ : فَتَارَةً يَغْلُونَ فِيهِمْ ؛ وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ . وَتَارَةً يَجْفُونَ عَنْهُمْ ؛ وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ بَاغُونَ بِالْخَطَأِ . وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لَا يُعْصَمُونَ ، وَلَا يؤثمون .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تُولَدُ كَثِيرٌ مِنْ فِرَقِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ . فَطَائِفَةٌ سَبَّتْ السَّلَفَ وَلَعَنَتْهُمْ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذُنُوبًا ، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَةَ ؛ بَلْ قَدْ يُفَسِّقُونَهُمْ ؛ أَوْ يُكَفِّرُونَهُمْ ، كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ كَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَعُثْمَانَ بْنَ عفان ، وَمَنْ تَوَلَّاهُمَا ، وَلَعَنُوهُمْ ، وَسَبُّوهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا قِتَالَهُمْ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَتُقَاتِلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ لِأَجْلِ الْحَقِّ } وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمَارِقَةُ الَّذِينَ مَرَقُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَكَفَّرُوا كُلَّ مَنْ تَوَلَّاهُ . وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ : فِرْقَةٍ مَعَ عَلِيٍّ ، وَفِرْقَةٍ مَعَ مُعَاوِيَةَ . فَقَاتَلَ هَؤُلَاءِ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بَهْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قَالَ عَنْ الْحَسَنِ ابْنِهِ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بَهْ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَأَصْلَحَ اللَّهُ بَهْ بَيْنَ شِيعَةِ عَلِيٍّ وَشِيعَةِ مُعَاوِيَةَ . وَأَثْنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَسَنِ بِهَذَا الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ عَلَى يَدَيْهِ وَسَمَّاهُ سَيِّدًا بِذَلِك ؛ لِأَجْلِ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَيَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَلَوْ كَانَ الِاقْتِتَالُ الَّذِي حَصَلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِك ؛ بَلْ يَكُونُ الْحَسَنُ قَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ ، أَوْ الْأَحَبَّ إلَى
اللَّهِ . وَهَذَا النَّصُّ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ مَحْمُودٌ ، مَرْضِيٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضَعُهُ عَلَى فَخِذِهِ ، وَيَضَعُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا ، وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا } وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ظَهَرَ فِيهِ مَحَبَّتُهُ وَدَعْوَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمَا كَانَا أَشَدَّ النَّاسِ رَغْبَةً فِي الْأَمْرِ الَّذِي مَدَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَهْ الْحَسَنَ ، وَأَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهَةً لَمَا يُخَالِفُهُ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَتْلَى مِنْ أَهْلِ صفين لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ ، الَّذِينَ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ ، وَهَؤُلَاءِ مَدَحَ الصُّلْحَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِهِمْ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقِينَ عَلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ ، وَظَهَرَ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السُّرُورُ بِقِتَالِهِمْ ؛ وَمِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ : مَا قَدْ ظَهَرَ عَنْهُ وَأَمَّا قِتَالُ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُرْوَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَثَرٌ ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ سُرُورٌ ؛ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ الْكَآبَةُ ، وَتَمَنَّى أَنْ لَا يَقَعَ ، وَشَكَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ ، وَبَرَّأَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ ، وَأَجَازَ التَّرَحُّمَ عَلَى قَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وَأَمْثَالَ ذَلِك مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا اتِّفَاقُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُؤْمِنَةٌ . وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ اقْتِتَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَسَمَّاهُمْ " مُؤْمِنِينَ " وَجَعَلَهُمْ " إخْوَةً " مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ . وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ { إذَا اقْتَتَلَ خَلِيفَتَانِ فَأَحَدُهُمَا مَلْعُونٌ } كَذِبٌ مُفْتَرًى لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ، وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَمَدَةِ . و " مُعَاوِيَةُ " لَمْ يَدَّعِ الْخِلَافَةَ ؛ وَلَمْ يُبَايَعْ لَهُ بِهَا حَيْنَ قَاتَلَ عَلِيًّا ، وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَةٌ ، وَلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ ، وَيُقِرُّونَ لَهُ بِذَلِك ، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ يُقِرُّ بِذَلِك لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ ، وَلَا كَانَ مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ يَرَوْنَ أَنْ يَبْتَدُوا عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ بِالْقِتَالِ ، وَلَا يَعْلُوَا . بَلْ لَمَّا رَأَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَمُبَايَعَتُهُ ، إذْ لَا يَكُون لِلْمُسْلِمَيْنِ إلَّا خَلِيفَةٌ وَاحِدٌ ، وَأَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ يَمْتَنِعُونَ عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ ، وَهُمْ أَهْلُ شَوْكَةٍ رَأَى أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا هَذَا الْوَاجِبَ ، فَتَحْصُلَ الطَّاعَةُ وَالْجَمَاعَةُ . وَهُمْ قَالُوا : إنَّ ذَلِك لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّهُمْ إذَا قُوتِلُوا عَلَى ذَلِك كَانُوا مَظْلُومِينَ قَالُوا : لِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَتَلَتُهُ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ ، وَهُمْ غَالِبُونَ
لَهُمْ شَوْكَةٌ ، فَإِذَا امْتَنَعْنَا ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا عَلَيْنَا . وَعَلِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُمْ ، كَمَا لَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ عَنْ عُثْمَانَ ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُبَايِعَ خَلِيفَةً يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْصِفَنَا وَيَبْذُلَ لَنَا الْإِنْصَافَ . وَكَانَ فِي جُهَّالِ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يَظُنُّ بِعَلِيِّ وَعُثْمَانَ ظُنُونًا كَاذِبَةً ، بَرَّأَ اللَّهُ مِنْهَا عَلِيًّا ، وَعُثْمَانَ : كَانَ يَظُنُّ بِعَلِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَحْلِفُ وَهُوَ الْبَارُّ الصَّادِقُ بِلَا يَمِينٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ ، وَلَا رَضِيَ بِقَتْلِهِ ، وَلَمْ يُمَالِئْ عَلَى قَتْلِهِ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِلَا رَيْبٍ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ مُحِبِّي عَلِيٍّ وَمِنْ مُبْغِضِيهِ يُشِيعُونَ ذَلِك عَنْهُ : فَمُحِبُّوهُ يَقْصِدُونَ بِذَلِك الطَّعْنَ عَلَى عُثْمَانَ بِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ ، وَأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ بِقَتْلِهِ . وَمُبْغِضُوهُ يَقْصِدُونَ بِذَلِك الطَّعْنَ عَلَى عَلِيٍّ ، وَأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ الشَّهِيدِ ، الَّذِي صَبَّرَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهَا ، وَلَمْ يَسْفِكْ دَمَ مُسْلِمٍ فِي الدَّفْعِ عَنْهُ ، فَكَيْفَ فِي طَلَب طَاعَتِهِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ بِهَا الزَّائِغُونَ عَلَى الْمُتَشَيِّعِينَ الْعُثْمَانِيَّةِ ، وَالْعَلَوِيَّةِ . وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُتَشَيِّعِينَ مُقِرَّةٌ مَعَ ذَلِك بِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَاوِيَةُ كُفْئًا لِعَلِيِّ بِالْخِلَافَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةٌ مَعَ إمْكَانِ اسْتِخْلَافِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ فَضْلَ عَلِيٍّ وسابقيته ، وَعِلْمَهُ ، وَدِينَهُ ، وَشَجَاعَتَهُ ، وَسَائِرَ فَضَائِلِهِ : كَانَتْ عِنْدَهُمْ ظَاهِرَةً مَعْرُوفَةً ، كَفَضْلِ إخْوَانِهِ : أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى غَيْرُهُ وَغَيْرُ سَعْدٍ ، وَسَعْدٌ كَانَ قَدْ تَرَكَ هَذَا الْأَمْرَ ، وَكَانَ الْأَمْرُ قَدْ انْحَصَرَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ؛ فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ لَمْ يَبْقَ لَهَا مُعَيَّنٌ إلَّا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّرُّ بِسَبَبِ قَتْلِ عُثْمَانَ ، فَحَصَلَ بِذَلِك قُوَّةُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَضَعْفُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ، حَتَّى حَصَلَ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ مَا صَارَ يُطَاعُ فِيهِ مَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالطَّاعَةِ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف ، وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : مَا يَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا يُجْمِعُونَ مِنْ الْفُرْقَةِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ { إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ طَعَنَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لَكِنْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ، وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ : قَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاغِيَةِ الطَّالِبَةُ بِدَمِ عُثْمَانَ ، كَمَا قَالُوا : نَبْغِي ابْنَ عفان بِأَطْرَافِ الأسل . وَلَيْسَ بِشَيْءِ ؛ بَلْ يُقَالُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَقٌّ كَمَا قَالَهُ ، وَلَيْسَ فِي كَوْنِ عَمَّارٍ تَقْتُلهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ مَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فَقَدْ جَعَلَهُمْ مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ مُؤْمِنِينَ إخْوَةً ؛ بَلْ مَعَ أَمْرِهِ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ جَعَلَهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ
بَغْيًا وَظُلْمًا أَوْ عُدْوَانًا يُخْرِجُ عُمُومَ النَّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ ، وَلَا يُوجِبُ لَعْنَتَهُمْ ؛ فَكَيْفَ يُخْرِجُ ذَلِك مَنْ كَانَ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ ؟ وَكُلُّ مَنْ كَانَ بَاغِيًا ، أَوْ ظَالِمًا ، أَوْ مُعْتَدِيًا ، أَوْ مُرْتَكِبًا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَهُوَ " قِسْمَانِ " مُتَأَوِّلٌ ، وَغَيْرُ مُتَأَوِّلٍ ، فَالْمُتَأَوِّلُ الْمُجْتَهِدُ : كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ ، الَّذِينَ اجْتَهَدُوا ، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ حِلَّ أُمُورٍ ، وَاعْتَقَدَ الْآخَرُ تَحْرِيمَهَا كَمَا اسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ ، وَبَعْضُهُمْ بَعْضَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ بَعْضَ عُقُودِ التَّحْلِيلِ وَالْمُتْعَةِ ، وَأَمْثَالُ ذَلِك ، فَقَدْ جَرَى ذَلِك وَأَمْثَالُهُ مِنْ خِيَارِ السَّلَفِ . فَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلُونَ الْمُجْتَهِدُونَ غَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إنَّمَا حَكَمَا فِي الْحَرْثِ ، وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ ، مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ . وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، فَإِذَا فَهِمَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِك مَلُومًا وَلَا مَانِعًا لِمَا عُرِفَ مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِك مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ يَكُون إثْمًا وَظُلْمًا ، وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهِ فِسْقًا ، بَلْ مَتَى عُلِمَ تَحْرِيمُهُ ضَرُورَةً كَانَ تَحْلِيلُهُ كُفْرًا . فَالْبَغْيُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ .
أَمَا إذَا كَانَ الْبَاغِي مُجْتَهِدًا وَمُتَأَوِّلًا ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ بَاغٍ ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ : لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ " بَاغِيًا " مُوجِبَةً لِإِثْمِهِ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تُوجِبَ فِسْقَهُ . وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ ؛ يَقُولُونَ : مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ قِتَالُنَا لَهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرِ بَغْيِهِمْ ؛ لَا عُقُوبَةً لَهُمْ ؛ بَلْ لِلْمَنْعِ مِنْ الْعُدْوَانِ . وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ ؛ لَا يُفَسَّقُونَ . وَيَقُولُونَ هُمْ كَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ ، كَمَا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالنَّاسِي وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنْهُمْ ؛ بَلْ تُمْنَعُ الْبَهَائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ . وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قُتِلَ مُؤْمِنًا خَطَأً الدِّيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِك ، وَهَكَذَا مَنْ رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ الْحُدُودِ وَتَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ، وَالْبَاغِي الْمُتَأَوِّلُ يُجْلَدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ . ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ " الْبَغْيُ " بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ : يَكُون ذَنْبًا ، وَالذُّنُوبُ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا بِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ : بِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِك . ثُمَّ { إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لمعاوية وَأَصْحَابِهِ ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بَهْ تِلْكَ الْعِصَابَةُ الَّتِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ ، وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعَسْكَرِ ، وَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ
كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ : كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص ، وَغَيْرِهِ ؛ بَلْ كُلُّ النَّاسِ كَانُوا مُنْكَرِينَ لِقَتْلِ عَمَّارٍ ، حَتَّى مُعَاوِيَةُ ، وَعَمْرٌو . وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ تَأَوَّلَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ ؛ دُونَ مُقَاتِلِيهِ : وَأَنَّ عَلِيًّا رَدَّ هَذَا التَّأْوِيلَ بِقَوْلِهِ : فَنَحْنُ إذًا قَتَلْنَا حَمْزَةَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ هُوَ الصَّوَابُ ؛ لَكِنْ مَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ الْمُتَنَاظِرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَلَا مُلْكٌ ، وَأَنَّ لَهُمْ فِي النُّصُوصِ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِكَثِيرِ . وَمَنْ تَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ لَمْ يَرَ أَنَّهُ قَتَلَ عَمَّارًا ، فَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ بَاغٍ ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ بَاغٍ وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَاغٍ : فَهُوَ مُتَأَوِّلٌ مُخْطِئٌ . وَالْفُقَهَاءُ لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ رَأْيِهِ الْقِتَالُ مَعَ مَنْ قَتَلَ عَمَّارًا ؛ لَكِنْ لَهُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِمَا أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ : مِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِتَالَ مَعَ عَمَّارٍ وَطَائِفَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِمْسَاكَ عَنْ الْقِتَالِ مُطْلَقًا . وَفِي كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ طَوَائِفُ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ . فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَمَّارٌ ، وَسَهْلُ بْنُ حنيف ، وَأَبُو أَيُّوبَ . وَفِي الثَّانِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مسلمة ؛ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُمْ . وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْأَكَابِرِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَسْكَرَيْنِ بَعْدَ عَلِيٍّ أَفَضْلُ مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَكَانَ مِنْ الْقَاعِدِينَ .
و " حَدِيثُ عَمَّارٍ " قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ رَأَى الْقِتَالَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَاتِلُوهُ بُغَاةً فَاَللَّهُ يَقُول : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } . والمتمسكون يَحْتَجُّونَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { أَنَّ الْقُعُودَ عَنْ الْفِتْنَةِ خَيْرٌ مِنْ الْقِتَالِ فِيهَا } وَتَقُولُ : إنَّ هَذَا الْقِتَالَ وَنَحْوَهُ هُوَ قِتَالُ الْفِتْنَةِ ؛ كَمَا جَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ تُبَيِّنُ ذَلِك ؛ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِتَالِ ؛ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالصُّلْحِ ؛ وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِ الْبَاغِي ؛ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِهِ ابْتِدَاءً ؛ بَلْ قَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } قَالُوا : وَالِاقْتِتَالُ الْأَوَّلُ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ ؛ وَلَا أَمَرَ كُلَّ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَتَلَ كُلَّ بَاغٍ كَفَرَ ؛ بَلْ غَالِبُ الْمُؤْمِنِينَ ؛ بَلْ غَالِبُ النَّاسِ : لَا يَخْلُو مِنْ ظُلْمٍ وَبَغْيٍ ؛ وَلَكِنْ إذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَالْوَاجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَهُمَا ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا مَأْمُورَةً بِالْقِتَالِ ، فَإِذَا بَغَتْ الْوَاحِدَةُ بَعْدَ ذَلِك قُوتِلَتْ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتْرُكْ الْقِتَالَ ؛ وَلَمْ تُجِبْ إلَى الصُّلْحِ ؛ فَلَمْ يَنْدَفِعْ شَرُّهَا إلَّا بِالْقِتَالِ . فَصَارَ قِتَالُهَا بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الصَّائِلِ الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ ظُلْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِالْقِتَالِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } . قَالُوا : فَبِتَقْدِيرِ أَنَّ جَمِيعَ الْعَسْكَرِ بُغَاةٌ فَلَمْ نُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ ابْتِدَاءً ؛ بَلْ أُمِرْنَا بِالْإِصْلَاحِ
بَيْنَهُمْ
و " أَيْضًا " ، فَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ إذَا كَانَ الَّذِينَ
مَعَهُمْ نَاكِلِينَ عَنْ الْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِي الْخِلَافِ عَلَيْهِ
ضَعِيفِي الطَّاعَةِ لَهُ . و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ
لَا يُبِيحُ لَعْنَ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَا يُوجِبُ فِسْقَهُ . وَأَمَّا
" أَهْلُ الْبَيْتِ " فَلَمْ يُسَبُّوا قَطُّ . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
وَلَمْ يَقْتُلْ الْحَجَّاجُ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ، وَإِنَّمَا قَتَلَ
رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ ، وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِنْتَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَلَمْ يَرْضَ بِذَلِك بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وَلَا بَنُو
هَاشِمٍ وَلَا بَنُو أُمَيَّةَ حَتَّى فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ؛ حَيْثُ
لَمْ يَرَوْهُ كُفُؤًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْفِتَنِ الَّتِي تَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَأَمْثَالِهَا ؛ فَيَقْتُلُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَسْتَبِيحُ بَعْضُهُمْ حُرْمَةَ بَعْضٍ : فَمَا حُكْمُ
اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْفِتَنُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ أَعْظَمِ
الْمُحَرَّمَاتِ ، وَأَكْبَرِ الْمُنْكَرَاتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا حَتَّى صَارَ عَنْهُمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا صَارَ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا ، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } فَهَذَا مِنْ الْكُفْرِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ ، قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ بَيْنَ الْمُقْتَتِلِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ : أَخْبَرَ أَنَّهُمْ إخْوَةٌ ، وَأَمَرَ أَوَّلًا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ إذَا اقْتَتَلُوا { فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } وَلَمْ يَقْبَلُوا الْإِصْلَاحَ { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } فَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ بَعْد أَنْ { تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } أَيْ تَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ . فَمَنْ رَجَعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ يُعْدَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ ، وَيُقْسَطَ بَيْنَهُمَا . فَقَبْلَ أَنْ نُقَاتِلَ الطَّائِفَةَ الْبَاغِيَةَ وَبَعْدَ اقْتِتَالِهِمَا أَمَرَنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُقْهَرْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بِقِتَالِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِك فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْعَى بَيْنَ هَاتِينَ الطَّائِفَتَيْنِ بِالصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ، وَيُقَالَ لِهَذِهِ : مَا تَنْقِمُ مِنْ هَذِهِ ؟ وَلِهَذِهِ : مَا تَنْقِمُ مِنْ هَذِهِ ؟ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا اعْتَدَتْ عَلَى الْأُخْرَى : بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ الْأَنْفُسِ ، وَالْأَمْوَالِ : كَانَ عَلَيْهَا ضَمَانُ مَا أَتْلَفَتْهُ . وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَتْلَفُوا لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ أَتْلَفُوا لِهَؤُلَاءِ تَقَاصُّوا بَيْنَهُمْ ، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } وَقَدْ ذَكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مِثْلِ ذَلِك فِي طَائِفَتَيْنِ اقْتَتَلَتَا فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالْمُقَاصَّةِ ، قَالَ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } وَالْعَفْوُ الْفَضْلُ فَإِذَا فَضَلَ لِوَاحِدَةِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ شَيْءٌ عَلَى الْأُخْرَى { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يُؤَدِّيهِ بِإِحْسَانِ . وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ تَضْمَنَ وَاحِدَةٌ لِلْأُخْرَى ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَ الرَّجُلُ حَمَالَةً يُؤَدِّيهَا لِصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ ذَلِك مِنْ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَسْأَلَ النَّاسَ فِي إعَانَتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ، { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَبِيصَةَ بْنِ مخارق الْهِلَالِيِّ : يَا قَبِيصَةُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةِ : رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ ، ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ ؛ فَإِنَّهُ يَقُومُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحجى مِنْ قَوْمِهِ ؛ فَيَقُولُونَ : قَدْ أَصَابَ فُلَانًا فَاقَةٌ ، فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ وَسَدَادًا مِنْ عَيْشٍ ؛ ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٌ يَحْمِلُ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ حَمَالَتَهُ ، ثُمَّ يُمْسِكُ } . وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ أَنَّ يَسْعَى فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مَهْمَا أَمْكَنَ .
وَمَنْ
كَانَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَظُنُّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِ
فَإِذَا صَبَرَ وَعَفَا أَعَزَّهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلَّا عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ
لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ ؛ وَلَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ } وَقَالَ
تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ
لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } فَالْبَاغِي الظَّالِمُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ فَإِنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعُهُ ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ
: وَلَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَجَعَلَ اللَّهُ الْبَاغِيَ مِنْهُمَا دَكًّا
. وَمِنْ حِكْمَةِ الشِّعْرِ :
قَضَى اللَّهُ أَنَّ الْبَغْيَ يَصْرَعُ أَهْلَهُ * * * وَأَنَّ عَلَى الْبَاغِي تَدُورُ
الدَّوَائِرُ
وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
مَتَاعَ الْحَيَاةِ } الْآيَةُ ، وَفِي الْحَدِيثِ : { مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرًى
أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْبَغْيِ ، وَمَا
حَسَنَةٌ أَحْرَى أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهَا الثَّوَابُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ }
فَمَنْ كَانَ مِنْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بَاغِيًا ظَالِمًا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ
وَلْيَتُبْ ، وَمَنْ كَانَ مَظْلُومًا مَبْغِيًّا عَلَيْهِ وَصَبَرَ كَانَ لَهُ
الْبُشْرَى مِنْ اللَّهِ ، قَالَ تَعَالَى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } قَالَ
عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ : هُمْ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ إذَا ظُلِمُوا ، وَقَدْ
قَالَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي حَقِّ عَدُوِّهِمْ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ
شَيْئًا } وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَعَلَ بِهِ إخْوَتُهُ مَا فَعَلُوا فَصَبَرَ وَاتَّقَى حَتَّى نَصَرَهُ اللَّهُ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي عِزِّهِ { قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِصَدْقِ وَعَدْلٍ ، وَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ ، وَصَبَرَ عَلَى أَذَى الْآخَرِ وَظُلْمِهِ : لَمْ يَضُرَّهُ كَيْدُ الْآخَرِ ؛ بَلْ يَنْصُرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَذِهِ الْفِتَنُ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ وَالْخَطَايَا ، فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ وَيَتُوبَ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِك يَرْفَعُ الْعَذَابَ ، وَيُنَزِّلُ الرَّحْمَةَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ }.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ طَائِفَتَيْنِ تَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَدَاعَيَانِ بِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ : كَأَسَدِ
وَهِلَالٍ ، وَثَعْلَبَةَ ، وَحَرَامٍ ، وَغَيْرِ ذَلِك . وَبَيْنَهُمْ أَحْقَادٌ
وَدِمَاءٌ ؛ فَإِذَا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ سَعَى الْمُؤْمِنُونَ بَيْنَهُمْ لِقَصْدِ
التَّأْلِيفِ ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ؛ فَيَقُولُ أُولَئِكَ الْبَاغُونَ :
إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَلَبَ الثَّأْرِ بِقَوْلِهِ : {
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } - إلَى قَوْلِهِ - {
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } ثُمَّ إنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُعَرِّفُونَهُمْ أَنَّ هَذَا
الْأَمْرَ يُفْضِي إلَى الْكُفْرِ : مِنْ قَتْلِ النَّفُوسِ ، وَنَهْبِ
الْأَمْوَالِ . فَيَقُولُونَ : نَحْنُ لَنَا عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ ، فَلَا نُفَارِقُ
حَتَّى نَأْخُذَ ثَأْرَنَا بِسُيُوفِنَا ، ثُمَّ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِمْ ، فَمَنْ
انْتَصَرَ مِنْهُمْ بَغَى وَتَعَدَّى وَقَتَلَ النَّفْسَ ، وَيُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ : فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ وَقَتْلُهَا ،
بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ ؟ أَوْ مَاذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ
بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قِتَالُ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفِهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي
النَّار . قِيلَ يَا رَسُول اللَّه هَذَا الْقَاتِلُ ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟
قَالَ :
إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا . أَلَا لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ } . وَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ، حَيْثُ قَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَيَجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى . وَالْإِصْلَاحُ لَهُ طُرُقٌ . " مِنْهَا " أَنْ تُجْمَعَ أَمْوَالُ الزَّكَوَاتِ وَغَيْرُهَا حَتَّى يُدْفَعَ فِي مِثْلِ ذَلِك فَإِنَّ الْغُرْمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، يُبِيحُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ مَا غَرِمَ ، كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا ، كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقبيصة بْنِ مخارق : إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةِ : لِرَجُلِ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ حَمَالَتَهُ ، ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ ، ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحجى مِنْ قَوْمِهِ ، فَيَقُولُونَ : قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ ، فَيَسْأَلُ ؛
حَتَّى يَجِد قُوَامًا مِنْ عَيْش ، وَسَدَادًا مِنْ عَيْشٍ ، ثُمَّ يُمْسِكُ ، وَمَا سِوَى ذَلِك مِنْ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا } . وَمِنْ طُرُقِ الصُّلْحِ أَنْ تَعْفُوَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا عَنْ بَعْضِ مَالِهَا عِنْدَ الْأُخْرَى مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } . وَمِنْ طُرُقِ الصُّلْحِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ . فَيَنْظُرَ مَا أَتْلَفَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُخْرَى مِنْ النَّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ، فَيَتَقَاصَّانِ { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } وَإِذَا فَضَلَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانِ ؛ فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ عَدَدَ الْقَتْلَى ، أَوْ مِقْدَارَ الْمَالِ : جَعَلَ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ . وَإِذَا ادَّعَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بِزِيَادَةِ : فَإِمَّا أَنْ تُحَلِّفَهَا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ ، وَإِمَّا أَنْ تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ ، وَإِمَّا تَمْتَنِعُ عَنْ الْيَمِينِ فَيُقْضَى بِرَدِّ الْيَمِينِ أَوْ النُّكُولِ . فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَبْغِي بِأَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ ، وَلَا تُجِيبَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَتُقَاتِلَ عَلَى ذَلِك أَوْ تَطْلُبَ قِتَالَ الْأُخْرَى وَإِتْلَافَ النَّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ، كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِهِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَفِّهَا إلَّا بِالْقَتْلِ قُوتِلَتْ حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ ؛ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تُلْزَمَ بِالْعَدْلِ بِدُونِ الْقِتَالِ
مِثْلُ
أَنْ يُعَاقِبَ بَعْضَهُمْ ، أَوْ يَحْبِسَ ؛ أَوْ يَقْتُلَ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ
مِنْهُمْ ، وَنَحْوَ ذَلِك : عَمِلَ ذَلِك ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِتَالِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَلَبَ الثَّأْرِ .
فَهُوَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى
مَنْ لَهُ عِنْدَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ مَظْلِمَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ
مَالٍ أَوْ عِرْضٍ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ ؛ بَلْ لَمْ يَذْكُرْ حُقُوقَ
الْآدَمِيِّينَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا نَدَبَ فِيهَا إلَى الْعَفْوِ ، فَقَالَ
تَعَالَى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ
} وَقَالَ تَعَالَى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ
يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُنَا
كَحُكْمِهِمْ مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ الشَّرَائِعِ : فَالْمُرَادُ بِذَلِك
التَّسْوِيَةُ فِي الدِّمَاءِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ،
وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ } . { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَإِنْ كَانَ
الْقَاتِلُ رَئِيسًا مُطَاعًا مِنْ قَبِيلَةٍ شَرِيفَةٍ وَالْمَقْتُولُ سُوقِيٍّ
طَارِفٌ ، وَكَذَلِك إنْ كَانَ كَبِيرًا وَهَذَا صَغِيرًا ، أَوْ هَذَا غَنِيًّا
وَهَذَا فَقِيرًا وَهَذَا عَرَبِيًّا وَهَذَا عَجَمِيًّا ، أَوْ هَذَا هَاشِمِيًّا
وَهَذَا قُرَشِيًّا . وَهَذَا رَدٌّ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ
أَهْلُ
الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ كَبِيرٌ مِنْ الْقَبِيلَةِ قَتَلُوا
بِهِ عَدَدًا مِنْ الْقَبِيلَةِ الْأُخْرَى غَيْرَ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ ، وَإِذَا
قُتِلَ ضَعِيفٌ مِنْ قَبِيلَةٍ لَمْ يَقْتُلُوا قَاتِلَهُ إذَا كَانَ رَئِيسًا
مُطَاعًا فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } فَالْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ هُوَ الْعَدْلُ ، وَهُوَ
كَوْنُ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ ؛ إذْ الظُّلْمُ حَرَامٌ . وَأَمَّا اسْتِيفَاءُ
الْحَقِّ فَهُوَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ
} أَيْ لَا يَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِهِ . وَأَمَّا إذَا طَلَبَتْ إحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَقَالَتْ الْأُخْرَى نَحْنُ
نَأْخُذُ حَقَّنَا بِأَيْدِينَا فِي هَذَا الْوَقْتِ : فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ
الذُّنُوبِ الْمُوجِبَةِ عُقُوبَةَ هَذَا الْقَاتِلِ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ ،
وَإِذَا امْتَنَعُوا عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَهُمْ شَوْكَةٌ وَجَبَ
عَلَى الْأَمِيرِ قِتَالُهُمْ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَوْكَةٌ : عَرَفَ مَنْ
امْتَنَعَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَلْزَمَ بِالْعَدْلِ . وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ : لَنَا عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ مِنْ سِنِينَ مُتَقَادِمَةٍ . فَيُقَالُ
لَهُمْ نَحْنُ نَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِي الْحُقُوقِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ ،
فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَأْتِي عَلَى هَذَا .
وَأَمَّا مَنْ قَتَلَ أَحَدًا مِنْ بَعْدِ الِاصْطِلَاحِ ، أَوْ بَعْدِ
الْمُعَاهَدَةِ وَالْمُعَاقَدَةِ : فَهَذَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ ، حَتَّى
قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا ، وَلَا يَجُوزُ
الْعَفْوُ عَنْهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ . وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : بَلْ
قَتْلُهُ قِصَاصٌ ، وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ .
وَإِنْ
كَانَ الْبَاغِي طَائِفَةً فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ ، وَإِنْ لَمْ
يُمْكِنْ كَفُّ صَنِيعِهِمْ إلَّا بِقِتَالِهِمْ قُوتِلُوا ، وَإِنْ أَمْكَنَ
بِمَا دُونَ ذَلِكَ عُوقِبُوا بِمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ
وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ
غَدْرَتِهِ ، فَيُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ
إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى
بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
الْمُعْتَدِي هُوَ الْقَاتِلُ بَعْدَ الْعَفْوِ ، فَهَذَا يُقْتَلُ حَتْمًا .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ يُعَذَّبُ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الِاعْتِدَاءِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ أَقْوَامٍ لَمْ يُصَلُّوا وَلَمْ يَصُومُوا ، وَاَلَّذِي يَصُومُ لَمْ
يُصَلِّ ، وَمَالُهُمْ حَرَامٌ ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ ،
وَيُكْرِمُونَ الْجَارَ وَالضَّعِيفَ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مَذْهَبٌ ، وَهُمْ
مُسْلِمُونَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا تَحْتَ حُكْمِ وُلَاةِ الْأُمُورِ
فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَأْمُرُوهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ ، وَيُعَاقَبُوا
عَلَى تَرْكِهَا ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ . وَإِنْ أَقَرُّوا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ
الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ ؛ وَإِلَّا فَمَنْ
لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ
وَامْتَنَعُوا عَنْ إقَامَتِهَا عُوقِبُوا حَتَّى
يُقِيمُوهَا
، وَيَجِبُ قَتْلُ كُلِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا عِنْدَ
جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَالِكِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَد . وَكَذَلِك
تُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ . وَإِنْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً ذَاتَ
شَوْكَةٍ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَلْتَزِمُوا أَدَاءَ
الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُتَوَاتِرَةِ : كَالصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ .
وَالزَّكَاةِ ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ . كَالزِّنَا ، وَالرِّبَا ، وَقَطْعِ
الطَّرِيقِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الصَّلَاة
وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ .
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ
وَالنَّارِ فَهُوَ كَافِرٌ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَعُقُوقُ
الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ أَقْوَامٍ مُقِيمُونَ فِي الثُّغُورِ ، يُغِيرُونَ عَلَى الْأَرْمَنِ
وَغَيْرِهِمْ ، وَيَكْسِبُونَ الْمَالَ يُنْفِقُونَ عَلَى الْخَمْرِ وَالزِّنَا :
هَلْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ إذَا قُتِلُوا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانُوا إنَّمَا يُغِيرُونَ عَلَى الْكُفَّارِ
الْمُحَارِبِينَ ، فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَقَدْ { قَالُوا يَا
رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً ، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً ؛
وَيُقَاتِلُ رِيَاءً : فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ
قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَا يَقْصِدُ إلَّا أَخْذَ الْمَالِ ،
وَإِنْفَاقَهُ
فِي الْمَعَاصِي : فَهَؤُلَاءِ فُسَّاقٌ مُسْتَحِقُّونَ لِلْوَعِيدِ . وَإِنْ
كَانَ مَقْصُودُهُمْ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ؛ وَيَكُونَ
الدِّينُ لِلَّهِ : فَهَؤُلَاءِ مُجَاهِدُونَ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ
كَبَائِرُ كَانَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ . وَأَمَّا إنْ كَانُوا يُغِيرُونَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُنَاكَ : فَهَؤُلَاءِ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
؛ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ مُسْتَحِقُّونَ لِلْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ جُنْدِيٍّ مَعَ أَمِيرٍ ، وَطَلَعَ السُّلْطَانُ إلَى الصَّيْدِ ، وَرَسَمَ
السُّلْطَانُ بِنَهْبِ نَاسٍ مِنْ الْعَرَبِ وَقَتْلِهِمْ ، فَطَلَعَ إلَى
الْجَبَلِ فَوَجَدَ ثَلَاثِينَ نَفَرًا فَهَرَبُوا ، فَقَالَ الْأَمِيرُ : سُوقُوا
خَلْفَهُمْ ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ لِيُحَارِبُوا ، فَوَقَعَ مِنْ الْجُنْدِيِّ
ضَرْبَةٌ فِي وَاحِدٍ فَمَاتَ : فَهَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا كَانَ هَذَا الْمَطْلُوبُ مِنْ
الطَّائِفَةِ الْمُفْسِدَةِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ الطَّاعَةِ
وَفَارَقُوا الْجَمَاعَةَ وَعَدَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِمَائِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَقَدْ طُلِبُوا لِيُقَامَ فِيهِمْ أَمْرُ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ : فَهَذَا الَّذِي عَادَ مِنْهُمْ مُقَاتِلًا يَجُوزُ
قِتَالُهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ ؛
بَلْ الْمُحَارِبُونَ يَسْتَوِي فِيهِمْ الْمُعَاوِنُ وَالْمُبَاشِرُ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَأَحْمَد ، فَمَنْ
كَانَ مُعَاوِنًا كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُمْ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الْأُخُوَّةِ " الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا
الزَّمَانِ ، وَالْتِزَامِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ : إنَّ مَالِي مَالُك ،
وَدَمِي دَمُك ، وَوَلَدِي وَلَدُك ، وَيَقُولُ الْآخَرُ كَذَلِكَ ، وَيَشْرَبُ
أَحَدُهُمْ دَمَ الْآخَرِ : فَهَلْ هَذَا الْفِعْلُ مَشْرُوعٌ ، أَمْ لَا ؟
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا مُسْتَحْسَنًا . فَهَلْ هُوَ مُبَاحٌ ، أَمْ لَا ؟
وَهَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي
تَثْبُتُ بِالْأُخُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، أَمْ لَا ؟ وَمَا مَعْنَى الْأُخُوَّةِ
الَّتِي آخَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذَا الْفِعْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
الْمَذْكُورِ لَيْسَ مَشْرُوعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ
أَصْلُ الْأُخُوَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى
بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَحَالَفَ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ ، كَمَا آخَى بَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ ، حَتَّى قَالَ سَعْدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : خُذْ شَطْرَ مَالِي ،
وَاخْتَرْ إحْدَى زَوْجَتَيَّ حَتَّى أُطَلِّقَهَا وَتَنْكِحَهَا فَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ : بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي مَالِكِ وَأَهْلِك ، دُلُّونِي عَلَى
السُّوقِ . وَكَمَا آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ .
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ .
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي " السِّيرَةِ " مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرٍ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤَاخِ بَيْنَ مُهَاجِرٍ وَمُهَاجِرٍ ، وَأَنْصَارِيٍّ وَأَنْصَارِيٍّ ، وَإِنَّمَا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَكَانَتْ الْمُؤَاخَاةُ وَالْمُحَالَفَةُ يَتَوَارَثُونَ بِهَا دُونَ أَقَارِبِهِمْ ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فَصَارَ الْمِيرَاثُ بِالرَّحِمِ دُونَ هَذِهِ الْمُؤَاخَاةِ وَالْمُحَالَفَةِ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُحَالَفَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ : هَلْ يُورَثُ بِهَا عِنْدَ عَدِمِ الْوَرَثَةِ مِنْ الْأَقَارِبِ وَالْمَوَالِي ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " يُورَثُ بِهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } . " وَالثَّانِي " لَا يُورَثُ بِهَا بِحَالِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ . وَكَذَلِكَ تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ يُشْرَعُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَآخَى اثْنَانِ وَيَتَحَالَفَا كَمَا فَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ؟ فَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً } وَلِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةً بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ أَخُو
الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمْهُ ، وَلَا يَظْلِمْهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ } فَمَنْ كَانَ قَائِمًا بِوَاجِبِ الْإِيمَانِ كَانَ أَخًا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ خَاصٌّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ عَقَدَا الْأُخُوَّةَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَدِدْت أَنِّي قَدْ رَأَيْت إخْوَانِي } . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ حُقُوقِ الْإِيمَانِ وَجَبَ أَنْ يُعَامَلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ ، فَيُحْمَدَ عَلَى حَسَنَاتِهِ ؛ ويوالى عَلَيْهَا ، وَيُنْهَى عَنْ سَيِّئَاتِهِ ، وَيُجَانَبُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا ، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ : تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ ، فَذَلِك نَصْرُك إيَّاهُ } . وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ ، وَمُوَالَاتُهُ وَمُعَادَاتُهُ : تَابِعًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ . وَمَنْ كَانَ فِيهِ مَا يوالى عَلَيْهِ مِنْ حَسَنَاتٍ وَمَا يُعَادَى عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتٍ عُومِلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ ، كَفُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ ؛ إذْ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَالْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ ، وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ ؛ بِحَسَبِ مَا فِيهِمْ مِنْ الْبِرِّ وَالْفُجُورِ ، فَإِنَّ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ، وَبِخِلَافِ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ يَمِيلُونَ إلَى جَانِبٍ ، وَهَؤُلَاءِ إلَى جَانِبٍ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَطٌ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : تُشْرَعُ تِلْكَ الْمُؤَاخَاةُ وَالْمُحَالَفَةُ ، وَهُوَ يُنَاسِبُ مَنْ يَقُولُ بِالتَّوَارُثِ بِالْمُحَالَفَةِ . لَكِنْ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ وَلَدَ أَحَدِهِمَا لَا يَصِيرُ وَلَدَ الْآخَرِ بِإِرْثِهِ مَعَ أَوْلَادِهِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَسَخَ التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ كَانَ يَتَبَنَّى الرَّجُلُ وَلَدَ غَيْرِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } . وَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا لِلْآخِرِ يُورَثُ عَنْهُ مَالُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ وَلَكِنْ إذَا طَابَتْ نَفْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْآخَرُ مِنْ مَالِهِ فَهَذَا جَائِزٌ ، كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَفْعَلُونَ ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ بَيْتَ الْآخَرِ وَيَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ ؛ لِعِلْمِهِ بِطِيبِ نَفْسِهِ بِذَلِكَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } . وَأَمَّا شُرْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمَ الْآخَرِ . فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِحَالِ ، وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ مَعَ النَّجَاسَةِ التَّشْبِيهُ بِاَللَّذَيْنِ يَتَآخَيَانِ مُتَعَاوَنِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ،
إمَّا عَلَى فَوَاحِشَ ، أَوْ مَحَبَّةٍ شَيْطَانِيَّةٍ ، كَمَحَبَّةِ المردان وَنَحْوِهِمْ ، وَإِنْ أَظْهَرُوا خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ اشْتِرَاكٍ فِي الصَّنَائِعِ وَنَحْوِهَا . وَإِمَّا تَعَاوُنٌ عَلَى ظُلْمِ الْغَيْرِ ، وَأَكْلِ مَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ مُؤَاخَاةِ بَعْضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ وَالسُّلُوكِ لِلنِّسَاءِ ، فَيُوَاخِي أَحَدُهُمْ الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ ، وَيَخْلُو بِهَا . وَقَدْ أَقَرَّ طَوَائِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنْ الْفَوَاحِشِ . فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُؤَاخَاةِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا يَكُونُ فِيهِ تَعَاوُنٌ عَلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَائِنًا مَا كَانَ : حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي مُؤَاخَاةٍ يَكُونُ مَقْصُودُهُمَا بِهَا التَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، بِحَيْثُ تَجْمَعُهُمَا طَاعَةُ اللَّهِ ، وَتُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مَعْصِيَةُ اللَّهِ ، كَمَا يَقُولُونَ : تَجْمَعُنَا السُّنَّةُ ، وَتُفَرِّقُنَا الْبِدْعَةُ . فَهَذِهِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ . فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يَرَوْنَهَا ، اسْتِغْنَاءً بِالْمُؤَاخَاةِ الْإِيمَانِيَّةِ الَّتِي عَقَدَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ كَافِيَةٌ مُحَصِّلَةٌ لِكُلِّ خَيْرٍ ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ أَدَاءِ وَاجِبَاتِهَا ؛ إذْ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ الْحُقُوقِ مَا هُوَ فَوْقَ مَطْلُوبِ النَّفُوسِ . وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّغَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ إذَا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ وَإِمَّا أَنْ تُقَالَ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ، فَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ أَدْخَلَ صَاحِبَهُ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَشْرِطُهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ : فَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَأَمْثَالُهَا لَا تَصِحُّ ، وَلَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهَا ؛ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ
إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِمَا ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ مَا لَيْسَ إلَيْهِ فِعْلُهُ ، وَلَا يُعْلَمُ حَالُهُ فِيهِ ، وَلَا حَالُ الْآخَرِ وَلِهَذَا نَجِدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا يَدْرُونَ مَا يَشْرِطُونَ ؛ وَلَوْ اسْتَشْعَرَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بَعْضُ مَالِهِ فِي الدُّنْيَا فَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَلْ كَانَ يَدْخُلُ فِيهَا ، أَمْ لَا ؟ وَبِالْجُمْلَةِ فَجَمِيعُ مَا يَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ الشُّرُوطِ وَالْعُقُودِ وَالْمُحَالَفَاتِ فِي الْأُخُوَّةِ وَغَيْرِهَا تُرَدُّ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، فَكُلُّ شَرْطٍ يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يُوَفَّى بِهِ ، و { مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ . كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ ، وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ } فَمَتَى كَانَ الشَّرْطُ يُخَالِفُ شَرْطَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ بَاطِلًا : مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ غَيْرِهِ ابْنَهُ ، أَوْ عِتْقُ غَيْرِهِ مَوْلَاهُ ، أَوْ أَنَّ ابْنَهُ أَوْ قَرِيبَهُ لَا يَرِثُهُ ، أَوْ أَنَّهُ يُعَاوِنُهُ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُ ، وَيَنْصُرُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَادَاهُ سَوَاءٌ كَانَ بِحَقِّ أَوْ بِبَاطِلِ ، أَوْ يُطِيعُهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ ، أَوْ أَنَّهُ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَيَمْنَعُهُ مِنْ النَّارِ مُطْلَقًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ . وَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ وَفَّى مِنْهَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ وَلَمْ يُوَفِّ مِنْهَا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَفِي الْمُبَاحَاتِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ .
وَكَذَا فِي شُرُوطِ الْبُيُوعِ ، وَالْهِبَاتِ ، وَالْوُقُوفِ ، وَالنُّذُورِ ؛ وَعُقُودِ الْبَيْعَةِ لِلْأَئِمَّةِ ؛ وَعُقُودِ الْمَشَايِخِ ؛ وَعُقُودِ الْمُتَآخِيَيْنِ ، وَعُقُودِ أَهْلِ الْأَنْسَابِ وَالْقَبَائِلِ ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ؛ وَيَجْتَنِبَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ؛ وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ . وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَلَا يُطِيعُ إلَّا مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ
حُكْمُ الْمُرْتَدِّ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَكَلَّمَا فِي " مَسْأَلَةِ التَّأْبِيرِ " فَقَالَ
أَحَدُهُمَا : مَنْ نَقَصَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ
تَكَلَّمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصِ الرَّسُولِ كَفَرَ ؛ لَكِنَّ تَكْفِيرَ
الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الْمُعَيَّنِ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ
الْعُلَمَاءِ قَدْ يَتَكَلَّمُ فِي مَسْأَلَةٍ بِاجْتِهَادِهِ فَيُخْطِئُ فِيهَا
فَلَا يُكَفَّرُ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُكَفَّرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إذَا
قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْمُكَفِّرَةُ ، وَلَوْ كَفَّرْنَا كُلّ عَالِمٍ
بِمِثْلِ ذَلِكَ لَزِمَنَا أَنْ نُكَفِّرَ فُلَانًا - وَسَمَّى بَعْضَ
الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ التَّكْفِيرَ وَهُوَ
الْغَزَالِيُّ - فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ تَخْطِئَةَ الرَّسُولِ فِي
مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ : فَهَلْ يَكُونُ هَذَا تَنْقِيصًا بِالرَّسُولِ
بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ فِي تَنْزِيهِ الْعُلَمَاءِ مِنْ
الْكُفْرِ إذَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ تَعْزِيرٌ ، أَمْ لَا ؟ وَإِذَا نُقِلَ
ذَلِكَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ نَفْسُ الْكِتَابِ الَّذِي نَقَلَهُ
مِنْهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالصِّدْقِ : فَهَلْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ تَعْزِيرٌ أَمْ
لَا ؟ وَسَوَاءٌ أَصَابَ فِي النَّقْلِ عَنْ الْعَالِمِ أَمْ أَخْطَأَ ؟ وَهَلْ
يَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْقِيصٌ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَنْ اعْتَدَى عَلَى مِثْلِ هَذَا ، أَوْ نَسَبَهُ إلَى تَنْقِيصٍ بِالرَّسُولِ
، أَوْ الْعُلَمَاءِ ، وَطَلَبَ عُقُوبَتَهُ عَلَى ذَلِكَ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ
؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ تَنَقُّصٌ بِالرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا فِيهِ تَنَقُّصٌ لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ
مَضْمُونُ هَذَا الْكَلَامِ تَعْظِيمُ الرَّسُولِ وَتَوْقِيرُهُ ، وَأَنَّهُ لَا
يُتَكَلَّمُ فِي حَقِّهِ بِكَلَامِ فِيهِ نَقْصٌ ، بَلْ قَدْ أَطْلَقَ الْقَائِلُ
تَكْفِيرَ مَنْ نَقَّصَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ
تَكَلَّمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصِهِ ، وَهَذَا مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِ ؛
وَوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَقْصِهِ
. ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا بَيَّنَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ
الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الدُّنْيَا بِاجْتِهَادِهِمْ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ
أَحَدِهِمْ بِمُجَرَّدِ خَطَأٍ أَخْطَأَهُ فِي كَلَامِهِ ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ
تَجِبُ مُوَافَقَتُهُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ تَسْلِيطَ الْجُهَّالِ عَلَى تَكْفِيرِ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ ؛ وَإِنَّمَا أَصْلُ هَذَا
مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَئِمَّةَ
الْمُسْلِمِينَ ؛ لِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا فِيهِ مِنْ الدِّينِ .
وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَ
الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُمْ بِمُجَرَّدِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ ؛ بَلْ
كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُتْرَكُ بَعْضُ كَلَامِهِ
لِخَطَأِ أَخَطَأَهُ يُكَفَّرُ ولا يُفَسَّقُ ؛ بل ولا يَأْثَمُ ؛ فإن الله تعالى
قال في دُعَاءِ المؤمنين : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا } وفي الصَّحِيحِ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أن اللَّهَ تَعَالَى قَالَ قَدْ فَعَلْت } وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
الْمُنَازِعِينَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ
يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الصَّغَائِرُ وَالْخَطَأُ وَلَا يُقَرُّونَ
عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُكَفَّرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ كَفَرَ هَؤُلَاءِ لَزِمَ تَكْفِيرُ كَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَالْحَنَفِيَّةِ ، وَالْحَنْبَلِيَّةِ ، وَالْأَشْعَرِيَّةِ ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَالتَّفْسِيرِ ، وَالصُّوفِيَّةِ : الَّذِينَ لَيْسُوا كُفَّارًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِذَلِك . فَاَلَّذِي حَكَاهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ قَدْ قَالَ مِثْلَهُ أَئِمَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَصْحَابُ الْوُجُوهِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَبِي حَامِدٍ ، كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني ، الَّذِي هُوَ إمَامُ الْمَذْهَبِ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَابْنُ سُرَيْجٍ فِي تَعْلِيقِهِ : وَذَلِك أَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْنَا وَلَكِنَّ الْفَرَقَ بَيْنَنَا أَنَّا نَقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقِرُّ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَسْهُو لِيَسُنَّ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا أَسْهُو لِأَسُنَّ لَكُمْ } . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرَهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هَذَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ ، وَأَبُو الطَّيِّبِ الطبري ، وَالشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ الشِّيرَازِيّ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا بَقِيَّةُ طَوَائِفِ أَهْلِ الْعِلْمِ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَد ، وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الخطابي وَنَحْوِهِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ ، وَمَنْ كَفَّرَهُمْ بِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْغَلِيظَةَ الَّتِي تَزْجُرُهُ
وَأَمْثَالَهُ عَنْ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي مِثَالِ ذَلِكَ : قَوْلُهُمْ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ . فَمَنْ وَافَقَهُمْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُمْ الصَّوَابُ . وَمَنْ نَازَعَهُمْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُمْ خَطَأٌ ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ مُخَالِفِهِمْ . وَهَذَا الْمَسْئُولُ عَنْهُ كَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لَكِنَّهُ يَنْفِي التَّكْفِيرَ عَنْهُمْ . وَمِثْلُ هَذَا تَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِ ، وَنَسَبُهُ إلَى تَنْقِيصِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّهُ مُصَرِّحٌ بِنَقِيضِ هَذَا ، وَهَذَا . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ، وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ ، قَسَّمَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ ، إلَى أَنْ قَالَ : " الْوَجْهُ السَّابِعُ " أَنْ يَذْكُرَ مَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَخْتَلِفَ فِي إقْرَارِهِ عَلَيْهِ ، وَمَا يَطْرَأُ مِنْ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْهُ وَيُمْكِنُ إضَافَتُهَا إلَيْهِ . أَوْ يَذْكُرَ مَا اُمْتُحِنَ بِهِ وَصَبَرَ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَلَى شِدَّتِهِ مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَذَاهُمْ لَهُ ، وَمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ حَالِهِ ، وَسِيرَتِهِ ، وَمَا لَقِيَهُ مِنْ بُؤْسِ زَمَنِهِ ، وَمَرَّ عَلَيْهِ مِنْ مُعَانَاتِ عَيْشِهِ ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الرِّوَايَةِ ، وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَمَعْرِفَةِ مَا صَحَّتْ بِهِ الْعِصْمَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ . فَقَالَ : هَذَا فَنٌّ خَارِجٌ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ السِّتَّةِ ؛ لَيْسَ فِيهِ غَمْضٌ وَلَا نَقْصٌ وَلَا إزْرَاءٌ وَلَا اسْتِخْفَافٌ ، وَلَا فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَا فِي مَقْصِدِ اللَّافِظِ ؛ لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَطَلَبَةِ الدِّينِ مِمَّنْ يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُ ، وَيُحَقِّقُونَ فَوَائِدَهُ ؛ وَيُجَنَّبُ ذَلِكَ مِمَّنْ عَسَاهُ لَا يَفْقُهُ ، أَوْ يَخْشَى بِهِ فِتْنَةً .
