Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية بدر

الاثنين، 22 مايو 2023

ج33وج34وج35.مجموع الفتاوى لابن تيمية

ج33. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

قِسْت عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ ثَابِتَةً فِي الْفَرْعِ فَلِمَ قُلْت : إنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْدُومًا ؟ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ فِي حَالِ عَدَمِهِ مَعَ إمْكَانِ تَأْخِيرِ بَيْعِهِ إلَى حَالِ وُجُودِهِ ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْعِلَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ خَاصٍّ وَهُوَ مَعْدُومٌ يُمْكِنُ بَيْعُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ وَأَنْتَ إنْ لَمْ تُبَيِّنْ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ كَانَ قِيَاسُك فَاسِدًا وَهَذَا سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ كَافٍ فِي وَقْفِ قِيَاسِك . لَكِنْ نُبَيِّنُ فَسَادَهُ فَنَقُولُ : مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ وَمَا ذَكَرْته عِلَّةٌ مُنْتَقَضَةٌ ؛ فَإِنَّك إذَا عَلَّلْت الْمَنْعَ بِمُجَرَّدِ الْعَدَمِ اُنْتُقِضَتْ عِلَّتُك بِبَعْضِ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ وَإِذَا عَلَّلْته بِعَدَمِ مَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ بَيْعِهِ إلَى حَالِ وُجُودِهِ ؛ أَوْ بِعَدَمِ هُوَ غَرَرٌ اطَّرَدَتْ الْعِلَّةُ وَأَيْضًا فَالْمُنَاسَبَةُ تَشْهَدُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ حَالُ وُجُودٍ وَعَدَمٍ كَانَ بَيْعُهُ حَالَ الْعَدَمِ فِيهِ مُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ وَبِهَا عَلَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْعَ حَيْثُ قَالَ : { أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } بِخِلَافِ مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا حَالٌ وَاحِدَةٌ وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مُخَاطَرَةً فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ . وَمِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ قُدِّمَ أَرْجَحُهُمَا فَهُوَ إنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ الَّتِي تَضُرُّ بِأَحَدِهِمَا وَفِي

الْمَنْعِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ بِوُقُوعِهِمْ فِي الضَّرَرِ الْكَثِيرِ بَلْ يُدْفَعُ أَعْظَمُ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَلِهَذَا لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ نَوْعِ رِبَا أَوْ مُخَاطَرَةٍ فِيهَا ضَرَرٌ أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي الْعَرَايَا لِلْحَاجَةِ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَشَدُّ وَكَذَلِكَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْمَيْتَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ خُبْثِ التَّغْذِيَةِ أَبَاحَهَا لَهُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَوْتِ أَشَدُّ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؟ قِيلَ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْفَرْعَ اُخْتُصَّ بِوَصْفِ أَوْجَبَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ فَكُلُّ فَرْقٍ صَحِيحٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ اسْتَوَيَا فِي الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا . فَفِي الْجُمْلَةِ : الشَّيْءُ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ فِي وَصْفٍ وَفَارَقَهُ فِي وَصْفٍ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْفَارِقِ مُخَالِفًا لِاسْتِوَائِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْجَامِعِ لَكِنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ طَرْدًا وَعَكْسًا وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِيمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ وَيَمْنَعُهُ فَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ . وَالشَّرْعُ دَائِمًا يُبْطِلُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ كَقِيَاسِ إبْلِيسَ وَقِيَاسِ

الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } وَاَلَّذِينَ قَاسُوا الْمَيِّتَ عَلَى الْمُذَكَّى وَقَالُوا : أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ ؟ فَجَعَلُوا الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ كَوْنَهُ قَتْلَ آدَمِيٍّ وَقِيَاسِ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَسِيحَ عَلَى أَصْنَامِهِمْ فَقَالُوا : لَمَّا كَانَتْ آلِهَتُنَا تَدْخُلُ النَّارَ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الْمَسِيحُ النَّارَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } وَهَذَا كَانَ وَجْهَ مُخَاصَمَةِ ابْنِ الزبعرى لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } { لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ لَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ . وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَعْبُدُوا الْمَسِيحَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا تَعْبُدُونَ } الْأَصْنَامَ فَالْآيَةُ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْمَسِيحَ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْمَسِيحَ وَلَكِنْ أُخِّرَ بَيَانُ تَخْصِيصِهَا غَلَطٌ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَكَانَتْ حُجَّةُ الْمُشْرِكِينَ مُتَوَجِّهَةً ؛ فَإِنَّ مَنْ خَاطَبَ بِلَفْظِ الْعَامِّ يَتَنَاوَلُ حَقًّا وَبَاطِلًا لَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ تَوَجَّهَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } أَيْ : هُمْ ضَرَبُوهُ مَثَلًا كَمَا قَالَ : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا } أَيْ : جَعَلُوهُ مَثَلًا لِآلِهَتِهِمْ فَقَاسُوا الْآلِهَةَ عَلَيْهِ وَأَوْرَدُوهُ مَوْرِدَ الْمُعَارَضَةِ

فَقَالُوا : إذَا دَخَلَتْ آلِهَتُنَا النَّارَ لِكَوْنِهَا مَعْبُودَةً فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْمَسِيحِ فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ فَهِيَ لَا تَدْخُلُ النَّارَ وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْبُودًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْعِلَّةُ أَنَّهُ مَعْبُودٌ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ أَوْ مَعْبُودٌ لَا ظُلْمَ فِي إدْخَالِهِ النَّارَ . فَالْمَسِيحُ وَالْعُزَيْرُ وَالْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِكَرَامَةِ اللَّهِ بِوَعْدِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ فَلَا يُعَذَّبُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَالْمَقْصُودُ بِإِلْقَاءِ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ إهَانَةُ عَابِدِيهَا وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَهُمْ الْكَرَامَةُ دُونَ الْإِهَانَةِ فَهَذَا الْفَارِقُ بَيَّنَ فَسَادَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْجَامِعِ . وَالْأَقْيِسَةُ الْفَاسِدَةُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِخِلَافِ مِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ فَقَدْ أَصَابَ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ . وَمَنْ لَمْ يُخَالِفْ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ بَلْ سَوَّى بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ لَزِمَهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَيُسَوِّي بَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَبَيْنَ بَعْضِ

الْمَخْلُوقِينَ فَيَكُونُ مِنْ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وَيُشْرِكُونَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ أَيْ : بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَايِيسِ الَّتِي يَشْتَبِهُ فِيهَا الشَّيْءُ بِمَا يُفَارِقُهُ كَأَقْيِسَةِ الْمُشْرِكِينَ . وَمَنْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِكَلَامِ النَّاسِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ رَأَى عَامَّةَ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يُسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ مَا يُوجِبُ أَعْظَمَ الْمُخَالَفَةِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِكَلَامِهِمْ فِي وُجُودِ الرَّبِّ وَوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ مَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجَارَةِ بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ قَوْلِهِمْ : إنَّ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْمَعْدُومَةِ لَا يَجُوزُ . وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقُولَ : لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ ؛ بَلْ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ

لَا يَجُوزُ لَا لَفْظٌ عَامٌّ وَلَا مَعْنًى عَامٌّ وَإِنَّمَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَعْدُومَةٌ كَمَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ وَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ لَا الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ بَلْ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } وَالْغَرَرُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ هُوَ غَرَرٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَإِنَّ مُوجَبَ الْبَيْعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ عَاجِزٌ عَنْهُ وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يَشْتَرِيهِ مُخَاطَرَةً وَمُقَامَرَةً فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ . وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَخْذُهُ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَ الْمُشْتَرِيَ . وَهَكَذَا الْمَعْدُومُ الَّذِي هُوَ غَرَرٌ نَهَى عَنْ بَيْعِهِ لِكَوْنِهِ غَرَرًا لَا لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا كَمَا إذَا بَاعَ مَا يَحْمِلُ هَذَا الْحَيَوَانُ أَوْ مَا يَحْمِلُ هَذَا الْبُسْتَانُ فَقَدْ يَحْمِلُ وَقَدْ لَا يَحْمِلُ وَإِذَا حَمَلَ فَالْمَحْمُولُ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَلَا وَصْفُهُ فَهَذَا مِنْ الْقِمَارِ وَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَمِثْلُ هَذَا إذَا أَكْرَاهُ دَوَابَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا ؛ أَوْ عَقَارًا لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَإِنَّهُ إجَارَةُ غَرَرٍ .

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ نَقُولَ : بَلْ الشَّارِعُ صَحَّحَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ } { وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ } وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ فَأَحَلَّ أَحَدَهُمَا وَحَرَّمَ الْآخَرَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَبْلَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ لَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ كَمَا يَشْتَرِي الْحِصْرِمَ لِيَقْطَعَ حِصْرِمًا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ إذَا بِيعَ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ ؛ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَوَّزَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى الْبَقَاءِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ . وَمَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ ؛ وَنَهَى عَنْهُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ أَوْ مُطْلَقًا : لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ لِظُهُورِ الصَّلَاحِ فَائِدَةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَذِنَ فِيهِ . وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ : مُوجَبُ الْعَقْدِ التَّسْلِيمُ عَقِيبَهُ فَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ . فَيُقَالُ لَهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مُوجِبُ الْعَقْدِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ بِالْعَقْدِ أَوْ مَا أَوْجَبَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فَلَا الشَّارِعُ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ بَيْعٍ مُسْتَحِقٍّ التَّسْلِيمَ عَقِبَ الْعَقْدِ وَلَا الْعَاقِدَانِ الْتَزَمَا ذَلِكَ بَلْ تَارَةً يَعْقِدَانِ الْعَقْدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَمَا إذَا بَاعَ مُعَيَّنًا بِدَيْنِ حَالٍّ وَتَارَةً يَشْتَرِطَانِ تَأْخِيرَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ

كَمَا فِي السَّلَمِ ؛ وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ . وَقَدْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ فِي تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ كَمَا كَانَ لِجَابِرِ حِينَ بَاعَ بَعِيرَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ عَاقِدٍ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَمَا إذَا بَاعَ عَقَارًا وَاسْتَثْنَى سُكْنَاهُ مُدَّةً أَوْ دَوَابَّهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهَا أَوْ وَهَبَ مِلْكًا وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَتَهُ أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهُ مُدَّةً ؛ أَوْ مَا دَامَ السَّيِّدُ أَوْ وَقَفَ عَيْنًا وَاسْتَثْنَى غَلَّتَهَا لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ قَالَ : لَا بُدَّ إذَا اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذَهَا لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ عَقِبَ الْعَقْدِ . وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ إلَّا لِمُدَّةِ تَلِي الْعَقْدَ وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ أَحْيَانًا جَعَلُوهُ لَازِمًا لَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَهُوَ مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ . وَعَلَى هَذَا بَنَوْا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا مُسْتَثْنًى بِالشَّرْعِ بِخِلَافِ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْطِ . وَلَوْ بَاعَ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ صَحَّ بِاتِّفَاقِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ

الْبُضْعِ لِلزَّوْجِ وَقَدْ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الضَّعِيفِ وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عَقِبَهُ وَالشَّرْعُ لَمْ يَدُلّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ؛ بَلْ الْقَبْضُ فِي الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ كَالْقَبْضِ فِي الدَّيْنِ تَارَةً يَكُونُ مُوجَبُ الْعَقْدِ قَبْضَهُ عَقِبَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَارَةً يَكُونُ مُوجَبُ الْعَقْدِ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ لِمَصْلَحَةِ مِنْ الْمَصَالِحِ . وَعَلَى هَذَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزَ بَيْعَ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُسْتَحِقٌّ الْإِبْقَاءَ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَعَلَى الْبَائِعِ السَّقْيُ وَالْخِدْمَةُ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا هُوَ مَعْدُومٌ لَمْ يُخْلَقْ وَهَذَا إذَا قُبِضَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ فَقَبْضُهُ يُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَبْضُهُ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الضَّمَانِ إلَيْهِ بَلْ إذَا تَلِفَ الثَّمَرُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ : أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ مُعَلَّقٌ لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } وَلَيْسَ مَعَ الْمُنَازِعِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَبْضٍ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ يَنْقُلُ الضَّمَانَ وَمَا لَمْ يُجَوِّزْ

التَّصَرُّفَ لَمْ يَنْقُلْ الضَّمَانَ ؛ بَلْ قَبْضُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ يُجَوِّزُ التَّصَرُّفَ وَلَا يَنْقُلُ الضَّمَانَ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ المقاثي ؛ فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهَا إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً لِأَنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : إذَا بِيعَتْ بِعُرُوقِهَا كَانَ كَبَيْعِ أَصْلِ الشَّجَرِ مَعَ الثَّمَرِ وَذَلِكَ يَجُوزُ قَبْلَ ظُهُورِ صَلَاحِهِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : { مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ } فَإِذَا اشْتَرَطَ الثَّمَرَ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ وَهُنَا جَازَ بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا تَكُونُ خِدْمَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّجَرِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَقْصُودُ فِي المقاثي هُوَ الثَّمَرُ فَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ المقاثي كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهَذَا أَصَحُّ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إذْ لَا تَتَمَيَّزُ لُقَطَةٌ عَنْ لُقَطَةٍ وَمَا لَا يُبَاعُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يُنْهَى عَنْ بَيْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ الَّتِي يُمْكِنُ تَأْخِيرُ بَيْعِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فَلَمْ تَدْخُلْ المقاثي فِي نَهْيِهِ وَلِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَدْخَلُوا ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ فِي نَهْيِهِ فَقَالُوا : إذَا ضَمِنَ الْحَدِيقَةَ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تُثْمِرَ بِشَيْءِ مَعْلُومٍ كَانَ هَذَا بَيْعًا

لِلثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ؛ فَلَا يَجُوزُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ هَذَا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ حَدِيقَةَ أسيد بْنِ حضير ثَلَاثَ سِنِينَ وَيَسْتَلِفُ الضَّمَانَ فَقَضَى بِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَى أسيد ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَصِيَّهُ وَقَدْ جَوَّزَ ابْنُ عَقِيلٍ ضَمَانَهَا مَعَ الْأَرَاضِي الْمُؤَجَّرَةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ وَجَوَّزَ مَالِكٌ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ وَقَضِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِمَّا يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا فِي الْعَادَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَهُ فَالصَّوَابُ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالضَّمَانِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ ؟ ثُمَّ إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا جَازَ هَذَا مَعَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَقْصُودُهُ الْحَبُّ لَكِنَّ مَقْصُودَهُ ذَلِكَ بِعَمَلِهِ هُوَ لَا بِعَمَلِ الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَسْتَأْجِرُ الْبُسْتَانَ لِيَخْدِمَ شَجَرَهُ وَيَسْقِيَهَا حَتَّى تُثْمِرَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَشْتَرِي ثَمَرًا وَعَلَى الْبَائِعِ مَئُونَةُ خِدْمَتِهَا وَسَقْيِهَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ أَعْيَانٌ وَالْإِجَارَةُ لَا تَكُونُ عَلَى الْأَعْيَانِ . قِيلَ : الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَعْيَانَ هُنَا حَصَلَتْ بِعَمَلِهِ هُوَ مِنْ الْأَصْلِ الْمُسْتَأْجَرِ

كَمَا حَصَلَ الْحَبُّ بِعَمَلِهِ الْمُؤَجَّرِ فِي أَرْضٍ وَإِذَا قِيلَ : الْحَبُّ حَصَلَ مِنْ بَذْرِهِ وَالثَّمَرُ حَصَلَ مِنْ شَجَرِ الْمُؤَجِّرِ : كَانَ هَذَا فَرْقًا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ كَالْمُزَارَعَةِ ؟ وَالْمُسَاقِي يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ الثَّمَرَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ أَصْلِ الْمَالِكِ ؛ وَالْمُزَارِعُ يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ النَّابِتِ فِي أَرْضِ الْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ ؛ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَالْبَذْرُ يَتْلَفُ لَا يَعُودُ إلَى صَاحِبِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } فَالْأَرْضُ وَالنَّخْلُ وَالْمَاءُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَحَقُّوا بِعَمَلِهِمْ جُزْءًا مِنْ الثَّمَرِ كَمَا اسْتَحَقُّوا جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمْ وَالشَّجَرُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَكُونُ النَّمَاءُ مُشْتَرَكًا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ مَا فِي الْمُزَارَعَةِ فَإِذَا كَانَتْ إجَارَتُهَا أجوز مِنْ الْمُزَارَعَةِ فَإِجَارَةُ الشَّجَرِ أجوز مِنْ الْمُسَاقَاةِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : هَذَا كَإِجَارَةِ الظِّئْرِ وَالْبِئْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا هُوَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي فِي الْإِجَارَةِ فَنَقُولُ : قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ إنَّمَا هُوَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ

الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مَنَافِعِ أَعْرَاضٍ لَا تُسْتَحَقُّ بِهَا أَعْيَانٌ وَهَذَا الْقَدْرُ لَمْ يَدُلّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ بَلْ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُصُولُ أَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَنَافِعِ كَالثَّمَرِ وَالشَّجَرِ ؛ وَاللَّبَنِ فِي الْحَيَوَانِ ؛ وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي الْوَقْفِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْفَائِدَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ بَاقِيًا وَأَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ تَحْدُثُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَةُ الْوَقْفِ مَنْفَعَةً كَالسُّكْنَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثَمَرَةً كَوَقْفِ الشَّجَرِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَبَنًا كَوَقْفِ الْمَاشِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهَا . وَكَذَلِكَ " بَابُ التَّبَرُّعَاتِ " فَإِنَّ الْعَارِيَةَ وَالْعُرْيَةَ وَالْمِنْحَةَ هِيَ إعْطَاءُ الْعَيْنِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا فَالْمِنْحَةُ إعْطَاءُ الْمَاشِيَةِ لِمَنْ يَشْرَبُ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا وَالْعُرْيَةُ إعْطَاءُ الشَّجَرَةِ لِمَنْ يَأْكُلُ ثَمَرَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا وَالسُّكْنَى إعْطَاءُ الدَّارِ لِمَنْ يَسْكُنُهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ تَارَةً تَكْرِيهِ الْعَيْنَ لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي لَيْسَتْ أَعْيَانًا كَالسُّكْنَى وَالرُّكُوبِ وَتَارَةً لِلْعَيْنِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَلَبَنِ الظِّئْرِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ فَإِنَّ الْمَاءَ وَاللَّبَنَ لَمَّا كَانَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَانَ كَالْمَنْفَعَةِ وَالْمُسَوِّغُ لِلْإِجَارَةِ هُوَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ حَدَثٌ وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ شَيْئًا فَشَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ الْحَادِثُ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً إذْ كَوْنُهُ

جِسْمًا أَوْ مَعْنًى قَائِمًا بِالْجِسْمِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي جِهَةِ الْجَوَازِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ بَلْ هَذَا أَحَقُّ بِالْجَوَازِ ؛ فَإِنَّ الْأَجْسَامَ أَكْمَلُ مِنْ صِفَاتِهَا ؛ وَلَا يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إلَّا كَذَلِكَ . وَطُرِدَ هَذَا أَكْثَرُ فِي الظِّئْرِ مِنْ الْحَيَوَانِ لِلْإِرْضَاعِ ثُمَّ الظِّئْرُ تَارَةً تُسْتَأْجَرُ بِأُجْرَةِ مُقَدَّرَةٍ وَتَارَةً بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا وَتَارَةً يَكُونُ طَعَامُهَا وَكِسْوَتُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأُجْرَةِ . وَأَمَّا الْمَاشِيَةُ إذَا عَقَدَ عَلَى لَبَنِهَا بِعِوَضِ فَتَارَةً يَشْتَرِي لَبَنَهَا مَعَ أَنَّ عَلْفَهَا وَخِدْمَتَهَا عَلَى الْمَالِكِ وَتَارَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَهَذَا الثَّانِي يُشْبِهُ ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ وَهُوَ بِالْإِجَارَةِ أَشْبَهُ لِأَنَّ اللَّبَنَ تَسْقِيهِ الطِّفْلَ فَيَذْهَبُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ فَهُوَ كَاسْتِئْجَارِ الْعَيْنِ يَسْتَقِي بِمَائِهَا أَرْضَهُ بِخِلَافِ مَنْ يَقْبِضُ اللَّبَنَ فَإِنَّهُ هُنَا قَبَضَ الْعَيْنَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا وَتَسْمِيَةُ هَذَا بَيْعًا وَهَذَا إجَارَةً نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَقَاصِدِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ اخْتِلَافَ الْعِبَارَاتِ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ حَتَّى إنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ بِلَفْظِ دُونَ لَفْظٍ كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ إنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ لَا يَجُوزُ وَإِذَا كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ جَازَ : وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَا تَجُوزُ وَإِذَا عَقَدَهُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ جَازَ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ

فِي الْعُقُودِ بِمَقَاصِدِهَا وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا فَتَجْوِيزُهُ بِعِبَارَةِ دُونَ عِبَارَةٍ كَتَجْوِيزِهِ بِلُغَةِ دُونَ لُغَةٍ نَعَمْ إذَا كَانَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يَقْتَضِي حُكْمًا لَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ فَهَذَا لَهُ حُكْمٌ آخَرُ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يُقَالُ : إنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ أَوْ مُخَالِفُهُ وَإِنَّ الشَّارِعَ إذَا سَوَّى بَيْنَ شَيْئَيْنِ كَمَا سَوَّى بَيْنَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الرَّضَاعِ وَالْخِدْمَةِ فَالْفَارِقُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ التَّأْثِيرِ وَهُوَ كَوْنُ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا مَنْفَعَةً وَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ بَلْ لِلْفَارِقِ تَأْثِيرٌ .
فَصْلٌ :
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : حَمْلُ الْعَقْلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ . فَيُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مَضْمُونًا كَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي الْعَقْلِ : هَلْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا ؟ كَمَا تَنَازَعُوا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ ؛ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ : هَلْ تَجِبُ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا ؟ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي لَوْ أَخْرَجَهَا الَّذِي يُخْرِجُ عَنْهُ بِدُونِ إذْنِ

الْمُخَاطَبِ بِهَا فَمَنْ قَالَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُخَاطَبِ تَحَمُّلًا قَالَ : تُجْزِئُ . وَمَنْ قَالَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً قَالَ : هِيَ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْ الْغَيْرِ . وَلِذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي الْعَقْلِ إذَا لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةً : هَلْ تَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْقَاتِلِ أَمْ لَا ؟ وَالْعَقْلُ فَارَقَ غَيْرَهُ مِنْ الْحُقُوقِ فِي أَسْبَابٍ اقْتَضَتْ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ مَالٌ كَثِيرٌ وَالْعَاقِلَةُ إنَّمَا تَحْمِلُ الْخَطَأَ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ بِلَا نِزَاعٍ وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَحْمِلُهُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُعْذَرُ فِيهِ الْإِنْسَانُ ؛ فَإِيجَابُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ تَعَمَّدَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ بَدَلِ الْمَقْتُولِ . فَالشَّارِعُ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِمْ مُوَالَاةُ الْقَاتِلِ وَنَصْرُهُ أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا كَإِيجَابِ النَّفَقَاتِ الَّتِي تَجِبُ لِلْقَرِيبِ ؛ أَوْ تَجِبُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَإِيجَابِ فِكَاكِ الْأَسِيرِ مِنْ بَلَدِ الْعَدُوِّ ؛ فَإِنَّ هَذَا أَسِيرٌ بِالدِّيَةِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ وَهِيَ لَمْ تَجِبْ بِاخْتِيَارِ مُسْتَحِقِّهَا وَلَا بِاخْتِيَارِهِ كَالدُّيُونِ الَّتِي تَجِبُ بِالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ وَلَيْسَتْ أَيْضًا قَلِيلَةً فِي الْغَالِبِ كَإِبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ فَإِنَّ إتْلَافَ مَالٍ كَثِيرٍ بِقَدْرِ الدِّيَةِ خَطَأً نَادِرٌ جِدًّا بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً فَمَا سَبَبُهُ الْعَمْدُ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَالْمُتْلِفُ ظَالِمٌ مُسْتَحِقٌّ فِيهِ لِلْعُقُوبَةِ وَمَا سَبَبُهُ الْخَطَأُ فِي الْأَمْوَالِ فَقَلِيلٌ فِي الْعَادَةِ ؛ بِخِلَافِ الدِّيَةِ .

وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ إلَّا مَالَهُ قَدَرَ كَثِيرٌ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا دُونَ السِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ فَكَانَ إيجَابُهَا مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ كَبَنِي السَّبِيلِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَقَارِبِ الْمُحْتَاجِينَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الشَّرَائِعِ الَّتِي بِهَا قِيَامُ مَصْلَحَةِ الْعَالَمِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَسَّمَ خَلْقَهُ إلَى غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِسَدِّ خُلَّةِ الْفُقَرَاءِ وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي يَضُرُّ الْفُقَرَاءَ ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالصَّدَقَةِ مِنْ جِنْسِ النَّهْيِ عَنْ الرِّبَا ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } وَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي آخِرِ الْبَقَرَةِ أَحْكَامَ الْأَمْوَالِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : عَدْلٌ ؛ وَفَضْلٌ ؛ وَظُلْمٌ ؛ فَالْعَدْلُ : الْبَيْعُ ؛ وَالظُّلْمُ : الرِّبَا ؛ وَالْفَضْلُ : الصَّدَقَةُ . فَمَدَحَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَذَكَرَ ثَوَابَهُمْ وَذَمَّ الْمُرْبِينَ وَبَيَّنَ عِقَابَهُمْ وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالتَّدَايُنَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ؛ فَالْعَقْلُ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْحُقُوقِ لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ كَحَقِّ الْمُسْلِمِ ؛ وَحَقِّ ذِي الرَّحِمِ وَحَقِّ الْجَارِ ؛ وَحَقِّ الْمَمْلُوكِ وَالزَّوْجَةِ .

فَصْلٌ :
وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يُقَالُ : إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَنَوْعٌ مُتَنَازَعٌ فِيهِ . فَمَا لَا نِزَاعَ فِي حُكْمِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا هَلْ يُقَاسُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَيُحْكَى هَذَا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَقَالُوا : إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى شُرُوطِ الْقِيَاسِ فَمَا عُلِمَتْ عِلَّتُهُ أَلْحَقْنَا بِهِ مَا شَارَكَهُ فِي الْعِلَّةِ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ لَمْ يُقَلْ وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ انْتِفَاءُ الْفَارِقِ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْجَمْعُ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ كَالْجَمْعِ بِالْعِلَّةِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَرْعَ كَالْأَصْلِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقِيَاسُ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ أَوْ خِلَافِهِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَرَايَا يُلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا .

وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ بَلْ مَا قِيلَ : إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ : فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّصَافِهِ بِوَصْفِ امْتَازَ بِهِ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي خَالَفَهَا وَاقْتَضَى مُفَارَقَتَهُ لَهَا فِي الْحُكْمِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَلِكَ الْوَصْفُ إنْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ فَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُفَارِقَةِ لَهُ . وَأَمَّا الْمُتَنَازَعُ فِيهِ فَمِثْلُ مَا يَأْتِي حَدِيثٌ بِخِلَافِ أَمْرٍ فَيَقُولُ الْقَائِلُونَ : هَذَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ بِخِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَهَذَا لَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْ أَشْهَرِهَا الْمُصَرَّاةُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُصِرُّوا الْإِبِلَ وَلَا الْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَ مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَقَالَ قَائِلُونَ : هَذَا يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا : أَنَّهُ رَدُّ الْمَبِيع بِلَا عَيْبٍ وَلَا خُلْفَ فِي صِفَةٍ . وَمِنْهَا : أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَاللَّبَنُ الَّذِي يَحْدُثُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَهُنَا قَدْ ضَمِنَهُ . وَمِنْهَا : أَنَّ اللَّبَنَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ . وَمِنْهَا : أَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ مِنْ النَّقْدِ وَهُنَا ضَمِنَهُ بِالتَّمْرِ .

وَمِنْهَا : أَنَّ الْمَالَ الْمَضْمُونَ يُضْمَنُ بِقَدْرِهِ لَا بِقَدْرِ بَدَلِهِ بِالشَّرْعِ وَهُنَا قُدِّرَ بِالشَّرْعِ . فَقَالَ الْمُتَّبِعُونَ لِلْحَدِيثِ : بَلْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ خَطَأٌ وَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ وَلَوْ خَالَفَهَا لَكَانَ هُوَ أَصْلًا كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ أَصْلٌ فَلَا تُضْرَبُ الْأُصُولُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا كُلُّهَا فَإِنَّهَا كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . أَمَّا قَوْلُهُمْ : رَدٌّ بِلَا عَيْبٍ وَلَا فَوَاتُ صِفَةٍ فَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ مَا يُوجِبُ انْحِصَارَ الرَّدِّ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ بَلْ التَّدْلِيسُ نَوْعٌ ثَبَتَ بِهِ الرَّدُّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْخُلْفِ فِي الصِّفَةِ فَإِنَّ الْبَيْعَ تَارَةً تَظْهَرُ صِفَاتُهُ بِالْقَوْلِ وَتَارَةً بِالْفِعْلِ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ وَكَانَ عَلَى خِلَافِهَا فَهُوَ تَدْلِيسٌ وَقَدْ { أَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخِيَارَ لِلرُّكْبَانِ إذَا تَلَقَّوْا وَاشْتَرَى مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطُوا السُّوقَ وَيَعْلَمُوا السِّعْرَ } وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ تَدْلِيسٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } فَأَوَّلًا حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ أَصَحُّ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْخَرَاجَ مَا يَحْدُثُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَفْظُ الْخَرَاجِ اسْمٌ لِلْغَلَّةِ : مِثْلَ كَسْبِ الْعَبْدِ وَأَمَّا اللَّبَنُ وَنَحْوُهُ فَمُلْحَقٌ بِذَلِكَ وَهُنَا كَانَ اللَّبَنُ مَوْجُودًا فِي الضَّرْعِ فَصَارَ جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ وَلَمْ يُجْعَلْ الصَّاعُ عِوَضًا عَمَّا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ بَلْ عِوَضًا عَنْ

اللَّبَنِ الْمَوْجُودِ فِي الضَّرْعِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَأَمَّا تَضْمِينُ اللَّبَنِ بِغَيْرِهِ وَتَقْدِيرِهِ بِالشَّرْعِ فَلِأَنَّ اللَّبَنَ الْمَضْمُونَ اخْتَلَطَ بِاللَّبَنِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ فَلِهَذَا قَدَّرَ الشَّارِعُ الْبَدَلَ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ وَقَدَّرَ بِغَيْرِ الْجِنْسِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْجِنْسِ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ أَقَلَّ فَيُفْضِي إلَى الرِّبَا بِخِلَافِ غَيْرِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ كَأَنَّهُ ابْتَاعَ لِذَلِكَ اللَّبَنِ الَّذِي تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ بِالصَّاعِ مِنْ التَّمْرِ وَالتَّمْرُ كَانَ طَعَامَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَكِيلٌ مَطْعُومٌ يُقْتَاتُ بِهِ كَمَا أَنَّ اللَّبَنَ مَكِيلٌ مُقْتَاتٌ وَهُوَ أَيْضًا يُقْتَاتُ بِهِ بِلَا صَنْعَةٍ بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَاتُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةِ فَهُوَ أَقْرَبُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَاتُونَ بِهَا إلَى اللَّبَنِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمْصَارِ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ بِصَاعِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَقْتَاتُ التَّمْرَ فَهَذَا مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ كَأَمْرِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعِ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : إنَّ أَمْرَهُ لِلْمُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ بِالْإِعَادَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقِفُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ تَقِفُ خَلْفَ الرِّجَالِ وَحْدَهَا كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ التَّقَدُّمُ بِالِاتِّفَاقِ وَالْمُؤْتَمُّونَ يُسَنُّ فِي حَقِّهِمْ الِاصْطِفَافُ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ يُشَبَّهُ هَذَا بِهَذَا

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُؤْتَمُّ بِهِ فَإِذَا كَانَ إمَامُهُمْ رَأَوْهُ وَكَانَ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ أَكْمَلَ . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَقِفُ وَحْدَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا فَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهَا الِاصْطِفَافُ ؛ لَكِنَّ قَضِيَّةَ الْمَرْأَةِ تَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ . تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ خَلْفَ الصَّفِّ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ وَتَعَذَّرَ الدُّخُولُ فِي الصَّفِّ صَلَّى وَحْدَهُ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ تَسْقُطُ لِلْحَاجَةِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُصَافَّ غَيْرَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ سَقَطَ لِلْحَاجَةِ ؛ كَمَا سَقَطَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ فِي مِثْلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ مُحَافَظَةً عَلَى الْجَمَاعَةِ . وَطُرِدَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَمَاعَةِ إلَّا قُدَّامَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ أَمَامَهُ وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِنْ كَانُوا لَا يُجَوِّزُونَ التَّقَدُّمَ عَلَى الْإِمَامِ إذَا أَمْكَنَ تَرْكُ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ . وَفِي الْجُمْلَةِ : فَلَيْسَتْ الْمُصَافَّةُ أَوْجَبَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا سَقَطَ غَيْرُهَا لِلْعُذْرِ فِي الْجَمَاعَةِ فَهِيَ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ . وَمِنْ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ سَاقِطُ الْوُجُوبِ وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ إلَيْهِ بِلَا مَعْصِيَةٍ غَيْرُ مَحْظُورٍ فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ

الْعَبْدُ وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ الْعَبْدُ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ : { إنَّ الرَّهْنَ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَحْلِبُ النَّفَقَةُ } إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ حَيَوَانًا فَهُوَ مُحْتَرَمٌ فِي نَفْسِهِ وَلِمَالِكِهِ فِيهِ حَقٌّ ؛ وَلِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقٌّ وَإِذَا كَانَ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَرْكَبْ وَلَمْ يَحْلِبْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ بَاطِلَةً وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اللَّبَنَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ مَنْفَعَتَهُ وَعَوَّضَ عَنْهَا نَفَقَتَهُ كَانَ فِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَبَيْنَ الْحَقَّيْنِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَالْمُرْتَهِنُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَدَّى عَنْهُ وَاجِبًا وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ وَالْمَنْفَعَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا فَأَخْذُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْهَبَ عَلَى صَاحِبِهَا وَتَذْهَبَ بَاطِلًا . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِ إذْنِهِ كَالدَّيْنِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . وَإِذَا أَنْفَقَ نَفَقَةً تَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ عَبْدِهِ ؛ فَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد قَالَ : لَا يَرْجِعُ ؛ وَفَرَّقُوا بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا وَقَالُوا : الْجَمِيعُ وَاجِبٌ وَلَوْ افْتَدَاهُ

مِنْ الْأَسْرِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْفِدَاءِ وَلَيْسَتْ دَيْنًا وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنَ الْأَبِ وَكَذَلِكَ قَالَ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا وَنَفَقَةُ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى رَبِّهِ وَالْمُرْتَهِنُ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى رَبِّهِ كَانَ أَحَقَّ بِالرُّجُوعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الرَّاهِنَ قَالَ : لَمْ آذَنْ لَك فِي النَّفَقَةِ قَالَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْك وَأَنَا أَسْتَحِقُّ أَنْ أُطَالِبَك بِهَا لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ . وَإِذَا كَانَ الْمُنْفِقُ قَدْ رَضِيَ بِأَنْ يَعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الرَّهْنِ الَّتِي لَا يُطَالِبُهُ بِنَظِيرِ النَّفَقَةِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا خَيْرٌ مَحْضٌ مَعَ الرَّاهِنِ وَكَذَلِكَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُؤْتَمَنَ عَلَى حَيَوَانِ الْغَيْرِ كَالْمُودَعِ وَالشَّرِيكِ وَالْوَكِيلِ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَاعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا إحْسَانٌ إلَى صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ . وَمِمَّا يُقَالُ : إنَّهُ أَبْعَدُ الْأَحَادِيثِ عَنْ الْقِيَاسِ : الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ الْحَسَنِ ؛ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ حريث ؛ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ

إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا وَقَدْ رُوِيَ فِي لَفْظٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ وَمِثْلُهَا مِنْ مَالِهِ لِسَيِّدَتِهَا } وَهَذَا الْحَدِيثُ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي إسْنَادِهِ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ وَلَكِنْ لِإِشْكَالِهِ قَوِيَ عِنْدَهُمْ تَضْعِيفُهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ ثَلَاثَةِ أُصُولٍ هِيَ صَحِيحَةٌ كُلٌّ مِنْهَا قَوْلُ طَائِفَة مِنْ الْفُقَهَاءِ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَنْ غَيَّرَ مَالَ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يُفَوِّتُ مَقْصُودَهُ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهُ بِمِثْلِهِ وَهَذَا كَمَا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ بِمَا أَزَالَ اسْمَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَحَدُهَا : إنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِذَلِكَ وَيَضْمَنُهُ لِصَاحِبِهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثُ : يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَتَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا ؛ فَإِنْ فَوَّتَ صِفَاتِهِ الْمَعْنَوِيَّةَ مِثْلَ

أَنْ يُنْسِيَهُ صِنَاعَتَهُ : أَوْ يُضْعِفَ قُوَّتَهُ ؛ أَوْ يُفْسِدَ عَقْلَهُ وَدِينَهُ : فَهَذَا أَيْضًا يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَلَوْ قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي . فَعِنْدَ مَالِكٍ يَضْمَنُهَا بِالْبَدَلِ وَيَمْلِكُهَا لِتَعَذُّرِ مَقْصُودِهَا عَلَى الْمَالِكِ فِي الْعَادَةِ ؛ أَوْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ إذَا قَطَعَ آذَانَ فَرَسِهِ وَذَنَبَهَا . الْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَ الْمُتْلَفَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ حَتَّى الْحَيَوَانِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ يَجِبُ فِيهِ رَدُّ الْمِثْلِ وَإِذَا اقْتَرَضَ حَيَوَانًا رَدَّ مِثْلَهُ كَمَا { اقْتَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا وَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ } وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرُورِ يُضْمَنُ وَلَدُهُ بِمِثْلِهِمْ كَمَا قَضَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَثْنَى رَأْسَ الْمَبِيع وَلَمْ يَذْبَحْهُ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِشِرَائِهِ أَيْ : بِرَأْسِ مِثْلِهِ فِي الْقِيمَةِ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْمَاشِيَةَ كَانَتْ قَدْ أَتْلَفَتْ حَرْثَ الْقَوْمِ وَهُوَ بُسْتَانُهُمْ قَالُوا : وَكَانَ عَيْنًا وَالْحَرْثُ اسْمٌ لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ فَقَضَى دَاوُد بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ كَأَنَّهُ ضَمَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ إلَّا الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُمْ الْغَنَمَ بِالْقِيمَةِ . وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَحَكَمَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَاشِيَةِ يَقُومُونَ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ فَضَمَّنَهُمْ إيَّاهُ بِالْمِثْلِ وَأَعْطَاهُمْ الْمَاشِيَةَ يَأْخُذُونَ مَنْفَعَتَهَا عِوَضًا

عَنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي فَاتَتْ مِنْ حِينِ تَلَفِ الْحَرْثِ إلَى أَنْ يَعُودَ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ كَانَ أَتْلَفَ لَهُ شَجَرًا فَقَالَ : يَغْرِسُهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ وَقِيلَ : رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ قَالَا : عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَغَلَّظَ الزُّهْرِيُّ الْقَوْلَ فِيهِمَا . وَهَذَا مُوجَبُ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ قَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَالَ : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَقَالَ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } وَقَالَ : { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } فَإِذَا أَتْلَفَ نَقْدًا أَوْ حُبُوبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ أَمْكَنَ ضَمَانُهَا بِالْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ ثِيَابًا أَوْ آنِيَةً أَوْ حَيَوَانًا فَهُنَا مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ . فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ : إمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ دَرَاهِمُ مُخَالِفَةٌ لِلْمُتْلَفِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ لَكِنَّهَا تُسَاوِيهِ فِي الْمَالِيَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ بِثِيَابِ مِنْ جِنْسِ ثِيَابِ الْمِثْلِ أَوْ آنِيَةٍ مِنْ جِنْسِ آنِيَتِهِ أَوْ حَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِ حَيَوَانِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَعَ كَوْنِ قِيمَتِهِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَهُنَا الْمَالِيَّةُ مُسَاوِيَةٌ كَمَا فِي النَّقْدِ وَامْتَازَ هَذَا بِالْمُشَارَكَةِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَمْثَلَ مِنْ هَذَا وَمَا كَانَ أَمْثَلَ فَهُوَ أَعْدَلُ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ إذَا تَعَذَّرَ الْمِثْلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَنَظِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ

وَالضَّرْبَةِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِي الَّتِي شَرَحَهَا الجوزجاني فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمُتَرْجِمِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : الْمُسَاوَاةُ متعذرة فِي ذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى التَّعْزِيرِ ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ هُوَ مُوجَبُ الْقِيَاسِ فَإِنَّ التَّعْزِيرَ عِقَابٌ غَيْرُ مُقَدَّرِ الْجِنْسِ وَلَا الصِّفَةِ وَلَا الْقَدْرِ وَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْوَالِي وَمِنْ الْمَعْلُومِ الْأَمْرُ بِضَرْبِ يُقَارِبُ ضَرْبَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ : أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْمُمَاثَلَةُ مِنْ عُقُوبَةٍ تُخَالِفُهُ فِي الْجِنْسِ وَالْوَصْفِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ أَصْلًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُمَاثِلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذَّرٌ حَتَّى فِي الْمَكِيلَاتِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَتْلَفَ صَاعًا مِنْ بُرٍّ فَضَمِنَ بِصَاعِ مِنْ بُرٍّ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ أَحَدَ الصَّاعَيْنِ فِيهِ مِنْ الْحَبِّ مَا هُوَ مِثْلُ الْآخَرِ بَلْ قَدْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } فَإِنَّ تَحْدِيدَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مِمَّا قَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ وَلِهَذَا يُقَالُ : هَذَا أَمْثَلُ مِنْ هَذَا إذَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمُمَاثَلَةِ مِنْهُ ؛ إذَا لَمْ تَحْصُلْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
الْأَصْلُ الثَّالِثُ : مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَرْفُوعَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا

الْمَوْضِعِ . فَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقِيَاسِ الْعَادِلِ فَإِذَا طَاوَعَتْهُ فَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَى سَيِّدِهَا ؛ فَإِنَّهَا مَعَ الْمُطَاوَعَةِ تَبْقَى زَانِيَةً : وَذَلِكَ يُنْقِصُ قِيمَتَهَا وَلَا يُمَكِّنُ سَيِّدَهَا مِنْ اسْتِخْدَامِهَا كَمَا كَانَتْ تُمْكِنُ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِبُغْضِهِ لَهَا وَلِطَمَعِ الْجَارِيَةِ فِي السَّيِّدِ ؛ وَلِاسْتِشْرَافِ السَّيِّدِ إلَيْهَا لَا سِيَّمَا وَيَعْسُرُ عَلَى سَيِّدِهَا فَلَا يُطِيعُهَا كَمَا كَانَتْ تُطِيعُهُ وَإِذَا تَصَرَّفَ بِالْمَالِ بِمَا يُنْقِصُ قِيمَتَهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمِثْلِ فَقَضَى لَهَا بِالْمِثْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَوْ رَضِيَتْ أَنْ تَبْقَى مِلْكًا لَهَا وَتُغَرِّمَهُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَقْضِيُّ بِهِ مَا أُبِيحَ لَهَا وَلَكِنْ مُوجَبُ هَذَا أَنَّ الْأَمَةَ إذَا أَفْسَدَهَا رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهَا حَتَّى طَاوَعَتْ عَلَى الزِّنَا فَلِأَهْلِهَا أَنْ يُطَالِبُوهُ بِبَدَلِهَا وَوَجَبَ مِثْلُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ يَجِبُ فِي كُلِّ مَضْمُونٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا إذَا اسْتَكْرَهَهَا فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ ؛ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْوَطْءِ مُثْلَةٌ فَإِنَّ الْوَطْءَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ . وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ مَنْ اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى التلوط بِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ عَقْرٍ أَوْ عُقُوبَةٍ لَا تَجْرِي مَجْرَى مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ فَهِيَ لَمَّا صَارَتْ لَهُ بِإِفْسَادِهَا عَلَى سَيِّدِهَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِثْلَهَا كَمَا فِي الْمُطَاوَعَةِ وَأَعْتَقَهَا عَلَيْهِ كَوْنُهُ مَثَّلَ بِهَا . وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَوْ اسْتَكْرَهَ أَمَةَ الْغَيْرِ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَتْ وَضَمِنَهَا

بِمِثْلِهَا إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَمَةِ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا فَمُوجَبُ الْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَهَذَا النَّهْيُ عَنْ إكْرَاهِهِنَّ عَلَى كَسْبِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ كَمَا نُقِلَ أَنَّ ابْنَ أَبِي الْمُنَافِقِ كَانَ لَهُ مِنْ الْإِمَاءِ مَا يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الْبِغَاءِ وَلَيْسَ هُوَ اسْتِكْرَاهًا لِلْأَمَةِ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ هُوَ بِهَا فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّمْثِيلِ بِهَا وَذَاكَ إلْزَامٌ لَهَا بِأَنْ تَذْهَبَ فَتَزْنِي بِنَفْسِهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْعِتْقُ بِالْمُثْلَةِ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَدَقِّ الْأُمُورِ فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهَذَا الَّذِي ظَهَرَ فِي تَوْجِيهِهِ وَتَخَرُّجِهِ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا عَرَفْت حَدِيثًا صَحِيحًا إلَّا وَيُمْكِنُ تَخَرُّجُهُ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ وَقَدْ تَدَبَّرْت مَا أَمْكَنَنِي مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَمَا رَأَيْت قِيَاسًا صَحِيحًا يُخَالِفُ حَدِيثًا صَحِيحًا كَمَا أَنَّ الْمَعْقُولَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ ؛ بَلْ مَتَى رَأَيْت قِيَاسًا يُخَالِفُ أَثَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ ضَعْفِ أَحَدِهِمَا لَكِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِمَّا يَخْفَى كَثِيرٌ مِنْهُ عَلَى أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ ؛ فَإِنَّ إدْرَاكَ الصِّفَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِهَا

وَمَعْرِفَةَ الْحُكْمِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِيعَةُ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ فَمِنْهُ الْجَلِيُّ الَّذِي يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَمِنْهُ الدَّقِيقُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَّاصُهُمْ ؛ فَلِهَذَا صَارَ قِيَاسُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ يُرَدُّ مُخَالِفًا لِلنُّصُوصِ ؛ لِخَفَاءِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ عَلَيْهِمْ كَمَا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَا فِي النُّصُوصِ مِنْ الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْمُضِيَّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَى مَنْ شَرَعَ فِيهِمَا أَنْ يَمْضِيَ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالدُّخُولِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ : هَلْ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ ؟ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ أَنْ يَمْضِيَ إلَى حِينِ يَتَحَلَّلُ وَأَنْ لَا يَطَأَ فِي الْحَجِّ فَإِذَا وَطِئَ فِي الْحَجِّ لَمْ يَمْنَعْ وَطْؤُهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إتْمَامِ الْحَجِّ . وَنَظِيرُ هَذَا الصِّيَامُ فِي رَمَضَانَ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ بِقَوْلِهِ : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } فَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يُسْقِطُ عَنْهُ فِطْرُهُ مَا وَجَبَ مِنْ الْإِتْمَامِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُ صَوْمِ رَمَضَانَ وَإِنْ أَفْسَدَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الصِّيَامَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ كَمَا لِلْحَجِّ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ

وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَمَا بَعْدَهُ وَمَكَانٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى فَلَا يُمْكِنُهُ إحْلَالُ الْحَجِّ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مَكَانِهِ كَمَا لَا يُمْكِنُهُ إحْلَالُ الصِّيَامِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا كَانَ مَعْذُورًا كَالْمُحْصَرِ فَهَذَا كَالْمَعْذُورِ فِي الْفِطْرِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ إذَا أَفْسَدَهَا فَإِنَّهُ يَبْتَدِيهَا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ وَالْحَجُّ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَكْلُ نَاسِيًا ؛ فَاَلَّذِينَ قَالُوا : هُوَ خِلَافُ الْقِيَاسِ قَالُوا : هُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَمَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ نَاسِيًا لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ نَاسِيًا أَوْ تَرَكَ نِيَّةَ الصِّيَامِ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ إلَّا مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ وَلَكِنْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ يَقُولُ : الْقِيَاسُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ { قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : قَدْ فَعَلْت } وَهَذَا مِمَّا لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ النَّاسِيَ لَا يَأْثَمُ . لَكِنْ يَتَنَازَعُونَ فِي بُطْلَانِ عِبَادَتِهِ فَيَقُولُ الْقَائِلُ إذَا لَمْ يَأْثَمْ لَمْ يَكُنْ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ إنَّمَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَإِذَا كَانَ مَا فَعَلَهُ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ نَاسٍ فِيهِ لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ . وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ : الْقِيَاسُ أَنْ

لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ بِالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا وَكَذَلِكَ يَقُولُ : الْقِيَاسُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ نَاسِيًا لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . وَقِيلَ : الصَّيْدُ هُوَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ كَدِيَةِ الْمَقْتُولِ ؛ بِخِلَافِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ لَا مِنْ بَابِ مُتْلَفٍ لَهُ قِيمَةٌ فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لِذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ . وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا لَا يَحْنَثُ ؛ سَوَاءٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ أَوْ غَيْرِهِمَا لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يُخَالِفْ وَالْحِنْثُ فِي الْأَيْمَانِ كَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَكَذَلِكَ مَنْ بَاشَرَ النَّجَاسَةَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَحْظُورِ ؛ بِخِلَافِ تَرْكِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَأْمُورِ . فَإِنْ قِيلَ : التَّرْكُ فِي الصَّوْمِ مَأْمُورٌ بِهِ ؛ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ ؛ بِخِلَافِ التَّرْكِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ . قِيلَ : لَا رَيْبَ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الصَّوْمِ وَاجِبَةٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أُثِيبَ ؛

لِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ وَتِلْكَ الْأُمُورُ إذَا قَصَدَ تَرْكَهَا لِلَّهِ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ بِقَلْبِهِ قَصْدُ تَرْكِهَا لَمْ يُثَبْ وَلَمْ يُعَاقَبْ وَلَوْ كَانَ نَاوِيًا تَرْكَهَا لِلَّهِ وَفَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ يَقْدَحْ نِسْيَانُهُ فِي أَجْرِهِ بَلْ يُثَابُ عَلَى قَصْدِ تَرْكِهَا لِلَّهِ وَإِنْ فَعَلَهَا نَاسِيًا كَذَلِكَ الصَّوْمُ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ النَّاسِي لَا يُضَافُ إلَيْهِ بَلْ فَعَلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ } فَأَضَافَ إطْعَامَهُ وَإِسْقَاءَهُ إلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدْهُ وَمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ لَا يُنْهَى عَنْهُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ فِعْلِهِ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي لَيْسَتْ اخْتِيَارِيَّةً لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ فَفِعْلُ النَّاسِي كَفِعْلِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا احْتَلَمَ فِي مَنَامِهِ لَمْ يُفْطِرْ ؛ وَلَوْ اسْتَمْنَى بِاخْتِيَارِهِ أَفْطَرَ وَلَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ وَلَوْ اسْتَدْعَى الْقَيْءَ أَفْطَرَ . فَلَوْ كَانَ مَا يُوجَدُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يُوجَدُ بِقَصْدِهِ لَأَفْطَرَ بِهَذَا وَهَذَا . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمُخْطِئُ يُفْطِرُ مِثْلَ مَنْ يَأْكُلُ يَظُنُّ بَقَاءَ اللَّيْلِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَعَ الْفَجْرُ ؛ أَوْ يَأْكُلُ يَظُنُّ غُرُوبَ الشَّمْسِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ .

قِيلَ : هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ قَالُوا : هَذَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَقْضِي فِي مَسْأَلَةِ الْغُرُوبِ دُونَ الطُّلُوعِ ؛ كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ الشَّكُّ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : لَا يُفْطِرُ فِي الْجَمِيعِ قَالُوا : حُجَّتُنَا أَقْوَى وَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى قَوْلِنَا أَظْهَرُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فَجَمَعَ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ ؛ وَلِأَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَاتِ الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ مُخْطِئًا كَمَنْ فَعَلَهَا نَاسِيًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ وَلَكِنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ قَالَ : لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ وَأَبُوهُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَكَانَ يَقُولُ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ { كَانُوا يَأْكُلُونَ حَتَّى يَظْهَرَ لِأَحَدِهِمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِهِمْ : إنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ إنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ } وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِقَضَاءِ وَهَؤُلَاءِ جَهِلُوا الْحُكْمَ فَكَانُوا مُخْطِئِينَ . وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ النَّهَارُ فَقَالَ : لَا نَقْضِي فَإِنَّا لَمْ نَتَجَانَفْ لِإِثْمِ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : نَقْضِي ؛ وَلَكِنَّ

إسْنَادَ الْأَوَّلِ أَثْبَتُ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْخَطْبُ يَسِيرٌ . فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ خِفَّةَ أَمْرِ الْقَضَاءِ لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى أَثَرًا وَنَظَرًا وَأَشْبَهُ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي النَّاسِي أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَالْأَصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا لَمْ يَكُنْ قَدْ فَعَلَ مَنْهِيًّا عَنْهُ ؛ فَلَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي إحْرَامٍ أَوْ صِيَامٍ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَاَلَّذِي يَلْتَزِمُهُ إنَّمَا كَانَ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ بَلْ وَلِلنَّصِّ الصَّرِيحِ . وَاَلَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ حُجَّةٌ مَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِي سَنُّوهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُمْ فِيهِ فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ حُجَّةٌ بَلْ إجْمَاعٌ . وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ

الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . مِثَالُ ذَلِكَ حَبْسُ عُمْرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا للأرضين الْمَفْتُوحَةِ وَتَرْكُ قِسْمَتِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ قَالَ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ خَيْبَرَ وَقَالَ : إنَّ الْإِمَامَ إذَا حَبَسَهَا نُقِضَ حُكْمُهُ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَجُرْأَةٌ عَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ فَإِنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْبَرَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَا فَعَلَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ ذَلِكَ لَكَانَ فِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ؛ فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ ؛ بَلْ تَوَاتَرَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ ؟ فَإِنَّهُ قَدِمَ حِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَنَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُصَالِحُهُ وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَحَدًا يُصَالِحُهُمْ بَلْ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ فَأَخَذَهُ الْعَبَّاسُ وَقَدِمَ بِهِ كَالْأَسِيرِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبَّاسُ أَمَّنَهُ فَصَارَ مُسْتَأْمَنًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَصَارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْقِدَ عَقْدَ صُلْحِ الْكُفَّارِ بَعْدَ إسْلَامِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْهُمْ ؟ مِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْأَمَانَ بِأَسْبَابِ كَقَوْلِهِ : { مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ

فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ } فَأَمَّنَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ فَلَوْ كَانُوا مُعَاهَدِينَ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ وَأَيْضًا فَسَمَّاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُلَقَاءَ ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا يُطْلَقُ الْأَسِيرُ فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَطْلَقَهُمْ مِنْ الْأَسْرِ كثمامة بْنِ أَثَالٍ وَغَيْرِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَذِنَ فِي قَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ : { إنَّ مَكَّةَ لَمْ تَحِلّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدِ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } وَدَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ لَمْ يَدْخُلْهَا بِإِحْرَامِ فَلَوْ كَانُوا قَدْ صَالَحُوهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُحِلَّ لَهُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ صَالَحَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ الْحِلِّ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُحِلَّتْ فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ الْبَلَدُ الْحَرَامُ وَأَهْلُهُ مُسَالِمُونَ لَهُ صُلْحٌ مَعَهُ ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ قَاتَلُوا خَالِدًا وَقَتَلَ طَائِفَة مِنْهُمْ . وَفِي الْجُمْلَةِ : مَنْ تَدَبَّرَ الْآثَارَ الْمَنْقُولَةَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَمَعَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَسِّمْ أَرْضَهَا كَمَا لَمْ يَسْتَرِقّ رِجَالَهَا فَفَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً وَقَسَمَهَا وَفَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا فَعُلِمَ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ . وَالْأَقْوَالُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةٌ : إمَّا وُجُوبُ قَسْمِ الْعَقَارِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ وَإِمَّا تَحْرِيمُ قَسْمِهِ وَوُجُوبُ تَحْبِيسِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ ؛ وَإِمَّا التَّخْيِيرُ

بَيْنَهُمَا كَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ : الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَأَبِي عُبَيْدٍ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَعَنْهُ كَالْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ . وَمِنْ أَشْكَلِ مَا أَشْكَلَ عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْ أَحْكَامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ : امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَمَّا أَجَّلَ امْرَأَتَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ ثُمَّ قَدِمَ الْمَفْقُودُ خَيَّرَهُ عُمَرُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ مَهْرِهَا وَهَذَا مِمَّا اتَّبَعَهُ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَأَمَّا طَائِفَة مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ فَقَالُوا : هَذَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى نِكَاحِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ نَقُولَ : الْفُرْقَةُ تَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي قَوْلُ مَالِكٍ . وَآخَرُونَ أَسْرَفُوا فِي إنْكَارِ هَذَا حَتَّى قَالُوا : لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِقَوْلِ عُمَرَ لَنُقِضَ حُكْمُهُ ؛ لِبُعْدِهِ عَنْ الْقِيَاسِ . وَآخَرُونَ أَخَذُوا بِبَعْضِ قَوْلِ عُمَرَ وَتَرَكُوا بَعْضَهُ فَقَالُوا : إذَا تَزَوَّجَتْ فَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي وَإِذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَهِيَ زَوْجَتُهُ وَلَا تُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ . وَمَنْ خَالَفَ عُمَرَ لَمْ يَهْتَدِ إلَى مَا اهْتَدَى إلَيْهِ عُمَرُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْخِبْرَةِ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مِثْلُ خِبْرَةِ عُمَرَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى

أَصْلٍ وَهُوَ وَقْفُ الْعُقُودِ إذَا تَصَرَّفَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ : هَلْ يَقَعُ تَصَرُّفُهُ مَرْدُودًا أَوْ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : الرَّدُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ عَنْهُ وَالرَّدُّ مُطْلَقًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهَذَا فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ إذَا كَانَ مَعْذُورًا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ وَحَاجَتِهِ إلَى التَّصَرُّفِ وَقَفَ عَلَى الْإِجَازَةِ بِلَا نِزَاعٍ وَإِنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِئْذَانُ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى التَّصَرُّفِ فَفِيهِ النِّزَاعُ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ مَنْ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا كالغصوب وَالْعَوَارِيِّ وَنَحْوِهِمَا إذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَيَئِسَ مِنْهَا ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِك وَأَحْمَد أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُمْ فَإِنْ ظَهَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَبَيْنَ التَّضْمِينِ وَهَذَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي اللُّقْطَةِ ؛ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ يَأْخُذُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا ثُمَّ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَاءِ تَصَرُّفِهِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا فَهُوَ تَصَرُّفٌ مَوْقُوفٌ ؛ لَكِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِئْذَانُ وَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّصَرُّفِ . وَكَذَلِكَ الْمُوصِي بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَصِيَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ

عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَإِنَّمَا يُخَيَّرُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَفِي الْمَفْقُودِ الْمُنْقَطِعِ خَبَرُهُ إنْ قِيلَ : إنَّ امْرَأَتَهُ تَبْقَى إلَى أَنْ يُعْلَمَ خَبَرُهُ : بَقِيَتْ لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ إلَى أَنْ تَصِيرَ عَجُوزًا وَتَمُوتَ وَلَمْ تَعْلَمْ خَبَرَهُ وَالشَّرِيعَةُ لَمْ تَأْتِ بِمِثْلِ هَذَا . فَلَمَّا أُجِّلَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ وَلَمْ يَنْكَشِفْ خَبَرُهُ حُكِمَ بِمَوْتِهِ ظَاهِرًا . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يَسُوغُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا لِلْحَاجَةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِ مَوْتَهُ وَإِلَّا فَلَوْ عَلِمَ حَيَاتَهُ لَمْ يَكُنْ مَفْقُودًا كَمَا سَاغَ التَّصَرُّفُ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا فَإِذَا قَدِمَ الرَّجُلُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا كَمَا إذَا ظَهَرَ صَاحِبُ الْمَالِ وَالْإِمَامُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي زَوْجَتِهِ بِالتَّفْرِيقِ فَيَبْقَى هَذَا التَّفْرِيقُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَإِذَا أَجَازَهُ صَارَ كَالتَّفْرِيقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ . وَلَوْ أَذِنَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَفَرَّقَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلَا رَيْبٍ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ نِكَاحُ الْأَوَّلِ صَحِيحًا . وَإِنْ لَمْ يُجِزْ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ كَانَ التَّفْرِيقُ بَاطِلًا مِنْ حِينِ اخْتَارَ امْرَأَتَهُ لَا مَا قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ الْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ كَمَا فِي اللُّقْطَةِ فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ مَالِكُهَا لَمْ يُبْطِلْ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَتَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى نِكَاحِهِ مِنْ حِينِ اخْتَارَهَا ؛ فَتَكُونُ زَوْجَتَهُ فَيَكُونُ الْقَادِمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ إجَازَةِ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَرَدِّهِ وَإِذَا أَجَازَهُ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُضْعَ عَنْ مِلْكِهِ .
وَخُرُوجُ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَالِكِ

وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْمُسَمَّى كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : هُوَ مَضْمُونٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا شَهِدَ شُهُودٌ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَرَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ فَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ : بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ اخْتَارَهَا مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ وَقِيلَ : عَلَيْهِمْ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَقِيلَ : عَلَيْهِمْ الْمُسَمَّى وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ أَشْهَرُ فِي نُصُوصِ أَحْمَد وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَفْسَدَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ بِرَضَاعِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَلَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } وَقَوْلِهِ : { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } وَهَذَا الْمُسَمَّى دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَ الْمُخْتَلَعَةِ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهَا } وَلَمْ يَأْمُرْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ إنَّمَا يَأْمُرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِالْعَدْلِ وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَقِصَّةُ عُمَرَ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا . وَالْقَوْلُ بِوَقْفِ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ثَبَتَ

ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ مِثْلَ قِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَدَقَتِهِ عَنْ سَيِّدِ الْجَارِيَةِ الَّتِي ابْتَاعَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ لَمَّا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ وَكَتَصَدُّقِ الْغَالِّ بِالْمَالِ الْمَغْلُولِ لَمَّا تَعَذَّرَ قِسْمَتُهُ بَيْنَ الْجَيْشِ ؛ وَإِقْرَارِ مُعَاوِيَةَ عَلَى ذَلِكَ . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَايَا مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ مُطْلَقًا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إضْرَارًا أَصْلًا بَلْ صَلَاحٌ بِلَا فَسَادٍ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرَى أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ أَوْ يَبِيعَ لَهُ أَوْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ أَوْ يُوجِبَ لَهُ ثُمَّ يُشَاوِرَهُ فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا فَلَمْ يُصِبْهُ مَا يَضُرُّهُ وَكَذَلِكَ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَمَسْأَلَةُ الْمَفْقُودِ هِيَ مِمَّا يَقِفُ فِيهَا تَعْرِيفُ الْإِمَامِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ إذَا جَاءَ كَمَا يَقِفُ تَصَرُّفُ الْمُلْتَقِطِ عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ إذَا جَاءَ وَالْقَوْلُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إلَيْهِ لِخُرُوجِ امْرَأَتِهِ مِنْ مِلْكِهِ وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْمَهْرِ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ : هَلْ هُوَ مَا أَعْطَاهَا هُوَ أَوْ مَا أَعْطَاهَا الثَّانِي ؟ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَهْرِهِ هُوَ ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ وَأَمَّا الْمَهْرُ الَّذِي أَصْدَقَهَا الثَّانِي فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ . وَإِذَا ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِيَ الْمَهْرَ فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ :

إحْدَاهُمَا : يَرْجِعُ لِأَنَّهَا الَّتِي أَخَذَتْهُ وَالثَّانِي قَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَا يَضْمَنُ مَهْرَيْنِ ؛ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا اخْتَارَتْ فِرَاقَ الْأَوَّلِ وَنِكَاحَ الثَّانِي فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْهَا . وَالثَّانِيَةُ : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَالْأَوَّلُ يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ لِخُرُوجِ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ عَلَى الثَّانِي مَهْرَانِ . وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ فِي " مَسْأَلَةِ الْمَفْقُودِ " هُوَ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَقْوَالِ عَنْ الْقِيَاسِ حَتَّى قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ مَا قَالَ وَهُوَ مَعَ هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَجْرَاهَا عَلَى الْقِيَاسِ وَكُلُّ قَوْلٍ قِيلَ سِوَاهُ فَهُوَ خَطَأٌ فَمَنْ قَالَ : إنَّهَا تُعَادُ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ لَا يَخْتَارُهَا وَلَا يُرِيدُهَا وَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا تَفْرِيقًا سَائِغًا فِي الشَّرْعِ وَأَجَازَ هُوَ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلزَّوْجِ فَإِذَا أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ زَالَ الْمَحْذُورُ . وَأَمَّا كَوْنُهَا زَوْجَةَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ مَعَ ظُهُورِ زَوْجِهَا وَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا فَعَلَ فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يُفَارِقْ امْرَأَتَهُ وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهُوَ يَطْلُبُ امْرَأَتَهُ فَكَيْفَ يُحَالُ بَيْنَهُمَا ؟ وَهُوَ لَوْ طَلَبَ مَالَهُ أَوْ بَدَلَهُ رُدَّ إلَيْهِ فَكَيْفَ لَا تُرَدُّ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَأَهْلُهُ

أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ؟ وَإِنْ قِيلَ : تَعَلَّقَ حَقُّ الثَّانِي بِهَا قِيلَ : حَقُّهُ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الثَّانِي وَقَدْ ظَهَرَ انْتِقَاضُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ اسْتَحَقَّ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ وَمَا الْمُوجِبُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الثَّانِي دُونَ حَقِّ الْأَوَّلِ . فَالصَّوَابُ مَا قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَإِذَا ظَهَرَ صَوَابُ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَلَأَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَهُمْ فِيمَا وَافَقَهُمْ فِيهِ هَؤُلَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَقَدْ تَأَمَّلْت مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَرَأَيْت الصَّحَابَةَ أَفْقَهَ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمَهَا وَاعْتُبِرَ هَذَا بِمَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالنَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَسَائِلِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنْت فِيمَا كَتَبْته أَنَّ الْمَنْقُولَ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ قَضَاءً وَقِيَاسًا وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَكُلُّ قَوْلٍ سِوَى ذَلِكَ تَنَاقُضٌ فِي الْقِيَاسِ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ . وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ غَيْرِ هَذِهِ مِثْلَ مَسْأَلَةِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ وَمَسْأَلَةِ مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ . وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ أَجِدْ أَجْوَدَ الْأَقْوَالِ فِيهَا إلَّا الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ .

وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ مَا عَلِمْت قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ ؛ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ ؛ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ؛ وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ ؛ وَالْعَدْلِ التَّامِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : (*)
هَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ : كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَقَدْ قَالَ عَنْهُمْ رَجُلٌ - أَعْنِي هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ الْمَذْكُورِينَ - هَؤُلَاءِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ . فَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ مَا حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ : وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمَذْكُورُونَ فَمِنْ سَادَاتِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَجَلّ مِنْ أَقْرَانِهِ كَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَلَهُ مَذْهَبٌ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ . وَالْأَوْزَاعِيُّ إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَمَا زَالُوا عَلَى مَذْهَبِهِ إلَى الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ بَلْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِمْ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ هُوَ شَيْخُ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا . وَمَذْهَبُهُ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ . وَمَذْهَبُهُمْ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ فَلَمْ يَجْمَعْ النَّاسُ الْيَوْمَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ بَلْ الْقَائِلُونَ بِهِ كَثِيرٌ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْقٌ فِي الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ . فَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيُّ : هَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ فِي زَمَانِهِمْ وَتَقْلِيدُ كُلٍّ مِنْهُمْ كَتَقْلِيدِ الْآخَرِ ؛ لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ هَذَا دُونَ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْلِيدِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَعْرِفُ مَذَاهِبَهُمْ وَتَقْلِيدُ الْمَيِّتِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . فَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ هَؤُلَاءِ مَوْتَى وَمَنْ سَوَّغَهُ قَالَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْيَاءِ مَنْ يَعْرِفُ قَوْلَ الْمَيِّتِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : الْإِجْمَاعُ الْيَوْمَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ وَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى مَسْأَلَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ أَوْ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْخِلَافَ ؟ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَا يَسُوغُ الْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ يُرَكَّبُ مِنْ هَذَيْنِ

الِاعْتِقَادَيْنِ الْمَنْعُ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخِلَافَ الْقَدِيمَ حُكْمُهُ بَاقٍ ؛ لِأَنَّ الْأَقْوَالَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ قَائِلِهَا : فَإِنَّهُ يَسُوغُ الذَّهَابُ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي وَافَقَ اجْتِهَادَهُ وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فَيَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ أَوْ غَيْرُهُمْ قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَاقِيَةُ مَذَاهِبُهُمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَيَّدٌ بِمُوَافَقَةِ هَؤُلَاءِ وَيَعْتَضِدُ بِهِ وَيُقَابِلُ بِهَؤُلَاءِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَقْرَانِهِمْ : فَيُقَابِلُ بِالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا ؛ إذْ الْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ قَوْلُ هَذَا هُوَ صَوَابٌ دُونَ هَذَا إلَّا بِحُجَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْعِشْرْينَ

الْجُزْءُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الْفِقْهِ
الْجُزْءُ الْأَوَّلُ : الْطَّهَارَةُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بَابُ الْمِيَاهِ
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْقُدْوَةُ رَبَّانِيُّ الْأُمَّةِ وَمُحْيِي السُّنَّةِ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ ؛ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُهْتَدِينَ وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِينَ .
فَصْلٌ :
أَمَّا الْعِبَادَاتُ : فَأَعْظَمُهَا الصَّلَاةُ . وَالنَّاسُ : إمَّا أَنْ يَبْتَدِئُوا مَسَائِلَهَا بِالطُّهُورِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ } كَمَا رَتَّبَهُ أَكْثَرُهُمْ وَإِمَّا بِالْمَوَاقِيتِ الَّتِي تَجِبُ بِهَا الصَّلَاةُ كَمَا فَعَلَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ .

فَأَمَّا الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ فَنَوْعَانِ : مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ - فِي اللِّبَاسِ وَنَحْوِهِ - تَابِعَانِ لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ . وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الْجَامِعِ : وَسَطٌ بَيْنَ مَذْهَبِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْحِجَازِيِّينَ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ - مَالِكًا وَغَيْرَهُ - يُحَرِّمُونَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ كُلَّ مُسْكِرٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَلَيْسُوا فِي الْأَطْعِمَةِ كَذَلِكَ بَلْ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ فَيُبِيحُونَ الطُّيُورَ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَاتِ الْمَخَالِبِ وَيَكْرَهُونَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَفِي تَحْرِيمِهَا عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ . وَكَذَلِكَ فِي الْحَشَرَاتِ عَنْهُ : هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ رِوَايَتَانِ . وَكَذَلِكَ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَرُوِيَ عَنْهُ : أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ أَشَدَّ مِنْ كَرَاهَةِ السِّبَاعِ وَرُوِيَ عَنْهُ : أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بِالسُّنَّةِ دُونَ تَحْرِيمِ الْحَمِيرِ وَالْخَيْلُ أَيْضًا يَكْرَهُهَا لَكِنْ دُونَ كَرَاهَةِ السِّبَاعِ . وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فِي بَاب الْأَشْرِبَةِ مُخَالِفُونَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلِسَائِرِ النَّاسِ لَيْسَتْ الْخَمْرُ عِنْدَهُمْ إلَّا مِنْ الْعِنَبِ وَلَا يُحَرِّمُونَ الْقَلِيلَ مِنْ الْمُسْكِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَمْرًا مِنْ الْعِنَبِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ أَوْ الزَّبِيبِ النِّيءِ أَوْ يَكُونَ مِنْ مَطْبُوخِ عَصِيرِ الْعِنَبِ إذَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلْثَاهُ . وَهُمْ فِي

الْأَطْعِمَةِ فِي غَايَةِ التَّحْرِيمِ حَتَّى حَرَّمُوا الْخَيْلَ وَالضِّبَابَ وَقِيلَ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَكْرَهُ الضَّبَّ وَالضِّبَاعَ وَنَحْوَهَا . فَأَخَذَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الْأَشْرِبَةِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مُوَافَقَةً لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي التَّحْرِيمِ وَزَادُوا عَلَيْهِمْ فِي مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ . وَصَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا كَبِيرًا فِي الْأَشْرِبَةِ مَا عَلِمْت أَحَدًا صَنَّفَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَكِتَابًا أَصْغَرَ مِنْهُ . وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ فِي الْعِرَاقِ هَذِهِ السُّنَّةَ حَتَّى إنَّهُ دَخَلَ بَعْضُهُمْ بَغْدَادَ فَقَالَ : هَلْ فِيهَا مَنْ يُحَرِّمُ النَّبِيذَ ؟ فَقَالُوا : لَا إلَّا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَخَذَ فِيهِ بِعَامَّةِ السُّنَّةِ حَتَّى إنَّهُ حَرَّمَ الْعَصِيرَ وَالنَّبِيذَ بَعْدَ ثَلَاثٍ . وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ شِدَّةُ مُتَابَعَةٍ لِلسُّنَّةِ الْمَأْثُورَةِ فِي ذَلِكَ . لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَظِنَّةُ ظُهُورِ الشِّدَّةِ غَالِبًا . وَالْحِكْمَةُ هُنَا : مِمَّا تَخْفَى فَأُقِيمَتْ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْحِكْمَةِ حَتَّى إنَّهُ كَرِهَ الْخَلِيطَيْنِ إمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَوْ تَحْرِيمٍ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَحَتَّى اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ : هَلْ هُوَ مُبَاحٌ ؛ أَوْ مُحَرَّمٌ ؛ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ لِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَأَحَادِيثَ النَّسْخِ قَلِيلَةٌ . فَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ : هَلْ تُنْسَخُ تِلْكَ الْأَخْبَارُ الْمُسْتَفِيضَةُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَلَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا شَيْئًا ؟

وَأَخَذُوا فِي الْأَطْعِمَةِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ؛ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ ؛ وَتَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ فِي هَذَا الْبَابِ بِعَدَمِ وُجُودِ نَصِّ التَّحْرِيمِ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ : { لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هَذَا الْقُرْآنُ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ ؛ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ . أَلَا وَإِنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى } وَهَذَا الْمَعْنَى مَحْفُوظٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ .
وَعَلِمُوا أَنَّ مَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ تَحْرِيمٍ لَيْسَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ لَيْسَ تَحْلِيلًا وَإِنَّمَا هُوَ بَقَاءٌ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ كَمَا ظَنَّهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَإِنَّمَا سُورَةُ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَيْسَ تَحْلِيلًا وَإِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ . فَتَحْرِيمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَافِعٌ

لِلْعَفْوِ لَيْسَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ . لَكِنْ لَمْ يُوَافِقْ أَهْلُ الْحَدِيثِ الْكُوفِيِّينَ عَلَى جَمِيعِ مَا حَرَّمُوهُ بَلْ أَحَلُّوا الْخَيْلَ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْلِيلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَبِأَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا وَأَكَلُوا لَحْمَهُ . وَأَحَلُّوا الضَّبَّ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَالَ : { لَا أُحَرِّمُهُ } وَبِأَنَّهُ أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ أَكَلَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ فِيهِ الرُّخْصَةُ . فَنَقَصُوا عَمَّا حَرَّمَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ كَمَا زَادُوا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَشْرِبَةِ ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ أَكْثَرُ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَطْعِمَةِ . وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي اسْتِحْلَالِ مَا أَحَلُّوهُ أَكْثَرُ مِنْ سَلَفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي اسْتِحْلَالِ الْمُسْكِرِ . وَالْمَفَاسِدُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْمُسْكِرِ : أَعْظَمُ مِنْ مَفَاسِدِ خَبَائِثِ الْأَطْعِمَةِ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْخَمْرُ " أُمَّ الْخَبَائِثِ " كَمَا سَمَّاهَا عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَلْدِ شَارِبِهَا وَفَعَلَهُ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ دُونَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَحُدَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا مَا بَلَغَنَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بَلْ قَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِقَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ . وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا صَحَّ عَنْهُ - عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَأَمَرَ بِشَقِّ ظُرُوفِهَا وَكَسْرِ دِنَانِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ مِنْ أَحْمَد : هَلْ هَذَا بَاقٍ أَوْ مَنْسُوخٌ ؟ وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ الْخَبَائِثَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ : إمَّا فِي الْعُقُولِ ؛ أَوْ الْأَخْلَاقِ ؛ أَوْ غَيْرِهَا : ظَهَرَ عَلَى الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ أَوْ الْأَشْرِبَةِ مِنْ النَّقْصِ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَلَوْلَا التَّأْوِيلُ لَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ .
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ زَادُوا فِي مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ ؛ بِأَنْ أَمَرُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِمَّا يُزِيلُ ضَرَرَ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ مِثْلَ : لُحُومِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا حَلَالٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنْ فِيهَا مِنْ الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { إنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ } " وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد : { الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ } فَأَمَرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ الْأَمْرِ الْعَارِضِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَأَكْلُ لَحْمِهَا يُورِثُ قُوَّةً شَيْطَانِيَّةً تَزُولُ بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِهَا كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَالْبَرَاءِ بْنِ

عَازِبٍ وأسيد بْنِ الحضير وَذِي الْغُرَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَقَالَ مَرَّةً : { تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَصَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ } فَمَنْ تَوَضَّأَ مِنْ لُحُومِهَا انْدَفَعَ عَنْهُ مَا يُصِيبُ الْمُدْمِنِينَ لِأَكْلِهَا مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ كَالْأَعْرَابِ : مِنْ الْحِقْدِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ ؛ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ الْمُخَرَّجِ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { إنَّ الْغِلْظَةَ وَقَسْوَةَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَإِنَّ السَّكِينَةَ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ } . وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَد : هَلْ يُتَوَضَّأُ مِنْ سَائِرِ اللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِهَا أَوْ أَنَّ الْمُحَرَّمَ أَوْلَى بِالتَّوَضُّؤِ مِنْهُ مِنْ الْمُبَاحِ الَّذِي فِيهِ نَوْعُ مَضَرَّةٍ . وَسَائِرُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَافَقُوا أَحْمَد عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَعَلِمُوا أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَقَدْ أَبْعَدَ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ اللَّحْمَيْنِ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا لَا الْجَامِعُ . وَكَذَلِكَ قَالُوا بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ : مِنْ أَنَّهُ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَلِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ بَعْدَ النَّسْخِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي لَحْمِ الْغَنَمِ : { وَإِنْ شِئْت فَلَا تَتَوَضَّأْ } وَلِأَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالتَّرْكِ

مِنْ لَحْمِ غَنَمٍ فَلَا عُمُومَ لَهُ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ جَابِرٍ : { كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ : تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } فَإِنَّهُ رَآهُ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ رَآهُ أَكَلَ لَحْمَ غَنَمٍ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيغَةٌ عَامَّةٌ فِي ذَلِكَ وَلَوْ نَقَلَهَا لَكَانَ فِيهِ نَسْخٌ لِلْخَاصِّ بِالْعَامِّ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ شُمُولُهُ لِذَلِكَ الْخَاصِّ عَيْنًا وَهُوَ أَصْلٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ . هَذَا مَعَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ وَلَكِنَّ أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْهَا مُسْتَحَبٌّ ؛ لَيْسَ بِوَاجِبِ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : لَا يُسْتَحَبُّ .
فَلَمَّا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِتَجَنُّبِ الْخَبَائِثِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالتَّطَهُّرِ مِنْهَا : كَذَلِكَ جَاءَتْ بِتَجَنُّبِ الْخَبَائِثِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالتَّطَهُّرِ مِنْهَا . حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخَرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ } وَقَالَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ؟ } فَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلطَّهَارَةِ مِنْ غَيْرِ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّبَبَ لِغَسْلِ يَدِ الْقَائِمِ مَنْ نَوْمِ اللَّيْلِ .

وَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ؛ وَقَالَ : " إنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ " كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ : { أَنَّ الْحَمَّامَ بَيْتُ الشَّيْطَانِ } وَثَبَتَ عَنْهُ : أَنَّهُ لَمَّا ارْتَحَلَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ : { إنَّهُ مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ } . فَعَلَّلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمَاكِنَ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ كَمَا يُعَلَّلُ بِالْأَجْسَامِ الْخَبِيثَةِ وَبِهَذَا يَقُولُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَمَذْهَبُهُ الظَّاهِرُ عَنْهُ : أَنَّ مَا كَانَ مَأْوًى لِلشَّيَاطِينِ - كَالْمَعَاطِنِ وَالْحَمَّامَاتِ - حَرُمَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ . وَمَا عَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ - كَالْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ عَنْ الصَّلَاةِ - كُرِهَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ . وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ : إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا هَذِهِ النُّصُوصَ سَمَاعًا تَثْبُتُ بِهِ عِنْدَهُمْ ؛ أَوْ سَمِعُوهَا وَلَمْ يَعْرِفُوا الْعِلَّةَ : فَاسْتَبْعَدُوا ذَلِكَ عَنْ الْقِيَاسِ فَتَأَوَّلُوهُ . وَأَمَّا مَنْ نَقَلَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ خِلَافَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ : فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ ذَلِكَ لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ : " أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ " وَإِنَّمَا الْمُرَادُ : أَنَّ أَكْلَ مَا مَسَّ النَّارَ لَيْسَ هُوَ سَبَبًا عِنْدَهُمْ لِوُجُوبِ

الْوُضُوءِ وَاَلَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ لَيْسَ سَبَبُهُ مَسَّ النَّارِ كَمَا يُقَالُ : كَانَ فُلَانٌ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ . وَإِنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ إذَا خَرَجَ مِنْهُ مَذْيٌ . وَمِنْ تَمَامِ هَذَا : أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِمَا : أَنَّهُ { يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ } وَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ : بِأَنَّ { الْأَسْوَدَ شَيْطَانٌ } وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الشَّيْطَانَ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ صَلَاتِي فَأَخَذْته فَأَرَدْت أَنْ أَرْبُطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ } - الْحَدِيثَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ . فَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنَّ مُرُورَ الشَّيْطَانِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ؛ فَلِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد بِذَلِكَ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ ؛ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ ؛ لِأَنَّهُ عَارَضَ هَذَا الْحَدِيثَ حَدِيثُ عَائِشَةَ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهِيَ فِي قِبْلَتِهِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا اجْتَازَ عَلَى أَتَانِهِ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِمِنًى مَعَ أَنَّ الْمُتَوَجَّهَ : أَنَّ الْجَمِيعَ يَقْطَعُ وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَارِّ وَاللَّابِثِ كَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الرَّجُلِ فِي كَرَاهَةِ مُرُورِهِ دُونَ لُبْثِهِ فِي الْقِبْلَةِ إذَا اسْتَدْبَرَهُ الْمُصَلِّي وَلَمْ يَكُنْ مُتَحَدِّثًا

وَأَنَّ مُرُورَهُ يُنْقِصُ ثَوَابَ الصَّلَاةِ دُونَ اللُّبْثِ . وَاخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي الشَّيْطَانِ الْجِنِّيِّ إذَا عُلِمَ بِمُرُورِهِ : هَلْ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ؟ وَالْأَوْجَهُ : أَنَّهُ يَقْطَعُهَا بِتَعْلِيلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِظَاهِرِ قَوْلِهِ : { يَقْطَعَ صَلَاتِي } لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ مِنْ الْجِنِّ وَشَيَاطِينِ الدَّوَابِّ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فِي أَمْكِنَتِهِمْ وَمَمَرِّهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ : قَوِيَّةٌ فِي الدَّلِيلِ نَصًّا وَقِيَاسًا وَلِذَلِكَ أَخَذَ بِهَا فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّ مَدْرَكَ عِلْمِهَا أَثَرًا هُوَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ . وَمُدْرِكُهُ قِيَاسًا : هُوَ فِي بَاطِنِ الشَّرِيعَةِ وَظَاهِرِهَا دُونَ التَّفَقُّهِ فِي ظَاهِرِهَا فَقَطْ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَئِمَّةِ مَنْ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ السُّنَنَ الصَّحِيحَةَ النَّافِعَةَ لَكَانَ وَصْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ تَرْكُ مِثْلِ ذَلِكَ وَالْأَخْذُ بِمَا لَيْسَ بِمِثْلِهِ لَا أَثَرًا وَلَا رَأْيًا . وَلَقَدْ كَانَ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْجَبُ مِمَّنْ يَدَعُ حَدِيثَ { الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ } مَعَ صِحَّتِهِ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ لَهُ وَيَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ مَعَ تَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ وَأَنَّ أَسَانِيدَهَا لَيْسَتْ كَأَحَادِيثِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلِذَلِكَ أَعْرَضَ عَنْهَا الشَّيْخَانِ : الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَإِنْ كَانَ أَحْمَد عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُ يُرَجِّحُ أَحَادِيثَ الْوُضُوءِ

مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ لَكِنَّ غَرَضَهُ : أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ أَقْوَى فِي الْحُجَّةِ مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ . وَقَدْ ذَكَرْت مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَظْهَرُ فِي الْقِيَاسِ مِنْهُ فَإِنَّ تَأْثِيرَ الْمُخَالَطَةِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمُلَامَسَةِ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ نَجِسٍ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ وَلَيْسَ كُلُّ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ نَجِسًا . وَكَانَ أَحْمَد يَعْجَبُ أَيْضًا مِمَّنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَيَتَوَضَّأُ مِنْ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الْقِيَاسِ وَالْأَثَرِ وَالْأَثَرُ فِيهِ مُرْسَلٌ قَدْ ضَعَّفَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُهُ . وَاَلَّذِينَ خَالَفُوا أَحَادِيثَ الْقَطْعِ لِلصَّلَاةِ لَمْ يُعَارِضُوهَا إلَّا بِتَضْعِيفِ بَعْضِهِمْ وَهُوَ تَضْعِيفُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرَ أَصْحَابُهُ أَوْ بِأَنْ عَارَضُوهَا بِرِوَايَاتِ ضَعِيفَةٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ } أَوْ بِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . أَوْ بِرَأْيٍ ضَعِيفٍ لَوْ صَحَّ لَمْ يُقَاوِمْ هَذِهِ الْحُجَّةَ خُصُوصًا مَذْهَبُ أَحْمَد . فَهَذَا أَصْلٌ فِي الْخَبَائِثِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ .
وَأَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ : أَنَّ الْكُوفِيِّينَ قَدْ عُرِفَ تَخْفِيفُهُمْ فِي الْعَفْوِ

عَنْ النَّجَاسَةِ فَيَعْفُونَ مِنْ الْمُغَلَّظَةِ : عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ البغلي وَمِنْ الْمُخَفَّفَةِ : عَنْ رُبُعِ الْمَحَلِّ الْمُتَنَجِّسِ . وَالشَّافِعِيُّ بِإِزَائِهِمْ فِي ذَلِكَ فَلَا يَعْفُو عَنْ النَّجَاسَاتِ إلَّا عَنْ أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ ؛ وَوَنِيمِ الذُّبَابِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَعْفُو عَنْ دَمٍ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ إلَّا عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَنَحْوِهِ مَعَ أَنَّهُ يُنَجِّسُ أَرْوَاثَ الْبَهَائِمِ وَأَبْوَالَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ فِي النَّجَاسَاتِ نَوْعًا وَقَدْرًا أَشَدُّ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمَالِكٌ مُتَوَسِّطٌ فِي نَوْعِ النَّجَاسَةِ وَفِي قَدْرِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِنَجَاسَةِ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَيَعْفُو عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ . وَأَحْمَد كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ مُتَوَسِّطٌ فِي النَّجَاسَاتِ فَلَا يُنَجِّسُ الْأَرْوَاثَ وَالْأَبْوَالَ وَيَعْفُو عَنْ الْيَسِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا حَتَّى إنَّهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَعْفُو عَنْ يَسِيرِ رَوْثِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَبَوْلِ الْخُفَّاشِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بَلْ يَعْفُو فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْيَسِيرِ مِنْ الرَّوْثِ وَالْبَوْلِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُوجِبُ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَنْهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَلَوْ صَلَّى بِهَا جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ؛ كَقَوْلِ مَالِكٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْأَذَى الَّذِي فِيهِمَا وَلَمْ يَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ وَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً أَمَرَ بِغَسْلِهَا وَلَمْ يُعِدْ الصَّلَاةَ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى : تَجِبُ الْإِعَادَةُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَأَصْلٌ آخَرُ فِي إزَالَتِهَا فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : تُزَالُ بِكُلِّ مُزِيلٍ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَالْجَامِدَاتِ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى إزَالَتَهَا إلَّا بِالْمَاءِ حَتَّى مَا يُصِيبُ أَسْفَلَ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ وَالذَّيْلِ : لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْغَسْلُ بِالْمَاءِ ؛ وَحَتَّى نَجَاسَةَ الْأَرْضِ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد فِيهِ مُتَوَسِّطٌ ؛ فَكُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ قَالَ بِهِ : يَجُوزُ - فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - مَسْحُهَا بِالتُّرَابِ وَنَحْوِهِ مِنْ النَّعْلِ وَنَحْوِهِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . كَمَا يَجُوزُ مَسْحُهَا مِنْ السَّبِيلَيْنِ ؛ فَإِنَّ السَّبِيلَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ كَأَسْفَلِ الْخُفِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الثِّيَابِ فِي تَكَرُّرِ النَّجَاسَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي أَسْفَلِ الذَّيْلِ : هَلْ هُوَ كَأَسْفَلِ الْخُفِّ ؟ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَاسْتِوَاؤُهَا لِلْأَثَرِ فِي ذَلِكَ . وَالْقِيَاسُ : إزَالَتُهَا عَنْ الْأَرْضِ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ . . . (1) يَجِبُ التَّوَسُّطُ فِيهِ . فَإِنَّ التَّشْدِيدَ فِي النَّجَاسَاتِ جِنْسًا وَقَدَرًا هُوَ دِينُ الْيَهُودِ وَالتَّسَاهُلُ

هُوَ دِينُ النَّصَارَى وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْوَسَطُ . فَكُلُّ قَوْلٍ يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ . وَأَصْلٌ آخَرُ : وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ كَاخْتِلَاطِ الْمَائِعِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ فَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ مِنْ الشِّدَّةِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ . وَسِرُّ قَوْلِهِمْ : إلْحَاقُ الْمَاءِ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ ؛ وَأَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَائِعٍ لَمْ يَكُنْ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الْخَبَثِ فَيَحْرُمُ الْجَمِيعُ مَعَ أَنَّ تَنْجِيسَ الْمَائِعِ غَيْرَ الْمَاءِ الْآثَارُ فِيهِ قَلِيلَةٌ . وَبِإِزَائِهِمْ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ - فِي الْمَشْهُورِ - لَا يُنَجِّسُونَ الْمَاءَ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَلَا يَمْنَعُونَ مِنْ الْمُسْتَعْمَلِ وَلَا غَيْرِهِ مُبَالَغَةً فِي طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ مَعَ فَرْقِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ . وَلِأَحْمَدَ قَوْلٌ كَمَذْهَبِهِمْ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ التَّوَسُّطُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ .

وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمَائِعَاتِ غَيْرَ الْمَاءِ : هَلْ يَلْحَقُ بِالْمَاءِ ؛ أَوْ لَا يَلْحَقُ بِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَغَيْرِ الْمَاءِ كَخَلِّ الْعِنَبِ ؟ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ .
وَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ التَّوَسُّطِ - أَثَرًا وَنَظَرًا - مَا لَا خَفَاءَ بِهِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ أَحْمَد الْمُوَافِقَ لِقَوْلِ مَالِكٍ رَاجِحٌ فِي الدَّلِيلِ .
وَأَصْلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا رُطُوبَةَ فِيهَا - كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ وَالرِّيشِ - مَذَاهِبُ : هَلْ هُوَ طَاهِرٌ ؛ أَوْ نَجِسٌ ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : نَجَاسَتُهَا مُطْلَقًا . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ . وَالثَّانِي : طَهَارَتُهَا مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلنَّجَاسَةِ هُوَ الرُّطُوبَاتُ وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الدَّمُ ؛ وَلِهَذَا حُكِمَ بِطِهَارَةِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ فَمَا لَا رُطُوبَةَ فِيهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ . وَالثَّالِثُ : نَجَاسَةُ مَا كَانَ فِيهِ حِسٌّ كَالْعَظْمِ ؛ إلْحَاقًا لَهُ بِاللَّحْمِ الْيَابِسِ وَعَدَمُ نَجَاسَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا النَّمَاءُ كَالشَّعْرِ ؛ إلْحَاقًا لَهُ بِالنَّبَاتِ .
وَأَصْلٌ آخَرُ : وَهُوَ طَهَارَةُ الْأَحْدَاثِ الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ . فَإِنَّ مَذْهَبَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . اسْتَعْمَلُوا فِيهَا مِنْ السُّنَنِ مَا لَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ

وَيَكْفِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ اللِّبَاسِ وَالْحَوَائِلِ . فَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد " كِتَابَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ " وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ النُّصُوصِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ بَلْ عَلَى خُمُرِ النِّسَاءِ - كَمَا كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهَا تَفْعَلُهُ . وَعَلَى الْقَلَانِسِ - كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى وَأَنَسٌ يَفْعَلَانِهِ : مَا إذَا تَأَمَّلَهُ الْعَالِمُ عَلِمَ فَضْلَ عِلْمِ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ذَلِكَ اقْتِضَاءً ظَاهِرًا وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ عَنْهُ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْأَثَرِ وَجَبُنُوا عَنْ الْقِيَاسِ وَرَعًا . وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ أَحْمَد فِيمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَحَادِيثِ الْمَسْحِ عَلَى الْعَمَائِمِ وَالْجَوْرَبَيْنِ وَالتَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَخُمُرِ النِّسَاءِ وَكَالْقَلَانِسِ الدَّنِيَّاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الرُّخْصَةِ الَّتِي تُشْبِهُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَتُوَافِقُ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَوَّلَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ تَأْوِيلًا - مِثْلُ كَوْنِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ مَعَ بَعْضِ الرَّأْسِ هُوَ الْمُجْزِئَ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَمْ يَقِفْ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَخْبَارِ وَإِلَّا فَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَجْمُوعِهَا أَفَادَتْهُ عِلْمًا يَقِينًا بِخِلَافِ ذَلِكَ .

وَأَصْلٌ آخَرُ فِي التَّيَمُّمِ : فَإِنَّ أَصَحَّ حَدِيثٍ فِيهِ : حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُصَرِّحُ بِأَنَّهُ يُجْزِئُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَلَيْسَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ يُعَارِضُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَقَدْ أَخَذَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ : يَجِبُ ضَرْبَتَانِ وَإِلَى الْمَرْفِقَيْنِ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَوْ ضَرْبَتَانِ إلَى الْكُوعَيْنِ . وَأَصْلٌ آخَرُ : فِي الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ فَإِنَّ مَسَائِلَ الِاسْتِحَاضَةِ مِنْ أَشْكَلِ أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ . وَفِي الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ سُنَنٍ : سُنَّةٌ فِي الْمُعْتَادَةِ : أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى عَادَتِهَا وَسُنَّةٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ : أَنَّهَا تَعْمَلُ بِالتَّمْيِيزِ وَسُنَّةٌ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا عَادَةٌ وَلَا تُمَيِّزُ : بِأَنَّهَا تَتَحَيَّضُ غَالِبَ عَادَاتِ النِّسَاءِ : سِتًّا أَوْ سَبْعًا وَأَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إنْ شَاءَتْ . فَأَمَّا السُّنَّتَانِ الأولتان فَفِي الصَّحِيحِ وَأَمَّا الثَّالِثَةُ : فَحَدِيثُ حمنة بِنْتِ جَحْشٍ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ : وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ . وَكَذَلِكَ قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ فِي سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ بَعْضَ مَعْنَاهُ . وَقَدْ اسْتَعْمَلَ أَحْمَد هَذِهِ السُّنَنَ الثَّلَاثَ فِي الْمُعْتَادَةِ الْمُمَيِّزَةِ وَالْمُتَحَيِّرَةِ . فَإِنْ اجْتَمَعَتْ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ قُدِّمَ الْعَادَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ .

فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَعْتَبِرُ الْعَادَةَ إنْ كَانَتْ وَلَا يَعْتَبِرُ التَّمْيِيزَ وَلَا الْغَالِبَ . بَلْ إنْ لَمْ تَكُنْ عَادَةٌ إنْ كَانَتْ مُبْتَدِئَةً حَيَّضَهَا حَيْضَةَ الْأَكْثَرِ وَإِلَّا حَيْضَةَ الْأَقَلِّ . وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ التَّمْيِيزَ وَلَا يَعْتَبِرُ الْعَادَةَ وَلَا الْأَغْلَبَ فَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الْعَادَةَ وَلَا الْأَغْلَبَ فَلَا يُحَيِّضُهَا بَلْ تُصَلِّي أَبَدًا إلَّا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَهَلْ تُحَيَّضُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ؛ أَوْ عَادَتَهَا وَتَسْتَظْهِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالشَّافِعِيُّ يَسْتَعْمِلُ التَّمْيِيزَ وَالْعَادَةَ دُونَ الْأَغْلَبِ ؛ فَإِنْ اجْتَمَعَ قَدَّمَ التَّمْيِيزَ وَإِنْ عَدِمَ صَلَّتْ أَبَدًا . وَاسْتَعْمَلَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ عِلْمًا وَعَمَلًا . فَالسُّنَنُ الثَّلَاثُ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ الْفِقْهِيَّةِ : اسْتَعْمَلَهَا فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَوَافَقَهُمْ فِي كُلٍّ مِنْهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ .

وَسُئِلَ :
عَنْ مَسَائِلَ كَثِيرٍ وُقُوعُهَا ؛ وَيَحْصُلُ الِابْتِلَاءُ بِهَا ؛ وَيَحْصُلُ الضِّيقُ وَالْحَرَجُ وَالْعَمَلُ بِهَا عَلَى رَأْيِ إمَامٍ بِعَيْنِهِ ؟ : مِنْهَا مَسْأَلَةُ الْمِيَاهِ الْيَسِيرَةِ وَوُقُوعُ النَّجَاسَةِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ وَتَغْيِيرُهَا بِالطَّاهِرَاتِ ؟ .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمَّا مَسْأَلَةُ تَغَيُّرِ الْمَاءِ الْيَسِيرِ أَوْ الْكَثِيرِ بِالطَّاهِرَاتِ : كَالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَالسِّدْرِ والخطمي وَالتُّرَابِ وَالْعَجِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يُغَيِّرُ الْمَاءَ مِثْلَ الْإِنَاءِ إذَا كَانَ فِيهِ أَثَرُ سِدْرٍ أَوْ خطمي وَوُضِعَ فِيهِ مَاءٌ فَتَغَيَّرَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْمَاءِ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الَّتِي اخْتَارَهَا الخرقي وَالْقَاضِي وَأَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَاءِ مُطْلَقٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } . ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا أَنْوَاعًا بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ التَّغَيُّرِ حَاصِلًا بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِمَا يَشُقُّ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ : فَهُوَ طَهُورٌ

بِاتِّفَاقِهِمْ . وَمَا تَغَيَّرَ بِالْأَدْهَانِ وَالْكَافُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَفِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَمَا كَانَ تَغَيُّرُهُ يَسِيرًا : فَهَلْ يُعْفَى عَنْهُ أَوْ لَا يُعْفَى عَنْهُ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّائِحَةِ وَغَيْرِهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَغَيِّرِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَغَيْرِهِ وَلَا بِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ؛ وَلَا بِمَا لَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَمَا دَامَ يُسَمَّى مَاءً وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ أَجْزَاءُ غَيْرِهِ كَانَ طَهُورًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهِيَ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وَقَوْلُهُ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَا هُوَ مَاءٌ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَاءِ ؟ . قِيلَ : تَنَاوُلُ الِاسْمِ لِمُسَمَّاهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ التَّغَيُّرِ الْأَصْلِيِّ وَالطَّارِئِ وَلَا بَيْنَ التَّغَيُّرِ الَّذِي يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى

اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُتَغَيِّرِ دُونَ هَذَا فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَعُمُومِ الِاسْمِ وَخُصُوصِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ مَاءٍ أَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ : لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؛ بَلْ إنْ دَخَلَ هَذَا دَخَلَ هَذَا وَإِنْ خَرَجَ هَذَا خَرَجَ هَذَا فَلَمَّا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى دُخُولِ الْمُتَغَيِّرِ تَغَيُّرًا أَصْلِيًّا أَوْ حَادِثًا بِمَا يَشُقُّ صَوْنُهُ عَنْهُ : عُلِمَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } وَالْبَحْرُ مُتَغَيِّرُ الطَّعْمِ تَغَيُّرًا شَدِيدًا لِشِدَّةِ مُلُوحَتِهِ . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَاءَهُ طَهُورٌ - مَعَ هَذَا التَّغَيُّرِ - كَانَ مَا هُوَ أَخَفُّ مُلُوحَةً مِنْهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ طَهُورًا وَإِنْ كَانَ الْمِلْحُ وُضِعَ فِيهِ قَصْدًا ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْمِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ ضَعْفُ حُجَّةِ الْمَانِعِينَ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَقَى مَاءً أَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ مَاءٍ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ مَاءَ الْبَحْرِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الصِّفَةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ بِغَسْلِ الْمُحَرَّمِ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } { وَأَمَرَ بِغَسْلِ ابْنَتِهِ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } { وَأَمَرَ الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ السِّدْرَ لَا بُدَّ أَنْ يُغَيِّرَ الْمَاءَ فَلَوْ كَانَ التَّغَيُّرُ يُفْسِدُ الْمَاءَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ .

وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذَا تَغَيُّرٌ فِي مَحَلِّ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ : تَفْرِيقٌ بِوَصْفِ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ ؛ فَإِنَّ الْمُتَغَيِّرَ إنْ كَانَ يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا وَهُوَ عَلَى الْبَدَنِ فَيُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا وَهُوَ فِي الْإِنَاءِ . وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مَاءً مُطْلَقًا فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يُسَمَّ مُطْلَقًا فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يُفَرِّقُونَ فِي التَّسْمِيَةِ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ . وَأَمَّا الشَّرْعُ : فَإِنَّ هَذَا فَرْقٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ . وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ إذَا جُمِعَ أَوْ فُرِّقَ : أَنْ يُبَيَّنَ أَنَّ مَا جَعَلَهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ جَمْعًا أَوْ فَرْقًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَإِلَّا فَمَنْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِأَوْصَافِ جَمْعًا وَفَرْقًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ : كَانَ وَاضِعًا لِشَرْعِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ شَارِعًا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْقَائِسِ أَنْ يُبَيِّنَ تَأْثِيرَ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي جَعَلَهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ مِنْ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ عِلَّةَ الْحُكْمِ . وَكَذَلِكَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ تَأْثِيرَهُ بِطَرِيقِ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَوَضَّأَ مِنْ قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ : لَا بُدَّ فِي الْعَادَةِ مِنْ تَغَيُّرِ الْمَاءِ بِذَلِكَ لَا سِيَّمَا فِي

آخِرِ الْأَمْرِ إذَا قَلَّ الْمَاءُ وَانْحَلَّ الْعَجِينُ . فَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ التَّغَيُّرُ كَانَ يَسِيرًا ؟ قِيلَ : وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ ؛ فَإِنَّهُ إنْ سَوَّى بَيْنِ التَّغَيُّرِ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ مُطْلَقًا كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ ؛ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا حَدٌّ مُنْضَبِطٌ لَا بُلْغَةٌ وَلَا شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا عُرْفٌ وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِفَرْقِ غَيْرِ مَعْلُومٍ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ صَحِيحًا . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْمَانِعِينَ مُضْطَرِبُونَ اضْطِرَابًا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ أَصْلِ قَوْلِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَافُورِ وَالدُّهْنِ وَغَيْرِهِ وَيَقُولُ : إنَّ هَذَا التَّغَيُّرَ عَنْ مُجَاوَرَةٍ لَا عَنْ مُخَالَطَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ نَحْنُ نَجِدُ فِي الْمَاءِ أَثَرَ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَرَقِ الرَّبِيعِيِّ وَالْخَرِيفِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمِلْحَيْنِ : الْجَبَلِيِّ وَالْمَائِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا . وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لَا مِنْ نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا إجْمَاعٍ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ الَّذِي تَفَرَّعَتْ عَلَيْهِ مَأْخُوذًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَهَذَا بِخِلَافِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ

اللَّهِ فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْقَوْلِ . وَأَيْضًا . فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ مُوَافِقٌ لِلْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ ؛ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالظَّوَاهِرِ وَالْمَعَانِي ؛ فَإِنَّ تَنَاوُلَ اسْمِ الْمَاءِ لِمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ كَتَنَاوُلِهِ لِمَوَارِدِ النِّزَاعِ فِي اللُّغَةِ وَصِفَاتُ هَذَا كَصِفَاتِ هَذَا فِي الْجِنْسِ فَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ . وَأَيْضًا . فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْمَانِعِينَ : يَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ ؛ إذْ كَانَ يَقْتَضِي الْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْ الْمُتَغَيِّرَاتِ فِي طَهَارَتَيْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ لَكِنْ اُسْتُثْنِيَ الْمُتَغَيِّرُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَبِمَا يَشُقُّ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فَكَانَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ تُرِكَ لَهُ الْقِيَاسُ وَتَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ . وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : يَكُونُ رُخْصَةً ثَابِتَةً عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ ؛ فَيَكُونُ هَذَا أَقْوَى .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَاتِ : فَإِنَّهُ يَنْجُسُ بِالِاتِّفَاقِ . وَأَمَّا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ : أَحَدُهَا : لَا يَنْجُسُ . وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَرِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَصَرَهَا ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ ؛ وَابْنُ الْبَنَّاءِ وَغَيْرُهُمَا . وَالثَّانِي : يَنْجُسُ قَلِيلُ الْمَاءِ بِقَلِيلِ النَّجَاسَةِ . وَهِيَ رِوَايَةُ الْبَصْرِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى - اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ - الْفَرْقُ بَيْنَ الْقُلَّتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا . فَمَالِكٌ لَا يَحُدُّ الْكَثِيرَ بِالْقُلَّتَيْنِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد يَحُدَّانِ الْكَثِيرَ بِالْقُلَّتَيْنِ . وَالرَّابِعُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ الْمَائِعَةِ وَغَيْرِهِمَا فَالْأَوَّلُ يُنَجِّسُ

مِنْهُ مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ دُونَ مَا لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهُ بِخِلَافِ الثَّانِي ؛ فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْقُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا . وَهَذَا أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد وَاخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ؛ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ لَكِنْ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ لَا يُنَجِّسُهُ . ثُمَّ حَدُّوا مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ : بِمَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحْرِيكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ . ثُمَّ تَنَازَعُوا : هَلْ يُحَدُّ بِحَرَكَةِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ الْمُغْتَسِلِ ؟ وَقَدَّرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِمَسْجِدِهِ فَوَجَدُوهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ . وَتَنَازَعُوا فِي الْآبَارِ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ : هَلْ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا ؟ فَزَعَمَ المزني : أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ . يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا بِالنَّزْحِ وَلَهُمْ فِي تَقْدِيرِ الدِّلَاءِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ . وَالسَّادِسُ : قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ الَّذِينَ يُنَجِّسُونَ مَا بَالَ فِيهِ الْبَائِلُ دُونَ مَا أُلْقِيَ فِيهِ الْبَوْلُ وَلَا يُنَجِّسُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ .

وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى : أَنَّ اخْتِلَاطَ الْخَبِيثِ وَهُوَ النَّجَاسَةُ بِالْمَاءِ : هَلْ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْجَمِيعِ أَمْ يُقَالُ : بَلْ قَدْ اسْتَحَالَ فِي الْمَاءِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ ؟ فَالْمُنَجِّسُونَ ذَهَبُوا إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ ثُمَّ مَنْ اسْتَثْنَى الْكَثِيرَ قَالَ : هَذَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَبَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى وُصُولِ النَّجَاسَةِ وَعَدَمِ وُصُولِهَا وَقَدَّرُوهُ بِالْحَرَكَةِ أَوْ بِالْمِسَاحَةِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ دُونَ الْعُمْقِ . وَالصَّوَابُ : هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَأَنَّهُ متى عُلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ اسْتَحَالَتْ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ كُلِّهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثِ وَالْخَبِيثُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الطَّيِّبِ بِصِفَاتِهِ فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ صِفَاتِ الطَّيِّبِ دُونَ الْخَبِيثِ : وَجَبَ دُخُولُهُ فِي الْحَلَالِ دُونَ الْحَرَامِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : أَنَتَوَضَّأُ مَنْ بِئْرِ بضاعة ؟ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ

وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } قَالَ أَحْمَد : حَدِيثُ بِئْرِ بضاعة صَحِيحٌ . وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ . وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّ جِرْمَ النَّجَاسَةِ بَاقٍ فَفِي اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَالَتْ النَّجَاسَةُ فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ قَائِمَةٌ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ خَمْرٌ فِي مَاءٍ وَاسْتَحَالَتْ ثُمَّ شَرِبَهَا شَارِبٌ لَمْ يَكُنْ شَارِبًا لِلْخَمْرِ ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّ الْخَمْرِ ؛ إذْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ طَعْمِهَا وَلَوْنِهَا وَرِيحِهَا وَلَوْ صُبَّ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي مَاءٍ وَاسْتَحَالَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ وَشَرِبَ طِفْلٌ ذَلِكَ الْمَاءَ : لَمْ يَصِرْ ابْنَهَا مِنْ الرِّضَاعَةِ بِذَلِكَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا بَاقٍ عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ ؛ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ لَا طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَلَا رِيحُهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ { نَهَى عَنْ الْبَوْلِ

فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَعَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ } ؟ قِيلَ : نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ الْبَوْلِ ؛ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ نَهْيُهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا بَالَ هَذَا ثُمَّ بَالَ هَذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِالْبَوْلِ فَكَانَ نَهْيُهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . أَوْ يُقَالُ : إنَّهُ مَكْرُوهٌ بِمُجَرَّدِ الطَّبْعِ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُهُ . وَأَيْضًا فَيَدُلُّ نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ أَنَّهُ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُلَّتَيْنِ : أَتُجَوِّزُ بَوْلَهُ فِيمَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ ؟ إنْ جَوَّزْته فَقَدْ خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ ؛ وَإِنْ حَرَّمْته فَقَدْ نَقَضْت دَلِيلَك . وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ وَمَا لَا يُمْكِنُ : أَتُسَوِّغُ لِلْحُجَّاجِ أَنْ يَبُولُوا فِي الْمَصَانِعِ الْمَبْنِيَّةِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ ؟ إنْ جَوَّزْته خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَاءٌ دَائِمٌ وَالْحَدِيثُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك . وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْمُقَدَّرِ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ : إذَا كَانَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ غَدِيرٌ مُسْتَطِيلٌ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ رَقِيقٍ أَتُسَوِّغُ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الْبَوْلَ فِيهِ ؟ فَإِنْ سَوَّغْته خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ ؛ وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك فَإِذَا كَانَ النَّصُّ

بَلْ وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِيمَا يُنَجِّسُهُ الْبَوْلُ ؛ بَلْ تَقْدِيرُ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ : كَانَ هَذَا الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مُسْتَقِلًّا بِالنَّهْيِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِالنَّجَاسَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ لِأَنَّ الْبَوْلَ يُنَجِّسُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَوْلِ فِيهِ وَبَيْنَ صَبِّ الْبَوْلِ فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ ؛ فَإِنَّ صَبَّ الْبَوْلِ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ مِنْ مُجَرَّدِ الْبَوْلِ ؛ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَبُولَ وَأَمَّا صَبُّ الْأَبْوَالِ فِي الْمِيَاهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَفِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ فَقَالَ : { إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } وَفِي لَفْظٍ { لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } ؟ قِيلَ : حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ فِيهِ كَلَامٌ قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَبُيِّنَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَاءِ الْكَثِيرِ إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ بِمُكْثِهِ ؛ أَوْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ لَا الرَّائِحَةُ : فَهَلْ يَكُونُ طَهُورًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَا تَغَيَّرَ بِمُكْثِهِ وَمَقَرِّهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا النَّهْرُ الْجَارِي : فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِنَجَاسَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا فَإِنْ خَالَطَهُ مَا يُغَيِّرُهُ مِنْ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ وَشَكَّ فِي التَّغَيُّرِ : هَلْ هُوَ بِطَاهِرِ أَوْ نَجِسٍ ؟ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ . وَالْأَغْلَبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ الْكِبَارَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهَذِهِ الْقِنَى الَّتِي عَلَيْهَا لَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ تَغَيُّرُهُ بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ نَجِسٌ وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِغَيْرِ نَجِسٍ فَفِي طَهُورِيَّتِهِ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ بِئْرٍ كَثِيرِ الْمَاءِ وَقَعَ فِيهِ كَلْبٌ وَمَاتَ وَبَقِيَ فِيهِ حَتَّى انهرى جِلْدُهُ وَشَعْرُهُ وَلَمْ يُغَيِّرْ مِنْ الْمَاءِ وَصْفًا قَطُّ لَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هُوَ طَاهِرٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ - كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ ؛ وَهُمَا نَحْوُ الْقِرْبَتَيْنِ ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَشَعْرُ الْكَلْبِ فِي طَهَارَتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ ؛ وَنَجِسٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِي الدَّلْوِ الصَّاعِدِ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ بِلَا رَيْبٍ . وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ ؛ وَلُحُومُ الْكِلَابِ ؛ وَعُذَرُ النَّاسِ ؟ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَبِئْرُ بضاعة وَاقِعَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ ؛ بَاقِيَةٌ إلَى الْيَوْمِ وَمَنْ قَالَ :

إنَّهَا كَانَتْ جَارِيَةً : فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ عَيْنٌ جَارِيَةٌ بَلْ الزَّرْقَاءُ وَعُيُونُ حَمْزَةَ حَدَّثَتَا بَعْدَ مَوْتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بِئْرٍ وَقَعَ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ خِنْزِيرٌ أَوْ جَمَلٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ ثُمَّ مَاتَ فِيهَا ؛ وَذَهَبَ شَعْرُهُ وَجِلْدُهُ وَلَحْمُهُ ؛ وَهُوَ فَوْقُ الْقُلَّتَيْنِ ؛ فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَيُّ بِئْرٍ وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ غَيْرُهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ طَاهِرٌ ؛ فَإِنْ كانت عَيْنُ النَّجَاسَةِ بَاقِيَةً نُزِحَتْ مِنْهُ وَأُلْقِيَتْ وَسَائِرُ الْمَاءِ طَاهِرٌ وَشَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا بَقِيَ فِي الْمَاءِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : فَإِنَّهُ طَاهِرٌ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْوَبَرِ وَالصُّوفِ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى جِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَى حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ . هَذَا

أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَاءُ قَدْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهُ حَتَّى يَطِيبَ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ لَمْ يُنْزَحْ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ فَإِنَّهُ { قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ ؛ وَلُحُومُ الْكِلَابِ ؛ وَالنَّتْنُ ؟ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بِئْرٍ سَقَطَتْ فِيهِ دَجَاجَةٌ ثُمَّ مَاتَتْ : هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ لَمْ يَنْجُسْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْبِئْرِ تَكُونُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ فَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ بِالزِّبْلِ ؛ فَيَصِيرُ أَصْفَرَ ؛

وَهُوَ رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ وَرُبَّمَا صَارَ فِيهِ اللُّحْمَةُ : هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الزِّبْلُ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَثِيرَةُ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ وَذُكِرَ فِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ حُجَّةً . وَأَمَّا مَا تَيَقَّنَ أَنَّ تَغَيُّرَهُ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ وَإِنْ شَكَّ : هَلْ الرَّوْثُ رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ رَوْثُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَاءِ الْجَارِي إذَا كَانَ مُزَبَّلًا : هَلْ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يُتَيَقَّنْ أَنَّهُ مُزَبَّلٌ بِزِبْلِ نَجَّسَ جَازَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا فَجَازَ الْوُضُوءُ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْقُلَّتَيْنِ : هَلْ حَدِيثُهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ قُلَّةُ الْجَبَلِ ؛ وَفِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ إذَا أَكَلَتْ نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ مَاءٍ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ : هَلْ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ صَحَّ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ ؛ وَلُحُومُ الْكِلَابِ ؛ وَالنَّتْنُ ؟ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَبِئْرُ بضاعة بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا هِيَ بِئْرٌ لَيْسَتْ جَارِيَةً وَمَا يُذْكَرُ عَنْ الواقدي مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ : أَمْرٌ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الواقدي لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاءٌ جَارٍ وَعَيْنُ الزَّرْقَاءِ وَعُيُونُ حَمْزَةَ مُحْدَثَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِئْرُ بضاعة بَاقِيَةٌ إلَى الْيَوْمِ فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ . وَأَمَّا حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ يُحْتَجُّ بِهِ وَقَدْ أَجَابُوا عَنْ كَلَامِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ وَصَنَّفَ أَبُو عَبْدِ

اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ المقدسي جُزْءًا رَدَّ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ . وَأَمَّا لَفْظُ الْقُلَّةِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ الْجَرَّةُ الْكَبِيرَةُ كَالْحَبِّ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَثِّلُ بِهِمَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى : { وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ } وَهِيَ قِلَالٌ مَعْرُوفَةُ الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ ؛ فَإِنَّ التَّمْثِيلَ لَا يَكُونُ بِمُخْتَلِفِ مُتَفَاوِتٍ . وَهَذَا مِمَّا يُبْطِلُ كَوْنَ الْمُرَادِ قُلَّةَ الْجَبَلِ لِأَنَّ قِلَالَ الْجِبَالِ فِيهَا الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ وَفِيهَا الْمُرْتَفِعُ كَثِيرًا وَفِيهَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَاءٌ يَصِلُ إلَى قِلَالِ الْجَبَلِ إلَّا مَاءُ الطُّوفَانِ فَحَمْلُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْلِ هَذَا يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ بِكَلَامِهِ . وَمِنْ عَادَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُقَدِّرُ الْمُقَدَّرَاتِ بِأَوْعِيَتِهَا كَمَا قَالَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } وَالْوَسْقُ حِمْلُ الْجَمَلِ وَكَمَا كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَذَلِكَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْمَاءِ وَهَكَذَا تَقْدِيرُ الْمَاءِ بِالْقِلَالِ مُنَاسِبٌ فَإِنَّ الْقُلَّةَ وِعَاءُ الْمَاءِ . وَأَمَّا الْهِرَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } .

وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا أَكَلَتْ فَأْرَةً وَنَحْوَهَا ثُمَّ وَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : إنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ مُطْلَقًا . وَقِيلَ نَجِسٌ مُطْلَقًا حَتَّى تُعْلَمَ طَهَارَةُ فَمِهَا . وَقِيلَ : إنْ غَابَتْ غَيْبَةً يُمْكِنُ فِيهَا وُرُودُهَا عَلَى مَا يُطَهِّرُ فَمَهَا كَانَ طَاهِرًا وَإِلَّا فَلَا . وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَقِيلَ إنْ طَالَ الْفَصْلُ كَانَ طَاهِرًا جَعْلًا لِرِيقِهَا مُطَهِّرًا لِفَمِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَهُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا مِنْ قِيَامِهِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ : فَهَلْ هَذَا الْمَاءُ يَكُونُ طَهُورًا ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي غَسْلِ الْيَدِ إذَا بَاتَتْ طَاهِرَةً ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَصِيرُهُ مُسْتَعْمَلًا لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَ كُلَّ وَاحِدَةٍ طَائِفَة مِنْ أَصْحَابِهِ فَالْمَنْعُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَأَكْثَرِ أَتْبَاعِهِ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ . وَالثَّانِيَةُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي وَأَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ

قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي غَسْلِ الْيَدِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ خَوْفَ نَجَاسَةٍ تَكُونُ عَلَى الْيَدِ ؛ مِثْلَ مُرُورِ يَدِهِ مَوْضِعَ الِاسْتِجْمَارِ مَعَ الْعَرَقِ ؛ أَوْ عَلَى زَبْلَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَعَبُّدٌ وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مِنْ مَبِيتِ يَدِهِ مُلَامِسَةً لِلشَّيْطَانِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ } فَأَمَرَ بِالْغَسْلِ مُعَلِّلًا بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْغَسْلِ عَنْ النَّجَاسَةِ وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ . وَقَوْلُهُ : { فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ؟ } " يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ ؛ فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا النَّصُّ بِالِاعْتِبَارِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا } فَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَ الْمَاءِ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ قَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ أَثَرًا وَأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّأْثِيرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّنْجِيسِ . وَأَيْضًا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ } فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْغَسْلَ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْ النَّجَاسَةِ بَلْ هُوَ مُعَلَّلٌ بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ . وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ : { فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا النَّصُّ بِالِاعْتِبَارِ . وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ فَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَنَهْيِهِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمُسْتَحَمِّ وَقَوْلُهُ : { فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ } فَإِنَّهُ إذَا بَالَ فِي الْمُسْتَحَمِّ ثُمَّ اغْتَسَلَ حَصَلَ لَهُ وَسْوَاسٌ وَرُبَّمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَوْلِ فَعَادَ عَلَيْهِ رَشَاشُهُ وَكَذَلِكَ إذَا بَالَ فِي الْمَاءِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فِيهِ فَقَدْ يَغْتَسِلُ قَبْلَ الِاسْتِحَالَةِ مَعَ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْبَوْلِ ؛ فَنُهِيَ عَنْهُ لِذَلِكَ . وَنَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ إنْ صَحَّ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْذِيرِ الْمَاءِ عَلَى غَيْرِهِ ؛ لَا لِأَجْلِ نَجَاسَتِهِ وَلَا لِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ } .
وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَاءِ إذَا غَمَسَ الرَّجُلُ يَدَهُ فِيهِ : هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَنْجُسُ بِذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ كَمَالِكِ ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَأَحْمَد ؛ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ إلَى جَانِبِ الْحَوْضِ أَوْ الْجُرْنِ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ نَاقِصٌ ؛ ثُمَّ يَرْجِعُ بَعْضُ الْمَاءِ مِنْ عَلَى بَدَنِهِ إلَى الْجُرْنِ : هَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْجُرْنِ : هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا أَمْ لَا ؟ وَعَنْ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ الْجُنُبُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؟ وَعَنْ الطَّاسَةِ الَّتِي تُحَطُّ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ جَارٍ عَلَيْهَا ؛ ثُمَّ يَغْتَرِفُ بِهَا مِنْ الْجُرْنِ النَّاقِصِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُغْسَلَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَا يَطِيرُ مِنْ بَدَنِ الْمُغْتَسِلِ أَوْ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ الرَّشَاشِ فِي إنَاءِ الطَّهَارَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُسْتَعْمَلًا . وَكَذَلِكَ غَمْسُ الْجُنُبِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَالْجُرْنِ النَّاقِصِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا . وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَاءِ الَّذِي إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ الْجُنُبُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا : إذَا كَانَ كَثِيرًا مِقْدَارَ قُلَّتَيْنِ .

وَأَمَّا الطَّاسَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ ؛ فَالْأَصْلُ فِي الْأَرْضِ الطَّهَارَةُ حَتَّى تُعْلَمَ نَجَاسَتُهَا ؛ لَا سِيَّمَا مَا بَيْنَ يَدَيْ الْحِيَاضِ الْفَائِضَةِ فِي الْحَمَّامَاتِ ؛ فَإِنَّ الْمَاءَ يَجْرِي عَلَيْهَا كَثِيرًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي مَدْرَسَةٍ ؛ فَيَجِدُ فِي الْمَدَارِسِ بِرَكًا فِيهَا مَاءٌ لَهُ مُدَّةٌ كَثِيرَةٌ وَمِثْلُ مَاءِ الْحَمَّامِ الَّذِي فِي الْحَوْضِ : فَهَلْ يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالطَّهَارَةُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ ؛ وَأُمِّ سَلَمَةَ ؛ وَمَيْمُونَةَ ؛ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَقُولَ لَهَا : أَبْقِي لِي وَتَقُولَ هِيَ : أَبْقِ لِي } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { قَالَ : كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَغْتَسِلُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَلَمْ

يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءٌ جَارٍ وَلَا حَمَّامٌ } . فَإِذَا كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ جَمِيعًا وَيَغْتَسِلُونَ جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ بِقَدْرِ الْفَرْقِ وَهُوَ بِضْعَةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْمِصْرِيِّ أَوْ أَقَلُّ وَلَيْسَ لَهُمْ يَنْبُوعٌ وَلَا أُنْبُوبٌ فَتَوَضُّؤُهُمْ وَاغْتِسَالُهُمْ جَمِيعًا مِنْ حَوْضِ الْحَمَّامِ أَوْلَى وَأَحْرَى فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ نَاقِصًا وَالْأُنْبُوبُ مَسْدُودًا ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْأُنْبُوبُ مَفْتُوحًا ؟ وَسَوَاءٌ فَاضَ أَوْ لَمْ يَفِضْ . وَكَذَلِكَ بِرَكُ الْمَدَارِسِ وَمَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ حَتَّى يَنْفَرِدَ وَحْدَهُ بِالِاغْتِسَالِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لَلسُّنَّةِ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُرُونَ إلَى الْحَمَّامِ ؛ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَغْتَسِلُوا مِنْ الْجَنَابَةِ وَقَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى الطَّهُورِ وَحْدَهُ ؛ وَلَا يَغْتَسِلُ أَحَدٌ مَعَهُ حَتَّى يَفْرُغَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ؛ فَهَلْ إذَا اغْتَسَلَ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا يَطْهُرُ ؟ وَإِنْ تَطَهَّرَ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْوَاضِ الْحَمَّامِ فَهَلْ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ بَائِنًا فِيهَا ؟ وَهَلْ الْمَاءُ الَّذِي يَتَقَاطَرُ مِنْ عَلَى بَدَنِ الْجُنُبِ مِنْ الْجِمَاعِ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ ؟ وَهَلْ مَاءُ الْحَمَّامِ عِنْدَ كَوْنِهِ مُسْخَنًا بِالنَّجَاسَةِ نَجِسٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الزُّنْبُورُ الَّذِي

يَكُونُ فِي الْحَمَّامِ أَيَّامَ الشِّتَاءِ هُوَ مِنْ دُخَانِ النَّجَاسَةِ يَتَنَجَّسُ بِهِ الرَّجُلُ إذَا اغْتَسَلَ وَجَسَدُهُ مَبْلُولٌ أَمْ لَا ؟ وَالْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ مِنْ اغْتِسَالِ النَّاسِ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ أَفْتُونَا لِيَزُولَ الْوَسْوَاسُ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يَغْتَرِفَانِ جَمِيعًا } . وَفِي رِوَايَةٍ : إنَّهَا { كَانَتْ تَقُولُ : دَعْ لِي وَيَقُولُ هُوَ : دَعِي لِي } مِنْ قِلَّةِ الْمَاءِ . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَغَيْرُ عَائِشَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ مِثْلَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَأُمِّ سَلَمَةَ } . وَثَبَتَ عَنْ { عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ قَدْرَ الْفَرَقِ } . وَالْفَرَقُ بِالرِّطْلِ الْعِرَاقِيِّ الْقَدِيمِ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا ؛ وَبِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ رِطْلًا . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ } . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ { قَالَ : كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّئُونَ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ } . وَهَذِهِ السُّنَنُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا بِمَدِينَتِهِ عَلَى عَهْدِهِ دَلَّتْ عَلَى أُمُورٍ .

أَحَدُهَا هُوَ اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الِاغْتِسَالِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَغْتَسِلُ بِسُؤْرِ الْآخَرِ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنِهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ أَوْ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إذَا تَوَضَّئُوا وَاغْتَسَلُوا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ جَاز كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَنِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا انْفَرَدَتْ الْمَرْأَةُ بِالِاغْتِسَالِ أَوْ خَلَتْ بِهِ : هَلْ يُنْهَى الرَّجُلُ عَنْ التَّطَهُّرِ بِسُؤْرِهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَحَدُهَا : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا . وَالثَّانِي : يُكْرَهُ مُطْلَقًا . وَالثَّالِثُ : يُنْهَى عَنْهُ إذَا خَلَتْ بِهِ ؛ دُونَ مَا انْفَرَدَتْ بِهِ وَلَمْ تَخْلُ بِهِ . وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . فَأَمَّا اغْتِسَالُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ وَإِذَا جَازَ اغْتِسَالُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا فَاغْتِسَالُ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ جَمِيعًا أَوْ النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ جَمِيعًا : أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ . فَمَنْ كَرِهَ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَهُ غَيْرُهُ ؛ أَوْ رَأَى أَنَّ طُهْرَهُ لَا يَتِمُّ حَتَّى يَغْتَسِلَ وَحْدَهُ : فَقَدْ خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَفَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ .

يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْآنِيَةَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجُهُ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَغْتَسِلُونَ مِنْهَا كَانَتْ آنِيَةً صَغِيرَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَادَّةٌ لَا أُنْبُوبٌ وَلَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ يَفِيضُ . فَإِذَا كَانَ تَطَهُّرُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ جَائِزًا فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِ الْحَمَّامَاتِ ؛ الَّتِي يَكُونُ الْحَوْضُ أَكْبَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ ؟ فَإِنَّ الْقُلَّتَيْنِ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ : أَنَّهُمَا خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ الْقَدِيمِ فَيَكُونُ هَذَا الرِّطْلُ الْمِصْرِيُّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِعَشَرَاتِ مِنْ الْأَرْطَالِ ؛ فَإِنَّ الرِّطْلَ الْعِرَاقِيَّ الْقَدِيمَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَهَذَا الرِّطْلُ الْمِصْرِيُّ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بخمسة عَشَرَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أُوقِيَّةٍ وَرُبْعٍ مِصْرِيَّةً فَالْخَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ؛ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ ؛ وَخَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا ؛ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ؛ وَذَلِكَ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ : مِائَةٌ وَسَبْعَةُ أَرْطَالٍ وَسُبْعُ رِطْلٍ . وَهَذَا الرِّطْلُ الْمِصْرِيُّ أَرْبَعُمِائَةِ رِطْلٍ وَسِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ رِطْلًا وَكَسْرُ أُوقِيَّةٍ وَمِسَاحَةُ الْقُلَّتَيْنِ ذِرَاعٌ وَرُبْعٌ فِي ذِرَاعٍ وَرُبْعٍ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَالِبَ هَذِهِ الْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِ الْحَمَّامَاتِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْمِقْدَارِ بِكَثِيرِ ؛ فَإِنَّ الْقُلَّةَ نَحْوٌ مِنْ هَذِهِ الْقِرَبِ الْكَائِنَةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ فَالْقُلَّتَانِ قِرْبَتَانِ بِهَذِهِ الْقِرَبِ وَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ تَحْدِيدَ الْقُلَّتَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّقْرِيبِ عَلَى أَصْوَبِ الْقَوْلَيْنِ

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَاضَ فِيهَا أَضْعَافُ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَطَهَّرُ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ : فَكَيْفَ بِالتَّطَهُّرِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ ؟ .
الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَهُّرُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِضَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأُنْبُوبُ تَصُبُّ فِيهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ بَائِنًا فِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ طَهَارَتِهَا وَهِيَ بِكُلِّ حَالٍ أَكْثَرُ مَاءً مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ الصِّغَارِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَتَطَهَّرُونَ مِنْهَا ؛ وَلَمْ تَكُنْ فَائِضَةً وَلَا كَانَ بِهَا مَادَّةٌ مِنْ أُنْبُوبٍ وَلَا غَيْرِهِ . وَمَنْ انْتَظَرَ الْحَوْضَ حَتَّى يَفِيضَ ؛ وَلَمْ يَغْتَسِلْ إلَّا وَحْدَهُ ؛ وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ دِينًا : فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ ؛ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْزِيرِ الَّذِي يُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ أَنْ يُشَرِّعُوا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ بِاعْتِقَادَاتِ فَاسِدَةٍ وَأَعْمَالٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ وَلَا مُسْتَحَبَّةٍ . الْأَمْرُ الثَّالِثُ : الِاقْتِصَادُ فِي صَبِّ الْمَاءِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ } وَالصَّاعُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ : إنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ وَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ - كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ

فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ . وَحِكَايَةُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ مِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ ؟ فَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يَأْتُوهُ بِصِيعَانِهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ فَلَمَّا حَضَرَ أَبُو يُوسُفَ قَالَ مَالِكٌ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ : مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الصَّاعُ ؟ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي بِهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الْآخَرُ : حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أُمِّهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَدِّي بِهِ يَعْنِي : صَدَقَةَ حَدِيقَتِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الْآخَرُ نَحْوَ ذَلِكَ . وَقَالَ الْآخَرُ نَحْوَ ذَلِكَ . فَقَالَ مَالِكٌ لَأَبَى يُوسُفَ : أَتَرَى هَؤُلَاءِ يَكْذِبُونَ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ مَا يَكْذِبُ هَؤُلَاءِ قَالَ مَالِكٌ : فَأَنَا حَرَّرْت هَذَا بِرِطْلِكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَوَجَدْته خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلْثًا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِمَالِكِ : قَدْ رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت . فَهَذَا النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ - كَابْنِ قُتَيْبَةَ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي تَعْلِيقِهِ ؛ وَجَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ - إلَى أَنَّ صَاعَ الطَّعَامِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ ؛ وَصَاعَ الْمَاءِ ثَمَانِيَةٌ : وَاحْتَجُّوا بِحُجَجِ : مِنْهَا خَبَرُ { عَائِشَةَ : أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَرَقِ } وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْعِرَاقِيِّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ وَالْمُدَّ فِي الطَّعَامِ وَالْمَاءِ

وَاحِدٌ وَهُوَ أَظْهَرُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مِقْدَارَ طَهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَسْلِ مَا بَيْنَ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ عِرَاقِيَّةٍ إلَى خَمْسَةٍ وَثُلُثٍ وَالْوُضُوءُ رُبُعُ ذَلِكَ وَهَذَا بِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي يُكْثِرُ صَبَّ الْمَاءِ حَتَّى يَغْتَسِلَ بِقِنْطَارِ مَاءٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ : مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لَلسُّنَّةِ وَمَنْ تَدَيَّنَ بِهِ عُوقِبَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُتَدَيِّنِينَ بِالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَلسُّنَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يُفْعَلُ نَحْوُ هَذَا لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَكُونُ نَجِسًا أَوْ مُسْتَعْمَلًا ؛ بِأَنْ تَكُونَ الْآنِيَةُ مِثْلَ الطَّاسَةِ اللَّاصِقَةِ بِالْأَرْضِ قَدْ تَنَجَّسَتْ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ النَّجَاسَةِ ؛ ثُمَّ غُرِفَ بِهَا مِنْهُ أَوْ بِأَنَّ الْجُنُبَ غَمَسَ يَدَهُ فِيهِ فَصَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَوْ قَطَرَ عَلَيْهِ مِنْ عَرَقِ سَقْفِ الْحَمَّامِ النَّجِسِ . أَوْ الْمُحْتَمِلِ لِلنَّجَاسَةِ أَوْ غَمَسَ بَعْضُ الدَّاخِلِينَ أَعْضَاءَهُ فِيهِ وَهِيَ نَجِسَةٌ فَنَجَّسَتْهُ ؛ فَلِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ نَجِسًا أَوْ مُسْتَعْمَلًا احْتَطْنَا لِدِينِنَا وَعَدَلْنَا إلَى الْمَاءِ الطَّهُورِ بِيَقِينِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَلِقَوْلِهِ : { مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ } .

قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاحْتِيَاطَ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ فِي أُمُورِ الْمِيَاهِ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا وَلَا مَشْرُوعًا بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ بَلْ الْمَشْرُوعُ أَنْ يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى النَّجَاسَةِ نَجَّسْنَاهُ ؛ وَإِلَّا فَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْتَنَبَ اسْتِعْمَالُهُ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ وَأَمَّا إذَا قَامَتْ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ فَذَاكَ مَقَامٌ آخَرُ . وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ : أَنَّهُ مَا زَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ يَتَوَضَّئُونَ وَيَغْتَسِلُونَ وَيَشْرَبُونَ مِنْ الْمِيَاهِ الَّتِي فِي الْآنِيَةِ وَالدِّلَاءِ الصِّغَارِ وَالْحِيَاضِ وَغَيْرِهَا مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ بَلْ كُلُّ احْتِمَالٍ لَا يَسْتَنِدُ إلَى أَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ : مُحَرَّمٌ لِوَصْفِهِ ؛ وَمُحَرَّمٌ لِكَسْبِهِ . فَالْمُحَرَّمُ لِكَسْبِهِ كَالظُّلْمِ وَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ ؛ وَالْمُحَرَّمُ لِوَصْفِهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ . وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَالتَّوَرُّعَ فِيهِ مَشْهُورٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَحْتَرِزُونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ مِنْ الشُّبُهَاتِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَإِنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ لَنَا طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ لَا يُذَكُّوهُ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَوْ يُسَمُّوا عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ وَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ سَمَّوْا عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ حُرِّمَ ذَلِكَ

فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَأْتُونَ بِاللَّحْمِ وَلَا يُدْرَى أَسَمَّوْا عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ : سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا }
وَأَمَّا الْمَاءُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ طَهُورٌ وَلَكِنْ إذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ وَظَهَرَتْ فِيهِ صَارَ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا لِذَلِكَ الْخَبِيثِ فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ لِمَا خَالَطَهُ مِنْ الْخَبِيثِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَبِيثٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مُخَالَطَةِ الْخَبِيثِ لَهُ كَانَ هَذَا التَّقْدِيرُ وَالِاحْتِمَالُ مَعَ طِيبِ الْمَاءِ وَعَدَمِ التَّغْيِيرِ فِيهِ : مِنْ بَابِ الْحَرَجِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَنْ شَرِيعَتِنَا وَمِنْ بَابِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الْمَرْفُوعَةِ عَنَّا . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَوَضَّأَ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَمَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَاحِبٌ لَهُ بِمِيزَابِ فَقَالَ صَاحِبُهُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ . فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إذَا سَقَطَ عَلَيْهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ وَلَا أَمَارَةَ تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يَلْزَمْ السُّؤَالُ عَنْهُ بَلْ يُكْرَهُ وَإِنْ سَأَلَ : فَهَلْ يَلْزَمُ رَدُّ الْجَوَابِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ السُّؤَالَ وَهُوَ ضَعِيفٌ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ هُنَا مُنْتَفِيَةٌ ؛ أَوْ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا وَالِالْتِفَاتُ إلَيْهَا حَرَجٌ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَوَسْوَسَةٌ يَأْتِي بِهَا الشَّيْطَانُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّاسَاتِ وَغَيْرَهَا مِنْ الْآنِيَةِ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا النَّاسُ الْحَمَّامَاتِ : طَاهِرَةٌ فِي الْأَصْلِ وَاحْتِمَالُ نَجَاسَتِهَا أَضْعَفُ مِنْ احْتِمَالِ نَجَاسَةِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِي حَوَانِيتِ الْبَاعَةِ فَإِذَا كَانَتْ آنِيَةُ الْأَدْهَانِ وَالْأَلْبَانِ وَالْخُلُولِ وَالْعَجِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَالْجَامِدَاتِ وَالرَّطْبَةِ : مَحْكُومًا بِطَهَارَتِهَا ؛ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ فِيهَا إلَى هَذَا الْوَسْوَاسِ : فَكَيْفَ بِطَاسَاتِ النَّاسِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهَا تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ : فَنَعَمْ . وَمَا عِنْدَ الْحِيَاضِ مِنْ الْأَرْضِ طَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ الْمِيَاهِ وَالسِّدْرِ والخطمي وَالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : طَاهِرٌ وَأَبْدَانُ الْجُنُبِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ طَاهِرَةٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ { أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ ؛ قَالَ : فَانْخَنَسْت مِنْهُ ؛ فَاغْتَسَلْت ثُمَّ أَتَيْته فَقَالَ : أَيْنَ كُنْت ؟ فَقُلْت : إنِّي كُنْت جُنُبًا ؛ فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَك وَأَنَا جُنُبٌ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ } . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ : أَنَّ بَدَنَ الْجُنُبِ طَاهِرٌ وَعَرَقُهُ طَاهِرٌ وَالثَّوْبَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَرَقُهُ طَاهِرٌ ؛ وَلَوْ سَقَطَ الْجُنُبُ

فِي دُهْنٍ أَوْ مَائِعٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ بَلْ وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ عَرَقُهَا طَاهِرٌ وَثَوْبُهَا الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَرَقُهَا طَاهِرٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَذِنَ لِلْحَائِضِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي ثَوْبِهَا الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ وَأَنَّهَا إذَا رَأَتْ فِيهِ دَمًا أَزَالَتْهُ وَصَلَّتْ فِيهِ } . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَمِنْ أَيْنَ يَنْجُسُ ذَلِكَ الْبَلَاطُ ؟ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ إنَّهُ قَدْ يَبُولُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُغْتَسِلِينَ ؛ أَوْ يَبْقَى عَلَيْهِ ؛ أَوْ يَكُونُ عَلَى بَدَنِ بَعْضِ الْمُغْتَسِلِينَ نَجَاسَةٌ يَطَأُ بِهَا الْأَرْضَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَجَوَابُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا قَلِيلٌ نَادِرٌ ؛ وَلَيْسَ هَذَا الْمُتَيَقَّنُ مِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ . الثَّانِي : أَنَّ غَالِبَ مَنْ تَقَعُ مِنْهُ نَجَاسَةٌ يَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ الَّذِي يُزِيلُهَا . الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا أَصَابَ ذَلِكَ الْبَلَاطَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا : فَإِنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَفِيضُ مِنْ الْحَوْضِ وَاَلَّذِي يَصُبُّهُ النَّاسُ : يُطَهِّرُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَطْهِيرَهَا ؛ فَإِنَّ الْقَصْدَ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَيْسَ بِشَرْطِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ذَكَرُوا وَجْهًا ضَعِيفًا فِي ذَلِكَ ؛ لِيَطْرُدُوا قِيَاسَهُمْ فِي مُنَاظَرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ . كَمَا أَنَّ زُفَرَ نَفَى وُجُوبَ النِّيَّةِ فِي

التَّيَمُّمِ طَرْدًا لِقِيَاسِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُطْرَحٌ . وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ يُطَهِّرُ الْأَرْضَ الَّتِي يُصِيبُهَا وَغَالِبُ الْمَاءِ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِمُسْتَعْمَلِ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَاءِ الَّذِي يَصُبُّهُ النَّاسُ لَا يَكُونُ عَنْ جَنَابَةٍ وَلَا يَكُونُ مُتَغَيِّرًا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّ الْحَوْضَ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مُحَقَّقَةٌ ؛ أَوْ انْغَمَسَ فِيهِ جُنُبٌ : فَهَذَا مَاءٌ كَثِيرٌ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ ؛ وَلُحُومُ الْكَلْبِ ؛ وَالنَّتْنُ ؟ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : حَدِيثُ بِئْرِ بضاعة صَحِيحٌ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ ؟ فَقَالَ : إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } وَفِي لَفْظٍ { لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } . وَبِئْرُ بضاعة بِئْرٌ كَسَائِرِ الْآبَارِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ إلَى الْآنَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ النَّاحِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا جَارِيَةً فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ عَيْنٌ جَارِيَةٌ أَصْلًا وَلَمْ يَكُنْ بِهَا إلَّا الْآبَارُ مِنْهَا يَتَوَضَّؤُونَ وَيَغْتَسِلُونَ

وَيَشْرَبُونَ مِثْلُ بِئْرِ أَرِيسَ الَّتِي بقُبَاء ؛ أَوْ الْبِئْرُ الَّتِي ببيرحاء حَدِيقَةُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْبِئْرُ الَّتِي اشْتَرَاهَا عُثْمَانُ وَحَبَسَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُ هَذِهِ الْآبَارِ وَكَانَ سَقْيُهُمْ لِلنَّخْلِ وَالزَّرْعِ مِنْ الْآبَارِ بِالنَّوَاضِحِ وَالسَّوَانِي وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَمَا يَأْتِي مِنْ السُّيُولِ فَأَمَّا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ . وَهَذِهِ الْعُيُونُ الَّتِي تُسَمَّى عُيُونَ حَمْزَةَ إنَّمَا أَحْدَثَهَا مُعَاوِيَةُ فِي خِلَافَتِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِنَقْلِ الشُّهَدَاءِ مِنْ مَوْضِعِهَا فَصَارُوا ينبشونهم وَهُمْ رِطَابٌ لَمْ يُنْتِنُوا حَتَّى أَصَابَتْ الْمِسْحَاةُ رِجْلَ أَحَدِهِمْ فَانْبَعَثَتْ دَمًا وَكَذَلِكَ عَيْنُ الزَّرْقَاءِ مُحْدَثَةٌ ؛ لَكِنْ لَا أَدْرِي مَتَى حَدَثَتْ ؟ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْمَدِينَةِ وَأَحْوَالِهَا وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِي مِثْلِ هَذَا بَعْضُ أَتْبَاعِ عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ ؛ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَدِينَتِهِ وَسِيرَتِهِ . وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ الَّتِي يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ : فَكَيْفَ يُشْرَعُ لَنَا أَنْ نَتَنَزَّهَ عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَتَنَزَّهُ عَمَّا يَفْعَلُهُ وَقَالَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَشْيَاءَ أَتَرَخَّصُ فِيهَا ؟ وَاَللَّهِ إنِّي لِأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ } .

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : نَتَنَزَّهُ عَنْ هَذَا لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِيهِ ؛ فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ يَقُولُ الْمَاءُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ نَجَّسَتْهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَبْلُغُهُ النَّجَاسَةُ ؛ وَيُقَدِّرُونَهُ بِمَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَهَلْ الْعِبْرَةُ بِحَرَكَةِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ بِحَرَكَةِ الْمُغْتَسِلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ . وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ } ثُمَّ يَقُولُونَ : إذَا تَنَجَّسَتْ الْبِئْرُ فَإِنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهَا دِلَاءٌ مُقَدَّرَةٌ فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ وَفِي بَعْضِهَا تُنْزَحُ الْبِئْرُ كُلُّهَا . وَذَهَبَ بَعْضُ مُتَكَلِّمِيهِمْ إلَى أَنَّ الْبِئْرَ تُطَمُّ فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ؟ قِيلَ لِهَذَا الْقَائِلِ : الِاخْتِلَافُ إنَّمَا يُورِثُ شُبْهَةً إذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي شَيْءٍ ؛ وَقَدْ كَرِهَ أَنْ نَتَنَزَّهَ عَمَّا تَرَخَّصَ فِيهِ ؛ وَقَالَ لَنَا : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ : فَإِنْ تَنَزَّهْنَا عَنْهُ عَصَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ نُرْضِيَهُ وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُغْضِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشُبْهَةِ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَمَا كَانَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَكُنَّا نَكْرَهُ لِمَنْ أَرْسَلَ هَدْيًا أَنْ يَسْتَبِيحَ

مَا يَسْتَبِيحُهُ الْحَلَّالُ لِخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَلَكِنَّا نَسْتَحِبُّ لِلْجُنُبِ إذَا صَامَ أَنْ يَغْتَسِلَ لِخِلَافِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَلَكِنَّا نَكْرَهُ تَطَيُّبُ الْمُحْرِمِ قَبْلَ الطَّوَافِ لِخِلَافِ عُمَرَ وَابْنِهِ وَمَالِكٍ . وَكُنَّا نَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُلَبِّيَ إلَى أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ لِخِلَافِ مَالِك وَغَيْرِهِ . وَمِثْلُ هَذَا وَاسِعٌ لَا يَنْضَبِطُ . وَأَمَّا مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَهُمْ مُجْتَهِدُونَ قَالُوا بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ وَهُمْ إذَا أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَالْخَطَأُ مَحْطُوطٌ عَنْهُمْ فَهُمْ مَعْذُورُونَ لِاجْتِهَادِهِمْ ؛ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ وَمَنْ انْتَهَى إلَى مَا عُلِمَ فَقَدْ أَحْسَنَ . فَأَمَّا مَنْ تَبْلُغُهُ السُّنَّةُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَتَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ : فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ فِي أَنْ يَتَنَزَّهَ عَمَّا تَرَخَّصَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرْغَبُ عَنْ سُنَّتِهِ لِأَجْلِ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَقْوَامًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ . وَيَقُولُ الْآخَرُ : فَأَنَا أَقُومُ وَلَا أَنَامُ . وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ . وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَالَ : بَلْ أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنَامُ ؛ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ : أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَهُمْ فِي هَذَا إذَا كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مَعْذُورُونَ . وَمَنْ عَلِمَ السُّنَّةَ فَرَغِبَ عَنْهَا لِأَجْلِ اعْتِقَادِ : أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ إلَى هَذَا أَفْضَلُ ؛ وَأَنَّ هَذَا الْهَدْيَ أَفْضَلُ مِنْ هَدْيِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بَلْ هُوَ تَحْتَ الْوَعِيدِ النَّبَوِيِّ بِقَوْلِهِ : { مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . وَفِي الْجُمْلَةِ ( بَابٌ الِاجْتِهَادُ وَالتَّأْوِيلُ بَابٌ وَاسِعٌ يَئُولُ بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَرَامَ حَلَالًا كَمَنْ تَأَوَّلَ فِي رِبَا الْفَضْلِ وَالْأَنْبِذَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا وَحُشُوشِ النِّسَاءِ وَإِلَى أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَلَالَ حَرَامًا مِثْلُ بَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ مِثْلُ الضَّبِّ وَغَيْرِهِ بَلْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ أَوْ بِالْعَكْسِ . فَأَصْحَابُ الِاجْتِهَادِ وَإِنْ عُذِرُوا وَعُرِفَتْ مَرَاتِبُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ : فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا تَبَيَّنَ مِنْ السُّنَّةِ وَالْهَدْيِ لِأَجْلِ تَأْوِيلِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ قَدْ يَغْمِسُ يَدَهُ فِيهِ أَوْ يَنْغَمِسُ فِيهِ الْجُنُبُ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ : فَكَيْفَ تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَنَابَةُ ؟ وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ { نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ } بِأَجْوِبَةِ .

أَحَدُهَا : أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاغْتِسَالِ وَعَنْ الْبَوْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي إلَى الْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ وَإِذَا بَالَ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَقَدْ يُصِيبُهُ الْبَوْلُ قَبْلَ اسْتِحَالَتِهِ . وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَقُولُ : الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ؛ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ صَاحِبُ التَّعْلِيقَةِ . الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ؛ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ . وَهَذَا جَوَابُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . الثَّالِثُ : أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْبَوْلِ وَالْبَوْلُ أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ ؛ وَصِيَانَةُ الْمَاءِ مِنْهُ مُمْكِنَةٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَلَمَّا غَلُظَ - وَصِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْهُ مُمْكِنَةٌ - فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَعْسُرُ صِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْهُ ؛ وَهُوَ دُونُهُ . وَهَذَا جَوَابُ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ وَاخْتِيَارُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ . الْجَوَابُ الرَّابِعُ : أَنَّا نَفْرِضُ أَنَّ الْمَاءَ قَلِيلٌ ؛ وَأَنَّ الْمُغْتَسِلِينَ غَمَسُوا فِيهِ أَيْدِيَهُمْ : فَهَذَا بِعَيْنِهِ صُورَةُ النُّصُوصِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَزْوَاجِهِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَطَهَّرَ بِهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إذَا غَمَسَ الْجُنُبُ يَدَهُ فِيهِ : هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ .

وَهُوَ نَظِيرُ غَمْسِ الْمُتَوَضِّئِ يَدَهُ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ : الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ الْغُسْلَ أَوْ لَا يَنْوِيَهُ ؛ فَإِنْ نَوَى مُجَرَّدَ الْغُسْلِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ نَوَى مُجَرَّدَ الِاغْتِرَافِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ أَطْلَقَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا عَلَى الصَّحِيحِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْ الْإِنَاءِ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ } كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْهُ فِي الْجَنَابَةِ وَلَمْ يُحَرِّجْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ أَكْثَرَ تَوَضُّؤِ الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِسَالِهِمْ عَلَى عَهْدِهِ كَانَ مِنْ الْآنِيَةِ الصِّغَارِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ جَمِيعًا فَمَنْ جَعَلَ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا بِذَلِكَ فَقَدْ ضَيَّقَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَنَحْنُ نَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ قَوْلِ مَنْ يُنَجِّسُ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ . قِيلَ : هَذَا أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ نَجَاسَةٌ حِسِّيَّةٌ كَنَجَاسَةِ الدَّمِ وَنَحْوِهِ - وَإِنْ كَانَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَوَارِدِ الظُّنُونِ بَلْ هِيَ قَطْعِيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَى جَابِرٍ } وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ كَمَا يَأْخُذُونَ

نُخَامَتَهُ وَكَمَا اقْتَسَمُوا شَعْرَهُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ . فَمَنْ نَجَّسَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَجَّسَ شُعُورَ الْآدَمِيِّينَ بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَجَّسَ الْبُصَاقَ كَمَا يُرْوَى عَنْ سَلْمَانَ . وَأَيْضًا فَبَدَنُ الْجُنُبِ طَاهِرٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَاءُ الطَّاهِرُ إذَا لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا لَمْ يَنْجُسْ بِالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ طَهَارَةً ؛ وَأَنَّهَا ضِدُّ النَّجَاسَةِ : فَضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ أَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ فَضِدُّهَا النَّجَاسَةُ ؛ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ تَنْقَسِمُ إلَى : طَهَارَةِ خَبَثٍ وَحَدَثٍ طَهَارَةً عَيْنِيَّةً وَحُكْمِيَّةً . الثَّانِي : أَنَّا نُسَلِّمُ ذَلِكَ وَنَقُولُ : النَّجَاسَةُ أَنْوَاعٌ كَالطَّهَارَةِ فَيُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ كَمَا يُرَادُ بِالنَّجَاسَةِ ضِدُّ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وَهَذِهِ النَّجَاسَةُ لَا تُفْسِدُ الْمَاءَ بِدَلِيلِ أَنَّ سُؤْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ طَاهِرٌ وَآنِيَتُهُمْ الَّتِي يَصْنَعُونَ فِيهَا الْمَائِعَاتِ وَيَغْمِسُونَ فِيهَا أَيْدِيَهُمْ طَاهِرَةٌ وَقَدْ { أَهْدَى الْيَهُودِيُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً مَشْوِيَّةً وَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً } مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ بَاشَرُوهَا . { وَقَدْ أَجَابَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيًّا إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ } .

وَالثَّانِي : يُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ وَضِدُّ هَذِهِ نَجَاسَةُ الْحَدَثِ كَمَا قَالَ أَحْمَد فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ : إنَّهُ أَنْجَسُ الْمَاءِ . فَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَرَادَ نَجَاسَةَ الْجُنُبِ ؛ فَذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ . وَإِنَّمَا أَرَادَ أَحْمَد نَجَاسَةَ الْحَدَثِ وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُخَالِفُ سُنَّةً ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً لَهُ قَطُّ وَالسُّنَّةُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تَخْفَى عَلَى أَقَلِّ أَتْبَاعِهِ لَكِنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : اغْسِلْ بَدَنَك مِنْهُ . وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ ؛ فَإِنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ مِنْ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لَا يَجِبُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنْ ذَكَرُوا عَنْ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْبَدَنِ مِنْهُ : رِوَايَتَيْنِ . الرِّوَايَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ثِيَابَهُمْ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْوُضُوءِ . الثَّالِثُ : يُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي هِيَ نَجِسَةٌ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ النَّجَاسَةِ بِالْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ ؛ كَالدَّمِ وَالْمَاءِ الْمُنَجَّسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ النُّصُوصُ وَالْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَى بُطْلَانِهِ . وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ هَذِهِ الْمِيَاهِ الَّتِي فِي الْحِيَاضِ ؛ وَالْبِرَكِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ وَالطُّرُقَاتِ وَعَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَفِي الْمَدَارِسِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ : لَا يُكْرَهُ التَّطَهُّرُ بِشَيْءِ مِنْهَا وَإِنْ سَقَطَ فِيهَا

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ أَمْرٍ ثَبَتَتْ فِيهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّخْصَةِ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابُ السَّائِلِ عَنْ الْمَاءِ الَّذِي يَقْطُرُ مِنْ بَدَنِ الْجُنُبِ بِجِمَاعِ أَوْ غَيْرِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ وَأَنَّ التَّنَزُّهَ عَنْهُ أَوْ عَنْ مُلَامَسَتِهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي فِي ذَلِكَ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لَلسُّنَّةِ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْجُنُبَ لَوْ مَسَّ مُغْتَسِلًا لَمْ يُقْدَحْ فِي صِحَّةِ غُسْلِهِ .
وَأَمَّا الْمُسْخَنُ بِالنَّجَاسَةِ فَلَيْسَ بِنَجِسِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يُنَجِّسُهُ وَأَمَّا كَرَاهَتُهُ فَفِيهَا نِزَاعٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُمَا . وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ لَهَا مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا : احْتِمَالُ وُصُولِ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إلَى الْمَاءِ ؛ فَيَبْقَى مَشْكُوكًا فِي طِهَارَتِهِ شَكًّا مُسْتَنِدًا إلَى أَمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ فَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ مَتَى كَانَ بَيْنَ الْوَقُودِ وَالْمَاءِ حَاجِزٌ حَصِينٌ كَمِيَاهِ الْحَمَّامَاتِ لَمْ يُكْرَهْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْمَاءَ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ النَّجَاسَةُ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَالشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا .

وَالثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنُهُ سُخِّنَ بِإِيقَادِ النَّجَاسَةِ ؛ وَاسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ ؛ وَالْحَاصِلُ بِالْمَكْرُوهِ مَكْرُوهٌ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ . فَعَلَى هَذَا إنَّمَا الْكَرَاهَةُ إذَا كَانَ التَّسْخِينُ حَصَلَ بِالنَّجَاسَةِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ غَالِبُ الْوَقُودِ طَاهِرًا أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ . وَأَمَّا دُخَانُ النَّجَاسَةِ : فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ النَّجِسَةَ الْخَبِيثَةَ إذَا اسْتَحَالَتْ حَتَّى صَارَتْ طَيِّبَةً كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ الطَّيِّبَةِ - مِثْلَ أَنْ يَصِيرَ مَا يَقَعُ فِي الْمَلَّاحَةِ مِنْ دَمٍ وَمَيْتَةٍ وَخِنْزِيرٍ مِلْحًا طَيِّبًا كَغَيْرِهَا مِنْ الْمِلْحِ أَوْ يَصِيرُ الْوَقُودُ رَمَادًا وخرسفا وقصرملا وَنَحْوَ ذَلِكَ - فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَطْهُرُ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى : أَنَّهُ طَاهِرٌ ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَمَذْهَبِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهَا تَطْهُرُ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا نُصُوصُ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى ؛ فَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةً وَلَا فِي مَعْنَى الْمُحَرَّمِ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهَا بَلْ تَتَنَاوَلُهَا نُصُوصُ الْحِلِّ ؛ فَإِنَّهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ . وَهِيَ أَيْضًا فِي مَعْنَى مَا اتَّفَقَ عَلَى حِلِّهِ

فَالنَّصُّ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَحْلِيلَهَا .
وَأَيْضًا فَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى الْخَمْرِ إذَا صَارَتْ خَلًّا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَتْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاسْتِحَالَةُ هَذِهِ الْأَعْيَانِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا قَالُوا : الْخَمْرُ نُجِّسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ بِخِلَافِ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ . وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ نُجِّسَتْ أَيْضًا بِالِاسْتِحَالَةِ . فَإِنَّ الدَّمَ مُسْتَحِيلٌ عَنْ أَعْيَانٍ طَاهِرَةٍ وَكَذَلِكَ الْعَذِرَةُ وَالْبَوْلُ وَالْحَيَوَانُ النَّجِسُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ مَادَّةٍ طَاهِرَةٍ مَخْلُوقَةٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَبَائِثَ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ كَمَا أَنَّهُ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ وَصْفِ الطِّيبِ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ وَإِنَّمَا فِيهَا وَصْفُ الطِّيبِ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا : فَعَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَالدُّخَانُ وَالْبُخَارُ الْمُسْتَحِيلُ عَنْ النَّجَاسَةِ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ أَجْزَاءٌ هَوَائِيَّةٌ وَنَارِيَّةٌ وَمَائِيَّةٌ ؛ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ . وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْفَى مِنْ ذَلِكَ عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ كَمَا يُعْفَى عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ . وَمَنْ حَكَمَ بِنَجَاسَةِ

ذَلِكَ وَلَمْ يَعْفُ عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَقَوْلُهُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ . هَذَا إذَا كَانَ الْوَقُودُ نَجِسًا . فَأَمَّا الطَّاهِرُ كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَالشَّوْكِ فَلَا يُؤَثِّرُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ أَرْوَاثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ ؛ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ مِمَّا يَفِيضُ وَيَنْزِلُ مِنْ أَبْدَانِ الْمُغْتَسِلِينَ غُسْلَ النَّظَافَةِ وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْغُسْلِ كَالسِّدْرِ والخطمي وَالْأُشْنَانِ مَا فِيهِ إلَّا إذَا عُلِمَ فِي بَعْضِهِ بَوْلٌ أَوْ قَيْءٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّجَاسَاتِ : فَذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَتْهُ هَذِهِ النَّجَاسَاتُ لَهُ حُكْمُهُ . وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُهُ بِلَا نِزَاعٍ لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْمِيَاهُ جَارِيَةٌ بِلَا رَيْبٍ بَلْ مَاءُ الْحَمَّامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إذَا كَانَ الْحَوْضُ فَائِضًا فَإِنَّهُ جَارٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَكُونُ فِي الْأَنْهَارِ مِنْ حُفْرَةٍ وَنَحْوِهَا ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ الْجَرَيَانُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا فَشَيْئًا ؛ وَيَذْهَبُ وَيَأْتِي مَا بَعْدَهُ ؛ لَكِنْ يُبْطِئُ ذَهَابُهُ بِخِلَافِ الَّذِي يَجْرِي جَمِيعُهُ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي عَلَى قَوْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَشْدِيدِهِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَاخْتِيَارُ مُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ ؛ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد : أَنَّهُ كَالدَّائِمِ فَتُعْتَبَرُ الْجَرْيَةُ . وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّائِمِ وَالْجَارِي فِي نَهْيِهِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ وَالْبَوْلِ فِيهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّ الْجَارِيَ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ فَلَا وَجْهَ لِنَجَاسَتِهِ . وَقَوْلُهُ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } إنَّمَا دَلَّ عَلَى مَا دُونَهُمَا بِالْمَفْهُومِ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا دُونُ الْقُلَّتَيْنِ يَحْمِلُ الْخَبَثَ بَلْ إذَا فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ دَائِمٍ وَجَارٍ أَوْ إذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَحْمِلُ الْخَبَثَ كَانَ الْحَدَثُ مَعْمُولًا بِهِ . فَإِذَا كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينِ وَلَيْسَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ مَعَ بَقَاءِ صِفَاتِهِ وَإِذَا كَانَ حَوْضُ الْحَمَّامِ الْفَائِضِ إذَا كَانَ قَلِيلًا وَوَقَعَ فِيهِ بَوْلٌ أَوْ دَمٌ أَوْ عَذِرَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ : لِمَ يُنَجِّسْهُ عَلَى الصَّحِيحِ فَكَيْفَ بِالْمَاءِ الَّذِي جَمِيعُهُ يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ ؟ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ لَمْ يَنْجُسْ .

وَهَذَا يَتَّضِحُ بِمَسْأَلَةِ أُخْرَى ؛ وَهُوَ : أَنَّ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَتْ تُرَابًا أَوْ غَيْرَ تُرَابٍ إذَا وَقَعَتْ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ مِنْ بَوْلٍ أَوْ عَذِرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا : فَإِنَّهُ إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى زَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ : فَالْمَاءُ وَالْأَرْضُ طَاهِرَانِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ الْمَاءُ فِي مَذْهَبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ بِالْبَلَاطِ ؟ وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ السَّطْحَ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَأَصَابَهُ مَاءُ الْمَطَرِ حَتَّى أَزَالَ عَيْنَهَا كَانَ مَا يَنْزِلُ مِنْ الميازيب طَاهِرًا ؛ فَكَيْفَ بِأَرْضِ الْحَمَّامِ ؟ فَإِذَا كَانَ بِهَا بَوْلٌ أَوْ قَيْءٌ فَصُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ حَتَّى ذَهَبَتْ عَيْنُهُ : كَانَ الْمَاءُ وَالْأَرْضُ طَاهِرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ الْمَاءُ ؛ فَكَيْفَ إذَا جَرَى وَزَالَ عَنْ مَكَانِهِ ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَذَكَرْنَا بِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثِهِ فَإِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً فَكَيْفَ بِالْمُسْتَحِيلِ مِنْهَا أَيْضًا ؟ وَطَهَارَةُ هَذِهِ الْأَرْوَاثِ بَيِّنَةٌ فِي السُّنَّةِ فَلَا يُجْعَلُ الْخِلَافُ فِيهَا شُبْهَةً يُسْتَحَبُّ لِأَجْلِهِ اتِّقَاءُ مَا خَالَطَتْهُ ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُلَابِسُونَهَا . وَأَمَّا رَوْثُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ : فَهَذِهِ نَجِسَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى طَهَارَتِهَا ؛ وَأَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مِنْ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ إلَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَعَذِرَتُهُ ؛ لَكِنْ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إذَا شَكَّ فِي الرَّوْثَةِ : هَلْ هِيَ مِنْ رَوْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ

مِنْ رَوْثِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ؟ فَفِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ النَّجَاسَةُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ : يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ . وَدَعْوَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ النَّجَاسَةُ مَمْنُوعٌ ؛ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ لَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَمَنْ ادَّعَى أَصْلًا بِلَا نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ فَقَدْ أَبْطَلَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا الْقِيَاسُ فَرَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ ؛ فَكَيْفَ يُدَّعَى أَنَّ الْأَصْلَ نَجَاسَةُ الْأَرْوَاثِ ؟ إذَا عُرِفَ ذَلِكَ . فَإِنَّ تَيَقُّنَ أَنَّ الْوَقُودَ نَجِسٌ فَالدُّخَانُ مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِحَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا إذَا تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ . وَإِنْ شَكَّ : هَلْ فِيهِ نَجَسٌ ؟ فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ فِيهِ رَوْثًا وَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَالصَّحِيحُ الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ . وَإِنْ عَلِمَ اشْتِمَالَهُ عَلَى طَاهِرٍ وَنَجِسٍ وَقُلْنَا بِنَجَاسَةِ الْمُسْتَحِيلِ عَنْهُ : كَانَ لَهُ حُكْمُهُ فِيمَا يُصِيبُ بَدَنَ الْمُغْتَسِلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الطَّاهِرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّجِسِ فَلَا يَنْجُسُ بِالشَّكِّ كَمَا لَوْ أَصَابَهُ بَعْضُ رَمَادٍ مِثْلَ هَذَا الْوَقُودِ فَإِنَّا لَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ الْبَدَنِ بِذَلِكَ وَإِنْ تَيَقَّنَّا أَنَّ فِي الْوَقُودِ نَجَسًا ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّمَادُ غَيْرَ نَجِسٍ وَالْبَدَنُ طَاهِرٌ بِيَقِينِ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ . وَهَذَا إذَا لَمْ يَخْتَلِطْ الرَّمَادُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ ؛ أَوْ الْبُخَارُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ .

فَأَمَّا إذَا اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ : فَمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مِنْهُمَا جَمِيعًا ؛ وَلَكِنَّ الْوَقُودَ فِي مَقَرِّهِ لَا يَكُونُ مُخْتَلِطًا بَلْ رَمَادُ كُلِّ نَجَاسَةٍ يَبْقَى فِي حَيِّزِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ كَاشْتِبَاهِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ الْمَيْتَةِ بِالْمُذَكَّاةِ اجْتَنَبَهُمَا جَمِيعًا . وَلَوْ اشْتَبَهَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ : فَقِيلَ : يَتَحَرَّى لِلطَّهَارَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ النَّجِسُ نَجِسَ الْأَصْلِ بِأَنْ يَكُونَ بَوْلًا كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ . وَقِيلَ : لَا يَتَحَرَّى ؛ بَلْ يَجْتَنِبُهُمَا كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَوْلًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَقِيلَ : يَتَحَرَّى إذَا كَانَتْ الْآنِيَةُ أَكْبَرَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَفِي تَقْدِيرِ الْكَبِيرِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ فَهُنَا أَيْضًا اشْتَبَهَتْ الْأَعْيَانُ النَّجِسَةُ بِالطَّاهِرَةِ فَاشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ . قِيلَ : هَذَا صَحِيحٌ وَلَكِنَّ مَسْأَلَتَنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ اجْتَنَبَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَعْمَلَهُمَا لَزِمَ اسْتِعْمَالُ الْحَرَامِ قَطْعًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ كَالنَّجَاسَةِ إذَا ظَهَرَتْ فِي الْمَاءِ وَإِنْ اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كَانَ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ ؛ وَهُمَا مُسْتَوَيَانِ فِي الْحُكْمِ فَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ هَذَا ؛ فَيُجْتَنَبَانِ جَمِيعًا .

وَأَمَّا اشْتِبَاهُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ فَإِنَّمَا نَشَأَ فِيهِ النِّزَاعُ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالطَّهُورِ وَاجِبَةٌ ؛ وَبِالنَّجِسِ حَرَامٌ فَقَدْ اشْتَبَهَ وَاجِبٌ بِحَرَامِ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا التَّحَرِّيَ قَالُوا : اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ حَرَامٌ . وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الطَّهُورِ فَإِنَّمَا يَجِبُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ؛ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ هُنَا ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعُوا : هَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعْدَمَ الطَّهُورُ بِخَلْطٍ أَوْ إِرَاقَةٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ ؛ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ كَالْعَجْزِ . وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ التَّحَرِّيَ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِمَا الطَّهَارَةَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ اسْتَعْمَلَ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ وَقَدْ شَكَّ فِي تَنَجُّسِهِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ . وَاَلَّذِينَ نَازَعُوهُ قَالُوا : مَا صَارَ نَجِسًا بِالتَّغَيُّرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نَجِسِ الْأَصْلِ ؛ وَقَدْ زَالَ الِاسْتِصْحَابُ بِيَقِينِ النَّجَاسَةِ كَمَا لَوْ حَرُمَتْ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِرِضَاعِ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَكُونُ مُحَرَّمَةَ الْأَصْلِ عِنْدَهُ وَمَسْأَلَةُ اشْتِبَاهِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ ذَاتُ فُرُوعٍ مُتَعَدِّدَةٍ . وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ وَقُلْنَا : يَتَحَرَّى ؛ أَوْ لَا يَتَحَرَّى : فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَى بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ طَعَامِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يُنَجِّسُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِي نَجَاسَتِهِ وَنَحْنُ مُنِعْنَا مِنْ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ . فَأَمَّا تَنَجُّسُ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ نَعَمْ لَوْ أَصَابَا ثَوْبَيْنِ حُكِمَ بِنَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ أَصَابَا بَدَنَيْنِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا ؟

هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا إذَا تَيَقَّنَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَحْدَثَ أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَهَارَةٌ وَلَا طَلَاقٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي رَجُلَيْنِ لَا فِي وَاحِدٍ ؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ حُكْمَ الْأَصْلِ فِي نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ يَثْبُتُ قَطْعًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَلَا وَجْهَ لِرَفْعِهِ عَنْهُمَا جَمِيعًا . وَسِرُّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَاجْتِنَابُهُمَا جَمِيعًا وَاجِبٌ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ لِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَاجْتِنَابُ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ تَحْلِيلَهُ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا رَخَّصَ مَنْ رَخَّصَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَضَّدَهُ بِالتَّحَرِّي ؛ أَوْ بِهِ وَاسْتِصْحَابِهِ الْحَلَالَ . فَأَمَّا مَا كَانَ حَلَالًا بِيَقِينِ وَلَمْ يُخَالِطْهُ مَا حُكِمَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ فَكَيْفَ يَنْجُسُ ؟ وَلِهَذَا لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ بُقْعَةٌ نَجِسَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهَا ؛ وَصَلَّى فِي مَكَانٍ مِنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ الْمُتَنَجِّسُ : صَحَّتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ نَجِسٌ . وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ طِينِ الشَّوَارِعِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ طِينِ الشَّوَارِعِ

نَجِسٌ ، وَلَا يُفَرَّقُ فِي هَذَا بَيْنَ الْعَدَدِ الْمُنْحَصِرِ وَغَيْرِ الْمُنْحَصِرِ ؛ وَبَيْنَ الْقُلَّتَيْنِ وَالْكَثِيرِ ؛ كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اشْتِبَاهِ الْأُخْتِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ وَهُنَا شَكَّ فِي طريان التَّحْرِيمِ عَلَى الْحَلَالِ . وَإِذَا شَكَّ فِي النَّجَاسَةِ : هَلْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ ؟ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَأْمُرُ بِنَضَحِهِ ؛ وَيَجْعَلُ حُكْمَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ النَّضْحَ ؛ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ . فَإِذَا احْتَاطَ وَنَضَحَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ كَانَ حَسَنًا كَمَا رُوِيَ فِي نَضْحِ أَنَسٍ لِلْحَصِيرِ الَّذِي اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ وَنَضْحِ عُمَرَ ثَوْبَهُ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أُنَاسٍ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَهُمْ قَلِيلُ مَاءٍ فَوَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ وَهُمْ فِي مَفَازَةٍ مُعْطِشَةٍ فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ ؟
فَأَجَابَ : يَجُوزُ لَهُمْ حَبْسُهُ لِأَجْلِ شُرْبِهِ إذَا عَطِشُوا وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً طَيِّبًا ؛ فَإِنَّ الْخَبَائِثَ جَمِيعًا تُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَا يَرْوِيهِ كَالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ وَالْأَبْوَالِ الَّتِي تَرْوِيهِ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَنْ شُرْبِ

الْخَمْرِ ؛ قَالُوا : لِأَنَّهَا تَزِيدُهُ عَطَشًا . وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ الْوُلُوغِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ بَلْ يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى التَّيَمُّمِ . وَيَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ مَا يُقِيمُ بِهِ نَفْسَهُ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ أَوْ الْمَاءِ النَّجِسِ فَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ : دَخَلَ النَّارَ وَلَوْ وَجَدَ غَيْرَهُ مُضْطَرًّا إلَى مَا مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ الطَّيِّبِ أَوْ النَّجِسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَهُ إيَّاهُ وَيَعْدِلَ إلَى التَّيَمُّمِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ أَوْ حَدَثٌ صَغِيرٌ وَمَنْ اغْتَسَلَ وَتَوَضَّأَ وَهُنَاكَ مُضْطَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ أَوْ الذِّمَّةِ أَوْ دَوَابِّهِمْ الْمَعْصُومَةِ فَلَمْ يَسْقِهِ : كَانَ آثِمًا عَاصِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ الْآنِيَةُ
سُئِلَ عَنْ أَوَانِي النُّحَاسِ الْمُطَعَّمَةِ بِالْفِضَّةِ - كَالطَّاسَاتِ وَغَيْرِهَا - هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ مِنْ الْآنِيَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ الْآلَاتِ - سَوَاءٌ سُمِّيَ الْوَاحِدُ مِنْ ذَلِكَ إنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ - وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُضَبَّبِ كَالْمَبَاخِرِ وَالْمَجَامِرِ وَالطُّشُوتِ والشمعدانات وَأَمْثَالِ ذَلِكَ : فَإِنْ كَانَتْ الضَّبَّةُ يَسِيرَةً لِحَاجَةِ مِثْلَ تَشْعِيبِ الْقَدَحِ وَشُعَيْرَةِ السِّكِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ : فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالْحَاجَةِ هنا : أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّشْعِيبِ وَالشُّعَيْرَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَوْنِهَا مِنْ فِضَّةٍ بَلْ هَذَا يُسَمُّونَهُ فِي مِثْلِ هَذَا ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مُفْرَدًا وَتَبَعًا حَتَّى لَوْ احْتَاجَ إلَى شَدِّ أَسْنَانِهِ بِالذَّهَبِ ؛ أَوْ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ : جَازَ - كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ - مَعَ أَنَّهُ ذَهَبٌ وَمَعَ أَنَّهُ مُفْرَدٌ . وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَشْرَبُهُ إلَّا فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَاز لَهُ

شُرْبُهُ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَقِيهِ الْبَرْدَ أَوْ يَقِيهِ السِّلَاحَ أَوْ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ إلَّا ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ مَنْسُوجٍ بِذَهَبِ أَوْ فِضَّةٍ جَاز لَهُ لُبْسُهُ ؛ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَطَاعِمِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَلَابِسِ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْخَبَائِثِ بِالْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ لِلْبَدَنِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِهَا بِالْمُلَابَسَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلظَّاهِرِ وَلِهَذَا كَانَتْ النَّجَاسَاتُ الَّتِي تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا وَيَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ السُّمُومِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَضَرَّاتِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ وَلَا يَحْرُمُ مُبَاشَرَتُهَا .
ثُمَّ مَا حُرِّمَ لِخُبْثِ جِنْسِهِ أَشَدُّ مِمَّا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يُحَرِّمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْهُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ؛ كَمَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ ؛ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ وَأُبِيحَ لِلرَّجُلِ مِنْ ذَلِكَ الْيَسِيرُ كَالْعِلْمِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَوَازُ التَّدَاوِي بِهَذَا الضَّرْبِ دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا { رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا } . وَنَهَى عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَقَالَ : { إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } وَنَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ ؛ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِأَجْلِ التَّدَاوِي بِهَا وَقَالَ : { إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } وَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِإِذْنِهِ للعرنيين فِي التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ النَّجِسَةِ ؛ لِنَهْيِهِ عَنْ التَّدَاوِي بِمِثْلِ

ذَلِكَ ؛ وَلِكَوْنِهِ لَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ وَالْآنِيَةَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ شُرْبِهَا لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ ؛ وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ : فَذَاكَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقَذَارَةِ الْمُلْحَقِ لَهَا بِالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ الَّتِي يُشْرَعُ النَّظَافَةُ مِنْهَا كَمَا يُشْرَعُ نَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ ؛ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ ؛ وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ . وَلِهَذَا أَيْضًا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مُحَرَّمًا فِي بَابِ الْآنِيَةِ وَالْمَنْقُولَاتِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الصِّنْفَيْنِ بِخِلَافِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ . وَبَابُ الْخَبَائِثِ بِالْعَكْسِ ؛ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْفَصِلُ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يُبَاحُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ كَمَا يُبَاحُ إطْفَاءُ الْحَرِيقِ بِالْخَمْرِ وَإِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ ؛ وَإِلْبَاسُ الدَّابَّةِ الثَّوْبَ النَّجِسَ ؛ وَكَذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَبَائِثِ فِيهَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ وَكَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّ هَذَا غَايَةُ السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَنْ رَخَّصَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي إلْبَاسِ دَابَّتِهِ الثَّوْبَ الْحَرِيرَ ؛ قِيَاسًا عَلَى إلْبَاسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُجَوِّزُ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ وَوَطْأَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَوَّرَاتِ ؛ أَوْ

مَنْ يُبِيحُ تَحْلِيَةَ دَابَّتِهِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ يُبِيحُ إلْبَاسَهَا الثَّوْبَ النَّجِسَ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ تَحْرِيمُ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ كَمَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ لِبَاسِهِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ حَرَّمَ افْتِرَاشَهُ عَلَى النِّسَاءِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ المراوزة مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَبَاحَهُ لِلرِّجَالِ ؛ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاشَ كَاللِّبَاسِ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاشَ لِبَاسٌ كَمَا قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ . إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّزَيُّنِ عَلَى الْبَدَنِ إبَاحَةُ الْمُنْفَصِلِ ؛ كَمَا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . وَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ حَاجَةً وَمَا يُسَمُّونَهُ ضَرُورَةً : فَيَسِيرُ الْفِضَّةِ التَّابِعُ يُبَاحُ عِنْدَهُمْ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ : { إنَّ قَدَحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْكَسَرَ شُعِّبَ بِالْفِضَّةِ } سَوَاءٌ كَانَ الشَّاعِبُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَانَ هُوَ أَنَسًا . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْيَسِيرُ لِلزِّينَةِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ وَالْكَرَاهَةُ . قِيلَ : وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ

مَا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فَيُنْهَى عَنْ الضَّبَّةِ فِي مَوْضِعِ الشُّرْبِ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا كُرِهَ حَلْقَةُ الذَّهَبِ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَهُوَ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مَرْفُوعًا : { مِنْ شُرْبٍ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ } فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلِهَذَا كَانَ الْمُبَاحُ مِنْ الضَّبَّةِ إنَّمَا يُبَاحُ لَنَا اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : يُكْرَهُ . وَقِيلَ : يَحْرُمُ ؛ وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَحْمَد الْحَلْقَةَ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ . وَالْكَرَاهَةُ مِنْهُ : هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّنْزِيهِ أَوْ التَّحْرِيمِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِهِ . وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ اقْتَضَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ اسْتِثْنَاءِ مَوْضِعِ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ بَيْنَ بَابِ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ وَبَابِ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ فَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ نَهَى عَنْ بَعْضِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِشَيْءِ كَانَ أَمْرًا بِجَمِيعِهِ .

وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ حَيْثُ أَمَرَ بِهِ كَانَ أَمْرًا بِمَجْمُوعِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ وَكَذَلِكَ إذَا أُبِيحَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ } . وَحَيْثُ حُرِّمَ النِّكَاحُ كَانَ تَحْرِيمًا لِأَبْعَاضِهِ حَتَّى يَحْرُمَ الْعَقْدُ مُفْرَدًا وَالْوَطْءُ مُفْرَدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَا يَنْكِحْ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا فَرَّقَ مَالِكٌ وَأَحْمَد - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - بَيْنَ مَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ : أَنَّهُ لَا يَبَرُّ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ : أَنَّهُ يَحْنَثُ . وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ يَقْتَضِي شُمُولَ التَّحْرِيمِ لِأَبْعَاضِ ذَلِكَ : بَقِيَ اتِّخَاذُ الْيَسِيرِ لِحَاجَةِ أَوْ مُطْلَقًا فَالِاتِّخَاذُ الْيَسِيرُ فِيهِ تَفْصِيلٌ ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْآنِيَةِ بِدُونِ اسْتِعْمَالِهَا فَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُمَا تَحْرِيمَهُ ؛ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ كَآلَاتِ الْمَلَاهِي .

وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ التَّابِعَةُ كَثِيرَةً فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي تَحْدِيدِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ ؛ وَالتَّرْخِيصِ فِي لُبْسِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ أَوْ تَحْلِيَةِ السِّلَاحِ مِنْ الْفِضَّةِ ؛ وَهَذَا فِيهِ إبَاحَةُ يَسِيرِ الْفِضَّةِ مُفْرَدًا ؛ لَكِنْ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي وَذَلِكَ يُبَاحُ فِيهِ مَا لَا يُبَاحُ فِي بَاب الْآنِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا غَلِطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ حَيْثُ حَكَى قَوْلًا بِإِبَاحَةِ يَسِيرِ الذَّهَبِ تَبَعًا فِي الْآنِيَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو بَكْرٍ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي ؛ كَعَلَمِ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ . وَفِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي ( بَابِ اللِّبَاسِ ) عَنْ أَحْمَد أَقْوَالٌ : أَحَدُهَا : الرُّخْصَةُ مُطْلَقًا ؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ { نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا } وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ . وَالثَّانِي : الرُّخْصَةُ فِي السِّلَاحِ فَقَطْ . وَالثَّالِثُ : فِي السَّيْفِ خَاصَّةً وَفِيهِ وَجْهٌ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا ؛ لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ { لَا يُبَاحُ الذَّهَبُ وَلَا خَرِيصَةٌ } وَالْخَرِيصَةُ عَيْنُ الْجَرَادَةِ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ دُونَ التَّابِعِ ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا

مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ . وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بَيْنَ يَسِيرِ الْحَرِيرِ مُفْرَدًا كَالتِّكَّةِ فَنَهَى عَنْهُ ؛ وَبَيَّنَ يَسِيرَهُ تَبَعًا كَالْعَلَمِ ؛ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطْ . فَكَمَا يُفَرَّقُ فِي الرُّخْصَةِ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ : فَيُفَرَّقُ بَيْنَ التَّابِعِ وَالْمُفْرَدِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ " إلَّا مُقَطَّعًا " عَلَى التَّابِعِ لِغَيْرِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ قَدْ رُخِّصَ مِنْهَا فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي فِي الْيَسِيرِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا : فَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الْيَسِيرِ أَوْ الْكَثِيرِ التَّابِعِ فِي الْآنِيَةِ أَلْحَقُوهَا بِالْحَرِيرِ الَّذِي أُبِيحَ يَسِيرُهُ تَبَعًا لِلرِّجَالِ فِي الْفِضَّةِ الَّتِي أُبِيحَ يَسِيرُهَا مُفْرَدًا أَوَّلًا ؛ وَلِهَذَا أُبِيحَ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد - حِلْيَةُ الْمِنْطَقَةِ مِنْ الْفِضَّةِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ لِبَاسِ الْحَرْبِ كَالْخُوذَةِ ؛ وَالْجَوْشَنِ ؛ وَالرَّانّ ؛ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ . وَأَمَّا تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا قَالُوا : الرُّخْصَةُ وَقَعَتْ فِي بَابِ اللِّبَاسِ دُونَ بَاب الْآنِيَةِ ؛ وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ هَذَا أَقْوَى ؛ إذْ لَا أَثَرَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ وَالْقِيَاسُ كَمَا تَرَى .

وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ ؛ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْفِضَّةِ مُنْتَفٍ هَاهُنَا لَكِنْ فِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي الْآنِيَةِ وَجْهٌ لِلرُّخْصَةِ فِيهِ . وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ وَالِاغْتِسَالُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد لَكِنَّهُ مُرَكَّبٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ أَشْهُرُهُمَا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ؛ وَاللِّبَاسِ الْمُحَرَّمِ كَالْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْحَجِّ بِالْمَالِ الْحَرَامِ ؛ وَذَبْحِ الشَّاةِ بِالسِّكِّينِ الْمُحَرَّمَةِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ أَدَاءُ وَاجِبٍ وَاسْتِحْلَالُ مَحْظُورٍ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يُصَحِّحُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَيُبِيحَ الذَّبْحَ : فَإِنَّهُ يُصَحِّحُ الطَّهَارَةَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَأَمَّا عَلَى الْمَنْعِ فَلِأَصْحَابِهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : الصِّحَّةُ . كَمَا هُوَ قَوْلُ الخرقي وَغَيْرِهِ .وَالثَّانِي : الْبُطْلَانُ . كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ؛ طَرْدًا لِقِيَاسِ الْبَابِ . وَاَلَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ الخرقي أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد : فَرَّقُوا بِفَرْقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْعِبَادَةِ ؛ فَإِنَّ الْإِنَاءَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمُتَطَهِّرِ بِخِلَافِ لَابِسِ الْمُحَرَّمِ وَآكِلِهِ وَالْجَالِسِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لَهُ قَالُوا : فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَهَبَ إلَى الْجُمْعَةِ بِدَابَّةٍ مَغْصُوبَةٍ . وَضَعَّفَ آخَرُونَ هَذَا الْفَرْقَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ الْمُحَرَّمِ وَبَيْنَ أَنْ

يَغْتَرِفَ مِنْهُ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشَّارِبَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ وَهُوَ حِينَ انْصِبَابِ الْمَاءِ فِي بَطْنِهِ يَكُونُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْإِنَاءِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي - وَهُوَ أَفْقَهُ - : قَالُوا : التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ فِي رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَشَرْطِهَا أَثَّرَ فِيهَا كَمَا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فِي اللِّبَاسِ أَوْ الْبُقْعَةِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا لَمْ يُؤَثِّرْ وَالْإِنَاءُ فِي الطَّهَارَةِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جُلُودِ الْحُمُرِ ؛ وَجِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْمَيْتَةِ : هَلْ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا طَهَارَةُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ . وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .

وَالثَّانِي : لَا تَطْهُرُ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلِهَذَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَدْبُوغِ فِي الْمَاءِ دُونَ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِذَلِكَ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَيْضًا اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى هِيَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ كَمَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عكيم ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بِآخِرَةٍ . وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَالُوا : هِيَ مِنْ الْمَيْتَةِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي الدِّبَاغِ شَيْءٌ وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ الدِّبَاغِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَطَعَنَ هَؤُلَاءِ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ إذْ كَانُوا أَئِمَّةً لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ اجْتِهَادٌ . وَقَالُوا : رَوَى ابْنُ عُيَيْنَة الدِّبَاغَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَالزُّهْرِيُّ كَانَ يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ ذِكْرُ الدِّبَاغِ وَتَكَلَّمُوا فِي ابْنِ وَعْلَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ قَالُوا : أَحَادِيثُ الدِّبَاغِ مَنْسُوخَةٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عكيم وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ : { كُنْت رَخَّصْت فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ } . فَكِلَا هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ مَأْثُورَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد نَفْسِهِ فِي جَوَابِهِ وَمُنَاظَرَاتِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْمَشْهُورَةِ.

وَقَدْ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالدِّبَاغِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةِ مَيِّتَةٍ فَقَالَ : هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيِّتَةٌ . قَالَ : إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا } . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ } . وَعَنْ { سَوْدَةَ بِنْتِ زمعة زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مِسْكَهَا فَمَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ } . قُلْت : وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ { عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ : إنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ وَنُؤْتَى بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الدَّلُوكَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : دِبَاغُهُ طَهُورُهُ } . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنِّسَائِيّ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ ؟ فَقَالَ : دِبَاغُهَا طَهُورُهَا } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي . وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِبَيْتِ بِفِنَائِهِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَاسْتَقَى فَقِيلَ : إنَّهَا

مَيْتَةٌ فَقَالَ : ذَكَاةُ الْأَدِيمِ دِبَاغُهُ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَأَمَّا حَدِيثُ بْنِ عكيم فَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ بِكَوْنِ حَامِلِهِ مَجْهُولًا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسُوغُ رَدُّ الْحَدِيثِ بِهِ . قَالَ { عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عكيم : أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرِ أَوْ شَهْرَيْنِ : أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد . وَقَالَ : مَا أَصْلَحَ إسْنَادَهُ . وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي . وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِلْجِلْدِ قَبْلَ الدِّبَاغِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ شميل وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَأَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَإِنَّمَا هُوَ أَدِيمٌ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا قَبْلَ الدَّبْغِ . فَقَالَ الْمَانِعُونَ : هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ : { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي أَرْضِ جُهَيْنَةَ إنِّي كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ } . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ فَضَالَةَ بْنِ مُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ الْمِصْرِيِّ . وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّ لَكِنْ هُوَ شَدِيدٌ فِي التَّزْكِيَةِ . وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ بَعْدَ الرُّخْصَةِ فَالرُّخْصَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمَدْبُوغِ . وَتَحْقِيقُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : حَدِيثُ ابْنِ عكيم لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَدْبُوغِ . وَأَمَّا الرُّخْصَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا كَانَتْ لِلْمَدْبُوغِ

وَغَيْرِهِ وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ - إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ الْمُطْلَقِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا } فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ ثُمَّ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ . وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زمعة فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَسَلَّمَ مَاتَتْ فُلَانَةُ . تَعْنِي : الشَّاةَ . فَقَالَ : فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا فَقَالَتْ : آخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ : { لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ } وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ إنْ تَدْبُغُوهُ تَنْتَفِعُوا بِهِ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ فَاِتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا } . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الدِّبَاغَ لِإِبْقَاءِ الْجِلْدِ وَحِفْظِهِ لَا لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي الْحِلِّ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ لِجُهَيْنَةَ فِي هَذَا وَالنَّسْخُ عَنْ هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ فِي سُورَتَيْنِ مَكِّيَّتَيْنِ : الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ . ثُمَّ فِي سُورَتَيْنِ مَدَنِيَّتَيْنِ : الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَالْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا كَمَا رُوِيَ { الْمَائِدَةُ آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا } وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ التَّحْرِيمِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي غَيْرِهَا وَحَرَّمَ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْيَاءَ مِثْلَ : أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ . وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي اسْتَنَدَتْ إلَيْهَا الرُّخْصَةُ الْمُطْلَقَةُ : فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِالْعَصَبِ وَالْإِهَابِ قَبْلَ الدِّبَاغِ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ قَطُّ بَلْ بَيَّنَ أَنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ وَذَكَاتُهُ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ بِدُونِ الدِّبَاغِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلِلنَّاسِ فِيمَا يُطَهِّرُهُ الدِّبَاغُ أَقْوَالٌ : قِيلَ : إنَّهُ يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْحَمِيرَ . كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ودَاوُد . وَقِيلَ : يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى الْحَمِيرِ . كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْكَلْبَ وَالْحَمِيرَ . كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد عَلَى الْقَوْلِ بِتَطْهِيرِ الدِّبَاغِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِهِ - وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ - أَنَّهُ إنَّمَا يُطَهِّرُ مَا يُبَاحُ بِالذَّكَاةِ فَلَا يُطَهِّرُ جُلُودَ السِّبَاعِ . وَمَأْخَذُ التَّرَدُّدِ : أَنَّ الدِّبَاغَ هَلْ هُوَ كَالْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ مَا كَانَ طَاهِرًا . فِي الْحَيَاةِ أَوْ هُوَ كَالذَّكَاةِ فَيُطَهِّرُ مَا طَهُرَ بِالذَّكَاةِ ؟ وَالثَّانِي أَرْجَحُ .

وَدَلِيلُ ذَلِكَ : نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ الذهلي أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ } . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . زَادَ التِّرْمِذِيُّ " أَنْ تُفْرَشَ " . وَعَنْ خَالِدِ بْنِ معدان قَالَ : { وَفَدَ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كرب عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ : أَنْشُدُك بِاَللَّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَهَذَا لَفْظُهُ . وَعَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ } . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي هَذَا الْقَوْلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَحَافِرِهَا ؛ وَقَرْنِهَا ؛ وَظُفْرِهَا ؛ وَشَعْرِهَا ؛ وَرِيشِهَا ؛ وَإِنْفَحَتِهَا : هَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ نَجِسٌ أَمْ طَاهِرٌ أَمْ الْبَعْضُ مِنْهُ طَاهِرٌ وَالْبَعْضُ نَجِسٌ ؟
فَأَجَابَ : أَمَّا عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا ؛ وَظُفْرُهَا ؛ وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ

ذَلِكَ كَالْحَافِرِ وَنَحْوِهِ وَشَعْرِهَا وَرِيشِهَا ؛ وَوَبَرِهَا : فَفِي هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : نَجَاسَةُ الْجَمِيعِ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ وَذَلِكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِظَامَ وَنَحْوَهَا نَجِسَةٌ وَالشُّعُورَ وَنَحْوَهَا طَاهِرَةٌ . وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْجَمِيعَ طَاهِرٌ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ ؛ وَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّجَاسَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ هِيَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَيْسَتْ مِنْ الْخَبَائِثِ فَتَدْخُلُ فِي آيَةِ التَّحْلِيلِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ لَا تَدْخُلُ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى : أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } لَا يَدْخُلُ فِيهَا الشُّعُورُ وَمَا أَشْبَهَهَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ ضِدُّ الْحَيِّ وَالْحَيَاةُ نَوْعَانِ :

حَيَاةُ الْحَيَوَانِ وَحَيَاةُ النَّبَاتِ فَحَيَاةُ الْحَيَوَانِ خَاصَّتُهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ وَحَيَاةُ النَّبَاتِ خَاصَّتُهَا النُّمُوُّ وَالِاغْتِذَاءُ . وَقَوْلُهُ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } إنَّمَا هُوَ بِمَا فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ دُونَ النَّبَاتِيَّةِ ؛ فَإِنَّ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ إذَا يَبِسَ لَمْ يَنْجُسْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَقَالَ : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فَمَوْتُ الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ نَجَاسَتَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْمَيْتَةُ الْمُحَرَّمَةُ : مَا فَارَقَهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالشَّعْرُ حَيَاتُهُ مَنْ جِنْسِ حَيَاةِ النَّبَاتِ ؛ لَا مِنْ جِنْسِ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ ؛ فَإِنَّهُ يَنْمُو وَيَغْتَذِي وَيَطُولُ كَالزَّرْعِ وَلَيْسَ فِيهِ حِسٌّ وَلَا يَتَحَرَّكُ بِإِرَادَتِهِ فَلَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ حَتَّى يَمُوتَ بِمُفَارَقَتِهَا فَلَا وَجْهَ لِتَنْجِيسِهِ . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الشَّعْرُ جُزْءًا مِنْ الْحَيَوَانِ لَمَا أُبِيحَ أَخْذُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يُحِبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ وَأَلْيَاتِ الْغَنَمِ ؟ فَقَالَ مَا أُبِينَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيِّتٌ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَوْ كَانَ حُكْمُ الشَّعْرِ حُكْمَ السَّنَامِ وَالْأَلْيَةِ لَمَا جَازَ قَطْعُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَا كَانَ طَاهِرًا حَلَالًا . فَلَمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ إذَا جُزَّ مِنْ الْحَيَوَانِ كَانَ طَاهِرًا حَلَالًا : عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ اللَّحْمِ .

وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى شَعْرَهُ لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ لِلْمُسْلِمِينَ } { وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَنْجِي وَيَسْتَجْمِرُ } . فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الشَّعْرِ وَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا . وَأَمَّا الْعِظَامُ وَنَحْوُهَا : فَإِذَا قِيلَ : إنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمَيْتَةِ لِأَنَّهَا تُحِسُّ وَتَأْلَمُ . قِيلَ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ : أَنْتُمْ لَمْ تَأْخُذُوا بِعُمُومِ اللَّفْظِ ؛ فَإِنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ لَا يُنَجِّسُ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مَعَ أَنَّهَا مَيِّتَةٌ مَوْتًا حَيَوَانِيًّا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ ؛ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وَفِي الْآخَرِ شِفَاءٌ } . وَمَنْ نَجَّسَ هَذَا قَالَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : إنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَائِعَاتِ الْوَاقِعَ فِيهَا لِهَذَا الْحَدِيثِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : عُلِمَ أَنَّ عِلَّةَ نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ إنَّمَا هُوَ احْتِبَاسُ الدَّمِ فِيهَا فَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَحْتَبِسْ فِيهِ الدَّمُ ؛ فَلَا يُنَجِّسُ . فَالْعَظْمُ وَنَحْوُهُ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْعَظْمَ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ وَلَا كَانَ مُتَحَرِّكًا بِالْإِرَادَةِ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ . فَإِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ الْكَامِلُ الْحَسَّاسُ الْمُتَحَرِّكُ بِالْإِرَادَةِ لَا يُنَجِّسُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ : فَكَيْفَ يُنَجِّسُ الْعَظْمُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ ؟

وَمِمَّا يُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } فَإِذَا عُفِيَ عَنْ الدَّمِ غَيْرِ الْمَسْفُوحِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الدَّمِ : عُلِمَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - فَرَّقَ بَيْنَ الدَّمِ الَّذِي يَسِيلُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَضَعُونَ اللَّحْمَ فِي الْمَرَقِ وَخُطُوطُ الدَّمِ فِي الْقُدُورِ بَيِّنٌ وَيَأْكُلُونَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ وَلَوْلَا هَذَا لَاسْتَخْرَجُوا الدَّمَ مِنْ الْعُرُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْيَهُودُ وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِسَبَبِ غَيْرِ جَارِحٍ مُحَدَّدٍ فَحَرَّمَ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ وَالنَّطِيحَةَ { وَحَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صِيدَ بِعَرْضِ الْمِعْرَاضِ وَقَالَ : إنَّهُ وَقِيذٌ } دُونَ مَا صِيدَ بِحَدِّهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هُوَ سَفْحُ الدَّمِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ التَّنْجِيسِ هُوَ احْتِقَانُ الدَّمِ وَاحْتِبَاسُهُ وَإِذَا سُفِحَ بِوَجْهِ خَبِيثٍ بِأَنْ يُذْكَرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ كَانَ الْخُبْثُ هُنَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَكُونُ تَارَةً لِوُجُودِ الدَّمِ وَتَارَةً لِفَسَادِ التَّذْكِيَةِ كَذَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالذَّكَاةِ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَظْمُ وَالْقَرْنُ وَالظُّفْرُ وَالظِّلْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ مَسْفُوحٌ فَلَا وَجْهَ لِتَنْجِيسِهِ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ قَالَ الزُّهْرِيُّ كَانَ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَمْتَشِطُونَ بِأَمْشَاطِ مِنْ عِظَامِ الْفِيلِ وَقَدْ

رُوِيَ فِي الْعَاجِ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ ؛ فَإِنَّا لَا نَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ : هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ قَالُوا : إنَّهَا مَيِّتَةٌ ؟ قَالَ : إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا } . وَلَيْسَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ذِكْرُ الدِّبَاغِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ عُيَيْنَة وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ طَعَنَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي ذَلِكَ وَأَشَارَ إلَى غَلَطِ ابْنِ عُيَيْنَة فِيهِ وَذَكَرَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ وَغَيْرَهُ كَانُوا يُبِيحُونَ الِانْتِفَاعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا النَّصُّ يَقْتَضِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدَّبْغِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَكِنْ إذَا قِيلَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعَ بِالْجُلُودِ حَتَّى تُدْبَغَ أَوْ قِيلَ : إنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ : لَمْ يَلْزَمْ تَحْرِيمُ الْعِظَامِ وَنَحْوُهَا لِأَنَّ الْجِلْدَ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ فِيهِ الدَّمُ كَمَا فِي سَائِرِ أَجْزَائِهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ دِبَاغَهُ ذَكَاتَهُ ؛ لِأَنَّ الدِّبَاغَ يُنَشِّفُ رُطُوبَاتِهِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ التَّنْجِيسِ هُوَ الرُّطُوبَاتُ وَالْعَظْمُ لَيْسَ فِيهِ رُطُوبَةٌ سَائِلَةٌ وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَجِفُّ وَيَيْبَسُ وَهُوَ يَبْقَى وَيُحْفَظُ أَكْثَرَ مِنْ الْجِلْدِ فَهُوَ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ مِنْ الْجِلْدِ . وَالْعُلَمَاءُ تَنَازَعُوا فِي الدِّبَاغِ : هَلْ يَطْهُرُ ؟

فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا : أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ : أَنَّهُ يَطْهُرُ . وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ رَجَعَ أَحْمَد كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ . وَحَدِيثُ ابْنِ عكيم يَدُلُّ عَلَى أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ أَوْ عَصَبٍ } بَعْدَ أَنْ كَانَ أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَيَكُونُ قَدْ أَرْخَصَ فَإِنَّ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ الصَّحِيحَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَخَّصَ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَيَكُونُ قَدْ أَرْخَصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا نَهَى عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ : إنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِمَا لَمْ يُدْبَغْ وَلِهَذَا قَرَنَ مَعَهُ الْعَصَبَ وَالْعَصَبُ لَا يُدْبَغُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَجِسٌ . كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد . وَعَلَى هَذَا النِّزَاعِ انْبَنَى نِزَاعُهُمْ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ فَإِنَّ ذَبَائِحَ الْمَجُوسِ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَإِذَا صَنَعُوا جُبْنًا - وَالْجُبْنُ يُصْنَعُ بِالْإِنْفَحَةِ - كَانَ فِيهِ هَذَانِ الْقَوْلَانِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جُبْنَهُمْ حَلَالٌ وَأَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ وَكَانَ هَذَا ظَاهِرًا شَائِعًا بَيْنَهُمْ وَمَا يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ مِنْ نَقْلِ بَعْضِ الْحِجَازِيِّينَ وَفِيهِ نَظَرٌ . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا أَعْلَمَ بِهَذَا فَإِنَّ الْمَجُوسَ كَانُوا بِبِلَادِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا بِأَرْضِ الْحِجَازِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ كَانَ هُوَ نَائِبَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى الْمَدَائِنِ وَكَانَ يَدْعُو الْفُرْسَ إلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ ؟ فَقَالَ : الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عفى عَنْهُ . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ السُّؤَالُ عَنْ جُبْنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ

بَيِّنٌ وَإِنَّمَا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ جُبْنِ الْمَجُوسِ : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ يُفْتِي بِحِلِّهَا وَإِذَا كَانَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْقَطَعَ النِّزَاعُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَيْضًا فَاللَّبَنُ وَالْإِنْفَحَةُ لَمْ يَمُوتَا وَإِنَّمَا نَجَّسَهُمَا مَنْ نَجَّسَهُمَا لِكَوْنِهِمَا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَيَكُونُ مَائِعًا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَالتَّنْجِيسُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَائِعَ لَاقَى وِعَاءً نَجِسًا وَعَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ نَجِسًا . فَيُقَالُ أَوَّلًا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَائِعَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا عَلَى نَجَاسَتِهِ . وَيُقَالُ ثَانِيًا : إنَّ الْمُلَاقَاةَ فِي الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } وَلِهَذَا يَجُوزُ حَمْلُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مَا فِي بَطْنِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ الِاسْتِنْجَاءُ
سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ قَالَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { غَرِّبُوا وَلَا تُشَرِّقُوا } وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : { شَرِّقُوا وَلَا تُغَرِّبُوا } ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَدِيثَانِ كَذِبٌ وَلَكِنْ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطِ وَلَا بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ } وَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ كَأَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَأَمَّا مِصْرُ فَقِبْلَتُهُمْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْجَنُوبِ مِنْ مَطْلِعِ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ عَنْ :
الِاسْتِنْجَاءِ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ وَيَمْشِيَ وَيَتَنَحْنَحَ وَيَسْتَجْمِرَ بِالْأَحْجَارِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ كُلِّ قَلِيلٍ فِي ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ : فَهَلْ فَعَلَ هَذَا السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . أَوْ هُوَ بِدْعَةٌ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، التَّنَحْنُحُ بَعْدَ الْبَوْلِ وَالْمَشْيُ وَالطَّفْرُ إلَى فَوْقٍ وَالصُّعُودُ فِي السُّلَّمِ وَالتَّعَلُّقُ فِي الْحَبْلِ وَتَفْتِيشُ الذَّكَرِ بِإِسَالَتِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ : كُلُّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَكَذَلِكَ نَتْرُ الذَّكَرِ بِدْعَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ سَلْتُ الْبَوْلِ بِدْعَةٌ لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَالْبَوْلُ يَخْرُجُ بِطَبْعِهِ وَإِذَا فَرَغَ انْقَطَعَ بِطَبْعِهِ وَهُوَ كَمَا قِيلَ : كَالضَّرْعِ إنْ تَرَكْته قَرَّ وَإِنْ حَلَبْته دَرَّ .

وَكُلَّمَا فَتَحَ الْإِنْسَانُ ذَكَرَهُ فَقَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ . وَقَدْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ وَهُوَ وَسْوَاسٌ وَقَدْ يُحِسُّ مَنْ يَجِدُهُ بَرْدًا لِمُلَاقَاةِ رَأْسِ الذَّكَرِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَخْرُجْ . وَالْبَوْلُ يَكُونُ وَاقِفًا مَحْبُوسًا فِي رَأْسِ الْإِحْلِيلِ لَا يَقْطُرُ فَإِذَا عَصَرَ الذَّكَرَ أَوْ الْفَرْجَ أَوْ الثُّقْبَ بِحَجَرِ أَوْ أُصْبُعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ خَرَجَتْ الرُّطُوبَةُ فَهَذَا أَيْضًا بِدْعَةٌ وَذَلِكَ الْبَوْلُ الْوَاقِفُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَا بِحَجَرِ وَلَا أُصْبُعٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ كُلَّمَا أَخْرَجَهُ جَاءَ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَرْشَحُ دَائِمًا . وَالِاسْتِجْمَارُ بِالْحَجَرِ كَافٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ الذَّكَرِ بِالْمَاءِ وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ اسْتَنْجَى أَنْ يَنْضَحَ عَلَى فَرْجِهِ مَاءً فَإِذَا أَحَسَّ بِرُطُوبَتِهِ قَالَ : هَذَا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ . وَأَمَّا مَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ - وَهُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَا يَنْقَطِعُ - فَهَذَا يَتَّخِذُ حِفَاظًا يَمْنَعُهُ فَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ يَنْقَطِعُ مِقْدَارَ مَا يَتَطَهَّرُ وَيُصَلِّي وَإِلَّا صَلَّى وَإِنْ جَرَى الْبَوْلُ - كَالْمُسْتَحَاضَةِ - تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ السِّوَاكُ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ السِّوَاكِ ، هَلْ هُوَ بِالْيَدِ الْيُسْرَى أَوْلَى مِنْهُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى أَوْ بِالْعَكْسِ ؟ وَهَلْ يَسُوغُ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَسْتَاكُ بِالْيُسْرَى ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْأَفْضَلُ أَنْ يُسْتَاكَ بِالْيُسْرَى ؛ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجِ ذَكَرَهُ عَنْهُ فِي مَسَائِلِهِ وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ خَالَفَ فِي ذَلِكَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِيَاكَ مِنْ بَابِ إمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ كَالِاسْتِنْثَارِ وَالِامْتِخَاطِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إزَالَةُ الْأَذَى وَذَلِكَ بِالْيُسْرَى كَمَا أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَاتِ كَالِاسْتِجْمَارِ وَنَحْوِهِ بِالْيُسْرَى وَإِزَالَةُ الْأَذَى وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا بِالْيُسْرَى . وَالْأَفْعَالُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ . وَالثَّانِي : مُخْتَصٌّ بِأَحَدِهِمَا . وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي تَشْتَرِكُ فِيهَا

الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى : تُقَدَّمُ فِيهَا الْيُمْنَى إذَا كَانَتْ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ ؛ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالِابْتِدَاءِ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ فِي السِّوَاكِ ؛ وَنَتْفِ الْإِبِطِ ؛ وَكَاللِّبَاسِ ؛ وَالِانْتِعَالِ وَالتَّرَجُّلِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمَنْزِلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخَلَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَتُقَدَّمُ الْيُسْرَى فِي ضِدِّ ذَلِكَ كَدُخُولِ الْخَلَاءِ وَخَلْعِ النَّعْلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا : إنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ كَانَ بِالْيَمِينِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُصَافَحَةِ ؛ وَمُنَاوَلَةِ الْكُتُبِ وَتَنَاوُلِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ ضِدَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْيُسْرَى كَالِاسْتِجْمَارِ وَمَسِّ الذَّكَرِ وَالِاسْتِنْثَارِ وَالِامْتِخَاطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : السِّوَاكُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ تُشْرَعُ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَسَخٌ وَمَا كَانَ عِبَادَةً مَقْصُودَةً كَانَ بِالْيَمِينِ . قِيلَ : كُلٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِيَاكَ إنَّمَا شُرِعَ لِإِزَالَةِ مَا فِي دَاخِلِ الْفَمِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِهَذَا شُرِعَ عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُغَيِّرَةِ لَهُ كَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَعِنْدَ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُشْرَعُ لَهَا تَطْهِيرٌ كَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَلَمَّا كَانَ الْفَمُ فِي مَظِنَّةِ التَّغَيُّرِ شُرِعَ عِنْدَ

الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ كَمَا شُرِعَ غَسْلُ الْيَدِ لِلْمُتَوَضِّئِ قَبْلَ وُضُوئِهِ ؛ لِأَنَّهَا آلَةٌ لِصَبِّ الْمَاءِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ نَظَافَتُهَا : هَلْ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ - كَالْمَعْرُوفِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - يُسْتَحَبُّ عَلَى النَّادِرِ بَلْ الْغَالِبِ وَإِزَالَةِ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ . وَقَدْ يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي السِّوَاكِ إذَا قِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ مَعَ نَظَافَةِ الْفَمِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ غَسْلَ الْيَدِ قَبْلَ الْمَضْمَضَةِ الْمَقْصُودُ بِهَا النَّظَافَةُ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْمَنْعِ لِلْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى . وَأَمَّا الثَّانِيَةُ : فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ بِالْيُمْنَى ؟ وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا بَلْ قَدْ يُقَالُ : الْعِبَادَاتُ تُفْعَلُ بِمَا يُنَاسِبُهَا وَيُقَدَّمُ فِيهَا مَا يُنَاسِبُهَا . ثُمَّ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ : إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لَا تُعْقَلُ عِلَّتُهُ : فَلَيْسَ هَذَا بِصَوَابِ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ مَعْقُولٌ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ رَمْيِ الْجِمَارِ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النِّيَّةِ كَالطَّهَارَةِ وَأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ مَعَ تَيَقُّنِ النَّظَافَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَهَذَا الْوَصْفُ إذَا سَلِمَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ كَوْنَهَا بِالْيُمْنَى إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ كَوْنَهَا مَنَوِيَّةً أَوْ مَشْرُوعَةً مَعَ تَيَقُّنِ النَّظَافَةِ

لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ تَخْتَصُّ بِهَا الْيُمْنَى بَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا مَعَ هَذَا الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ أَجْلِ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ ؟ وَيُسْتَحَبُّ الْقُرْبُ فِيهِ مِنْ الْبَيْتِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَالْجَانِبُ الْأَيْسَرُ فِيهِ أَقْرَبُ إلَى الْبَيْتِ لِكَوْنِ الْحَرَكَةِ الدَّوْرِيَّةِ تَعْتَمِدُ فِيهَا الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَلَمَّا كَانَ الْإِكْرَامُ فِي ذَلِكَ لِلْخَارِجِ جُعِلَ لِلْيَمِينِ وَلَمْ يُنْقَلْ إذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً فَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ الْيُمْنَى فِيهَا إلَى الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ إكْرَامَ الْيَمِينِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْخَارِجَةَ . وَكَذَلِكَ الِاسْتِنْثَارُ جَعْلُهُ بِالْيُسْرَى إكْرَامٌ لِلْيَمِينِ وَصِيَانَةٌ لَهَا وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ . ثُمَّ إذَا قِيلَ : هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْأَذَى وَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ مَشْرُوعٌ فِيهِ الْعُدُولُ عَنْ الْيُمْنَى إلَى الْيُسْرَى أَعْظَمُ فِي إكْرَامِ الْيَمِينِ بِدُونِ ذَلِكَ : لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَكُونَ إزَالَةُ الْأَذَى فِيهِ ثَابِتَةً مَقْصُودَةً كَالِاسْتِجْمَارِ بِالثَّلَاثِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْحَجَرَ الثَّالِثَ مَعَ حُصُولِ الْإِنْقَاءِ بِمَا دُونَهُ . وَكَذَلِكَ التَّثْلِيثُ وَالتَّسْبِيعُ فِي غَسْلِ النَّجَاسَاتِ حَيْثُ وَجَبَ وَعِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ يَأْمُرُ بِهِ وَإِنْ حَصَلَتْ الْإِزَالَةُ بِمَا دُونَهُ . وَكَذَلِكَ التَّثْلِيثُ فِي الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ تَنَظَّفَ الْعُضْوُ بِمَا دُونَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ مَقْصُودَةٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَالْحَجَرِ .

فَكَذَلِكَ إمَاطَةُ الْأَذَى مِنْ الْفَمِ مَقْصُودَةٌ بِالسِّوَاكِ قَطْعًا وَإِنْ شُرِعَ مَعَ عَدَمِهِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ بِالْيُسْرَى كَمَا أَنَّ الْحَجَرَ الثَّالِثَ فِي الِاسْتِجْمَارِ يَكُونُ بِالْيُسْرَى وَالْمَرَّةَ السَّابِعَةَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ تَكُونُ بِالْيُسْرَى وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ فِي الْأَصْلِ إزَالَةَ الْأَذَى وَإِنْ قِيلَ : يُشْرَعُ مَعَ عَدَمِهِ تَكْمِيلًا لِلْمَقْصُودِ بِهِ وَإِزَالَةً لِلشَّكِّ بِالْيَقِينِ إلْحَاقًا لِلنَّادِرِ بِالْغَالِبِ ؛ وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ قَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً فَعُلِّقَ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمَظِنَّةِ إذْ زَوَالُ الْأَذَى بِالْكُلِّيَّةِ قَدْ يَظُنُّهُ الظَّانُّ مِنْ غَيْرِ تَيَقُّنٍ وَيَعْسُرُ الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ فَأُقِيمَتْ الْمَظِنَّةُ فِيهِ مَقَامَ الْحِكْمَةِ فَجُعِلَ مَشْرُوعًا لِلْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ عَدَمِ النَّظَرِ إلَى التَّغَيُّرِ وَعَدَمِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ حُصُولُ التَّغَيُّرِ . فَهَذَا إذَا قِيلَ بِهِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ جِنْسَ هَذَا الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْأَذَى وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً مَقْصُودَةً تُشْرَعُ فِيهَا النِّيَّةُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ بِالْيُسْرَى كَالِاسْتِنْثَارِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ وَمُبَاشَرَةِ مَحَلِّ الْوُلُوغِ بِالدَّلْكِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ صَبِّ الْمَاءِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَوَضِّئُ يَسْتَنْشِقُ بِالْيُمْنَى وَيَسْتَنْثِرُ بِالْيُسْرَى وَالْمُسْتَنْجِي يَصُبُّ الْمَاءَ بِالْيَمِينِ وَيُدَلِّكُ بِالْيُسْرَى . وَكَذَلِكَ الْمُغْتَسِلُ وَالْمُتَوَضِّئُ مِنْ الْمَاءِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الْإِنَاءِ فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى الْيُسْرَى مَعَ أَنَّ

مُبَاشَرَةَ الْعَوْرَةِ فِي الْغُسْلِ بِالْيُسْرَى وَهَكَذَا غَاسِلُ مَوْرِدِ النَّجَاسَةِ يَصُبُّ بِالْيُمْنَى وَإِذَا احْتَاجَ إلَى مُبَاشَرَةِ الْمَحَلِّ بَاشَرَهُ بِالْيُسْرَى وَشَوَاهِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا عَلَى ذَلِكَ مُتَظَاهِرَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْخِتَانِ : مَتَى يَكُونُ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْخِتَانُ فَمَتَى شَاءَ اخْتَتَنَ لَكِنْ إذَا رَاهَقَ الْبُلُوغَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَتِنَ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ لِئَلَّا يَبْلُغَ إلَّا وَهُوَ مَخْتُونٌ . وَأَمَّا الْخِتَانُ فِي السَّابِعِ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : قِيلَ : لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ خَتَنَ إسْحَاقَ فِي السَّابِعِ . وَقِيلَ : يُكْرَهُ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ وَلَيْسَ مُطَهَّرًا هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ وَمَنْ تَرَكَ الْخِتَانَ كَيْفَ حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ ضَرَرَ الْخِتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَتِنَ فَإِنَّ

ذَلِكَ مَشْرُوعٌ مُؤَكَّدٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقَدْ اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ثَمَانِينَ مِنْ عُمْرِهِ وَيُرْجَعُ فِي الضَّرَرِ إلَى الْأَطِبَّاءِ الثِّقَاتِ وَإِذَا كَانَ يَضُرُّهُ فِي الصَّيْفِ أَخَّرَهُ إلَى زَمَانِ الْخَرِيفِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ :
هَلْ تَخْتَتِنُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَخْتَتِنُ وَخِتَانُهَا أَنْ تَقْطَعَ أَعْلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَافِضَةِ - وَهِيَ الْخَاتِنَةُ - : { أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَبْهَى لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى لَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ } يَعْنِي : لَا تُبَالِغِي فِي الْقَطْعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِخِتَانِ الرَّجُلِ تَطْهِيرُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُحْتَقِنَةِ فِي الْقُلْفَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ خِتَانِ الْمَرْأَةِ تَعْدِيلُ شَهْوَتِهَا فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ قلفاء كَانَتْ مُغْتَلِمَةً شَدِيدَةَ الشَّهْوَةِ . وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْمُشَاتَمَةِ : يَا ابْنَ القلفاء فَإِنَّ القلفاء تَتَطَلَّعُ إلَى الرِّجَالِ أَكْثَرَ وَلِهَذَا يُوجَدُ مِنْ الْفَوَاحِشِ فِي نِسَاءِ التتر وَنِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ مَا لَا يُوجَدُ فِي نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا حَصَلَتْ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخِتَانِ ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ فَلَا يَكْمُلُ مَقْصُودُ الرَّجُلِ فَإِذَا قُطِعَ مِنْ غَيْرِ مُبَالِغَةٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِاعْتِدَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
إذَا مَاتَ الصَّبِيُّ وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ : هَلْ يُخْتَنُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؟ .
فَأَجَابَ : وَلَا يُخْتَنُ أَحَدٌ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَسُئِلَ :
كَمْ مِقْدَارُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْلِقَ عَانَتَهُ ؟ .
فَأَجَابَ : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لَهُمْ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : أَلَّا يَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا } وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؟ .
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي أَقْوَامٍ يَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ عَلَى أَيْدِي الْأَشْيَاخِ ؛ وَعِنْدَ الْقُبُورِ الَّتِي

يُعَظِّمُونَهَا وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَعِبَادَةً : فَهَلْ هَذَا سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ ؟ وَهَلْ حَلْقُ الرَّأْسِ مُطْلَقًا سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، حَلْقُ الرَّأْسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهُمَا : حَلْقُهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَهُوَ مَشْرُوعٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ قَالَ تَعَالَى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ } وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجِّهِ وَفِي عُمَرِهِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ مَنْ حَلَقَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَ . وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ } . وَقَدْ أَمَرَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُقَصِّرُوا رُءُوسَهُمْ لِلْعُمْرَةِ إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ ؛ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؛ ثُمَّ يَحْلِقُوا إذَا قَضَوْا الْحَجَّ . فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْصِيرِ أَوَّلًا وَبَيْنَ الْحَلْقِ ثَانِيًا .

وَالنَّوْعُ الثَّانِي : حَلْقُ الرَّأْسِ لِلْحَاجَةِ مِثْلُ أَنْ يَحْلِقَهُ لِلتَّدَاوِي فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ أَنْ يَحْلِقَهُ إذَا كَانَ بِهِ أَذًى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثُ { كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ لَمَّا مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ - وَالْقُمَّلُ يَنْهَالُ مِنْ رَأْسِهِ - فَقَالَ : أَيُؤْذِيك هَوَامُّك ؟ قَالَ : نَعَمْ فَقَالَ : احْلِقْ رَأْسَك وَانْسُكْ شَاةً ؛ أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ أَوْ أَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ } وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ مُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ . النَّوْعُ الثَّالِثُ : حَلْقُهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ وَالتَّدَيُّنِ وَالزُّهْدِ ؛ مِنْ غَيْرِ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ مِثْلَ مَا يَأْمُرُ بَعْضُ النَّاسِ التَّائِبَ إذَا تَابَ بِحَلْقِ رَأْسِهِ وَمِثْلَ أَنْ يُجْعَلَ حَلْقُ الرَّأْسِ شِعَارَ أَهْلِ النُّسُكِ وَالدِّينِ ؛ أَوْ مِنْ تَمَامِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ أَوْ يُجْعَلَ مَنْ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَحْلِقْهُ أَوْ أدين أَوْ أَزْهَدَ أَوْ أَنْ يُقَصَّرَ مِنْ شِعْرِ التَّائِبِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشْيَخَةِ إذَا توب أَحَدًا : أَنْ يَقُصَّ بَعْضَ شَعْرِهِ وَيُعَيِّنُ الشَّيْخُ صَاحِبَ مِقَصٍّ وَسَجَّادَةٍ ؛ فَيَجْعَلُ صَلَاتَهُ عَلَى السَّجَّادَةِ وَقَصَّهُ رُءُوسَ النَّاسِ مِنْ تَمَامِ الْمَشْيَخَةِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً يتوب

التَّائِبِينَ : فَهَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهَا وَلَا رَسُولُهُ ؛ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ ؛ وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلُ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ ؛ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ ؛ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَأَحْمَد بْنِ أَبِي الْحِوَارِيِّ ؛ وَالسَّرِيِّ السقطي ؛ والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ يَقُصُّونَ شَعْرَ أَحَدٍ إذَا تَابَ وَلَا يَأْمُرُونَ التَّائِبَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ . وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُمْ بِحَلْقِ رُءُوسِهِمْ إذَا أَسْلَمُوا وَلَا قَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَ أَحَدٍ . وَلَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى سَجَّادَةٍ بَلْ كَانَ يُصَلِّي إمَامًا بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يُصَلِّي عَلَى مَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَقْعُدُ عَلَى مَا يَقْعُدُونَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا عَنْهُمْ بِشَيْءِ يَقْعُدُ عَلَيْهِ لَا سَجَّادَةٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَكِنْ يَسْجُدُ أَحْيَانًا عَلَى الْخَمِيرَةِ - وَهِيَ شَيْءٌ يُصْنَعُ مِنْ الْخُوصِ صَغِيرٌ - يَسْجُدُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوشًا بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَكَانَ أَكْثَرَ الْأَوْقَاتِ يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَبِينَ الطِّينُ فِي جَبْهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَمَنْ اعْتَقَدَ الْبِدَعَ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً : قُرْبَةً وَطَاعَةً

وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ وَجَعَلَهَا مِنْ تَمَامِ الدِّينِ وَمِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ التَّائِبُ وَالزَّاهِدُ وَالْعَابِدُ فَهُوَ ضَالٌّ خَارِجٌ عَنْ سَبِيلِ الرَّحْمَنِ مُتَّبِعٌ لِخُطُوَاتِ الشَّيَاطِينِ . وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ : أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ فِي غَيْرِ النُّسُكِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ وَالتَّدَيُّنِ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَكْرُوهٌ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُبَاحٌ . وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى غُلَامًا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ فَقَالَ : احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوْ دَعُوهُ كُلَّهُ } { وَأُتِيَ بِأَوْلَادِ صِغَارٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ } . وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ الْقَزَعِ وَالْقَزَعُ : حَلْقُ الْبَعْضِ : فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ حَلْقِ الْجَمِيعِ . وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ : حَلْقُ الرَّأْسِ شِعَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ كَانُوا يَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ وَبَعْضُ الْخَوَارِجِ يَعُدُّونَ حَلْقَ الرَّأْسِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ وَالنُّسُكِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ يَقْسِمُ جَاءَهُ رَجُلٌ عَامَ الْفَتْحِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ } .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ جُنْدِيٍّ يُقَلِّعُ بَيَاضَ لِحْيَتِهِ : فَهَلْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إثْمٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَتْفُ الشَّيْبِ مَكْرُوهٌ لِلْجُنْدِيِّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ : إنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا كَانَ جُنُبًا وَقَصَّ ظُفْرَهُ أَوْ شَارِبَهُ أَوْ مَشَطَ رَأْسَهُ هَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى هَذَا وَقَالَ : إذَا قَصَّ الْجُنُبُ شَعْرَهُ أَوْ ظُفْرَهُ فَإِنَّهُ تَعُودُ إلَيْهِ أَجْزَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ فَيَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ قِسْطٌ مِنْ الْجَنَابَةِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى كُلِّ شَعْرَةٍ قِسْطٌ مِنْ الْجَنَابَةِ : فَهَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ

وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { : أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْجُنُبَ قَالَ : إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ } . وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ : { حَيًّا وَلَا مَيِّتًا } . وَمَا أَعْلَمُ عَلَى كَرَاهِيَةِ إزَالَةِ شَعْرِ الْجُنُبِ وَظُفْرِهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا بَلْ قَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَسْلَمَ : أَلْقِ عَنْك شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ } فَأَمَرَ الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَأْخِيرِ الِاخْتِتَانِ . وَإِزَالَةِ الشَّعْرِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فَإِطْلَاقُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْأَمْرَيْنِ . وَكَذَلِكَ تُؤْمَرُ الْحَائِضُ بِالِامْتِشَاطِ فِي غُسْلِهَا مَعَ أَنَّ الِامْتِشَاطَ يَذْهَبُ بِبَعْضِ الشَّعْرِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ الْوُضُوءُ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ : مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَوْجَبَ جَمِيعَ الرَّأْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ رُبُعَ الرَّأْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَعْضُ شَعْرِهِ يُجْزِئُ : فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا وُضُوءَهُ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - كالقدوري فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ وَغَيْرِهِ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ : إنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ عَامَ تَبُوكَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ } . وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ وَهُوَ

مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } لَفْظُ الْمَسْحِ فِي الْآيَتَيْنِ وَحَرْفُ الْبَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ : فَإِذَا كَانَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ لَا تَدُلُّ عَلَى مَسْحِ الْبَعْضِ مَعَ أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَهُوَ مَسْحٌ بِالتُّرَابِ لَا يُشْرَعُ فِيهِ تَكْرَارٌ : فَكَيْفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ آيَةُ الْوُضُوءِ مَعَ كَوْنِ الْوُضُوءِ هُوَ الْأَصْلَ وَالْمَسْحُ فِيهِ بِالْمَاءِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ التَّكْرَارُ ؟ هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْقِلُ مَا يَقُولُ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَنْ قَالَ بِإِجْزَاءِ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ دَالَّةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ : فَهُوَ خَطَأٌ أَخْطَأَهُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَعَلَى اللُّغَةِ وَعَلَى دَلَالَةِ الْقُرْآنِ . وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ وَهِيَ لَا تَدْخُلُ إلَّا لِفَائِدَةٍ : فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ أَفَادَتْ قَدْرًا زَائِدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ : يَشْرَبُ مِنْهَا لَمْ تَدُلَّ عَلَى الرِّيِّ فَضُمِّنَ يَشْرَبُ مَعْنَى يُرْوَى فَقِيلَ : { يَشْرَبُ بِهَا } فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ شُرْبٌ يَحْصُلُ مَعَهُ الرِّيُّ . وَبَابُ تَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ حَتَّى يَتَعَدَّى بِتَعْدِيَتِهِ - كَقَوْلِهِ : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ } وَقَوْلِهِ { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } وَقَوْلِهِ : { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ - كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ يُغْنِي عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ النُّحَاةِ عَمَّا يَتَكَلَّفُهُ الْكُوفِيُّونَ مِنْ دَعْوَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُرُوفِ . وَكَذَلِكَ الْمَسْحُ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ لَوْ قَالَ : فَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ أَوْ وُجُوهَكُمْ : لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَا يَلْتَصِقُ بِالْمَسْحِ فَإِنَّك تَقُولُ : مَسَحْت رَأْسَ فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِك بَلَلٌ . فَإِذَا قِيلَ : فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَبِوُجُوهِكُمْ ضُمِّنَ الْمَسْحُ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ فَأَفَادَ أَنَّكُمْ تُلْصِقُونَ بِرُءُوسِكُمْ وَبِوُجُوهِكُمْ شَيْئًا بِهَذَا الْمَسْحِ وَهَذَا يُفِيدُ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَصِقَ الصَّعِيدُ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَلِهَذَا قَالَ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } . وَإِنَّمَا مَأْخَذُ مَنْ جَوَّزَ الْبَعْضُ : الْحَدِيثَ . ثُمَّ تَنَازَعُوا : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُجْزِئُ قَدْرُ النَّاصِيَةِ كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلِ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُجْزِئُ الْأَكْثَرُ . كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُجْزِئُ الرُّبْعُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ . وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ أَوْ بَعْضُهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : شَعْرَةٌ أَوْ بَعْضُهَا . وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ . وَأَمَّا الَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِيعَابَ - كَمَالِكِ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ مِنْ

مَذْهَبِهِمَا - فَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ . وَإِذَا سَلَّمَ لَهُمْ مُنَازِعُوهُمْ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ فِي مَسْحِ التَّيَمُّمِ : كَانَ فِي مَسْحِ الْوُضُوءِ أَوْلَى وَأَحْرَى لَفْظًا وَمَعْنًى وَلَا يُقَالُ : التَّيَمُّمُ وَجَبَ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الْوَجْهِ وَاسْتِيعَابُهُ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فِي حُكْمِهِ لَا فِي وَصْفِهِ ؛ وَلِهَذَا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ مَعَ وُجُوبِهِ فِي الرِّجْلَيْنِ وَأَيْضًا لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ مِنْ عَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَعِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ وَإِذَا مَسَحَ عِنْدَهُ بِنَاصِيَتِهِ وَكَمَّلَ الْبَاقِيَ بِعِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَا جَوَابَ لَهُ عَنْ الْحَدِيثِ إلَّا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا لَا يُمْكِنُهُ كَشْفُ الرَّأْسِ فَتَيَمَّمَ عَلَى الْعِمَامَةِ لِلْعُذْرِ . وَمَنْ فَعَلَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الْمَسْحِ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الْعُذْرِ بِلَا نِزَاعٍ وَأَجْزَأَهُ بِدُونِ الْعُذْرِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً مَرَّةً يَكْفِي بِالِاتِّفَاقِ كَمَا يَكْفِي تَطْهِيرُ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ مَرَّةً .
وَتَنَازَعُوا فِي مَسْحِهِ ثَلَاثًا : هَلْ يُسْتَحَبُّ ؟ فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : يُسْتَحَبُّ ؛ لِمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَهَذَا عَامٌّ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد : أَنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَسُنَّ فِيهِ الثَّلَاثُ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِهَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني : أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً . وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا رَوَاهُ مِنْ مَسْحِهِ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَهَذَا الْمُفَصَّلُ يَقْضِي عَلَى الْمُجْمَلِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا } كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا : مِثْلَ مَا يَقُولُ } كَانَ هَذَا مُجْمَلًا وَفَسَّرَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ يَقُولُ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } فَإِنَّ الْخَاصَّ الْمُفَسَّرَ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ الْمُجْمَلِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا مَسْحٌ وَالْمَسْحُ لَا يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ كَمَسْحِ الْخُفِّ وَالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْجَبِيرَةِ وَإِلْحَاقُ الْمَسْحِ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْغَسْلِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ إذَا كُرِّرَ كَانَ كَالْغَسْلِ . وَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ أَنَّهُ يَمْسَحُ بَعْضَ رَأْسِهِ بَلْ بَعْضَ شَعْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ مَسْحِهِ بَعْضَ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَمِنْ جِهَةِ تَكْرَارِهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَمَنْ يَسْتَحِبُّ التَّكْرَارَ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ - لَا يَقُولُونَ :

امْسَحْ الْبَعْضَ وَكَرِّرْهُ بَلْ يَقُولُونَ : امْسَحْ الْجَمِيعَ وَكَرِّرْ الْمَسْحَ . وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْلَى مِنْ مَسْحِ بَعْضِهِ ثَلَاثًا بَلْ إذَا قِيلَ : إنَّ مَسْحَ الْبَعْضِ يُجْزِئُ وَأَخَذَ رَجُلٌ بِالرُّخْصَةِ كَيْفَ يُكَرِّرُ الْمَسْحَ . ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ مُتَنَازِعُونَ فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ وَفِي اسْتِحْبَابِ تَكْرَارِ الْمَسْحِ : فَكَيْفَ يُعْدَلُ إلَى فِعْلٍ لَا يُجْزِئُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ وَلَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ وَيُتْرَكُ فِعْلٌ يُجْزِئُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ وَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؟.
فَأَجَابَ : لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ بَلْ وَلَا رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ بَلْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ وَضَوْءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَمْسَحُ عَلَى عُنُقِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ وَمَنْ اسْتَحَبَّهُ فَاعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى أَثَرٍ يُرْوَى عَنْ

أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ حَدِيثٍ يَضْعُفُ نَقْلُهُ : { أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ الْقَذَالَ } وَمِثْلَ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ عُمْدَةً وَلَا يُعَارِضُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَمَنْ تَرَكَ مَسْحَ الْعُنُقِ فَوُضُوءُهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مَنْقُولٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا مَنْقُولٌ عَمَلُهُ بِذَلِكَ وَأَمْرُهُ بِهِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ؛ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ } وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنْ النَّارِ } . فَمَنْ تَوَضَّأَ كَمَا تَتَوَضَّأُ الْمُبْتَدِعَةُ - فَلَمْ يَغْسِلْ بَاطِنَ قَدَمَيْهِ وَلَا عَقِبَهُ بَلْ مَسَحَ ظَهْرَهُمَا - فَالْوَيْلُ لِعَقِبِهِ وَبَاطِنِ قَدَمَيْهِ مِنْ النَّارِ . وَتَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَنُقِلَ عَنْهُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَدَمَيْهِ نَعْلَانِ يَشُقُّ نَزْعُهُمَا . وَأَمَّا مَسْحُ الْقَدَمَيْنِ مَعَ ظُهُورِهِمَا جَمِيعًا فَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . أَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَّةِ فَظَاهِرٌ

مُتَوَاتِرٌ . وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلْقُرْآنِ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } فِيهِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ : النَّصْبُ وَالْخَفْضُ . فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْمَعْنَى : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ . وَمَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ وَامْسَحُوا أَرْجُلَكُمْ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ ؛ لِأَوْجُهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا : عَادَ الْأَمْرُ إلَى الْغَسْلِ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الرُّءُوسِ لَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَسْحَ الْأَرْجُلِ لَا الْمَسْحَ بِهَا وَاَللَّهُ إنَّمَا أَمَرَ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالْمَسْحِ بِالْعُضْوِ لَا مَسْحِ الْعُضْوِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } وَقَالَ : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وَلَمْ يَقْرَأْ الْقُرَّاءُ الْمَعْرُوفُونَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ وَأَيْدِيَكُمْ بِالنَّصْبِ كَمَا قَرَءُوا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ فَلَوْ كَانَ عَطْفًا لَكَانَ الْمَوْضِعَانِ سَوَاءً ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } وَقَوْلَهُ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } يَقْتَضِي إلْصَاقَ الْمَمْسُوحِ ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ وَهَذَا يَقْتَضِي إيصَالَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ إلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ . وَإِذَا قِيلَ : امْسَحْ رَأْسَك وَرِجْلَك : لَمْ يَقْتَضِ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَاءَ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَا زَائِدَةٌ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ :

مُعَاوِيَ إنَّنَا بَشَرٌ فَاسْجَحْ * * * فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
فَإِنَّ الْبَاءَ هُنَا مُؤَكِّدَةٌ فَلَوْ حُذِفَتْ لَمْ يَخْتَلَّ الْمَعْنَى وَالْبَاءُ فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ إذَا حُذِفَتْ اخْتَلَّ الْمَعْنَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى مَحَلِّ الْمَجْرُورِ بِهَا بَلْ عَلَى لَفْظِ الْمَجْرُورِ بِهَا أَوْ مَا قَبْلَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ لَقُرِئَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَامْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ : فَكَانَ فِي الْآيَةِ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَ مَذْهَبِ الشَّارِحِ بِأَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ بِالنَّصْبِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْجَرِّ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ مَعَ إمْكَانِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَحَلِّ لَوْ كَانَ صَوَابًا : عُلِمَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى اللَّفْظِ وَلَمْ يَكُنْ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ مَنْصُوبٌ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّفْظِ كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَالَ : { وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَلَمْ يَقُلْ : إلَى الْكِعَابِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَحَلِّ كَالْقَوْلِ الْآخَرِ ؛ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلَيْنِ كَعْبَيْنِ ؛ وَفِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ : لَقِيلَ : إلَى الْكَعْبِ كَمَا قِيلَ : { إلَى الْمَرَافِقِ } لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ وَحِينَئِذٍ فَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظَمَات النَّاتِئَانِ فِي جَانِبَيْ السَّاقِ ؛ لَيْسَ هُوَ مَعْقِدَ الشِّرَاكِ مَجْمَعَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِطَهَارَةِ الرِّجْلَيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ النَّاتِئَيْنِ ؛

وَالْمَاسِحُ يَمْسَحُ إلَى مَجْمَعِ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ : عُلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ وَالتَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ : إمَّا وَاجِبٌ ؛ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدُ الِاسْتِحْبَابِ فَإِذَا فَصَلَ مَمْسُوحٌ بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ وَقُطِعَ النَّظِيرُ عَنْ النَّظِيرِ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَشْرُوعِ فِي الْوُضُوءِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ وَهِيَ قَدْ جَاءَتْ بِالْغَسْلِ . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ التَّيَمُّمَ جُعِلَ بَدَلًا عَنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ؛ فَحُذِفَ شَطْرُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَخُفِّفَ الشَّطْرُ الثَّانِي ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حُذِفَ مَا كَانَ مَمْسُوحًا وَمُسِحَ مَا كَانَ مَغْسُولًا . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى - وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ وَأَرْجُلِكُمْ بِالْخَفْضِ - فَهِيَ لَا تُخَالِفُ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ ؛ إذْ الْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ لَا تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ بَلْ تُوَافِقُهُ وَتُصَدِّقُهُ ؛ وَلَكِنْ تُفَسِّرُهُ وَتُبَيِّنُهُ لِمَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ دَلَالَاتٌ خَفِيَّةٌ تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَفِيهِ مَوَاضِعُ ذُكِرَتْ مُجْمَلَةً تُفَسِّرُهَا السُّنَّةُ وَتُبَيِّنُهَا .

وَالْمَسْحُ اسْمُ جِنْسٍ يَدُلُّ عَلَى إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ بِالْمَمْسُوحِ وَلَا يَدُلُّ لَفْظُهُ عَلَى جَرَيَانِهِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ . قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُ : الْعَرَبُ تَقُولُ : تَمَسَّحْت لِلصَّلَاةِ . فَتُسَمِّي الْوُضُوءَ كُلَّهُ مَسْحًا وَلَكِنْ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ إذَا كَانَ الِاسْمُ عَامًّا تَحْتَهُ نَوْعَانِ : خَصُّوا أَحَدَ نَوْعَيْهِ بِاسْمِ خَاصٍّ . وَأَبْقَوْا الِاسْمَ الْعَامَّ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ كَمَا فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ عَامٌ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ لَكِنْ لِلْإِنْسَانِ اسْم يَخُصُّهُ فَصَارُوا يُطْلِقُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحَيَوَانِ ؛ وَلَفْظُ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَتَنَاوَلُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ ؛ لَكِنْ لِلْوَارِثِ بِفَرْضِ أَوْ تَعْصِيبٍ اسْمٌ يَخُصُّهُ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمُؤْمِنِ يَتَنَاوَلُ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ؛ وَمَنْ آمَنَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ : فَصَارَ لِهَذَا النَّوْعِ اسْمٌ يَخُصُّهُ وَهُوَ الْكَافِرُ وَأُبْقِيَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُخْتَصًّا بِالْأَوَّلِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبِشَارَةِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . ثُمَّ إنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ تَارَةً وَمَعَ الْإِطْلَاقِ أُخْرَى يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ الْعَامُّ فِي مَعْنَيَيْنِ : كَمَا إذَا أَوْصَى لِذَوِي رَحِمِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ أَقَارِبَهُ مِنْ مِثْلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ يَقْتَضِي إيجَابَ مُسَمَّى الْمَسْحِ بَيْنَهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَسْحِ الْخَاصِّ الْخَالِي عَنْ الْإِسَالَةِ ؛ وَالْمَسْحِ الَّذِي مَعَهُ إسَالَةٌ : يُسَمَّى مَسْحًا ؛ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ كَوْنَ الرِّجْلِ

يَكُونُ الْمَسْحُ بِهَا هُوَ الْمَسْحَ الَّذِي مَعَهُ إسَالَةٌ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { إلَى الْكَعْبَيْنِ } فَأَمَرَ بِمَسْحِهِمَا إلَى الْكَعْبَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْحَ الْخَاصَّ هُوَ إسَالَةُ الْمَاءِ مَعَ الْغَسْلِ فَهُمَا نَوْعَانِ : لِلْمَسْحِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ إيصَالُ الْمَاءِ وَمِنْ لُغَتِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يُكْتَفَى بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِمْ :
عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
وَالْمَاءُ سُقِي لَا عُلِف وَقَوْلِهِ :
وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى * * * مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
وَالرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ } { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ } إلَى قَوْلِهِ : وَحُورٍ عِينٍ فَكَذَلِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْغَسْلَ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى مَعَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ . وَمَنْ يَقُولُ : يُمْسَحَانِ بِلَا إسَالَةٍ : يَمْسَحُهُمَا إلَى الْكِعَابِ لَا إلَى الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ لَا ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ وَلَا سُنَّةٌ مَعْرُوفَةٌ وَإِنَّمَا هُوَ غَلَطٌ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَجَهْلٌ بِمَعْنَاهُ وَبِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ . وَذِكْرُ الْمَسْحِ بِالرِّجْلِ مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ الرِّجْلَ يُمْسَحُ بِهَا بِخِلَافِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ فَإِنَّهُ لَا يُمْسَحُ بِهِمَا بِحَالِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ

مَا لَمْ يَجِئْ مِثْلُهُ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَلَكِنْ دَلَّتْ السُّنَّةُ مَعَ دِلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَسْحِ بِالرِّجْلَيْنِ . وَمَنْ مَسَحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَلِلْقُرْآنِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْمَلَ بِذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ الْغَسْلِ وَالرِّجْلُ إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً وَجَبَ غَسْلُهَا وَإِذَا كَانَتْ فِي الْخُفِّ كَانَ حُكْمُهَا كَمَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ . كَمَا فِي آيَةِ الْفَرَائِضِ فَإِنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ حَالَ الْوَارِثِ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ قَاتِلًا . وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
الْمُوَالَاةُ فِي الْوُضُوءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : الْوُجُوبُ مُطْلَقًا كَمَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَد ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ [ مَالِك ] (1) .
وَالثَّانِي : عَدَمُ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ .
وَالثَّالِثُ : الْوُجُوبُ إلَّا إذَا تَرَكَهَا لِعُذْرِ مِثْلُ عَدَمِ تَمَامِ الْمَاءِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ [ أَحْمَد ] (2) .
قُلْت : هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ

وَبِأُصُولِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَدِلَّةَ الْوُجُوبِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُفَرِّطَ لَا تَتَنَاوَلُ الْعَاجِزَ عَنْ الْمُوَالَاةِ فَالْحَدِيثُ الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ معدان عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ } . فَهَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ وَالْمَأْمُورُ بِالْإِعَادَةِ مُفَرِّطٌ لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى غَسْلِ تِلْكَ اللَّمْعَةِ كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى غَسْلِ غَيْرِهَا وَإِنَّمَا بِإِهْمَالِهَا وَعَدَمِ تَعَاهُدِهِ لِجَمِيعِ الْوُضُوءِ بَقِيَتْ اللُّمْعَةُ نَظِيرَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ فَنَادَاهُمْ بِأَعْلَى صَوْتِهِ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ } . وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ : { أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَك فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَالْقَدَمُ كَثِيرًا مَا يُفَرِّطُ الْمُتَوَضِّئُ بِتَرْكِ اسْتِيعَابِهَا حَتَّى قَدْ اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ أَنَّهَا لَا تُغْسَلُ بَلْ فَرْضُهَا مَسْحُ ظَهْرِهَا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الشِّيعَةِ وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَسْلِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا الْمُوَالَاةَ عُمْدَتُهُمْ فِي الْأَمْرِ حَدِيثٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّهُ تَوَضَّأَ [ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ دُعِيَ لِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا ] (1) .

مُوَالَاةً لِفَقْدِ تَمَامِ الْمَاءِ } وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَاَلَّذِي لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُوَالَاةُ - لِقِلَّةِ الْمَاءِ أَوْ انْصِبَابِهِ أَوْ اغْتِصَابِهِ مِنْهُ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ أَوْ لِكَوْنِ الْمَنْبَعِ أَوْ الْمَكَانِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ هُوَ وَغَيْرُهُ - كَالْأُنْبُوبِ أَوْ الْبِئْرِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ الْمَاءُ إلَّا مُتَفَرِّقًا تَفَرُّقًا كَثِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ - : لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ إلَّا هَكَذَا بِأَنْ يَغْسِلَ مَا أَمْكَنَهُ بِالْمَاءِ الْحَاضِرِ . وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ غَسَلَ الْبَاقِيَ بِمَاءِ حَصَّلَهُ فَقَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَفَعَلَ مَا اسْتَطَاعَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ عَنْ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَسَقَطَ عَنْهُ وَلَكَانَ فَرْضُهُ التَّيَمُّمَ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِهَا فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : يَتَيَمَّمُ فَقَطْ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ . وَقِيلَ : يَسْتَعْمِلُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي . وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقِيلَ : بَلْ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ فِي الْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ . وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ .

قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ : فَيَنْتَفِعُ بِاسْتِعْمَالِ الْبَعْضِ فِي الْغُسْلِ دُونَ التَّيَمُّمِ . وَضَعَّفُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ طَهَارَةٌ نَافِعَةٌ عِنْدَ الْعَجْزِ فِي الْوُضُوءِ كَمَا هِيَ نَافِعَةٌ فِي الْغُسْلِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ إعَادَةُ مَا غَسَلَهُ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا صَلَّاهُ بِالتَّيَمُّمِ وَكَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا غَسَلَ فِي الْغُسْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَد مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أُمِرَ وَمَنْ كَانَ مُمْتَثِلًا الْأَمْرَ أَجْزَأَ مِنْهُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . يُوضِحُ هَذَا أَنَّهُ فِي حَالِ الْعَجْزِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِغَسْلِ الْعُضْوِ الثَّانِي وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَحْصِيلِ الطَّهُورِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ غَسْلِهِ أَوْ بِتَأَخُّرِهِ إلَى الْقُدْرَةِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى غَسْلِ الْعُضْوِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُسْتَطَاعُ مِنْ الْمَأْمُورِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَوْ بَعْضِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ عَلَيْهِ غَسْلَهُ كَالْمَقْطُوعِ يَدُهُ مِنْ بَعْضِ الذِّرَاعِ . وَطَرْدُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَوْ كَانَ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ مَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ مِنْ جُرْحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَغَسَلَ الصَّحِيحَ ثُمَّ قُدِّرَ أَنَّ الْأَلَمَ زَالَ وَقَدْ نَشِفَ ذَلِكَ الْعُضْوُ : فَإِنَّهُ إذَا غَسَلَ الْبَاقِيَ فَقَدْ فَعَلَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ .

وَأَيْضًا فَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ثُمَّ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ لِعُذْرِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ - كَالْحَيْضِ - فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ الْوَاجِبَ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد فِي هَذَا أَوْسَعُ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ : فَعِنْدَهُ إذَا قَطَعَ التَّتَابُعَ لِعُذْرِ شَرْعِيٍّ لَا يُمْكِنُ مَعَ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ - مِثْلُ أَنْ يَتَخَلَّلَ الشَّهْرَيْنِ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ يَوْمِ الْفِطْرِ أَوْ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامِ مِنًى أَوْ مَرَضٌ أَوْ نِفَاسٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ الْوَاجِبَ وَلَوْ أَفْطَرَ لِعُذْرِ مُبِيحٍ كَالسَّفَرِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ . فَالْوُضُوءُ أَوْلَى إذَا تَرَكَ التَّتَابُعَ فِيهِ لِعُذْرِ شَرْعِيٍّ وَإِنْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَالْمُوَالَاةُ وَاجِبَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ قَالُوا : إنَّهُ لَوْ قَرَأَ بَعْضَهَا وَسَكَتَ سُكُوتًا طَوِيلًا لِغَيْرِ عُذْرٍ : كَانَ عَلَيْهِ إعَادَةُ قِرَاءَتِهَا . وَلَوْ كَانَ السُّكُوتُ لِأَجْلِ اسْتِمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَوْ لَوْ فَصَلَ بِذِكْرِ مَشْرُوعٍ - كَالتَّأْمِينِ وَنَحْوِهِ - لَمْ تَبْطُلْ الْمُوَالَاةُ بَلْ يُتِمُّ قِرَاءَتَهَا وَلَا يَبْتَدِئُهَا وَمَسْأَلَةُ الْوُضُوءِ كَذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِنَّهُ فَرَّقَ الْوُضُوءَ لِعُذْرِ شَرْعِيٍّ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْكَلَامِ أَوْكَدُ مِنْ الْمُوَالَاةِ فِي الْأَفْعَالِ . وَأَيْضًا فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي الْعُقُودِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَاجِبَةٌ بِحَيْثُ لَوْ تَأَخَّرَ الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ - حَتَّى

خَرَجَا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ إلَى غَيْرِهِ أَوْ تَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا - فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابٍ ثَانٍ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ إذَا أُوجِبَ النِّكَاحُ لِغَائِبِ وَذَهَبَ إلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَبِلَ فِي مَجْلِسِ الْبَلَاغِ : أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ مِنْهُ ثَانٍ : بِأَنَّهُ يَصِحُّ تَرَاخِي الْقَبُولِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا وَطُولِ الْفَصْلِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي مِثْلِ الْهِدَايَةِ وَالْمُقْنِعِ وَالْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهَا : أَنَّهُ يَصِحُّ فِي النِّكَاحِ وَلَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ . وَذَلِكَ خَطَأٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْجَدُّ - فِيمَا أَظُنُّ - فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ ظَاهِرٌ وَيَذْهَبُ إلَى الْفَرْقِ : غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِ . وَهَذَا التَّفْرِيقُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَقْوَالِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي الْوُضُوءِ كَذَلِكَ لَكِنِّي لَمْ أَتَأَمَّلْ بَعْدُ نَصَّهُ فِي الْوُضُوءِ . فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحْكَى عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَيَكُونُ مَنْصُوصُهُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ وَيَكُونُ هُوَ الصَّوَابَ كَمَسْأَلَةِ إخْرَاجِ الْقِيَمِ وَمَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُوصِي . وَأَيْضًا فَالْمُوَالَاةُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَوْكَدُ مِنْهُ فِي الْوُضُوءِ وَمَعَ هَذَا فَتَفْرِيقُ الطَّوَافِ لِمَكْتُوبَةٍ تُقَامُ أَوْ جِنَازَةٍ تُحْضَرُ ثُمَّ يَبْنِي عَلَى الطَّوَافِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ : فَالْوُضُوءُ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ تَوَضَّأَ بَعْدَ

الْوُضُوءِ ثُمَّ عَرَضَ أَمْرٌ وَاجِبٌ يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِتْمَامِ - كَإِنْقَاذِ غَرِيقٍ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلَهُ - ثُمَّ أَتَمَّ وُضُوءَهُ كَالطَّوَافِ وَأَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ مَنَعَهُ مِنْ إتْمَامِ الْوُضُوءِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُفَرِّقُ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهَا بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ ؛ وَالْمُفَرِّطِ ؛ وَالْمُعْتَدِي ؛ وَمَنْ لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ وَلَا مُعْتَدٍ . وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مُعْتَمِدٌ وَهُوَ الْوَسَطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ وَبِهِ يَظْهَرُ الْعَدْلُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ .
وَقَدْ تَأَمَّلْت مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَبَايَنُ فِيهَا النِّزَاعُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا حَتَّى تَصِيرَ مُشَابِهَةً لِمَسَائِلِ الْأَهْوَاءِ ؛ وَمَا يَتَعَصَّبُ لَهُ الطَّوَائِفُ مِنْ الْأَقْوَالِ ؛ كَمَسَائِلِ الطَّرَائِقِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ وَغَيْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ : فَوَجَدْت كَثِيرًا مِنْهَا يَعُودُ الصَّوَابُ فِيهِ إلَى الْوَسَطِ ؛ كَمَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ وَمَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ ؛ وَإِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ؛ وَالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ؛ وَالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ ؛ وَمَسْأَلَةِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ وَتَبْيِيتِهَا ؛ وَبَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ وَاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ وَمَسَائِلِ الشَّرِكَةِ : كَشَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَالْوُجُوهِ وَالْمُفَاوَضَةِ وَمَسْأَلَةِ صِفَةِ الْقَاضِي . وَكَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تُسَمَّى

مَسَائِلَ الْأُصُولِ : أَوْ أُصُولَ الدِّينِ ؛ أَوْ أُصُولَ الْكَلَامِ ؛ يَقَعُ فِيهَا اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ . وَقَدْ قَرَّرْنَا أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِ الزِّنْدِيقِ الْمُؤْمِنِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عُفِيَ لَهُمْ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ثُمَّ غَالِبُ الْخِلَافِ الْمُتَبَايِنِ فِيهَا يَعُودُ الْحَقُّ فِيهِ إلَى الْقَوْلِ الْوَسَطِ فِي مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ ؛ وَمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْعَدْلِ ؛ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ ؛ وَمَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ . وَمَسَائِلِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ؛ وَمَسَائِلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَمَذَاهِبِهِمْ أَوْ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ؛ فَأَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْفِتَنِ . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ . وَأَيْضًا فَعُمْدَةُ الْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ وَالْمُوَالَاةِ إنَّمَا هُوَ قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ يَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ ؛ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ السُّجُودِ عَلَى الرُّكُوعِ . وَتَجِبُ فِيهَا الْمُوَالَاةُ ؛ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا بِمَا يُنَافِيهَا ؛ وَالصَّلَاةُ مَعَ هَذَا عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ مُتَّصِلَةُ الْأَجْزَاءِ ؛ لَيْسَ بَيْنَ أَجْزَائِهَا فَصْلٌ أَصْلًا حَتَّى يُمْكِنَ فِي ذَلِكَ الْمُتَابَعَةُ أَوْ التَّفْرِيقُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِعُذْرِ كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ لِضَرُورَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى بَعْدَ صَلَاةِ رَكْعَةٍ تَذْهَبُ وِجَاهَ الْعَدُوِّ ؛ فَإِذَا صَلَّتْ الثَّانِيَةَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ذَهَبَتْ أَيْضًا إلَى وِجَاهِ الْعَدُوِّ ثُمَّ رَجَعَتْ

الْأُولَى إلَى مَوْقِفِهَا فَأَتَمَّتْ الصَّلَاةَ ثُمَّ الثَّانِيَةَ } وَالصِّفَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَهِيَ جَائِزَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمُخْتَارَةُ فِي الْخَوْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ إذْ لَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِصَلَاةِ الْأَمْنِ إلَّا فِي اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ ؛ وَهَذَانِ يَجُوزَانِ لِلْعُذْرِ كَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؛ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ - يَقُولُ : إنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى إذَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِكَلَامِ عَمْدٍ وَنَحْوِهِ وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَفِيهِ حَدِيثَانِ مُرْسَلَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرْسَلُ إذَا عَمِلَ بِهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ يَحْتَجُّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ . وَأَيْضًا فَإِذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ سَاهِيًا - كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ ؛ وَفَصَلَ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ إلَى الْخَشَبَةِ وَالِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا ؛ وَتَشْبِيكِ أَصَابِعِهِ ؛ وَوَضْعِ خَدِّهِ عَلَيْهَا ؛ وَالْكَلَامِ مِنْهُ وَمِنْ الْمُنَبِّهِ لَهُ السَّائِلِ لَهُ الْمُخْبِرِ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ ؛ وَالْمُجِيبِينَ لَهُ الْمُوَافِقِينَ لِلْمُنَبِّهِ - ثُمَّ أَتَمَّ الصَّلَاةَ : لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّفْرِيقُ وَالْفَصْلُ مَانِعًا مِنْ الْإِتْمَامِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا لَأَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِلَا نِزَاعٍ فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ إلَّا مُتَّصِلَةً لَا يَسْتَوِي تَفْرِيقُهَا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ : فَكَيْفَ يَسْتَوِي تَفْرِيقُ الْوُضُوءِ فِي حَالِ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ ؟ مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ

أَفْعَالٌ مُنْفَصِلَةٌ لَا يَجِبُ اتِّصَالُهَا بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : إذَا عَمِلَ عَمَلًا كَثِيرًا لِعُذْرِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ؛ وَالسَّاهِي إذَا سَلَّمَ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ حِينَئِذٍ الْحَدِيثَ أَوْ الْكَلَامَ الْمُبْطِلَ ؛ أَوْ الْعَمَلَ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ كَشَفَ الْعَوْرَةَ : بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ هَذَا تَرْكًا لِلْمُوَالَاةِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّهُ يُقَالُ : بَلْ هَذَا مِنْ أَوْكَدِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَالْفَصْلَ الطَّوِيلَ الْمَعْفُوَّ لَهُ عَنْهُ - مِثْلُ الذَّهَابِ إلَى الْعَدُوِّ ثُمَّ الرُّجُوعُ إلَى مَوْقِفِهِ وَمِثْلَ قِيَامِ الْمُسَلِّمِ سَهْوًا إلَى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ وَاتِّكَائِهِ عَلَيْهِ - لَيْسَ هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَلَا الْمُسْتَحَبَّةِ وَلَا دَاخِلًا فِي ذَلِكَ كَمَا يَدْخُلُ مَا يَدْخُلُ فِي تَطْوِيلِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَطَالَهَا أَوْ أَدْخَلَ فِيهَا مَا لَا يُشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ : لَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ هِيَ مِنْ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا تِلْكَ فَلَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا أُمِرَ الْمُصَلِّي بِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ وَغُفِرَ لَهُ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ السَّهْوِ لِأَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فَصَارَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ الْمُتَابِعِ تَارَةً بِفِعْلِ يُوجِبُ تَغْيِيرَهَا وَتَارَةً بِفِعْلِ لَا جُنَاحَ عَلَى فَاعِلِهِ

لِكَوْنِهِ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِتَرْكِهِ يُشْبِهُهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّيَامِ الْمُتَتَابِعِ : تَارَةً بِصَوْمِ أَوْ فِطْرٍ وَاجِبٍ وَتَارَةً بِحَيْضِ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يَعْجِزُ مَعَهُ عَنْ الصَّوْمِ . وَلِهَذَا طَرَدَ أَحْمَد ذَلِكَ ؛ وَلَوْ وَقَعَ هَذَا التَّفْرِيقُ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِالِاتِّفَاقِ فَالْوُضُوءُ أَوْلَى أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَ تَفْرِيقِهِ لِعُذْرِ وَلِغَيْرِ عُذْرٍ . وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّلَاةَ إلَّا بِمَا يُعْفَى عَنْهُ فِيهِ فَإِذَا أَتَى بِمَا يُنَافِيهَا - مِنْ كَلَامٍ عَمْدٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ ؛ أَوْ اسْتِدْبَارِ قِبْلَةٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ - كَانَ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا وَفَرَّقَ بَيْنَهَا بِمَا يُنَافِيهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؛ كَمَا لَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَسَلَّمَ عَمْدًا ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بَلْ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ وَلَوْ سَلَّمَ سَهْوًا بَنَى عَلَى الْأَوَّلِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُ إنَّمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَزَائِدٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إلَّا قَطْعُ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوِتْرِ بِثَلَاثِ مُتَّصِلَةٍ وَثَلَاثٍ يُفْصَلُ فِيهَا بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ : إلَّا بِمُجَرَّدِ الْفَصْلِ ؟ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : يُفْصَلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ بِتَسْلِيمَةٍ ؛ أَوْ لَا يُفْصَلُ بِتَسْلِيمَةٍ . فَمِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ لَا يُسَوِّغُ الْفَصْلَ كَالْمَغْرِبِ . وَيَجْعَلُ وَتْرَ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ إلَّا كَوِتْرِ النَّهَارِ مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْفَصِلٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ مَنْ لَا يُسَوِّغُ إلَّا الْفَصْلَ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ اللَّيْلِ

مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةِ } . وَفُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَخْتَارُونَ الْفَصْلَ لِصِحَّةِ الْآثَارِ وَكَثْرَتِهَا بِهِ وَإِنْ جَوَّزُوا الْوَصْلَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ بَيْنَ صُورَتَيْ الْوِتْرِ فَرْقًا : إلَّا كَوْنَ هَذَا مُتَّصِلًا وَهَذَا مُنْفَصِلًا . وَهَذَا هُوَ الْمُوَالَاةُ وَالتَّفْرِيقُ ؛ فَتُبَيِّنُ أَنَّ السَّلَامَ الْعَمْدَ إنَّمَا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا سُنَّتُهُ الِاتِّصَالُ : لِأَجْلِ تَفْرِيقِ بَعْضِ الصَّلَاةِ عَنْ بَعْضٍ وَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ وَكُلُّ مَا يُنَافِي الصَّلَاةَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ ؛ أَوْ تَعَمُّدِ كَلَامٍ وَتَرْكِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا - مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ سَتْرِ عَوْرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ مَعَ مُنَافَاتِهِ بِفَرْقِ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا يَخْرُجُ بِالسَّلَامِ ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا بِكُلِّ مَا يُنَافِيهَا كَمَا يَخْرُجُ بِالسَّلَامِ لَكِنَّ فُقَهَاءَ الْحَدِيثِ وَأَهْلَ الْحِجَازِ مَنَعُوا ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا إلَّا بِالْمَشْرُوعِ ؛ وَلَا يَخْرُجُ إلَّا بِالْمَشْرُوعِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْكَلَامَ فِي هَذَا أُمُورٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَنْ يُجَوِّزُ الْوِتْرَ بِثَلَاثِ مَفْصُولَةٍ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد

وَغَيْرِهِمَا - يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ الَّتِي لَهَا اسْمٌ وَاحِدٌ يَفْصِلُ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا بِالسَّلَامِ الْعَمْدِ كَالْوِتْرِ وَالضُّحَى وَقِيَامِ رَمَضَانَ وَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَاخْتِيَارُهُمْ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ أَنْ تَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى : إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ أَحْمَد مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْفَصْلُ : كَالْوِتْرِ بِخَمْسِ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ فِيهَا مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُهُ وَيَقُولُونَ : أَدْنَى الْوِتْرِ ثَلَاثٌ مَفْصُولَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ مِنْ اللَّيْلِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَفْصِلُ بَيْن كُلِّ رَكْعَتَيْنِ } فَسُمَّتْ الْجَمِيعُ وِتْرًا مَعَ الْفَصْلِ . وَقَدْ يُنَازِعُهُمْ فِي هَذَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ إذْ الْمَسْنُونُ عِنْدَهُمْ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ الْوَصْلُ وَكَذَلِكَ فِي الْوِتْرِ بِثَلَاثِ وَكَذَلِكَ إذَا جَاءَ ذِكْرُ صَلَاةِ أَرْبَعٍ أَوْ ثَمَانٍ : يَجْعَلُونَهَا بِتَسْلِيمَةٍ . الثَّانِي : إذَا تَكَلَّمَ بَعْدَ سَلَامِهِ مِنْ الصَّلَاةِ سَهْوًا كَمَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ فَقَدْ عُلِمَ مَا فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ : هُوَ مَنْسُوخٌ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْكَلَامَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بَعْدَ السَّلَامِ سَهْوًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مُحْكَمٌ وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي

عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِهِ وَتَفَقَّهَ فِيهِ وَلَمْ يَتْرُكْ الْأَخْذَ بِهِ وَلَا قَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَشْهُورَ بِرِوَايَتِهِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّاهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : وَذَكَرَ فِيهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ الصَّلَاةَ وَهُوَ إنَّمَا سَلَّمَ وَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى خَلْفَهُ مِنْ عَامِ خَيْبَرَ وَالْقَضِيَّةُ كَانَتْ فِي مَسْجِدِهِ وَذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ خَيْبَرَ بِيَقِينِ وَهَذَا يَقِينٌ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْت عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْك فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا ؟ فَقَالَ : إنَّ فِي الصَّلَاةِ شَغْلًا } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَلَامَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ الَّذِي أَجْهَزَ عَلَى أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ قَبْلَ بَدْرٍ سَوَاءٌ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجَعَ مِنْ الْحَبَشَةِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ هَاجَرَ أَوْ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ إلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَذَا قَدْ تُنُوزِعَ فِيهِ : فَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ كَمَا فِي

مُسْنَدِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ ثَمَانُونَ رَجُلًا وَمَعَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِهِمْ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَفِي آخِرِهِ : فَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَبَادَرَ فَشَهِدَ بَدْرًا . وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُشْتَبِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ يَقُولُهَا مَنْ يَقُولُهَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَحَدُهَا - وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَطَائِفَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ - أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَلَامِ وَظَنُّوا أَنَّ قَضِيَّتَهُ كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ قَالُوا : وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : إنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ } وَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ : وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ : { كُنَّا نَتَكَلَّمُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ } . وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مِنْ صِغَارِ الْأَنْصَارِ وَهُوَ صَاحِبُ الْإِذْنِ الَّذِي وَفَّى

اللَّهُ بِإِذْنِهِ لَمَّا بَلَّغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ ابْنِ أبي مِنْ الْمُنَافِقِينَ ( { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } وَكَذَّبَهُ مَنْ كَذَّبَهُ وَلَامَهُ مَنْ لَامَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ } فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَذَا الَّذِي وَفَّى اللَّهُ بِإِذْنِهِ } وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَذَكَرَ أَنَّ النَّسْخَ حَصَلَ بِآيَةِ الْمُحَافَظَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ قَدْ يُقَالُ : إنَّهَا إنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ الْخَنْدَقِ لَمَّا شَغَلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى قَالَ : { مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ } - كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ - فَقَالَ هَؤُلَاءِ : إذَا كَانَتْ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ قَبْلَ بَدْرٍ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ قَدْ حُرِّمَ أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ بَعْدَ عَامِ الْخَنْدَقِ الَّتِي هِيَ بَعْدَ بَدْرٍ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ : كَانَ مَنْسُوخًا . وَأَقْصَى مَا يُقَالُ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَعْدَهُ فَلَا يَبْقَى فِيهِ حُجَّةٌ . وَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ - مِمَّنْ يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِمْ - يَقُولُ : هَذَا مَنْسُوخٌ وَقَدْ اتَّخَذُوا هَذَا مَجْنَةً (1) ؛ كُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمْ يَقُولُونَ : هُوَ مَنْسُوخٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَا يُثْبِتُوا مَا الَّذِي نَسَخَهُ .

وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِالْعَمَلِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ - يَقُولُونَ : هَذَا مَنْسُوخٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّ وُجُودَ عِلْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِهِ دَلِيلُ نَسْخِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ . وَمَا ذَكَرُوهُ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ هُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا قَرَّرُوهُ وَادَّعَوْا أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْخَنْدَقِ أَوْ نَحْوَهُ وَيَقُولُونَ فِي الْقُنُوتِ إنَّهُ مَنْسُوخٌ وَفِي دُعَائِهِ لِمُعَيَّنِ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ وَإِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } حَتَّى يُبَالِغُوا فِيمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَالتَّنْبِيهِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ شَهْرًا إذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ : اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ } قَالَ { أَبُو هُرَيْرَةَ : ثُمَّ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ بَعْدُ فَقُلْت : أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ قَالَ : فَقِيلَ : أَوَمَا تَرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا } ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْفِقْهِ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يُصَلِّ خَلْفَ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بَعْدَ خَيْبَرَ وَخَيْبَرُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَتْ الْهُدْنَةُ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ : عَلَى أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ يُهَاجِرُ إلَيْهِ وَلَا يَرُدُّ إلَيْهِ مَنْ ذَهَبَ مُرْتَدًّا مِنْهُ إلَيْهِمْ فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ كَانُوا مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ قَهَرَهُمْ أَهْلُوهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ وَهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ أَشْرَفُ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ وَبَنُو مَخْزُومٍ كَانُوا هُمْ الَّذِينَ يُنَادَوْنَ عَبْدَ مَنَافٍ وَالْمُحَاسَدَةُ الَّتِي بَيْنَهُمْ هِيَ إحْدَى مَا مَنَعَتْ أَشْرَافَهُمْ - كَالْوَلِيدِ وَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِمَا - مِنْ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا قَدِمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ قَدِمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَلَحِقُوا بِسَيْفِ الْبَحْرِ عَلَى السَّاحِلِ - كَأَبِي بَصِيرٍ وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو - فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجِرْهُمْ بِالشَّرْطِ فَصَارُوا بِأَيْدِي أَنْفُسِهِمْ بِالسَّاحِلِ يَقْطَعُونَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى أَرْسَلَ أَهْلُ مَكَّةَ حِينَئِذٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْمُقَامِ عِنْدَهُ لِيَأْمَنُوا قَطْعَهُمْ فَقَدِمُوا حِينَئِذٍ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفُونَ فَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُنُوتَ . وَهَذَا الْقُنُوتُ بَعْدَ الْقُنُوتِ الَّذِي رَوَاهُ أَنَسٌ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رعل وذكوان وَعُصَيَّةَ ثُمَّ تَرَكَهُ } فَإِنَّ ذَلِكَ الْقُنُوتَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْأَمْرِ لَمَّا أَرْسَلَ الْقُرَّاءَ السَّبْعِينَ : أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ قَبْلَ الْخَنْدَقِ الَّتِي هِيَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا

ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ لِلْقُنُوتِ لَمْ يَكُنْ تَرْكَ نَسْخٍ ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَنَتَ لِسَبَبِ فَلَمَّا زَالَ السَّبَبُ تَرَكَ الْقُنُوتَ كَمَا بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ لَمَّا قَدِمُوا . وَلَيْسَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ } أَنَّهُ تَرَكَ الدُّعَاءَ فَقَطْ كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُدَاوِمًا عَلَى الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ أَوْ قَبْلَهُ بَلْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ أَنَسٍ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّهُ لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا } وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَتْرُوكَ كَانَ الْقُنُوتَ . وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَى الْقُنُوتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ لَا الْفَجْرِ وَلَا غَيْرِهَا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ بَلْ أَنْكَرُوهُ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا وَاحِدًا مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الْقُنُوتِ الرَّاتِبِ وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ عَنْهُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي الْعَارِضِ : كَالدُّعَاءِ لِقَوْمِ وَعَلَى قَوْمٍ فَأَمَّا مَا يَدْعُو بِهِ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى قُنُوتِ الْفَجْرِ مِنْ قَوْلِ : { اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْت } فَهَذَا إنَّمَا فِي السُّنَنِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ لِلْحَسَنِ يَدْعُو بِهِ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ .

ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ . أَنَّهُ لَا يَسْتَحِبُّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ فِي الْوِتْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهِ فِي الْفَجْرِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَهُ فِي الْفَجْرِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْيَقِينِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ الْقُنُوتَ لَوْ كَانَ مِمَّا دَاوَمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُهْمَلُ ؛ وَلَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي الصَّحَابَةِ ثُمَّ التَّابِعِينَ عَلَى نَقْلِهِ : فَإِنَّهُمْ لَمْ يُهْمِلُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا إلَّا نَقَلُوهُ ؛ بَلْ نَقَلُوا مَا لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ : كَالدُّعَاءِ فِي الْقُنُوتِ لِمُعَيَّنِ وَعَلَى مُعَيَّنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَدَعْوَى هَذَا أَيْضًا هِيَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مِمَّا يَدَّعِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي النَّصِّ الْجَلِيِّ عَلَى مُعَيَّنٍ فِي الْإِمَامَةِ ؛ أَوْ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ بَيَانِ مَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْكَذِبِ وَمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْكِتْمَانِ فَإِذَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ الَّتِي يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ : تَكَلَّمُوا فِيمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَخْبَارِ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ أَوْ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى حِفْظِ هَذَا الدِّينِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ - كَمَا يَتَّخِذُهُ مَنْ يَتَّخِذُهُ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ - فَهَذَا إنَّمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهِ لَمَّا كَانَ يُجَاهِدُ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالشَّامِ وَكَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ أَحْيَانًا يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكَافِرِينَ وَيَذْكُرُ قَبَائِلَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَهُ كمضر ؛ ورعل وذكوان ؛ وَعُصَيَّةَ وَعُمَرُ لَمَّا قَاتَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ قَنَتَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَكْتُوبَةِ ؛ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْنُتَ عِنْدَ النَّازِلَةِ وَيَدْعُوَ فِيهَا بِمَا يُنَاسِبُ أُولَئِكَ الْقَوْمَ الْمُحَارِبِينَ . فَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ قُنُوتَ عُمَرَ فِي الْمَكْتُوبَةِ سُنَّةً فِي الْوِتْرِ وَقُنُوتَ الْحَسَنِ فِي الْوِتْرِ سُنَّةً فِي الْمَكْتُوبَةِ رَاتِبَةً فَهُوَ كَمَا تَرَاهُ وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ دَعَا لِأَقْوَامِ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ بَعْدَ خَيْبَرَ وَذَلِكَ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ اقْتَضَى مَا يُقَالُ فِي تَأَخُّرِ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ تَأَخَّرَ إلَى عَامِ الْخَنْدَقِ وَخَيْبَرُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ؛ فَإِنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ بِالِاتِّفَاقِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْحُدَيْبِيَةُ كَانَتْ بِالِاتِّفَاقِ سَنَةَ سِتٍّ ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا إنَّمَا اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَلَمَّا صَالَحَهُمْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَتْ غَزْوَةُ الْغَابَةِ غَزْوَةُ ذِي قَرَدَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لَمَّا جَعَلَ يَقُولُ : خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ لَمَّا أَغَارَتْ فَزَارَةُ عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ خَيْبَرُ عَقِبَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ سِتٍّ وَأَوَائِلِ سَبْعٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْخَنْدَقُ فَقَبْلَ ذَلِكَ : إمَّا فِي أَوَائِلِ خَمْسٍ أَوْ أَوَاخِرِ أَرْبَعٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : عُرِضْت عَلَى النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي وَعُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي } . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى النَّسْخِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ { سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ؛ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } } فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ اللَّعْنَةِ لَهُمْ ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ لِجَوَازِ تَوْبَتِهِمْ وَهَذَا إذَا كَانَ نَهْيًا فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَالْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ فِي الدُّعَاءِ الْجَائِزِ خَارِجَ الصَّلَاةِ : كَالدُّعَاءِ لِمُعَيَّنِينَ مُسْتَضْعَفِينَ وَالدُّعَاءِ عَلَى مُعَيَّنِينَ مِنْ الْكُفَّارِ بِالنُّصْرَةِ عَلَيْهِمْ ؛ لَا بِاللَّعْنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - : إنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ كَانَ بِمَكَّةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّسْخَ ثَبَتَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ قَالَ : وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ خَرَجُوا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَقْبَلُوا لَمَّا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِي كَانَ بَاطِلًا فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا بِجِوَارِ أَوْ مُسْتَخْفِيًا فَكَانَ مَنْ قَدِمَ

مِنْهُمْ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ شَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا وَأُحُدًا فَذَكَرَ مِنْهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ . وَهَؤُلَاءِ يُجِيبُونَ عَنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ نَهَى عَنْهُ مُتَقَدِّمًا ثُمَّ أَذِنَ فِيهِ ؛ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ . الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَمَنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ انْتَهَوْا . فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ لِوُجُوهِ قَاطِعَةٍ : مِنْهَا : أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ صَحِيحٌ صَرِيحٌ وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْحَبَشَةِ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا كَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْحَبَشَةِ ؛ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : { إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشَغْلًا } وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } .

الثَّانِي : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَصْحَبْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ إلَّا بَعْدَ عَامِ خَيْبَرَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ أَشْهَرُ مَنْ رَوَى حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ بِهِمْ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ } فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ عَامِ خَيْبَرَ بَلْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ : فَكَيْفَ تَكُونُ قَبْلَ بَدْرٍ ؟ بَلْ خَيْبَرُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يُحَرَّمْ إلَّا عَامَ الْخَنْدَقِ لَكَانَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا . الثَّالِثُ : أَنَّ مِنْ رُوَاةِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالُوا : وَإِسْلَامُ عِمْرَانَ كَانَ بَعْدَ بَدْرٍ وَقَدْ رَوَى نَحْوًا مِنْهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيج وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهْرَيْنِ وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ قَالُوا : وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَابْنُ عُمَرَ قَبْلَ بَدْرٍ كَانَ صَغِيرًا ؛ فَإِنَّهُ عَامَ أُحُدٍ كَانَ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَا يَكَادُ ابْنُ عُمَرَ يَرْوِي مَا كَانَ حِينَئِذٍ مِمَّا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ كَمَا لَمْ يَرْوِ حَدِيثَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوَهُ .

الرَّابِعُ : أَنَّ قَوْلَهُمْ : ذُو الْيَدَيْنِ قُتِلَ بِبَدْرٍ غَلَطٌ قَالُوا : فَإِنَّ الْمَقْتُولَ بِبَدْرِ هُوَ ذُو الشِّمَالَيْنِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو مِنْ نضلة بْنِ عبسان : حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ مِنْ خُزَاعَةَ قُتِلَ بِبَدْرِ وَأَمَّا ذُو الْيَدَيْنِ فَاسْمُهُ الْخِرْبَاقُ وَيُكَنَّى أَبَا الْعُرْيَانِ بَقِيَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى حَدِيثَهُ فِي السَّهْوِ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنْ نَصْرِ بْنِ مُعَدِّي بْنِ سُلَيْمَانَ ثِقَةٌ قَالَ : أَتَيْت مَطَرًا لِأَسْأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ فَأَتَيْته فَسَأَلْته ؛ فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُنْفِذُ الْحَدِيثَ مِنْ الْكِبَرِ فَقَالَ ابْنُهُ شُعَيْبٌ : بَلَى يَا أَبَتِ حَدَّثْتنِي : أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ لَقِيَك بِذِي خَشَبٍ فَحَدَّثَك { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ وَهِيَ الْعَصْرُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا : قَصُرَتْ الصَّلَاةُ - وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ : أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت ؟ فَقَالَ : مَا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَلَا نَسِيت ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ : مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالَا : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَابَ النَّاسُ ؛ وَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ؛ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ } . وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ معدي بْنِ سُلَيْمَانَ ؛ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ مَطَرٍ وَمَطَرٌ جَاءَ مَنْ يُصَدِّقُهُ بِمَقَالَتِهِ . وَهَذَا السِّيَاقُ مُوَافِقٌ لِسِيَاقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ فِي : أَنَّ السَّلَامَ كَانَ مِنْ

رَكْعَتَيْنِ وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ أَنَّهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ رَافِعٍ ؛ وَفِيهِ الْجَزْمُ بِأَنَّهَا الْعَصْرُ كَمَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ وَغَيْرِهِ وَهَلْ كَانَتْ الْقِصَّةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ مُحْكَمٌ : ثَبَتَ بِهِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْفِعَالِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَهُنَا أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : فَعَنْهُ أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ وَالْمُخْطِئُ لَا يُبْطِلُ ؛ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ { مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي لَمَّا شَمَّتَ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا سَمِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَهَذَا كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ . وَفِي الْجَاهِلِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد طَرِيقَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالنَّاسِي . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَإِنْ بَطَلَتْ صَلَاةُ النَّاسِي ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ . وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ هُنَا ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ تَمَسَّكَ بِالْمَنْسُوخِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ كَمَا كَانَ أَهْلُ قُبَاء وَأَمَّا هُنَا فَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ الْمَنْسُوخُ

بِحَالِ فَالنَّهْيُ فِي حَقِّهِ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ لَكِنْ هَلْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِأَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَثْبُتُ مُطْلَقًا . وَالثَّانِي : لَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا . وَالثَّالِثُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُكْمِ النَّاسِخِ وَالْحُكْمِ الْمُبْتَدَأِ . وَعَلَى هَذَا يُقَالُ : الْجَاهِلُ لَمْ يَبْلُغْهُ حُكْمُ الْخِطَابِ وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ : أَلَا تَرَى مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَإِنَّهُ يُعِيدُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهَا نِسْيَانًا ثُمَّ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ أَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ أَوْ الرُّكُوعَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ . وَأَمَّا مَنْ نَسِيَ وَاجِبًا كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ فَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ : أَشْهَرُهُمَا تَبْطُلُ . وَلَوْ نَسِيَهُ مُطْلَقًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ فَهُنَا قَدْ أَثَّرَ النِّسْيَانُ فِي سُقُوطِ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا .
وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَلَوْ صَلَّى غَيْرَ عَالِمٍ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ أَوْ صَلَّى فِي مَبَارِكِهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالنَّهْيِ ثُمَّ بَلَغَهُ : فَفِي الْإِعَادَةِ رِوَايَتَانِ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْحُجَّةِ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَمِمَّا يُقَرِّرُ هَذَا فِي كَلَامِ الْجَاهِلِ فِي الصَّلَاةِ أَحَادِيثُ : مِنْهَا : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثُ التَّشَهُّدِ الْمُسْتَفِيضِ : { أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وميكائيل السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ . فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ } وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي قَالُوا ذَلِكَ فِيهَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لِلَّهِ بِالسَّلَامِ بَلْ هُوَ الْمَدْعُوُّ وَلَمَّا كَانُوا جُهَّالًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ . وَمِنْ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا وَقَالَ : " لَقَدْ تَحَجَّرْت وَاسِعًا " يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ . وَهَذَا الدُّعَاءُ حَرَامٌ فَإِنَّهُ سُؤَالُ اللَّهِ أَنْ لَا يَرْحَمَ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرَهُمَا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ - لَمَّا صَلَّى بِهِمْ أَبُو مُوسَى - أَقَرَنْت الصَّلَاةَ بِالْبِرِّ وَالزَّكَاةِ ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى : يَا حطان لَعَلَّك قُلْتهَا ؟ فَقُلْت : مَا قُلْتهَا وَلَقَدْ خَشِيت أَنْ تَبْكَعَنِي بِهَا وَلَمْ يَأْمُرْنِي أَبُو مُوسَى بِالْإِعَادَةِ . وَعَلَى هَذَا فَكَلَامُ الْعَامِدِ فِي مَصْلَحَتِهَا فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَالثَّانِيَةُ : لَا يَجُوزُ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .

وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : أَنَّ الْكَلَامَ يُبْطِلُ إلَّا إذَا كَانَ لِمَصْلَحَتِهَا سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا . وَفِيهِ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ : إلَّا لِمَصْلَحَتِهَا سَهْوًا وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّي . وَفِيهِ رِوَايَةٌ خَامِسَةٌ : تَبْطُلُ إلَّا صَلَاةَ إمَامٍ تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَتِهَا ؛ سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا . وَمَنْشَأُ التَّرَدُّدِ أَنَّهُ يُكَلِّمُ ذَا الْيَدَيْنِ ابْتِدَاءً ؛ وَتَكَلَّمَ جَوَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : بَلَى قَدْ نَسِيت : بَعْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ } وَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ : { أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ } وَتَكَلَّمَ الْمُخَاطَبُونَ بِتَصْدِيقِ ذِي الْيَدَيْنِ فَقِيلَ : إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ ذُو الْيَدَيْنِ سُؤَالُهُ لَهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ سَلَامِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ اتِّبَاعًا لَهُ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَسِيَ بَلْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ قَصُرَتْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ نَسِيَ وَأَنَّ مُتَابَعَةَ النَّاسِي فِي السَّلَامِ لَا تَجُوزُ : لَسَبَّحُوا بِهِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِجَمِيعِ الْأَمْرَيْنِ قَطْعًا بَلْ جَوَّزُوا أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ لَهُ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ . فَقِيلَ لِهَؤُلَاءِ : فَالْمُصَلُّونَ أَجَابُوهُ بِتَصْدِيقِ ذِي الْيَدَيْنِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا

لَمْ تَقْصُرْ وَأَنَّهُ نَسِيَ فَظَنَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ وَاجِبٌ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعْيدِ بْنِ الْمُعَلَّى وَظَنَّ آخَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ فَجَوَّزُوا الْكَلَامَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ عَمْدًا وَظَنَّ آخَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ سَهْوًا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ لَا يَتَكَلَّمُ . ثُمَّ قَالَ آخَرُونَ : هَذَا الْكَلَامُ وَكَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِي الْيَدَيْنِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ سَهْوًا : فَإِنَّمَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ عَالِمًا أَنَّهُ فِي صَلَاتِهِ بِنَحْوِ هَذَا سَهْوًا وَعَمْدًا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ : هَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ هَذَا ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَمَنْ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمَا قَالَ : هَذِهِ الْحَالُ لَمْ يَكُونُوا فِي صَلَاةٍ لِخُرُوجِهِمْ مِنْهَا سَهْوًا ؛ وَإِنْ كَانُوا فِي حُكْمِهَا كَمَا ذَكَرْنَا ؛ فَلِهَذَا شَاعَ هَذَا . وَمَنْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا قَالَ : سَائِرُ مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ هِيَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا هِيَ فِي الصَّلَاةِ نَفْسِهَا ؛ فَإِنَّ التَّفْرِيقَ هُنَا إنَّمَا جَازَ لِعُذْرِ السَّهْوِ فَلَا يُفِيدُ فِعْلَ شَيْءٍ مِمَّا يُنَافِي الصَّلَاةَ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ : بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَبْطُلُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ صَلَّى الصَّلَاةَ وَتَرَكَ مَنَافِيَهَا ؛ فَإِذَا عُفِيَ عَنْهُ فِي أَحَدِهِمَا لِعُذْرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ فِي الْآخَرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا لَوْ زَادَ الْفِعْلَ عَمْدًا فَإِنَّهُ بَعْدَ

الذِّكْرِ لَوْ أَطَالَ الْفَصْلَ عَمْدًا : لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ بَلْ يَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَ مَنَافِيَهَا سَهْوًا - مِنْ كَلَامٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُفَرِّقَهَا عَمْدًا . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا كُلِّهِ وُجُوبُ الْمُوَالَاةِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي حَالِ الْعُذْرِ الْمُسَوِّغِ لِذَلِكَ فَالْوُضُوءُ أَوْلَى بِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ فِي الْغُسْلِ ؟ قِيلَ : الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَد : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا . وَعُمْدَةُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى يَدِهِ لُمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَعَصَرَ عَلَيْهَا شَعْرَهُ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَةٍ فَرَأَى لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَقَالَ : بِجُمَّتِهِ فَبَلَّهَا عَلَيْهَا } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَلِيٍّ السروجي . وَقَدْ ضَعَّفَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ حَدِيثَهُ . وَرَوَى ابْنُ مَاجَه عَنْ عَلِيٍّ قَالَ { : جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي اغْتَسَلْت مِنْ الْجَنَابَةِ فَصَلَّيْت الْفَجْرَ ثُمَّ أَصْبَحْت فَرَأَيْت مَوْضِعًا قَدْرَ الظُّفْرِ لَمْ يُصِبْهُ مَاءٌ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْت مَسَحْت عَلَيْهِ بِيَدِك أَجْزَأَك } . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَيُخْطِئُ بَعْضَ جَسَدِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَكَانَ ثُمَّ يُصَلِّي } رَوَاهُ البيهقي مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الأشجعي قَالَ الْبُخَارِيُّ : فِيهِ نَظَرٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يُخْطِئُ كَثِيرًا . وَقَالَ الدارقطني : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ . وَالْفَرْقُ الْمَعْنَوِيُّ : أَنَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ مُتَعَدِّدَةٌ يَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ عِنْدَهُمْ : فَوَجَبَتْ فِيهَا الْمُوَالَاةُ وَالْبَدَنُ فِي الْغُسْلِ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ : لَا يَجِبُ فِيهِ تَرْتِيبٌ فَلَا يَجِبُ فِيهِ مُوَالَاةٌ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ حُكْمَ الْوُضُوءِ يَتَعَدَّى مَحَلَّهُ ؛ فَإِنَّهُ يَغْسِلُ أَرْبَعَةَ أَعْضَاءٍ فَيُطَهِّرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ وَأَمَّا الْجَنَابَةُ فَتُشْبِهُ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ : لَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ مَحَلَّهُ فَكُلَّمَا غَسَلَ شَيْئًا ارْتَفَعَ عَنْهُ الْجَنَابَةُ كَمَا تَرْتَفِعُ النَّجَاسَةُ عَنْ مَحَلِّ الْغُسْلِ فَإِذَا غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لَمْ يَرْتَفِعْ شَيْءٌ مِنْ الْحَدَثِ لَا عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِهِ . وَقَدْ يُقَالُ : هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُوَالَاةِ ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ الْمُوَالَاةِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِهَا فِي الِاثْنَيْنِ ؛ بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ ؛ إذْ الْمُتَمَاثِلَاتُ - كَالطَّوَّافَاتِ وَالسَّعَيَاتِ - لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَرْتِيبٌ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ عِنْدَ أَحْمَد وَمَالِكٍ فِي الرَّكَعَاتِ بَلْ مَنْ نَسِيَ رُكْنًا مِنْ رَكْعَةٍ فَلَمْ يَذْكُرْ حَتَّى قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ : قَامَتْ مَقَامَهَا وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ : الِاتِّصَالُ فِيهَا أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْوُضُوءِ وَهِيَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهَا

تُعْتَبَرُ لَهَا النِّيَّةُ ؛ بِخِلَافِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ لَهَا النِّيَّةُ إلَّا فِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ : الْتَزَمُوهُ فِي الْخِلَافِ الْجَدَلِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَمَنْ تَبِعَهُ وَلَيْسَ بِشَيْءِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْمُوَالَاةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ . وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَصَرَ عَلَى اللُّمْعَةِ بَعْدَ جَفَافِهَا فِي الزَّمَنِ الْمُعْتَدِلِ وَأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ : فَالْفَرْقُ أَنَّ تَارِكَ اللُّمْعَةِ فِي الرِّجْلِ مُفَرِّطٌ بِخِلَافِ الْمُغْتَسِلِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرَى بَدَنَهُ كَمَا يَرَى رِجْلَيْهِ فَاللُّمْعَةُ إذَا كَانَتْ فِي ظَهْرِهِ أَوْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يُمْكِنُهُ مَسُّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِهَا فَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الْمُوَالَاةُ بِخِلَافِ مَا لَا يُعْذَرُ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قِيلَ بِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ بِالْعُذْرِ لَتَوَجَّهَ . وَقَدْ يَخْرُجُ حَدِيثُ تَأْخِيرِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ عَنْ غَسْلِ الْوَجْهِ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَنْصُوصَتَيْنِ - عَلَى هَذَا وَأَنَّ تَارِكَهُمَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُمَا فَكَانَ مَعْذُورًا بِالتَّرْكِ فَلَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُعْذَرْ كَمُنَكِّسِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنَّ نَظِيرَهُ حَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ : إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَغَسَلَهُمَا فَقَطْ أَوْ مَنْ تَرَكَ غَسْلَ وَجْهِهِ أَوْ يَدَيْهِ لِجُرْحِ أَوْ مَرَضٍ وَغَسَلَ سَائِرَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ : فَهُنَا إذَا قِيلَ : يَغْسِلُ مَا تَرَكَ أَوَّلًا وَلَا يَضُرُّهُ تَرْكُ التَّرْتِيبِ : كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَغْسِلُ أَطْرَافَهُ فَوْقَ الْخَمْسِ مَرَّاتٍ وَإِذَا أَتَى الْمَسْجِدَ يَبْسُطُ سَجَّادَتَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ؟ إلَى آخِرِ السُّؤَالِ .
فَأَجَابَ :
مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْوَسْوَسَةِ فِي الطَّهَارَةِ مِثْلُ غَسْلِ الْعُضْوِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى حُصْرِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : هُوَ أَيْضًا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا وَلَا طَاعَةً وَلَا قُرْبَةً . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ امْتَنَعَ عُزِّرَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَزِّرُ النَّاسَ عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً فَعَلُوهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ } كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَضَرَبَ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ لِكَوْنِهَا بِدْعَةً مَذْمُومَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ : أَوْلَى وَأَحْرَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
أَيُّمَا أَفْضَلُ : الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْوُضُوءِ أَمْ تَرْكُ الْمُدَاوَمَةِ ؟ .
فَأَجَابَ : أَمَّا الْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ فَفِيهِ حَدِيثُ بِلَالٍ الْمَعْرُوفُ عَنْ بريدة بْنِ حصيب قَالَ : { أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ : يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتنِي إلَى الْجَنَّةِ ؟ مَا دَخَلْت الْجَنَّةَ قَطُّ إلَّا سَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي دَخَلْت الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي فَأَتَيْت عَلَى قَصْرٍ مُرَبَّعٍ مُشْرِفٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْت : لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِرَجُلِ عَرَبِيٍّ . فَقُلْت : أَنَا عَرَبِيٌّ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِرَجُلِ مِنْ قُرَيْشٍ . قُلْت : أَنَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ بِلَالٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْت قَطُّ إلَّا صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إلَّا تَوَضَّأْت عِنْدَهَا فَرَأَيْت أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ مِنْ الْغَائِطِ فَأُتِيَ بِطَعَامِ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَتَوَضَّأُ ؟ قَالَ : لَمْ أُصَلِّ فَأَتَوَضَّأَ } فَإِنَّ هَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ وَيَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالْوُضُوءِ لِأَجْلِ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا اسْتَحَبَّ الْوُضُوءَ لِلْأَكْلِ . وَهَلْ يُكْرَهُ أَوْ يُسْتَحَبُّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . فَمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ { سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأْت فِي التَّوْرَاةِ إنَّ : مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ } . وَمِنْ كَرِهَهُ قَالَ : لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ قَبْلَ الْأَكْلِ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ . وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ فَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ . وَقَدْ يُقَالُ : كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافِقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءِ وَلِهَذَا كَانَ يُسْدِلُ شَعْرَهُ مُوَافَقَةً لَهُمْ ثُمَّ فَرَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا صَامَ عَاشُورَاءَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ إنَّهُ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ : { لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ } يَعْنِي : مَعَ الْعَاشِرِ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ } وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُصَلِّينَ فَبِمَ يُعْرَفُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ التَّارِكِينَ وَالصِّبْيَانِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ مَنْ كَانَ أَغَرَّ مُحَجَّلًا وَهُمْ الَّذِينَ يَتَوَضَّؤُونَ لِلصَّلَاةِ . وَأَمَّا الْأَطْفَالُ فَهُمْ تَبَعٌ لِلرَّجُلِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ قَطُّ وَلَمْ يُصَلِّ : فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

بَابٌ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ :
أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ : هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ غَيْرَ مُخَرَّقٍ حَتَّى لَا يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْقَدَمِ ؟ وَهَلْ لِلتَّخْرِيقِ حَدٌّ ؟ وَمَا الْقَوْلُ الرَّاجِحُ بِالدَّلِيلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَإِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّ ذَلِكَ وَاخْتَارَ هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا عَلَى مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ مَحَلِّ الْغَسْلِ . قَالُوا : لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ كَانَ فَرْضُ مَا ظَهَرَ الْغَسْلَ ؛ وَفَرْضُ مَا بَطَنَ الْمَسْحَ ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْغَسْلِ

وَالْمَسْحِ أَيْ : بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَغْسِلَ الْقَدَمَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ قِيَاسُ أَصْلِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْعَوْرَةِ وَعَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا قَوْلًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلًا كَقَوْلِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا سَفَرًا - أَوْ مُسَافِرِينَ - أَنْ لَا نَنْزِعَ أَخِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ لَا نَنْزِعُ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ ؛ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أُمَّتَهُ أَنْ لَا يَنْزِعُوا أَخِفَافَهُمْ فِي السَّفَرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنَّوْمِ ؛ وَلَكِنْ يَنْزِعُوهَا مِنْ الْجَنَابَةِ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى التَّسَاخِينِ وَالْعَصَائِبِ ؛ وَالتَّسَاخِينُ هِيَ الْخُفَّانِ فَإِنَّهَا تُسَخِّنُ الرِّجْلَ وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؛ وَتَلَقَّى أَصْحَابُهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَنَقَلُوا أَيْضًا أَمْرَهُ مُطْلَقًا : كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ شريح بْنِ هَانِئٍ قَالَ : أَتَيْت عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؟ فَقَالَتْ عَلَيْك بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ : { جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ

لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ } . أَيْ : جَعَلَ لَهُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَأَطْلَقَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخِفَافَ فِي الْعَادَةِ لَا يَخْلُو كَثِيرٌ مِنْهَا عَنْ فَتْقٍ أَوْ خَرْقٍ لَا سِيَّمَا مَعَ تَقَادُمِ عَهْدِهَا وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقُرَّاءَ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ تَجْدِيدُ ذَلِكَ . { وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ : أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ } وَهَذَا كَمَا أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَانَ يَكْثُرُ فِيهَا الْفَتْقُ وَالْخَرْقُ حَتَّى يَحْتَاجَ لِتَرْقِيعِ : فَكَذَلِكَ الْخِفَافُ . وَالْعَادَةُ فِي الْفَتْقِ الْيَسِيرِ فِي الثَّوْبِ وَالْخُفِّ أَنَّهُ لَا يُرَقَّعُ وَإِنَّمَا يُرَقَّعُ الْكَثِيرُ وَكَانَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الضَّيِّقِ حَتَّى إنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَجَدُوا تَقَلَّصَ الثَّوْبُ فَظَهَرَ بَعْضُ الْعَوْرَةِ وَكَانَ النِّسَاءُ نُهِينَ عَنْ أَنْ يَرْفَعْنَ رُءُوسَهُنَّ حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ رُءُوسَهُمْ لِئَلَّا يَرَيْنَ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ مَنْ ضِيقِ الْأُزُرِ مَعَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ ؛ بِخِلَافِ سَتْرِ الرِّجْلَيْنِ بِالْخُفِّ فَلَمَّا أَطْلَقَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ ؛ وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنْ الْعُيُوبِ : وَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَيَّدَ كَلَامُهُ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ . وَكَانَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ أَنَّ كُلَّ خُفٍّ يَلْبَسُهُ النَّاسُ وَيَمْشُونَ فِيهِ : فَلَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَفْتُوقًا أَوْ مَخْرُوقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِمِقْدَارِ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّحْدِيدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحُدُّهُ بِالرُّبُعِ كَمَا يُحَدُّ مِثْلَ

ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ قَالُوا : لِأَنَّهُ يُقَالُ رَأَيْت الْإِنْسَانَ إذَا رَأَيْت أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ فَالرُّبُعُ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ : التَّحْدِيدُ بِالرُّبُعِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ . وَأَيْضًا فَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ بَلَّغُوا سُنَّتَهُ وَعَمِلُوا بِهَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَقْيِيدُ الْخُفِّ بِشَيْءِ مِنْ الْقُيُودِ بَلْ أَطْلَقُوا الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخِفَافِ وَأَحْوَالِهَا فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ فَهِمُوا عَنْ نَبِيِّهِمْ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا . وَأَيْضًا فَكَثِيرٌ مِنْ خِفَافِ النَّاسِ لَا يَخْلُو مِنْ فَتْقٍ أَوْ خَرْقٍ يَظْهَرُ مِنْهُ بَعْضُ الْقَدَمِ ؛ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا بَطَلَ مَقْصُودُ الرُّخْصَةِ لَا سِيَّمَا وَاَلَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ ذَلِكَ هُمْ الْمُحْتَاجُونَ ؛ وَهُمْ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُحْتَاجِينَ ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ هُوَ الْحَاجَةُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ : { أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ } بَيَّنَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ لَا يَجِدُ إلَّا ثَوْبًا وَاحِدًا فَلَوْ أَوْجَبَ الثَّوْبَيْنِ لَمَا أَمْكَنَ هَؤُلَاءِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ . ثُمَّ إنَّهُ أَطْلَقَ الرُّخْصَةَ فَكَذَلِكَ هُنَا لَيْسَ كُلُّ إنْسَانٍ يَجِدُ خُفًّا سَلِيمًا فَلَوْ لَمْ يُرَخِّصْ إلَّا لِهَذَا لَزِمَ الْمَحَاوِيجَ خَلْعُ خِفَافِهِمْ وَكَانَ إلْزَامُ غَيْرِهِمْ بِالْخَلْعِ أَوْلَى . ثُمَّ إذَا كَانَ إلَى الْحَاجَةِ فَالرُّخْصَةُ عَامَّةٌ .وَكُلُّ مَنْ

لَبِسَ خُفًّا وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ فَلَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْخُفُّ سَلِيمًا أَوْ مَقْطُوعًا ؛ فَإِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَجِبُ فِعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى - كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ - حَتَّى تُشْتَرَطُ فِيهِ السَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْمُنَازِعِ : إنَّ فَرْضَ مَا ظَهَرَ الْغَسْلُ وَمَا بَطَنَ الْمَسْحُ . فَهَذَا خَطَأٌ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا بَطَنَ مِنْ الْقَدَمِ يُمْسَحُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يُلَاقِيهِ مِنْ الْخُفِّ بَلْ إذَا مَسَحَ ظَهْرَ الْقَدَمِ أَجْزَأَهُ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَسْتَحِبُّ مَسْحَ أَسْفَلِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَمْسَحُ خُطَطًا بِالْأَصَابِعِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ جَمِيعَ الْخُفِّ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ الْجَبِيرَةَ فَإِنَّ مَسْحَ الْجَبِيرَةِ يَقُومُ مَقَامَ غَسْلِ نَفْسِ الْعُضْوِ فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ نَزْعُهَا إلَّا بِضَرَرِ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ وَظُفْرِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ بِخِلَافِ الْخُفِّ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ نَزْعُهُ وَغَسْلُ الْقَدَمِ وَلِهَذَا كَانَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ وَاجِبًا وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ جَائِزًا إنْ شَاءَ مَسَحَ وَإِنْ شَاءَ خَلَعَ . وَلِهَذَا فَارَقَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ الْخُفَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ وَذَلِكَ جَائِزٌ . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا يَجُوزُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ : الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا ذَلِكَ وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ لَا يَكُونُ فِي الْكُبْرَى بَلْ عَلَيْهِ أَنْ

يَغْسِلَ الْقَدَمَيْنِ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَ الْمَاءَ إلَى جِلْدِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَفِي الْوُضُوءِ يُجْزِئُهُ الْمَسْحُ عَلَى ظَاهِرِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَغَسْلُ ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ : فَكَذَلِكَ الْخِفَافُ يُمْسَحُ عَلَيْهَا فِي الصُّغْرَى ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا احْتَاجَ إلَى لُبْسِهَا صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ مِنْ الشَّعْرِ الَّذِي يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِهِ وَلَكِنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَالْغَسْلُ لَا يَتَكَرَّرُ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْجَبِيرَةَ يُمْسَحَ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يَحِلَّهَا ؛ لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيتٌ ؛ فَإِنَّ مَسْحَهَا لِلضَّرُورَةِ . بِخِلَافِ الْخُفِّ فَإِنَّ مَسْحَهُ مُوَقَّتٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي خَلْعِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ ضَرَرٌ - مِثْلُ : أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ مَتَى خَلَعَ خُفَّيْهِ تَضَرَّرَ كَمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الثُّلُوجِ وَغَيْرِهَا ؛ أَوْ كَانَ فِي رُفْقَةٍ مَتَى خَلَعَ وَغَسَلَ لَمْ يَنْتَظِرُوهُ فَيَنْقَطِعُ عَنْهُمْ فَلَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ ؛ أَوْ يَخَافُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ ؛ أَوْ كَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَاتَهُ وَاجِبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَهُنَا قِيلَ : إنَّهُ يَتَيَمَّمُ : وَقِيلَ : إنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا لِلضَّرُورَةِ . وَهَذَا أَقْوَى لِأَنَّ لُبْسَهُمَا هُنَا صَارَ كَلُبْسِ الْجَبِيرَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَأَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْمَسْحِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَلَيْسَ فِيهَا النَّهْيُ عَنْ الزِّيَادَةِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ ؛ فَإِذَا كَانَ يَخْلَعُ بَعْدَ الْوَقْتِ عِنْدَ إمْكَانِ ذَلِكَ عُمِلَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ .

وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ لَمَّا خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ إلَى الْمَدِينَةِ يُبَشِّرُ النَّاس بِفَتْحِ دِمَشْقَ وَمَسَحَ أُسْبُوعًا بِلَا خَلْعٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَصَبْت السُّنَّةَ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَلَيْسَ الْخُفُّ كَالْجَبِيرَةِ مُطْلَقًا ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَوْعَبُ بِالْمَسْحِ بِحَالِ ؛ وَيُخْلَعُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى ؛ وَلَا بُدَّ مِنْ لُبْسِهِ عَلَى طَهَارَةٍ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ : أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ خَلْعُهُ فَالْمَسْحُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ خَلْعُهُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى فَقَدْ صَارَ كَالْجَبِيرَةِ يَمْسَحُ عَلَيْهِ كُلَّهُ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى رِجْلِهِ جَبِيرَةٌ يَسْتَوْعِبُهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فِيمَا يُغَطِّي مَوْضِعَ الْغَسْلِ ؛ وَذَاكَ مَسْحٌ بِالتُّرَابِ فِي عُضْوَيْنِ آخَرَيْنِ : فَكَانَ هَذَا الْبَدَلُ أَقْرَبَ إلَى الْأَصْلِ مِنْ التَّيَمُّمِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ جَرِيحًا وَأَمْكَنَهُ مَسْحُ جِرَاحِهِ بِالْمَاءِ دُونَ الْغَسْلِ : فَهَلْ يَمْسَحُ بِالْمَاءِ أَوْ يَتَيَمَّمُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَمَسْحُهُمَا بِالْمَاءِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ وَمَسْحُ الْخُفِّ وَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ فَلِأَنْ يَكُونَ مَسْحُ الْعُضْوِ بِالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . الرَّابِعُ : أَنَّ الْجَبِيرَةَ يَسْتَوْعِبُهَا بِالْمَسْحِ كَمَا يَسْتَوْعِبُ الْجِلْدَ ؛ لِأَنَّ مَسْحَهَا كَغَسْلِهِ وَهَذَا أَقْوَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ .

الْخَامِسُ : أَنَّ الْجَبِيرَةَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَإِنْ شَدَّهَا عَلَى حَدَثٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ وَهُوَ الصَّوَابُ . وَمَنْ قَالَ : لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا إلَّا إذَا لَبِسَهَا عَلَى طَهَارَةٍ لَيْسَ مَعَهُ إلَّا قِيَاسُهَا عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَسْحُهَا كَمَسْحِ الْجِلْدَةِ وَمَسْحُ الشَّعْرِ ؛ لَيْسَ كَمَسْحِ الْخُفَّيْنِ وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ عِنْدَهُ بِجِلْدَةِ الْإِنْسَانِ لَا بِالْخُفَّيْنِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يَجْعَلُهَا كَالْخُفَّيْنِ وَيَجْعَلُ الْبُرْءَ كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ فَيَقُولُ بِبُطْلَانِ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ كَمَا قَالُوا فِي الْخُفِّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ : أَنَّهَا إذَا سَقَطَتْ سُقُوطَ بُرْءٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَبِمَنْزِلَةِ كَشْطِ الْجِلْدِ لَا يُوجِبُ إعَادَةَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا إذَا كَانَ قَدْ مَسَحَ عَلَيْهَا مِنْ الْجَنَابَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ لَا يَجِبُ غَسْلُ الْمَحَلِّ وَلَا إعَادَةُ الْوُضُوءِ كَمَا قِيلَ : إنَّهُ يَجِبُ فِي خَلْعِ الْخُفِّ وَالطَّهَارَةِ وَجَبَتْ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِيَكُونَ إذَا أَحْدَثَ يَتَعَلَّقُ الْحَدَثُ بِالْخُفَّيْنِ ؛ فَيَكُونُ مَسْحُهُمَا كَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَلَّقَ الْحَدَثُ بِالْقَدَمِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ . ثُمَّ قِيلَ : إنَّ الْمَسْحَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ الرِّجْلِ فَإِذَا خَلَعَهَا كَانَ كَأَنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا فَيَغْسِلُهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الْمُوَالَاةَ وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْمُوَالَاةَ يُعِيدُ الْوُضُوءَ . وَقِيلَ : بَلْ حَدَثُهُ ارْتَفَعَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا

إلَى حِينِ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَخَلْعِ الْخُفِّ لَكِنْ لَمَّا خَلَعَهُ انْقَضَتْ الطَّهَارَةُ فِيهِ وَالطَّهَارَةُ الصُّغْرَى لَا تَتَبَعَّضُ لَا فِي ثُبُوتِهَا وَلَا فِي زَوَالِهَا . فَإِنَّ حُكْمَهَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ مَحَلِّهَا فَإِنَّهَا غَسْلُ أَعْضَاءٍ أَرْبَعَةٍ وَالْبَدَنُ كُلُّهُ يَصِيرُ طَاهِرًا فَإِذَا غُسِلَ عُضْوٌ أَوْ عُضْوَانِ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ حَتَّى يَغْسِلَ الْأَرْبَعَةَ وَإِذَا انْتَقَضَ الْوُضُوءُ فِي عُضْوٍ انْتَقَضَ فِي الْجَمِيعِ . وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ : إنَّهُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ وَمِثْلُ هَذَا مُنْتَفٍ فِي الْجَبِيرَةِ فَإِنَّ الْجَبِيرَةَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَلَا يُجْزِئُ فِيهَا الْبَدَلُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْجِلْدِ وَالشَّعْرِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ إذَا سَقَطَتْ لِبُرْءِ بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ أَوْ غَسَلَ مَحَلَّهَا وَإِذَا سَقَطَتْ لِغَيْرِ بُرْءٍ : فَعَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهَا مُؤَقَّتَةً بِالْبُرْءِ وَجَعَلُوا سُقُوطَهَا بِالْبُرْءِ كَانْقِطَاعِ مُدَّةِ الْمَسْحِ . وَأَمَّا إذَا سَقَطَتْ قَبْلَ الْبُرْءِ فَقِيلَ : هِيَ كَمَا لَوْ خَلَعَ الْخُفَّ قَبْلَ الْمُدَّةِ . وَقِيلَ : لَا تَبْطُلُ الطَّهَارَةُ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهَا قَبْلَ الْبُرْءِ بِخِلَافِ الرِّجْلِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهَا إذَا خُلِعَ الْخُفُّ فَلِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُفِّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ غَسْلُهَا بَقِيَتْ الطَّهَارَةُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْبُرْءِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُ مَحَلِّهَا .

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبُرْءَ كَالْوَقْتِ فِي الْخُفَّيْنِ ضَعِيفٌ فَإِنَّ طَهَارَةَ الْجَبِيرَةِ لَا تَوْقِيتَ فِيهَا أَصْلًا حَتَّى يُقَالَ : إذَا انْقَضَى الْوَقْتُ بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ . بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهُ مُوَقَّتٌ وَنَزْعُهَا مُشَبَّهٌ بِخَلْعِ الْخُفِّ وَهُوَ أَيْضًا تَشْبِيهٌ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ إنْ شُبِّهَ بِخَلْعِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ظَهَرَ الْفَرْقُ وَإِنَّمَا يُشْبِهُ هَذَا نَزْعَهَا قَبْلَ الْبُرْءِ وَفِيهِ الْوَجْهَانِ وَإِنْ شُبِّهَ بِخَلْعِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَوُجُودُ الْخَلْعِ كَعَدَمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَهُ بِخَلْعِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِخِلَافِ الْجَبِيرَةِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا وَقْتًا بَلْ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ مِنْ جِلْدٍ وَشَعْرٍ وَظُفْرٍ وَذَاكَ إذَا احْتَاجَ الرَّجُلُ إلَى إزَالَتِهِ أَزَالَهُ وَلَمْ تَبْطُلْ طَهَارَتُهُ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إلَى بُطْلَانِهَا وَأَنَّهُ يُطَهِّرُ مَوْضِعَهُ وَهَذَا مُشْبِهٌ قَوْلَ مَنْ قَالَ : مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجَبِيرَةِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : خَلْعُ الْخُفِّ لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ . وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَإِلْحَاقُ الْجَبِيرَةِ بِمَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَوْلَى كَالْوَسَخِ الَّذِي عَلَى يَدِهِ وَالْحِنَّاءِ وَالْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَاجِبٌ لَا يُمْكِنُهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَسْلِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا إذَا شَدَّهَا وَهُوَ مُحْدِثٌ نُقِلَ إلَى التَّيَمُّمِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ فِي مَحَلِّ الْغَسْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ طِهَارَةِ الْمَسْحِ بِالتُّرَابِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْغَسْلِ الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ

أَوْلَى مِنْ التُّرَابِ وَمَا كَانَ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِمَّا يَكُونُ فِي غَيْرِهِ . فَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَعَلَى الْجَبِيرَةِ وَعَلَى نَفْسِ الْعُضْوِ : كُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ حَيْثُ كَانَ وَلِأَنَّهُ إذَا شَدَّهَا عَلَى حَدَثِ مَسَحَ عَلَيْهَا فِي الْجَنَابَةِ فَفِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى أَوْلَى . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا مِنْ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَشُدَّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ : كَانَ هَذَا قَوْلًا بِلَا أَصْلٍ يُقَاسُ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا . وَإِنْ قِيلَ : بَلْ إذَا شَدَّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ مِنْ الْجَنَابَةِ مَسَحَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَدَّهَا وَهُوَ جُنُبٌ . قِيلَ : هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى شَدِّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يَجْنُبُ - وَالْمَاءُ يَضُرُّ جِرَاحَهُ وَيَضُرُّ الْعَظْمَ الْمَكْسُورَ وَيَضُرُّ الْفِصَادَ - فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ أَنْ يَشُدَّهُ بَعْدَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا . وَهَذِهِ مِنْ أَحْسَنِ الْمَسَائِلِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ لَا يُسْتَوْعَبُ فِيهِ الْخُفُّ بَلْ يَجْزِي فِيهِ مَسْحُ بَعْضِهِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا بَطَنَ مِنْ الْقَدَمِ مُسِحَ مَا يَلِيهِ مِنْ الْخُفِّ بَلْ إذَا مَسَحَ ظَهْرَ الْقَدَمِ كَانَ هَذَا الْمَسْحُ مُجْزِئًا عَنْ بَاطِنِ الْقَدَمِ وَعَنْ الْعَقِبِ .

وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مَوْضِعٍ وَمَسَحَ مَوْضِعًا آخَرَ : كَانَ ذَلِكَ مَسْحًا مُجْزِئًا عَنْ غَسْلِ جَمِيعِ الْقَدَمِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مُؤَخِّرِ الْخُفِّ وَأَسْفَلِهِ فَإِنَّ مَسْحَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَجِبُ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ وَلَوْ كَانَ الْخَرْقُ فِي الْمُقَدِّمِ فَالْمَسْحُ خُطُوطٌ بَيْنَ الْأَصَابِعِ . فَإِنْ قِيلَ : مُرَادُنَا أَنَّ مَا بَطَنَ يَجْزِي عَنْهُ الْمَسْحُ وَمَا ظَهَرَ يَجِبُ غَسْلُهُ . قِيلَ هَذَا : دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ فَرْضُهُ غَسْلُهُ فَهَذَا رَأْسُ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ كَانَ مُثْبِتًا لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ . وَإِنْ قَالُوا بِأَنَّ الْمَسْحَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَسْتُورٍ أَوْ مُغَطًّى وَنَحْوَ ذَلِكَ : كَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٍ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ دَعْوَى رَأْسِ الْمَسْأَلَةِ بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا . وَالشَّارِعُ أَمَرَنَا بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي : أَنَّهُ لَا يُقَيَّدُ .
وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَدْ اشْتَرَطَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ شَرْطَيْنِ : هَذَا أَحَدُهُمَا : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذَا الشَّرْطِ .

وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ . وَقَدْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشَدِّهِ بِشَيْءِ يَسِيرٍ أَوْ خَيْطٍ مُتَّصِلٍ بِهِ أَوْ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لَمْ يُمْسَحْ وَإِنْ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ إلَّا بِالشَّدِّ - كالزربول الطَّوِيلِ الْمَشْقُوقِ : يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ لَكِنْ لَا يَسْتُرُ إلَى الْكَعْبَيْنِ إلَّا بِالشَّدِّ - فَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِ . وَهَذَا الشَّرْطُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَد بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ بِنَعْلَيْنِ تَحْتَهُمَا وَأَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ مَا لَمْ يَخْلَعْ النَّعْلَيْنِ . فَإِذَا كَانَ أَحْمَد لَا يَشْتَرِطُ فِي الْجَوْرَبَيْنِ أَنْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ إذَا ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ جَازِ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا : فَغَيْرُهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَهُنَا قَدْ ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ وَهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْ الْجَوْرَبَيْنِ . فَإِذَا ثَبَتَ الْجَوْرَبَانِ بِشَدِّهِمَا بِخُيُوطِهِمَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْجَوْرَبَيْنِ : فالزربول الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَيْرِ يَشُدُّهُ بِهِ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ أَوْلَى بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوْرَبَيْنِ . وَهَكَذَا مَا يُلْبَسُ عَلَى الرِّجْلِ مِنْ فَرْوٍ وَقُطْنٍ وَغَيْرِهِمَا : إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِشَدِّهِمَا بِخَيْطِ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ مَسَحَ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . فَإِنْ قِيلَ : فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى اللَّفَائِفِ وَهُوَ : أَنْ

يُلَفَّ عَلَى الرِّجْلِ لَفَائِفُ مِنْ الْبُرْدِ أَوْ خَوْفَ الْحِفَاءِ أَوْ مِنْ جِرَاحٍ بِهِمَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . قِيلَ : فِي هَذَا وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْحَلْوَانِيّ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى اللَّفَائِفِ وَهِيَ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ الْخُفِّ وَالْجَوْرَبِ فَإِنَّ تِلْكَ اللَّفَائِفَ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْحَاجَةِ فِي الْعَادَةِ وَفِي نَوْعِهَا ضَرَرٌ : إمَّا إصَابَةُ الْبَرْدِ وَإِمَّا التَّأَذِّي بِالْحِفَاءِ وَإِمَّا التَّأَذِّي بِالْجُرْحِ . فَإِذَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ فَعَلَى اللَّفَائِفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَمَنْ ادَّعَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إجْمَاعًا فَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقُلَ الْمَنْعَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ فَضْلًا عَنْ الْإِجْمَاعِ . وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ خَفِيٌّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْكَرُوهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ أَنْكَرُوهُ مُطْلَقًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ؛ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ . وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا كَبِيرًا فِي " الْأَشْرِبَةِ " فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا عَنْ الصَّحَابَةِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : هَذَا صَحَّ فِيهِ الْخِلَافُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْمُسْكِرِ . وَمَالِكٌ مَعَ سِعَةِ عِلْمِهِ وَعُلُوِّ

قَدْرِهِ قَالَ فِي " كِتَابِ السِّرِّ " : لَأَقُولَنَّ قَوْلًا لَمْ أَقُلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي عَلَانِيَةٍ . وَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ مَضْمُونُهُ إنْكَارُهُ : إمَّا مُطْلَقًا ؛ وَإِمَّا فِي الْحَضَرِ . وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : هَذَا ضَعْفٌ لَهُ حَيْثُ لَمْ يَقُلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَانِيَةً . وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوهُ مَنَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنْ الْمَسْحِ عَلَى الجرموقين الْمَلْبُوسَيْنِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَالثَّلَاثَةُ مَنَعُوا الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ : فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا هَابَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ حَيْثُ كَانَ الْغَسْلُ هُوَ الْفَرْضَ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ ؛ فَصَارُوا يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ حَيْثُ يَظْهَرُ ظُهُورًا لَا حِيلَةَ فِيهِ وَلَا يَطْرُدُونَ فِيهِ قِيَاسًا صَحِيحًا وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِظَاهِرِ النَّصِّ الْمُبِيحِ وَإِلَّا فَمَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَى الْقِيَاسَ حَقَّهُ : عَلِمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسِعَةٌ ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا .
وَقَدْ كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا فَهَلْ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِدُونِ إذْنِهِ وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَمْسَحَانِ عَلَى الْقَلَانِسِ ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد هَذَا وَهَذَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ وَجَوَّزَ أَيْضًا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ ؛ لَكِنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ رَأَى أَنَّ الْعِمَامَةَ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَنَّكَةً الْمُتَقَطِّعَةَ : كَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ لُبْسَهَا . وَكَذَا مَالِكٌ يَكْرَهُ لُبْسَهَا أَيْضًا لِمَا جَاءَ

فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ ؛ وَشَرَطَ فِي الْمَسْحِ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ مُحَنَّكَةً . وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَأَتْبَاعُهُ وَذَكَرُوا فِيهَا - إذَا كَانَ لَهَا ذُؤَابَةٌ - وَجْهَيْنِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد : إذَا كَانَ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُجَوِّزُ الْمَسْحَ عَلَى الْقَلَانِسِ الدَّنِيَّاتِ - وَهِيَ الْقَلَانِسُ الْكِبَارُ - فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ عَلَى الْعِمَامَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَالسَّلَفُ كَانُوا يُحَنِّكُونَ عَمَائِمَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَرْبُطُوا الْعَمَائِمَ بِالتَّحْنِيكِ وَإِلَّا سَقَطَتْ وَلَمْ يُمْكِنْ مَعَهَا طَرْدُ الْخَيْلِ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ أَحْمَد عَنْ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِهِ هُمْ الْمُجَاهِدِينَ . وَذَكَرَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه بِإِسْنَادِهِ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْعَمَائِمَ بِلَا تَحْنِيكٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْحِجَازِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ لَا يُجَاهِدُونَ . وَرَخَّصَ إسْحَاقُ وَغَيْرُهُ فِي لُبْسِهَا بِلَا تَحْنِيكٍ وَالْجُنْدُ الْمُقَاتِلَةُ لَمَّا احْتَاجُوا إلَى رَبْطِ عَمَائِمِهِمْ صَارُوا يَرْبُطُونَهَا : إمَّا بِكَلَالِيبَ ؛ وَإِمَّا بِعِصَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا مَعْنَاهُ مَعْنَى التَّحْنِيكِ كَمَا أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ كَانَ يَرْبُطُ وَسَطَهُ بِطَرَفِ عِمَامَتِهِ وَالْمَنَاطِقُ يَحْصُلُ بِهَا هَذَا الْمَقْصُودُ . وَفِي نَزْعِ الْعِمَامَةِ الْمَرْبُوطَةِ بِعِصَابَةِ وَكَلَالِيبَ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا فِي نَزْعِ الْمُحَنَّكَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ

صَحِيحَةٍ لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْفَرْضُ سَقَطَ بِمَسْحِ مَا بَدَا مِنْ الرَّأْسِ ؛ وَالْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ مُسْتَحَبٌّ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الْفَرْضُ سَقَطَ بِمَسْحِ الْعِمَامَةِ وَمَسْحِ مَا بَدَا مِنْ الرَّأْسِ ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ . وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ ؛ أَوْ لَيْسَ بِوَاجِبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَد الْمَشْهُورُ عَنْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ إنَّمَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِأَجْلِ الضَّرَرِ وَهُوَ مَا إذَا حَصَلَ بِكَشْفِ الرَّأْسِ ضَرَرٌ مِنْ بَرْدٍ وَمَرَضٍ ؛ فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ كَمَا جَاءَ : أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَرِيَّةٍ فَشَكَوْا الْبَرْدَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى التَّسَاخِينِ وَالْعَصَائِبِ - وَالْعَصَائِبُ هِيَ الْعَمَائِمُ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبِلَادَ الْبَارِدَةَ يَحْتَاجُ فِيهَا مَنْ يَمْسَحُ التَّسَاخِينَ وَالْعَصَائِبَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ فَأَهْلُ الشَّامِ وَالرُّومِ وَنَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا وَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْمَاشُونَ فِي الْأَرْضِ الْحَزِنَةِ وَالْوَعِرَةِ أَحَقُّ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ مِنْ الْمَاشِينَ فِي الْأَرْضِ السَّهْلَةِ وَخِفَافُ هَؤُلَاءِ فِي الْعَادَةِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهَا الْحَجَرُ ؛ فَهُمْ بِرُخْصَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ الْمُخَرَّقَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ .

ثُمَّ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُ : إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ فَقَدْ يَظْهَرُ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ الْقَدَمِ كَمَوْضِعِ الْخَرَزِ - وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْخِفَافِ - فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ الْمَسْحِ عَلَيْهَا ضَيَّقُوا تَضْيِيقًا يَظْهَرُ خِلَافُهُ لِلشَّرِيعَةِ بِلَا حُجَّةٍ مَعَهُمْ أَصْلًا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ حَتَّى يَقُولُوا : فَرْضُهُ الْغَسْلُ وَإِنْ قَالُوا : هَذَا يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ضَابِطٌ فِيمَا يَمْنَعُ وَفِيمَا لَا يُمْنَعُ . وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُمْ : إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ إنْ أَرَادُوا ظُهُورَهُ لِلْبَصَرِ فَأَبْصَارُ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ إدْرَاكِهَا قَدْ يَظْهَرُ لَهَا مِنْ الْقَدَمِ مَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ وَإِنْ أَرَادُوا مَا يَظْهَرُ وَيُمْكِنُ مَسُّهُ بِالْيَدِ فَقَدْ يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِلَا مَسٍّ . وَإِنْ قَالُوا : مَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ فَالْإِمْكَانُ يَخْتَلِفُ قَدْ يُمْكِنُ مَعَ الْجُرْحِ وَلَا يُمْكِنُ بِدُونِهِ فَإِنَّ سَمَّ الْخِيَاطِ يُمْكِنُ غَسْلُهُ إذَا وَضَعَ الْقَدَمَ فِي مَغْمَزِهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَاءُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَا يَتَيَقَّنُ وُصُولَ الْمَاءِ عَلَيْهِ إلَّا بِخَضْخَضَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ كَمَا يَغْسِلُ الْقَدَمَ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَد أَقْوَى ؛ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ إذَا لُبِسَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْ جَوَانِبِ الرَّأْسِ مَا يَمْسَحُ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ مَسْحُ ذَلِكَ . وَهَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ مَعَ ذَلِكَ ؟ فِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ . فَلَمْ

يَشْتَرِطْ فِي الْمَمْسُوحِ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِجَمِيعِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَأَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ كَمَا يَسْتَحِبُّهُ أَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي اللِّبَاسِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ سَوَاءٌ سَتَرَ جَمِيعَ مَحَلِّ الْفَرْضِ أَوْ لَمْ يَسْتُرْهُ . وَالْخِفَافُ قَدْ اُعْتِيدَ فِيهَا أَنْ تُلْبَسَ مَعَ الْفَتْقِ وَالْخَرْقِ وَظُهُورِ بَعْضِ الرِّجْلِ ؛ وَأَمَّا مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ فَذَاكَ لَيْسَ بِخُفِّ أَصْلًا وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنُبَيِّنُ نَسْخَ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ ؛ وَأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ حِينَ لَمْ يُشْرَعْ الْبَدَلُ أَيْضًا .
فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَلِيلِهِمْ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ : يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ - مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا يُجْمَعُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْغَسْلِ فِيمَا إذَا أَمْكَنَ غَسْلُ بَعْضِ الْبَدَنِ دُونَ الْبَعْضِ ؛ لِكَوْنِ الْبَاقِي جَرِيحًا ؛ أَوْ كَوْنِ الْمَاءِ قَلِيلًا وَيُجْمَعُ بَيْنَ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ مَعَ الْعِمَامَةِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ ؛ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ كَمَا أَوْجَبَ غَسْلَ جَمِيعِ الْبَدَنِ : أَمْكَنَ أَنْ يَغْسِلَ مَا ظَهَرَ وَيَمْسَحَ مَا بَطَنَ ؛ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجَبِيرَةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا رَبَطَهَا عَلَى بَعْضِ مَكَانِ مَسْحِ الْجَبِيرَةِ وَغَسَلَ أَوْ مَسَحَ مَا بَيْنَهُمَا فَجَمَعَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ سُقُوطَ غَسْلِ مَا ظَهَرَ

مِنْ الْقَدَمِ لَمْ يُمْكِنْ لِأَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ ؛ بَلْ لِأَنَّ مَسْحَ ظَهْرِ الْخُفِّ وَلَوْ خَطًّا بِالْأَصَابِعِ يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ الْقَدَمِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُ شَيْءٍ مِنْهُ لَا مَا ظَهَرَ وَلَا مَا بَطَنَ كَمَا أَمَرَ صَاحِبُ الشَّمْسِ لِأُمَّتِهِ إذْ أَمَرَهُمْ إذَا كَانُوا مُسَافِرِينَ أَنْ لَا يَنْزِعُوا خِفَافَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لَا مِنْ غَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلَا نَوْمٍ فَأَيُّ خُفٍّ كَانَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ دَخَلَ فِي مُطْلَقِ النَّصِّ ؟ . كَمَا أَنَّ { قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ : لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بِذَلِكَ لَمَّا كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ قَدْ شُرِعَتْ رُخْصَةُ الْبَدَلِ . فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ لَا فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ وَلَا فِي لُبْسِ الْخُفِّ مُطْلَقًا . ثُمَّ إنَّهُ فِي عَرَفَاتٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ : { السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَالْخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ } هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرَوَاهُ جَابِرٌ وَحَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ فَأَرْخَصَ لَهُمْ بِعَرَفَاتِ فِي الْبَدَلِ فَأَجَازَ لَهُمْ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ بِلَا فَتْقٍ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَمَنْ اشْتَرَطَ فَتْقَهُ خَالَفَ النَّصَّ . وَأَجَازَ لَهُمْ حِينَئِذٍ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ

إذَا لَمْ يَجِدُوا النَّعْلَيْنِ بِلَا قَطْعٍ فَمَنْ اشْتَرَطَ الْقَطْعَ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ فَإِنَّ السَّرَاوِيلَ الْمَفْتُوقَ وَالْخُفَّ الْمَقْطُوعَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى السَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَا أَنَّ الْقَمِيصَ إذَا فُتِقَ وَصَارَ قَطْعًا لَمْ يُسَمَّ سَرَاوِيلَ وَكَذَلِكَ الْبُرْنُسُ وَغَيْرُ ذَلِكَ . فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا لِأَنَّ رُخْصَةَ الْبَدَلِ لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ فَأَمَرَهُمْ بِالْقَطْعِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَصِيرُ كَالنَّعْلَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخُفِّ . وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي إذْنِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُلْبَسُ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ مَدَاسٍ وَجُمْجُمٍ وَغَيْرِهِمَا كَالْخُفِّ الْمَقْطُوعِ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ فَتَكُونُ إبَاحَتُهُ أَصْلِيَّةً كَمَا تُبَاحُ النَّعْلَانِ لَا أَنَّهُ أُبِيحَ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَإِنَّمَا الْمُبَاحُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ هُوَ الْخُفُّ الْمُطْلَقُ وَالسَّرَاوِيلُ .
وَدَلَّتْ نُصُوصُهُ الْكَرِيمَةُ وَأَلْفَاظُهُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي هِيَ مَصَابِيحُ الْهُدَى عَلَى أُمُورٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَعْرِفَتِهَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ : مِنْهَا : أَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لِلْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ يَلْبَسُ الْخُفَّ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مَعَ الْقَطْعِ : كَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى خُفًّا سَوَاءٌ كَانَ سَلِيمًا أَوْ مَعِيبًا . وَكَذَلِكَ لَمَّا أَذِنَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي كُلِّ خُفٍّ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ قِيَاسَ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ حَتَّى يُقَالَ : ذَاكَ أَبَاحَ لَهُ لُبْسَهُ وَهَذَا أَبَاحَ الْمَسْحَ عَلَيْهِ بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ الْخُفِّ فِي كَلَامِهِ يَتَنَاوَلُ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ . فَعُلِمَ أَنَّ لَفْظَ

الْخُفِّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا فَمَنْ ادَّعَى فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ أَرَادَ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْخِفَافِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ . وَإِذَا كَانَ الْخُفُّ فِي لَفْظِهِ مُطْلَقًا - حَيْثُ أَبَاحَ لُبْسَهُ لِلْمُحْرِمِ وَكُلُّ خُفٍّ جَازَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ وَإِنْ قَطَعَهُ - جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقْطَعْهُ . الثَّانِي : أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَا مَا يُشْبِهُ النَّعْلَيْنِ - مِنْ خُفٍّ مَقْطُوعٍ أَوْ جُمْجُمٍ أَوْ مَدَاسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يَلْبَسُ أَيَّ خُفٍّ شَاءَ وَلَا يَقْطَعُهُ . هَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ بِذَلِكَ فِي عَرَفَاتٍ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ لُبْسِ الْخُفِّ مُطْلَقًا وَبَعْدَ أَمْرِهِ مَنْ لَمْ يَجِدْ أَنْ يَقْطَعَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِعَرَفَاتِ بِقَطْعٍ ؛ مَعَ أَنَّ الَّذِينَ حَضَرُوا بِعَرَفَاتِ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا كَلَامَهُ بِالْمَدِينَةِ بَلْ حَضَرَ مِنْ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْبَوَادِي وَغَيْرِهَا خَلْقٌ عَظِيمٌ حَجُّوا مَعَهُ لَمْ يَشْهَدُوا جَوَابَهُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بَلْ أَكْثَرُ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ لَمْ يَشْهَدُوا ذَلِكَ الْجَوَابَ . وَذَلِكَ الْجَوَابُ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْتِدَاءً لِتَعْلِيمِ جَمِيعِ النَّاسِ بَلْ { سَأَلَهُ سَائِلٌ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ : لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ : إلَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إلَّا هَذَا كَمَا أَنَّهُ فِي الْمَوَاقِيتِ لِمَ

يَسْمَعُ إلَّا ثَلَاثَ مَوَاقِيتَ قَوْلُهُ : { أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الحليفة وَأَهْلُ الشَّامِ الْجُحْفَةُ وَأَهْلُ نَجْدٍ قَرْنٌ } قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَذَكَرَ لِي - وَلَمْ أَسْمَعْ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ يلملم وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَهُ صَحِيحٌ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ يلملم وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الحليفة وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يلملم . وَقَالَ : هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ } فَكَانَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ الْعِلْمِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ . وَفِي حَدِيثِهِ ذِكْرُ أَرْبَعِ مَوَاقِيتَ وَذِكْرُ أَحْكَامِ النَّاسِ كُلِّهِمْ إذَا مَرُّوا عَلَيْهَا أَوْ أَحْرَمُوا مِنْ دُونِهَا . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَلِّغُ الدِّينَ بِحَسَبِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدْ أَسْلَمُوا وَأَسْلَمَ أَهْلُ نَجْدٍ وَأَسْلَمَ مَنْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ وَقَّتَ الثَّلَاثَ وَأَهْلُ الْيَمَنِ إنَّمَا أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَمْ يَرَ أَكْثَرُهُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانُوا مُخَضْرَمِينَ فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ أَفْئِدَةً الْإِيمَانُ يَمَانِيٌّ وَالْفِقْهُ يَمَانِيٌّ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ }

ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ أَطْرَافُ الْعِرَاقِ وَقَّتَ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ } كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ لَكِنْ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ فِيهِ : أَحْسَبُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَطَعَ بِهِ غَيْرُهُ . وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَكَانَ مَا سَمِعَهُ هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا سَمِعَهُ غَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ فِي تَرْخِيصِهِ فِي الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتِ يَقُولُ : السَّرَاوِيلَاتُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ : { مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ } . فَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيِّنٌ فِيهِ فِي عَرَفَاتٍ - وَهُوَ أَعْظَمُ مَجْمَعٍ كَانَ لَهُ - أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ . وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَطْعِ وَلَا فَتْقٍ وَأَكْثَرُ الْحَاضِرِينَ بِعَرَفَاتِ لَمْ يَشْهَدُوا خُطْبَتَهُ وَمَا سَمِعُوا أَمْرَهُ بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ بِعَرَفَاتِ لَمْ يَكُنْ شُرِعَ بَعْدُ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ بِالْمَدِينَةِ إنَّمَا أَرْخَصَ فِي لُبْسِ النَّعْلَيْنِ وَمَا يُشْبِهُهُمَا مِنْ الْمَقْطُوعِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ عَدِمَ مَا يُشَبِّهُ بِهِ الْخُفَّيْنِ يَلْبَسُ الْخُفَّ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ بِلَا فَتْقٍ . وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . الرَّابِعُ : أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْطُوعَ كَالنَّعْلَيْنِ يَجُوزُ لُبْسُهُمَا مُطْلَقًا وَلُبْسُ مَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ جُمْجُمٍ وَمَدَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَبِهِ كَانَ يُفْتِي جَدِّي أَبُو الْبَرَكَاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ لَمَّا حَجَّ . وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ الْمَقْطُوعَ لُبْسُهُ أَصْلٌ لَا بَدَلَ لَهُ فَيَجُوزُ لُبْسُهُ مُطْلَقًا . وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ مِنْهُ دُونَ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ أَنَّهُ بَدَلٌ . وَالثَّلَاثَةُ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي الْبَدَلِ وَهُوَ الْخُفُّ وَلُبْسِ السَّرَاوِيلَ فَمَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ إذَا عَدِمَ الْأَصْلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ . وَأَحْمَد فَهِمَ مِنْ النَّصِّ الْمُتَأَخِّرِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ الْبَدَلَانِ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْقَطْعِ الْمُتَقَدِّمِ . وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ . وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا فَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَبِسَ خُفًّا أَوْ سَرَاوِيلَ إذَا لَمْ يَفْتُقْهُ وَإِنْ عَدِمَ كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ .

وَزَادَ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ لِلْحَاجَةِ وَالْمُحْرِمُ إذَا احْتَاجَ إلَى مَحْظُورٍ فَعَلَهُ وَافْتَدَى . وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا : مَنْ لَبِسَ الْبَدَلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ كَمَا أَبَاحَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتِ وَلَمْ يَأْمُرْ مَعَهُ بِفِدْيَةِ وَلَا فَتْقٍ قَالُوا : وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ مَا يَسْتُرُونَ بِهِ عَوْرَاتِهِمْ وَمَا يَلْبَسُونَهُ فِي أَرْجُلِهِمْ فَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ عَامَّةٌ وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ الْعُمُومُ لَمْ يُحْظَرْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِيهِ فِدْيَةٌ بِخِلَافِ مَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِمَرَضِ أَوْ بَرْدٍ وَمِنْ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِعَارِضِ ؛ وَلِهَذَا أَرْخَصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ فِي اللِّبَاسِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ وَنَهَى الْمُحْرِمَةَ عَنْ النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا كَانَتْ مُحْتَاجَةً إلَى سَتْرِ بَدَنِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي سَتْرِهِ فِدْيَةٌ . وَكَذَلِكَ حَاجَةُ الرِّجَالِ إلَى السَّرَاوِيلِ وَالْخِفَافِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ وَالنِّعَالَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يَسْمَعْ إلَّا حَدِيثَ الْقَطْعِ أَخَذَ بِعُمُومِهِ فَكَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ بِقَطْعِ الْخِفَافِ حَتَّى أَخْبَرُوهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي لُبْسِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ : { لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ } أَخَذَ بِعُمُومِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَكَانَ يَأْمُرُ الْحَائِضَ أَنْ لَا تَنْفِرَ حَتَّى تَطُوفَ . وَكَذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى أَخْبَرُوهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْحُيَّضِ أَنْ يَنْفِرْنَ بِلَا وَدَاعٍ . وَتَنَاظَرَ فِي ذَلِكَ زَيْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَمَّا سَمِعَا نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ أَخْذًا بِالْعُمُومِ فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَنْعِ نِسَائِهِمْ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْهَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَيَنْزِعُ خُيُوطَ الْحَرِيرِ مِنْ الثَّوْبِ . وَغَيْرُهُمَا سَمِعَ الرُّخْصَةَ لِلْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِرْخَاصُ لِلنِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ فِي الْيَسِيرِ وَفِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاجَةٌ عَامَّةٌ .
وَهَكَذَا اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي النُّصُوصِ : يَسْمَعُ أَحَدُهُمْ النَّصَّ الْمُطْلَقَ فَيَأْخُذُ بِهِ وَلَا يَبْلُغُهُ مَا يَبْلُغُ مِثْلَهُ مِنْ تَقْيِيدِهِ وَتَخْصِيصِهِ وَاَللَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ فِي الْإِحْرَامِ وَلَا غَيْرِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ حَاجَةً عَامَّةً وَلَا أَمْرَ مَعَ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فِي الْحَاجَةِ الْعَامَّةِ أَنْ يُفْسِدَ الْإِنْسَانُ خُفَّهُ أَوْ سَرَاوِيلَهُ بِقَطْعِ أَوْ فَتْقٍ كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ سَمِعَ السُّنَّةَ الْمُتَأَخِّرَةَ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا لِيَصِيرَ الْمَقْطُوعُ كَالنَّعْلِ فَأَمَرَ بِالْقَطْعِ قَبْلَ أَنْ يُشْرَعَ الْبَدَلُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَجُوزُ لُبْسُهُ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا قَالَ : " لِمَنْ لَمْ يَجِدْ " لِأَنَّ الْقَطْعَ مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ إفْسَادٌ لِلْخُفِّ وَإِفْسَادُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ : مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَدِمَ الْخُفَّ فَلِهَذَا جُعِلَ بَدَلًا فِي هَذِهِ الْحَالِ لِأَجْلِ فَسَادِ الْمَالِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ

يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ } هَذِهِ رِوَايَةُ أَنَسٍ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ ؟ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ - قَالَ هَكَذَا - وَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ وَوَضَعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ } فَأَمَرَ بِالْبُصَاقِ فِي الثَّوْبِ إذَا تَعَذَّرَ لَا لِأَنَّ الْبُصَاقَ فِي الثَّوْبِ بَدَلٌ شَرْعِيٌّ لَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُلَوِّثُ الثَّوْبَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ . وَفِي الِاسْتِجْمَارِ أَمَرَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ لِأَنَّ التُّرَابَ لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ كَمَا يَتَمَكَّنُ بِالْحَجَرِ لَا لِأَنَّهُ بَدَلٌ شَرْعِيٌّ . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فَدَلَّتْ نُصُوصُهُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَوْسِعَةُ شَرِيعَتِهِ الْحَنِيفِيَّةِ وَأَنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ حَرَجٍ . وَكُلُّ قَوْلٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُهُ قَالَتْ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمَّةُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - عَلَى رَدِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانُوا لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَإِذَا رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ تَبَيَّنَ كَمَالُ دِينِهِ وَتَصْدِيقُ بَعْضِهِ لِبَعْضِ . وَأَنَّ مَنْ أَفْتَى مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِخِلَافِ ذَلِكَ - مَعَ اجْتِهَادِهِ وَتَقْوَاهُ لِلَّهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ - فَهُوَ مَأْجُورٌ فِي ذَلِكَ لَا إثْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ

كَانَ الَّذِي أَصَابَ الْحَقَّ فَيَعْرِفُهُ لَهُ أَجْرَانِ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ . وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ كَثِيرَ الْحَجِّ وَكَانَ يُفْتِي النَّاسَ فِي الْمَنَاسِكِ كَثِيرًا وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ قَدْ احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ وَإِلَى عِلْمِهِ وَدِينِهِ ؛ إذْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَاتَ قَبْلَهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِحَسَبِ مَا سَمِعَهُ وَفَهِمَهُ ؛ فَلِهَذَا يُوجَدُ فِي مَسَائِلِهِ أَقْوَالٌ فِيهَا ضِيقٌ لِوَرَعِهِ وَدِينِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَكَانَ قَدْ رَجَعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا : كَمَا رَجَعَ عَنْ أَمْرِ النِّسَاءِ بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ وَعَنْ الْحَائِضِ أَمَرَ أَنْ لَا تَنْفِرَ حَتَّى تُوَدِّعَ وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَكَانَ يَأْمُرُ الرِّجَالَ بِالْقَطْعِ إذْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ النَّاسِخُ . وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ يُبِيحُ لِلرِّجَالِ لُبْسَ الْخُفِّ بِلَا قَطْعٍ إذَا لَمْ يَجِدُوا النَّعْلَيْنِ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتِ . وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْهَى الْمُحْرِمَ مِنْ الطِّيبِ حَتَّى يَطُوفَ اتِّبَاعًا لِعُمَرِ . وَأَمَّا سَعْدُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فَبَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ تَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحَلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَأَخَذُوا بِذَلِكَ . وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ يَرَى إحْرَامَهُ قَدْ انْقَطَعَ فَلَمَّا مَاتَ ابْنُهُ كَفَّنَهُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ

كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ حَدِيثَ { الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْسِلُوهُ بِمَاءِ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } فَأَخَذَ بِذَلِكَ وَقَالَ : الْإِحْرَامُ بَاقٍ يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ إذَا مَاتَ مَا يَجْتَنِبُهُ غَيْرُهُ وَعَلَى ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ الشَّهِيدُ . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَغْسِيلِهِ ؟ فَقَالَ : غُسِّلَ عُمَرُ وَهُوَ شَهِيدٌ . وَالْأَكْثَرُونَ بَلَغَهُمْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَقَوْلُهُ : { زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا : اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ } وَالْحَدِيثُ فِي الصِّحَاحِ فَأَخَذُوا بِذَلِكَ فِي شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَثَّ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَعْقِدُ الْإِزَارَ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ . وَكَرِهَ ابْنُ عُمَرَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِدَ الرِّدَاءَ كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إذَا عَقَدَ عُقْدَةً صَارَ يُشْبِهُ الْقَمِيصَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ يَدَانِ . وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فَكَرِهُوهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ فَيُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ . وَأَمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فَلَا يُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ وَهَذَا أَقْرَبُ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَرَاهَةَ عَقْدِ الرِّدَاءِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُلْتَحَفُ وَلَا يَثْبُتُ بِالْعَادَةِ إلَّا بِالْعَقْدِ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ مِثْلُ الْخِلَالِ وَرَبْطِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حَقْوِهِ

وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَرْضُهُمْ لَيْسَتْ بَارِدَةً فَكَانُوا يَعْتَادُونَ لُبْسَ الْأُزُرِ وَالْأَرْدِيَةِ وَلُبْسُ السَّرَاوِيلِ قَلِيلٌ فِيهِمْ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ قَطُّ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَغَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْأُزُرِ وَالْأَرْدِيَةِ لَمْ يَكْفِهِمْ ذَلِكَ بَلْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْقَمِيصِ وَالْخِفَافِ وَالْفِرَاءِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : يُسْتَحَبُّ مَعَ الرِّدَاءِ الْإِزَارُ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْفَخِذَيْنِ . وَيُسْتَحَبُّ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلُ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَمَعَ الْقَمِيصِ لَا يَظْهَرُ تَقَاطِيعُ الْخَلْقِ وَالْقَمِيصُ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ يَسْتُرُ بِخِلَافِ الرِّدَاءِ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتُرُ تَقَاطِيعَ الْخَلْقِ . وَأَمَّا الرِّدَاءُ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَحِبُّهُ تَشَبُّهًا بِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَحِبُّهُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْمَعْرُوفَةَ لُبْسُهُ مَعَ الْإِزَارِ . وَمَنْ اعْتَادَ الرِّدَاءَ ثَبَّتَ عَلَى جَسَدِهِ بِعَطْفِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ وَإِذَا حَجَّ مَنْ لَمْ يَتَعَوَّدْ لُبْسَهُ وَكَانَ رِدَاؤُهُ صَغِيرًا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِعَقْدِهِ ؛ وَكَانَتْ حَاجَتُهُمْ إلَى عَقْدِهِ كَحَاجَةِ مَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ إلَى الْخُفَّيْنِ . فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى سَتْرِ الْبَدَنِ قَدْ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى سَتْرِ الْقَدَمَيْنِ ؛ وَالتَّحَفِّي فِي الْمَشْيِ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . وَأَمَّا إظْهَارُ بَدَنِهِ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالرِّيحِ وَالشَّمْسِ فَهَذَا يَضُرُّ غَالِبَ النَّاسِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِسَتْرِ ذَلِكَ

فَقَالَ : { لَا يُصَلِّيَنَّ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ } وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ حَافِيًا : فَعُلِمَ أَنَّ سَتْرَ هَذَا إلَى اللَّهِ أَحَبُّ مِنْ سَتْرِ الْقَدَمَيْنِ بِالنَّعْلَيْنِ ؛ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ رُخِّصَ فِيهِ فِي الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ فَلَأَنْ يُرَخَّصَ فِي هَذَا بِطْرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . فَإِنْ قِيلَ : فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَخَّصَ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِهِمَا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الرِّدَاءَ . قِيلَ : الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يَلْتَحِفَ بِذَلِكَ عَرْضًا مَعَ رَبْطِهِ وَعَقْدِ طَرَفَيْهِ فَيَكُونُ كَالرِّدَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّبْطُ فَإِنَّ طَرَفَيْ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَثْبُتُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ . وَكَذَلِكَ الْأَرْدِيَةُ الصِّغَارُ . فَمَا وَجَدَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ قَمِيصٍ وَمَا يُشْبِهُهُ كَالْجُبَّةِ ؛ وَمِنْ بُرْنُسٍ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ ثِيَابٍ مُقَطَّعَةٍ : أَمْكَنَهُ أَنْ يَرْتَدِيَ بِهَا إذَا رَبَطَهَا ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورًا ؛ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكْرُوهًا ؛ فَعِنْدَ الْحَاجَةِ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ كَمَا رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْهِمْيَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ وَيَعْقِدَ طَرَفَيْهِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالْعَقْدِ ؛ وَهُوَ إلَى سَتْرِ مَنْكِبَيْهِ أَحْوَجُ : فَرُخِّصَ لَهُ عَقْدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِلَا رَيْبٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ لَفْظًا عَامًّا يَتَنَاوَلُ عَقْدَ الرِّدَاءِ بَلْ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ فَقَالَ : { لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ

وَلَا الْخِفَافَ إلَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ } الْحَدِيثَ . فَنَهَى عَنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ وَهِيَ الْقَمِيصُ وَفِي مَعْنَاهُ الْجُبَّةُ وَأَشْبَاهُهَا ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَقَطْ ؛ بَلْ أَرَادَ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ وَنَبَّهَ عَلَى كُلِّ جِنْسٍ بِنَوْعِ مِنْهَا . وَذَكَرَ مَا احْتَاجَ الْمُخَاطَبُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ ؛ وَهُوَ مَا كَانُوا يَلْبَسُونَهُ غَالِبًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : مَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ قَبْلَ ذَلِكَ عَمَّنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ : { انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ ؛ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجِّك } . وَكَانَ هَذَا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ : فَعُلِمَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْجُبَّةِ كَانَ مَشْرُوعًا قَبْلَ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْهَا بِلَفْظِهَا فِي الْحَدِيثِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ : { وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ } وَفِي مُسْلِمٍ { وَوَجْهَهُ ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } فَنَهَاهُمْ عَنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُقَرِّبُوهُ طِيبًا ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحْرِمَ يُنْهَى عَنْ هَذَا وَهَذَا . وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ وَعَمَّا يُشْبِهُهُ فِي تَخْمِيرِ الرَّأْسِ ؛ فَذَكَرَ مَا يُخَمِّرُ الرَّأْسَ وَمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ كَالْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ ؛ وَمَا يُلْبَسُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَهُوَ الْبُرْنُسُ وَذَكَرَ مَا يُلْبَسُ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْ الْبَدَنِ

وَهُوَ السَّرَاوِيلُ وَالثِّيَابُ ؛ وَالتُّبَّانُ فِي مَعْنَاهُ . وَكَذَلِكَ مَا يُلْبَسُ فِي الرِّجْلَيْنِ وَهُوَ الْخُفُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الجرموق وَالْجَوْرَبَ فِي مَعْنَاهُ فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ الْمُحْرِمُ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ الَّذِي جَازَ لَا لُبْسُهُ فَإِنَّ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ أُمِرَ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ لَمْ يَخْتَصَّ الْحَجَرَ إلَّا لِأَنَّهُ كَانَ الْمَوْجُودَ غَالِبًا ؛ لَا لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ ؛ بَلْ الصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي جَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ بِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد لِنَهْيِهِ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرُّمَّةِ وَقَالَ : { إنَّهُمَا طَعَامُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } فَلَمَّا نَهَى عَنْ هَذَيْنِ تَعْلِيلًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْحَجَرِ وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ؛ هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِكَوْنِهِ كَانَ قُوتًا لِلنَّاسِ فَأَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ كَاَلَّذِينَ يَقْتَاتُونَ الرُّزَّ أَوْ الذُّرَةَ ؛ يُخْرِجُونَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَلَيْسَ نَهْيُهُ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرُّمَّةِ إذْنًا فِي الِاسْتِجْمَارِ بِكُلِّ شَيْءٍ بَلْ الِاسْتِجْمَارُ بِطَعَامِ الْآدَمِيِّينَ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ أَوْلَى بِالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْ

طَعَامِ الْجِنِّ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ الِاسْتِجْمَارَ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ طَعَامِ الْإِنْسِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَفْعَلُهُ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ . وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ الْخَمْسَةُ نَهَى عَنْهَا وَقَدْ سُئِلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ وَظَاهِرُ لَفْظِهِ أَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا سِوَاهَا ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ لَا عَمَّا لَا يَلْبَسُ ؛ فَلَوْ لَمْ يُفِدْ كَلَامُهُ الْإِذْنَ فِيمَا سِوَاهَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَ السَّائِلَ لَكِنْ كَانَ الْمَلْبُوسُ الْمُعْتَادُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ هَذِهِ الْخَمْسَةَ - وَالْقَوْمُ لَهُمْ عَقْلٌ وَفِقْهٌ - فَيَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقَمِيصِ وَهُوَ طَاقٌ وَاحِدٌ فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُبَطَّنَةِ ؛ وَعَنْ الْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ ؛ وَعَنْ الْفَرْوَةِ الَّتِي هِيَ كَالْقَمِيصِ ؛ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ : بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ فِيهَا مَا فِي الْقَمِيصِ وَزِيَادَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِيهَا مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْقَمِيصِ . وَكَذَلِكَ التُّبَّانُ أَبْلَغُ مِنْ السَّرَاوِيلِ وَالْعِمَامَةِ تُلْبَسُ فِي الْعَادَةِ فَوْقَ غَيْرِهَا : إمَّا قَلَنْسُوَةٌ أَوْ كلثة أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَإِذَا نَهَى عَنْ الْعِمَامَةِ الَّتِي لَا تُبَاشِرُ الرَّأْسَ فَنَهْيُهُ عَنْ الْقَلَنْسُوَةِ والكلثة وَنَحْوِهَا مِمَّا يُبَاشِرُ الرَّأْسَ : أَوْلَى ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى تَخْمِيرِ الرَّأْسِ وَالْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ . وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - حَدِيثِ الْمُبَاهَاةِ - : { إنَّهُ

يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَقُولُ : اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ ؟ } وَشَعَثُ الرَّأْسِ وَاغْبِرَارُهُ لَا يَكُونُ مَعَ تَخْمِيرِهِ ؛ فَإِنَّ الْمُخَمَّرَ لَا يُصِيبُهُ الْغُبَارُ وَلَا يُشَعَّثُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ يَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ مُتْعَةٍ بِذَلِكَ يُؤْمَرُ بِالْحَلْقِ فَلَا يُقَصِّرُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُعُودِ فِي ظِلٍّ أَوْ سَقْفٍ أَوْ خَيْمَةٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ ثَوْبٍ يُظَلَّلُ بِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الشَّعَثَ وَلَا الِاغْبِرَارَ وَلَيْسَ فِيهِ تَخْمِيرُ الرَّأْسِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ يَسْتَظِلُّ بِالْمَحْمَلِ ؛ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلرَّاكِبِ كَمَا تُلَازِمُهُ الْعِمَامَةُ لَكِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَمَنْ نَهَى عَنْهُ اعْتَبَرَ مُلَازَمَتَهُ لَهُ وَمَنْ رَخَّصَ فِيهِ اعْتَبَرَ انْفِصَالَهُ عَنْهُ . فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ الَّذِي لَا يُلَازِمُ فَهَذَا يُبَاحُ بِالْإِجْمَاعِ . وَالْمُتَّصِلُ الْمُلَازِمُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَمَنْ لَمْ يَلْحَظْ الْمَعَانِيَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَفْهَمُ تَنْبِيهَ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ ؛ كَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ قَوْلَهُ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } لَا يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ الضَّرْبِ . وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ دَاوُد ؛ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ بَلْ وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ لَكِنْ عُرِفَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهَذَا فَإِنْكَارُهُ مِنْ بِدَعِ الظَّاهِرِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ هَذَا وَهَذَا .

كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ - كَرَّرَهَا ثَلَاثًا - قَالُوا : مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } فَإِذَا كَانَ هَذَا بِمُجَرَّدِ الْخَوْفِ مِنْ بَوَائِقِهِ : فَكَيْفَ مَنْ فَعَلَ الْبَوَائِقَ مَعَ عَدَمِ أَمْنِ جَارِهِ مِنْهُ ؟ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَك قِيلَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَارَ لَا يَعْرِفُ هَذَا فِي الْعَادَةِ : فَهَذَا أَوْلَى بِسَلْبِ الْإِيمَانِ مِمَّنْ لَا تُؤْمَنُ بَوَائِقُهُ وَلَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ هَذَا . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ فَاَلَّذِينَ لَا يُحَكِّمُونَهُ وَيَرُدُّونَ حُكْمَهُ وَيَجِدُوا حَرَجًا مِمَّا قَضَى ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ غَيْرَهُ أَصَحُّ مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمِ سَدِيدٍ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَإِذَا كَانَ بِمُوَادَّةِ الْمُحَادِّ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَأَنْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إذَا حَادَّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَكَذَلِكَ إذَا نُهِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ لِأَنَّهُمَا طَعَامُ الْجِنِّ وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ : فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِطَعَامِ الْإِنْسِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ أَوْلَى

وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إذَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ مَعَ الْإِمْلَاقِ : فَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ الْغِنَى وَالْيَسَارِ أَوْلَى وَأَحْرَى . فَالتَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ . فَتَخْصِيصُ الْقَمِيصِ دُونَ الْجُبَاب ؛ وَالْعَمَائِمِ دُون الْقَلَانِسِ ؛ وَالسَّرَاوِيلَاتِ دُونَ التَّبَابِينِ : هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ لَا لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ فَقَدْ أُذِنَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِصَبِّ ذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ - مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ وَسَرَيَانِ ذَلِكَ لَكِنْ قَصَدَ بِهِ تَعْجِيلَ التَّطْهِيرِ - لَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَزُولُ بِغَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ الشَّمْسُ وَالرِّيحُ وَالِاسْتِحَالَةُ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوءًا كَامِلًا ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ بِلَا نِزَاعٍ وَلَوْ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ ثُمَّ فَعَلَ بِالْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ الْمَسْحُ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَالثَّانِيَةُ : لَا يَجُوزُ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . قَالَ هَؤُلَاءِ : لِأَنَّ الْوَاجِبَ ابْتِدَاءُ اللُّبْسِ عَلَى الطَّهَارَةِ ؛ فَلَوْ لَبِسَهُمَا وَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ فِيهِمَا : لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَسْحُ حَتَّى يَخْلَعَ مَا لَبِسَ قَبْلَ تَمَامِ طُهْرِهِمَا فَيَلْبَسُهُ بَعْدَهُ . وَكَذَلِكَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ قَالُوا : يَخْلَعُ الرِّجْلَ الْأُولَى ثُمَّ يُدْخِلُهَا فِي الْخُفِّ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { إنِّي أَدْخَلْت الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ } قَالُوا : وَهَذَا أَدْخَلَهُمَا وَلَيْسَتَا طَاهِرَتَيْنِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ . وَإِذَا جَازَ الْمَسْحُ لِمَنْ تَوَضَّأَ خَارِجًا ثُمَّ لَبِسَهُمَا فَلِأَنْ يَجُوزَ لِمَنْ تَوَضَّأَ فِيهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا وَاسْتَدَامَهَا فِيهِمَا وَذَلِكَ فِعْلُ الطَّهَارَةِ خَارِجًا عَنْهُمَا وَإِدْخَالُ هَذَا قَدَمَيْهِ الْخُفَّ مَعَ الْحَدَثِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ . وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالطَّهَارَةِ الْمَوْجُودَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ مَعَ الْحَدَثِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي أَدْخَلْتُهُمَا الْخُفَّ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ } حَقٌّ ؛ فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ لِجَوَازِ الْمَسْحِ فَكُلُّ مَنْ أَدْخَلَهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَلَهُ الْمَسْحُ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ : إنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَمْسَحْ لَكِنَّ دِلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالتَّعْلِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ حِكْمَةُ التَّخْصِيصِ : هَلْ بَعْضُ الْمَسْكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ إدْخَالِهِمَا طَاهِرَتَيْنِ هُوَ الْمُعْتَادُ ؛ وَلَيْسَ غَسْلُهُمَا فِي الْخُفَّيْنِ مُعْتَادًا ؛ وَإِلَّا فَإِذَا غَسَلَهُمَا

فِي الْخُفِّ فَهُوَ أَبْلَغُ ؛ وَإِلَّا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نَزْعِ الْخُفِّ ثُمَّ لُبْسِهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ شَيْءٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا عَبَثٌ مَحْضٌ يُنَزَّهُ الشَّارِعُ عَنْ الْأَمْرِ بِهِ ؟ وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ : أَدْخِلْ مَالِي وَأَهْلِي إلَى بَيْتِي - وَكَانَ فِي بَيْتِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ - هَلْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُخْرِجَهُ ثُمَّ يُدْخِلَهُ وَيُوسُفُ لَمَّا قَالَ لِأَهْلِهِ : { ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ مُوسَى : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرِ بَعْضُهُمْ أَوْ كَانَ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْضٌ ؛ أَوْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَدْ دَخَلَ الْحَرَمَ قَبْلَ ذَلِكَ : هَلْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُؤْمَرُونَ بِالْخُرُوجِ ثُمَّ الدُّخُولِ ؟ فَإِذَا قِيلَ : هَذَا لَمْ يَقَعْ . قِيلَ : وَكَذَلِكَ غَسْلُ الرَّجُلِ قَدَمَيْهِ فِي الْخُفِّ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الْعَادَةِ فَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ إذَا فَعَلَ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجٍ وَإِدْخَالٍ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ بَاب الْأَوْلَى .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا اسْتَجْمَرَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ اسْتَجْمَرَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ كَالرَّوْثِ وَالرُّمَّةِ وَبِالْيَمِينِ : هَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا اسْتَجْمَرَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَعَلَيْهِ تَكْمِيلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَمَّا إذَا اسْتَجْمَرَ بِالْعَظْمِ وَالْيَمِينِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا وَالْإِعَادَةُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا وَلَكِنْ قَدْ يُؤْمَرُ بِتَنْظِيفِ

الْعَظْمِ مِمَّا لَوَّثَهُ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْرٌ فَأُمِرَ بِإِتْلَافِهَا فَأَرَاقَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إتْلَافِهَا لَكِنْ هُوَ آثِمٌ بِتَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ فَيُؤْمَرُ بِتَطْهِيرِهِ بِخِلَافِ الِاسْتِجْمَارِ بِتَمَامِ الثَّلَاثِ فَإِنَّ فِيهِ فِعْلَ تَمَامِ الْمَأْمُورِ وَتَحْصِيلَ الْمَقْصُودِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْخُفِّ إذَا كَانَ فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ : هَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْخُفُّ إذَا كَانَ فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد قَالُوا : لِأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ الْقَدَمِ فَرْضُهُ الْغَسْلُ وَمَا اسْتَتَرَ فَرْضُهُ الْمَسْحُ وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ عَامَّةٌ وَلَفْظُ الْخُفِّ يَتَنَاوَلُ مَا فِيهِ مِنْ الْخَرْقُ وَمَا لَا خَرْقَ فِيهِ لَا سِيَّمَا وَالصَّحَابَةُ كَانَ فِيهِمْ فُقَرَاءُ كَثِيرُونَ وَكَانُوا يُسَافِرُونَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ خِفَافِهِمْ خُرُوقٌ وَالْمُسَافِرُونَ قَدْ يَتَخَرَّقُ خُفُّ أَحَدِهِمْ وَلَا

يُمْكِنُهُ إصْلَاحُهُ فِي السَّفَرِ فَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الرُّخْصَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَعْفُونَ عَنْ ظُهُورِ يَسِيرِ الْعَوْرَةِ وَعَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا : فَالْخَرْقُ الْيَسِيرُ فِي الْخُفِّ كَذَلِكَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ مَا ظَهَرَ فَرْضُهُ الْغَسْلُ : مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْمَاسِحَ عَلَى الْخُفِّ لَا يَسْتَوْعِبُهُ بِالْمَسْحِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ بَلْ يَمْسَحُ أَعْلَاهُ دُون أَسْفَلِهِ وَعَقِبَهُ وَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلِ فَمَسْحُ بَعْضِ الْخُفِّ كَافٍ عَمَّا يُحَاذِي الْمَمْسُوحَ وَمَا لَا يُحَاذِيهِ فَإِذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي الْعَقِبِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلَا مَسْحُهُ وَلَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ لَا يَجِبُ مَسْحُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ ظَهْرِ الْقَدَمِ وَ ( بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِمَّا جَاءَتْ السُّنَّةُ فِيهِ بِالرُّخْصَةِ حَتَّى جَاءَتْ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَوَارِبِ وَالْعَمَائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاقَضَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ التَّوْسِعَةِ بِالْحَرَجِ وَالتَّضْيِيقِ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ كَالْخُفِّ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكُونُ الْخَرْقُ الَّذِي فِيهِ الطَّعْنُ مَانِعًا مِنْ الْمَسْحِ فَقَدْ يَصِفُ بَشَرَةَ شَيْءٍ مِنْ مَحَلِّ

الْفَرْضِ ؟ وَإِذَا كَانَ فِي الْخُفِّ خَرْقٌ بِقَدْرِ النِّصْفِ أَوْ أَكْثَرَ هَلْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إذَا كَانَ يَمْشِي فِيهِمَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُجَلَّدَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ . فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . فَفِي السُّنَنِ : أَنَّ النَّبِيَّ { مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ وَنَعْلَيْهِ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ هَذَا مِنْ صُوفٍ وَهَذَا مِنْ جُلُودٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جُلُودًا أَوْ قُطْنًا أَوْ كَتَّانًا أَوْ صُوفًا كَمَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ سَوَادِ اللِّبَاسِ فِي الْإِحْرَامِ وَبَيَاضِهِ وَمَحْظُورِهِ وَمُبَاحِهِ وَغَايَتُهُ أَنَّ الْجِلْدَ أَبْقَى مِنْ الصُّوفِ : فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ كَمَا لَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِ الْجِلْدِ قَوِيًّا بَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا كَالْحَاجَةِ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا سَوَاءٌ وَمَعَ التَّسَاوِي فِي الْحِكْمَةِ وَالْحَاجَةِ يَكُونُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَهَذَا خِلَافُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَمَنْ فَرَّقَ بِكَوْنِ هَذَا يَنْفُذُ الْمَاءُ مِنْهُ وَهَذَا لَا يَنْفُذُ مِنْهُ : فَقَدْ ذَكَرَ فَرْقًا طَرْدِيًّا عَدِيمَ التَّأْثِيرِ .

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : يَصِلُ الْمَاءُ إلَى الصُّوفِ أَكْثَرَ مِنْ الْجِلْدِ فَيَكُونُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ أَوْلَى لِلُصُوقِ الطَّهُورِ بِهِ أَكْثَرَ : كَانَ هَذَا الْوَصْفُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَأَقْرَبَ إلَى الْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ . وَخُرُوقُ الطَّعْنِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحِ وَلَوْ لَمْ تَسْتُرْ الْجَوَارِبُ إلَّا بِالشَّدِّ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ الزربول الطَّوِيلُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَسْتُرُ إلَّا بِالشَّدِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
لَمَّا ذَهَبْت عَلَى الْبَرِيدِ وَجَدَّ بِنَا السَّيْرُ وَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ فَلَمْ يُمْكِنْ النَّزْعُ وَالْوُضُوءُ إلَّا بِانْقِطَاعِ عَنْ الرُّفْقَةِ أَوْ حَبْسِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُونَ بِالْوُقُوفِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّي عَدَمُ التَّوْقِيتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْجَبِيرَةِ وَنَزَّلْت حَدِيثَ عُمَرَ وَقَوْلَهُ : لعقبة بْنِ عَامِرٍ : { أَصَبْت السُّنَّةَ } عَلَيَّ هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الْآثَارِ ثُمَّ رَأَيْتُهُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي مَغَازِي ابْنِ عَائِدٍ أَنَّهُ كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَلَى الْبَرِيدِ كَمَا ذَهَبْت لَمَّا فُتِحَتْ دِمَشْقُ ذَهَبَ بَشِيرًا بِالْفَتْحِ مِنْ يَوْمِ الْجُمْعَةِ إلى يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مُنْذُ كَمْ لَمْ تَنْزِعْ خُفَّيْك ؟ فَقَالَ : مُنْذُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ قَالَ : أَصَبْت فَحَمِدْت اللَّهَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ .

وَهَذَا أَظُنُّهُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ : أَنَّهُ إذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِنَزْعِ الْخُفِّ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجَبِيرَةِ . وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ : أَنَّهُ إذَا خَافَ الضَّرَرَ بِالنَّزْعِ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَمْسَحْ . وَهَذَا كَالرِّوَايَتَيْنِ لَنَا إذَا كَانَ جُرْحُهُ بَارِزًا يُمْكِنُهُ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ دُونَ غَسْلِهِ فَهَلْ يَمْسَحُهُ أَوْ يَتَيَمَّمُ لَهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالصَّحِيحُ الْمَسْحُ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ طَهَارَةِ الْمَسْحِ بِالتُّرَابِ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلِ الْعُضْوِ فَعَلَيْهِ أَوْلَى . وَذَلِكَ أَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ طَهَارَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ وَطَهَارَةُ الْجَبِيرَةِ طَهَارَةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ فَمَاسِحُ الْخُفِّ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ وُقِّتَ لَهُ الْمَسْحُ وَمَاسِحُ الْجَبِيرَةِ لَمَّا كَانَ مُضْطَرًّا إلَى مَسْحِهَا لَمْ يُوَقَّتْ وَجَازَ فِي الْكُبْرَى فَالْخُفُّ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِنَزْعِهِ جَبِيرَةٌ . وَضَرَرُهُ يَكُونُ بِأَشْيَاءَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ثَلْجٍ وَبَرْدٍ عَظِيمٍ : إذَا نَزَعَهُ يَنَالُ رِجْلَيْهِ ضَرَرٌ أَوْ يَكُونُ الْمَاءُ بَارِدًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ غَسْلُهُمَا فَإِنْ نَزَعَهُمَا تَيَمَّمَ فَمَسْحُهُمَا خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ . أَوْ يَكُونُ خَائِفًا إذَا نَزَعَهُمَا وَتَوَضَّأَ : مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ انْقِطَاعٍ عَنْ الرُّفْقَةِ فِي مَكَانٍ لَا يُمْكِنُهُ السَّيْرُ وَحْدَهُ ؛ فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَهُ تَرْكُ طَهَارَةِ الْمَاءِ إلَى التَّيَمُّمِ ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ تَرْكُ طَهَارَةِ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ أَوْلَى . وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ وَمَعَهُ قَلِيلٌ يَكْفِي لِطَهَارَةِ الْمَسْحِ لَا لِطِهَارَةِ الْغَسْلِ فَإِنْ نَزَعَهُمَا تَيَمَّمَ فَالْمَسْحُ عَلَيْهِمَا خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ .

وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ { : يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } مَنْطُوقُهُ إبَاحَةُ الْمَسْحِ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ بَلْ يَكْفِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ كَالْمَنْطُوقِ فَإِذَا خَالَفَهُ فِي صُورَةٍ حَصَلَتْ الْمُخَالَفَةُ فَإِذَا كَانَ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يُبَاحُ مُطْلَقًا بَلْ يُحْظَرُ تَارَةً وَيُبَاحُ أُخْرَى حَصَلَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ وَهَذَا وَاضِحٌ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ نَافِعَةٌ جِدًّا . فَإِنَّهُ مَنْ بَاشَرَ الْأَسْفَارَ فِي الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا : رَأَى أَنَّهُ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ وَالْوُضُوءُ إلَّا بِضَرَرِ يُبَاحُ التَّيَمُّمُ بِدُونِهِ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعَدُوُّ بِإِزَائِهِ فَفَائِدَةُ النَّزْعِ الْوُضُوءُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فَحَيْثُ يَسْقُطُ الْوُضُوءُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ يَسْقُطُ النَّزْعُ وَقَدْ يَكُونُ الْوُضُوءُ وَاجِبًا لَوْ كَانَا بَارِزَتَيْنِ لَكِنْ مَعَ اسْتِتَارِهِمَا يَحْتَاجُ إلَى قَلْعِهِمَا وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ ثُمَّ لُبْسُهُمَا ثَانِيًا إذَا لَمْ تَتِمَّ مَصْلَحَتُهُ إلَّا بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَمَرَّ فَإِنَّ طَهَارَتَهُ بَاقِيَةٌ وَبِخِلَافِ مَا إذَا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا : فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَضُرُّهُ . فَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يتوقت إذَا كَانَ الْوُضُوءُ سَاقِطًا فَيَنْتَقِلُ إلَى التَّيَمُّمِ فَإِنَّ الْمَسْحَ الْمُسْتَمِرَّ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ وَإِذَا كَانَ فِي النَّزْعِ وَاللُّبْسِ ضَرَرٌ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ : فَلَأَنْ يُبِيحُ الْمَسْحَ أَوْلَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ قَلْعِ الْجَبِيرَةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ كَمَا أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الْغُسْلَ . لِأَنَّ الْجَبِيرَةَ كَالْجُزْءِ مِنْ الْعُضْوِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَسْحِ فَوْقَ الْعِصَابَةِ ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ خَافَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ مَسَحَتْ عَلَى خِمَارِهَا ؛ فَإِنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ خِمَارَهَا وَيَنْبَغِي أَنْ تَمْسَحَ مَعَ هَذَا بَعْضَ شَعْرِهَا وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .

بَابٌ نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ
سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
عَنْ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ ذَكَرِهِ قَيْحٌ لَا يَنْقَطِعُ : فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ مَعَ خُرُوجِ ذَلِكَ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْطِلَ الصَّلَاةَ بَلْ يُصَلِّي بِحَسَبِ إمْكَانِهِ . فَإِنْ لَمْ تَنْقَطِعْ النَّجَاسَةُ قَدْرَ مَا يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي : صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ بَعْدَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَإِنْ خَرَجَتْ النَّجَاسَةُ فِي الصَّلَاةِ لَكِنْ يَتَّخِذُ حِفَاظًا يَمْنَعُ مِنْ انْتِشَارِ النَّجَاسَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا إذَا تَوَضَّأَ وَقَامَ يُصَلِّي وَأَحَسَّ بِالنُّقْطَةِ فِي صَلَاتِهِ : فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ .

فَأَجَابَ : مُجَرَّدُ الْإِحْسَاسِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ؛ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَجِدْ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا } . وَأَمَّا إذَا تَيَقَّنَ خُرُوجَ الْبَوْلِ إلَى ظَاهِرِ الذَّكَرِ فَقَدْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَعَلَيْهِ الِاسْتِنْجَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ كُلَّمَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ يَحْدُثُ لَهُ رِيَاحٌ كَثِيرَةٌ ؛ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرَ ؛ إلَى حِينِ يَقْضِي الصَّلَاةَ يَزُولُ عَنْهُ الْعَارِضُ ؛ ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَيْهِ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا سَبَبُ ذَلِكَ ؟ : هَلْ هُوَ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ ؟ وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْوُضُوءِ وَمَا يَعْلَمُ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ صَاحِبِ الْأَعْذَارِ أَمْ لَا لِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يُعَاوِدُهُ إلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ؟ وَمَا تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ ؟ .

فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
نَعَمْ ، حُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْأَعْذَارِ : مِثْلِ الِاسْتِحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ ؛ وَالْمَذْيِ ؛ وَالْجُرْحِ الَّذِي لَا يَرْقَأُ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ حِفْظُ الطَّهَارَةِ مِقْدَارَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي وَلَا يَضُرُّهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَنْتَقِضُ وَضَوْءُهُ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَأَكْثَرُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَأَمْثَالُهُمَا مِثْلُ مَنْ بِهِ رِيحٌ يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ ؛ وَكُلُّ مَنْ بِهِ حَدَثٌ نَادِرٌ . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ ذَلِكَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِالْحَدَثِ الْمُعْتَادِ . وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ - كَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - يَقُولُونَ : إنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرَ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ .
وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ فِي الصَّلَاةِ دَائِمًا فَهَذَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ كَانَتْ تُصَلِّي وَالدَّمُ يَقْطُرُ مِنْهَا ؛ فَيُوضَعُ لَهَا طَسْتٌ يَقْطُرُ فِيهِ الدَّمُ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا . وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ .

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ - كَالْجُرْحِ وَالْفِصَادِ وَالْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ : فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : لَا يَنْقُضُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد : يَنْقُضُ . لَكِنَّ أَحْمَد يَقُولُ : إذَا كَانَ كَثِيرًا . وَتَنَازَعُوا فِي مَسِّ النِّسَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ : هَلْ يَنْقُضُ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَنْقُضُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : يَنْقُضُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسِّ لِشَهْوَةِ وَغَيْرِهَا . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ هَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ ؟ وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد ؛ وَعَنْهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَرِوَايَتَانِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ : هَلْ يَجِبُ أَمْ لَا ؟ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ : فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْقُضُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَنْقُضُ : فَهَلْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْأَظْهَرُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ : أَنَّهَا لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ . وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْهَا . فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَمَنْ تَوَضَّأَ مِنْهَا فَهُوَ أَفْضَلُ . وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَكِنْ كُلُّهُمْ يَأْمُرُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ مِنْ الدَّمِ أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ

الْمَحَلِّ فَهَذِهِ تَجِبُ إزَالَتُهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْأُمَّةِ وَمَعَ هَذَا إنْ كَانَ الْجُرْحُ لَا يَرْقَأُ مِثْلَ مَا أَصَابَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاتِّفَاقِهِمْ ؛ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ؛ أَوْ قِيلَ : لَا يَنْقُضُ سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ { : إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَكُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؛ بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِعُذْرِ ؛ حَتَّى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ وَأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا اسْتَحَبَّ النَّبِيُّ لِلْمُسْتَحَاضَةِ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِغُسْلِ وَاحِدٍ فَهَذَا لِلْمَعْذُورِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِطَهَارَةِ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ : جَازَ لَهُ الْجَمْعُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بِطَهَارَةِ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ الطَّهَارَةُ لِكُلِّ صَلَاةٍ تَزِيدُ فِي مَرَضِهِ . وَلَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ : إمَّا بِطَهَارَةِ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا بِالتَّيَمُّمِ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ إمَّا لِمَرَضِ وَإِمَّا لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا ؛ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ

الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا تَيَمَّمَ فِي السَّفَرِ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَمْ يُعِدْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا صَلَّى قَاعِدًا أَوْ صَلَّى عَلَى جَنْبٍ لَمْ يُعِدْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ : كَاَلَّذِي تَنْكَسِرُ بِهِ السَّفِينَةُ ؛ أَوْ يَأْخُذُ الْقُطَّاعُ ثِيَابَهُ : فَإِنَّهُ يُصَلِّي عريانا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ : لَا يُعِيدُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ أَخْطَأَ مَعَ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُعِدْ أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعِيدُ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ : هَلْ يُعِيدُ ؟ وَفِيمَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ : هَلْ يُعِيدُ ؟ وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَالصَّحِيحُ فِي جَمِيعِ هَذَا النَّوْعِ : أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ بَلْ يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ ؛ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَرَّتَيْنِ مُطْلَقًا بَلْ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ إذَا ذَكَرَ بِوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ : كَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ { قَالَ :

مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا جَعَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَرَجٍ فِي دِينِهِمْ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ بِهِمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمْ الْعُسْرَ . وَمَسْأَلَةُ هَذَا السَّائِلِ أَوْلَى بِالرُّخْصَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي الْخَمْسَ لَا يَقْطَعُهَا وَلَمْ يَحْضُرْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ ؛ وَذَكَرَ أَنَّ عَدَمَ حُضُورِهِ لَهَا أَنَّهُ يَجِدُ رِيحًا فِي جَوْفِهِ تَمْنَعُهُ عَنْ انْتِظَارِ الْجُمْعَةِ وَبَيْنَ مَنْزِلِهِ وَالْمَكَانِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمْعَةُ قَدْرُ مِيلَيْنِ أَوْ دُونَهُمَا : فَهَلْ الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ كَافٍ فِي تَرْكِ الْجُمْعَةِ مَعَ قُرْبِ مَنْزِلِهِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمْعَةَ ؛ وَيَتَأَخَّرَ بِحَيْثُ يَحْضُرُ وَيُصَلِّي مَعَ بَقَاءِ وُضُوئِهِ . وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْحُضُورُ إلَّا مَعَ خُرُوجِ الرِّيحِ فَلْيَشْهَدْهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ بِهِ قُرُوحٌ فِي بَعْضِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَيَخْرُجُ مِنْ تِلْكَ الْقُرُوحِ قَيْحٌ يَنْتَشِرُ عَلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقُرُوحِ ؛ وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ ذَلِكَ إلَّا إذَا أَزَالَهُ عَنْ الْقُرُوحِ أَيْضًا وَهُوَ يَجِدُ الْمَشَقَّةَ فِي إزَالَتِهَا ؛ وَالْأَطِبَّاءُ لَا يَرَوْنَ فِي إزَالَتِهَا مَضَرَّةً عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْقُرُوحِ ؛ غَيْرَ أَنَّهُ هُوَ يَجِدُ الْأَلَمَ وَالْمَشَقَّةَ فِي إزَالَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَكْرَارِ الْوُضُوءِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إزَالَةُ ذَلِكَ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى مَا تَسَتَّرَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ بَعْدَ تِلْكَ الْقُرُوحِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَتْ إزَالَتُهُ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ أَوْ تَأَخُّرَ الْبُرْءِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذَا وَلَا هَذَا أَزَالَهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ جِنْسِ الْوَسَخِ الَّذِي عَلَى الْعَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَرَى أَنَّ الْقَيْءَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ { قَاءَ مَرَّةً وَتَوَضَّأَ } وَرَوَى حَدِيثًا آخَرَ : { أَنَّهُ قَاءَ مَرَّةً فَغَسَلَ فَمَهُ وَقَالَ : هَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ الْقَيْءِ } فَهَلْ يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَمْ الثَّانِي ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَمَا سَمِعْت بِهِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ فِي السُّنَنِ لَكِنْ لَفْظُهُ : { أَنَّهُ قَاءَ فَأَفْطَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لثوبان فَقَالَ : صَدَقَ أَنَا صَبَبْت لَهُ وَضُوءَهُ } . وَلَفْظُ الْوُضُوءِ لَمْ يَجِئْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ إلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ وَلَمْ يَرِدْ لَفْظُ الْوُضُوءِ بِمَعْنَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْفَمِ إلَّا فِي لُغَةِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ { أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ : إنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ فَقَالَ ؛ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ عَنْ الرُّعَافِ :
هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : إذَا تَوَضَّأَ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ النَّوْمُ جَالِسًا أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ جَالِسًا مُحْتَبِيًا بِيَدَيْهِ فَنَعَسَ وَانْفَلَتَتْ حَبْوَتُهُ وَسَقَطْت يَدُهُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَالَ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا النَّوْمُ الْيَسِيرُ مِنْ الْمُتَمَكِّنِ بِمَقْعَدَتِهِ فَهَذَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ النَّوْمَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِحَدَثِ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ مَظِنَّةُ الْحَدَثِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ : { الْعَيْنُ وِكَاءُ السه فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ } وَفِي

رِوَايَةٍ : { فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ } . وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : أَنَّ النَّبِيَّ { كَانَ يَنَامُ حَتَّى يَنْفُخَ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ } لِأَنَّهُ كَانَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ فَكَانَ يَقْظَانَ . فَلَوْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ لَشَعَرَ بِهِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثِ فِي نَفْسِهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ حَدَثًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ النَّبِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحْدَاثِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ النَّبِيَّ { كَانَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ يَخْفُقُونَ بِرُءُوسِهِمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ جِنْسَ النَّوْمِ لَيْسَ بِنَاقِضِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ نَاقِضًا لَانْتَقَضَ بِهَذَا النَّوْمِ الَّذِي تَخْفُقُ فِيهِ رُءُوسُهُمْ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : يَنْقُضُ مَا سِوَى نَوْمِ الْقَاعِدِ مُطْلَقًا . كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . وَقِيلَ : لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَيَنْقُضُ نَوْمُ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ ؛

لِأَنَّ الْقَائِمَ وَالْقَاعِدَ لَا يَنْفَرِجُ فِيهِمَا مَخْرَجُ الْحَدَثِ كَمَا يَنْفَرِجُ مِنْ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ . وَقِيلَ : لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ بِخِلَافِ الْمُضْطَجِعِ وَغَيْرِهِ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ . لَكِنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد التَّقْيِيدُ بِالنَّوْمِ الْيَسِيرِ . وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ : حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ : { لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا لَكِنْ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا } فَإِنَّهُ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ فَيَخْرُجُ الْحَدَثُ بِخِلَافِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ مُتَمَاسِكَةٌ غَيْرُ مُسْتَرْخِيَةٍ فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي خُرُوجَ الْخَارِجِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ يَسِيرًا فِي الْعَادَةِ ؛ إذْ لَوْ اسْتَثْقَلَ لَسَقَطَ . وَالْقَاعِدُ إذَا سَقَطَتْ يَدَاهُ إلَى الْأَرْضِ فِيهِ قَوْلَانِ . وَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ إذَا شَكَّ الْمُتَوَضِّئُ : هَلْ نَوْمُهُ مِمَّا يَنْقُضُ أَوْ لَيْسَ مِمَّا يَنْقُضُ ؟ فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينِ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
هَلْ لَمْسُ كُلِّ ذَكَرٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْحَيَوَانِ ؟ وَهَلْ بَاطِنُ الْكَفِّ هُوَ مَا دُونَ بَاطِنِ الْأَصَابِعِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَمْسُ فَرْجِ الْحَيَوَانِ غَيْرُ الْإِنْسَانِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَيْنِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي مَسِّ فَرْجِ الْإِنْسَانِ خَاصَّةً . وَبَطْنُ الْكَفِّ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِنَ كُلَّهُ بَطْنَ الرَّاحَةِ وَالْأَصَابِعِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَنْقُضُ بِحَالِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ وَقَعَتْ يَدُهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ وَأَصَابِعِهِ عَلَى ذَكَرِهِ : فَهَلْ يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا قَبَّلَ زَوْجَتَهُ أَوْ ضَمَّهَا فَأَمْذَى : هَلْ يَلْزَمُهُ وُضُوءٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : أَمَّا الْوُضُوءُ فَيَنْتَقِضُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْوُضُوءُ لَكِنْ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ لَمْسِ النِّسَاءِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ النِّسَاءِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : طَرَفَانِ وَوَسَطٌ . أَضْعَفُهَا : أَنَّهُ يَنْقُضُ اللَّمْسُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةِ إذَا كَانَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةً لِلشَّهْوَةِ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى : أَوْ لَمَسْتُمْ .

الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّمْسَ لَا يَنْقُضُ بِحَالِ وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةِ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يَذْكُرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ : أَنَّ اللَّمْسَ إنْ كَانَ لِشَهْوَةِ نَقَضَ وَإِلَّا فَلَا . وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ إلَّا هَذَا الْقَوْلُ أَوْ الَّذِي قَبْلَهُ . فَأَمَّا تَعْلِيقُ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَخِلَافُ الْآثَارِ . وَلَيْسَ مَعَ قَائِلِهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ . فَإِنْ كَانَ اللَّمْسُ فِي قَوْله تَعَالَى أَوْ لَمَسْتُمْ النِّسَاءَ إذَا أُرِيدَ بِهِ اللَّمْسُ بِالْيَدِ وَالْقُبْلَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ - : فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيْثُ ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ لِشَهْوَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الِاعْتِكَافِ : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَمُبَاشَرَةُ الْمُعْتَكِفِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ لِشَهْوَةِ . وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ - الَّذِي هُوَ أَشَدُّ - لَوْ بَاشَرَ الْمَرْأَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِهِ دَمٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } وَقَوْلُهُ : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } فَإِنَّهُ لَوْ مَسَّهَا مَسِيسًا خَالِيًا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَجِبْ بِهِ عِدَّةٌ وَلَا يَسْتَقِرُّ بِهِ مَهْرٌ ؛ وَلَا تَنْتَشِرُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ : بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِ مَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةِ

وَلَمْ يَخْلُ بِهَا وَلَمْ يَطَأْهَا : فَفِي اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ : أَوْ لَمَسْتُمْ النِّسَاءَ يَتَنَاوَلُ اللَّمْسَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ بَلْ وَعَنْ لُغَةِ النَّاسِ فِي عُرْفِهِمْ فَإِنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْمَسُّ الَّذِي يُقْرَنُ فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَسُّ الشَّهْوَةِ كَمَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْوَطْءُ الْمَقْرُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ الْوَطْءُ بِالْفَرْجِ لَا بِالْقَدَمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ : إنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِلَمْسِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ بِصِنْفِ مِنْ النِّسَاءِ وَهُوَ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ . فَأَمَّا مَسُّ مَنْ لَا يَكُونُ مَظِنَّةً - كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالصَّغِيرَةِ - فَلَا يُنْقَضُ بِهَا . فَقَدْ تَرَكَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ وَاشْتَرَطَ شَرْطًا لَا أَصْلَ لَهُ بِنَصِّ وَلَا قِيَاسٍ ؛ فَإِنَّ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ اللَّمْسِ لِشَهْوَةِ وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ أَوْ لَا يَكُونَ وَهَذَا هُوَ الْمَسُّ الْمُؤَثِّرُ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا ؛ كَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَلَا الْقِيَاسُ : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ . وَأَمَّا مَنْ عَلَّقَ النَّقْضَ بِالشَّهْوَةِ فَالظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ دَلِيلٌ

لَهُ ؛ وَقِيَاسُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ . وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّمْسَ نَاقِضًا بِحَالِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اللَّمْسَ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَفِي السُّنَنِ : أَنَّ النَّبِيَّ { قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ؛ } لَكِنْ تُكُلِّمَ فِيهِ . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَسَّ النَّاسِ نِسَاءَهُمْ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَمَسُّ امْرَأَتَهُ ؛ فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَكَانَ النَّبِيُّ بَيَّنَهُ لِأُمَّتِهِ ؛ وَلَكَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ يَدِهِ لِامْرَأَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ : فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بَاطِلٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مَسِّ النِّسَاءِ : هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ بِحَالِ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ شَهْوَةٌ نَقَضَ وَإِلَّا فَلَا . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَالثَّالِثُ : يَنْقُضُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةِ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ كَالْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ قَوْلُ مَالِكٍ . وَالصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَحَدُ قَوْلَيْنِ ؛ إمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ عَدَمُ النَّقْضِ مُطْلَقًا ؛ وَإِمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ النَّقْضُ إذَا كَانَ بِشَهْوَةِ . وَأَمَّا وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مُجَرَّدِ مَسِّ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا رَوَى أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْ ذَلِكَ ؛ مَعَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ غَالِبٌ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ فِيهِ أَحَدٌ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يُنَاوِلُ امْرَأَتَهُ شَيْئًا وَتَأْخُذُهُ بِيَدِهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ ابْتِلَاءُ النَّاسِ بِهِ فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبًا لَكَانَ النَّبِيُّ يَأْمُرُ بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَيَشِيعُ ذَلِكَ وَلَوْ فَعَلَ لَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَوْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ - عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ

وَأَيْضًا فَلَوْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لَكَانُوا يَنْقُلُونَهُ وَيَأْمُرُونَ بِهِ . وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مُجَرَّدِ الْمَسِّ الْعَارِي عَنْ شَهْوَةٍ بَلْ تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ : الْجِمَاعُ وَيَقُولُونَ : اللَّهُ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا يَشَاءُ عَمَّا شَاءَ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . وَقَدْ تَنَازَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَالْعَرَبُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْمَوَالِي هَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ أَوْ مَا دُونَهُ ؟ فَقَالَتْ الْعَرَبُ : هُوَ الْجِمَاعُ . وَقَالَتْ : الْمَوَالِي هُوَ مَا دُونَهُ . وَتَحَاكَمُوا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَصَوَّبَ الْعَرَبَ وَخَطَّأَ الْمَوَالِيَ . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَمَسُّهَا بِيَدِهِ مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ؛ لِكَوْنِهِمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ ؛ فَيَتَأَوَّلَانِ الْآيَةَ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ . وَلَكِنْ قَدْ صُرِّحَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْجُنُبَ يَتَيَمَّمُ . وَقَدْ نَاظَرَ أَبُو مُوسَى ابْنَ مَسْعُودٍ بِالْآيَةِ فَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِشَيْءِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَدَمِ اسْتِحْضَارِهِ لِمُوجَبِ الْآيَةِ .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْأَكَابِرَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ لَوْ كَانُوا يَتَوَضَّؤُونَ مَنْ مَسِّ نِسَائِهِمْ مُطْلَقًا ؛ وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ : لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ بَعْضُ الصِّغَارِ ؛ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ فَإِذَا لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ صَاحِبٌ وَلَا تَابِعٌ : كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْقَوْمُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَالْآيَةُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْجِمَاعَ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْجِمَاعِ فَيُقَالُ : حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مَسَّ النِّسَاءِ وَمُبَاشَرَتَهُنَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَلَا يُرِيدُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ وَأَمَّا اللَّمْسُ الْعَارِي عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُعَلِّقُ اللَّهُ بِهِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ أَصْلًا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فَنَهَى الْعَاكِفَ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَوْ مَسَّ امْرَأَتَهُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ { : أَنَّهُ كَانَ يُدْنِي رَأْسَهُ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَتُرَجِّلُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ مَسِّهِ لَهَا وَمَسِّهَا لَهُ . وَأَيْضًا فَالْإِحْرَامُ أَشَدُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ وَلَوْ مَسَّتْهُ الْمَرْأَةُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَمٌ . وَهَذَا الْوَجْهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ ظَاهِرِ الْخِطَابِ ؛ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَالِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى

فِي الْقُرْآنِ بِذِكْرِ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلنِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لَا يَتَنَاوَلُ مَا تَجَرَّدَ عَنْ شَهْوَةٍ أَصْلًا وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْمُسْلِمُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ وَالنِّزَاعُ فِيهَا مُتَأَخِّرٌ ؛ فَيَكُونُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ قَاضِيًا عَلَى مَا تَنَازَعَ فِيهِ مُتَأَخِّرُوهُمْ . وَأَمَّا طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ اللَّمْسَ الْمُجَرَّدَ لَمْ يُعَلِّقْ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا جَعَلَهُ مُوجِبًا لِأَمْرِ وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي عِبَادَةٍ وَلَا اعْتِكَافٍ وَلَا إحْرَامٍ ؛ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ ؛ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا جَعَلَهُ يَنْشُرُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ؛ وَلَا يُثْبِتُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ بَلْ هَذَا فِي الشَّرْعِ كَمَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْ وَرَاءِ ثَوْبِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسِّ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ سَبَبًا لِإِيجَابِ شَيْءٍ وَلَا تَحْرِيمِ شَيْءٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إيجَابُ الْوُضُوءِ بِهَذَا مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْتَقِرَّةِ مُخَالِفًا لِلْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَكَانَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ؛ بَلْ الْمَعْلُومُ مِنْ السُّنَّةِ مُخَالَفَتُهُ بَلْ هَذَا أَضْعَفُ مِمَّنْ جَعَلَ الْمَنِيَّ نَجِسًا فَإِنَّ الْقَوْلَ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ ضَعِيفٌ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ بَدَنَهُ أَوْ ثِيَابَهُ مِنْ الْمَنِيِّ مَعَ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُصِيبُ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ ؛ وَقَدْ أَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَغْسِلَ مَا أَصَابَ ثَوْبَهَا مِنْ الدَّمِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِإِصَابَةِ الْمَنِيِّ لِلرِّجَالِ ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ بَلْ كَانَ يَغْسِلُ وَيَمْسَحُ تَقَذُّرًا

كَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَارَةً تَغْسِلُهُ وَتَارَةً تَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِهِ . وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولَانِ : أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَكَانَتْ عَمْرَةُ تَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِهِ فَإِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِ نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ فَهَذَا نِزَاعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالسُّنَّةُ تَفْصِلُ بَيْنَهُمْ . فَإِذَا كَانَتْ نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ ضَعِيفَةً فِي السُّنَّةِ لِكَوْنِ النَّبِيِّ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ لَكِنَّ هَذَا أَضْعَفُ لِكَوْنِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَحْكِ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُجَرَّدَ اللَّمْسِ الْعَارِي عَنْ الشَّهْوَةِ نَاقِضًا وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي اللَّمْسِ الْمُعْتَادِ لِلشَّهْوَةِ كَالْقُبْلَةِ وَالْغَمْزِ بِالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ جِنْسِ اللَّمْسِ كَمَسِّ النِّسَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ إنْ لَمْ يُعَلَّلْ بِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ فَأَمَّا إذَا عُلِّلَ بِتَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ كَانَ مُنَاسِبًا لِلْأُصُولِ وَهُنَا لِلْفُقَهَاءِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ خُرُوجِ النَّاقِضِ فَأُقِيمَتْ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ . وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْمَظِنَّةَ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ إذَا كَانَتْ الْحِكْمَةُ خَفِيَّةً وَكَانَتْ الْمَظِنَّةُ تُفْضِي إلَيْهَا غَالِبًا ؛ وَكِلَاهُمَا مَعْدُومٌ ؛ فَإِنَّ الْخَارِجَ لَوْ خَرَجَ لَعَلِمَ بِهِ الرَّجُلُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَسَّ الذَّكَرِ لَا يُوجِبُ خُرُوجَ شَيْءٍ فِي الْعَادَةِ أَصْلًا ؛ فَإِنَّ الْمَنِيَّ إنَّمَا يَخْرُجُ بِالِاسْتِمْنَاءِ

وَذَلِكَ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَالْمَذْيُ يَخْرُجُ عَقِيبَ تَفَكُّرٍ وَنَظَرٍ وَمَسِّ الْمَرْأَةِ لَا الذَّكَرِ ؛ فَإِذَا كَانُوا لَا يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ بِالنَّظَرِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ إفْضَاءً إلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ : فَبِمَسِّ الذَّكَرِ أَوْلَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : اللَّمْسُ سَبَبُ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ كَمَا فِي مَسِّ الْمَرْأَةِ وَتَحْرِيكُ الشَّهْوَةِ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ كَمَا يُتَوَضَّأُ مِنْ الْغَضَبِ وَأَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يُطْفَأُ بِالْوُضُوءِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّمَا يَتَوَضَّأُ إذَا انْتَشَرَ انْتِشَارًا شَدِيدًا . وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ : يَتَوَضَّأُ إذَا انْتَشَرَ لَكِنَّ هَذَا الْوُضُوءَ مِنْ اللَّمْسِ : هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ ؛ فَإِنَّ مَسْأَلَةَ الذَّكَرِ لَهَا مَوْضِعٌ أُخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا مَسْأَلَةُ مَسِّ النِّسَاءِ . وَالْأَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ وَهَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ بِحَمْلِ الْأَمْرِ بِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لَيْسَ فِيهِ نَسْخُ قَوْلِهِ : { وَهَلْ هُوَ إلَّا بَضْعَةٌ مِنْك ؟ } وَحَمْلُ الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْلَى مِنْ النَّسْخِ . وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي

مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ أَمْرِهِ وَبَيْنَ تَرْكِهِ . فَأَمَّا النَّسْخُ فَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بَلْ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ . وَكَذَلِكَ خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ كَالْوُضُوءِ مِنْ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَالْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَالْجِرَاحِ : مُسْتَحَبٌّ كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ تَوَضَّئُوا مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِنْ الْقَهْقَهَةِ مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ فِي أَمْرِ الَّذِينَ قَهْقَهُوا بِالْوُضُوءِ : وَجْهُهُ أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا بِالضَّحِكِ وَمُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلَّا غَفَرَ لَهُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ يَمَسُّ الْمَرْأَةَ : هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَسِّ فَحَسَنٌ وَإِنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : (*)
إذَا مَسَّ يَدَ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ : فَهَلْ هُوَ مَنْ جِنْسِ النِّسَاءِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ ؟ وَمَا جَاءَ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ ؟ وَهَلْ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ لِلشَّرِيعَةِ : إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ وَإِذَا قَالَ لَهُمْ : أَحَدٌ هَذَا النَّظَرُ حَرَامٌ يَقُولُ : أَنَا إذَا نَظَرْت إلَى هَذَا أَقُولُ : سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَهُ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَمَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ يُفْسِدُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَفْسُدُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ : كَالصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ

كَمَا يُوجِبُهُ هَذَا فَتَكُونُ مُقَدِّمَاتُ هَذَا فِي بَاب الْعِبَادَاتِ كَمُقَدِّمَاتِ هَذَا . فَلَوْ مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا لَوْ مَسَّ أَجْنَبِيَّةً لِشَهْوَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّهُ لِشَهْوَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ . وَاَلَّذِي لَمْ يَنْقُضْ الْوُضُوءَ بِمَسِّهِ يَقُولُ : إنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لِذَلِكَ وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ اللُّوطِيَّةَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي بَابِ الْوَطْءِ ؛ فَإِنْ وَطِئَ فِي الدُّبُرِ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ الدُّبُرُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِلْوَطْءِ مَعَ أَنَّ نُفْرَةَ الطِّبَاعِ عَنْ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ أَعْظَمُ مَنْ نُفْرَتِهَا عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِالْمَسِّ يُرَاعَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ لِشَهْوَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ : كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا كَمَا يُرَاعَى مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَحَيْثُ وُجِدَ اللَّمْسُ لِشَهْوَةِ تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ حَتَّى لَوْ مَسَّ أُمَّهُ وَأُخْتَه وَبِنْتَه لِشَهْوَةِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ : فَكَذَلِكَ الْأَمْرَدُ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ فَيَعْتَبِرُ الْمَظِنَّةَ وَهُوَ : أَنَّ النِّسَاءَ مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ بِشَهْوَةِ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ لَمْسُ الْمَحَارِمِ لَكِنْ لَوْ لَمَسَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لِشَهْوَةِ فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ .

وَالتَّلَذُّذُ بِمَسِّ الْأَمْرَدِ كَمُصَافَحَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِمَسِّ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ التَّلَذُّذِ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ اللُّوطِيِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَيَجِبُ قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ وَقَتْلُهُ بِالرَّجْمِ كَمَا قَتَلَ اللَّهُ قَوْمَ لُوطٍ بِالرَّجْمِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ فِي قَتْلِ الزَّانِي : أَنَّهُ يُرْجَمُ فَرَجَمَ النَّبِيُّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ والغامدية واليهوديين ؛ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا أنيسا وَقَالَ : { اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا . وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ لِشَهْوَةِ كَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالشَّهْوَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهْوَةُ شَهْوَةَ الْوَطْءِ أَوْ شَهْوَةَ التَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ فَلَوْ نَظَرَ إلَى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا كَمَا يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ : كَانَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ فَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ كَقَوْلِهِ : إنَّ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ النِّسَاءِ أَوْ النَّظَرِ إلَى وُجُوهِ مَحَارِمِ الرَّجُلِ - كَبِنْتِ الرَّجُلِ

وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ - عِبَادَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ هَذَا النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ عِبَادَةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْفَوَاحِشَ عِبَادَةً قَالَ تَعَالَى { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي صُوَرِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالدِّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ مَنْ جِنْسِ مَا فِي صُورَةِ الْمُرْدِ : فَهَلْ يَقُولُ مُسْلِمٌ : إنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ بِهَذَا الْوَجْهِ إلَى صُوَرِ نِسَاءِ الْعَالَمِ وَصُوَرِ مَحَارِمِهِ وَيَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ ؟ بَلْ مَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا النَّظَرَ عِبَادَةً فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ إعَانَةَ طَالِبِ الْفَوَاحِشِ عِبَادَةً ؛ أَوْ جَعَلَ تَنَاوُلَ يَسِيرِ الْخَمْرِ عِبَادَةً ؛ أَوْ جَعَلَ السُّكْرَ بِالْحَشِيشَةِ عِبَادَةً . فَمَنْ جَعَلَ الْمُعَاوَنَةَ عَلَى الْفَاحِشَةِ بِقِيَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ تَحْرِيمَهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِبَادَةً : فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَهُوَ مُضَاهٍ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَفَاحِشَةُ أُولَئِكَ إنَّمَا كَانَتْ طَوَافَهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا يَقُولُونَ : لَا نَطُوفُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً عَلَى وَجْهِ اجْتِنَابِ ثِيَابِ الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُمْ مَا ذُكِرَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُ جِنْسَ الْفَاحِشَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّهْوَةِ عِبَادَةً ؟

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَهُوَ نَوْعَانِ : غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ الْعَوْرَةِ وَغَضُّهَا عَنْ مَحَلِّ الشَّهْوَةِ . فَالْأَوَّلُ كَغَضِّ الرَّجُلِ بَصَرَهُ عَنْ عَوْرَةِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ { : لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ } وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ { لمعاوية بْنِ حَيْدَةَ : احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا مَعَ قَوْمِهِ ؟ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } . وَيَجُوزُ أَنْ يَكْشِفَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ كَمَا يَكْشِفُ عِنْدَ التَّخَلِّي وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَسَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ بِجَنْبِ مَا يَسْتُرُهُ فَلَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ عريانا كَمَا اغْتَسَلَ مُوسَى عريانا وَأَيُّوبُ وَكَمَا فِي اغْتِسَالِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَاغْتِسَالِهِ فِي حَدِيث مَيْمُونَةَ . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ النَّظَرِ : كَالنَّظَرِ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَهَذَا أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أَشَدُّ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَعَلَى صَاحِبِهَا الْحَدُّ . وَتِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إذَا تَنَاوَلَهَا غَيْرُ مُسْتَحِلٍّ لَهَا كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ كَمَا تَشْتَهِي الْخَمْرَ وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ لَا يُشْتَهَى كَمَا يُشْتَهَى النَّظَرُ إلَى

النِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ ؛ وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِشَهْوَةِ وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ يُسَبَّحُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَخْلُوقَاتِهِ كُلِّهَا وَلَيْسَ خَلْقُ الْأَمْرَدِ بِأَعْجَبَ فِي قُدْرَتِهِ مَنْ خَلْقِ ذِي اللِّحْيَةِ وَلَا خَلْقُ النِّسَاءِ بِأَعْجَبَ فِي قُدْرَتِهِ مَنْ خَلْقِ الرِّجَالِ ؛ بَلْ تَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ التَّسْبِيحَ بِحَالِ نَظَرِهِ إلَى الْأَمْرَدِ دُونَ غَيْرِهِ : كَتَخْصِيصِهِ التَّسْبِيحَ بِنَظَرِهِ إلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ وَمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ عِنْدَهُ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْجَمَالَ يُغَيِّرُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ وَقَدْ يُذْهِلُهُ مَا رَآهُ فَيَكُونُ تَسْبِيحُهُ بِمَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْهَوَى . كَمَا أَنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ { أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } وَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ وَالْأَمْوَالِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ : فَكَيْفَ يُفَضَّلُ الشَّخْصُ بِمَا لَمْ يُفَضِّلْهُ اللَّهُ بِهِ ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ

هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تُعْجِبُ النَّاظِرَ أَجْسَامُهُمْ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبَهَاءِ وَالرِّوَاءِ وَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ - وَلَيْسُوا مِمَّنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ - قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ : فَكَيْفَ بِمَنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى ؛ وَهُنَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِهِ وَعَمَلِهِ لَا بِصُورَتِهِ وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصُّورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُصَوِّرِ فَهَذَا حَسَنٌ . وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِحْسَانِ خَلْقِهِ كَمَا يُنْظَرُ إلَى الْجَبَلِ وَالْبَهَائِمِ وَكَمَا يُنْظَرُ إلَى الْأَشْجَارِ : فَهَذَا أَيْضًا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ اسْتِحْسَانِ الدُّنْيَا وَالرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ فَهُوَ مَذْمُومٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُنْقِصُ الدِّينَ وَإِنَّمَا فِيهِ رَاحَةُ النَّفْسِ فَقَطْ - كَالنَّظَرِ إلَى الْأَزْهَارِ - فَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْحَقِّ . وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَتَى كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ كَانَ حَرَامًا بِلَا رَيْبٍ سَوَاءٌ كَانَتْ شَهْوَةَ تَمَتُّعٍ بِنَظَرِ الشَّهْوَةِ أَوْ كَانَ نَظَرًا بِشَهْوَةِ الْوَطْءِ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ نَظَرِهِ الْأَشْجَارَ وَالْأَزْهَارَ وَمَا يَجِدُهُ عِنْدَ نَظَرِهِ النسوان والمردان ؛ فَلِهَذَا الْفَرْقَانِ افْتَرَقَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَصَارَ النَّظَرُ إلَى الْمُرْدِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : مَا يُقْرَنُ بِهِ الشَّهْوَةُ فَهُوَ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَالثَّانِي : مَا يُجْزَمُ أَنَّهُ لَا شَهْوَةَ مَعَهُ : كَنَظَرِ الرَّجُلِ الْوَرِعِ إلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنَتِهِ الْحَسَنَةِ وَأُمِّهِ ؛ فَهَذَا لَا يُقْرَنُ بِهِ شَهْوَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَنْ أَفْجَرِ النَّاسِ وَمَتَى اقْتَرَنَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ حَرُمَ . وَعَلَى هَذَا مَنْ لَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى الْمُرْدِ - كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ ؛ وَكَالْأُمَمِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْنَ نَظَرِهِ إلَى ابْنِهِ وَابْنِ جَارِهِ وَصَبِيٍّ أَجْنَبِيٍّ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الشَّهْوَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدْ ذَلِكَ وَهُوَ سَلِيمُ الْقَلْبِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَتْ الْإِمَاءُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ وَهُنَّ مُتَكَشِّفَاتِ الرُّءُوسِ وَتَخْدِمُ الرِّجَالَ مَعَ سَلَامَةِ الْقُلُوبِ فَلَوْ أَرَادَ الرِّجُلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِمَاءَ التُّرْكِيَّاتِ الْحِسَانَ يَمْشِينَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأَوْقَاتِ كَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْإِمَاءُ يَمْشِينَ : كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَسَادِ . وَكَذَلِكَ الْمُرْدُ الْحِسَانُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَخْرُجُوا فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُخَافُ فِيهَا الْفِتْنَةُ بِهِمْ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَلَا يُمَكَّنُ الْأَمْرَدُ الْحَسَنُ مِنْ التَّبَرُّجِ وَلَا مِنْ الْجُلُوسِ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَلَا مِنْ رَقْصِهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ : كَذَلِكَ . وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ النَّظَرِ وَهُوَ :

النَّظَرُ إلَيْهِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَكِنْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَصَحُّهُمَا - وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ثَوَرَانِهَا فَلَا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ بَلْ قَدْ يُكْرَهُ . وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا أَنَّ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةً لَكِنْ لِأَنَّهُ يَخَافُ ثَوَرَانَهَا ؛ وَلِهَذَا حَرُمَتْ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ إلَى الْفَسَادِ يَجِبُ سَدُّهَا إذَا لَمْ يُعَارِضْهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّظَرُ الَّذِي يُفْضِي إلَى الْفِتْنَةِ مُحَرَّمًا إلَّا إذَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ مِثْلَ نَظَرِ الْخَاطِبِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لِلْحَاجَةِ لَكِنْ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ . وَأَمَّا النَّظَرُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَى مَحَلِّ الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ . وَمَنْ كَرَّرَ النَّظَرَ إلَى الْأَمْرَدِ وَنَحْوِهِ أَوْ أَدَامَهُ وَقَالَ : إنِّي لَا أَنْظُرُ لِشَهْوَةِ : كَذَبَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَاعٍ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى النَّظَرِ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ إلَّا لِمَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ اللَّذَّةِ بِذَلِكَ وَأَمَّا نَظْرَةُ الْفَجْأَةِ فَهِيَ عَفْوٌ إذَا صَرَفَ بَصَرَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ جَرِيرٍ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ :

اصْرِفْ بَصَرَك } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ { قَالَ لِعَلِيِّ : يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الثَّانِيَةُ } . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمَسْنَدِ وَغَيْرِهِ : { النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ } وَفِيهِ : { مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا أَوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ حَلَاوَةَ عِبَادَةٍ يَجِدُهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } - أَوْ كَمَا قَالَ - وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّ غَضَّ الْبَصَرِ عَنْ الصُّورَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا - كَالْمَرْأَةِ وَالْأَمْرَدِ الْحَسَنِ - يُورِثُ ذَلِكَ ثَلَاثَ فَوَائِدَ جَلِيلَةَ الْقَدْرِ : إحْدَاهَا : حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَلَذَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ النَّظَرَ إلَى هَذِهِ الصُّوَرِ لَا سِيَّمَا نُفُوسُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا فَإِنَّهُ يَبْقَى فِيهَا رِقَّةٌ تُجْتَذَبُ بِسَبَبِهَا إلَى الصُّوَرِ حَتَّى تَبْقَى تَجْذِبُ أَحَدَهُمْ وَتَصْرَعُهُ كَمَا يَصْرَعُهُ السَّبُعُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ : مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ التَّائِبِ مِنْ سَبُعٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ بِأَخْوَفَ عَلَيْهِ مِنْ حَدَثٍ جَمِيلٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : اتَّقُوا النَّظَرَ إلَى أَوْلَادِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ لَهُمْ فِتْنَةً كَفِتْنَةِ الْعَذَارَى . وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - كَشُيُوخِ الْهُدَى وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ - يُوصُونَ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ حَتَّى يُرْوَى عَنْ فَتْحٍ الموصلي أَنَّهُ قَالَ :

صَحِبْت ثَلَاثِينَ مِنْ الْأَبْدَالِ كُلُّهُمْ يُوصِينِي عِنْدَ فِرَاقِهِ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا سَقَطَ عَبْدٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ إلَّا بِصُحْبَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنَّتَانِ . ثُمَّ النَّظَرُ يُؤَكِّدُ الْمَحَبَّةَ فَيَكُونُ عِلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ؛ ثُمَّ صَبَابَةً لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ ؛ ثُمَّ غَرَامًا لِلُزُومِهِ لِلْقَلْبِ كَالْغَرِيمِ الْمُلَازِمِ لِغَرِيمِهِ ؛ ثُمَّ عِشْقًا إلَى أَنْ يَصِيرَ تتيما وَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبْدَ اللَّهِ فَيَبْقَى الْقَلْبُ عَبْدًا لِمَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَخًا بَلْ وَلَا خَادِمًا وَهَذَا إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ أَهْلُ الْأَعْرَاضِ عَنْ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ كَانَتْ مُشْرِكَةً فَوَقَعَتْ مَعَ تَزَوُّجِهَا فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَيُوسُفُ مَعَ عُزُوبَتِهِ وَمُرَاوَدَتِهَا لَهُ وَاسْتِعَانَتِهَا عَلَيْهِ بِالنِّسْوَةِ وَعُقُوبَتِهَا لَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى الْعِفَّةِ : عَصَمَهُ اللَّهُ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَالْغَيُّ هُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى . وَهَذَا الْبَابُ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ اتِّبَاعِ الْهَوَى . وَمَنْ أَمَرَ بِعِشْقِ الصُّوَرِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَذَوِيهِ أَوْ مِنْ الْفُرْسِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ ؛ أَوْ مِنْ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ : فَإِنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ وَغَيٍّ فَهُمْ مَعَ مُشَارَكَةِ الْيَهُودِ فِي الْغَيِّ وَالنَّصَارَى فِي الضَّلَالِ زَادُوا عَلَى الْأُمَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ

هَذَا وَإِنْ ظُنَّ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْعَاشِقِ كَتَطْلِيقِ نَفْسِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ وَلِلْمَعْشُوقِ مِنْ الشِّفَاءِ فِي مَصَالِحِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : فَمَضَرَّةُ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَنْفَعَتِهِ . وَأَيْنَ إثْمُ ذَلِكَ مِنْ مَنْفَعَتِهِ ؟ وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا يُقَالُ : إنَّ فِي الزِّنَا مَنْفَعَةً لِكُلِّ مِنْهُمَا بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّلَذُّذِ وَالسُّرُورِ وَيَحْصُلُ لَهَا مِنْ الْجُعْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا يُقَالُ : إنَّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ مَنَافِعُ بَدَنِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ . وَقَدْ قَالَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ : { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَهَذَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ دَعْ مَا قَالَهُ عِنْدَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ . وَبَابُ التَّعَلُّقِ بِالصُّوَرِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْفَوَاحِشِ وَبَاطِنُهُ مِنْ بَاطِنِ الْفَوَاحِشِ وَهُوَ مِنْ بَاطِنِ الْإِثْمِ قَالَ تَعَالَى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَقَدْ قَالَ : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَلَيْسَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الدِّينِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ فَمَنْ جَعَلَهُ مَمْدُوحًا وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ بَلْ وَعَمَّا عَلَيْهِ عُقَلَاءُ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهُوَ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وَقَدْ قَالَ

تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } . وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إلَى الْمُرْدِ ظَانًّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْجَمَالِ الْإِلَهِيِّ وَجَعَلَ هَذَا طَرِيقًا لَهُ إلَى اللَّهِ - كَمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلْمَعْرِفَةِ - فَقَوْلُهُ هَذَا أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ قَوْلِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمِنْ كُفْرِ قَوْمِ لُوطٍ فَهَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ ؛ فَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ قَالُوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ اللَّهَ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَصْنَامِ وَحَالًّا فِيهَا ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَآيَاتٌ لَهُمْ ؛ بَلْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ ظَهَرَ فِيهَا وَتَجَلَّى فِيهَا وَيُشَبِّهُونَ ذَلِكَ بِظُهُورِ الْمَاءِ فِي الزُّجَاجَةِ ؛ وَالزُّبْدِ فِي اللَّبَنِ ؛ وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي حُلُولَ نَفْسِ ذَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ اتِّحَادَهُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ نَظِيرَ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ خَاصَّةً يَجْعَلُونَ الْمُرْدَ مَظَاهِرَ الْجَمَالِ فَيُقَرِّرُونَ هَذَا الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ طَرِيقًا إلَى اسْتِحْلَالِ الْفَوَاحِشِ بَلْ إلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مُحَرَّمٍ كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ مُتَأَخِّرِيهِمْ - التِّلْمِسَانِيّ - : إذَا كَانَ قَوْلُكُمْ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ هُوَ الْحَقَّ . فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أُمِّي وَأُخْتِي

وَابْنَتِي : تَكُونُ هَذِهِ حَلَالًا وَهَذِهِ حَرَامًا ؟ فَقَالَ الْجَمِيعُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ لَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا : حَرَامٌ . فَقُلْنَا : حَرَامٌ عَلَيْكُمْ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةِ والاتحادية مَنْ يَخُصُّ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ : إمَّا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَالْمَسِيحِ ؛ أَوْ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ الْغَالِيَةِ فِي عَلِيٍّ ؛ أَوْ بِبَعْضِ الشُّيُوخِ كَالْحَلَّاجِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ ؛ أَوْ بِبَعْضِ الْمُلُوكِ ؛ أَوْ بِبَعْضِ الصُّوَرِ كَصُوَرِ الْمُرْدِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَنَا أَنْظُرُ إلَى صِفَاتِ خَالِقِي وَأَشْهَدُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ . وَالْكُفْرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامَ فِي نَبِيٍّ كَرِيمٍ لَكَانَ كَافِرًا : فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِي صَبِيٍّ أَمْرَدَ ؟ فَقَبَّحَ اللَّهُ طَائِفَةً يَكُونُ مَعْبُودُهَا مِنْ جِنْسِ مَوْطُوئِهَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَإِذَا كَانَ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ كُفَّارًا : فَكَيْفَ بِمَنْ اتَّخَذَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَرْبَابًا مَعَ قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ فِيهَا أَوْ مُتَّحِدٌ بِهَا ؟ فَوُجُودُهَا وَجُودُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ ؟ . وَأَمَّا الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ فِي غَضِّ الْبَصَرِ فَهُوَ : أَنَّهُ يُورِثُ نُورَ الْقَلْبِ وَالْفِرَاسَةِ قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ : { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ }

فَالتَّعَلُّقُ فِي الصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ وَسُكْرَ الْقَلْبِ بَلْ جُنُونَهُ كَمَا قِيلَ :
سكران : سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ * * * فَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سكران ؟
وَقِيلَ :
قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى ؟ فَقُلْت لَهُمْ * * * الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ * * * وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ عَقِيب آيَاتِ غَضِّ الْبَصَرِ فَقَالَ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَكَانَ شاه بْنُ شُجَاعٍ الكرماني لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ وَكَانَ يَقُولُ : مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ ؛ وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ ؛ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ ؛ وَذَكَرَ خَصْلَةً خَامِسَةً وَهِيَ أَكْلُ الْحَلَالِ : لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ فَغَضُّ بَصَرِهِ عَمَّا حَرُمَ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ؛ فَيُطْلِقُ نُورَ بَصِيرَتِهِ وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ

بَابَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكُشُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنَالُ بِبَصِيرَةِ الْقَلْبِ . وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ وَشَجَاعَتُهُ فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانَ النُّصْرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ . وَفِي الْأَثَرِ : " الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرُقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ " وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبِعِ لِهَوَاهُ مِنْ الذُّلِّ - ذُلِّ النَّفْسِ وَضَعْفِهَا وَمَهَانَتِهَا - مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْعِزَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَالذِّلَّةَ لِمَنْ عَصَاهُ قَالَ تَعَالَى : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الشُّيُوخِ : النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ مِنْ أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ . وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ : وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمْ الْبَرَاذِينُ وَطَقْطَقْت بِهِمْ الْبِغَالُ فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي رِقَابِهِمْ يَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ . وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ وَمَنْ عَصَاهُ فَفِيهِ قِسْطٌ مِنْ فِعْلِ مَنْ عَادَاهُ بِمَعَاصِيهِ . وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ : { أَنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت . } وَالصُّوفِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ عِنْدَ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِبُّونَ مِثْلَ هَذَا ؛ بَلْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَلَهُمْ فِي الْكَلَامِ فِي ذَمِّ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْحُلُولِ وَبَيَانِ مُبَايَنَةِ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ ؛

مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ مِنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَاصٍ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ ؛ فَتَظَاهَرَ بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ لِلَّهِ وَتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَهُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ لِلَّهِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَجْعَلُ لِأَعْدَائِهِ الصَّفْقَةَ الْخَاسِرَةَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ : هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا . وَهَلْ حَدِيثُهُ مَنْسُوخٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : إنْ شِئْت فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَتَوَضَّأْ . قَالَ : أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ؟ . قَالَ : نَعَمْ تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ . قَالَ : أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ؟ . قَالَ : نَعَمْ قَالَ أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ ؟ قَالَ : لَا } . وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ . قَالَ أَحْمَد فِيهِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ : حَدِيثُ الْبَرَاءِ وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ . وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ . مِنْهَا : مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَوَضَّؤُوا مِنْ

لُحُومِ الْغَنَمِ ؛ وَصَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ } . وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَصَحُّ وَأَبْعَدُ عَنْ الْمُعَارِضِ مِنْ أَحَادِيثِ مَسِّ الذَّكَرِ وَأَحَادِيثِ الْقَهْقَهَةِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ جَابِرٍ : كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ إذْ كِلَاهُمَا فِي مَسِّ النَّارِ سَوَاءٌ فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ هَذَا وَخَيَّرَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْآخَرِ . عُلِمَ بُطْلَانُ هَذَا التَّعْلِيلِ . وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مَسَّ النَّارِ فَنَسْخُ التَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ لِأَمْرِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ التَّوَضُّؤِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بَلْ يُقَالُ : كَانَتْ لُحُومُ الْإِبِلِ أَوَّلًا يُتَوَضَّأُ مِنْهَا كَمَا يُتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَغَيْرِهَا . ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْأَمْرُ الْعَامُّ الْمُشْتَرَكُ . فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ لَحْمُ الْإِبِلِ فَلَوْ كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا فَكَيْفَ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ " الْوَجْهُ الثَّانِي " وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ كَانَ بَعْدَ نَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَقَدْ أَمَرَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بَعْدَ النَّسْخِ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْمَعَاطِنِ أَيْضًا وَهَذَا التَّفْرِيقُ ثَابِتٌ مُحْكَمٌ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَصٌّ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ فَدَعْوَى النَّسْخِ بَاطِلٌ بَلْ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
الرَّابِعُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُضُوءَ مِنْهُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَذَلِكَ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا .
الْخَامِسُ أَنَّهُ لَوْ أَتَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ عَامٌّ بِقَوْلِهِ : لَا وُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ نَاسِخًا لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ قَبْلَهُ وَإِذَا تَعَارَضَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَلَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ يَنْسَخُهُ بَلْ إمَّا أَنْ يُقَالَ الْخَاصُّ هُوَ الْمُقَدَّمُ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِمَّا أَنْ يُتَوَقَّفَ ؛ بَلْ لَوْ عُلِمَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ الْخَاصِّ لَكَانَ الْخَاصُّ مُقَدَّمًا . ( الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْخَاصَّ بَعْدَ الْعَامِّ فَإِنْ كَانَ نَسْخٌ كَانَ الْخَاصُّ

نَاسِخًا . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَاصَّ الْمُتَأَخِّرَ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ فَعُلِمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مِثْلُ هَذَا الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ؛ لَوْ كَانَ هُنَا لَفْظٌ عَامٌّ . كَيْفَ وَلَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ عَامٌّ يَنْسَخُ الْوُضُوءَ مِنْ كُلِّ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ . وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح { أَنَّهُ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } وَكَذَلِكَ { أُتِيَ بِالسَّوِيقِ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ لَمْ يَتَوَضَّأْ } وَهَذَا فِعْلٌ لَا عُمُومَ لَهُ فَإِنَّ التَّوَضُّؤَ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ لَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ . وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ دَلِيلُ ذَلِكَ . وَأَمَّا جَابِرٌ فَإِنَّمَا نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } وَهَذَا نَقْلٌ لِفِعْلِهِ لَا لِقَوْلِهِ . فَإِذَا شَاهَدُوهُ قَدْ أَكَلَ لَحْمَ غَنَمٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ التَّرْكُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ وَالتَّرْكُ الْعَامُّ لَا يُحَاطُ بِهِ إلَّا بِدَوَامِ مُعَاشَرَتِهِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُ التَّرْكُ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ . ثُمَّ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَلَحْمُ الْإِبِلِ لَمْ يُتَوَضَّأْ مِنْهُ لِأَجْلِ مَسِّ النَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ بَلْ الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ وَيَتَنَاوَلُهُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا فَبَيْنَ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ . هَذَا أَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ . وَقَدْ يَتَّفِقُ الْوَجْهَانِ فَيَكُونُ لِلْحُكْمِ عِلَّتَانِ وَقَدْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَضُّؤِ مِنْ خُرُوجِ

النَّجَاسَةِ مَعَ الْوُضُوءِ مِنْ الْقُبْلَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَبِّلُ فَيُمْذِي وَقَدْ يُقَبِّلُ فَلَا يُمْذِي وَقَدْ يُمْذِي مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ لَمْ يَنْفِ الْوُضُوءَ مِنْ الْمَذْيِ وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ وَهَذَا بَيِّنٌ . وَأَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ غَسْلُ الْيَدِ أَوْ الْيَدِ وَالْفَمِ فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ . ( أَحَدُهَا أَنَّ الْوُضُوءَ فِي كَلَامِ رَسُولِنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرِدْ بِهِ قَطُّ إلَّا وُضُوءُ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي لُغَةِ الْيَهُودِ . كَمَا رُوِيَ : { أَنَّ سَلْمَانَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ . فَقَالَ : مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ } . فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ تُنُوزِعَ فِي صِحَّتِهِ وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَقَدْ أَجَابَ سَلْمَانُ بِاللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَهُ بِهَا لُغَةِ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَأَمَّا اللُّغَةُ الَّتِي خَاطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَرِدْ فِيهَا الْوُضُوءُ إلَّا فِي الْوُضُوءِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّحْمَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَسْلَ الْيَدِ وَالْفَمِ مِنْ الْغَمْرِ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ مِنْ لَبَنٍ

شَرِبَهُ . وَقَالَ : { إنَّ لَهُ دَسَمًا } . وَقَالَ : { مَنْ بَاتَ وَبِيَدِهِ غَمْرٌ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } فَإِذَا كَانَ قَدْ شَرَعَ ذَلِكَ مِنْ اللَّبَنِ وَالْغَمْرِ فَكَيْفَ لَا يُشَرِّعُهُ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ : إنْ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ امْتَنَعَ حَمْلُهُ عَلَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْفَمِ وَإِنْ كَانَ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ امْتَنَعَ رَفْعُ الِاسْتِحْبَابِ عَنْ لَحْمِ الْغَنَمِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّهُ رَفَعَ عَنْ لَحْمِ الْغَنَمِ مَا أَثْبَتَهُ لِلَحْمِ الْإِبِلِ . وَهَذَا يُبْطِلُ كَوْنَهُ غَسَلَ الْيَدَ سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُ الْحَدِيثِ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِهَا مُفَرِّقًا بَيْنَ ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُفْهَمُ مِنْهُ وُضُوءُ الصَّلَاةِ قَطْعًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْوُضُوءِ قُدْرَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ وَيَقْرَؤُهُ إنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ وَغَيْرِ وُضُوءٍ . أَمْ لَا ؟ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } تَطْهِيرُ الْقَلْبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ وَقَالَ : بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : لَا يَجُوزُ

لَهُ أَنْ يَمَسَّ اللَّوْحَ أَوْ الْمُصْحَفَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَبَدًا فَهَلْ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ خِلَافٌ فِي هَذَا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا قَرَأَ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ اللَّوْحِ وَلَمْ يَمَسَّهُ جَازَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهُورٍ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إلَّا طَاهِرٌ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : { أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ } . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : لَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَهُ لَهُ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا . وَلَا يُعْلَمُ لَهُمَا مَنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْإِنْسَانِ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ وَحَمَلَ الْمُصْحَفَ بِأَكْمَامِهِ لِيَقْرَأَ بِهِ وَيَرْفَعَهُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ هَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ : وَأَمَّا إذَا حَمَلَ الْإِنْسَانُ الْمُصْحَفَ بِكُمِّهِ فَلَا بَأْسَ وَلَكِنْ لَا يَمَسُّهُ بِيَدَيْهِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ مَعَهُ مُصْحَفٌ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ كَيْفَ يَحْمِلُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مُصْحَفٌ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ بَيْنَ قُمَاشِهِ وَفِي خَرْجِهِ وَحَمْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْقُمَاشُ لِرَجُلِ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ وَإِنْ كَانَ الْقُمَاشُ فَوْقَهُ أَوْ تَحْتَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّا تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَتَانِ : الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ ؟ .
فَأَجَابَ :
ذَلِكَ وَاجِبٌ لِلصَّلَاةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا وَاخْتُلِفَ فِي الطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ . وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ هَلْ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ الَّتِي تَجِبُ لَهَا الطَّهَارَةُ ؟ . وَأَمَّا الِاعْتِكَافُ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا قَالَ إنَّهُ يَجِبُ لَهُ الْوُضُوءُ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْحَائِضَ بِذَلِكَ . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَفِيهَا خِلَافٌ شَاذٌّ . فَمَذْهَبُ الْأَرْبَعَةِ تَجِبُ الطَّهَارَتَانِ لِهَذَا كُلِّهِ إلَّا الطَّوَافَ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ نِزَاعٌ . وَالْأَرْبَعَةُ أَيْضًا لَا يُجَوِّزُونَ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَلَا اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وُضُوءٍ وَتَنَازَعُوا فِي قِرَاءَةِ الْحَائِضِ وَفِي قِرَاءَةِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ . وَفِي هَذَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ

الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ : يَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَاللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ هَذَا مَذْهَبُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَابْنِ حَزْمٍ . وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ . وَأَمَّا مَذْهَبُهُمْ فِيمَا تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَتَانِ ؟ فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا لِصَلَاةِ : هِيَ رَكْعَتَانِ أَوْ رَكْعَةُ الْوِتْرِ أَوْ رَكْعَةٌ فِي الْخَوْفِ أَوْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَلَا تَجِبُ عِنْدَهُ الطَّهَارَةُ لِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ وَالْحَائِضِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالسُّجُودُ فِيهِ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ قَالَ : لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ خَيْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فَمَنْ ادَّعَى مَنْعَ هَؤُلَاءِ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ . وَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا الْحَدَثُ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْمَنَاسِكِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّخَعِي وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ : أَنَّهُ يَجُوزُ الطَّوَافُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ أَوْ بَعْضِهِمْ . وَأَمَّا مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِيهِ لَا فَرْضٌ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ .

وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رُكْنٌ فِيهِ . وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ أَنَّ مَسَّ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ صَلَاةُ جِنَازَةٍ وَيَجُوزُ لَهُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ . فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ ثَابِتَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا أَعْرِفُ السَّاعَةَ فِيهِ نَقْلًا خَاصًّا عَنْ الصَّحَابَةِ لَكِنْ إذَا جَازَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ مَعَ الْحَدَثِ فَالطَّوَافُ أَوْلَى كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ التَّابِعِينَ . قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " بَابِ سَجْدَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ " وَالْمُشْرِكُ نَجِسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ . وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ يَسْجُدُ عَلَى وُضُوءٍ . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ : الصَّوَابُ إثْبَاتُ غَيْرٍ ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ . ذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ . حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ يَعْنِي عُبَيْدَ بْنَ الْحَسَنِ - عَنْ رَجُلٍ زَعَمَ أَنَّهُ نَسِيَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَنْزِلُ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَيُهَرِيق الْمَاءَ ثُمَّ يَرْكَبُ فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُ وَمَا يَتَوَضَّأُ . وَذُكِرَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ قَالَ : يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَائِضِ تَسْمَعُ السَّجْدَةَ فَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو قلابة وَالزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ

وقتادة : لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْجُدَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ . وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان قَالَ تُومِئُ بِرَأْسِهَا . وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ تُومِئُ وَتَقُولُ : لَك سَجَدْت . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ( ذَكَرَ مَنْ سَمِعَ السَّجْدَةَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَتَوَضَّأُ وَيَسْجُدُ هَكَذَا قَالَ النَّخَعِي وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ . وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّخَعِي قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيَسْجُدُ وَرَوَيْنَا عَنْ الشَّعْبِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُ يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ . وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ تُومِئُ الْحَائِضُ بِالسُّجُودِ وَقَالَ سَعِيدٌ : وَتَقُولُ : رَبِّ لَك سَجَدْت وَعَنْ الشَّعْبِيِّ جَوَازُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ . وَأَمَّا ( صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ } " . وَقَالَ : { صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ } " وَقَالَ : { صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ } " سَمَّاهَا صَلَاةً وَلَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ وَلَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ . قَالَ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُصَلِّي إلَّا طَاهِرًا وَلَا يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبِهَا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ .

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : عَرَضَ الْبُخَارِيُّ لِلرَّدِّ عَلَى الشَّعْبِيِّ فَإِنَّهُ أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ قَالَ : لِأَنَّهَا دُعَاءٌ لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودَ وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى شُذُوذِهِ وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا لَا تُصَلَّى إلَّا إلَى الْقِبْلَةِ وَلَوْ كانت دُعَاءً كَمَا زَعَمَ الشَّعْبِيُّ لَجَازَتْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ . قَالَ : وَاحْتِجَاجُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ حَسَنٌ . قُلْت : فَالنِّزَاعُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ . قِيلَ : هُمَا جَمِيعًا لَيْسَا صَلَاةً كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ وَقِيلَ : هُمَا جَمِيعًا صَلَاةٌ تَجِبُ لَهُمَا الطَّهَارَةُ . وَالْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْقِيَاسُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِنَازَةِ وَالسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } . وَهَذَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } الْآيَةَ وَقَدْ حَرَّمَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالسُّكْرِ فِي قَوْلِهِ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ

وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } . وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَجِبُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج : ثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى حَاجَتَهُ مِنْ الْخَلَاءِ فَقُرِّبَ لَهُ طَعَامٌ فَأَكَلَ وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً } . قَالَ ابْنُ جريج وَزَادَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : إنَّك لَمْ تَتَوَضَّأْ . قَالَ : { مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ } قَالَ عَمْرُو : سَمِعْته مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ . وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلًا فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ ؛ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ لِلطَّوَافِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ حَجَّ مَعَهُ خَلَائِقُ عَظِيمَةٌ وَقَدْ اعْتَمَرَ عُمَرًا مُتَعَدِّدَةً وَالنَّاسُ يَعْتَمِرُونَ مَعَهُ فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ فَرْضًا لِلطَّوَافِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا عَامًّا وَلَوْ بَيَّنَهُ لَنَقَلَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ وَلَمْ يُهْمِلُوهُ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ لَمَّا طَافَ تَوَضَّأَ } . وَهَذَا وَحْدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقَدْ قَالَ إنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ فَيَتَيَمَّمُ لِرَدِّ السَّلَامِ .

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ وَأَكَلَ وَهُوَ مُحْدِثٌ قِيلَ لَهُ : أَلَا تَتَوَضَّأُ ؟ قَالَ : مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ } . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ إلَّا إذَا أَرَادَ صَلَاةً وَأَنَّ وُضُوءَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبِ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ } لَيْسَ إنْكَارًا لِلْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَكِنْ إنْكَارٌ لِإِيجَابِ الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ الْحَاضِرِينَ قَالَ لَهُ : أَلَا تَتَوَضَّأُ ؟ فَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ ظَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِلْأَكْلِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ } فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى : { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلَا يَتَكَلَّمْ إلَّا بِخَيْرِ } قَدْ رَوَاهُ النَّسَائِي وَهُوَ يُرْوَى مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ لَا يُصَحِّحُونَهُ إلَّا مَوْقُوفًا وَيَجْعَلُونَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يُثْبِتُونَ رَفْعَهُ وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الطَّوَافَ نَوْعٌ مِنْ الصَّلَاةِ : كَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجَنَائِزِ ؛ وَلَا أَنَّهُ مِثْلُ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ الطَّوَافَ يُبَاحُ فِيهِ الْكَلَامُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا تَسْلِيمَ فِيهِ وَلَا يُبْطِلُهُ الضَّحِكُ وَالْقَهْقَهَةُ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الْقِرَاءَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْجِنَازَةِ فَإِنَّ الْجِنَازَةَ فِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ فَتُفْتَحُ بِالتَّكْبِيرِ وَتُخْتَمُ بِالتَّسْلِيمِ .

وَهَذَا حَدُّ الصَّلَاةِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْوُضُوءِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } وَالطَّوَافُ لَيْسَ لَهُ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ وَإِنْ كَبَّرَ فِي أَوَّلِهِ فَكَمَا يُكَبِّرُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا وَلِهَذَا يُكَبِّرُ كُلَّمَا حَاذَى الرُّكْنَ وَالصَّلَاةُ لَهَا تَحْرِيمٌ ؛ لِأَنَّهُ بِتَكْبِيرِهَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُصَلِّي مَا كَانَ حَلَالًا لَهُ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ الْأَكْلِ أَوْ الضَّحِكِ أَوْ الشُّرْبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَالطَّوَافُ لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الطَّوَافِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ مُبَاحٌ فِي الطَّوَافِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ عَنْ مَقْصُودِ الطَّوَافِ كَمَا يُكْرَهُ فِي عَرَفَةَ وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَلَا يُعْرَفُ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ [ فِي ] (1) أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَبْطُلُ بِالْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْقَهْقَهَةِ كَمَا لَا يَبْطُلُ غَيْرُهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ بِذَلِكَ وَكَمَا لَا يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِذَلِكَ . وَالِاعْتِكَافُ يُسْتَحَبُّ لَهُ طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَلَا يَجِبُ فَلَوْ قَعَدَ الْمُعْتَكِفُ وَهُوَ مُحْدِثٌ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَحْرُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا فَإِنَّ هَذَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ الْجُمْهُورُ كَمَنْعِهِمْ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ ؛ وَلِهَذَا إذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِلِاغْتِسَالِ كَانَ حُكْمُ اعْتِكَافِهِ عَلَيْهِ فِي حَالِ خُرُوجِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةُ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ . وَمَنْ جَوَّزَ لَهُ اللُّبْثَ مَعَ الْوُضُوءِ جَوَّزَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَوَضَّأَ

وَيَلْبَثَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ . وَاَلَّذِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى الْحَائِضَ عَنْ الطَّوَافِ وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ فَأَمَرَ أَنْ يُنَادِيَ : { أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عريان } . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ وَكَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَيَقُولُونَ : ثِيَابٌ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا فَلَا نَطُوفُ فِيهَا إلَّا الْحَمْسَ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا . وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَوْلُهُ { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } مِثْلَ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً { قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . } وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ يَجِبُ مُطْلَقًا خُصُوصًا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالنَّاسُ يَرَوْنَهُ فَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لِخُصُوصِ الطَّوَافِ ؛ لَكِنَّ الِاسْتِتَارَ فِي حَالِ الطَّوَافِ أَوْكَدُ لِكَثْرَةِ مَنْ يَرَاهُ وَقْتَ الطَّوَافِ فَيَنْبَغِي النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَهُوَ أَنْ يُعْرَفَ مُسَمَّى الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ إلَّا بِطُهُورِ الَّتِي أُمِرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَيْهَا . وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَتَانِ :

إحْدَاهُمَا : أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ فَمَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرَ وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصَّلَاةِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ فَكُلُّ صَلَاةٍ مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ فَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ فَمَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرَ وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمَ فَلَيْسَ مِفْتَاحُهُ الطَّهُورَ فَدَخَلَتْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فِي هَذَا فَإِنَّ مِفْتَاحَهَا الطُّهُورُ وَتَحْرِيمَهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلَهَا التَّسْلِيمُ . وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ : فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ فِيهِ تَسْلِيمًا وَلَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ التَّسْلِيمَ . وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لَا يُسَلِّمُ فِيهِ ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الْأَثَرِ بِذَلِكَ . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يُسَلِّمُ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِنَصِّ بَلْ بِالْقِيَاسِ وَكَذَلِكَ مَنْ رَأَى فِيهِ تَسْلِيمًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ مَعَهُ نَصٌّ ؛ بَلْ الْقِيَاسُ أَوْ قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْخَطَّابِيَّ عَلَى حَدِيثِ نَافِعٍ عَنْ { ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ } . قَالَ : فِيهِ بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُكَبِّرَ

لِلسُّجُودِ وَعَلَى هَذَا مَذَاهِبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ يُكَبِّرُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَالَ : وَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ يَقُولَانِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ . وَعَنْ ابْنِ سِيرِين وَعَطَاءٍ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ يُسَلِّمُ . وَبِهِ قَالَ إسْحَاقُ بْن رَاهَوَيْه . قَالَ : وَاحْتَجَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ . وَكَانَ أَحْمَدُ لَا يَعْرِفُ - وَفِي لَفْظٍ - لَا يَرَى التَّسْلِيمَ فِي هَذَا . قُلْت : وَهَذِهِ الْحُجَّةُ إنَّمَا تَسْتَقِيمُ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ لَكِنْ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِهَذَا عَلَى مَنْ يُسَلِّمُ أَنَّهَا صَلَاةٌ فَيَتَنَاقَضُ قَوْلُهُ . وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَلَيْسَ فِيهِ التَّكْبِيرُ . قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ حَتْي مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ . وَفِي لَفْظٍ - حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِجَبْهَتِهِ } . فَابْنُ عُمَرَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ تَسْلِيمًا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ أَنَّ السُّجُودَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى وُضُوءٍ لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ عَامَّتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ

كَانُوا يَسْجُدُونَ مَعَهُ وَكَانَ هَذَا شَائِعًا فِي الصَّحَابَةِ فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَوْجَبَ الطَّهَارَةَ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَعْلَمِهِمْ وَأَفْقَهِهِمْ وأتبعهم لِلسُّنَّةِ وَقَدْ بَقِيَ إلَى آخِرِ الْأَمْرِ وَيَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ كَانَ هُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ لَهَا . وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا أَوْجَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ ذَلِكَ شَائِعًا بَيْنَهُمْ كَشِيَاعِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْجَبَ الطَّهَارَةَ فِيهَا وَلَكِنَّ سُجُودَهَا عَلَى الطَّهَارَةِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ يُكْرَهُ سُجُودَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ مُسَلِّمٌ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَمَّمَ وَقَالَ كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ فَالسُّجُودُ أَوْكَدُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ . لَكِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ إذَا قَرَأَ وَهُوَ مُحْدِثٌ يَحْرُمْ عَلَيْهِ السُّجُودُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ لِلَّهِ إلَّا بِطَهَارَةِ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ . وَمَا ذُكِرَ أَيْضًا يَدُلُّ : عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ } وَالطَّوَافُ وَالسُّجُودُ لَا يُقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } وَالْكَلَامُ يَجُوزُ فِي الطَّوَافِ

وَالطَّوَافُ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ تَسْلِيمٌ لَكِنْ يُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا يُسْجَدُ لِلتِّلَاوَةِ بِالتَّكْبِيرِ وَمُجَرَّدُ الِافْتِتَاحِ بِالتَّكْبِيرِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتَتَحُ صَلَاةً . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءِ بِيَدِهِ وَكَبَّرَ } . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ : أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ ؛ وَلِأَنَّ الطَّوَافَ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . ( وَأَمَّا الْحَائِضُ : فَقَدْ قِيلَ إنَّمَا مُنِعَتْ مِنْ الطَّوَافِ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ كَمَا تُمْنَعُ مِنْ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِهِ فَتُمْنَعُ مِنْهُ الْحَائِضُ مِنْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ الطَّوَافِ . وَهَذَا مِنْ سِرِّ قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةً فِيهِ وَيَقُولُ إذَا طَافَتْ وَهِيَ حَائِضٌ عَصَتْ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ وَلَا يَجْعَلُ طَهَارَتَهَا لِلطَّوَافِ كَطِهَارَتِهَا لِلصَّلَاةِ بَلْ يَجْعَلُهُ مِنْ جِنْسِ مَنْعِهَا أَنْ تَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ ؛ وَلِهَذَا لَمْ تُمْنَعْ الْحَائِضُ مِنْ سَائِرِ الْمَنَاسِكِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } وَقَالَ لِعَائِشَةَ : { افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ } . وَلَمَّا قِيلَ لَهُ عَنْ صَفِيَّةَ : أَنَّهَا حَائِضٌ قَالَ : { أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ . قِيلَ لَهُ : إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ قَالَ : فَلَا إذًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَقَدْ اعْتَرَضَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى احْتِجَاجِ الْبُخَارِيِّ بِجَوَازِ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ النَّجْمَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ } وَهَذَا السُّجُودُ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ النَّجْمَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ : يَكْفِينِي هَذَا قَالَ : فَرَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا } . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ سُجُودَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ لِمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } { وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } فَقَالَ : تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ قَدْ تُرْتَجَى فَسَجَدُوا لَمَّا سَمِعُوا مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ . فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ ذَلِكَ أَشْفَقَ وَحَزِنَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْنِيسًا لَهُ وَتَسْلِيَةً عَمَّا عَرَضَ لَهُ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أَيْ إذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ . فَلَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ جَوَازُ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ

وُضُوءٍ ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ نَجَسٌ لَا يَصِحُّ لَهُ وُضُوءٌ وَلَا سُجُودٌ إلَّا بَعْدَ عِقْدِ الْإِسْلَامِ . فَيُقَالُ : هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا سَجَدُوا لَمَّا قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } { وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ } { وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } فَسَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ تَابَعُوهُ فِي السُّجُودِ لِلَّهِ . وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّمَنِّي إذَا كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ هُوَ كَانَ سَبَبَ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ فِي السُّجُودِ لِلَّهِ وَلِهَذَا لَمَّا جَرَى هَذَا بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَبَشَةِ ذَلِكَ فَرَجَعَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إلَى مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَتَعْظِيمَهُ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَكَانَ هَذَا السُّجُودُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ وَقَدْ قَالَ : سَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا سُجُودَ إلَّا بَعْدَ عَقْدِ الْإِسْلَامِ فَسُجُودُ الْكَافِرِ بِمَنْزِلَةِ دُعَائِهِ لِلَّهِ وَذِكْرِهِ لَهُ وَبِمَنْزِلَةِ صَدَقَتِهِ وَبِمَنْزِلَةِ حَجِّهِمْ لِلَّهِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ فَالْكُفَّارُ قَدْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَمَا فَعَلُوهُ مِنْ خَيْرٍ أُثِيبُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ مَاتُوا عَلَى الْإِيمَانِ فَهَلْ

يُثَابُونَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فِي الْكُفْرِ . فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ { لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ : أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت مِنْ خَيْرٍ } وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَهُمْ صَلَاةٌ وَسُجُودٌ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إذَا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ . وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ عَنْ سُجُودِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } وَذَلِكَ سُجُودٌ مَعَ إيمَانِهِمْ وَهُوَ مِمَّا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَأَدْخَلَهُمْ بِهِ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى طَهَارَةٍ . وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِنَسْخِهِ . وَلَوْ قُرِئَ الْقُرْآنُ عَلَى كُفَّارٍ فَسَجَدُوا لِلَّهِ سُجُودَ إيمَانٍ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رَأَوْا آيَةً مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ فَسَجَدُوا لِلَّهِ مُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَنَفَعَهُمْ ذَلِكَ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ السُّجُودَ يُشْرَعُ مُنْفَرِدًا عَنْ الصَّلَاةِ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَسُجُودِ الشُّكْرِ وَكَالسُّجُودِ عِنْدَ الْآيَاتِ فَإِنَّ { ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ سَجَدَ وَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا إذَا رَأَيْنَا آيَةً أَنْ نَسْجُدَ } .

وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي السُّجُودِ الْمُطْلَقِ لِغَيْرِ سَبَبٍ هَلْ هُوَ عِبَادَةٌ أَمْ لَا ؟ وَمَنْ سَوَّغَهُ يَقُولُ : هُوَ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَالسُّجُودُ هُوَ الْخُضُوعُ قَالَ تَعَالَى : { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ } قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ السُّجُودُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْخُضُوعُ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا رُكَّعًا مُنْحَنِينَ فَإِنَّ الدُّخُولَ مَعَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ لَيْسَ سُجُودُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَضْعَ جِبَاهِهَا عَلَى الْأَرْضِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ : { إنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . فَعُلِمَ أَنَّ السُّجُودَ اسْمُ جِنْسٍ وَهُوَ كَمَالُ الْخُضُوعِ لِلَّهِ وَأَعَزُّ مَا فِي الْإِنْسَانِ وَجْهُهُ فَوَضْعُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِلَّهِ غَايَةُ خُضُوعِهِ بِبَدَنِهِ وَهُوَ غَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فَصَارَ مِنْ جِنْسِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُشْرَعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ كَالتَّسْبِيحِ ؛ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الطَّهَارَةُ .

وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ فِعْلُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَا يُفْعَلُ إلَّا فِي الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ . وَأَفْضَلُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ السُّجُودُ وَأَفْضَلُ أَقْوَالِهَا الْقِرَاءَةُ وَكِلَاهُمَا مَشْرُوعٌ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَيُسِّرَتْ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ لَكِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فَاشْتُرِطَ لَهَا أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ . وَاشْتُرِطَ لِلْفَرْضِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ لِلنَّفْلِ . مِنْ الْقِيَامِ وَالِاسْتِقْبَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَجَازَ التَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ كَمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ { كَانَ يَتَطَوَّعُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ } . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ صَلَاةٌ بِلَا قِيَامٍ وَلَا اسْتِقْبَالٍ لِلْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلْمُتَطَوِّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا كَذَلِكَ فَلَوْ نُهِيَ عَنْ التَّطَوُّعِ أَفْضَى إلَى تَفْوِيتِ عِبَادَةِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا كَذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْفَرْضِ . فَإِنَّهُ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ وَلَا يَقْطَعُهُ ذَلِكَ عَنْ سَفَرِهِ . وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ النُّزُولُ لِقِتَالِ أَوْ مَرَضٍ أَوْ وَحْلٍ صَلَّى عَلَى الدَّابَّةِ أَيْضًا . وَرُخِّصَ فِي التَّطَوُّعِ جَالِسًا ؛ لَكِنْ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فَإِنَّ الِاسْتِقْبَالَ يُمْكِنُهُ مَعَ الْجُلُوسِ . فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِخِلَافِ تَكْلِيفِهِ الْقِيَامَ فَإِنَّهُ قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّطَوُّعِ وَكَانَ ذَلِكَ تَيْسِيرًا لِلصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَأَوْجَبَ اللَّهُ فِي الْفَرْضِ مَا لَا يَجِبُ فِي النَّفْلِ .

وَكَذَلِكَ السُّجُودُ دُونَ صَلَاةِ النَّفْلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُ قَاعِدًا وَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ أَفْضَلَ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَكْمَلُ مِنْ النَّفْلِ مِنْ وَجْهٍ فَاشْتُرِطَ لَهَا الْقِيَامُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ وَصَلَاةُ النَّافِلَةِ فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ فَهِيَ أَكْمَلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا فِيهَا مِنْ الذِّكْرِ دُعَاءً . وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ : هَلْ فِيهَا قِرَاءَةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ وَلَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا دُعَاءً بِعَيْنِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يتوقت فِيهَا وُجُوبُ شَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَارِ وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا سُنَّةً كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَالنَّاسُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ : قِيلَ : تُكْرَهُ . وَقِيلَ : تَجِبُ . وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لَا تُكْرَهُ وَلَا تَجِبُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا قُرْآنٌ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ فَلَوْ كَانَتْ الْفَاتِحَةُ وَاجِبَةً فِيهَا كَمَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ التَّامَّةِ لَشُرِعَ فِيهَا قِرَاءَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْفَاتِحَةِ . وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ نِصْفُهَا ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَنِصْفُهَا دُعَاءٌ لِلْمُصَلِّي نَفْسِهِ لَا دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَالْوَاجِبُ فِيهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَمَا كَانَ تَتِمَّةً كَذَلِكَ . وَالْمَشْهُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ فِيهَا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً لِنَقْصِهَا عَنْ الصَّلَاةِ التَّامَّةِ . وَقَوْلُهُ : { مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَا يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ }

يُقَالُ الصَّلَاةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ الَّتِي فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ بِدَلِيلِ مَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةً . وَهَذِهِ صَلَاةٌ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } لَكِنَّهَا تُقَيَّدُ . يُقَالُ : صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَيُقَالُ صَلُّوا عَلَى الْمَيِّتِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } . وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ قَدْ بَيَّنَهَا الشَّارِعُ إنَّهَا دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } تِلْكَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهَا الدُّعَاءُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَلَا يُمْنَعُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ . وَالسُّجُودُ الْمُجَرَّدُ لَا يُسَمَّى صَلَاةً لَا مُطْلَقًا وَلَا مُقَيَّدًا ؛ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ صَلَاةُ التِّلَاوَةِ وَلَا صَلَاةُ الشُّكْرِ فَلِهَذَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ } " وَقَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ } فَإِنَّ السُّجُودَ مَقْصُودُهُ الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ لَهُ . وَقِيلَ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري : أَيَسْجُدُ الْقَلْبُ ؟ قَالَ : نَعَمْ سَجْدَةً لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْهَا أَبَدًا . وَمُسَمَّى الصَّلَاةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا إلَّا بِدُعَاءِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ وَالصَّلَاةُ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قُرْآنٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي نُهِيت أَنْ

أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا } فَالسُّجُودُ لَا يَكُونُ فِيهِ قُرْآنٌ وَصَلَاةُ التَّقَرُّبِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قُرْآنٍ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي مَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ فَإِنَّهَا بِقُرْآنِ أَكْمَلُ وَلَكِنَّ مَقْصُودَهَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ قُرْآنٍ . وَأَمَّا مَسُّ الْمُصْحَفِ : فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ الْوُضُوءُ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ : سَعْدٍ وَسَلْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ . وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ } . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ وَقَدْ أَقَرَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى السُّجُودِ لِلَّهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ السُّجُودَ لِلَّهِ خُضُوعٌ : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } وَأَمَّا كَلَامُهُ فَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ ؛ وَلِهَذَا يُنْهَى أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ فِي حَال الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِذَا نُهِيَ أَنْ يُقْرَأَ فِي السُّجُودِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْمُصْحَفُ مِثْلَ السُّجُودِ وَحُرْمَةُ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ الْمُحْدِثُ وَيَدْخُلَهُ الْكَافِرُ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَدْخُلُونَهُ . وَاخْتُلِفَ فِي نَسْخِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُصْحَفِ فَلَا يَلْزَمُ إذَا جَازَ الطَّوَافُ مَعَ الْحَدَثِ أَنْ يَجُوزَ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ . وَعَلَى هَذَا فَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَسَعِيدٍ مِنْ أَنَّ الْحَائِضَ تُومِئُ بِالسُّجُودِ هُوَ لِأَنَّ حَدَثَ الْحَائِضِ أَغْلَظُ وَالرُّكُوعُ هُوَ

سُجُودٌ خَفِيفٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } قَالُوا : رُكَّعًا فَرُخِّصَ لَهَا فِي دُونِ كَمَالِ السُّجُودِ . وَأَمَّا احْتِجَاجُ ابْنِ حَزْمٍ عَلَى أَنَّ مَا دُونُ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِصَلَاةِ بِقَوْلِهِ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى } فَهَذَا يَرْوِيهِ الأزدي عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ خِلَافُ مَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ الْمَعْرُوفُونَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . فَإِنَّهُمْ رَوَوْا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الْفَجْرَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ } وَلِهَذَا ضَعَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ الْبَارِقِيَّ . وَلَا يُقَالُ هَذِهِ زِيَادَةٌ مِنْ الثِّقَةِ ؛ فَتَكُونُ مَقْبُولَةً لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا مُتَكَلَّمٌ فِيهِ . الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُخَالِفْ الْجُمْهُورَ وَإِلَّا فَإِذَا انْفَرَدَ عَنْ الْجُمْهُورِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يُخَالِفْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ : { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ : صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ

فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا ذَكَرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ مُنْفَرِدَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسَّائِلُ إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُجِيبُ عَنْ أَعَمَّ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ - كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَحْرِ لَمَّا { قِيلَ لَهُ : إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ . الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } - لَكِنْ يَكُونُ الْجَوَابُ مُنْتَظِمًا كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ . وَهُنَاكَ إذَا ذُكِرَ النَّهَارُ لَمْ يَكُنْ الْجَوَابُ مُنْتَظِمًا ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِيهِ قَوْلُهُ : { فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ } وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ لَا رَيْبَ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَدْ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ كَلَامًا مُبْتَدَأً لِآخَرَ : إمَّا لِهَذَا السَّائِلِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ . قِيلَ : كُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنَّمَا رَوَاهُ هَكَذَا فَذَكَرُوا فِي أَوَّلِهِ السُّؤَالَ وَفِي آخِرِهِ الْوِتْرَ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا صَلَاةُ اللَّيْلِ وَهَذَا خَالَفَهُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ مَا فِي أَوَّلِهِ وَلَا مَا فِي آخِرِهِ وَزَادَ فِي وَسَطِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَمَا أَشْبَهَهَا مَتَى تَأَمَّلَهَا اللَّبِيبُ عَلِمَ أَنَّهُ غَلِطَ فِي الْحَدِيثِ

وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَوْجَبَ رِيبَةً قَوِيَّةً تَمْنَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ عَلَى إثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ وَهُوَ صَلَاةٌ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَغَيْرِهَا فَعُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ بَيَانَ مُسَمَّى الصَّلَاةِ وَتَحْدِيدَهَا فَإِنَّ الْحَدَّ يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ . فَإِنْ قِيلَ : قَصَدَ بَيَانَ مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّلَاةِ . قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمْ جَائِزٌ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ أَيْضًا جَائِزٌ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لَا عَلَى الِاسْمِ وَلَا عَلَى الْحُكْمِ . وَكُلُّ قَوْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُتَأَخِّرُ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَطَأً كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ . وَأَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ : فَقَدْ جَوَّزَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الضَّعِيفِ . وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا سَجْدَتَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ الشَّكِّ : { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ

فَلَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَإِنْ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتَهُ وَإِلَّا كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ } . وَفِي لَفْظٍ { وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَمَامًا كَانَتَا تَرْغِيمًا } . فَجَعَلَهُمَا كَالرَّكْعَةِ السَّادِسَةِ الَّتِي تَشْفَعُ الْخَامِسَةَ الْمَزِيدَةَ سَهْوًا . وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْمَكْتُوبَةِ وَفَعَلَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ . وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُهُ قُرْبَةً بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ إنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُفْعَلَانِ : إمَّا قَبْلَ السَّلَامِ وَإِمَّا قَرِيبًا مِنْ السَّلَامِ فَهُمَا مُتَّصِلَانِ بِالصَّلَاةِ دَاخِلَانِ فِيهَا . فَهُمَا مِنْهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّهُمَا جبران لِلصَّلَاةِ فَكَانَتَا كَالْجُزْءِ مِنْ الصَّلَاةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ لَهُمَا تَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ مِنْهُمَا وَيَتَشَهَّدُ فَصَارَتَا أَوْكَدَ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ . وَفِي الْجُمْلَةِ : سَجْدَتَا السَّهْوِ مَنْ جِنْسِ سَجْدَتَيْ الصَّلَاةِ لَا مِنْ جِنْسِ

سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ ؛ وَلِهَذَا يُفْعَلَانِ إلَى الْكَعْبَةِ وَهَذَا عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ فَعَلَهَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَلَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ . كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ . وَإِذَا كَانَ السَّهْوُ فِي الْفَرِيضَةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدهُمَا بِالْأَرْضِ كَالْفَرِيضَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُمَا عَلَى الرَّاحِلَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ بِخِلَافِ سُجُودِ الشُّكْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي اسْتِحْبَابِهِ نِزَاعٌ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي وُجُوبِهِ نِزَاعٌ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا بِالْإِجْمَاعِ فَسُجُودُ التِّلَاوَةِ سَبَبُهُ الْقِرَاءَةُ فَيَتْبَعُهَا . وَلَمَّا كَانَ الْمُحْدِثُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فَلَهُ أَنْ يَسْجُدَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ . وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ سَجَدُوا وَمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَعُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ . وَقَوْلُهُ : { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ } أَيْ مِنْ الْأَفْعَالِ فَلَمْ تَدْخُلْ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ . وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَقْرَبِ وَالْأَفْضَلِ :

فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَ مِنْ السُّجُودِ وَإِنْ كَانَ فِي السُّجُودِ أَقْرَبَ : كَالْجِهَادِ فَإِنَّهُ سَنَامُ الْعَمَلِ . إلَّا أَنْ يُرَادَ السُّجُودُ الْعَامُّ وَهُوَ الْخُضُوعُ . فَهَذَا يَحْصُلُ لَهُ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ يَحْصُلُ لِلرَّجُلِ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ فِي حَالِ السُّجُودِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ } وَقَوْلِهِ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلْثُ اللَّيْلِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } فَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُ الدَّاعِي أَفْضَلَ مِنْ الدَّاعِي . كَمَا قَالَ : { مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ الْغُسْلُ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ : هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِ الصَّلَاةُ جُنُبًا وَلَا يُعِيدُ ؟ .
فَأَجَابَ : الطَّهَارَةُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَرْضٌ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُصَلِّيَ جُنُبًا وَلَا مُحْدِثًا حَتَّى يَتَطَهَّرَ وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي كُفْرِهِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ الْغَلِيظَةِ لَكِنْ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ اغْتَسَلَ وَإِنْ كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ وَيَخَافُ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ بِمَرَضِ أَوْ خَوْفِ بَرْدٍ تَيَمَّمَ وَصَلَّى . وَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُسْلُ وَالتَّيَمُّمُ صَلَّى بِلَا غُسْلٍ وَلَا تَيَمُّمٍ فِي أَظْهَرِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يُلَاعِبُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ بَعْدَ سَاعَةٍ يَبُولُ فَيُخْرِجُ شِبْهَ الْمَنِيِّ بِأَلَمِ وَعَصْرٍ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْمَنِيُّ الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ بِشَهْوَةِ وَهُوَ أَبْيَضُ غَلِيظٌ تُشْبِهُ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ . فَأَمَّا الْمَنِيُّ الَّذِي يَخْرُجُ بِلَا شَهْوَةٍ إمَّا لِمَرَضِ أَوْ غَيْرِهِ فَهَذَا فَاسِدٌ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَأَحْمَد . كَمَا أَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَالْخَارِجُ عَقِيبَ الْبَوْلِ تَارَةً مَعَ أَلَمٍ أَوْ بِلَا أَلَمٍ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَا غُسْلَ فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ قِيلَ لَهَا إذَا كَانَ عَلَيْك نَجَاسَةٌ مَنْ عُذَرِ النِّسَاءِ أَوْ مِنْ جَنَابَةٍ لَا تَتَوَضَّئِي إلَّا تَمْسَحِي بِالْمَاءِ مِنْ دَاخِلِ الْفَرْجِ فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ ؟ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ غَسْلُ دَاخِلِ الْفَرْجِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَتَيْنِ تَبَاحَثَتَا فَقَالَتْ إحْدَاهُمَا : يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَدُسَّ إصْبَعَهَا وَتَغْسِلَ الرَّحِمَ مِنْ دَاخِلٍ . وَقَالَتْ الْأُخْرَى : لَا يَجِبُ إلَّا غَسْلُ الْفَرْجِ مَنْ ظَاهِرٍ فَأَيُّهُمَا عَلَى الصَّوَابِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَتْ جَازَ .
وَسُئِلَ : (*)
عَنْ امْرَأَةٍ تَضَعُ مَعَهَا دَوَاءً وَقْتَ الْمُجَامَعَةِ تَمْنَعُ بِذَلِكَ نُفُوذَ الْمَنِيِّ فِي مَجَارِي الْحَبَلِ فَهَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ حَلَالٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إذَا بَقِيَ ذَلِكَ الدَّوَاءُ مَعَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ . وَلَمْ يَخْرُجْ يَجُوزُ لَهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بَعْدَ الْغُسْلِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا صَوْمُهَا وَصَلَاتُهَا فَصَحِيحَةٌ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الدَّوَاءُ

فِي جَوْفِهَا وَأَمَّا جَوَازُ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَمَا قَدْرُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَهَلْ يُكَرِّرُ الصَّبَّ عَلَى وَجْهِهِ فِي الْوُضُوءِ ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ :
الصَّاعُ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ : رِطْلٌ وَأُوقِيَّتَانِ تَقْرِيبًا وَالْمُدُّ رُبُع ذَلِكَ . وَهَذَا مَعَ الِاقْتِصَادِ وَالرِّفْقِ يَكْفِي غَالِبَ النَّاسِ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الزِّيَادَةِ أَحْيَانًا لِحَاجَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . لَكِنْ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ قِلَّةُ وُلُوعِهِ بِالْمَاءِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَكْثِيرِ الِاغْتِرَافِ مَكْرُوهٌ بَلْ إذَا غَرَفَ الْمَاءَ يُرْسِلُهُ عَلَى وَجْهِهِ إرْسَالًا مِنْ أَعَالِي الْوَجْهِ إلَى أَسْفَلِهِ بِرِفْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ فَهَلْ يَجْزِيهِ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْأَفْضَلُ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَغْسِلُ سَائِرَ بَدَنِهِ وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ . كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ . وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد : عَلَيْهِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهَلْ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثَيْنِ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي الْحَمَّامِ قَدْ كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَد بِنَاءَ الْحَمَّامِ وَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَكِرَائِهِ وَذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أُمُورٍ مُحَرَّمَةٍ كَثِيرًا . أَوْ غَالِبًا مِثْلَ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ وَمَسِّهَا وَالنَّظَرِ إلَيْهَا وَالدُّخُولِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَيْهَا كَنَهْيِ النِّسَاءِ وَقَدْ تَشْتَمِلُ عَلَى فِعْلِ فَوَاحِشَ كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ بِالنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي : { إنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ : يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي بَيْتًا قَالَ : بَيْتُك الْحَمَّامُ } . وَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا تَصْوِيرُ الْحَيَوَانِ فِي حِيطَانِهَا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . قُلْت : قَدْ كَتَبْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهَا فَأَقُولُ هُنَا : إنَّ جَوَابَاتِ أَحْمَد وَنُصُوصَهُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِي نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ خَرَّجَ كَلَامَهُ عَلَى الْحَمَّامَاتِ الَّتِي يَعْهَدُهَا فِي الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَهِيَ جُمْهُورُ الْبِلَادِ الَّتِي انْتَابَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ

إلَى خُرَاسَانَ وَلَمْ يَأْتِ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْبِلَادِ إلَّا مَرَّةً فِي مَجِيئِهِ إلَى دِمَشْقَ . وَهَذِهِ الْبِلَادُ الْمَذْكُورَةُ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْحَرُّ وَأَهْلُهَا لَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْحَمَّامِ غَالِبًا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ حَمَّامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ . وَلَمْ يَدْخُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَّامًا وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْحَمَّامَ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ . وَلَكِنْ عَلِيٌّ لَمَّا قَدِمَ الْعِرَاقَ كَانَ بِهَا حَمَّامَاتٌ وَقَدْ دَخَلَ الْحَمَّامَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَبُنِيَ بِالْجُحْفَةِ حَمَّامٌ دَخَلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابُ أَحْمَد كَانَ مُطْلَقًا فِي نَفْسِهِ وَصُورَةُ الْحَاجَةِ لَمْ يَسْتَشْعِرْهَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا فَلَا يَكُونُ جَوَابُهُ مُتَنَاوِلًا لَهَا فَلَا يُحْكَى عَنْهُ فِيهَا كَرَاهَةٌ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِجَوَابِهِ الْمَنْعَ الْعَامَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا وَهَذَا أَبْعَدُ الْمَحَامِلِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فَإِنَّ أُصُولَهُ وَسَائِرَ نُصُوصِهِ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ تَأْبَى ذَلِكَ وَهُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ وُصِفَ لَهُ الْحَمَّامُ . وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ اقْتِدَاءً بِابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَدْخُلُهَا وَيَقُولُ هِيَ : مِنْ رَقِيقِ الْعَيْشِ وَهَذَا مُمْكِنٌ فِي أَرْضٍ

يَسْتَغْنِي أَهْلُهَا عَنْ الْحَمَّامِ كَمَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْفِرَاءِ وَالْحَشَايَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ . وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي تَفْصِيلِ حُكْمِ مَا ذُكِرَ مِنْ بِنَائِهَا وَبَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا وَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ : فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يُحْتَاجُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ مَحْظُورٍ أَوْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَلَا مَحْظُورَ أَوْ يُحْتَاجُ إلَيْهَا مَعَ الْمَحْظُورِ أَوْ يَكُونُ هُنَاكَ مَحْظُورٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَلَا رَيْبَ فِي الْجَوَازِ : مِثْلَ أَنْ يَبْنِيَ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ حَمَّامًا فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ وَلَا يَفْعَلُ فِيهَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُنَا حَاجَةٌ . أَوْ مِثْلَ : أَنْ يُقَدَّرَ بِنَاءُ حَمَّامٍ عَامَّةً فِي بِلَادٍ بَارِدَةٍ وَصِيَانَتُهَا عَنْ كُلِّ مَحْظُورٍ فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَالْبَيْعَ وَالْكِرَاءَ هُنَا بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ الرَّجُلِ إلَى الْحَمَّامِ الْخَاصَّةِ أَوْ الْمُشْتَرِكَةِ مَعَ غَضِّ بَصَرِهِ وَحِفْظِ فَرْجِهِ وَقِيَامِهِ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِي جَوَازِهِ وَقَدْ دَخَلَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَأَحَادِيثُ الرُّخْصَةِ فِيهَا مَشْهُورَةٌ . كَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري الَّذِي

رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدُوا فِي الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ . وَقَدْ أَرْسَلَهُ طَائِفَةٌ وَأَسْنَدَهُ آخَرُونَ وَحَكَمُوا لَهُ بِالثُّبُوتِ وَاسْتِثْنَاؤُهُ الْحَمَّامَ مِنْ الْأَرْضِ كَاسْتِثْنَائِهِ الْمَقْبَرَةَ فِي كَوْنِهَا مَسْجِدًا دَلِيلٌ عَلَى إقْرَارِهَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّهُ لَا يُنْهَى عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا مُطْلَقًا ؛ إذْ لَوْ كَانَ يَجِبُ إزَالَتُهَا وَيَحْرُمُ بِنَاؤُهَا وَدُخُولُهَا لَمْ تُخَصَّ الصَّلَاةُ بِالْمَنْعِ . وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ قَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ : كَأَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي : إنَّهُ يُعِيدُ . قِيلَ : لِأَنَّهُ مَحَلُّ الشَّيَاطِينِ وَفِيهِ وَجْهٌ . وَهُوَ التَّعْلِيلُ بِمَظِنَّةِ النَّجَاسَةِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمَنْعَ يَتَنَاوَلُ مَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُشَلَّحُ وَالْمُغْتَسَلُ وَالْأَنْدَرُ . وَقَدْ يُقَالُ : الْحَمَّامُ فَعَّالٌ مِنْ الْحَمِّ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي فِيهِ الْهَوَاءُ الْحَارُّ وَالْمَاءُ الْحَارُّ يُتَعَرَّضْنَ فِيهِ . فَأَمَّا الْمُشَلَّحُ الَّذِي تُوضَعُ فِيهِ الثِّيَابُ وَهُوَ بَارِدٌ لَا يُغْتَسَلُ فِيهِ وَلَا يَقْعُدُ فِيهِ إلَّا الْمُتَلَبِّسُ فَلَيْسَ هُوَ مَكَانَ حَمَّامٍ وَالدُّخُولُ فِي الْمَنْعِ لَا يَصْلُحُ لَهُ تَعْلِيلٌ .

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْبَرَةَ وَأَعْطَانَ الْإِبِلِ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَإِنْ دَخَلَ فِي الْمَنْعِ إلَّا أَنَّهُ يُقَالُ : لَفْظُ الْحَمَّامِ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ وَلَا يُعْرَفُ حَمَّامٌ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الْمَكَانُ (1) .
وَتُخْلَعُ فِيهِ الثِّيَابُ هَذِهِ هِيَ الْحَمَّامَاتُ الْمَعْرُوفَةُ وَالْحَمَّامَاتُ الْمَوْجُودَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ (2) .
الشَّيَاطِين يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ . كَمَا أَنَّ صَحْنَ الْمَسْجِدِ هُوَ تَبَعٌ لِلْمَسْجِدِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي رَحَبَةِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الرَّحَبَةَ الْخَارِجَةَ عَنْ سُورِ الْمَسْجِدِ غَيْرُ الرَّحَبَةِ الَّتِي هِيَ صَحْنٌ مَكْشُوفٌ بِجَانِبِ الْمَسْقُوفِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ فَهَذَا الثَّانِي نِسْبَتُهُ إلَيْهِ تُشْبِهُ نِسْبَةَ خَارِجِ الْحَمَّامِ إلَى دَاخِلِهِ . وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ : إنَّمَا تَكُونُ الْحُجَّةُ أَنْ لَوْ عُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ أَمْكَنَهُمْ دُخُولُهُ فَلَمْ يَدْخُلُوهُ وَإِلَّا فَإِذَا اُحْتُمِلَ مَعَ الْإِمْكَانِ الدُّخُولُ وَعَدَمُهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا وَكَانَ يَقُولُ : هِيَ مِمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ رَقِيقِ الْعَيْشِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُضُولِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ وَبِهَذَا اقْتَدَى أَحْمَد . وَهَذَا تَرْكٌ لَهَا مِنْ

بَابِ الزُّهْدِ فِي فُضُولِ الْمُبَاحِ . وَالزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ هُوَ تَرْكُ الرَّغْبَةِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ دُخُولُ الْحَمَّامِ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي أَعْمَالِ الْآخِرَةِ كَانَ تَرْكُهُ زُهْدًا مَشْرُوعًا . وَلِتَرْكِهِ وَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَالْوَرَعُ الْمَشْرُوعُ هُوَ تَرْكُ مَا قَدْ يَضُرُّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهَذَا مِنْهُ وَرَعٌ وَاجِبٌ كَتَرْكِ الْمُحَرَّمِ وَمِنْهُ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ تَرْكُ الْمُشْتَبِهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ مَا قَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا اشْتَمَلَ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ أَوْ تَعَمُّدِ النَّظَرِ إلَى عَوْرَةِ الْغَيْرِ أَوْ تَمَكُّنِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ مَسِّ عَوْرَتِهِ أَوْ مَسِّ عَوْرَةِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ ظُلْمِ الحمامي بِمَنْعِ حَقِّهِ وَصَبِّ الْمَاءِ الزَّائِدِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْمُعَاوَضَةُ أَوْ الْمُكْثِ فَوْقَ مَا يُقَابِلُ الْعِوَضَ الْمَبْذُولَ لَهُ بِدُونِ رِضَاهُ أَوْ فِعْلِ الْفَوَاحِشِ فِيهَا أَوْ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تُفْعَلُ كَثِيرًا فِيهَا أَوْ تَفْوِيتِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ . وَمِنْهُ مَا قَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا مُحَرَّمًا أَوْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ مِثْلَ صَبِّ الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَاللُّبْثِ الطَّوِيلِ مَعَ الْمُعَاوَضَةِ عَنْهُمَا وَالْإِسْرَافِ فِي نَفَقَتِهَا وَالتَّعَرُّضِ لِلْمُحَرَّمِ مِنْ غَيْرِ وُقُوعٍ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ التَّمَتُّعُ

وَالتَّرَفُّهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ وَلَا اسْتِعَانَةٍ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ . وَقَدْ يَكُونُ دُخُولُهَا وَاجِبًا إذَا احْتَاجَ إلَى طِهَارَةٍ وَاجِبَةٍ لَا تُمْكِنُ إلَّا فِيهَا وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ فِعْلُ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا فِيهَا مِثْلُ الْأَغْسَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا إلَّا فِيهَا وَمِثْلُ نَظَافَةِ الْبَدَنِ مِنْ الْأَوْسَاخِ الَّتِي لَا تُمْكِنُ إلَّا فِيهَا . فَإِنَّ نَظَافَةَ الْبَدَنِ مِنْ الْأَوْسَاخِ مُسْتَحَبَّةٌ . كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ قَالَ مُصْعَبٌ : وَنَسِيت الْعَاشِرَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ } . قَالَ وَكِيعٌ : انْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مِنْ الْفِطْرَةِ - أَوْ قَالَ الْفِطْرَةُ - الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَالسِّوَاكُ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَالِاسْتِحْدَادُ وَالِاخْتِتَانُ وَالِانْتِضَاحُ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد . وَهَذَا لَفْظُهُ . وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه .

وَهَذِهِ الْخِصَالُ عَامَّتُهَا إنَّمَا هِيَ لِلنَّظَافَةِ مِنْ الدَّرَنِ فَإِنَّ الشَّارِبَ إذَا طَالَ يَعْلَقُ بِهِ الْوَسَخُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْفَمُ إذَا تَغَيَّرَ يُنَظِّفُهُ السِّوَاكُ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ يُنَظِّفَانِ الْفَمَ وَالْأَنْفَ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ يُنَظِّفُهَا مِمَّا يَجْتَمِعُ تَحْتَهَا مِنْ الْوَسَخِ وَلِهَذَا رُوِيَ { يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيَّ وَرَفْغُهُ تَحْتَ أَظْفَارِهِ } يَعْنِي الْوَسَخَ الَّذِي يَحُكُّهُ بِأَظْفَارِهِ مِنْ أرفاغه . وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَهِيَ عُقَدُ الْأَصَابِعِ فَإِنَّ الْوَسَخَ يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا مَا لَا يَجْتَمِعُ بَيْنَ الْعُقَدِ وَكَذَلِكَ الْإِبِطُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الشَّعْرِ عَرَقُ الْإِبِطِ وَكَذَلِكَ الْعَانَةُ إذَا طَالَتْ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } . فَهَذَا غَايَةُ مَا يُتْرَكُ الشَّعْرُ وَالظُّفْرُ الْمَأْمُورُ بِإِزَالَتِهِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ : يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ } وَهَذَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ هُوَ غُسْلٌ رَاتِبٌ مَسْنُونٌ لِلنَّظَافَةِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْجُمْعَةَ . بِحَيْثُ يَفْعَلُهُ مَنْ لَا جُمْعَةَ عَلَيْهِ . وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ غُسْلُ يَوْمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ }

رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي . وَهَذَا لَفْظُهُ وَأَبُو حَاتِمٍ البستي . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فِي الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَمُتَعَدِّدَةٌ . وَذَاكَ يُعَلَّلُ بِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَشُهُودِ الْمَلَائِكَةِ وَمَعَ الْعَبْدِ مَلَائِكَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ } وَعَنْ { قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ : أَنَّهُ أَسْلَمَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي . وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَهَذَانِ غُسْلَانِ مُتَنَازَعٌ فِي وُجُوبِهِمَا حَتَّى فِي وُجُوبِ السِّدْرِ . فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي " الْمُشْتَبِهِ " وُجُوبَ ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاغْتِسَالِ بِمَاءِ وَسِدْرٍ - كَمَا أَمَرَ بِالسِّدْرِ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَفِي غَسْلِ ابْنَتِهِ الْمُتَوَفَّاةِ . وَكَمَا أَمَرَ الْحَائِضَ أَيْضًا أَنْ تَأْخُذَ مَاءَهَا وَسِدْرَهَا - إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ التَّنْظِيفِ فَإِنَّ السِّدْرَ مَعَ الْمَاءِ يُنَظِّفُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاغْتِسَالَ فِي الْحَمَّامِ أَتَمُّ تَنْظِيفًا فَإِنَّهَا تُحَلِّلُ الْوَسَخَ بِهَوَائِهَا الْحَارِّ وَمَائِهَا الْحَارِّ وَمَا كَانَ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ كَانَ أَحَبَّ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ .

وَأَيْضًا فَالرَّجُلُ إذَا شَعِثَ رَأْسُهُ وَاتَّسَخَ وَقَمِلَ وَتَوَسَّخَ بَدَنُهُ كَانَ ذَلِكَ مُؤْذِيًا لَهُ وَمُضِرًّا حَتَّى قَدْ جَعَلَ اللَّهُ هَذَا مِمَّا يُبِيحُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ وَيَفْتَدِيَ . كَمَا قَالَ : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ لَمَّا مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي الْإِحْلَالِ وَالْقَمْلُ يَتَهَافَتُ عَلَى رَأْسِهِ } وَقَدْ تَكُونُ إزَالَةُ هَذَا الْأَذَى وَالضَّرَرِ فِي غَيْرِ الْحَمَّامِ إمَّا مُتَعَذِّرَةً أَوْ مُتَعَسِّرَةً . فَالْحَمَّامُ لِمِثْلِ هَذَا مَشْرُوعَةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَقَدْ يَكُونُ بِهِ مِنْ الْمَرَضِ مَا يَنْفَعُهُ فِيهِ الْحَمَّامُ وَاسْتِعْمَالُ مِثْلِ ذَلِكَ : إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا جَائِزٌ . فَإِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَأَيْضًا فَالْحَمَّامُ قَدْ يُحَلِّلُ عَنْهُ مِنْ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَوْسَاخِ وَيُوجِبُ لَهُ مِنْ الرَّاحَةِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ والمُسْتَحَبَّاتِ وَدُخُولُهَا حِينَئِذٍ بِهَذِهِ النِّيَّةِ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِعَانَةِ بِسَائِرِ مَا يَسْتَرِيحُ بِهِ كَالْمَنَامِ وَالطَّعَامِ . كَمَا قَالَ مُعَاذٌ لِأَبِي مُوسَى : إنِّي أَنَامُ وَأَقُومُ وَأَحْتَسِبُ نُوَمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي . وَنَظَائِرُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مُتَعَدِّدَةٌ . كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا .

الْقِسْمُ الثَّانِي : إذَا خَلَتْ عَنْ مَحْظُورٍ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْحَارَّةِ فَهُنَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِنَاؤُهَا وَقَدْ بُنِيَتْ الْحَمَّامَاتُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ فِي الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ وَأَقَرُّوهَا . وَأَحْمَد لَمْ يَقُلْ : إنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَلَكِنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ غَالِبًا عَلَى مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ . وَفِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ كَانَ النَّاسُ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَرْعَى لِحُدُودِهِ مِنْ أَنْ يَكْثُرَ فِيهَا الْمَحْظُورُ فَلَمْ تَكُنْ مَكْرُوهَةً إذْ ذَاكَ وَإِنْ وَقَعَ فِيهَا أَحْيَانًا مَحْظُورٌ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ وُقُوعِ الْمَحْظُورِ فِيمَا يُبْنَى مِنْ الْأَسْوَاقِ وَالدُّورِ الَّتِي لَمْ يُنْهَ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْحَاجَةِ وَالْمَحْظُورِ غَالِبًا : كَغَالِبِ الْحَمَّامَاتِ الَّتِي فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِأَهْلِ تِلْكَ الْأَمْصَارِ مِنْ الْحَمَّامِ وَلَا بُدَّ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَحْظُورٍ فَهُنَا أَيْضًا لَا تُطْلَقُ كَرَاهَةُ بِنَائِهَا وَبَيْعِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ } . إنَّمَا يَقْتَضِي اتِّقَاءَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ بِخِلَافِ =ج34=

ج34. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

مَا إذَا اشْتَبَهَ الْوَاجِبُ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ بِالْمَحْظُورِ ؛ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَابْنُ حَامِدٍ وَلِهَذَا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد : عَنْ رَجُلٍ مَاتَ أَبُوهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ دُيُونٌ فِيهَا شُبْهَةٌ أَيَقْضِيهَا وَلَدُهُ ؟ فَقَالَ : أَيَدَعُ ذِمَّةَ أَبِيهِ مَرْهُونَةً وَهَذَا جَوَابٌ سَدِيدٌ فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ فَلَا يُتْرَكُ لِمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِقَابٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِنْ الْأَغْسَالِ مَا هُوَ وَاجِبٌ : كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُؤَكَّدٌ قَدْ تُنُوزِعَ فِي وُجُوبِهِ كَغُسْلِ الْجُمْعَةِ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهَذِهِ الْأَغْسَالُ لَا تُمْكِنُ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ إلَّا فِي حَمَّامٍ . وَإِنْ اغْتَسَلَ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ ؛ أَوْ الْمَرَضُ . فَلَا يَجُوزُ الِاغْتِسَالُ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ حِينَئِذٍ . وَلَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ فِي الْحَمَّامِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَرَاهَةً مِثْلَ كَوْنِ الْمَاءِ مُسْخَنًا بِالنَّجَاسَةِ عِنْدَ مَنْ يَكْرَهُهُ مُطْلَقًا أَوْ عِنْدَ مَنْ يَكْرَهُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَاءِ وَالدُّخَانِ حَاجِزٌ حَصِينٌ كَمَا قَدْ تَنَازَعَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ بِكُلِّ حَالٍ يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ التَّطَهُّرَ مِنْ الْجَنَابَةِ بِالْمَاءِ وَاجِبٌ مَعَ الْقُدْرَةِ وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى وَصْفٍ مَكْرُوهٍ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَبْقَى مَكْرُوهًا .

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كُرِهَ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ بِالْحَاجَةِ إلَيْهِ لِطَهَارَةِ وَاجِبَةٍ أَوْ شُرْبٍ وَاجِبٍ لَا يَبْقَى مَكْرُوهًا . وَلَكِنْ هَلْ يَبْقَى مَكْرُوهًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي طَهَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ هَذَا مَحَلُّ تَرَدُّدٍ ؛ لِتَعَارُضِ مَفْسَدَةِ الْكَرَاهَةِ وَمَصْلَحَةِ الِاسْتِحْبَابِ . وَالتَّحْقِيقُ : تَرْجِيحُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً بِحَسَبِ رُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ تَارَةً وَالْمَفْسَدَةِ أُخْرَى . وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَقَدْ يُقَالُ : بِنَاءُ الْحَمَّامِ وَاجِبٌ حِينَئِذٍ حَيْثُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ الْعَامِّ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّمَا يَجِبُ الِاغْتِسَالُ فِيهَا عِنْدَ وُجُودِهَا وَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا ابْتِدَاءً . كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ حَمْلُ الْمَاءِ مَعَهُ لِلطَّهَارَةِ وَلَا إعْدَادُ الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ فَإِذَا فُتِحَتْ مَدِينَةٌ وَفِيهَا حَمَّامٌ لَمْ يُهْدَمْ وَالْحَالُ هَذِهِ . كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ . وَكَذَلِكَ مَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ بِإِرْثِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا مَنْ مَلَكَهَا بِاخْتِيَارِهِ فَالْكَلَامُ فِي مِلْكِهَا ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ بِنَائِهَا . وَعَلَى هَذَا ؛ فَقَدْ يُقَالُ : نَحْنُ إنَّمَا نَكْرَهُ بِنَاءَهَا ابْتِدَاءً فَأَمَّا إذَا بَنَاهَا غَيْرُنَا فَلَا نَأْمُرُ بِهَدْمِهَا ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَكَلَامُ أَحْمَد الْمُتَقَدِّمُ إنَّمَا هُوَ فِي الْبِنَاءِ لَا فِي الْإِبْقَاءِ وَالِاسْتِدَامَةُ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْإِحْرَامُ وَالْعِدَّةُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا يَمْنَعُ دَوَامَهُ وَأَهْلُ

الذِّمَّةِ يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ مَعَابِدِهِمْ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إبْقَائِهَا إذَا دَخَلَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِمْ . وَإِذَا كَانَ الْمَكْرُوهُ الِابْتِدَاءَ فَالْجُنُبُ وَنَحْوُهُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْحَمَّامِ إذَا أَمْكَنَ فَهَذَا يُفِيدُ وُجُوبَ دُخُولِ الْحَمَّامِ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَاحْتِيجَ إلَيْهَا لِطَهَارَةِ وَاجِبَةٍ فَلِمَ قُلْتُمْ : إنَّهُ يَسُوغُ بِنَاؤُهَا ابْتِدَاءً لِذَلِكَ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَحْظُورٍ ؟ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَأَمَّا مَا لَا يَتِمُّ الْوُجُوبُ إلَّا بِهِ فَلَيْسَ بِوَاجِبِ . - وَهُنَا الْوُجُوبُ عِنْدَ عَدَمِ بِنَائِهَا مُنْتَفٍ فَإِذَا تَوَقَّفْتُمْ فِي الْوُجُوبِ فَتَوَقَّفُوا فِي الْإِبَاحَةِ . . . (1) .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى الْمَحْظُورِ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا : كَمَا فِي حَمَّامَاتِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ : فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَهَذَا مَحَلُّ نَصِّ أَحْمَد وَتَجَنُّبُ ابْنِ عُمَرَ .
الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي دُخُولِهَا
فَنَقُولُ : لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى كَرَاهَةِ دُخُولِهَا أَوْ عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْهَا وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَإِنَّ

هَذَا إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لَوْ امْتَنَعُوا مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ وَقَصَدُوا اجْتِنَابَهَا أَوْ أَمْكَنَهُمْ دُخُولُهَا فَلَمْ يَدْخُلُوهَا وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ حِينَئِذٍ حَمَّامٌ فَلَيْسَ إضَافَةُ عَدَمِ الدُّخُولِ إلَى وُجُودِ مَانِعِ الْكَرَاهَةِ أَوْ عَدَمِ مَا يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ بِأَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى فَوَاتِ شَرْطِ الدُّخُولِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَالْإِمْكَانُ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي سَائِرِ الْأَرْضِ مِنْ الْقُوتِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْمَسَاكِنِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحِجَازِ فَلَمْ يَأْكُلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّعَامِ الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ وَلَا لَبِسَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ اللِّبَاسِ . ثُمَّ إنَّ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضِ أُخْرَى : كَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ وَخُرَاسَانَ وأرمينية وَأَذْرَبِيجَانَ وَالْمَغْرِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَطْعِمَةٌ وَثِيَابٌ مَجْلُوبَةٌ عِنْدَهُمْ أَوْ مَجْلُوبَةٌ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَظُنُّوا تَرْكَ الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ سُنَّةً ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْكُلْ مِثْلَهُ وَلَمْ يَلْبَسْ مِثْلَهُ ؛ إذْ عَدَمُ الْفِعْلِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ دَلِيلٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ الْقَوْلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ مِنْ أَقْوَالِهِ : كَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَإِذْنِهِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى . . هِيَ أَقْوَى وَأَكْبَرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ عَدَمُ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ .

وَكَذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَنَفْيُ الْحُكْمِ بِالِاسْتِحْبَابِ لِانْتِفَاءِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلِ بَاقِي الْأَدِلَّةِ خَطَأٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَلَمْ تَكُنْ الْبِغَالُ مَوْجُودَةً بِأَرْضِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَرْكَبْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةً إلَّا الْبَغْلَةَ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقَسُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ . وَمِثْلُهَا فِي الْقُرْآنِ : يَمْتَنُّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعَمِهِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ } { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا } { ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا } . { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا } { وَعِنَبًا وَقَضْبًا } { وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا } { وَحَدَائِقَ غُلْبًا } . { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } . وَلَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ زَيْتُونٌ وَلَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكَلَ زَيْتُونًا . وَلَكِنْ لَعَلَّ الزَّيْتَ كَانَ يُجْلَبُ إلَيْهِمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } وَلَمْ يَكُنْ بِأَرْضِهِمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُوا الزَّيْتَ وَادْهُنُوا

بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَحَدَائِقَ غُلْبًا } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ : { لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } وَقَوْلُهُ : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ . لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } وَلَمْ يَرْكَبْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَحْرَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ . { وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ يَرْكَبُ الْبَحْرَ مِنْ أُمَّتِهِ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَأَنَّهُمْ مُلُوكٌ عَلَى الْأَسِرَّةِ - لِأُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ ملحان - وَقَالَتْ : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ : أَنْتِ مِنْهُمْ } . وَكَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَطْعَمُ مَا يَجِدُهُ فِي أَرْضِهِ وَيَلْبَسُ مَا يَجِدُهُ وَيَرْكَبُ مَا يَجِدُهُ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ اسْتَعْمَلَ مَا يَجِدُهُ فِي أَرْضِهِ فَهُوَ الْمُتَّبِعُ لِلسُّنَّةِ . كَمَا أَنَّهُ حَجَّ الْبَيْتَ مِنْ مَدِينَتِهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ مِنْ مَدِينَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ الْمُتَّبِعُ لِلسُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَدِينَةُ تِلْكَ .

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاهِدُ مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَمَنْ جَاهَدَ مَنْ يَلِيهِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَقَدْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ وَإِنْ كَانَ نَوْعُ هَؤُلَاءِ غَيْرَ نَوْعِ أُولَئِكَ إذْ أُولَئِكَ كَانَ غَالِبُهُمْ عَرَبًا وَلَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ هُمْ عَلَيْهِ فَمَنْ جَاهَدَ سَائِرَ الْمُشْرِكِينَ : تُرْكَهُمْ وَهِنْدَهُمْ وَغَيْرَهُمْ فَقَدْ فَعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . وَإِنْ كَانَتْ أَصْنَامُهُمْ لَيْسَتْ تِلْكَ الْأَصْنَامَ . وَمَنْ جَاهَدَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَقَدْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ نَوْعٍ آخَرَ غَيْرِ النَّوْعِ الَّذِينَ جَاهَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ جَاهَدَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ : كقريظة وَالنَّضِيرِ وَبَنِيَّ قَيْنُقَاعَ وَيَهُودَ خَيْبَرَ ؛ وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ ؛ وَغَزَا نَصَارَى الشَّامِ عَرَبَهَا وَرُومَهَا عَامَ تَبُوكَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَاتَلُوهُمْ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ . وَقَالَ : أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ . وَصَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَكَانُوا مَجُوسًا عَلَى الْجِزْيَةِ وَهُمْ أَهْلُ هَجْرَ وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ قَدِمَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ فَجَعَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا ثَابَ حَتَّى قَسَمَهُ } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَيَّزْنَا بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ وَبَيَّنَّا أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ سَوَاءٌ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فُعِلَ

عَلَى زَمَانِهِ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَمْ يُفْعَلْ عَلَى زَمَانِهِ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي حِينَئِذٍ لِفِعْلِهِ أَوْ وُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ . فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ أَوْ اسْتَحَبَّهُ فَهُوَ سُنَّةٌ . كَمَا { أَمَرَ بِإِجْلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَكَمَا جَمَعَ الصَّحَابَةُ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ وَكَمَا دَاوَمُوا عَلَى قِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَكْتُبُوا عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ } فَشَرَعَ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ ؛ وَأَمَّا كِتَابَةُ الْحَدِيثِ فَنَهَى عَنْهَا أَوَّلًا وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بِإِذْنِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنْ يَكْتُبَ عَنْهُ مَا سَمِعَهُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَبِإِذْنِهِ لِأَبِي شاه أَنْ يَكْتُبَ لَهُ خُطْبَتَهُ عَامَ الْفَتْحِ وَبِمَا كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مِنْ الْكِتَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى نَجْرَانَ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ : هُنَا أَنَّ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ مَشْرُوعَةٌ لَكِنْ لَمْ يَجْمَعْهُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ . لِأَنَّ نُزُولَهُ لَمْ يَكُنْ تَمَّ وَكَانَتْ الْآيَةُ قَدْ تُنْسَخُ بَعْدَ نُزُولِهَا فَلِوُجُودِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُهُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ حَتَّى مَاتَ . وَكَذَلِكَ قِيَامُ رَمَضَانَ . قَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ } وَقَامَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ بِهِمْ لَيْلَتَيْنِ وَقَامَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ لَيَالِيَ وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَى عَهْدِهِ فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى وَجَمَاعَاتٍ لَكِنْ لَمْ يُدَاوِمْ بِهِمْ عَلَى الْجَمَاعَةِ خَشْيَةَ أَنْ

تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } فَمَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ لَيْسَ بِدْعَةً شَرْعِيَّةً يُنْهَى عَنْهَا وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بِدْعَةً لِكَوْنِهِ اُبْتُدِئَ . كَمَا قَالَ عُمَرُ : نِعْمَت الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي قَاعِدَةٍ .
فَصْلٌ :
الْمَاءُ الْجَارِي فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ خَارِجًا مِنْهَا أَوْ نَازِلًا فِي بَلَالِيعِهَا لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ بَلْ بِطَهَارَتِهِ إلَّا أَنْ تُعْلَمَ نَجَاسَةُ شَيْءٍ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ الْحَمَّامَ لَمْ يُنْهَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا لِكَوْنِهَا مَظِنَّةَ النَّجَاسَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ : إذَا غَسَلْنَا مَوْضِعًا مِنْهَا أَوْ تَيَقَّنَّا طَهَارَتَهُ جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ .

وَأَمَّا عَلَى مَنْ قَالَ بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا . كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ - وَقَدْ صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ مِنْ الْحُفَّاظِ وَبَيَّنُوا أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ أَرْسَلَهُ لَا تُنَافِي الرِّوَايَةَ الْمُسْنَدَةَ الثَّابِتَةَ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } فَاسْتَثْنَى الْحَمَّامَ مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الِاسْمُ مَا دَخَلَ فِي الْمُسَمَّى . فَلَهُمْ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّهْيَ تَعَبُّدٌ . لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ . كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . كَأَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ : يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي بَيْتًا قَالَ : بَيْتُك الْحَمَّامُ قَالَ : اجْعَلْ لِي قُرْآنًا قَالَ : قُرْآنُك الشِّعْرُ قَالَ : اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا قَالَ : مُؤَذِّنُك الْمِزْمَارُ } وَهَذَا التَّعْلِيلُ كَتَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { إنَّ عَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ وَإِنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ } إذْ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ هُنَاكَ بِالنَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَمَبَارِكِ الْغَنَمِ وَكِلَاهُمَا فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ سَوَاءٌ . كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِهَا ؛ بِأَنَّهُ لِأَجْلِ مَسِّ النَّارِ مَعَ تَفْرِيقِهِ بَيْنَ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلُحُومِ الْغَنَمِ وَكِلَاهُمَا فِي مَسِّ النَّارِ وَعَدِمِهِ سَوَاءٌ .

وَكَذَلِكَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ بِنَجَاسَةِ التُّرَابِ هُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَقْبَرَةِ مُطْلَقًا وَعَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ . أَنَّ النَّهْيَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَظِنَّةِ الشِّرْكِ وَمُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ . وَأَيْضًا فَنَجَاسَةُ تُرَابِ الْمَقْبَرَةِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى " مَسْأَلَةِ الِاسْتِحَالَةِ " وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ مَقْبَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ نَخْلٌ وَخَرِبٌ . فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ وَجُعِلَتْ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ وَأَمَرَ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ وَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ فَهَذِهِ مَقْبَرَةٌ مَنْبُوشَةٌ كَانَ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ . ثُمَّ لَمَّا نَبَشَ الْمَوْتَى جُعِلَتْ مَسْجِدًا مَعَ بَقَاءِ مَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ التُّرَابِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ التُّرَابُ نَجِسًا لَوَجَبَ أَنْ يَنْقُلَ مِنْ الْمَسْجِدِ التُّرَابَ النَّجِسَ لَا سِيَّمَا إذَا اخْتَلَطَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقُلَ مَا يَتَيَقَّنَ بِهِ زَوَالَ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِاجْتِنَابِ ذَلِكَ التُّرَابِ وَلَا بِإِزَالَةِ مَا يُصِيبُ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ مِنْهُ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِظُهُورِ الْقُبُورِ لَا بِظَنِّ نَجَاسَةِ التُّرَابِ ؛ وَأَيْضًا مَنْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكْرَهَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ . كَمَا قَالَهُ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ وَالْأَعْطَانِ وَلَمْ

يُحَرِّمْهَا . كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فَرَّقَتْ بَيْنَ مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَمَبَارِكِ الْغَنَمِ ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتَثْنَى كَوْنَهَا مَسْجِدًا فَلَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلسُّجُودِ ؛ وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ نَهْيًا مُؤَكَّدًا بِقَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَلِأَنَّهُ لَعَنَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يَحْذَرُ مَا فَعَلُوا وَلِأَنَّهُ جَعَلَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ شِرَارَ الْخَلِيقَةِ بِقَوْلِهِ : { إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِسُنَّتِهِ أَنَّ احْتِمَالَ نَجَاسَةِ الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِيهَا بَلْ ثَبَتَ بِسُنَّتِهِ أَنَّ الْأَرْضَ تَطْهُرُ بِمَا يُصِيبُهَا مِنْ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالِاسْتِحَالَةِ . كَمَا هُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ وَمَالِكٍ فِي قَوْلٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . فَإِنَّهُ ثَابِتٌ أَنَّ الْكِلَابَ كانت تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ } وَقَالَ : { إذَا أَتَى

أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ : فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طُهُورٍ } فَإِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ التُّرَابَ يُطَهِّرُ أَسْفَلَ الْخُفِّ ؛ فَلَأَنْ يُطَهِّرَ نَفْسَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ غَالِبَ طُرُقَاتِ النَّاسِ تَحْتَمِلُ مِنْ النَّجَاسَةِ نَحْوَ مَا تَحْتَمِلُهُ الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ النَّهْيِ لَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ فِيهَا أَظْهَرُ . فَهَذِهِ السُّنَنُ تُبْطِلُ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ التُّرَابَ مُطَهِّرٌ لِمَا يُلَاقِيهِ فِي الْعَادَةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : الْكَلَامُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي فِي الْحَمَّامِ فَنَقُولُ : إنَّ كَرَاهَةَ هَذَا الْمَاءِ وَتَوَقِّيَهُ وَغَسْلَ مَا يُصِيبُ الْبَدَنَ وَالثَّوْبَ مِنْهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْذَارِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ النَّجَاسَةِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَا يَغْسِلُ الْإِنْسَانُ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ مِنْ الْوَسَخِ وَالدَّنَسِ وَمِنْ الْوَحْلِ الَّذِي يُصِيبُهُ وَمِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَمِنْ الْمَنِيِّ عَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَكُونُ فِي الْمِيَاهِ الْمُتَغَيِّرَةِ بِمَقَرِّهَا وَمُمَازِجِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الَّذِي نَتَكَلَّمُ فِيهِ الْآنَ .

وَأَمَّا اجْتِنَابُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ تَنْجِيسِهِ فَحُجَّتُهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا الْمَاءَ فِي مَظِنَّةِ أَنْ تُخَالِطَهُ النَّجَاسَةُ وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي الْحَمَّامِ مِنْ الْقَيْءِ وَالْبَوْلِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ الَّتِي قَدْ تَكُونُ فِي الْحَمَّامِ . فَأَمَّا الْعَذِرَةُ أَوْ الدَّمُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا تَكَادُ تَكُونُ فِي الْحَمَّامِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَادِرًا تَمَيَّزَ وَظَهَرَ . وَأَيْضًا فَقَدْ يُزَالُ بِهِ نَجَاسَةٌ تَكُونُ عَلَى الْبَدَنِ أَوْ الثِّيَابِ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ يَكُونُ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ إمَّا مِنْ تَخَلِّي وَإِمَّا مِنْ مَرَضٍ وَإِمَّا غَيْرِ ذَلِكَ فَيَغْسِلُهَا فِي الْحَمَّامِ . وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْآنِيَةِ قَدْ يَكُونُ نَجِسًا وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ مَا يُغْسَلُ فِيهَا مِنْ الثِّيَابِ نَجِسًا . وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَاءُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهُوَ نَجِسٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ فَهَذِهِ الْحُجَّةُ الْمُعْتَمَدَةُ . وَالْجَوَابُ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : الْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ : الْمَاءُ الْفَائِضُ مِنْ حِيَاضِ الْحَمَّامِ وَالْمَصْبُوبُ عَلَى أَبْدَانِ الْمُغْتَسِلِينَ أَوْ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ طَاهِرٌ بِيَقِينِ وَمَا ذُكِرَ مَشْكُوكٌ فِي إصَابَتِهِ لِهَذَا الْمَاءِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْحَمَّامَ يَكُونُ فِيهِ

مِثْلُ هَذَا فَلَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ الْمُعَيَّنَ أَصَابَهُ هَذَا وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ هَذَا بِعَيْنِهِ وَارِدٌ فِي طِينِ الشَّوَارِعِ لِكَثْرَةِ مَا يُصِيبُهُ مِنْ أَبْوَالِ الدَّوَابِّ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ : بِطَهَارَتِهِ بَلْ النَّجَاسَةُ فِي طِينِ الشَّوَارِعِ أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ : فَإِنَّ الْحَمَّامَ وَإِنْ خَالَطَ بَعْضَ مِيَاهِهَا نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ يَنْدَفِعُ وَلَا يَثْبُتُ بِخِلَافِ طِينِ الشَّوَارِعِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّجَاسَةِ فَالظَّاهِرُ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ وَذَلِكَ أَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا مَا تُلَاقِيهِ النَّجَاسَةُ فِي الْعَادَةِ وَمَا لَا تُلَاقِيهِ كَانَ مَا لَا تُلَاقِيهِ أَكْثَرَ بِكَثِيرِ . فَإِنَّ غَالِبَ الْمِيَاهِ الْجَارِيَةِ فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ لَا يُلَاقِيهَا فِي الْعَادَةِ نَجَاسَةٌ وَإِذَا اتَّفَقَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ لَمْ تَبْقَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ بَلْ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ . وَلِهَذَا قُلْتُ : إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ ذَلِكَ تَنَجُّسًا فَإِنَّهُ وَسْوَاسٌ .
وَلَنَا فِيمَا إذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ هَلْ يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ عَنْ نَجَاسَتِهِ وَجْهَانِ : أَظْهَرُهُمَا لَا يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ لِحَدِيثِ عُمَرَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَائِبِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْعِلْمِ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ - أَنَّ عَلَيْهِ

نَجَاسَةٌ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي اجْتِنَابِهَا فِي الصَّلَاةِ فَمَسْأَلَةُ إصَابَتِهَا لَنَا فِيهَا أَيْضًا وَجْهَانِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّا إذَا قَدَّرْنَا أَنَّ الْغَالِبَ التَّنَجُّسُ فَقَدْ يُعَارِضُ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ وَفِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا مَا يَجِيءُ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا كَثِيَابِ الْكُفَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَكِنْ مَعَ مَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ - كَطِينِ الشَّوَارِعِ - يُرَجِّحُونَ الطَّهَارَةَ وَإِذَا قِيلَ بِالتَّنْجِيسِ فِي مِثْلِ هَذَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ . الْأَصْلُ الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ هَبْ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ لَكِنَّهُ مَاءٌ جَارٍ فَإِنَّهُ سَاحَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ . وَالْمَاءُ الْجَارِي إذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا نَصُّهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ شِدَّةِ قَوْلِهِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ . وَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَالِاغْتِسَالِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَارِيَ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ الْبَوْلُ فِيهِ وَالِاغْتِسَالُ فِيهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ : وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

مَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ . فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ كَالدَّائِمِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُلَّتَانِ فَإِذَا كَانَتْ الْجَرْيَةُ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ نَجَّسَتْهُ كَمَا هُوَ الْجَدِيدُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا وَلَا أَثَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ . إلَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } وَقِيَاسُ الْجَارِي عَلَى الدَّائِمِ وَكِلَاهُمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ . أَمَّا الْحَدِيثُ فَمَنْطُوقُهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي مَفْهُومِهِ ؛ وَدَلَالَةُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لَا تَقْتَضِي عُمُومَ مُخَالَفَةِ الْمَنْطُوقِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْمَسْكُوتِ بَلْ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَسْكُوتَ لَيْسَ كَالْمَنْطُوقِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا نَوْعُ فَرْقٍ ثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ كَانَ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ . فَإِذَا قَالَ : إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ دَلَّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَ مَا لَمْ يَبْلُغْ فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ الْمَاءِ الْجَارِي وَالدَّائِمِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ لَا سِيَّمَا وَالْحَدِيثُ وَرَدَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ . فَيَبْقَى قَوْلُهُ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } الْوَارِدُ فِي بِئْرِ بضاعة مُتَنَاوِلًا لِلْجَارِي . وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجَارِيَ لَهُ قُوَّةُ دَفْعِ النَّجَاسَةِ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ إذَا صُبَّ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ طَهَّرَهَا ؛ وَلَمْ يَتَنَجَّسْ فَكَيْفَ لَا يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ يُحِيلُ النَّجَاسَةَ بِجَرَيَانِهِ .

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِيَاسَ : هَلْ هُوَ تَنْجِيسُ الْمَاءِ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ ؟ أَوْ عَدَمُ تَنْجِيسِهِ حَتَّى تَظْهَرَ النَّجَاسَةُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ . فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ : الْعَفْوُ عَمَّا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ : كَانَ لِلْمَشَقَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ حِفْظُهُ مِنْ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَالِبًا يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالْغُدْرَانِ وَالْآبَارِ ؛ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْأَوَانِي وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَارِي فَإِنَّ حِفْظَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ أَصْعَبُ مِنْ حِفْظِ الدَّائِمِ الْكَثِيرِ . وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي وَأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ حَتَّى تَظْهَرَ النَّجَاسَةُ كَانَ التَّطْهِيرُ عَلَى قَوْلِهِ أَوْكَدَ فَإِنَّ الْقَلِيلَ الدَّائِمَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ . وَأَمَّا الْجَارِي فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ جَرَيَانِهِ يُحِيلُ الْخَبَثَ فَلَا يَحْمِلُهُ كَمَا لَا يَحْمِلُهُ الْكَثِيرُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ فَهَذِهِ الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ فِي حَمَّامٍ إذَا خَالَطَهَا بَوْلٌ أَوْ قَيْءٌ أَوْ غَيْرُهُمَا كَانَتْ نَجَاسَةً قَدْ خَالَطَتْ مَاءً جَارِيًا فَلَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَالْكَلَامُ فِيمَا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ النَّجَاسَةُ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ يُخَالِطُهُ السِّدْرُ والخطمي وَالتُّرَابُ . وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ وَالْأُشْنَانُ وَالصَّابُونُ وَالْحِنَّاءُ

وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الطَّاهِرَاتِ الَّتِي تَخْتَلِطُ بِهِ حَتَّى لَا تَظْهَرَ فِيهِ النَّجَاسَةُ . قِيلَ : إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ ظَاهِرَةً فِيهِ وَجَازَ أَنْ لَا تَكُونَ ظَاهِرَةً فَالْأَصْلُ عَدَمُ ظُهُورِهَا وَإِذَا كَانَ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ تُخَالِطُهُ الطَّاهِرَاتُ وَرَأَيْنَاهُ مُتَغَيِّرًا أَحَلْنَا التَّغَيُّرَ عَلَى مُخَالَطَةِ الطَّاهِرَاتِ إذْ الْحُكْمُ الْحَادِثُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ لَا إلَى الْمُقَدَّرِ الْمَظْنُونِ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ النَّصُّ بِذَلِكَ فِيمَا أَصْلُهُ الْحَظْرُ ؛ كَالصَّيْدِ إذَا جُرِحَ وَغَابَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ إبَاحَتُهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ زُهِقَ بِسَبَبِ آخَرَ أَصَابَهُ فَزُهُوقُهُ إلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ جَرْحُ الصَّائِدِ أَوْ كَلْبُهُ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي ثَبَتَ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ . الْأَصْلُ الثَّالِثُ : أَنْ نَقُولَ : هَبْ أَنَّ الْمَاءَ تَنَجَّسَ فَإِنَّهُ صَارَ نَجَاسَةً عَلَى الْأَرْضِ وَالنَّجَاسَةُ إذَا كَانَتْ عَلَى الْأَرْضِ بَوْلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ بَوْلٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا إذَا لَمْ تَبْقَ عَيْنُهَا . كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ . حَيْثُ قَالَ : { لَا تزرموه } أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بِوَلَهِ . { فَصُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } وَقَالَ : { إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ } . وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : إنَّ نَجَاسَةَ الْأَرْضِ وَالْبِرَكِ وَالْحِيَاضِ الْمَبْنِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ يُخَالِفُ النَّجَاسَةَ عَلَى الْمَنْقُولِ مِنْ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْآنِيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .

أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ . لَا مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَلَا غَيْرِهِ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِانْفِصَالُ عَنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْغُسَالَةَ طَاهِرَةٌ قَبْلَ انْفِصَالِهَا عَنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ : مَا كَانَ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ مِنْ بَوْلٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فَطَهُرَتْ الْأَرْضُ مَعَ طَهَارَةِ الْغُسَالَةِ وَإِذَا كَانَتْ غُسَالَةُ الْأَرْضِ طَاهِرَةً زَالَتْ الشُّبْهَةُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ إنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمَاءِ مَا تُزَالُ بِهِ نَجَاسَةٌ عَنْ الْبَدَنِ أَوْ آنِيَةٍ . أَوْ ثَوْبٍ . قِيلَ لَهُ : فَهَذِهِ إذَا كَانَتْ نَجِسَةً وَأَصَابَتْ الْأَرْضَ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْ الْبَوْلِ الْمُصِيبِ الْأَرْضَ وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ تَزُولُ مَعَ طَهَارَةِ الْغُسَالَةِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَهَذِهِ أَوْلَى وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ النَّجَاسَةُ مُنْتَفِيَةٌ وَمُرُورُ الْمَاءِ الْمُطَهِّرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمَارُّ مِمَّا لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ لِكَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا . أَوْ لِتَغَيُّرِهِ بِالطَّاهِرَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ : لَيْسَ الْكَلَامُ فِي نَجَاسَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُنْتَفِيَةٍ مَشْكُوكٍ فِي زَوَالِهَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا يُعْتَادُ .

وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْعَادَاتِ : أَنَّ الْمَاءَ الْمُطَهِّرَ وَالْجَارِيَ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ أَكْثَرُ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ . فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ قَدْ طَهَّرَ مَا مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ نَجَسٍ فَإِنَّ اغْتِسَالَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ فِي الْحَمَّامَاتِ أَكْثَرُ مِنْ اغْتِسَالِهِمْ مِنْ إحْدَى هَاتَيْنِ الطَّهَارَتَيْنِ وَهُمْ يَصُبُّونَ عَلَى أَبْدَانِهِمْ مِنْ الْمَاءِ الْقَرَاحِ الَّذِي يَنْفَصِلُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ يَسِيرٌ بِيَسِيرِ السِّدْرِ وَالْأُشْنَانِ فَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا بَلْ الرَّاجِحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد - الَّتِي نَصَّهَا فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ : أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالطَّاهِرِ كَالْحِمْصِ وَالْبَاقِلَاءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ طَهُورًا مَا دَامَ اسْمُ الْمَاءِ يَتَنَاوَلُهُ كَالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ كَمَاءِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ وَمَا تَغَيَّرَ بِمَا يَشُقُّ صَوْنُهُ عَنْهُ مِنْ الطُّحْلُبِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّ شُمُولَ اسْمِ الْمَاءِ فِي اللُّغَةِ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ . فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْمَاءِ فِي قَوْلِهِ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } يَتَنَاوَلُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَقَدْ تَنَاوَلَ الْآخَرَيْنِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِلْمُتَغَيِّرِ ابْتِدَاءً وَطَرْدًا لِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَيَتَنَاوَلُ الثَّالِثَ إذْ الْفَرْقُ إنَّمَا يَعُودُ إلَى أَمْرٍ مَعْهُودٍ وَهُوَ أَنَّ هَذَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي اللُّغَةِ وَيَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ لِمَعْنَاهُ وَشُمُولِ الِاسْمِ مُسَمَّاهُ فَيَحْتَاجُ الْمُفَرِّقُ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ . وَقَدْ ثَبَتَ

بِالسُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ : { اغْسِلُوهُ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } وَكَذَلِكَ قَالَ لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ : { اغْسِلْنَهَا بِمَاءِ وَسِدْرٍ } وَلِلَّذِي أَسْلَمَ : { اغْتَسِلْ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } وَهَذَا فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِذَا تَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ ظَهَرَ عَظِيمُ الْبِدْعَةِ وَتَغْيِيرُ السُّنَّةِ وَالشِّرْعَةِ فِيمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ فَرْطِ الْوَسْوَسَةِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى صَارُوا إنَّمَا يَفْعَلُونَهُ مُضَاهِينَ لِلْيَهُودِ بَلْ لِلسَّامِرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا مِسَاسَ . وَبَابُ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ - الَّذِي مِنْهُ بَابُ التَّطْهِيرِ وَالتَّنْجِيسِ - دِينُ الْإِسْلَامِ فِيهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا هُوَ وَسَطٌ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ فَلَمْ يُشَدَّدْ عَلَيْنَا فِي أَمْرِ التَّحْرِيمِ وَالنَّجَاسَةِ كَمَا شُدِّدَ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ أُحِلَّتْ لَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ بَلْ وُضِعَتْ عَنَّا الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ مِثْلَ قَرْضِ الثَّوْبِ وَمُجَانَبَةِ الْحَائِضِ فِي الْمُؤَاكَلَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَمْ تُحَلَّلْ لَنَا الْخَبَائِثُ كَمَا اسْتَحَلَّهَا النَّصَارَى ؛ الَّذِينَ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يُدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ فَلَا يَجْتَنِبُونَ نَجَاسَةً وَلَا يُحَرِّمُونَ خَبِيثًا بَلْ غَايَةُ أَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ طَهِّرْ قَلْبَك وَصَلِّ . وَالْيَهُودِيُّ إنَّمَا يَعْتَنِي بِطَهَارَةِ ظَاهِرِهِ

لَا قَلْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّ اللَّهَ طَهَّرَ قُلُوبَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ مِنْ الْخَبَائِثِ وَأَمَّا الطَّيِّبَاتُ فَأَبَاحَهَا لَهُمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ ؟ وَمَا هُوَ الَّذِي يَفْعَلُهُ مِنْ آدَابِ الْحَمَّامِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَلْزَمُ الْمُتَطَهِّرَ كَشْفُ عَوْرَتِهِ لَا فِي الْخَلْوَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا إذَا طَهَّرَ جَمِيعَ بَدَنِهِ . لَكِنْ إنْ كَشَفَهَا فِي الْخَلْوَةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ : كَالتَّطَهُّرِ وَالتَّخَلِّي جَازَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اغْتَسَلَ عريانا وَأَنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اغْتَسَلَ عريانا } وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ فَاطِمَةَ : كَانَتْ تَسْتُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ بِثَوْبِ وَهُوَ يَغْتَسِلُ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ } وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا صَلَاةُ الضُّحَى . وَيُقَالُ : إنَّهَا صَلَاةُ الْفَتْحِ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا { أَنَّ مَيْمُونَةَ سَتَرَتْهُ فَاغْتَسَلَ } .

وَعَلَى دَاخِلِ الْحَمَّامِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ ؛ فَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ نَظَرِهَا وَلَا لَمْسِهَا سَوَاءٌ كَانَ الْقَيِّمُ الَّذِي يَغْسِلُهُ أَوْ غَيْرُهُ وَلَا يَنْظُرْ إلَى عَوْرَةِ أَحَدٍ وَلَا يَلْمِسْهَا إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ مُدَاوَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ . وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } فَيَأْمُرُ بِتَغْطِيَةِ الْعَوْرَاتِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ لَا يَشْهَدُ مُنْكَرًا فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ إذْ شُهُودُ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا إكْرَاهٍ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْرِفَ فِي صَبِّ الْمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا وَهُوَ فِي الْحَمَّامِ يُنْهَى عَنْهُ لِحَقِّ الحمامي ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِيهَا مَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ قِيمَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَلْزَمَ السُّنَّةَ فِي طَهَارَتِهِ ؛ فَلَا يَجْفُو جَفَاءَ النَّصَارَى وَلَا يَغْلُو غُلُوَّ الْيَهُودِ . كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْوَسْوَسَةِ بَلْ حِيَاضُ الْحَمَّامِ طَاهِرَةٌ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِضَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأُنْبُوبُ تَصُبُّ فِيهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ وَسَوَاءٌ بَاتَ الْمَاءُ أَوْ لَمْ يَبِتْ وَسَوَاءٌ تَطَهَّرَ مِنْهَا النَّاسُ أَوْ لَمْ يَتَطَهَّرُوا . فَإِذَا اغْتَسَلَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ جَازَ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَامْرَأَتُهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ قَدْرَ

الْفَرَقِ } فَهَذَا إنَاءٌ صَغِيرٌ لَا يَفِيضُ وَلَا أُنْبُوبَ فِيهِ وَهُمَا يَغْتَسِلَانِ مِنْهُ جَمِيعًا وَفِي لَفْظٍ : { فَأَقُولُ : دَعْ لِي وَيَقُولُ : دَعِي لِي } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ . وَالصَّاعُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يَكُونُ بِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ نَحْوَ خَمْسَةٍ إلَّا رُبْعًا وَالْمُدُّ رُبُعُ ذَلِكَ . وَقِيلَ هُوَ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةِ أَرْطَالٍ بِالْمِصْرِيِّ . وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ : الطَّاسَةُ إذَا وَقَعَتْ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ تَنَجَّسَتْ فَإِنَّ أَرْضَ الْحَمَّامِ الْأَصْلُ فِيهَا الطَّهَارَةُ وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ نَجَاسَةٍ كَبَوْلِ فَهُوَ يُصَبُّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ مَا يُزِيلُهُ وَهُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الطُّرُقَاتِ بِكَثِيرِ وَالْأَصْلُ فِيهَا الطَّهَارَةُ بَلْ كَمَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَلَى أَرْضِهَا نَجَاسَةٌ فَكَذَلِكَ يَتَيَقَّنُ أَنَّ الْمَاءَ يَعُمُّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَلَا يَجْزِمْ عَلَى بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا أَنَّهَا نَجِسَةٌ إنْ لَمْ يَعْلَمْ حُصُولَ النَّجَاسَةِ فِيهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - :
فِيمَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ بِلَا مِئْزَرٍ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ : هَلْ يَحْرُمُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَيْضًا أَنْ يُلْزِمَ مُسْتَأْجِرَ الْحَمَّامِ أَنْ لَا يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ دُخُولِ حَمَّامِهِ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ أَمْ لَا ؟ وَفِيمَنْ يَقْعُدُ فِي الْحَمَّامِ وَقْتَ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ : هَلْ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة :
الْحَمْدُ لِلَّهِ : نَعَمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ صَحَّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى النَّاسَ عَنْ الْحَمَّامِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ مِنْ ذُكُور أُمَّتِي فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرِ } وَفِي الْحَدِيثِ : { نَهَى النِّسَاءَ مِنْ الدُّخُولِ مُطْلَقًا إلَّا لِمَعْذِرَةِ } وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْهُ الَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقَشِيرِي أَنَّهُ قَالَ لَهُ : { احْفَظْ

عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك : أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك قَالَ : قُلْت : فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قَالَ : قُلْت ؛ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَسَنٌ . وَابْنُ مَاجَه . وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَإِلْزَامُ النَّاسِ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ الْحَمَّامَ مَعَ النَّاسِ إلَّا مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ وَإِلْزَامُ أَهْلِ الْحَمَّامِ بِأَنَّهُمْ لَا يُمَكِّنُونَ النَّاسَ مِنْ دُخُولِ حَمَّامَاتِهِمْ إلَّا مُسْتَوْرِي الْعَوْرَةِ وَمَنْ لَمْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَوُلَاةَ الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْحَمَّامِ وَالدَّاخِلِينَ : عُوقِبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تُرْدِعهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ الَّذِينَ لَا يَسْتَحْيُونَ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ عِبَادِهِ ؛ فَإِنَّ إظْهَارَ الْعَوْرَاتِ مِنْ الْفَوَاحِشِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } وَغَضُّ الْبَصَرِ وَاجِبٌ عَمَّا لَا يَحِلُّ التَّمَتُّعُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ : مِنْ النِّسْوَةِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَنْ الْعَوْرَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا لَذَّةٌ لِفُحْشِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ عَلَى دَاخِلِ الْحَمَّامِ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ عَمَّنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَدْ عَصَى بِكَشْفِهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ الْمَكْشُوفَ بِالِاسْتِتَارِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ وَكَذَلِكَ حِفْظُ الْفُرُوجِ يَكُونُ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ

الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَعَنْ إظْهَارِهَا لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرَاهَا كَمَا يُنْهَى الرَّجُلُ عَنْ مَسِّ عَوْرَةِ غَيْرِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَأَنْ تُبَاشِرَ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَأَمَرَ بِالتَّفْرِيقِ فِي الْمَضَاجِعِ بَيْنَ الصِّبْيَانِ إذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ . كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك لَمَّا قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي ؟ وَمَا نَذَرُ ؟ . . فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قَالَ : قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } فَأَمَرَ بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ . وَهَذَا وَاجِبٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إذَا اغْتَسَلَ فِي مَكَانٍ خَالٍ بِجَنْبِ حَائِطٍ أَوْ شَجَرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ كَشْفُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ مُوسَى اغْتَسَلَ عريانا } { وَأَنَّ أَيُّوبَ اغْتَسَلَ عريانا } { وَأَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ تَسْتُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ } . وَهَذَا كَشْفٌ لِلْحَاجَةِ بِمَنْزِلَةِ كَشْفِهَا عِنْدَ التَّخَلِّي وَالْجِمَاعِ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ لِلْمُتَخَلِّي أَنْ يَرْفَعَ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْ الْأَرْضِ .

وَتَنَازَعُوا فِي نَظَرِ كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ إلَى عَوْرَةِ الْآخَرِ : هَلْ يُكْرَهُ أَوْ لَا يُكْرَهُ ؟ أَمْ يُكْرَهُ وَقْتَ الْجِمَاعِ خَاصَّةً ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقَدْ كَرِهَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ النُّزُولَ فِي الْمَاءِ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ وَرَوَوْا عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ : إنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا . وَأَمَّا فَتْحُ الْحَمَّامِ وَقْتَ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَتَمْكِينُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُخُولِهَا هَذَا الْوَقْتَ وَقُعُودِهِمْ فِيهَا تَارِكِينَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّعْيِ إلَى الْجُمْعَةِ فَهَذَا أَيْضًا مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ بَعْدَ النِّدَاءِ إلَى الْجُمْعَةِ الْبَيْعَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ وَكَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى مَا دُونَهُ مِنْ قُعُودٍ فِي الْحَمَّامِ أَوْ بُسْتَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَالْجُمْعَةُ فَرْضٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ وَلَيْسَ دُخُولُ الْحَمَّامِ مِنْ الْأَعْذَارِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ إنْ كَانَ لِتَنَعُّمِ كَانَ آثِمًا عَاصِيًا وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الِاغْتِسَالَ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الصَّلَاةِ . بَلْ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ أَمْرُ جَمِيعِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِهَا مَنْ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَالدُّورِ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ عُوقِبَ عَلَى

ذَلِكَ عُقُوبَةً تَحْمِلُهُ وَأَمْثَالَهُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ تَرْكِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَطْبَعَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونَنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ } وَقَالَ : { مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ } . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ أَمْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِهَا وَنَهْيِهِ عَمَّا يَمْنَعُهُ مِنْ الْجُمْعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . كَتَبَهُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ : يَحْرُمُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ مَنْعُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِطَرِيقَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَعَلَيْهِ أَيْضًا إلْزَامُ مُسْتَأْجِرِ الْحَمَّامِ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ دُخُولِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ مِمَّنْ خُوطِبَ بِأَدَاءِ الْجُمْعَةِ تَرْكُهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَيْسَ دُخُولُ الْحَمَّامِ بِمُجَرَّدِهِ عُذْرًا فِي تَرْكِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ تَرْكِ دُخُولِ الْحَمَّامِ ؟ .
فَأَجَابَ : مَنْ تَرَكَ دُخُولَ الْحَمَّامِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ دَخَلَهَا مَعَ كَشْفِ عَوْرَتِهِ وَالنَّظَرِ إلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ أَوْ ظَلَمَ الحمامي فَهُوَ عَاصٍ مَذْمُومٌ وَمَنْ تَنَعَّمَ بِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهُوَ مَنْقُوصٌ مَرْجُوحٌ وَمَنْ تَرَكَهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا حَتَّى يَكْثُرَ وَسَخُهُ وَقَمْلُهُ فَهُوَ جَاهِلٌ مَذْمُومٌ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَامِّيٍّ سُئِلَ عَنْ عُبُورِ الْحَمَّامِ ؟ وَنَقَلَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْنَدَ الْحَدِيثَ إلَى كِتَابِ مُسْلِمٍ هَلْ صَحَّ هَذَا أَوْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَحَدِ لَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَّمَ الْحَمَّامَ بَلْ الَّذِي فِي السُّنَنِ أَنَّهُ

قَالَ : { سَتَفْتَحُونَ أَرْضَ الْعَجَمِ وَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ ذُكُورِ أُمَّتِي فَلَا يَدْخُلْ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرِ وَمَنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ إنَاثِ أُمَّتِي فَلَا تَدْخُلْ الْحَمَّامَ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ } . وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . وَالْحَمَّامُ مَنْ دَخَلَهَا مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى عَوْرَةِ أَحَدٍ وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا يَمَسُّ عَوْرَتَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ فِيهَا مُحَرَّمًا وَأَنْصَفَ الحمامي فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَدْخُلُهَا لِلضَّرُورَةِ مَسْتُورَةَ الْعَوْرَةِ . وَهَلْ تَدْخُلُهَا إذَا تَعَوَّدَتْهَا وَشَقَّ عَلَيْهَا تَرْكُ الْعَادَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَحَدُهُمَا : لَهَا أَنْ تَدْخُلَهَا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ . وَالثَّانِي : لَا تَدْخُلُهَا وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ عَلَى وُضُوءٍ ؟ أَوْ يُكْرَهُ لَهُ النَّوْمُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ النَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا تَوَضَّأَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْجُنُبُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُعَاوِدَ الْوَطْءَ لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ النَّوْمُ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ هَلْ يَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ؛ إذَا تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ } . وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ عِنْدَ النَّوْمِ لِكُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلِ : { إذَا أَخَذْت مَضْجَعَك فَتَوَضَّأْ وُضُوءَك لِلصَّلَاةِ ثُمَّ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْك إلَّا إلَيْك آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت } .

وَلَيْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَلْبَثَ فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ إذَا تَوَضَّأَ جَازَ لَهُ اللُّبْثُ فِيهِ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ : " أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ وَهُمْ جُنُبٌ ثُمَّ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ . وَيَتَحَدَّثُونَ " . وَهَذَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ النَّوْمِ وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ تُقْبَضَ رُوحُهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَلَا تَشْهَدُ الْمَلَائِكَةُ جِنَازَتَهُ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ } وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنَهْيِهِ عَنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ الْمَلَائِكَةِ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ . وَقَالَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنَوْا آدَمَ } . فَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ النَّوْمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ الْغَلِيظَةَ وَتَبْقَى مَرْتَبَةٌ بَيْنَ الْمُحْدِثِ وَبَيْنَ الْجُنُبِ لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ فِيمَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْمُحْدِثِ مِنْ الْقِرَاءَةِ ؛ وَلَمْ يُمْنَعْ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْجُنُبُ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ وُضُوءُهُ عِنْدَ النَّوْمِ يَقْتَضِي شُهُودَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدْخُلُ الْمَكَانَ الَّذِي هُوَ فِيهِ إذَا تَوَضَّأَ ؛ وَلِهَذَا يُجَوِّزُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد لِلْجُنُبِ الْمُرُورَ فِي الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ

مَنْعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنْعِ الْكُفَّارِ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمُسْلِمُونَ خَيْرٌ مِنْ الْكُفَّارِ وَلَوْ كَانُوا جُنُبًا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ فَانْخَنَسَ مِنْهُ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ : أَيْنَ كُنْت ؟ قَالَ : إنِّي كُنْت جُنُبًا فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَك إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ؛ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } . فَلُبْثُ الْمُؤْمِنِ الْجُنُبِ إذَا تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى مَنْ لُبْثِ الْكَافِرِ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَمَنْ مَنَعَ الْكَافِرَ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُمْنَعَ الْمُؤْمِنُ الْمُتَوَضِّئُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ . وَإِذَا كَانَ الْجُنُبُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ النَّوْمِ وَالْمَلَائِكَةُ تَشْهَدُ جِنَازَتَهُ حِينَئِذٍ عُلِمَ أَنَّ النَّوْمَ لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ الْحَاصِلَةَ بِذَلِكَ وَهُوَ تَخْفِيفُ الْجَنَابَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ يَنَامُ غَيْرُهُ وَإِذَا كَانَ النَّوْمُ الْكَثِيرُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَذَاكَ هُوَ الْوُضُوءُ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ وَوُضُوءُ الْجُنُبِ هُوَ تَخْفِيفُ الْجَنَابَةِ وَإِلَّا فَهَذَا الْوُضُوءُ لَا يُبِيحُ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ : مِنْ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ .

بَابٌ التَّيَمُّمُ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .

وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ الْقَصْدُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } وَقَوْلُهُ : { وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ :
تَيَمَّمْت الْمَاءَ الَّذِي دُونَ ضَارِجٍ * * * يَمِيلُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عرمضها طَامِي
لَكِنْ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } كَانَ التَّيَمُّمُ الْمَأْمُورُ بِهِ : هُوَ تَيَمُّمَ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ لِلتَّمَسُّحِ بِهِ فَصَارَ لَفْظُ التَّيَمُّمِ إذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ انْصَرَفَ إلَى هَذَا التَّيَمُّمِ الْخَاصِّ وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ التَّيَمُّمِ نَفْسُ مَسْحِ الْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ فَسُمِّيَ الْمَقْصُودُ بِالتَّيَمُّمِ تَيَمُّمًا . وَهَذَا التَّيَمُّمُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْآيَةِ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ وَمِمَّا فَضَّلَهُمْ اللَّهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي : نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا . فَأَيُّمَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً } وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ .

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فُضِّلْت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتِّ : أُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ } . وَلِمُسْلِمِ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فُضِّلْت عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثِ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهْورًا إذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ } . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْت وَصَلَّيْت : وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ إنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ } . وقَوْله تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } وَقَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَقَوْلِهِ : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } وَهَذِهِ تُسَمَّى مُطْلَقَةً وَهِيَ تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ أَيَّ صَعِيدٍ طَيِّبٍ اتَّفَقَ . وَالطَّيِّبُ هُوَ الطَّاهِرُ وَالتُّرَابُ الَّذِي يَنْبَعِثُ مُرَادٌ مِنْ النَّصِّ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا سِوَاهُ نِزَاعٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَقَوْلُهُ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } قَدْ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ عَلَى قِرَاءَةِ أَيْدِيكُمْ بِالْإِسْكَانِ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْوُضُوءِ : { وَأَرْجُلَكُمْ } فَإِنَّ بَعْضَ السَّبْعَةِ قَرَءُوا : { وَأَرْجُلَكُمْ } بِالنَّصْبِ قَالُوا : إنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَغْسُولِ تَقْدِيرُهُ : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ كَذَلِكَ . قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : قَرَأَ عَلَيَّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ : وَأَرْجُلِكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ بِالْخَفْضِ فَسَمِعَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ : وَأَرْجُلَكُمْ يَعْنِي بِالنَّصْبِ وَقَالَ هَذَا مِنْ الْمُقَدَّمِ الْمُؤَخَّرِ فِي الْكَلَامِ . وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا بِالنَّصْبِ وَقَالَ عَادَ الْأَمْرُ إلَى الْغَسْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ كَقَوْلِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ :
مُعَاوِي إنَّنَا بَشَرٌ فَاسْجَحْ * * * فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
فَإِنَّمَا يَسُوغُ فِي حَرْفِ التَّأْكِيدِ مِثْلُ الْمَبَانِي . وَأَمَّا حُرُوفُ الْمَعَانِي فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا وَالْبَاءُ هُنَا لِلْإِلْصَاقِ لَيْسَتْ لِلتَّوْكِيدِ وَلِهَذَا لَمْ يَقْرَأْ الْقُرَّاءُ هُنَا وَأَيْدِيَكُمْ كَمَا قَرَءُوا هُنَاكَ وَأَرْجُلَكُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : فَامْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ أَوْ امْسَحُوا بِهَا لَكَانَ يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْمَسْحِ مِنْ غَيْرِ إيصَالٍ لِلطَّهُورِ إلَى الرَّأْسِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَلَمَّا كَانَتْ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى

اسْتِعْمَالِ الطَّهُورِ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْبَاءُ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ . وَلَا قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ التَّبْعِيضَ يُسْتَفَادُ مِنْ الْبَاءِ ؛ بَلْ أَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ وَحَكَّمُوا كَلَامَ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ وَلَكِنَّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ اسْتَنَدَ إلَى دِلَالَةٍ أُخْرَى . وقَوْله تَعَالَى { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ كَمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَمَسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ . وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ وَكَذَلِكَ تَيَمُّمُ الْجُنُبِ : ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ

إلَى أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ فَإِذَا وَجَدَهُ كَانَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ إنْكَارُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ وَرُوِيَ عَنْهُمَا الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ : كَعَلِيِّ وَعَمَّارٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَخَمْسَةُ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . مِنْهَا : حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ كِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمِنْهَا : حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَمِنْهَا : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ العاص وَحَدِيثُ الَّذِي شُجَّ فَأَفْتَوْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ } فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِالْوَضُوءِ فَتَوَضَّأَ وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ إذَا هُوَ بِرَجُلِ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ قَالَ : مَا مَنَعَك يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ قَالَ : أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ : وَلَا مَاءَ قَالَ : عَلَيْك بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيك } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ : { بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْت فَلَمْ أَجِدْ الْمَاءَ فَتَمَرَّغْت فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ ثُمَّ أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْك هَكَذَا ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ

ضَرْبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ } وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ .
فَصْلٌ :
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ : هَلْ يَرْفَعُ الْحَدَثَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا إلَى حِينِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ؟ أَمْ الْحَدَثُ قَائِمٌ وَلَكِنَّهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ الْمَانِعِ ؟ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَظَرِيَّةٌ . وَتَنَازَعُوا هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ كَمَا يَتَوَضَّأُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنْ فُرُوضٍ وَنَوَافِلَ كَمَا يُصَلِّي بِالْمَاءِ وَلَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ كَمَا لَا يَبْطُلُ الْوُضُوءُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ وَهُوَ نِزَاعٌ عَمَلِيٌّ . فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ كَالْمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ خُرُوجِهِ .

ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : يَتَيَمَّمُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَتَيَمَّمُ لِفِعْلِ كُلِّ فَرِيضَةٍ وَلَا يَجْمَعُ بِهِ فَرْضَيْنِ . وَغَلَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ : وَيَتَيَمَّمُ لِكُلِّ نَافِلَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . قَالُوا : لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالْحُكْمُ الْمُقَيَّدُ بِالضَّرُورَةِ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِهَا فَإِذَا تَيَمَّمَ فِي وَقْتٍ يُسْتَغْنَى عَنْ التَّيَمُّمِ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ كُلَّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ تَيَمَّمَ وَكَانَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ الْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ ؛ لَكِنْ لَمَّا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِوُضُوءِ وَاحِدٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ : دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَبَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى ظَاهِرِ الْخِطَابِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِطَلَبِ الْمَاءِ عِنْد كُلِّ صَلَاةٍ وَذَلِكَ يُبْطِلُ تَيَمُّمَهُ . وَوَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ العاص وَابْنِ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ . وَلَنَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : أَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فأمسه بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ } فَجَعَلَهُ مُطَهِّرًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ مُطْلَقًا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُطَهِّرٌ

لِلْمُتَيَمِّمِ وَإِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ الْمُتَيَمِّمَ مُطَهَّرًا كَمَا أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ مُطَهَّرٌ وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِوَقْتِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ خُرُوجَ الْوَقْتِ يُبْطِلُهُ كَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يُبْطِلُهُ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَهُوَ مُوجَبُ الْأُصُولِ . فَإِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ وَالْبَدَلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فِي أَحْكَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَاثِلًا لَهُ فِي صِفَتِهِ كَصِيَامِ الشَّهْرَيْنِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ وَصِيَامُ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ فِي التَّمَتُّعِ وَكَصِيَامِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَالْبَدَلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَهَذَا لَازِمٌ لِمَنْ يَقِيسُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْمَاءِ فِي صِفَتِهِ فَيُوجِبُ الْمَسْحَ عَلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ مُطْلَقَةً كَمَا قَاسَ عَمَّارٌ لَمَّا تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ فَمَسَحَ جَمِيعَ بَدَنِهِ كَمَا يَغْسِلُ جَمِيعَ بَدَنِهِ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَادَ هَذَا الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ يُجْزِئُكَ مِنْ الْجَنَابَةِ التَّيَمُّمُ الَّذِي يُجْزِئُكَ فِي الْوُضُوءِ وَهُوَ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا تَكُونُ صِفَتُهُ كَصِفَةِ الْمُبْدَلِ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُهُ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ مَسْحُ عُضْوَيْنِ وَهُمَا الْعُضْوَانِ الْمَغْسُولَانِ فِي الْوُضُوءِ وَسَقَطَ الْعُضْوَانِ الْمَمْسُوحَانِ وَالتَّيَمُّمُ عَنْ الْجَنَابَةِ يَكُونُ فِي هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ بِخِلَافِ الْغُسْلِ . وَالتَّيَمُّمُ لَيْسَ فِيهِ مَضْمَضَةٌ وَلَا اسْتِنْشَاقٌ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمُ

لَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ تَثْنِيَةٌ وَلَا تَثْلِيثٌ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمُ يُفَارِقُ صِفَةَ الْوُضُوءِ مِنْ وُجُوهٍ وَلَكِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ فَيَجِبُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ فَهَذَا مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ . فَإِنْ قِيلَ : الْوُضُوءُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالتَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُهُ ؟ قِيلَ : عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا يَرْفَعُهُ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ طَهُورًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَقُومُ مَقَامَهُ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ مَا يَثْبُتُ لِلْمَاءِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا يَرْفَعُهُ لَيْسَ تَحْتَهُ نِزَاعٌ عَمَلِيٌّ وَإِنَّمَا هُوَ نِزَاعٌ اعْتِبَارِيٌّ لَفْظِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ قَالُوا : لَوْ رَفَعَهُ لَمْ يُعِدْ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَرْفَعُ الْحَدَثَ إنَّمَا قَالُوا بِرَفْعِهِ رَفْعًا مُؤَقَّتًا إلَى حِينِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُكْمٍ عَمَلِيٍّ شَرْعِيٍّ وَلَكِنَّ تَنَازُعَهُمْ يَنْزِعُ إلَى قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنَّ

الْمُنَاسَبَةَ هَلْ تَنْخَرِمُ بِالْمُعَارَضَةِ وَأَنَّ الْمَانِعَ الْمُعَارِضَ لِلْمُقْتَضِي هَلْ يَرْفَعُهُ أَمْ لَا يَرْفَعُهُ اقْتِضَاؤُهُ مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ . وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ هَيْئَةِ النِّزَاعِ أَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ يُرَادُ بِهِ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ وَهُوَ مَجْمُوعُ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِحَيْثُ إذَا وُجِدَ وُجِدَ الْحُكْمُ وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ ؛ فَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْعِلَّةِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ جَبْرُ الْعِلَّةِ وَشُرُوطُهَا وَعَدَمُ الْمَانِعِ . إمَّا لِكَوْنِ عَدَمِ الْمَانِعِ يَسْتَلْزِمُ وَصْفًا ثُبُوتِيًّا عَلَى رَأْيٍ وَإِمَّا لِكَوْنِ الْعَدَمِ قَدْ يَكُونُ جَبْرًا مِنْ الْمُقْتَضِي عَلَى رَأْيٍ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَتَى تَخَصَّصَتْ وَانْتَقَضَتْ فَوُجِدَ الْحُكْمُ بِدُونِهَا دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا كَمَا لَوْ عَلَّلَ مُعَلِّلٌ قَصْرَ الصَّلَاةِ بِمُطْلَقِ الْعُذْرِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ لَا يَقْصُرُونَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ خَاصَّةً فَالْقَصْرُ دَائِرٌ مَعَ السَّفَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَدَوَرَانُ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ وُجُودًا وَعَدَمًا دَلِيلٌ عَلَى الْمَدَارِ عَلَيْهِ لِلدَّائِرِ وَكَمَا لَوْ عَلَّلَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِمُجَرَّدِ مِلْكِ النِّصَابِ قِيلَ لَهُ : هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ الْحَوْلِ . وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ . وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ السَّبَبِ فَيُقَالُ : الْأَسْبَابُ الْمُثْبِتَةُ لِلْإِرْثِ

ثَلَاثَةٌ : رَحِمٌ وَنِكَاحٌ وَوَلَاءٌ . وَعِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَثْبُتُ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَغَيْرِهَا فَالْعِلَّةُ هُنَا قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْحُكْمُ الْمَانِعُ : كَالرِّقِّ وَالْقَتْلِ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ . فَإِذَا أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ هَذَا الْمَعْنَى جَازَ تَخْصِيصُهَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ وَوُجُودِ مَانِعٍ . فَأَمَّا إنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُعَلِّلُ بَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَرْقًا مُؤَثِّرًا بَطَلَ تَعْلِيلُهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ اقْتَرَنَ بِالْوَصْفِ تَارَةً كَمَا فِي الْأَصْلِ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ تَارَةً كَمَا فِي الْأَصْلِ وَيَخْتَلِفُ عَنْهُ تَارَةً كَمَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ . وَالْمُسْتَدِلُّ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الْفَرْعَ مِثْلُ الْأَصْلِ دُونَ صُورَةِ النَّقْضِ فَلَمْ يَكُنْ إلْحَاقُهُ بِالْأَصْلِ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِصُورَةِ النَّقْضِ فِي انْتِفَائِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ مَوْجُودٌ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْوَاحِدَةِ دُونَ الْأُخْرَى وَشَكَكْنَا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ . وَهَذَا كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ فِي الْقَتْلِ : فَقَتَلَ الْأَوْلِيَاءُ وَاحِدًا وَلَمْ يَقْتُلُوا آخَرَ إمَّا لِبَذْلِ الدِّيَةِ وَإِمَّا لِإِحْسَانِ كَانَ لَهُ عِنْدَهُمْ وَالثَّالِثُ لَمْ يُعْرَفْ أَهْوَ كَالْمَقْتُولِ أَوْ كَالْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَإِنَّا لَا نُلْحِقُهُ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلِ يُبَيِّنُ مُسَاوَاتَهُ لَهُ دُونَ مُسَاوَاتِهِ لِلْآخَرِ . إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ

عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : قَدْ اُسْتُحِلَّ الْمَحْظُورُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْحَاظِرِ وَهُوَ مَا فِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّغْذِيَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الضَّرُورَةُ مَا أَزَالَتْ حُكْمَ السَّبَبِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ إزَالَةُ اقْتِضَاءٍ لِلْحَظْرِ فَلَمْ يَبْقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَاظِرٌ إذْ يَمْتَنِعُ زَوَالُ الْحَظْرِ مَعَ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ التَّامِّ . وَفَصْلُ النِّزَاعِ : أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالسَّبَبِ الْحَاظِرِ : السَّبَبُ التَّامُّ وَهُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحَظْرَ فَهَذَا يَرْتَفِعُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ مُمْتَنِعٌ وَالْحِلُّ ثَابِتٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ السَّبَبِ الْمُسْتَلْزِمِ لَهُ وَإِنْ أُرِيدَ بِالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِلْحَظْرِ لَوْلَا الْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ حَالَ الْحَظْرِ لَكِنَّ الْمُعَارِضَ الرَّاجِحَ أَزَالَ اقْتِضَاءَهُ لِلْحَظْرِ فَلَمْ يَبْقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُقْتَضِيًا فَإِذَا قُدِّرَ زَوَالُ الْمَخْمَصَةِ عَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ لِزَوَالِ الْمُعَارِضِ لَهُ . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كَوْنِ التَّيَمُّمِ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا يَرْفَعُهُ فَإِنَّهُ فَرْعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ثُمَّ يَعُودُ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمُمْتَنِعِ وَالشَّرْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ فَجَعَلَ التُّرَابَ طَهُورًا وَالْمَاءَ يَكُونُ طَهُورًا إذَا أَزَالَ الْحَدَثَ وَإِلَّا مَعَ وُجُودِ الْجَنَابَةِ

يَمْتَنِعُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ فَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ إنَّمَا قَالَ : إنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ثُمَّ يَعُودُ وَهَذَا مُمْكِنٌ لَيْسَ بِمُمْتَنِعِ وَالشَّرْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ فَجَعَلَ التُّرَابَ طَهُورًا وَإِنَّمَا يَكُونُ طَهُورًا إذَا أَزَالَ الْحَدَثَ وَإِلَّا فَمَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ لَا يَكُونُ طَهُورًا . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِرَافِعِ وَلَكِنَّهُ مُبِيحٌ وَالْحَدَثُ هُوَ الْمَانِعُ لِلصَّلَاةِ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَانِعٌ تَامٌّ كَمَا يَكُونُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فَهَذَا غالط فَإِنَّ الْمَانِعَ التَّامَّ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَنْعِ وَالْمُتَيَمِّمُ يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ لَيْسَ بِمَمْنُوعِ مِنْهَا وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُمْتَنِعٌ . وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ قَائِمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ لِوُجُودِ الطَّهَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ الرَّافِعَةِ لِمَنْعِهِ فَإِذَا حَصَلَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَصَلَ مَنْعُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَهَذَا صَحِيحٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : هُوَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ . إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَرْفَعُهُ كَمَا يَرْفَعُهُ الْمَاءُ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِوُجُودِ سَبَبٍ آخَرَ كَانَ غالطا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ : أَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ اسْتَعْمَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَجَدَّدْ بَعْدَ الْجَنَابَةِ الْأُولَى جَنَابَةٌ ثَانِيَةٌ بِخِلَافِ الْمَاءِ . وَإِنْ قَالَ : أُرِيدَ بِرَفْعِهِ أَنَّهُ رَفْعُ مَنْعِ الْمَانِعِ فَلَمْ يَبْقَ مَانِعًا إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَاءِ . فَقَدْ أَصَابَ وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ نِزَاعٌ شَرْعِيٌّ عَمَلِيٌّ .

وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ : عَلَى كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يَبْقَ الْحَدَثُ مَانِعًا مَعَ وُجُودِ طِهَارَةِ التَّيَمُّمِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَعَلَ التُّرَابَ طَهُورًا كَمَا جَعَلَ الْمَاءَ طَهُورًا لَكِنْ جَعَلَ طَهَارَتَهُ مُقَيَّدَةً إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي كَوْنِهِ مُطَهِّرًا شَرْطًا آخَرَ فَالْمُتَيَمِّمُ قَدْ صَارَ طَاهِرًا وَارْتَفَعَ مَنْعُ الْمَانِعِ لِلصَّلَاةِ إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ فَمَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فَالْمَنْعُ زَائِلٌ إذَا لَمْ يَتَجَدَّدْ سَبَبٌ آخَرُ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ كَمَا يُوجِبُ طَهَارَةَ الْمَاءِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ طَهُورًا قَبْلَ الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ وَفِي الْوَقْتِ كَمَا كَانَ الْمَاءُ طَهُورًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَمَنْ أَبْطَلَهُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَقَدْ خَالَفَ مُوجِبَ الدَّلِيلِ . وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ ذَلِكَ رُخْصَةً عَامَّةً لِأُمَّتِهِ . وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ التَّيَمُّمَ بِفَرْضِ أَوْ نَفْلٍ أَوْ تِلْكَ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا كَمَا لَمْ يَفْصِلْ فِي ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ فَيَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا وَالْوُضُوءُ قَبْلَ الْوَقْتِ فِيهِ نِزَاعٌ لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي التَّيَمُّمِ أَشْهَرُ .
وَإِذَا دَلَّتْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى جَوَازِ أَحَدِ الطَّهُورَيْنِ قَبْلَ الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ كِلَاهُمَا مُتَطَهِّرٌ فَعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ؛ وَلِهَذَا جَازَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ وَالْمُغْتَسِلِ بِالْمُتَيَمِّمِ كَمَا فَعَلَ عَمْرُو بْنُ العاص وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا فَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَيْثُ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمَذْهَبُ أَبِي

يُوسُفَ وَغَيْرِهِ . لَكِنْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ ؛ لِنَقْصِ حَالِ الْمُتَيَمِّمِ . وَأَيْضًا كَانَ دُخُولُ الْوَقْتِ وَخُرُوجُهُ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ حَادِثٍ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي بُطْلَانِ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ إذْ كَانَ حَالُ الْمُتَطَهِّرِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ سَوَاءً . وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ إنَّمَا يُثْبِتُ الْأَحْكَامَ وَيُبْطِلُهَا بِأَسْبَابِ تُنَاسِبُهَا فَكَمَا لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ بِالْأَمْكِنَةِ لَا يُبْطِلُ بِالْأَزْمِنَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الشَّرْعِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَنْتَقِضُ بِطَهَارَةِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَذَوِي الْأَحْدَاثِ الدَّائِمَةِ . قِيلَ : أَمَّا طَهَارَةُ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَسْحِ وَبَيْنَ الْخَلْعِ وَالْغَسْلِ ؛ وَلِهَذَا وَقَّتَهَا الشَّارِعُ وَلَمْ يُوَقِّتْهَا لِدُخُولِ وَقْتِ صَلَاةٍ وَلَا خُرُوجِهَا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ رُخْصَةً لَيْسَتْ بِعَزِيمَةِ حَدَّ لَهَا وَقْتًا مَحْدُودًا فِي الزَّمَنِ ثَلَاثًا لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ طَهَارَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ عَزِيمَةً لَمْ تَتَوَّقَتْ بَلْ يَمْسَحُ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يَحِلَّهَا وَيَمْسَحُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى كَمَا يَتَيَمَّمُ عَنْ الْحَدَثَيْنِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ فَإِلْحَاقُ التَّيَمُّمِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ .

وَأَمَّا ذَوُو الْأَحْدَاثِ الدَّائِمَةِ : كَالْمُسْتَحَاضَةِ فَأُولَئِكَ وُجِدَ فِي حَقِّهِمْ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدَثِ وَهُوَ خُرُوجُ الْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ رَخَّصَ لَهُمْ الشَّارِعُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ مُؤَقَّتَةً ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَطَهَّرَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ تَنْتَقِضْ طَهَارَتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا تَنْتَقِضُ إذَا خَرَجَ الْخَارِجُ فِي الْوَقْتِ فَإِنَّهَا تُصَلِّي بِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْوَقْتُ ثُمَّ لَا تُصَلِّي لِوُجُودِ النَّاقِضِ لِلطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ مَا يَنْقُضُ طَهَارَتَهُ . وَالتَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ فَلَا يُبْطِلُ تَيَمُّمَهُ إلَّا مَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا وَقَوْلِ مَنْ وَافَقَنَا عَلَى التَّوْقِيتِ فِي مَسْحِ الْخُفَّيْنِ وَعَلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ فَإِنَّ هَذَا مَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ : أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْقُضْ الطَّهَارَةَ بِهَذَا أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ هَذَا كَمَالِكِ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُعَارَضَةُ بِهَذَا وَهَذَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يتوقت عِنْدَهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى أَنْ لَا يتوقت . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْقَائِمَ إلَى الصَّلَاةِ مَأْمُورٌ بِإِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ . قِيلَ : نَعَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ تَطَهَّرَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ

أَحْسَنَ وَأَتَى بِالْوَاجِبِ قَبْلَ هَذَا كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ هَذَا فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَى طَهَارَةٍ قَبْلَ الْوَقْتِ إلَى حِينِ الْوَقْتِ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَبْقَى مُحْدِثًا وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا كَانَ قَدْ أَحْسَنَ بِتَقْدِيمِ طَهَارَتِهِ لِكَوْنِهِ عَلَى طَهَارَةٍ قَبْلَ الْوَقْتِ أَحْسَنُ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَمَّمَ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ : كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ } . وَإِذَا كَانَ تَطَهَّرَ قَبْلَ الْوَقْتِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ وَأَتَى بِأَفْضَلَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَكَانَ كَالْمُتَطَهِّرِ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَكَمَنْ أَدَّى أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا وَكَمَنْ زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ خَامِسَةٍ فِي الصَّلَاةِ . وَالتَّيَمُّمُ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ حَسَنٌ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ وَلِهَذَا يَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ لِلنَّافِلَةِ وَلَمْسُ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَثَرِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَبَعْضُهُ ضَعِيفٌ وَبَعْضُهُ مُعَارِضٌ بِقَوْلِ غَيْرِهِ وَلَا إجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الصَّعِيدُ : فَفِيهِ أَقْوَالٌ فَقِيلَ : يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ ؛ كَالزَّرْنِيخِ وَالنَّوْرِ وَالْجِصِّ وَكَالصَّخْرَةِ الْمَلْسَاءِ فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهَا كَالْمَعَادِنِ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمُحَمَّدٌ يُوَافِقُهُ ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا لِقَوْلِهِ : ( مِنْهُ . وَقِيلَ يَجُوزُ بِالْأَرْضِ وَبِمَا اتَّصَلَ بِهَا حَتَّى بِالشَّجَرِ كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَلَهُ فِي الثَّلْجِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الأوزاعي وَالثَّوْرِيِّ . وَقِيلَ يَجُوزُ بِالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالرَّمْلِ عِنْدَ عَدَمِ التُّرَابِ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ إلَّا بِتُرَابِ طَاهِرٍ لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى .

وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يَعْلَقُ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالصَّخْرُ لَا يَعْلَقُ لَا بِالْوَجْهِ وَلَا بِالْيَدِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ تُرَابُ الْحَرْثِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا } قَالُوا : فَعَمَّ الْأَرْضَ بِحُكْمِ الْمَسْجِدِ وَخَصَّ تُرْبَتَهَا - وَهُوَ تُرَابُهَا - بِحُكْمِ الطَّهَارَةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ اخْتَصَّتْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ بِمَا هُوَ مَاءٌ فِي الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ طَهَارَةُ التُّرَابِ تَخْتَصُّ بِمَا هُوَ تُرَابٌ فِي الْأَصْلِ وَهُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ خُلِقَ مِنْهُمَا آدَمَ : الْمَاءُ . وَالتُّرَابُ . وَهُمَا الْعُنْصُرَانِ الْبَسِيطَانِ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْمَائِعَاتِ وَالْجَامِدَاتِ فَإِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ . وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { صَعِيدًا } قَالُوا : وَالصَّعِيدُ هُوَ الصَّاعِدُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ صَاعِدٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى . { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } وَقَوْلِهِ : { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } . وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَخُصَّ الْحُكْمَ بِالتُّرَابِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ } فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُسْلِمَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ عِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا تُرَابُ حَرْثٍ فَإِنْ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِالرَّمْلِ كَانَ مُخَالِفًا لِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ جَوَّزَ التَّيَمُّمَ بِالرَّمْلِ دُونَ غَيْرِهِ أَوْ قَرَنَ بِذَلِكَ السَّبْخَةَ ؛ فَإِنَّ مِنْ الْأَرْضِ مَا يَكُونُ سَبْخَةً . وَاخْتِلَافُ التُّرَابِ بِذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِ بِالْأَلْوَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ فَجَاءَ بَنُوهُ عَلَى قَدْرِ تِلْكَ الْقَبْضَةِ : جَاءَ مِنْهُمْ الْأَسْوَدُ وَالْأَبْيَضُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَجَاءَ مِنْهُمْ السَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَبَيْنَ ذَلِكَ } . وَآدَمُ إنَّمَا خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَالتُّرَابُ الطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ : الَّذِي يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَاَلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلَّا نَكِدًا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّيِّبِ الطَّاهِرُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ وَلَا تَعْلَقُ بِالْيَدِ ؛ بِخِلَافِ الزَّرْنِيخِ وَالنُّورَةِ فَإِنَّهَا مَعَادِنُ فِي الْأَرْضِ لَكِنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ كَمَا يَنْطَبِعُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالرَّصَاصُ وَالنُّحَاسُ .

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ مُفْتِي الْأَنَامِ الْمُجْتَهِدُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ : أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - :
قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . هَذَا الْخِطَابُ يَقْتَضِي : أَنَّ كُلَّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْغُسْلِ . وَالْمَسْحِ . وَهُوَ الْوُضُوءُ . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ : إلَى أَنَّ هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ .

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ : إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ . فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ : فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِهَذَا : الْقَائِمُ مِنْ النَّوْمِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ . قَالُوا : الْآيَةُ أَوْجَبَتْ الْوُضُوءَ عَلَى النَّائِمِ بِهَذَا وَعَلَى الْمُتَغَوِّطِ بِقَوْلِهِ : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } وَعَلَى لَامِسِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } وَهَذَا هُوَ الْحَدَثُ الْمُعْتَادُ . وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ . تَقْدِيرُهُ : إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ النَّوْمِ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ . فَيُقَالُ : أَمَّا تَنَاوُلُهَا لِلْقَائِمِ مِنْ النَّوْمِ الْمُعْتَادِ : فَظَاهِرُ لَفْظِهَا يَتَنَاوَلُهُ . وَأَمَّا كَوْنُهَا مُخْتَصَّةً بِهِ بِحَيْثُ لَا تَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا وَقَامَ إلَى الصَّلَاةِ - فَهَذَا ضَعِيفٌ . بَلْ هِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِهَذَا لَفْظًا وَمَعْنًى . وَغَالِبُ الصَّلَوَاتِ يَقُومُ النَّاسُ إلَيْهَا مِنْ يَقَظَةٍ : لَا مِنْ نَوْمٍ :

كَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . وَكَذَلِكَ الظُّهْرُ فِي الشِّتَاءِ ؛ لَكِنَّ الْفَجْرَ يَقُومُونَ إلَيْهَا مِنْ نَوْمٍ . وَكَذَلِكَ الظُّهْرُ فِي الْقَائِلَةِ . وَالْآيَةُ تَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إذَا أَمَرَتْ الْآيَةُ الْقَائِمَ مِنْ النَّوْمِ - لِأَجْلِ الرِّيحِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ - فَأَمْرُهَا لِلْقَائِمِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ الرِّيحُ فِي الْيَقَظَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى . فَتَكُونُ - عَلَى هَذَا - دِلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى الْيَقْظَانِ بِطَرِيقِ تَنْبِيهِ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ هَذَا بِطْرِيقِ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ . فَهَذَانِ قَوْلَانِ مُتَوَجِّهَانِ . وَالْآيَةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ عَامَّةٌ . وَتَعُمُّ أَيْضًا الْقِيَامَ إلَى النَّافِلَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْقِيَامَ إلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَمَتَى كانت عَامَّةً لِهَذَا كُلِّهِ : فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ أَوْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ . فَإِنَّ الْمُتَوَضِّئَ لَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ . وَكُلُّ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَيُوجِبُهُ الشَّافِعِيُّ فِي التَّيَمُّمِ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ يُخَالِفُ هَذَا .

فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا : كَانَ لَهُ قَوْلَانِ . وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا قَوْلَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْحُكْمِ . فَيَجْعَلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ اتِّفَاقًا عَلَى الْإِضْمَارِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ . قَالَ : وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثِينَ فَاغْسِلُوا فَصَارَ الْحَدَثُ مُضْمَرًا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ . وَهَذَا قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْفُقَهَاءِ . قَالَ : وَالثَّانِي أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى إطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ إضْمَارٍ فَيَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُرِيدُ الصَّلَاةَ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْدِثٍ . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ سِيرِين . وَنُقِلَ عَنْهُمْ : أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ . وَنُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا بِالسُّنَّةِ . وَهُوَ مَا رَوَى بريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ . وَقَالَ : عَمْدًا فَعَلْته يَا عُمَرُ } . قُلْت : أَمَّا الْحُكْمُ - وَهُوَ أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ صَلَّى بِذَلِكَ

الْوُضُوءِ صَلَاةً أُخْرَى - فَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ شَاذٌّ . وَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ صَلَّى ثُمَّ قَامَ إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ { أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ عَرَفَةَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا جَمَعَ بِهِمْ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ } وَصَلَّى خَلْفَهُ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ . وَلَمَّا سَلَّمَ مِنْ الظُّهْرِ . صَلَّى بِهِمْ الْعَصْرَ وَلَمْ يُحْدِثْ وُضُوءًا لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ وَلَا أَمَرَ النَّاسَ بِإِحْدَاثِ وُضُوءٍ وَلَا نَقَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّجْدِيدَ لَا يُسْتَحَبُّ مُطْلَقًا .
وَهَلْ يُسْتَحَبُّ التَّجْدِيدُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الْخَمْسِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا قَدِمَ مُزْدَلِفَةَ : { صَلَّى بِهِمْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمْعًا } مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ لِلْعِشَاءِ . وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ قَامَ هُوَ وَهُمْ إلَى صَلَاةٍ بَعْدَ صَلَاةٍ . وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةً . وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَحَادِيثِ الْجَمْعِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . كُلُّهَا تَقْتَضِي : أَنَّهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ - صَلَّوْا الثَّانِيَةَ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِطِهَارَةِ الْأُولَى لَمْ يُحْدِثُوا لَهَا وُضُوءًا .

وَكَذَلِكَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ { أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ . فَيُصَلِّي بِهِ الْفَجْرَ } مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ حَتَّى يَغُطَّ . وَيَقُولُ { تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي } فَهَذَا أَمْرٌ مِنْ أَصَحِّ مَا يَكُونُ أَنَّهُ : كَانَ يَنَامُ ثُمَّ يُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ الَّذِي تَوَضَّأَ لِلنَّافِلَةِ يُصَلِّي بِهِ الْفَرِيضَةَ . فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ؟ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ . ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ . فَاشْتَغَلَ بِهِمْ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُحْدِثْ وُضُوءًا } . وَكَانَ يُصَلِّي تَارَةً الْفَرِيضَةَ ثُمَّ النَّافِلَةَ . وَتَارَةً النَّافِلَةَ ثُمَّ الْفَرِيضَةَ وَتَارَةً فَرِيضَةً ثُمَّ فَرِيضَةً . كُلُّ ذَلِكَ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ . وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ صَلَّوْا خَلْفَهُ فِي رَمَضَانَ بِاللَّيْلِ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً . وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِهِ يَتَوَضَّئُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ مَا لَمْ يُحْدِثُوا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ . وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - لَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ - : أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ .

فَالْقَوْلُ بِاسْتِحْبَابِ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ . وَأَمَّا الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ : فَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ . وَالنَّقْلُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ ؛ بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُ خِلَافُهُ . وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا وَالْكَذِبُ عَلَى عَلِيٍّ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ : أَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ سِعَةِ عِلْمِهِ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا نِزَاعٌ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ الْقَاسِمِ : سَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ صَلَّى أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ ؟ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ . مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ هَذَا . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ . قُلْت : وَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قَالَ : يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ } وَهَذَا هُوَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمُفَرِّقَةِ . وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ أَحْمَد ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا يُصَلِّي صَلَوَاتٍ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ . كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إنِّي

رَأَيْتُك صَنَعْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ صَنَعْته ؟ قَالَ : عَمْدًا صَنَعْته يَا عُمَرُ } . وَالْقُرْآنُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مَرَّةً ثَانِيَةً مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } فَقَدْ أَمَرَ مَنْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ وَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ : أَنْ يَتَيَمَّمَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَجِيءَ مِنْ الْغَائِطِ يُوجِبُ التَّيَمُّمَ . فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ وَمَنْ لَمْ يَجِئْ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُونَ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ . وَعَلَى هَذَا فَلَا تَأْثِيرَ لِلْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ . فَإِنَّهُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَجَبَ الْوُضُوءُ أَوْ التَّيَمُّمُ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ مِنْ الْغَائِطِ . وَلَوْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ وَلَمْ يَقُمْ إلَى الصَّلَاةِ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وُضُوءٌ وَلَا تَيَمُّمٌ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ عَبَثًا عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ . لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَكُونُونَ مُحْدِثِينَ فَإِنَّ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ أَمْرٌ مُعْتَادٌ لَهُمْ وَكُلُّ بَنِي آدَمَ مُحْدِثٌ . وَالْأَصْلُ فِيهِمْ : الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ . فَإِنَّ أَحَدَهُمْ مِنْ حِينِ كَانَ طِفْلًا قَدْ اعْتَادَ ذَلِكَ فَلَا يَزَالُ مُحْدِثًا بِخِلَافِ الْجَنَابَةِ . فَإِنَّهَا إنَّمَا تَعْرِضُ لَهُمْ

عِنْدَ الْبُلُوغِ . وَالْأَصْلُ فِيهِمْ : عَدَمُ الْجَنَابَةِ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمْ : عَدَمُ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ؛ فَلِهَذَا قَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } فَأَمَرَهُمْ بِالطَّهَارَةِ الصُّغْرَى مُطْلَقًا . لِأَنَّ الْأَصْلَ : أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُحْدِثُونَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا . ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَلَيْسَ مِنْهُمْ جُنُبٌ إلَّا مَنْ أَجْنَبَ . فَلِهَذَا فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : الْآيَةُ اقْتَضَتْ وُجُوبَ الْوُضُوءِ إذَا قَامَ الْمُؤْمِنُ إلَى الصَّلَاةِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ . وَأَنَّهُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ صَارَ وَاجِبًا حِينَئِذٍ وُجُوبًا مُضَيَّقًا . فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَدْ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ : فَقَدْ أَدَّى هَذَا الْوَاجِبَ قَبْل تَضْيِيقِهِ كَمَا قَالَ : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ يُوجِبُ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ . وَحِينَئِذٍ يتضيق وَقْتُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْهُ بِبَيْعِ وَلَا غَيْرِهِ . فَإِذَا سَعَى إلَيْهَا قَبْلَ النِّدَاءِ : فَقَدْ سَابَقَ إلَى الْخَيْرَاتِ وَسَعَى قَبْلَ تَضْيِيقِ الْوَقْتِ . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى بَيْتِهِ لِيَسْعَى عِنْدَ النِّدَاءِ ؟ . وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ : إذَا كَانَ الْمُسْلِمُ قَدْ تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ لِلْمَغْرِبِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ لِلْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَقُومُ إلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ فَهُوَ

بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ السَّعْيَ إذَا أَتَى الْجُمُعَةَ قَبْلَ النِّدَاءِ . وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّهِمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ لِلْفَجْرِ وَغَيْرِهَا قَبْلَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَجِّلُهَا وَيُصَلِّيهَا إذَا تَوَارَتْ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانَتْ بُيُوتُهُمْ بَعِيدَةً مِنْ الْمَسْجِدِ . فَهَؤُلَاءِ لَوْ لَمْ يَتَوَضَّئُوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ : لَمَا أَدْرَكُوا مَعَهُ أَوَّلَ الصَّلَاةِ بَلْ قَدْ تَفُوتُهُمْ جَمِيعًا لِبُعْدِ الْمَوَاضِعِ . وَهُوَ نَفْسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَلَا مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا كَانَ يَأْمُرُ أَحَدًا بِتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ . وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ . وَمَا أَعْرِفُ فِي هَذَا خِلَافًا ثَابِتًا عَنْ الصَّحَابَةِ : أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الْوَقْتِ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ . وَلَا يُسْتَحَبُّ أَيْضًا لِمِثْلِ هَذَا تَجْدِيدُ وُضُوءٍ . وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ صَلَّى بِالْوُضُوءِ الْأَوَّلِ : هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّجْدِيدُ ؟ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُصَلِّ بِهِ : فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ إعَادَةُ الْوُضُوءِ ؛ بَلْ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ فِي مِثْلِ هَذَا بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا قَبْلَ الْقِيَامِ قَدْ أَدَّى هَذَا الْوَاجِبَ قَبْلَ تَضْيِيقِهِ كَالسَّاعِي إلَى الْجُمُعَة قَبْلَ النِّدَاءِ وَكَمَنْ قَضَى الدَّيْنَ قَبْلَ حُلُولِهِ ؛ وَلِهَذَا

قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ الصَّبِيَّ إذَا صَلَّى ثُمَّ بَلَغَ لَمْ يُعِدْ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ بِعَيْنِهَا سَابَقَ إلَيْهَا قَبْلَ وَقْتِهَا . وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى مِنْ إيجَابِ الْإِعَادَةِ . وَمَنْ أَوْجَبَهَا قَاسَهُ عَلَى الْحَجِّ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ . كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْوُضُوءِ : هُوَ بِعَيْنِهِ فِي التَّيَمُّمِ . وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ التَّيَمُّمَ كَالْوُضُوءِ فَهُوَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ . وَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَتَيَمَّمَ لِلنَّافِلَةِ فَيُصَلِّي بِهِ الْفَرِيضَةَ وَغَيْرَهَا ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ - وَهُوَ التَّيَمُّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ - هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَهِيَ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ . فَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَفَعَلَ الْوَاجِبَ قَبْلَ تَضْيِيقِهِ وَسَارَعَ إلَى الْخَيْرَاتِ كَمَنْ سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ قَبْلَ النِّدَاءِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا إضْمَارٌ وَلَا تَخْصِيصٌ وَلَا تَدُلُّ عَلَى

وُجُوبِ الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ . بَلْ دَلَّتْ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالسُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمُصَلِّي . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ : مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ : فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } . وَهَذَا يُوَافِقُ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ . فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الطُّهُورِ وَمَنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ فَهُوَ عَلَى طُهُورٍ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْوُضُوءِ مَنْ كَانَ مُحْدِثًا . كَمَا قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ } وَهُوَ إذَا تَوَضَّأَ ثُمَّ أَحْدَثَ : فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَمْرِهِ بِالْوُضُوءِ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَ قَدْ تَوَضَّأَ فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ . كَقَوْلِهِ : لَا تُصَلِّ إلَّا بِوُضُوءِ . أَوْ لَا تُصَلِّ حَتَّى تَتَوَضَّأَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . مِمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ لِجِنْسِ الصَّلَاةِ الشَّامِلِ لِأَنْوَاعِهَا وَأَعْيَانِهَا . لَيْسَ مَأْمُورًا لِكُلِّ نَوْعٍ أَوْ عَيْنٍ بِوُضُوءِ غَيْرِ وُضُوءِ الْآخَرِ . وَلَا فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . لَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْجِنْسِ كَمَنْ أَسْلَمَ

فَتَوَضَّأَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ الْغُرُوبِ أَوْ كَمَنْ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ . بِخِلَافِ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ . فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ .
فَصْلٌ :
وقَوْله تَعَالَى { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَهُوَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الطَّهَارَةِ . وَقَالَ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْنَا بِالْوُضُوءِ لِصَلَاةِ وَاحِدَةٍ . بَلْ أَمَرَ بِأَنْ يَتَوَضَّأَ كُلَّمَا صَلَّى : وَلَوْ صَلَّى صَلَاةً بِوُضُوءِ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ : اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا : دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِنْ لَفْظِ " الصَّلَاةِ " فَإِنَّ " الصَّلَاةَ " هُنَا اسْمُ جِنْسٍ . لَيْسَ الْمُرَادُ صَلَاةً وَاحِدَةً . فَقَدْ أَمَرَ إذَا قَامَ إلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَضَّأَ . وَالْجِنْسُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يُصَلِّيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْجِنْسِ فَمِنْ أَيْنَ التَّكْرَارُ ؟ فَإِذَا

قَامَ إلَى أَيِّ صَلَاةٍ تَوَضَّأَ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ أَنَّهُ إذَا قَامَ إلَيْهَا يَوْمًا آخَرَ يَتَوَضَّأُ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الثَّانِي قَائِمٌ إلَى الصَّلَاةِ . فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ إذَا قَامَ إلَى مُسَمَّى الصَّلَاةِ ؛ فَحَيْثُ وُجِدَ قِيَامٌ إلَى مُسَمَّى الصَّلَاةِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ مَتَى وُجِدَ ذَلِكَ . فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ . وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } فَالْمُرَادُ : جِنْسُ الدُّلُوكِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ لَهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ طُلُوعٍ وَغُرُوبٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ طُلُوعًا وَاحِدًا فَكَأَنَّهُ قَالَ : قَبْلَ كُلِّ طُلُوعٍ لَهَا وَقَبْلَ كُلِّ غُرُوبٍ . وَأَقِمْ الصَّلَاةَ عِنْدَ كُلِّ دُلُوكٍ وَكُلِّ صَلَاةٍ يَقُومُ إلَيْهَا مُتَوَضِّئًا لَهَا . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ : هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَقْتَضِيهِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ . وَقِيلَ : لَا يَقْتَضِيهِ كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ . وَقِيلَ : إنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِسَبَبِ اقْتَضَى التَّكْرَارَ . وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد كَآيَةِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ .

فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ . قِيلَ : لِأَنَّ عِتْقَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ لَا يَتَكَرَّرُ . وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ نَفْسُهُ لَا يَتَكَرَّرُ . بَلْ الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ الْأُولَى . وَهُوَ مَحْدُودٌ بِثَلَاثِ . وَلَكِنْ إذَا قَالَ النَّاذِرُ : لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدًا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهُ وَإِذَا أَعْطَانِي مَالًا أَنْ أُزَكِّيَهُ أَوْ أَتَصَدَّقَ بِعُشْرِهِ : تَكَرَّرَ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
فَصْلٌ :
قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } الْآيَةَ . هَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ . فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ : " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ وَجَعَلُوا التَّقْدِيرَ : وَجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ . وَلَامَسْتُمْ النِّسَاءَ . قَالُوا : لِأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى " أَوْ " أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مُوجِبًا لِلتَّيَمُّمِ ؛ كَالْغَائِطِ وَالْمُلَامَسَةِ . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَعْنَى الْآيَةِ

فَإِنَّ " أَوْ " ضِدُّ الْوَاوِ : وَالْوَاوُ : لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا مَعْنَى : " أَوْ " فَلَا يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَلْ يَقْتَضِي إثْبَاتَ أَحَدِهِمَا . لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ إبَاحَةِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ : جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِين ؛ وَتَعَلَّمْ الْفِقْهَ أَوْ النَّحْوَ ؛ وَمِنْهُ خِصَالُ الْكَفَّارَةِ يُخَيَّرُ بَيْنَهَا وَلَوْ فَعَلَ الْجَمِيعَ جَازَ . وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْحَصْرِ ؛ يُقَالُ لِلْمَرِيضِ : كُلْ هَذَا أَوْ هَذَا . وَكَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ : هِيَ لِإِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا إمَّا مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ . وَهُوَ الشَّكُّ أَوْ مَعَ عِلْمِهِ وَهُوَ الْإِيهَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } لَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ : هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ أَنَّ خِطَابَهُ بِالتَّيَمُّمِ : لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ جَامَعَ . وَلَا يَنْبَغِي - عَلَى قَوْلِهِمْ - أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : أَنْ لَا يُبَاحَ التَّيَمُّمُ إلَّا مَعَ هَذَيْنِ . بَلْ التَّقْدِيرُ : بِالِاحْتِلَامِ أَوْ حَدَثٍ بِلَا غَائِطٍ فَالتَّيَمُّمُ هُنَا أَوْلَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ كُلَّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ أَمَرَهُمْ إذَا كَانُوا جُنُبًا : أَنْ يَطَّهَّرُوا وَفِيهِمْ الْمُحْدِثُ بِغَيْرِ الْغَائِطِ كَالْقَائِمِ مِنْ النَّوْمِ وَاَلَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ . وَمِنْهُمْ الْجُنُبُ بِغَيْرِ جِمَاعٍ بَلْ بِاحْتِلَامِ . فَالْآيَةُ عَمَّتْ كُلَّ مُحْدِثٍ وَكُلَّ جُنُبٍ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } { فَتَيَمَّمُوا } فَأَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ إذَا

كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً . وَالتَّيَمُّمُ رُخْصَةٌ . فَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ : أَنَّهَا لَا تُبَاحُ إلَّا مَعَ خَفِيفِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ كَالرِّيحِ وَالِاحْتِلَامِ بِخِلَافِ الْغَائِطِ وَالْجِمَاعِ . فَإِنَّ التَّيَمُّمَ مَعَ ذَلِكَ وَالصَّلَاةَ مَعَهُ : مِمَّا تَسْتَعْظِمُهُ النُّفُوسُ وَتَهَابُهُ . فَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ كِبَارِ الصَّحَابَةِ تَيَمُّمَ الْجُنُبِ مُطْلَقًا . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَهَابُ الصَّلَاةَ مَعَ الْحَدَثِ بِالتَّيَمُّمِ إذْ كَانَ جَعْلُ التُّرَابِ طَهُورًا كَالْمَاءِ : هُوَ مِمَّا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ . وَمَنْ لَمْ يَسْتَحْكِمْ إيمَانُهُ : لَا يَسْتَجِيزُ ذَلِكَ . فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : أَنَّ التَّيَمُّمَ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ تَغْلِيظِ الْحَدَثِ بِالْغَائِطِ وَتَغْلِيظِ الْجَنَابَةِ بِالْجِمَاعِ . وَالتَّقْدِيرُ : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرِينَ أَوْ كَانَ - مَعَ ذَلِكَ - جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ . لَيْسَ الْمَقْصُودُ : أَنْ يُجْعَلَ الْغَائِطُ وَالْجِمَاعُ فِيمَا لَيْسَ مَعَهُ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ . فَإِنَّهُ إذَا جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ وَلَيْسُوا مَرْضَى وَلَا مُسَافِرِينَ . فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } وَبِقَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمُقِيمِ . وَأَيْضًا فَتَخْصِيصُهُ الْمَجِيءَ مِنْ الْغَائِطِ وَالْجِمَاعِ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَتَيَمَّمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ خُرُوجِ الرِّيحِ وَمِنْ

الِاحْتِلَامِ . فَإِنَّ الرِّيحَ كَالنَّوْمِ وَالِاحْتِلَامُ يَكُونُ فِي الْمَنَامِ . فَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ وَالْإِنْسَانُ نَائِمٌ . فَإِذَا كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالِ يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ وَهُوَ يَقْظَانُ : فَهُوَ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ . لِأَنَّ النَّائِمَ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ بِخِلَافِ الْيَقِظَانِ . وَلَكِنْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ تَجِبُ وَإِنْ حَصَلَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَحَدَثِ النَّائِمِ وَاحْتِلَامِهِ . وَإِذَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ طَهَارَةِ الْمَاءِ فِي الْحَالِ فَوُجُوبُهَا مَعَ الْحَدَثِ الَّذِي حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ يَقَظَتِهِ : أَوْلَى . وَهَذَا بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ . فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إذَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمَعْذُورِ الَّذِي أَحْدَثَ فِي النَّوْمِ بِاحْتِلَامِ أَوْ رِيحٍ : أَنْ يُبِيحَهُ لِمَنْ أَحْدَثَ بِاخْتِيَارِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } لِيُبَيِّنَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِهَذَيْنِ . وَإِنْ حَصَلَ حَدَثُهُمَا فِي الْيَقَظَةِ وَبِفِعْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ غَلِيظًا . وَلَوْ كَانَتْ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ : كَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُبَاحُ إلَّا بِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ - الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ - مَعَ الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ وَالِاحْتِلَامِ . فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يُبَاحَ مَعَ الِاحْتِلَامِ وَلَا مَعَ الْحَدَثِ بِلَا غَائِطٍ كَحَدَثِ النَّائِمِ وَمَنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ . فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا عُلِّقَ بِشَرْطَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ مَعَ أَحَدِهِمَا . وَهَذَا لَيْسَ مُرَادًا قَطْعًا بَلْ هُوَ ضِدُّ

الْحَقِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُبِيحَ مَعَ الْغَائِطِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالِاخْتِيَارِ فَمَعَ الْخَفِيفِ وَعَدَمِ الِاخْتِيَارِ أَوْلَى . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَتَيَمَّمُوا . وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ . كَمَا يُقَالُ : وَإِنْ كُنْت مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا . وَالتَّقْدِيرُ : وَإِنْ كُنْتُمْ أَيُّهَا الْقَائِمُونَ إلَى الصَّلَاةِ - وَأَنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرِينَ - قَدْ جِئْتُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا خِطَابٌ لِلْقَائِمِينَ مِنْ النَّوْمِ : إنَّ التَّقْدِيرَ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا فِعْلَهُمْ بِقَوْلِهِ : { إذَا قُمْتُمْ } { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } الثَّلَاثَةَ أَفْعَالٍ . وَقَوْلُهُ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } حَالٌ لَهُمْ . أَيْ كُنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ . كَقَوْلِهِ : وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى حَالِ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ - إمَّا لِعَدَمِهِ أَوْ لِخَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ - فَتَيَمَّمُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ النَّوْمِ . أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ . وَلَكِنَّ الَّذِي رَجَّحْنَاهُ : أَنَّ قَوْلَهُ : { إذَا قُمْتُمْ } عَامٌّ : إمَّا لَفْظًا وَمَعْنًى . وَإِمَّا مَعْنًى .

وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى : إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّئُوا أَوْ اغْتَسِلُوا إنْ كُنْتُمْ جُنُبًا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرِينَ أَوْ فَعَلْتُمْ مَا هُوَ أَبْلَغُ فِي الْحَدَثِ - جِئْتُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ - إذْ التَّقْدِيرُ : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرِينَ وَقَدْ قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ فَعَلْتُمْ - مَعَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَالْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ - هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمَجِيءَ مِنْ الْغَائِطِ وَالْجِمَاعَ . فَيَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ قِيَامُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَالْمَرَضُ وَالسَّفَرُ وَأَحَدُ هَذَيْنِ . فَالْقِيَامُ مُوجِبٌ لِلطَّهَارَةِ وَالْعُذْرُ مُبِيحٌ وَهَذَا الْقِيَامُ . فَإِذَا قُمْتُمْ وَجَبَ التَّيَمُّمُ إنْ كَانَ قِيَامًا مُجَرَّدًا . أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ . وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْطِفُ قَوْلَهُ { أَوْ جَاءَ } { أَوْ لَامَسْتُمُ } عَلَى قَوْلِهِ { إذَا قُمْتُمْ } وَالتَّقْدِيرُ : وَإِذَا قُمْتُمْ أَوْ جَاءَ أَوْ لَامَسْتُمْ . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِنَظْمِ الْآيَةِ . فَإِنَّ نَظْمَهَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي جَزَاءِ الشَّرْطِ . وَقَوْلُهُ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فَإِنَّ الَّذِي قَالَهُ قَرِيبٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى . وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ : وَإِنْ كُنْتُمْ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ : جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ . فَهُوَ تَقْسِيمٌ مِنْ مُفْرَدٍ وَمُرَكَّبٍ . يَقُولُ : إنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ قَائِمِينَ إلَى الصَّلَاةِ فَقَطْ بِالْقِيَامِ

مِنْ النَّوْمِ أَوْ الْقُعُودِ الْمُعْتَادِ . أَوْ كُنْتُمْ - مَعَ هَذَا - : قَدْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } خِطَابٌ لِمَنْ قِيلَ لَهُمْ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } فَالْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الْقَائِمُ إلَى الصَّلَاةِ تَوَضَّأْ . وَإِنْ كُنْت جُنُبًا فَاغْتَسِلْ . وَإِنْ كُنْت مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا تَيَمَّمْ . أَوْ كُنْت مَعَ هَذَا وَهَذَا مَعَ قِيَامِك إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ . وَمَعَ مَرَضِك وَسَفَرِك قَدْ جِئْت مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْت النِّسَاءَ : فَتَيَمَّمْ إنْ كُنْت مَعْذُورًا . وَإِيضَاحُ هَذَا : أَنَّهُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي يُخَصُّ بِالذِّكْرِ لِامْتِيَازِهِ . وَتَخْصِيصُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ : إنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْعَامِّ ثُمَّ ذُكِرَ بِخُصُوصِهِ . وَيُقَالُ : بَلْ ذِكْرُهُ خَاصًّا يَمْنَعُ دُخُولَهُ فِي الْعَامِّ . وَهَذَا يَجِيءُ فِي الْعَطْفِ بِأَوْ وَأَمَّا بِالْوَاوِ : فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ } الْآيَةُ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا فِي " أَوْ " فَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَعْمَلْ

سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } وَقَوْلِهِ { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا } فَإِنَّ الْجَنَفَ هُوَ الْمَيْلُ عَنْ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ عَامِدًا . قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ " الْجَنَفُ " الْخَطَأُ وَ " الْإِثْمُ " الْعَمْدُ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ : الْجَنَفُ : الْخُرُوجُ عَنْ الْحَقِّ . وَقَدْ يُسَمَّى " الْمُخْطِئُ الْعَامِدُ " إلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ عَلَّقُوا " الْجَنَفَ " عَلَى الْمُخْطِئِ وَ " الْإِثْمَ " عَلَى الْعَامِدِ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } فَإِنَّ " الْكَفُورَ " هُوَ الْآثِمُ أَيْضًا . لَكِنَّهُ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ . وَقَدْ قِيلَ : هُمَا وَصْفَانِ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُوَ أَبْلَغُ . فَإِنَّ عَطْفَ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } وَقَوْلِهِ : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وَقَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الْآثِمُ الْمُذْنِبُ الظَّالِمُ وَالْكَفُورُ . هَذَا كُلُّهُ وَاحِدٌ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : هُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَنَّهُ يُعَرِّفُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يُطِيعَهُ بِأَيِّ وَصْفٍ كَانَ مِنْ هَذَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ آثِمٌ وَهُوَ كَفُورٌ

وَلَمْ يَكُنْ لِلْأُمَّةِ مِنْ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ يَغْلِبُ الْإِثْمُ عَلَى الْمَعَاصِي . قَالَ : وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَقْتَضِي نَهْيَ الْإِمَامِ عَنْ طَاعَةِ آثِمٍ مِنْ الْعُصَاةِ أَوْ كَفُورٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ فِيهَا تَخْيِيرٌ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ . وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَةٌ : مِنْهُمْ البغوي وَابْنُ الْجَوْزِيِّ . وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ : أَيْ لَا تُطِعْ مَنْ أَثِمَ أَوْ كَفَرَ . وَدُخُولُ " أَوْ " يُوجِبُ أَنْ لَا تُطِيعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ . وَلَوْ قَالَ : وَلَا تُطِعْ مِنْهُمَا آثِمًا أَوْ كَفُورًا لَمْ يَلْزَمْ النَّهْيُ إلَّا فِي حَالِ اجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ " الْكَفُورَ " هُوَ الْجَاحِدُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا . فَيَكُونُ هَذَا أَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ وَجْهِ التَّمَسُّكِ (1) .
وقَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } مِنْ هَذَا الْبَابِ . فَإِنَّهُ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ . فَقَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمُحْدِثِينَ كَمَا تَقَدَّمَ . ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } ثُمَّ قَالَ " وَإِنْ كُنْتُمْ - مَعَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ - مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا "

وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْدِثٍ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَمْ يَجِئْ كَالْمُسْتَيْقِظِ مَنْ نَوْمِهِ . وَالْمُسْتَيْقِظِ إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ . وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ جُنُبٍ سَوَاءٌ كَانَتْ جَنَابَتُهُ بِاحْتِلَامِ أَوْ جِمَاعٍ . فَقَالَ " وَإِنْ كُنْتُمْ مُحْدِثُونَ - جُنُبٌ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ - أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ " وَهَذَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْحَدَثِ { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } وَهَذَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْجَنَابَةِ . ثُمَّ قَدْ يُقَالُ : " لَفْظُ الْجُنُبِ " يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ وَخُصَّ الْمُجَامِعُ بِالذِّكْرِ وَكَذَلِكَ " الْقَائِمُ إلَى الصَّلَاةِ " يَتَنَاوَلُ مَنْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ وَمَنْ أَحْدَثَ بِدُونِ ذَلِكَ لَكِنْ خُصَّ الْجَائِي بِالذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا } فَالْآثِمُ هُوَ الْمُتَعَمِّدُ وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ - وَإِنْ كَانَ دَخَلَ - لِيُبَيَّنَ حُكْمَهُ بِخُصُوصِهِ وَلِئَلَّا يُظَنَّ خُرُوجُهُ عَنْ اللَّفْظِ الْعَامِّ . وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ فَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ . وَالتَّقْدِيرُ : إنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَتَيَمَّمُوا . وَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } ذَكَرَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ . فَالْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ هُوَ مَجِيءٌ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ الْحَاجَةَ . وَكَانُوا

يَنْتَابُونَ الْأَمَاكِنَ الْمُنْخَفِضَةَ وَهِيَ الْغَائِطُ . وَهُوَ كَقَوْلِك : جَاءَ مِنْ الْمِرْحَاضِ . وَجَاءَ مِنْ الْكَنِيفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . هَذَا كُلُّهُ عِبَارَةٌ عَمَّنْ جَاءَ وَقَدْ قَضَى حَاجَتَهُ بِالْبَوْلِ أَوْ الْغَائِطِ . وَالرِّيحُ يَخْرُجُ مَعَهُمَا . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ : هَلْ تَنْقُضُ الرِّيحُ لِكَوْنِهَا تَسْتَصْحِبُ جُزْءًا مِنْ الْغَائِطِ . فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا نَوْعًا آخَرَ ؟ أَوْ هِيَ لَا تَسْتَصْحِبُ جُزْءًا مِنْ الْغَائِطِ . بَلْ هِيَ نَفْسُهَا تَنْقُضُ . وَنَقْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ : { إذَا قُمْتُمْ } سَوَاءٌ كَانَ أُرِيدَ الْقِيَامُ مِنْ النَّوْمِ أَوْ مُطْلَقًا . فَإِنَّ الْقِيَامَ مِنْ النَّوْمِ : مُرَادٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ . وَهُوَ إنَّمَا نُقِضَ بِخُرُوجِ الرِّيحِ . هَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : أَنَّ النَّوْمَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِنَاقِضِ وَلَكِنَّهُ مَظِنَّةُ خُرُوجِ الرِّيحِ . وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ النَّوْمَ نَفْسَهُ يَنْقُضُ وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ . وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ حَتَّى يَغُطَّ ثُمَّ يَقُومُ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ وَيَقُولُ : تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَلْبَهُ الَّذِي لَمْ يَنَمْ كَانَ يَعْرِفُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ وَلَوْ كَانَ النَّوْمُ نَفْسُهُ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالرِّيحِ : لَنَقَضَ كَسَائِرِ النَّوَاقِضِ . وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ حَتَّى

تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ . ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِلَ عَنْ الْعِشَاءِ لَيْلَةً فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا . ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا . ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ قَالَ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ اللَّيْلَةَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ غَيْرَكُمْ } . وَلِمُسْلِمِ عَنْهُ قَالَ { مَكَثْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ . فَخَرَجَ عَلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْضُهُ - وَلَا نَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ شَغَلَهُ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - فَقَالَ حِينَ خَرَجَ : إنَّكُمْ لِتَنْتَظِرُونِ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرَكُمْ وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْت بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ . ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى } . وَلِمُسْلِمِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { اعْتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى . فَقَالَ : إنَّهُ لَوَقْتُهَا ؛ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي } . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : أَنَّهُمْ نَامُوا وَقَالَ فِي بَعْضِهَا " إنَّهُمْ

رَقَدُوا ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا ثُمَّ رَقَدُوا ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا " وَكَانَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ جَمَاعَةً كَثِيرَةً وَقَدْ طَالَ انْتِظَارُهُمْ وَنَامُوا . وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ أَحَدًا لَا سُئِلَ وَلَا سَأَلَ النَّاسُ : هَلْ رَأَيْتُمْ رُؤْيَا ؟ أَوْ هَلْ مَكَّنَ أَحَدُكُمْ مَقْعَدَتَهُ ؟ أَوْ هَلْ كَانَ أَحَدُكُمْ مُسْتَنِدًا ؟ وَهَلْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنْ أَعْضَائِهِ عَلَى الْأَرْضِ ؟ فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَسَأَلَهُمْ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا الِانْتِظَارِ بِاللَّيْلِ - مَعَ كَثْرَةِ الْجَمْعِ - يَقَعُ هَذَا كُلُّهُ . وَقَدْ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَهُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { اعْتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ فَلَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ . فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ حِينَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ : مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرَكُمْ . وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الْإِسْلَامُ فِي النَّاسِ } . وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي " بَابِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى الْمَسْجِدِ بِاللَّيْلِ وَالْغَلَسِ " وَفِي " بَابِ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ " وَخَرَّجَهُ فِي " بَاب وُضُوءِ الصِّبْيَانِ وَحُضُورِهِمْ الْجَمَاعَةَ " وَقَالَ فِيهِ { إنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرَكُمْ } .

وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ " نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ " يَعْنِي وَالنَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُنْتَظِرِينَ لِلصَّلَاةِ كَاَلَّذِي يَنْتَظِرُ الْجُمُعَةَ إذَا نَامَ أَيَّ نَوْمٍ كَانَ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ . فَإِنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِنَاقِضِ . وَإِنَّمَا النَّاقِضُ : الْحَدَثُ فَإِذَا نَامَ النَّوْمَ الْمُعْتَادَ الَّذِي يَخْتَارُهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ - كَنَوْمِ اللَّيْلِ وَالْقَائِلَةِ - فَهَذَا يَخْرُجُ مِنْهُ الرِّيحُ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ لَا يَدْرِي إذَا خَرَجَتْ فَلَمَّا كَانَتْ الْحِكْمَةُ خَفِيَّةً لَا نَعْلَمُ بِهَا : قَامَ دَلِيلُهَا مَقَامَهَا . وَهَذَا هُوَ النَّوْمُ الَّذِي يَحْصُلُ هَذَا فِيهِ فِي الْعَادَةِ . وَأَمَّا النَّوْمُ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ : هَلْ حَصَلَ مَعَهُ رِيحٌ أَمْ لَا ؟ فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . لِأَنَّ الطَّهَارَةَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينِ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ . وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهَا لَكِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَصٌّ يُوجِبُ النَّقْضَ بِكُلِّ نَوْمٍ . فَإِنَّ قَوْلَهُ : { الْعَيْنُ وِكَاءُ السه فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ } قَدْ رُوِيَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ : فَإِنَّمَا فِيهِ { إذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ } وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ : أَنَّ النَّوْمَ الْمُعْتَادَ هُوَ الَّذِي يَسْتَطْلِقُ مِنْهُ الْوِكَاءُ . ثُمَّ نَفْسُ الِاسْتِطْلَاقِ لَا يَنْقُضُ . وَإِنَّمَا يَنْقُضُ مَا يَخْرُجُ مَعَ الِاسْتِطْلَاقِ . وَقَدْ يَسْتَرْخِي الْإِنْسَانُ حَتَّى يَنْطَلِقَ الْوِكَاءُ وَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ . وَإِنَّمَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ { أُمِرْنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا إذَا كُنَّا سَفَرًا - أَوْ مُسَافِرِينَ - ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ . لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ } فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ نَقْضِ النَّوْمِ . وَلَكِنْ فِيهِ : أَنَّ لَابِسَ الْخُفَّيْنِ لَا يَنْزِعُهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَا يَنْزِعُهُمَا مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنَّوْمِ فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ نَزْعِهِمَا لِهَذِهِ الْأُمُورِ . وَهُوَ يَتَنَاوَلُ النَّوْمَ الَّذِي يَنْقُضُ . لَيْسَ فِيهِ : أَنَّ كُلَّ نَوْمٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . هَذَا إذَا كَانَ لَفْظُ " النَّوْمِ " مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي ؟ وَصَاحِبُ الشَّرِيعَةِ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ إذَا كَانُوا قُعُودًا أَوْ قِيَامًا فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا فَيَنْعَسُ أَحَدُهُمْ وَيَنَامُ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْوُضُوءِ فِي مِثْلِ هَذَا . أَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ النَّوْمِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ النَّاسِ : فَهُوَ الَّذِي يَتَرَجَّحُ مَعَهُ فِي الْعَادَةِ خُرُوجُ الرِّيحِ وَأَمَّا مَا كَانَ قَدْ يَخْرُجُ مَعَهُ الرِّيحُ وَقَدْ لَا يَخْرُجُ : فَلَا يَنْقُضُ عَلَى أَصْلِ الْجُمْهُورِ . الَّذِينَ يَقُولُونَ : إذَا شَكَّ هَلْ يَنْقُضُ أَوْ لَا يَنْقُضُ ؟ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ . بِنَاءً عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ .

فَصْلٌ :
وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِالطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَبِالتَّيَمُّمِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ . ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } فَأَمَرَ بِالتَّطَهُّرِ مِنْ الْجَنَابَةِ كَمَا قَالَ فِي الْمَحِيضِ : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّطَهُّرَ هُوَ الِاغْتِسَالُ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْجُنُبِ إلَّا الِاغْتِسَالُ وَأَنَّهُ إذَا اغْتَسَلَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ الصَّلَاةَ . وَالْمُغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ . وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَنَّ عَلَيْهِ نِيَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْوُضُوءِ وَلَا تَرْتِيبٌ وَلَا مُوَالَاةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَقِيلَ : لَا يَرْتَفِعُ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ إلَّا بِهِمَا . وَقِيلَ : لَا يَرْتَفِعُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد .

وَالْقُرْآنُ يَقْتَضِي : أَنَّ الِاغْتِسَالَ كَافٍ . وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ حَدَثٌ آخَرُ بَلْ صَارَ الْأَصْغَرُ جُزْءًا مِنْ الْأَكْبَرِ . كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْأَصْغَرِ جُزْءٌ مِنْ الْوَاجِبِ فِي الْأَكْبَرِ فَإِنَّ الْأَكْبَرَ يَتَضَمَّنُ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ عَطِيَّةَ وَاَللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ : { اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءِ وَسِدْرٍ . وَابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا } . فَجَعَلَ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ جُزْءًا مِنْ الْغُسْلِ لَكِنَّهُ يُقَدَّمُ كَمَا تُقَدَّمُ الْمَيَامِنُ . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ نَقَلُوا صِفَةَ غُسْلِهِ كَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذَكَرَتْ { أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى شَعْرِهِ ثُمَّ عَلَى سَائِرِ بَدَنِهِ } وَلَا يَقْصِدُ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ وَكَانَ لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ . فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ لَا يَغْسِلَانِ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ وَلَا يَنْوِيَانِ وُضُوءًا بَلْ يَتَطَهَّرَانِ وَيَغْتَسِلَانِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَوْلُهُ : { فَاطَّهَّرُوا } أَرَادَ بِهِ الِاغْتِسَالَ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَيْضِ { حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أَرَادَ بِهِ الِاغْتِسَالَ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ :

مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد . وَأَنَّ مَنْ قَالَ : هُوَ غَسْلُ الْفَرْجِ . كَمَا قَالَهُ دَاوُد فَهُوَ ضَعِيفٌ .
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } . فَقَوْلُهُ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ { عَلَى سَفَرٍ } لَا بِالْمَرَضِ . وَالْمَرِيضُ يَتَيَمَّمُ وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ . وَالْمُسَافِرُ إنَّمَا يَتَيَمَّمُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ . ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النَّوْعَيْنِ الْغَالِبَيْنِ : الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَاَلَّذِي لَا يَجِدُهُ . وَقَوْلُهُ { عَلَى سَفَرٍ } يَعُمُّ السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ . وَقَوْلُهُ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْخَوْفِ : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ } وَقَوْلِهِ فِي الْإِحْرَامِ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ }

وَفِي الصِّيَامِ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وَلَمْ يُوَقِّتْ اللَّهُ تَعَالَى وَقْتًا فِي الْمَرَضِ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ : أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ . بَلْ مَنْ كَانَ الْوُضُوءُ يَزِيدُ مَرَضَهُ أَوْ يُؤَخِّرُ بُرْأَهُ يَتَيَمَّمُ . وَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ . وَمَنْ يَتَضَرَّرُ بِالْمَاءِ لِبَرْدِ فَهُوَ كَالْمَرِيضِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . لَكِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الضَّرَرَ الْعَامَّ وَهُوَ الْمَرَضُ . بِخِلَافِ الْبَرْدِ . فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لِبَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَاءِ الْحَارِّ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْمُسَافِرَ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَاضِرَ . فَإِنَّ عَدَمَهُ فِي الْحَضَرِ نَادِرٌ . لَكِنْ قَدْ يُحْبَسُ الرَّجُلُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا مَا يَكْفِيهِ لِشُرْبِهِ . كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ قَدْ لَا يَكُونُ مَعَهُ إلَّا مَا يَكْفِيهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ دَوَابِّهِ . فَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَادِمُ الْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } . ذَكَرَ أَعْظَمَ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَهُوَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ . وَأَغْلَظَ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَهُوَ مُلَامَسَةُ النِّسَاءِ . وَأَمَرَ كُلًّا مِنْهُمَا إذَا كَانَ

مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا لَا يَجِدُ الْمَاءَ : أَنْ يَتَيَمَّمَ . وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ . وَقَدْ ثَبَتَ تَيَمُّمُ الْجُنُبِ فِي أَحَادِيثَ صِحَاحٍ وَحِسَانٍ كَحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ . وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَعَمْرِو بْنِ العاص وَصَاحِبِ الشَّجَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَهُوَ فِي السُّنَنِ . فَهَاتَانِ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَخَمْسَةُ أَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ عُرِفَتْ مُنَاظَرَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ . إذَا عَرَفْتهَا تَعْرِفُ دِلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ الرَّجُلِ الْعَظِيمِ الْقَدْرِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَلَا يُرَدُّ هَذَا النِّزَاعُ إلَّا إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الْمَعْصُومِ الْمُبَلِّغِ عَنْ اللَّهِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى . الَّذِي هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ .

فَصْلٌ :
وَنَذْكُرُ هَذَا عَلَى قَوْلِهِ : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } .
الْمُرَادُ بِهِ : الْجِمَاعُ . كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرُهُ مِنْ الْعَرَبِ . وَهُوَ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ . وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ . وَلَيْسَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ لَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ . وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ دَائِمًا يَمَسُّونَ نِسَاءَهُمْ . وَمَا نَقَلَ مُسْلِمٌ وَاحِدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ مَا دُونَ الْجِمَاعِ وَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ " بِالْيَدِ " وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي الْمَسِّ بِشَهْوَةِ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ لِإِطْفَاءِ الشَّهْوَةِ كَمَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْ الْغَضَبِ لِإِطْفَائِهِ . وَأَمَّا وُجُوبُهُ : فَلَا . وَأَمَّا الْمَسُّ الْمُجَرَّدُ عَنْ الشَّهْوَةِ : فَمَا أَعْلَمُ لِلنَّقْضِ بِهِ أَصْلًا عَنْ السَّلَفِ . وقَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ الْوُضُوءَ

مِنْهُ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ التَّيَمُّمَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الْمُحْدِثَ الْقَائِمَ لِلصَّلَاةِ : بِالْوُضُوءِ . وَأَمَرَ الْجُنُبَ بِالِاغْتِسَالِ فَذَكَرَ الطَّهَارَةَ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ النَّوْعَيْنِ . وَقَوْلُهُ : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } بَيَانٌ لِتَيَمُّمِ هَذَا . وَقَوْلُهُ : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } لَمْ يَذْكُرْ وَاحِدًا مِنْهُمَا لِبَيَانِ طَهَارَةِ الْمَاءِ . إذَا كَانَ قَدْ عُرِفَ أَصْلَ هَذَا . فَقَوْلُهُ { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } وَقَوْلُهُ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } فَالْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا أَنَّ اللَّامِسَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ يَتَيَمَّمُ . فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ؟ يَأْمُرُ مَنْ مَسَّ الْمَرْأَةَ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ . فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِالتَّيَمُّمِ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْوُضُوءِ ؟ وَهُوَ إنَّمَا أَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ مِنْ أَمْرِهِ بِالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ . وَنَظِيرُ هَذَا يَطُولُ . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْآيَةَ قَطَعَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ .
فَصْلٌ :
وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ : يُجَامِعُ أَهْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَلَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ . وَكَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ . حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ .

فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنْ التَّيَمُّمَ مُطَهِّرٌ كَالْمَاءِ سَوَاءٌ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ . فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فأمسه بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ : قَالَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } . وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعْلُ التُّرَابِ طَهُورًا فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَطَهَارَةِ الْجُنُبِ . كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى - أَوْ خَبَثٌ - فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ . فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } وَقَالَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ

{ ذَيْلُ الْمَرْأَةِ يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ مُطَهِّرٌ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ طَاهِرًا كَمَا يَجْعَلُ الْمَاءُ مُسْتَعْمِلَهُ فِي الطَّهَارَةِ طَاهِرًا إنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا وَلَا مُحْدِثًا . فَمَنْ قَالَ : إنْ الْمُتَيَمِّمَ جُنُبٌ أَوْ مُحْدِثٌ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . بَلْ هُوَ مُتَطَهِّرٌ . وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَصَلَّيْت بِأَصْحَابِك وَأَنْتَ جُنُبٌ } ؟ " اسْتِفْهَامٌ . أَيْ هَلْ فَعَلْت ذَلِكَ ؟ فَأَخْبَرَهُ عَمْرٌو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بَلْ تَيَمَّمَ لِخَوْفِهِ : أَنْ يَقْتُلَهُ الْبَرْدُ . فَسَكَتَ عَنْهُ وَضَحِكَ . وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ هَذَا إنْكَارٌ عَلَيْهِ : أَنَّهُ صَلَّى مَعَ الْجَنَابَةِ . فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَنَابَةِ لَا تَجُوزُ . فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ مَا هُوَ مُنْكَرٌ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ : أَنَّهُ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ . دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ وَهُوَ جُنُبٌ . فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ احْتَجَّ بِهِ وَجَعَلَ الْمُتَيَمِّمَ جُنُبًا وَمُحْدِثًا . وَاَللَّهُ يَقُولُ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } فَلَمْ يُجِزْ اللَّهُ لَهُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَتَطَهَّرَ . وَالْمُتَيَمِّمُ قَدْ تَطَهَّرَ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَكَيْفَ يَكُونُ جُنُبًا

غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ ؟ لَكِنَّهَا طَهَارَةُ بَدَلٍ . فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ بَطَلَتْ هَذِهِ الطَّهَارَةُ وَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ حِينَئِذٍ . لِأَنَّ الْبَوْلَ الْمُتَقَدِّمَ جَعَلَهُ مُحْدِثًا . وَالصَّعِيدَ جَعَلَهُ مُطَهَّرًا إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ . فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فَهُوَ مُحْدِثٌ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ لَا أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ مُسْتَمِرًّا . ثُمَّ مَنْ قَالَ : التَّيَمُّمُ مُبِيحٌ لَا رَافِعٌ فَإِنَّ نِزَاعَهُ لَفْظِيٌّ . فَإِنَّهُ إنْ قَالَ : إنَّهُ يُبِيحُ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورِ فَهُوَ يُخَالِفُ النُّصُوصَ . وَالْجَنَابَةُ مُحَرِّمَةٌ لِلصَّلَاةِ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْمُبِيحُ وَالْمُحَرِّمُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ . وَالْمُتَيَمِّمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ الصَّلَاةِ . فَالْمَنْعُ ارْتَفَعَ بِالِاتِّفَاقِ وَحُكْمُ الْجَنَابَةِ الْمَنْعُ . فَإِذَا قِيلَ بِوُجُودِهِ بِدُونِ مُقْتَضَاهَا - وَهُوَ الْمَنْعُ - فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ.
فَصْلٌ :
وَفِي الْآيَةِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَخَلِّيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ فَرْجِهِ بِالْمَاءِ إنَّمَا يَجِبُ الْمَاءُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ بِسَبِيلِهِ عَلَى أَنَّ إزَالَةَ النَّجْوِ وَالْخَبَثِ لَا يَتَعَيَّنُ لَهَا الْمَاءُ فَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَدُلُّ النُّصُوصُ ؛ إذْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فِيهَا تَارَةً بِالْمَاءِ وَتَارَةً بِغَيْرِ الْمَاءِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ .

إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ . فَإِنَّ قَوْلَهُ : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } نَصٌّ فِي أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يُصَلِّي وَإِنْ تَغَوَّطَ . بِلَا غُسْلٍ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ { أَنَّهُ يَكْفِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ } وَأَمَّا مَعَ الْعُذْرِ : فَإِنَّهُ قَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ قَائِمٍ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَنْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ كَمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ . فَلَوْ كَانَ غَسْلُ الْفَرْجَيْنِ بِالْمَاءِ وَاجِبًا عَلَى الْقَائِمِ إلَى الصَّلَاةِ : لَكَانَ وَاجِبًا كَوُجُوبِ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ وَالْمُتَيَمِّمَ مُتَطَهِّرٌ . وَالْفَرْجَانِ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالِاكْتِفَاءِ فِيهِمَا بِالِاسْتِجْمَارِ . وقَوْله تَعَالَى { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ مُسْتَحَبٌّ يُحِبُّهُ اللَّهُ لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ . بَلْ لَمَّا كَانَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ - وَلَمْ يَذُمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَقَرَّهُمْ . وَلَكِنْ خَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْمَدْحِ - دَلَّ عَلَى جَوَازِ مَا فَعَلَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ . وَأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ وَأَنَّهُ مِمَّا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ .

فَصْلٌ :
التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ : النِّزَاعُ فِيهِ مَشْهُورٌ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : يَجِبُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ . وَأَحْمَد قَدْ نَصَّ عَلَى وُجُوبِهِ نُصُوصًا مُتَعَدِّدَةً . وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُتَقَدِّمُونَ - كَالْقَاضِي وَمَنْ قَبْلَهُ - عَنْهُ نِزَاعًا . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَمْ أَرَ عَنْهُ فِيهِ خِلَافًا . قَالَ : وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ : رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَد : أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ . قُلْت : هَذِهِ أُخِذَتْ مِنْ نَصِّهِ فِي الْقَبْضَةِ لِلِاسْتِنْشَاقِ فَلَوْ أَخَّرَ غَسْلَهَا إلَى مَا بَعْدَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ : فَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ . فَإِنَّهُ قَالَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : إنَّهُ لَوْ نَسِيَهُمَا حَتَّى صَلَّى : تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ ؛ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ معديكرب { أَنَّهُ أُتِيَ بِوَضُوءٍ . فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ } .

فَغَيْرُ أَبِي الْخَطَّابِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا بِأَنَّ التَّرْتِيبَ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ . وَهُمَا لَيْسَا فِي الْقُرْآنِ . وَأَبُو الْخَطَّابِ - وَمَنْ تَبِعَهُ - رَأَوْا هَذَا فَرْقًا ضَعِيفًا . فَإِنَّ الْأَنْفَ وَالْفَمَ لَوْ لَمْ يَكُونَا مِنْ الْوَجْهِ لَمَا وَجَبَ غَسْلُهُمَا . وَلِهَذَا خَرَّجَ الْأَصْحَابُ : أَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ . كَمَا قَالَ الخرقي وَغَيْرُهُ " وَالْفَمُ وَالْأَنْفُ مِنْ الْوَجْهِ " وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِهِمَا غَسْلَ الْوَجْهِ . يَبْدَأُ بِغَسْلِ مَا بَطَنَ مِنْهُ . وَقَدَّمَ الْمَضْمَضَةَ لِأَنَّ الْفَمَ أَقْرَبُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ الْأَنْفِ . وَلِهَذَا كَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَوْكَدَ . وَجَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالْأَمْرِ بِهِ . ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ سَائِرَ الْوَجْهَ . فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِمَا مَعَ النِّزَاعِ فَهُمَا كَسَائِرِ مَا نُوزِعَ فِيهِ . مِثْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ فَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَقُولُ : لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ . وَفِي النَّزْعَتَيْنِ وَالتَّحْذِيفِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ . قِيلَ : هُمَا مِنْ الرَّأْسِ . وَقِيلَ : مِنْ الْوَجْهِ . وَالصَّحِيحُ : أَنَّ النَّزْعَتَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ وَالتَّحْذِيفُ مِنْ الْوَجْهِ . فَلَوْ نَسِيَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَا لَوْ نَسِيَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ . فَتَسْوِيَةُ أَبِي الْخَطَّابِ أَقْوَى .

وَعَلَى هَذَا : فَأَحْمَدُ إنَّمَا نَصَّ عَلَى مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ نَاسِيًا . وَلِهَذَا قِيلَ لَهُ : نَسِيَ الْمَضْمَضَةَ وَحْدَهَا ؟ فَقَالَ : الِاسْتِنْشَاقُ عِنْدِي أَوْكَدُ . يَعْنِي إذَا نَسِيَ ذَلِكَ وَصَلَّى . قَالَ : يَغْسِلُهُمَا وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ وَالْإِعَادَةُ إذَا تَرَكَ الِاسْتِنْشَاقَ عِنْدَهُ أَوْكَدُ لِلْأَمْرِ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فَإِنَّ جَمِيعَ مَنْ نَقَلَ وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوا : أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمَا . وَهَذَا حَكَى فِعْلًا وَاحِدًا . فَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَعَمِّدًا . وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ فِي تَأْخِيرِهِمَا عَمْدًا سُنَّةٌ بَلْ السُّنَّةُ فِي النِّسْيَانِ . فَإِنَّ النِّسْيَانَ مُتَيَقِّنٌ . فَإِنَّ الظَّاهِرَ : أَنَّهُ كَانَ نَاسِيًا إذَا قُدِّرَ الشَّكُّ . فَإِذَا جَازَ مَعَ التَّعَمُّدِ فَمَعَ النِّسْيَانِ أَوْلَى . فَالنَّاسِي مَعْذُورٌ بِكُلِّ حَالٍ . بِخِلَافِ الْمُتَعَمِّدِ . وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ . وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَعَمِّدِ لِتَنْكِيسِ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ الْمَعْذُورِ بِنِسْيَانِ أَوْ جَهْلٍ . وَهُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ . وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِأُصُولِ الْمَذْهَبِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي الصُّورَةِ الَّتِي خَرَّجَ مِنْهَا أَبُو الْخَطَّابِ . فَمِنْ ذَلِكَ : إذَا أَخَلَّ بِالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ . فَإِنَّ الْجَاهِلَ يُعْذَرُ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ . وَأَمَّا الْعَالِمُ الْمُتَعَمِّدُ : فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ

وَالسُّنَّةُ إنَّمَا جَاءَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَانَ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : { افْعَلْ وَلَا حَرَجَ } لِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا بِلَا عِلْمٍ . لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْمُخَالَفَةَ لِلسُّنَّةِ . وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ بِالتَّرْتِيبِ لِقَوْلِهِ : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي قَلَّدْت هَدْيِي وَلَبَّدْت رَأْسِي فَلَا أُحِلُّ وَأَحْلِقُ حَتَّى أَنْحَرَ } . وَقَوْلُهُ { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أَدَلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ مِنْ قَوْلِهِ : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } . لَكِنْ يُقَالُ : قَدْ فَرَّقُوا بِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ وَتِلْكَ عِبَادَاتٌ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ . وَهَكَذَا فَرَّقَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ . فَقَالَ : ذَاكَ كُلُّهُ مِنْ الْحَجِّ : الدِّمَاءُ وَالذَّبْحُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ . وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ . وَلِهَذَا مَتَى وَطِئَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَسَدَ الْحَجُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَهَلْ يَحْصُلُ كَالدَّمِ وَحْدَهُ أَوْ كَالدَّمِ وَالْحَلْقِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَمِنْهَا : إذَا نَسِيَ بَعْضَ آيَاتِ السُّورَةِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ . فَإِنَّهُ لَا يُعِيدُهَا وَلَا يُعِيدُ مَا بَعْدَهَا مَعَ أَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ تَنْكِيسَ آيَاتِ السُّورَةِ

وَقِرَاءَةُ الْمُؤَخَرِ قَبْلَ الْمُقَدَمِ لَمْ يَجُزْ بِالْاتِفَاقِ وَإِنَّمَا الْنِزَاعُ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَحَكَاهُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ سُئِلَ عَنْ الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَدَعُ الْآيَاتِ مِنَ الْسُورَةِ تُرَى لِمَنْ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا قَالَ نَعَمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ قَدْ كَانُوا بِمَكَّةَ يُوكِلُونَ رَجُلًا يَكْتُبُ مَا تَرَكَ الِْإمَامُ مِنَ الْحُرُوفِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الْخَتْمَةِ أَعَادَهُ
قَالَ الْأَصْحَابُ كَأَبِي مُحَمَدٍ وَإِنَّمَا اسْتَحَبَ ذَلِكَ لِتَتِمَ الْخَتْمَةُ وَيَكْمُلَ الْثَوَابُ
فَقَدْ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَحْمَد وَأَصْحَابُهُ إِعَادَةَ الْمَنْسِي مِنَ الْآيَاتِ وَحْدَهُ يُكْمِلُ الْخَتْمَةَ وَالثَوَابَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَلَّ بِالْتَرْتِيبِ هُنَا فَإِنَّهُ لَمْ يَقْرَأ تَمَامَ الْسُورَةِ وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ عَليٍ رَضِي الْلَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَسِيَ آيَةً مِنْ سُورَةٍ ثُمَ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ قَرَأَهَا وَعَادَ إِلَى مَوْضِعِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ أَحَدٌ أَنَّهُ نّسِيَ إِلَا مَنْ كَانَ حَافِظاً
فَهَكَذَا مَنْ تَرَكَ غَسْلَ عُضْوٍ أَوْ بَعْضَهُ نِسْيَاناً يَغْسِلُهُ وَحْدَهُ وَلَا يُعِيدُ غَسْلَ مَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ قَدْ غَسَلَهُ مَرَتَيْنِ فَإِنَّ هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ .
وَهَذَا الْتَفْصِيلُ يُوَافِقُ مَا نُقِلَ عَنْ الْصَحَابَةِ وَالْأَكْثَرِينَ فَإِنَّ الْأَصْحَابَ وَغَيْرِهِمْ فَعَلُوا كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِر عَنْ عَليٍ وَمَكْحُولٍ وَالْنَخَعِيِّ

وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي فِيمَنْ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ فَرَأَى فِي لِحْيَتِهِ بَلَلًا . فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ فَلَمْ يَأْمُرُوهُ بِإِعَادَةِ غَسْلِ رِجْلَيْهِ . وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ " مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْت " قَالَ أَحْمَد : إنَّمَا عَنَى بِهِ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَهُمَا مِنْ الْكِتَابِ وَاحِدٌ . ثُمَّ قَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنِي جَرِيرٌ عَنْ قَابُوسَ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ عَلِيًّا سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ : أَحَدُنَا يَسْتَعْجِلُ فَيَغْسِلُ شَيْئًا قَبْلَ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ : لَا حَتَّى يَكُونَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى " فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد عَنْ عَلِيٍّ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ . وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ وَيُعِيدُ الْمَنْسِيَّ فَقَطْ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّفْصِيلَ قَوْلُ عَلِيٍّ . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ أَسْقَطَهُ مُطْلَقًا : مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " لَا بَأْسَ أَنَّ تَبْدَأَ بِرِجْلَيْك قَبْلَ يَدَيْك " . لَكِنْ قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : لَا نَعْرِفُ لِهَذَا أَصْلًا ؛ وَنَقَلُوا فِي الْوُجُوبِ

عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ . وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ . وَصُورَةُ النِّسْيَانِ مُرَادَةٌ قَطْعًا . فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ أَوْ جَمِيعِهِمْ . وَالْأَمْرُ الْمُنْكَرُ : أَنْ تَتَعَمَّدَ تَنْكِيسَ الْوُضُوءِ . فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ . فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ قَدْ وَقَعَ أَحْيَانًا أَوْ تَبَيَّنَ جَوَازُهُ - كَمَا فِي تَرْتِيبِ التَّسْبِيحِ - لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْكَلَامِ - بَعْدَ الْقُرْآنِ - أَرْبَعٌ . وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ . لَا يَضُرُّك بِأَيَّتِهِنَّ بَدَأْت } . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ شَرْعًا وَمَذْهَبًا : أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً صَلَّاهَا إذَا ذَكَرَهَا بِالنَّصِّ . وَقَدْ سَقَطَ التَّرْتِيبُ هُنَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد بِلَا خِلَافٍ وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ . وَلَكِنْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ لَا يُسْقِطُ . وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى تَرْتِيبِ الطَّهَارَةِ .

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } نَصٌّ فِي أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي أَيِّ وَقْتِ ذَكَرَ . وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ . وَقَدْ سَلَّمَ الْأَصْحَابُ : أَنَّ تَرْتِيبَ الْجَمْعِ لَا يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ . وَعُمُومُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ . فَلَوْ كَانَتْ الْمَنْسِيَّةُ هِيَ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ : أَعَادَهَا وَحْدَهَا بِمُوجِبِ النَّصِّ . وَمَنْ أَوْجَبَ إعَادَةَ الثَّانِيَةِ فَقَدْ خَالَفَ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي سَائِرِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ كَالْمَسْبُوقِ إذَا أَدْرَكَهُمْ فِي الثَّانِيَةِ : صَلَّاهَا مَعَهُمْ ثُمَّ صَلَّى الْأُولَى . كَمَا لَوْ أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّلَاةِ . وَلَيْسَ تَرْتِيبُ صَلَاتِهِ عَلَى أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِأَعْظَمَ مِنْ تَرْتِيبِ آخِرِ الصَّلَاةِ عَلَى أَوَّلِهَا . وَإِذَا كَانَ هَكَذَا سَقَطَ مَا أَدْرَكَ وَيَقْضِي مَا سَقَطَ ؛ فَهَذَا فِي الصَّلَاتَيْنِ أَوْلَى ؛ لَا سِيَّمَا وَهُوَ إذَا لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الْمَغْرِبِ إلَّا تَشَهُّدًا تَشَهَّدَ ثَلَاثَ تَشَهُّدَاتٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَشْهُورِ فِي قِصَّةِ مَسْرُوقٍ وَحَدِيثِهِ . وَهَذَا أَصْلٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ يُعْتَبَرُ بِهِ نَظَائِرُهُ ؛ وَهُوَ سُقُوطُ التَّرْتِيبِ عَنْ الْمَسْبُوقِ .

وَكَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا يُرَتِّبُونَ . فَيُصَلُّونَ مَا فَاتَهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ مَعَ الْإِمَامِ . لَكِنْ نُسِخَ ذَلِكَ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَهُ مُعَاذٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ فَاتَّبِعُوهُ } . وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ : عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْقَضَاءِ بِالْحَمْدِ وَسُورَةٍ . وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا سَجَدَ مَعَهُ بِالنَّصِّ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . فَقَدْ سَجَدَ قَبْلَ الْقِيَامِ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ . لَكِنَّهُ لَوْ فَعَلَ هَذَا عَمْدًا لَمْ يَجُزْ . فَلَوْ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ : لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ . لَكِنَّ هَذَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ يَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ . فَإِنَّ هَذَا السُّجُودَ - وَلَوْ ضَمَّ إلَيْهِ بَعْدَ السَّلَامِ رُكُوعًا مُجَرَّدًا - لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ رَكْعَةً . بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِرَكْعَةِ بَعْدَهَا سَجْدَتَانِ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالتَّرْتِيبِ وَالْمُوَالَاةِ . فَكَذَلِكَ إذَا نَسِيَ الرُّكُوعَ حَتَّى تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ . فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ : هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؟ وَالْمَنْصُوصُ إنْ لَمْ يُطِلْ الْفَصْلَ بَنَى عَلَى مَا مَضَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرُهُ .
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى سُقُوطِ الْمُوَالَاةِ وَالتَّرْتِيبِ فِي الصَّلَاةِ

مَعَ النِّسْيَانِ فَقَالَ مَكْحُولٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ - فِي الْمُصَلِّي : يَنْسَى سَجْدَةً أَوْ رَكْعَةً - يُصَلِّيهَا مَتَى مَا ذَكَرَهَا . وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ . وَقَالَ الأوزاعي - لِرَجُلِ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَذَكَرَهَا فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ - يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ . فَإِذَا فَرَغَ سَجَدَ . وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : أَحَادِيثُ سُجُودِ السَّهْوِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَلَوْ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ . وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ : فَالسُّجُودُ الَّذِي فَعَلَهُ مَعَ الْإِمَامِ : كَانَ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرَةَ { زَادَك اللَّهُ حِرْصًا ؛ وَلَا تَعُدْ } وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِالرَّكْعَةِ بَعْدَ السَّلَامِ فَلَا عُذْرَ لَهُ حَتَّى . . . (1) وَإِذَا نَسِيَ رُكْنًا مِنْ الْأُولَى حَتَّى شَرَعَ فِي الثَّانِيَةِ . فَفِيهَا قَوْلَانِ . مَالِكٌ وَأَحْمَد لَا يَقُولَانِ بِالتَّلْفِيقِ . بَلْ تَلْغُو الْمَنْسِيُّ رُكْنَهَا . وَتَقُومُ هَذِهِ مَقَامَهَا . وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِالرُّكُوعِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : مَا فَعَلَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ الْمَنْسِيِّ فَهُوَ لَغْوٌ . لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَا أَنْ يَفْعَلَ نَظِيرَهُ فِي الثَّانِيَةِ . فَيَكُونُ هُوَ تَمَامَ الْأَوَّلِ

كَمَا لَوْ سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ ثُمَّ ذَكَرَ . فَإِنَّ السَّلَامَ يَقَعُ لَغْوًا . فَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ يَقُولَانِ : هُوَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِمَا فَعَلَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ . لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأُولَى وَهُوَ إذَا قَرَأَ أَوْ رَكَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ : أَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَهَا هِيَ الْأُولَى . فَإِنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ هَذِهِ وَلَا يَكُونُ فَاعِلًا لَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ إلَّا إذَا جُعِلَتْ هَذِهِ ثَانِيَةً . فَإِذَا جُعِلَتْ الْأُولَى : كَانَ قَدْ فَعَلَهُ فِي مَحَلِّهِ . وَإِذَا قِيلَ : هُوَ قَصَدَ الثَّانِيَةَ قَبْلُ وَقَصَدَ بِالسُّجُودِ فِيهَا السُّجُودَ فِي الثَّانِيَةِ لِرِعَايَةِ تَرْتِيبِهِ فِي أَبْعَاضِ الرَّكْعَةِ بِأَنْ لَا يَجْعَلَ بَعْضَهَا فِي رَكْعَةٍ غَيْرَهَا : أَوْلَى مِنْ رِعَايَتِهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ . فَإِنَّ جَعْلَ الْأُولَى ثَانِيَةً يَجُوزُ لِلْعُذْرِ كَمَا فِي الْمَسْبُوقِ . وَأَمَّا جَعْلُ سُجُودِ الثَّانِيَةِ تَمَامًا لِلْأُولَى : فَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَكَانٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : سُقُوطُ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ بِالنِّسْيَانِ وَكَذَلِكَ سُقُوطُ الْمُوَالَاةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَكَذَلِكَ بِغَيْرِ النِّسْيَانِ مِنْ الْأَعْذَارِ مِثْلُ بُعْدِ الْمَاءِ . كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . فَإِنَّ الصَّلَاةَ نَفْسَهَا إذَا جَازَ فِيهَا عَدَمُ الْمُوَالَاةِ لِلْعُذْرِ ؛ فَالْوُضُوءُ أَوْلَى . بِدَلِيلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَحَادِيثِ سُجُودِ السَّهْوِ .

وَأَمَّا حَدِيثُ صَاحِبِ اللُّمْعَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ : فَمِثْلُ هَذَا لَا يُنْسَى . فَدَلَّ أَنَّهُ تَرَكَهَا تَفْرِيطًا . وَالْمُوَالَاةُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ : لَا تَجِبُ لِلْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ { رَأَى فِي بَدَنِهِ مَوْضِعًا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فَعَصَرَ عَلَيْهِ شَعْرَهُ } وَالْأَصْحَابُ فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ . فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَرْتِيبُهُ فَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ . وَمَالِكٌ يُوجِبُ الْمُوَالَاةَ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ . وَأَمَّا فِي الْغُسْلِ : فَالْبَدَنُ كَعُضْوِ وَاحِدٍ . وَالْعُضْوُ الْوَاحِدُ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ . وَأَمَّا تَعَمُّدُ تَفْرِيقِ الْغُسْلِ : فَهُوَ كَتَعَمُّدِ تَفْرِيقِ غَسْلِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ . لَكِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَا يَتَعَدَّى حُكْمُ الْمَاءِ مَحَلَّهُ ؛ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ . فَإِنَّ حُكْمَهُ طَهَارَةُ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَالْمَغْسُولُ أَرْبَعَةُ أَعْضَاءٍ . وَهَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ . وَالْجُنُبُ إذَا وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ اسْتَعْمَلَهُ . وَأَمَّا الْمُتَوَضِّئُ : فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْأَصْحَابِ . وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ جَعَلَ الْوُضُوءَ يَتَفَرَّقُ لِلْعُذْرِ وَجَعَلَ مَا غُسِلَ يَحْصُلُ بِهِ بَعْضُ الطَّهَارَةِ . وَكَذَلِكَ الْمَاسِحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا خَلَعَهُمَا . هَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ يُعِيدُ الْوُضُوءَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمَأْخَذَ هُوَ الْمُوَالَاةُ . وَقِيلَ : إنَّ الْمَأْخَذَ أَنَّ

الْوُضُوءَ لَا يُنْقَضُ . فَإِذَا عَادَ الْحَدَثُ إلَى الرَّجُلِ عَادَ إلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَهَذَا عِنْدَ الْعُذْرِ : فِيهِ نِزَاعٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ يَكُونُ التَّرْتِيبُ شَرْطًا لَا يَسْقُطُ بِجَهْلِ وَلَا نِسْيَانٍ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ شَاةُ لَحْمٍ } فَالذَّبْحُ لِلْأُضْحِيَّةِ : مَشْرُوطٌ بِالصَّلَاةِ قَبْلَهُ . وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ جَاهِلًا . فَلَمْ يَعْذُرْهُ بِالْجَهْلِ . بَلْ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الذَّبْحِ . بِخِلَافِ الَّذِينَ قَدَّمُوا فِي الْحَجِّ : الذَّبْحَ عَلَى الرَّمْيِ أَوْ الْحَلْقَ عَلَى مَا قَبْلَهُ . فَإِنَّهُ قَالَ { افْعَلْ وَلَا حَرَجَ } فَهَاتَانِ سُنَّتَانِ : سُنَّةٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ إذَا ذُبِحَتْ قَبْلَ الصَّلَاةِ : أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ . وَسُنَّةٌ فِي الْهَدْيِ إذَا ذَبَحَ قَبْلَ الرَّمْيِ جَهْلًا : أَجْزَأَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْهَدْيَ صَارَ نُسُكًا بِسَوْقِهِ إلَى الْحَرَمِ وَتَقْلِيدِهِ وَإِشْعَارِهِ . فَقَدْ بَلَغَ مَحَلَّهُ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ . فَإِذَا قَدَّمَ جَهْلًا : لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ هَدْيًا ؛ وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ : فَإِنَّهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا تَتَمَيَّزُ عَنْ شَاةِ اللَّحْمِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ } وَإِنَّمَا هِيَ نُسُكٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وَقَالَ : { إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } فَصَارَ فِعْلُهُ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ : كَالصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا .

فَهَذَا وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ ؛ وَقْتُهُ بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ : مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . وَإِنَّمَا قَدَّرَ وَقْتَهَا بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ : الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كالخرقي . وَفِي الْأُضْحِيَّةِ : يُشْتَرَطُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَذْبَحَ بَعْدَ الْإِمَامِ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ . وَالْحُجَّةُ فِيهِ : حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ قَوْلَهُ { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ فِي الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْإِمَامِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : يَجِبُ فِيهِ دَمٌ . فَهَذَا عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ بِمَنْزِلَةِ اتِّبَاعِ الْمَأْمُومِ الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ .
فَصْلٌ :
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ نَصِّهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَا نَسِيَ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ فِي الْقِرَاءَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَد وَأَصْحَابُهُ : أَنْ مُوَالَاةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ وَإِذَا تَرَكَهَا لِعُذْرِ نِسْيَانٍ قَالُوا - وَاللَّفْظُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ - وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ - أَيْ الْفَصْلُ - اسْتَأْنَفَ قِرَاءَتَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ

مَأْمُورًا بِهِ كَالْمَأْمُومِ يَشْرَعُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ ثُمَّ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَيُنْصِتُ لَهُ . ثُمَّ إذَا سَكَتَ الْإِمَامُ : أَتَمَّ قِرَاءَتَهَا وَأَجْزَأَتْهُ . أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السُّكُوتُ نِسْيَانًا أَوْ نُوَبًا أَوْ لِانْتِقَالِهِ إلَى غَيْرِهَا غَلَطًا : لَمْ تَبْطُلْ . فَإِذَا ذَكَرَ : أَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْهَا . فَإِنْ تَمَادَى فِيمَا هُوَ فِيهِ - بَعْدَ ذِكْرِهَا - أَبْطَلَهَا . وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا . قَالَ وَإِنْ قَدَّمَ آيَةً مِنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا : أَبْطَلَهَا . وَإِنْ كَانَ غَلَطًا . رَجَعَ إلَى مَوْضِعِ الْغَلَطِ فَأَتَمَّهَا . فَلَمْ يُسْقِطُوا التَّرْتِيبَ بِالْعُذْرِ كَمَا أَسْقَطُوا الْمُوَالَاةَ . فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ أَخَفُّ . فَإِنَّهُ لَوْ قَرَأَ بَعْضَ سُورَةٍ الْيَوْمَ وَبَعْضَهَا غَدًا : جَازَ . وَلَوْ نَكَّسَهَا : لَمْ يَجُزْ . وَيُفَرَّقُ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ الَّذِي إذَا أَتَى بِهِ وَحْدَهُ كَانَ مِمَّا يَسُوغُ تِلَاوَتُهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ مُرْتَبِطٌ بِغَيْرِهِ . فَلَوْ قَالَ : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لَمْ يَكُنْ هَذَا كَلَامًا مُفِيدًا حَتَّى يَقُولَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وَلَوْ قَالَ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ثُمَّ قَالَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } كَانَ مُفِيدًا . لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ فِيهِ أَحَدٌ . وَلَا يَبْتَدِئُ أَحَدٌ الْفَاتِحَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَا عَمْدًا وَلَا غَلَطًا . وَإِنَّمَا يَقَعُ الْغَلَطُ فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّرْتِيبِ . فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ فِيمَا يُنْسَى مِنْ الْفَاتِحَةِ وَمَا يُنْسَى مِنْ الْخَتْمَةِ .

فَصْلٌ :
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ إذَا احْتَاجَ إلَى التَّكْرَارِ بِلَا تَفْرِيطٍ مِنْ الْإِنْسَانِ : أَنَّ التَّيَمُّمَ يُجْزِئُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ - حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد بِلَا خِلَافٍ . وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى . وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبْزَى . فَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبْزَى { إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك هَكَذَا . فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا . ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ } وَكَذَلِكَ لِمُسْلِمِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى { إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَقُولَ هَكَذَا . وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ إلَى الْأَرْضِ . فَنَفَضَ يَدَيْهِ . فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ } وَلِلْبُخَارِيِّ { وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً } . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ . فَقِيلَ : يُرَتِّبُ . فَيَمْسَحُ وَجْهَهُ بِبُطُونِ أَصَابِعِهِ وَظَاهِرِ يَدَيْهِ بِرَاحَتِهِ . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ . بَلْ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ .

وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ : لَا يُؤَخِّرُ مَسْحَ الرَّاحَتَيْنِ إلَى مَا بَعْدَ الْوَجْهِ . بَلْ يَمْسَحُهُمَا : إمَّا قَبْلَ الْوَجْهِ وَإِمَّا مَعَ الْوَجْهِ وَظُهُورِ الْكَفَّيْنِ . وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : رَأَيْت التَّيَمُّمَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ أَسْقَطَ تَرْتِيبًا مُسْتَحَقًّا فِي الْوُضُوءِ . وَهُوَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ مَسَحَ بَاطِنَ يَدَيْهِ مَسَحَ وَجْهَهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْك هَكَذَا . ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً . ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ { وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ ضَرْبَةً عَلَى الْأَرْضِ . ثُمَّ نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشَمَالِهِ - أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ - ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ } . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ الرَّاحَتَيْنِ بَعْدَ الْوَجْهِ . وَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ أَحْمَد : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ . وَأَمَّا ظُهُورُ الْكَفَّيْنِ : فَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ صَرِيحَةٌ فِي { أَنَّهُ مَرَّ عَلَى ظَهْرِ الْكَفِّ قَبْلَ الْوَجْهِ } وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ ظَاهِرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِرَاحَةِ الْيَدِ الْأُخْرَى . وَقَالَ فِيهَا { ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ قَبْلَ الْوَجْهِ } . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَرْضُ الرَّاحَتَيْنِ سَقَطَ بِإِمْرَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى ظَهْرِ

الْكَفِّ . وَهَذَا إنَّمَا يُوجِبُ سُقُوطَ فَرْضِ بَاطِنِ الرَّاحَةِ . وَأَمَّا بَاطِنُ الْأَصَابِعِ : فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ سَقَطَ مَعَ الْوَجْهِ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ : فَبَاطِنُ الْيَدَيْنِ يُصِيبُهُمَا التُّرَابُ حِينَ يَضْرِبُ بِهِمَا الْأَرْضَ وَحِينَ يَمْسَحُ بِهِمَا الْوَجْهَ وَظَهْرَ الْكَفَّيْنِ . وَإِنْ مَسَحَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَهُوَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ . وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا لَوَجَبَ أَنْ يَمْسَحَ بَاطِنَهُمَا بَعْدَ الْوَجْهِ . وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعَ الْقَوْلِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ . وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَلَزِمَ تَكْرَارُ مَسْحِهِمَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ . فَسَقَطَ لِذَلِكَ . فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُشْرَعُ فِيهِ التَّكْرَارُ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ . فَإِنَّهُ - وَإِنْ غَسَلَ يَدَيْهِ ابْتِدَاءً وَأَخَذَ بِهِمَا الْمَاءَ لِوَجْهِهِ فَهُوَ - بَعْدَ الْوَجْهِ يَغْسِلُهُمَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ . وَهُوَ يَأْخُذُ الْمَاءَ - بِهِمَا . فَيَتَكَرَّرُ غَسْلُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ يُسْتَحَبُّ فِيهِ التَّكْرَارُ فِي الْجُمْلَةِ . لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ ؛ وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَغْسِلْ كَفَّيْهِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ فَإِنَّهُ يَغْرِفُ بِهِمَا الْمَاءَ وَقَدْ قَالُوا : إذَا نَوَى الِاغْتِرَافَ لَمْ يَصِرْ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ نَوَى غَسْلَهُمَا فِيهِ : صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَفِيهِ وَجْهَانِ . وَالصَّحِيحُ : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ نَوَى غَسْلَهُمَا فِيهِ ؛ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ غَسْلَهُمَا بِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ لَا تَحْصُلُ بِهِ طَهَارَتُهُمَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلٍ آخَرَ .

وَالْأَقْوَى : أَنَّ هَذَا لَا يَجِبُ بَلْ غَسْلُهُمَا بِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ يُجْزِئُ عَنْ تَكْرَارِ غَسْلِهِمَا كَمَا فِي التَّيَمُّمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ بِيَدَيْهِ ؛ فَيَكُونُ هَذَا غَسْلًا لِبَاطِنِ الْيَدِ . وَلَوْ قِيلَ : بَلْ بَقِيَ غَسْلُهُمَا ابْتِدَاءً وَمَعَ الْوَجْهِ يَسْقُطُ فَرْضُهُمَا كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ : لَكَانَ مُتَوَجِّهًا . فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْوُضُوءِ : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } كَمَا قَالَ فِي التَّيَمُّمِ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } فَفِي الْوُضُوءِ أَخَّرَ ذِكْرَ الْيَدِ . لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْبُخَارِيُّ : تُبَيِّنُ أَنَّهُ مَسَحَ ظَهْرَ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ . وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ مُجْمَلَةٌ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَمَّا مَسَحَ لَمْ يَمْسَحْ الرَّاحَتَيْنِ بَعْدَ الْوَجْهِ فَكَذَلِكَ ظَهْرُ الْكَفَّيْنِ بَلْ مَسَحَ ظَهْرَهُمَا مَعَ بَطْنِهِمَا ؛ لِأَنَّ مَسْحَهُمَا جُمْلَةً أَقْرَبُ إلَى التَّرْتِيبِ . فَإِنَّ مَسْحَ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ بَعْضَهُ مَعَ بَعْضٍ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا : فَتَكُونُ الرَّاحَتَانِ مَمْسُوحَتَيْنِ مَعَ ظَهْرِ الْكَفِّ . وَالِاعْتِدَادُ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الِاعْتِدَادِ بِمَسْحِهِمَا مَعَ الْوَجْهِ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ - مِنْ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْأَصَابِعَ لِلْوَجْهِ وَبُطُونَ الرَّاحَتَيْنِ لِظُهُورِ الْكَفَّيْنِ - خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ .

وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَهُوَ مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ . وَهُوَ بِدْعَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ . وَبُطُونُ الْأَصَابِعِ لَا تَكَادُ تَسْتَوْعِبُ الْوَجْهَ . وَإِنَّمَا احْتَاجُوا إلَى هَذَا لِيَجْعَلُوا بَعْضَ التُّرَابِ لِظَاهِرِ الْكَفَّيْنِ بَعْدَ الْوَجْهِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : كَمَا أَنَّ الرَّاحَتَيْنِ لَا يُمْسَحَانِ بَعْدَ الْوَجْهِ بِلَا نِزَاعٍ فَكَذَلِكَ ظَهْرُ الْكَفَّيْنِ . فَإِنَّهُمْ - وَإِنْ مَسَحُوا ظَهْرَ الْكَفَّيْنِ بِالرَّاحَتَيْنِ بِبُطُونِ الْأَصَابِعِ - مَسَحُوا مَعَ الْوَجْهِ : مَسَحَ بِالْيَدَيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ ؛ وَلِهَذَا اخْتَارَ الْمَجْدُ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهِ بَلْ يَجُوزُ مَسْحُ ظَهْرِ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ الْوَجْهَ وَظَاهِرَ الْكَفَّيْنِ بِذَلِكَ التُّرَابِ وَأَنَّ مَسْحَ ظَهْرِ الْكَفَّيْنِ بِمَا بَقِيَ فِي الْيَدَيْنِ مِنْ التُّرَابِ يَكْفِي لِظَهْرِ الْكَفَّيْنِ . فَإِنَّ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ كُلَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَنَّهُ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى : لَمْ يَجْعَلْ بَعْضَ بَاطِنِ الْيَدِ لِلْوَجْهِ وَبَعْضَهُ لِلْكَفَّيْنِ بَلْ بِبَاطِنِ الْيَدَيْنِ مَسَحَ وَجْهَهُ وَمَسَحَ كَفَّيْهِ وَمَسَحَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى . وَأَجَابَ الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ - مُتَابَعَةً لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - بِأَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ لِجُرْحِ فِي عُضْوٍ : يَكُونُ التَّيَمُّمُ فِيهِ عِنْدَ وُجُوبِ غَسْلِهِ فَيَفْصِلُ بِالتَّيَمُّمِ بَيْنَ أَبْعَاضِ الْوُضُوءِ هَذَا فِعْلٌ مُبْتَدَعٌ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ وَمَشَقَّةٌ لَا

تَأْتِي بِهَا الشَّرِيعَةُ . وَهَذَا وَنَحْوُهُ إسْرَافٌ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . والْنُّفَاةِ يُجَوِّزُونَ التَّنْكِيسَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَدِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَقُومُ التَّيَمُّمُ مَقَامَ الْوُضُوءِ فِيمَا ذُكِرَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
يَقُومُ التَّيَمُّمُ مَقَامَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ . فَمَا يُبِيحُهُ الِاغْتِسَالُ وَالْوُضُوءُ مِنْ الْمَمْنُوعَاتِ يُبِيحُهُ التَّيَمُّمُ .
وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَدْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَهُوَ فِي بُسْتَانٍ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا مَاءٌ بَارِدٌ وَيَخَافُ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَالْحَمَّامُ بَعِيدٌ مِنْهُ ؛ بِحَيْثُ إذَا وَصَلَ إلَى الْحَمَّامِ وَاغْتَسَلَ خَرَجَ الْوَقْتُ . فَهَلْ إذَا تَيَمَّمَ لِلْجَنَابَةِ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى فِي الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ إعَادَةٌ ؟ وَهَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ ؟ أَوْ يَأْثَمُ إذَا تَيَمَّمَ ؟ . وَهَلْ التَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ ؛ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِنَافِلَةِ وَيُصَلِّي بِهَا فَرِيضَةً أَوْ يُصَلِّي فَرِيضَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ ؟ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي مَوَاقِيتِهَا وَلَيْسَ لِأَحَدِ قَطُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا لَا لِعُذْرِ وَلَا لِغَيْرِ عُذْرٍ . لَكِنَّ الْعُذْرَ يُبِيحُ لَهُ شَيْئَيْنِ : يُبِيحُ لَهُ تَرْكُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَيُبِيحُ لَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ . فَمَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . { وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . وَقَالَ - لَمَّا ذَكَرَ آيَةَ الطَّهَارَةِ - : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } الْآيَةَ . وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ . وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . فَالْمَرِيضُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { صَلِّ قَائِمًا . فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا . فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . وَسَقَطَ عَنْهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ أَوْ تَكْمِيلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَيَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ . فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ تَطَهَّرَ وَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ . وَصَلَّى وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِمَا يَتْرُكُهُ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ لَا إعَادَةَ إذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلَوْ كَانَ فِي بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ

لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهَا صَلَّى بِهَا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا فَقِيلَ يُصَلِّي عريانا وَقِيلَ يُصَلِّي وَيُعِيدُ وَقِيلَ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ وَلَا يُعِيدُ وَهُوَ أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ . وَقِيلَ : يُعِيدُ فِي الْحَضَرِ وَقِيلَ : يُعِيدُ فِي السَّفَرِ وَقِيلَ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لَا فِي الْحَضَرِ وَلَا فِي السَّفَرِ . وَهُوَ أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ . فَالصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ وَإِنَّمَا يُعِيدُ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ . مِثْلُ مَنْ تَرَكَهُ لِنِسْيَانِهِ أَوْ نَوْمِهِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ لُمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ مِنْ قَدَمِهِ يُعِيدُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ . وَمَا تَرَكَ لِجَهْلِهِ بِالْوَاجِبِ مِثْلُ مَنْ كَانَ يُصَلِّي بِلَا طُمَأْنِينَةٍ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَهَذَا قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ : هَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ . وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي

صَلَاتِهِ : { اذْهَبْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا : فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي فِي صَلَاتِي } فَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ بِالطُّمَأْنِينَةِ . وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا مَضَى قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعَ قَوْلِهِ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا : وَلَكِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ . فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي وَقْتِهَا وَأَمَّا مَا خَرَجَ وَقْتُهُ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَتِهِ مَعَ كَوْنِهِ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَقْضِيَ مَا تَرَكَهُ مِنْ الصَّلَاةِ : لِأَجْلِ الْجَنَابَةِ . لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ قَالَتْ لَهُ : إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً تَمْنَعُنِي الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِقَضَاءِ مَا تَرَكَتْهُ . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَكَلُوا فِي رَمَضَانَ حَتَّى تَبَيَّنَ لِأَحَدِهِمْ الْحِبَالُ الْبِيضُ مِنْ الْحِبَالِ السُّودِ أَكَلُوا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ فَهَؤُلَاءِ كَانُوا جُهَّالًا بِالْوُجُوبِ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقَضَاءِ مَا تَرَكُوهُ فِي حَالِ

الْجَهْلِ كَمَا لَا يُؤْمَرُ الْكَافِرُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَجَاهِلِيَّتِهِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ الْوُجُوبَ وَتَرَكَ الْوَاجِبَ نِسْيَانًا . فَهَذَا أَمَرَهُ بِهِ إذَا ذَكَرَهُ . وَأَمَرَ النَّائِمَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ فَإِنَّهُ حِينَ النَّوْمِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالصَّلَاةِ فَلِهَذَا كَانَ النَّائِمُ إذَا اسْتَيْقَظَ قُرْبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَتَوَضَّأُ وَيَغْتَسِلُ وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا وَالْوَقْتُ وَاسِعٌ مِثْلُ الَّذِي يَكُونُ نَائِمًا فِي بُسْتَانٍ أَوْ قَرْيَةٍ وَالْمَاءُ بَارِدٌ يَضُرُّهُ وَالْحَمَّامُ بَعِيدٌ مِنْهُ إنْ خَرَجَ إلَيْهِ ذَهَبَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ دُخُولُ الْحَمَّامِ : إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُفْتَحْ أَوْ لِبُعْدِهَا عَنْهُ أَوْ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مَعَهُ مَا يُعْطِي الحمامي أُجْرَتَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ فَرْضٌ إذَا عَجَزَ عَنْ الْمَاءِ لِعَدَمِ أَوْ لِخَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَلَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَفِي كَثِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ : كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ . وَبَعْضُ الضَّرَرِ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ كَمَا أَمَرَ .

فَمِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي الْحَضَرِ وَمَنْ تَيَمَّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا لِعُذْرِ نَادِرٍ غَيْرِ مُتَّصِلٍ فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عِنْدَ مَالِكٍ . وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَإِذَا فَوَّتَ الصَّلَاةَ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ . وَالنَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَحَالِ الْمُسَايَفَةِ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ بِحَالِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ لَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِعُذْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . كَمَا جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بمزدلفة وَالْجَمْعُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَأَنَّهُ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ ثَمَانِيًا جَمْعًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَسَبْعًا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . لِقَوْلِهِ تَعَالَى . { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .

فَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَطَائِفَةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حَرَجٌ فِي التَّفْرِيقِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمَرِيضُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقَالَ أَحْمَد : يَجْمَعُ إذَا كَانَ لَهُ شُغْلٌ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَازَ الْجَمْعُ . فَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَجُوزُ التَّفْوِيتُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَصَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ . وَمَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ . وَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ وَقَوْلُ مَنْ أَمَرَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَفْوِيتٍ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَمَرَ بِالتَّفْوِيتِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْجَمْعِ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَأَمَرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } هَذِهِ نَزَلَتْ

نَاسِخَةً لِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا } . وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَوَاقِيتَ " خَمْسَةٌ " فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ : " ثَلَاثَةٌ " فِي حَالِ الْعُذْرِ فَفِي حَالِ الْعُذْرِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ : بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَإِنَّمَا صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا لَمْ يُصَلِّ وَاحِدَةً بَعْدَ وَقْتِهَا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ وَلَا يَنْوِيَ الْقَصْرَ . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي نُصُوصِهِ الْمَعْرُوفَةِ . وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي آخِرِ النَّهَارِ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَإِذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ اللَّيْلِ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي حَالِ الْعُذْرِ فَإِذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَوَقْتُ الظُّهْرِ بَاقٍ فَتُصَلِّيهَا قَبْلَ الْعَصْرِ . وَإِذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَوَقْتُ . الْمَغْرِبِ بَاقٍ فِي حَالِ الْعُذْرِ ؛ فَتُصَلِّيهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ . وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ الْمَوَاقِيتَ تَارَةً خَمْسًا وَيَذْكُرُهَا ثَلَاثًا تَارَةً

كَقَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } الْآيَةَ . وَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } . وَالدُّلُوكُ هُوَ الزَّوَالُ وَغَسَقُ اللَّيْلِ هُوَ اجْتِمَاعُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَهَذَا يَكُونُ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ . فَأَمَرَ اللَّهُ بِالصَّلَاةِ مِنْ الدُّلُوكِ إلَى الْغَسَقِ فَرَضَ فِي ذَلِكَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَمِنْ الدُّلُوكِ إلَى الْمَغْرِبِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَمِنْ الْمَغْرِبِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقْتُ الصَّلَاةِ . وَقَالَ : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } لِأَنَّ الْفَجْرَ خُصَّتْ بِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا وَلِهَذَا جُعِلَتْ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَلَا تُقْصَرُ وَلَا تُجْمَعُ إلَى غَيْرِهَا فَإِنَّهُ عَوَّضَ بِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا عَنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا التَّيَمُّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَلَا يُصَلِّي الْفَرْضَ بِالتَّيَمُّمِ لِلنَّافِلَةِ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالْحُكْمُ الْمُقَدَّرُ بِالضَّرُورَةِ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِهَا . فَلَا يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ . وَهُوَ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ لَا رَافِعٌ لِلْحَدَثِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ حَدَثٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ بَاقِيًا وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ .

فَلَا يَسْتَبِيحُ إلَّا مَا نَوَاهُ . فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقِيلَ : بَلْ التَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ مُطْلَقًا يَسْتَبِيحُ بِهِ كَمَا يُسْتَبَاحُ بِالْمَاءِ وَيَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ كَمَا يَتَوَضَّأُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ كَمَا تَبْقَى طَهَارَةُ الْمَاءِ بَعْدَهُ . وَإِذَا تَيَمَّمَ لِنَافِلَةِ صَلَّى بِهِ الْفَرِيضَةَ كَمَا أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ لِنَافِلَةِ صَلَّى بِهِ الْفَرِيضَةَ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ . وَقَالَ أَحْمَد : هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ التَّيَمُّمَ مُطَهِّرًا كَمَا جَعَلَ الْمَاءَ مُطَهِّرًا . فَقَالَ تَعَالَى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } الْآيَةَ . فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُطَهِّرَنَا بِالتُّرَابِ كَمَا يُطَهِّرُنَا بِالْمَاءِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِخَمْسِ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَأُحِلَّتْ لَنَا الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي . وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَفِي لَفْظٍ فَأَيُّمَا رَجُلٌ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ مِنْ أُمَّتِي فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ

وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً . وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثِ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا } . فَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَرْضَ لِأُمَّتِهِ طَهُورًا كَمَا جَعَلَ الْمَاءَ طَهُورًا . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدْته الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورَ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ . فَمَنْ قَالَ إنَّ التُّرَابَ لَا يُطَهِّرُ مِنْ الْحَدَثِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . وَإِذَا كَانَ مُطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْحَدَثُ بَاقِيًا مَعَ أَنَّ اللَّهَ طَهَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّيَمُّمِ مِنْ الْحَدَثِ فَالتَّيَمُّمُ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ مُطَهِّرٌ لِصَاحِبِهِ لَكِنْ رَفْعٌ مُوَقَّتٌ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ فَهُوَ مُطَهِّرٌ مَا دَامَ الْمَاءُ مُتَعَذِّرًا كَمَا أَنَّ الْمُلْتَقَطَ يَمْلِكُ اللُّقَطَةَ مَا دَامَ لَمْ يَأْتِهِ صَاحِبُهَا وَكَانَ مِلْكُ صَاحِبِهَا مِلْكًا مُوَقَّتًا إلَى ظُهُورِ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ

كَانَ بَدَلًا عَنْ الْمَالِكِ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ إلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا . وَمَا ثَبَتَ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ لَا يُطْلَبُ لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ بِهِ وَإِنَّمَا يُطْلَبُ النَّظِيرُ لِمَا لَا نَعْلَمُهُ إلَّا بِالْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ . فَيَحْتَاجُ أَنْ نَعْتَبِرَهُ بِنَظِيرِ وَأَمَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَطْلُبَ لِذَلِكَ نَظِيرًا مَعَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ يُوَافِقُ النَّصَّ . كَمَا قَالَ أَحْمَد الْقِيَاسُ أَنْ تَجْعَلَ التُّرَابَ كَالْمَاءِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ إنْ شَاءَ وَيُصَلِّي مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَإِذَا تَيَمَّمَ لِنَفْلِ صَلَّى بِهِ فَرِيضَةً . وَيَجْمَعُ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ وَيَقْضِي بِهِ الْفَائِتَ . وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ احْتَجُّوا بِآثَارِ مَنْقُولَةٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ لَا تَثْبُتُ . وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَلَوْ ثَبَتَتْ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهَا طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ . قِيلَ لَهُ : نَعَمْ وَالْإِنْسَانُ مُحْتَاجٌ أَنْ لَا يَزَالَ عَلَى طَهَارَةٍ فَيَتَطَهَّرُ قَبْلَ الْوَقْتِ ؛ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى زِيَادَةِ الثَّوَابِ ؛ وَلِهَذَا يُصَلِّي النَّافِلَةَ بِالتَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَيَمَّمَ لِرَدِّ السَّلَامِ فِي الْحَضَرِ وَقَالَ : { إنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا تَارَةً وَوَاجِبًا أُخْرَى . أَيْ يَتَيَمَّمُ فِي وَقْتٍ لَا يَكُونُ التَّيَمُّمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ وَالتَّيَمُّمُ

قَبْلَ الْوَقْتِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا أَنَّ الْوُضُوءَ قَبْلَ الْوَقْتِ مُسْتَحَبٌّ . وَأَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ مَا يَخَافُ فَوْتَهُ كَالْجِنَازَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَخَافُ فَوْتَهُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِهِ وَلِهَذَا يَتَيَمَّمُ لِلتَّطَوُّعِ مَنْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ فِي اللَّيْلِ يُصَلِّيهِ وَقَدْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَالْمَاءُ بَارِدٌ يَضُرُّهُ فَإِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى التَّطَوُّعَ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ بِالتَّيَمُّمِ كَانَ خَيْرًا مِنْ تَفْوِيتِ ذَلِكَ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ حُكْمٌ مُقَيَّدٌ بِالضَّرُورَةِ . فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا . إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُفْعَلَ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَاءِ فَهُوَ مُسْلِمٌ . وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلَّا إذَا كَانَ التَّيَمُّمُ وَاجِبًا فَقَدْ غَلِطَ . فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَتَيَمَّمُ لِلْوَاجِبِ وَيَتَيَمَّمُ لِلْمُسْتَحَبِّ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ الْمُسْتَحَبِّ . وَاَللَّهُ قَدْ جَعَلَهُ طَهُورًا لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَرَادَ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَرَجًا . كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ . أَثْبَتُوا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ

وَلَا يَجِبُ فِيهِ تَرْتِيبُ ؛ بَلْ إذَا مَسَحَ وَجْهَهُ بِبَاطِنِ رَاحَتَيْهِ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْ الْوَجْهِ وَالرَّاحَتَيْنِ ثُمَّ يَمْسَحُ ظُهُورَ الْكَفَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَمْسَحَ رَاحَتَيْهِ مَرَّتَيْنِ وَعَلَى هَذَا دَلَّتْ السُّنَّةُ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ لِمَرَضِ أَوْ يَخَافُ مِنْ الضَّرَرِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَهَلْ يَتَيَمَّمُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
التَّيَمُّمُ جَائِزٌ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَخَافَ الْمَرَضَ بِاسْتِعْمَالِهِ كَمَا نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَرِيضِ وَذِكْرِ مَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ . فَمَنْ كَانَ الْمَاءُ يَضُرُّهُ بِزِيَادَةِ فِي مَرَضِهِ لِأَجْلِ جُرْحٍ بِهِ أَوْ مَرَضٍ أَوْ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ سَوَاءٌ كَانَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا وَيُصَلِّي . وَإِذَا جَازَ لَهُ الصَّلَاةُ جَازَ لَهُ الطَّوَافُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ . وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ إذَا صَلَّى سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَضَرِ أَوْ فِي السَّفَرِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ

تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا عُدْوَانٍ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الصِّيَامِ وَلَا الْحَجِّ . وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ مَرَّتَيْنِ وَلَا يَصُومَ شَهْرَيْنِ فِي عَامٍ وَلَا يَحُجَّ حجين . إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ أَوْ عُدْوَانٌ . فَإِنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا وَكَذَلِكَ إذَا نَسِيَ بَعْضَ فَرَائِضِهَا : كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْمَفْرُوضِ : كَمَنْ صَلَّى عريانا لِعَدَمِ السُّتْرَةِ أَوْ صَلَّى بِلَا قِرَاءَةٍ لِانْعِقَادِ لِسَانِهِ أَوْ لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ . لِمَرَضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعُذْرِ النَّادِرِ وَالْمُعْتَادِ وَمَا يَدُومُ وَمَا لَا يَدُومُ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنَّ الْعُرْيَانَ إذَا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً صَلَّى وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . وَعَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يُصْبِحُ جُنُبًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَدْخُلُ بِهِ الْحَمَّامَ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي بَيْتِهِ مِنْ أَجْلِ الْبَرْدِ . فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ

وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؟ أَمْ لَا ؟ . وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يَرْهَنُهُ عَلَى أُجْرَةِ الْحَمَّامِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا . فَإِذَا خَشِيَ إذَا اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَنْ يَضُرَّهُ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فِي بَيْتٍ وَلَا حَمَّامٍ وَلَا غَيْرِهِمَا جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَا إعَادَةَ عَلَى الصَّحِيحِ . وَإِنْ أَمْكَنَهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ بِجُعْلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ إذَا كَانَ وَاجِدًا لِأُجْرَةِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ إجْحَافٍ فِي مَالِهِ كَمَا يَجِبُ شِرَاءُ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْهَنَ عِنْدَ الحمامي الطَّابِيَةَ وَالْمِيزَابَ وَيُوَفِّيَهُ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَهُ . وَإِنْ كَانَ فِي أَدَاءِ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ ضَرَرٌ كَنَقْصِ نَفَقَةِ عِيَالِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ عَلَيْهِ غُسْلٌ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا يَدْخُلُ بِهِ الْحَمَّامَ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْبَارِدُ لِشِدَّةِ بَرْدِهِ ثُمَّ إنَّهُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى الْفَرِيضَةَ وَلَهُ فِي الْجَامِعِ وَظِيفَةٌ فَقَرَأَ فِيهَا . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ الْحَمَّامَ هَلْ يَأْثَمُ ؟ أَمْ لَا ؟ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ بَلْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ ؛ فَإِنَّ مَنْ خَافَ إذَا اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ الْبَارِدَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ صُدَاعٌ أَوْ نَزْلَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَلَمْ يُمْكِنْ الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ - وَإِنْ كَانَ جُنُبًا - وَيُصَلِّي عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ بِاللَّيْلِ وَأَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَالْمَاءُ بَارِدٌ يَضُرُّهُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وِرْدَهُ التَّطَوُّعُ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَا يُفَوِّتُ وِرْدَهُ لِتَعَذُّرِ الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ . وَهَلْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْفَرِيضَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . هَذَا إذَا كَانَ فِي الْحَضَرِ . وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يُعِيدَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ جَازَتْ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ جَازَتْ لَهُ الْقِرَاءَةُ وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أَحَدٍ صَلَّى عَلَى حَسَبِ

اسْتِطَاعَتِهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجَنَابَةُ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ ؛ لَكِنَّ فَاعِلَ الْحَرَامِ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ وَنَجَاسَةُ الذَّنْبِ . فَإِنْ تَابَ وَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ . وَإِنْ تَطَهَّرَ وَلَمْ يَتُبْ : تَطَهَّرَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَلَمْ يَتَطَهَّرْ مِنْ نَجَاسَةِ الذَّنْبِ فَإِنَّ تِلْكَ لَا يُزِيلُهَا إلَّا التَّوْبَةُ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يُعْطِي الحمامي جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَيُصَلِّي بِلَا رَيْبٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُنْظِرُهُ الْحَمَّامَيْ وَلَمْ يَجِدْ مَا يَرْهَنُهُ عِنْدَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بِالْأُجْرَةِ الْمُؤَجَّلَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَادَةُ إظْهَارِ الحمامي لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْحَمَّامِ كَالْعَادَةِ وَإِنْ مَنْعَهُ الْحَمَّامَيْ مِنْ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ مِنْ أَنْ يُوَفِّيَهُ حَقَّهُ لِبُغْضِ الحمامي وَنَحْوِ ذَلِكَ . دَخَلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الحمامي وَأَعْطَاهُ أُجْرَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أُجْرَةٌ فَمَنَعَهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ فِي الْحَالِ وَلَا هُوَ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ الْحَمَّامَيْ لِيُنْظِرَهُ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ إلَّا بِرِضَا الحمامي وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الحمامي بِأَخْذِ مَاءٍ فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِأَنْ يَتَطَهَّرَ فِي دَهَالِيزِ أَبْوَابِ الْحَمَّامِ جَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُ الحمامي دُونَ مَا لَا تَطِيبُ إلَّا بِعِوَضِ الْمِثْلِ . وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَاءَ الْبَارِدَ وَالْحَارَّ وَيُعْطِيَ الحمامي

أُجْرَةَ الدُّخُولِ إذَا كَانَ الْمَاءُ يُبْذَلُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِزِيَادَةِ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ لِنَفَقَتِهِ أَوْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ أَوْ وَفَاءِ دَيْنِهِ الَّذِي يُطَالَبُ بِهِ كَانَ صَرْفُ ذَلِكَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ مُقَدَّمًا عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ فِي عِوَضِ الْمَاءِ . كَمَا لَوْ احْتَاجَ إلَى الْمَاءِ لِشُرْبِ نَفْسِهِ أَوْ دَوَابِّهِ فَإِنَّهُ يَصْرِفُهُ فِي ذَلِكَ وَيَتَيَمَّمُ . وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ فَفِي وُجُوبِ بَذْلِ الْعِوَضِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرْأَةِ يُجَامِعُهَا بَعْلُهَا وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ لِعَدَمِ الْأُجْرَةِ وَغَيْرِهَا . فَهَلْ لَهَا أَنْ تَتَيَمَّمَ ؟ وَهَلْ يُكْرَهُ لِبَعْلِهَا مُجَامَعَتُهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ تَغْتَسِلْ وَتَخَافُ إنْ دَخَلَتْ الْحَمَّامَ أَنْ يَفُوتَهَا الْوَقْتُ فَهَلْ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ ؟ أَوْ تُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْجُنُبُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فَإِنَّهُ إذَا

عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ فَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ لِعَدَمِ الْأُجْرَةِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ وَلَا يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ كَذَلِكَ بَلْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا كَمَا لَهُ أَنْ يَطَأَهَا فِي السَّفَرِ وَيُصَلِّيَا بِالتَّيَمُّمِ . وَإِذَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ خَارِجَ الْحَمَّامِ فَعَلَا ذَلِكَ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ : مِثْلَ أَنْ لَا يَسْتَيْقِظَ أَوَّلَ الْفَجْرِ وَإِنْ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَاءِ خَرَجَ الْوَقْتُ . وَإِنْ طَلَبَ حَطَبًا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ أَوْ ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ فَاتَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد قَالُوا يَشْتَغِلُ بِتَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ . وَهَكَذَا قَالُوا فِي اشْتِغَالِهِ بِخِيَاطَةِ اللِّبَاسِ وَتَعَلُّمِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ . فَإِنَّ قِيَاسَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُسَافِرَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِالْوُضُوءِ وَأَنَّ الْعُرْيَانَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِاللِّبَاسِ . وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ . وَأَمَّا إذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ أَوْ إنْ اشْتَغَلَ بِاسْتِقَاءِ الْمَاءِ مِنْ

الْبِئْرِ خَرَجَ الْوَقْتُ أَوْ إنْ ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لِلْغُسْلِ خَرَجَ الْوَقْتُ فَهَذَا يَغْتَسِلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : بَلْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ مُحَافَظَةً عَلَى الْوَقْتِ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : إذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ فَهُوَ حِينَئِذٍ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ فَالطَّهَارَةُ وَالْوَقْتُ فِي حَقِّهِ مِنْ حِينَ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ مَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيهِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } . فَالْوَقْتُ الْمَأْمُورُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ إذَا اسْتَيْقَظَ لَا مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَفِي حَقِّ النَّاسِي إذَا ذَكَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ الرَّجُلُ يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَى الْحَمَّامِ لَكِنْ إنْ دَخَلَ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ حَتَّى يَفُوتَ الْوَقْتُ إمَّا لِكَوْنِهِ مَقْهُورًا مِثْلَ الْغُلَامِ الَّذِي لَا يُخَلِّيهِ سَيِّدُهُ يَخْرُجُ حَتَّى يُصَلِّيَ وَمِثْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي مَعَهَا أَوْلَادُهَا فَلَا يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ حَتَّى تَغْسِلَهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ : إمَّا أَنْ يَغْتَسِلُوا وَيُصَلُّوا فِي الْحَمَّامِ فِي الْوَقْتِ وَإِمَّا أَنْ يُصَلُّوا خَارِجَ الْحَمَّامِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَإِمَّا أَنْ يُصَلُّوا بِالتَّيَمُّمِ خَارِجَ الْحَمَّامِ . وَبِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يُفْتِي طَائِفَةٌ ؛ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ بِالتَّيَمُّمِ خَارِجَ الْحَمَّامِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحَمَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَتَفْوِيتُ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . وَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ هَذَيْنِ النَّهْيَيْنِ إلَّا بِالصَّلَاةِ

بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ خَارِجَ الْحَمَّامِ . وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الصَّلَاةُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ فِي الْوَقْتِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ بَعْدَ الْوَقْتِ إذَا اغْتَسَلَ أَوْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ فِي الْوَقْتِ . فَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ كُلًّا مِنْ ذَيْنِك مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَتَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ حُبِسَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ وَصَلَّى فِيهِ : هَلْ يُعِيدُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ بَلْ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي الْوَقْتِ كَمَا أُمِرَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْعُذْرُ نَادِرًا أَوْ مُعْتَادًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْعَبْدِ الصَّلَاةَ الْمُعَيَّنَةَ مَرَّتَيْنِ إلَّا إذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ مِنْهُ إخْلَالٌ بِوَاجِبِ أَوْ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ . فَأَمَّا إذَا فَعَلَ الْوَاجِبَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَلَمْ يَأْمُرْهُ مَرَّتَيْنِ وَلَا أَمَرَ اللَّهُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ وَيُعِيدَهَا ؛ بَلْ حَيْثُ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً كَمَنْ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ نَاسِيًا فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِتِلْكَ الصَّلَاةِ بَلْ اعْتِقَادُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ خَطَأٌ مِنْهُ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّهَارَةِ فَإِذَا صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ كَانَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تَوَضَّأَ وَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ مِنْ قَدَمِهِ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ . وَكَمَا أَمَرَ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ . وَكَمَا أَمَرَ

الْمُصَلِّيَ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ . فَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الطَّهَارَةِ أَوْ السِّتَارَةِ أَوْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ أَوْ عَنْ إكْمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا . فَإِنَّ هَذَا يَفْعَلُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ الْحَمَّامِ وَحَصَلَ لَهَا جَنَابَةٌ وَتَخْشَى مِنْ الْغُسْلِ فِي الْبَيْتِ مِنْ الْبَرْدِ . هَلْ لَهَا أَنْ تَتَيَمَّمَ وَتُصَلِّيَ ؟ وَإِذَا أَرَادَ زَوْجُهَا الْجِمَاعَ وَتَخَافُ مِنْ الْبَرْدِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا . هَلْ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ ؟ أَوْ يَغْتَسِلَ مَعَ الْقُدْرَةِ . وَتَتَيَمَّمَ هِيَ ؟ أَمْ يَتْرُكَ الْجِمَاعَ . فَإِذَا جَامَعَهَا وَأَرَادَتْ الدُّخُولَ إلَى الْحَمَّامِ لِلتَّطَهُّرِ هَلْ تَتَيَمَّمُ وَتَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ؟ أَوْ تُصَلِّي فِي الْحَمَّامِ بِالْغُسْلِ ؟ وَهَلْ لَهَا إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ وَلَمْ تَغْتَسِلْ أَنْ تَتَيَمَّمَ وَيُجَامِعَهَا زَوْجُهَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ التَّيَمُّمُ لِلْجَنَابَةِ إلَى وُضُوءٍ

أَمْ لَا ؟ وَإِذَا احْتَاجَ هَلْ يُقَدِّمُ الْوُضُوءَ أَمْ التَّيَمُّمَ ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ؟ أَمْ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ ؟ وَإِذَا طَهُرَتْ الْمَرْأَةُ آخِرَ النَّهَارِ - أَوْ آخِرَ اللَّيْلِ - وَعَجَزَتْ عَنْ الْغُسْلِ لِلْبَرْدِ وَغَيْرِهِ هَلْ تَتَيَمَّمُ وَتُصَلِّي ؟ وَهَلْ تَقْضِي صَلَاةَ الْيَوْمِ الَّذِي طَهُرَتْ فِيهِ ؟ أَوْ اللَّيْلَةَ ؟ . وَمَنْ أَصَابَهُ جُرْحٌ أَوْ كَسْرٌ وَعَصَبَهُ هَلْ يَمْسَحُ عَلَى الْعِصَابَةِ أَمْ يَتَيَمَّمُ عَنْ الْوُضُوءِ لِلْمَجْرُوحِ ؟ وَبَعْضُ الْأَعْضَاءِ يَعْجِزُ عَنْ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْجُرْحِ أَوْ الْكَسْرِ وَهَلْ يَتْرُكُ الْجِمَاعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ يَفْعَلُهُ وَيَتَيَمَّمُ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ مُدَّةَ الْمُدَاوَاةِ تَطُولُ فَيَطُولُ تَيَمُّمُهُ ؟ وَهَلْ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا مَنْعُ الزَّوْجِ مِنْ الْجِمَاعِ إذَا كَانَتْ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْغُسْلِ ؟ أَمْ تُطِيعُهُ وَتَتَيَمَّمُ ؟ وَمَنْ وَجَدَ الْحَمَّامَ بَعِيدًا مَتَى وَصَلَ إلَيْهِ خَرَجَ الْوَقْتُ هَلْ يَتَيَمَّمُ أَمْ يَذْهَبُ إلَيْهِ وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ ؟ وَمَنْ خَافَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ إذَا تَطَهَّرَ بِالْمَاءِ هَلْ يَتَيَمَّمُ لِيَحْصُلَ عَلَى الْجَمَاعَةِ أَمْ لَا ؟ وَمَنْ مَعَهُ رُفْقَةٌ يُرِيدُونَ الْجَمْعَ فَهَلْ الْأَفْضَلُ لَهُ الْجَمْعُ مَعَهُمْ لِتَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ ؛ أَمْ يُصَلِّي وَحْدَهُ فِي الْوَقْتِ ؟ وَقَدْ يَكُونُ هُوَ إمَامَهُمْ فَأَيُّمَا أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ جَمْعًا أَمْ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ؟ وَمَنْ كَانَ لَهُ صِنَاعَةٌ يَعْمَلُهَا هُوَ وَصُنَّاعٌ أُخَرُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا وَيَبْطُلُ الصُّنَّاعُ هَلْ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ؟ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي حِرَاثَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَاءِ هَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي ؟ وَمَنْ يَتَيَمَّمُ

هَلْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ؟ وَيُصَلِّي وِرْدَهُ بِاللَّيْلِ ؟ وَهَلْ لِلْمَرْأَةِ الْجُنُبِ أَوْ الْحَائِضِ أَنْ تَقْرَأَ عَلَى وَلَدِهَا الصَّغِيرِ ؟ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ تُرَابًا هَلْ يَتَيَمَّمُ عَلَى الْبِسَاطِ أَوْ الْحَصِيرِ إذَا كَانَ فِيهِمَا غُبَارٌ ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، مَنْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ مِنْ احْتِلَامٍ أَوْ جِمَاعٍ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاغْتِسَالُ لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ لِتَضَرُّرِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ : مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَزِيدُ الِاغْتِسَالُ فِي مَرَضِهِ أَوْ يَكُونَ الْهَوَاءُ بَارِدًا وَإِنْ اغْتَسَلَ خَافَ أَنْ يَمْرَضَ بِصُدَاعِ أَوْ زُكَامٍ أَوْ نَزْلَةٍ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي . سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ زَوْجَهَا مِنْ الْجِمَاعِ . بَلْ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إنْ قَدَرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَ وَلَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا قَبْلَ دُخُولِ الْحَمَّامِ فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ خَارِجَ الْحَمَّامِ فَعَلَتْ وَإِنْ خَافَتْ أَنْ تَفُوتَهَا الصَّلَاةُ اسْتَتَرَتْ فِي الْحَمَّامِ وَصَلَّتْ وَلَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِطِهَارَةِ كَامِلَةٍ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِغُسْلِ وَاحِدٍ وَجُعِلَ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ التَّفْرِيقِ بِوُضُوءِ .

وَأَيْضًا فَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَشْرُوعٌ لِحَاجَةِ دُنْيَوِيَّةٍ فَلَأَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ أَوْلَى وَالْجَامِعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مُصَلٍّ فِي الْوَقْتِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعِرْفِهِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ ؛ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الْوُقُوفِ وَاتِّصَالِهِ ؛ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْزِلَ فَيُصَلِّيَ فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِتَكْمِيلِ الْوُقُوفِ فَالْجَمْعُ لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ أَوْلَى . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ لِلْمَطَرِ وَهُوَ نَفْسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتَضَرَّرُ بِالْمَطَرِ بَلْ جُمِعَ لِتَحْصِيلِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْجَمْعُ لِتَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ التَّفْرِيقِ وَالِانْفِرَادِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ فَإِنَّ أَعْطَانَ الْإِبِلِ وَالْحَمَّامِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِمَا وَالْجَمْعُ مَشْرُوعٌ . بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا نَامَ عَنْ الصَّلَاةِ انْتَقَلَ وَقَالَ : { هَذَا وَادٍ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ } فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ الْوَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِكَوْنِ الْبُقْعَةِ حَضَرَ فِيهَا الشَّيْطَانُ وَتِلْكَ الْبُقْعَةُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا وَتَجُوزُ ؛ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ الِانْتِقَالُ عَنْهَا وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ . وَالْحَمَّامُ وَأَعْطَانُ الْإِبِلِ مَسْكَنُ الشَّيَاطِينِ ؛ وَلِهَذَا حَرَّمَ الصَّلَاةَ فِيهَا وَالْجُمَعُ مَشْرُوعٌ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فَإِذَا جَمَعَ لِئَلَّا يُصَلِّيَ فِي أَمَاكِنِ

الشَّيَاطِينِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ وَالْمَرْأَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهَا الْجَمْعُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ جَمَعَتْ بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ خَيْرٌ مِنْ التَّفْرِيقِ وَمِنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَإِذَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ أَنْ يَتَوَضَّآ وَيَتَيَمَّمَا فَعَلَا فَإِنْ اقْتَصَرَا عَلَى التَّيَمُّمِ أَجْزَأَهُمَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ - بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ - بَلْ إمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : بَلْ يَغْتَسِلُ بِالْمَاءِ مَا أَمْكَنَهُ وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي . وَإِذَا تَوَضَّأَ وَتَيَمَّمَ فَسَوَاءٌ قَدَّمَ هَذَا أَوْ هَذَا لَكِنَّ تَقْدِيمَ الْوُضُوءِ أَحْسَنُ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ كَمَا يَجُوزُ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ وَغُسْلٍ وَاحِدٍ فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ . فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فأمسه بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ } . وَالْمَرْأَةُ إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ فَإِنْ طَهُرَتْ فِي آخِرِ النَّهَارِ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ . وَإِنْ طَهُرَتْ فِي آخِرِ اللَّيْلِ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَلَا يَقْضِي أَحَدٌ مَا صَلَّاهُ بِالتَّيَمُّمِ . وَإِذَا كَانَ الْجُرْحُ مَكْشُوفًا وَأَمْكَنَ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ

وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعْصُوبًا أَوْ كُسِرَ عَظْمُهُ فَوَضَعَ عَلَيْهِ جَبِيرَةً فَمَسَحَ ذَلِكَ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ وَالْمَرِيضُ وَالْجَرِيحُ وَالْمَكْسُورُ إذَا أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ بِجِمَاعِ وَغَيْرِهِ وَالْمَاءُ يَضُرُّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي أَوْ يَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَيَغْسِلُ سَائِرَ بَدَنِهِ إنْ أَمْكَنَهُ وَيُصَلِّي . وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَمْنَعَ زَوْجَهَا الْجِمَاعَ بَلْ يُجَامِعُهَا . فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ . وَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ لَمْ يُجَامِعْهَا إلَّا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ وَوَطِئَهَا زَوْجُهَا . وَيَتَيَمَّمُ الْوَاطِئُ حَيْثُ يَتَيَمَّمُ لِلصَّلَاةِ . وَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ كَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إذَا اغْتَسَلَ أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ؛ لِكَوْنِ الْمَاءِ بَعِيدًا أَوْ الْحَمَّامِ مَغْلُوقَةً أَوْ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا وَلَيْسَ مَعَهُ أُجْرَةُ الْحَمَّامِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَفُوتَ الْوَقْتُ . وَأَمَّا إذَا اسْتَيْقَظَ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا فَهَذَا يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ مِنْ حِينِ اسْتَيْقَظَ بِخِلَافِ الْيَقِظَانِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ . وَلَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ لِأَحَدِ أَصْلًا لَا بِعُذْرِ وَلَا بِغَيْرِ عُذْرٍ . لَكِنْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ

فَيُصَلِّي الْمَرِيضُ بِحَسَبِ حَالِهِ فِي الْوَقْتِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } فَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ قَاعِدًا وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَائِمًا وَكَذَلِكَ الْعُرَاةُ كَاَلَّذِينَ انْكَسَرَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ يُصَلُّونَ فِي الْوَقْتِ عُرَاةً وَلَا يُؤَخِّرُونَهَا لِيُصَلُّوا فِي الثِّيَابِ بَعْدَ الْوَقْتِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ وَلَا يُؤَخِّرُهَا لِيُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِالْيَقِينِ . وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهَا حَتَّى تَفُوتَ الصَّلَاةُ فَيُصَلِّي بِهَا فِي الْوَقْتِ وَلَا يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَ طَاهِرًا . وَكَذَلِكَ مَنْ حُبِسَ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ أَوْ كَانَ فِي حَمَّامٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْ الصَّلَاة فِيهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ حَتَّى تَفُوتَ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ وَلَا يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ . فَالصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ فَرْضٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالِاسْتِطَاعَةِ . وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً نَاقِصَةً حَتَّى الْخَائِفُ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَا يُفَوِّتُهَا لِيُصَلِّيَ صَلَاةَ أَمْنٍ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ حَتَّى فِي حَالِ الْمُقَاتَلَةِ يُصَلِّي وَيُقَاتِلُ وَلَا يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَ بِلَا قِتَالٍ فَالصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَتْ كَامِلَةً ؛

بَلْ الصَّلَاةُ بَعْدَ تَفْوِيتِ الْوَقْتِ عَمْدًا لَا تُقْبَلُ مِنْ صَاحِبِهَا وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إثْمُ التَّفْوِيتِ الْمُحَرَّمِ . وَلَوْ قَضَاهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا إذَا خَافَ فَوَاتَ الْجِنَازَةِ أَوْ الْعِيدِ أَوْ الْجُمُعَةِ فَفِي التَّيَمُّمِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّمِ وَلَا يُفَوِّتُهَا وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ إلَّا بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّمِ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِلْجِنَازَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعِيدَهَا بِوُضُوءِ فَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ عَلَى مَذْهَبِهِ تَعَذُّرُ الْإِعَادَةِ ؛ بِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ إنَّمَا عَلَّلَ ذَلِكَ بِتَعَذُّرِ الْإِعَادَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْجِنَازَةِ وَبَيْنَ الْعِيدِ وَالْجُمْعَةِ . وَأَحْمَد لَا يُعَلِّلُ بِذَلِكَ فَكَيْفَ وَالْجُمْعَةُ لَا تُعَادُ وَإِنَّمَا تُصَلَّى ظُهْرًا . وَلَيْسَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ كَالْجُمْعَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ صَلَاةُ الْجُمُعَة الْوَاجِبَةِ إلَّا بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ حَيْثُ يُشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا لَيْسَ بِمُفَوِّتِ وَلَا يُشْتَرَطُ لِلْقَصْرِ وَلَا لِلْجَمْعِ نِيَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِك وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ إحْدَى الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ بَلْ عَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ .

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ : اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ يَجُوزُ لِعُذْرِ فَالْمُسَافِرُ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . وَالْمُسَافِرُونَ إذَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ النُّعَاسُ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ انْتِظَارُ الْعِشَاءِ جَمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَنَامُ فَصَلَاتُهُ بِهِمْ إمَامًا جَامِعًا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاته وَحْدَهُ غَيْرَ جَامِعٍ . وَالْحَرَّاثُ إذَا خَافَ إنْ طَلَبَ الْمَاءَ يُسْرَقُ مَالُهُ أَوْ يَتَعَطَّلُ عَمَلُهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ . وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَعْذَارِ الَّذِينَ يُبَاحُ لَهُمْ التَّيَمُّمُ : إذَا أَمْكَنَهُمْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بِطِهَارَةِ التَّيَمُّمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِمَنْ لَهُ عُذْرٌ كَالْمَطَرِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ ؛ وَلِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ : فَصَلَاتُهُمْ بِطِهَارَةِ كَامِلَةٍ جَمْعًا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِمْ بِطَهَارَةِ نَاقِصَةٍ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا . وَالْمَرِيضُ أَيْضًا لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَعَ الْجَمْعِ صَلَاته أَكْمَلُ . إمَّا لِكَمَالِ طَهَارَتِهِ وَإِمَّا لِإِمْكَانِ الْقِيَامِ وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاتَانِ سَوَاءً . لَكِنْ إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا زَادَ مَرَضُهُ فَلَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا .

وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : يَجُوزُ الْجَمْعُ إذَا كَانَ لِشُغْلٍ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : الشُّغْلُ الَّذِي يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَةِ . وَقَالَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قدامة المقدسي : مُبَيِّنًا عَنْ هَؤُلَاءِ ؛ وَهُوَ الْمَرِيضُ وَمَنْ لَهُ قَرِيبٌ يَخَافُ مَوْتَهُ وَمَنْ يُدَافِعُ أَحَدًا مِنْ الْأَخْبَثَيْنِ وَمَنْ يَحْضُرُهُ طَعَامٌ وَبِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ وَمَنْ يَخَافُ مِنْ سُلْطَانٍ يَأْخُذُهُ أَوْ غَرِيمٍ يُلَازِمُهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ يُعْطِيهِ وَالْمُسَافِرُ إذَا خَافَ فَوَاتَ الْقَافِلَةِ وَمَنْ يَخَافُ ضَرَرًا فِي مَالِهِ وَمَنْ يَرْجُو وُجُودَهُ وَمَنْ يَخَافُ مِنْ غَلَبَةِ النُّعَاسِ حَتَّى يَفُوتَهُ الْوَقْتُ وَمَنْ يَخَافُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ . وَكَذَلِكَ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ إذَا كَانَ فِيهَا وَحْلٌ . فَهَؤُلَاءِ يُعْذَرُوا وَإِنْ تَرَكُوا الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَةَ كَذَا حَكَاهُ ابْنُ قدامة فِي " مُخْتَصَرِ الْهِدَايَةِ " . فَإِنَّهُ يُبِيحُ لَهُمْ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى . وَالصُّنَّاعُ وَالْفَلَّاحُونَ إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ الْخَاصِّ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِمْ : مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ بَعِيدًا فِي فِعْلِ صَلَاةٍ وَإِذَا ذَهَبُوا إلَيْهِ وَتَطَهَّرُوا تَعَطَّلَ بَعْضُ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْوَقْتِ الْمُشْتَرَكِ فَيَجْمَعُوا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤَخِّرُوا الظُّهْرَ إلَى قَرِيبِ الْعَصْرِ فَيَجْمَعُوهَا وَيُصَلُّوهَا مَعَ الْعَصْرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَمْعًا فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ . وَيَجُوزُ مَعَ بُعْدِ الْمَاءِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ الْخَاصِّ . وَالْجَمْعُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَفْضَلُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .

فَصْلٌ :
كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ : مِنْ جُنُبٍ أَوْ مُحْدِثٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَيَمَسَّ الْمُصْحَفَ وَيُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ النَّافِلَةَ وَالْفَرِيضَةَ وَيَرْقِيَ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرَ ذَلِكَ . فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَعْظَمُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فَمَنْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ بِالتَّيَمُّمِ أَوْلَى وَالْقِرَاءَةُ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَوْسَعُ مِنْهَا فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمُحْدِثَ يَقْرَؤُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ يَفْعَلُهُ بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ . وَإِذَا أَمْكَنَ الْجُنُبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ فَتَوَضَّأَ وَتَيَمَّمَ عَنْ الْغُسْلِ جَازَ وَإِنْ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ فَفِيهِ قَوْلَانِ . قِيلَ : يَجْزِيهِ عَنْ الْغُسْلِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : لَا يَجْزِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . وَإِذَا تَيَمَّمَ بِالتُّرَابِ الَّذِي تَحْتَ حَصِيرِ بَيْتِهِ جَازَ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُنَاكَ غُبَارٌ لَاصِقٌ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَتَيَمَّمَ بِذَلِكَ التُّرَابِ اللَّاصِقِ جَازَ . وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ لِلْقُرْآنِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

قِيلَ : يَجُوزُ لِهَذَا وَلِهَذَا . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ . إمَّا مُطْلَقًا أَوْ إذَا خَافَتْ النِّسْيَانَ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْحَائِضِ الْقُرْآنَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { لَا تَقْرَأْ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ . وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ مَا يَرْوِيهِ عَنْ الْحِجَازِيِّينَ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ ؛ بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ عَنْ الشَّامِيِّينَ وَلَمْ يَرْوِ هَذَا عَنْ نَافِعٍ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَحِضْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ يَنْهَاهُنَّ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . كَمَا لَمْ يَكُنْ يَنْهَاهُنَّ عَنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ بَلْ أَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ الْعِيدِ فَيُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَقْضِيَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ : تُلَبِّي وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ بمزدلفة وَمِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاعِرِ . وَأَمَّا الْجُنُبُ فَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَشْهَدَ الْعِيدَ وَلَا يُصَلِّيَ وَلَا أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا مِنْ الْمَنَاسِكِ : لِأَنَّ الْجُنُبَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي

تَرْكِ الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ فَإِنَّ حَدَثَهَا قَائِمٌ لَا يُمْكِنُهَا مَعَ ذَلِكَ التَّطَهُّرُ . وَلِهَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى حَتَّى يَطَّهَّرَ وَإِنْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي ذَلِكَ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ الْحَائِضَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ بِذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