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَبْلَ هَذَا : أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّبِّ حَاكِيًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَآثِرًا لَهُ عَنْ سِوَاهُ . قَالَ : فَهَذَا يُنْظَرُ فِي صُورَةِ حِكَايَتِهِ ، وَقَرِينَة مقالته ؛ ويختلف الحكم باختلاف ذلك على " أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ " الْوُجُوبُ ، وَالنَّدْبُ ، وَالْكَرَاهَةُ ، وَالتَّحْرِيمُ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يُحْمَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا فِيهِ إقَامَةُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْقَائِلِ ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الرَّذَالَةِ وَالنَّقْصِ عَلَى قَائِلِهِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ ذَكَرَهُ لِغَيْرِ هَذَيْنِ . قَالَ : وَلَيْسَ التَّفَكُّهُ بِعِرْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّمَضْمُضُ بِسُوءِ ذِكْرِهِ لِأَحَدِ لَا ذَاكِرًا ، وَلَا آثِرًا لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ مُبَاحٍ . فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَأَنَّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَذْكُرَهُ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ مُبَاحٍ . وَهَذَا الْقَائِلُ إنَّمَا ذُكِرَ لِدَفْعِ التَّكْفِيرِ عَنْ مِثْلِ الْغَزَالِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ تَكْفِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْبَابِ ؛ بَلْ دَفْعُ التَّكْفِيرِ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَئُوا هُوَ مِنْ أَحَقِّ الْأَغْرَاضِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّ دَفْعَ التَّكْفِيرِ عَنْ الْقَائِلِ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرِ حِمَايَةً لَهُ ، وَنَصْرًا لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ : لَكَانَ هَذَا غَرَضًا شَرْعِيًّا حَسَنًا ، وَهُوَ إذَا اجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِنْ اجْتَهَدَ فِيهِ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ .
فَبِكُلِّ حَالٍ هَذَا الْقَائِلُ مَحْمُودٌ عَلَى مَا فَعَلَ ، مَأْجُورٌ عَلَى ذَلِكَ ، مُثَابٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ ؛ وَالْمُنْكَرُ لَمَّا فَعَلَهُ أَحَقُّ بِالتَّعْزِيرِ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي قَوْلُهُ الْقَدَحَ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفْرِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِالتَّعْزِيرِ مِنْ الثَّانِي إنْ وَجَبَ التَّعْزِيرُ لِأَحَدِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُجْتَهِدًا اجْتِهَادًا سَائِغًا بِحَيْثُ يَقْصِدُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ فَلَا إثْمَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَسَوَاءٌ أَصَابَ فِي هَذَا النَّقْلِ أَوْ أَخْطَأَ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَنْقِيصٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ أَحَضَرَ النَّقْلَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْهُ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حُضُورِهِ فَائِدَةٌ ؛ إذْ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْغَزَالِيِّ قَدْ قَالَ مِثْلَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ الْغَزَالِيِّ ؛ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ دُونَهُ . وَمَنْ كَفَّرَ هَؤُلَاءِ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ ، حَتَّى الْمُتَكَلِّمُونَ ، فَإِنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ : أَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ بِذَلِك ؛ ذَكَرَهُ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَذَكَرَهُ صَاحِبُهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ . وَالْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ مِنْ الظَّنِّيَّاتِ ؛ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي ، وَأَبُو الْحَسَنِ الآمدي ، وَغَيْرُهُمَا ؛ فَكَيْفَ يُكَفَّرُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسَائِلِ الظُّنُونِ أَمْ كَيْفَ يُكَفَّرُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ أَوْ جُمْهُورُ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ وَأَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ أَصْلًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ فِي رَجُلٍ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُصَلِّ وَلَمْ يَقُمْ بِشَيْءِ
مِنْ الْفَرَائِضِ وَأَنَّهُ لَمْ يَضُرَّهُ وَيَدْخُلْ الْجَنَّةَ وَأَنَّهُ قَدْ
حُرِّمَ جِسْمُهُ عَلَى النَّارِ ؟ وَفِي رَجُلٍ يَقُولُ : أَطْلُبُ حَاجَتِي مِنْ
اللَّهِ وَمِنْك : فَهَلْ هَذَا بَاطِلٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ هَذَا
الْقَوْلُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنَّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ وَلَا يُحَرِّمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْفَوَاحِشِ
وَالظُّلْمِ وَالشِّرْكِ وَالْإِفْكِ : فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ
فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُغْنِي
عَنْهُ التَّكَلُّمُ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَإِنْ قَالَ : أَنَا أُقِرُّ بِوُجُوبِ
ذَلِكَ عَلَيَّ وَأَعْلَمُ أَنَّهُ فَرْضٌ وَأَنَّ مَنْ تَرَكَهُ كَانَ
مُسْتَحِقًّا لِذَمِّ اللَّهِ وَعِقَابِهِ ؛ لَكِنِّي لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ :
فَهَذَا أَيْضًا مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ ؛ فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ وَإِلَّا قُتِلَ . فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الْجُحُودِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ لَا يُغَسَّلُ ؛ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَمْ يُؤَدِّ الْفَرَائِضَ وَلَمْ يَجْتَنِبْ الْمَحَارِمَ : يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالنَّارِ : فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ . يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ بَلْ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ " أَصْنَافٌ " مِنْهُمْ مُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى } الْآيَةُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ وَيَنْقُرُهَا مُنَافِقٌ . فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يُصَلِّي وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : " السَّاهُونَ عَنْهَا " الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا وَاَلَّذِينَ يُفَرِّطُونَ فِي وَاجِبَاتِهَا . فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُصَلُّونَ الْوَيْلُ لَهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يُصَلِّي
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ يَعْرِفُ أُمَّتَهُ بِأَنَّهُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ } وَإِنَّمَا تَكُونُ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ لِمَنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى فَابْيَضَّ وَجْهُهُ بِالْوُضُوءِ وَابْيَضَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ بِالْوُضُوءِ فَصَلَّى أَغَرَّ مُحَجَّلًا . فَمَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يُصَلِّ لَمْ يَكُنْ أَغَرَّ وَلَا مُحَجَّلًا فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ الرنك لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الرنك الَّذِي يُعَرِّفُ بِهِ الْمُقَدِّمُ أَصْحَابَهُ وَلَا يَكُنْ هَذَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ " { أَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ مِنْ ابْنِ آدَمَ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا آثَارَ السُّجُودِ } فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ السُّجُودِ لِلْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ الْغَفُورِ الْوَدُودِ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ : أَكَلَتْهُ النَّارُ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ } وَقَالَ : " { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } وَقَالَ : " { أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ } . وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَمَا لِي إلَّا اللَّهُ وَفُلَانٌ وَأَطْلُبُ حَاجَتِي مِنْ اللَّهِ ؛ وَمِنْ فُلَانٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَقُولُ : مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ . وَأَطْلُبُ حَاجَتِي مِنْ اللَّهِ ؛ ثُمَّ مِنْ فُلَانٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ ؛ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ } { وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت فَقَالَ : أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .
مَا
تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - :
فِي " الْحَلَّاجِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ " هَلْ كَانَ صِدِّيقًا ؟
أَوْ زِنْدِيقًا ؟ وَهَلْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ مُتَّقِيًا لَهُ ؟ أَمْ كَانَ
لَهُ حَالٌ رَحْمَانِيٌّ ؟ أَوْ مِنْ أَهْلِ السِّحْرِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ ؟
وَهَلْ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ بِمَحْضَرِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؟ أَوْ
قُتِلَ مَظْلُومًا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ
عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ
رُوحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْحَلَّاجُ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ
الَّتِي ثَبَتَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَبِغَيْرِ إقْرَارِهِ ؛ وَالْأَمْرُ
الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَمَنْ قَالَ إنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ إمَّا مُنَافِقٌ مُلْحِدٌ
وَإِمَّا جَاهِلٌ ضَالٌّ . وَاَلَّذِي قُتِلَ بِهِ مَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ مِنْ
أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَبَعْضُهُ يُوجِبُ قَتْلَهُ ؛ فَضْلًا عَنْ جَمِيعِهِ .
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ؛ بَلْ كَانَ لَهُ
عِبَادَاتٌ وَرِيَاضَاتٌ وَمُجَاهَدَاتٌ : بَعْضُهَا شَيْطَانِيٌّ وَبَعْضُهَا
نَفْسَانِيٌّ وَبَعْضُهَا مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
فَلَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ . وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَى بِلَادِ الْهِنْدِ
وَتَعَلَّمَ أَنْوَاعًا مِنْ السِّحْرِ وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي السِّحْرِ
مَعْرُوفًا وَهُوَ مَوْجُودٌ إلَى الْيَوْمِ وَكَانَ لَهُ أَقْوَالٌ
شَيْطَانِيَّةٌ ومخاريق بُهْتَانِيَة .
وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ أَخْبَارَهُ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ أَرَّخُوهَا ؛ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِهِ وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُمْ مِثْلَ أَبِي عَلِيٍّ الْحَطِي ذَكَرَهُ فِي " تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ ذَكَرَ لَهُ تَرْجَمَةً كَبِيرَةً فِي " تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَأَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ صَنَّفَ مُجَلَّدًا فِي أَخْبَارِهِ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ لَهُ فِيهِ مُصَنَّفٌ سَمَّاهُ " رَفْعُ اللَّجَاجِ فِي أَخْبَارِ الْحَلَّاجِ " . وَبَسَطَ ذِكْرَهُ فِي تَارِيخِهِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي " طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَشَايِخِ ذَمُّوهُ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنْ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ ؛ وَأَكْثَرُهُمْ حَطَّ عَلَيْهِ . وَمِمَّنْ ذَمَّهُ وَحَطَّ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْد ؛ وَلَمْ يُقْتَلْ فِي حَيَاةِ الْجُنَيْد ؛ بَلْ قُتِلَ بَعْدَ مَوْتِ الْجُنَيْد ؛ فَإِنَّ الْجُنَيْد تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ . وَالْحَلَّاجَ قُتِلَ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَقَدِمُوا بِهِ إلَى بَغْدَادَ رَاكِبًا عَلَى جَمَلٍ يُنَادَى عَلَيْهِ : هَذَا دَاعِي الْقَرَامِطَةِ وَأَقَامَ فِي الْحَبْسِ مُدَّةً حَتَّى وُجِدَ مِنْ كَلَامِهِ الْكُفْرُ وَالزَّنْدَقَةُ وَاعْتَرَفَ بِهِ : مِثْلُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابٍ لَهُ : مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَبْنِي فِي دَارِهِ بَيْتًا وَيَطُوفُ بِهِ كَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَتَصَدَّقُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَتِيمًا بِصَدَقَةِ ذَكَرَهَا وَقَدْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ الْحَجِّ . فَقَالُوا لَهُ : أَنْتَ قُلْت هَذَا ؟ قَالَ نَعَمْ . فَقَالُوا لَهُ : مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا ؟ قَالَ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي " كِتَابِ الصَّلَاةِ " فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ : تَكْذِبُ يَا زِنْدِيقُ أَنَا قَرَأْت هَذَا الْكِتَابَ وَلَيْسَ هَذَا فِيهِ فَطَلَبَ مِنْهُمْ الْوَزِيرُ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا سَمِعُوهُ وَيُفْتُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ .
لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ لَهُمْ قَوْلَانِ فِي الزِّنْدِيقِ إذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ : هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فَلَا يُقْتَلُ ؟ أَمْ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِدْقَهُ ؛ فَإِنَّهُ مَا زَالَ يَظْهَرُ ذَلِكَ ؟ فَأَفْتَى طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَلَا يُقْتَلُ وَأَفْتَى الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَقُتِلَ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ الْحَدُّ تَطْهِيرًا لَهُ كَمَا لَوْ تَابَ الزَّانِي وَالسَّارِقُ وَنَحْوُهُمَا بَعْدَ أَنْ يُرْفَعُوا إلَى الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ كَانَ قَتْلُهُمْ كَفَّارَةً لَهُمْ وَمَنْ كَانَ كَاذِبًا فِي التَّوْبَةِ كَانَ قَتْلُهُ عُقُوبَةً لَهُ . فَإِنْ كَانَ الْحَلَّاجُ وَقْتَ قَتْلِهِ تَابَ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُ بِتِلْكَ التَّوْبَةِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَإِنَّهُ قُتِلَ كَافِرًا . وَلَمَّا قُتِلَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ شَيْءٌ مِنْ الْكَرَامَاتِ ؛ وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ دَمَهُ كَتَبَ عَلَى الْأَرْضِ اسْمَ اللَّهِ وَأَنَّ رِجْلَهُ انْقَطَعَ مَاؤُهَا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يَحْكِيهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُنَافِقُ وَإِنَّمَا وَضَعَهَا الزَّنَادِقَةُ وَأَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ : إنَّ شَرْعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَقْتُلُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ . حَتَّى يَسْمَعُوا أَمْثَالَ هَذِهِ الهذيانات ؛ وَإِلَّا فَقَدْ قُتِلَ أَنْبِيَاءٌ كَثِيرُونَ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَأَصْحَابِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّالِحِينَ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ قُتِلُوا بِسُيُوفِ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَكْتُبْ دَمُ أَحَدِهِمْ اسْمَ اللَّهِ . وَالدَّمُ أَيْضًا نَجِسٌ
فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى . فَهَلْ الْحَلَّاجُ خَيْرٌ
مِنْ هَؤُلَاءِ وَدَمُهُ أَطْهَرُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَقَدْ جَزِعَ وَقْتَ
الْقَتْلِ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالسُّنَّةَ فَلَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ .
وَلَوْ عَاشَ افْتَتَنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ
خُزَعْبَلَاتِ بهتانية وَأَحْوَالٍ شَيْطَانِيَّةٍ . وَلِهَذَا إنَّمَا
يُعَظِّمُهُ مَنْ يُعَظِّمُ الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ والنفسانية والبهتانية
. وَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْعَالِمُونَ بِحَالِ الْحَلَّاجِ فَلَيْسَ
مِنْهُمْ وَاحِدٌ يُعَظِّمُهُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ القشيري فِي مَشَايِخِ
رِسَالَتِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ مِنْ كَلَامِهِ كَلِمَاتٍ اسْتَحْسَنَهَا
. وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو يَعْقُوبَ النهرجوري قَدّ زَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ
فَلَمَّا اطَّلَعَ عَلَى زَنْدَقَتِهِ نَزَعَهَا مِنْهُ . وَكَانَ عَمْرُو بْنُ
عُثْمَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ كَافِرٌ وَيَقُولُ : كُنْت مَعَهُ فَسَمِعَ قَارِئًا
يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ : أَقْدِرُ أَنْ أُصَنِّفَ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنَ .
أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ . وَكَانَ يُظْهِرُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ مَا
يَسْتَجْلِبُهُمْ بِهِ إلَى تَعْظِيمِهِ ؛ فَيُظْهِرُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ
أَنَّهُ سُنِّيٌّ وَعِنْدَ أَهْلِ الشِّيعَةِ أَنَّهُ شِيعِيٌّ وَيَلْبَسُ لِبَاسَ
الزُّهَّادِ تَارَةً وَلِبَاسَ الْأَجْنَادِ تَارَةً . وَكَانَ مِنْ "
مخاريقه " أَنَّهُ بَعَثَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ إلَى مَكَانٍ فِي الْبَرِيَّةِ
يُخَبِّئُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْفَاكِهَةِ وَالْحَلْوَى ثُمَّ يَجِيءُ
بِجَمَاعَةِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ ===الاتي بمشيئة الله ج51وج52. والاخر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق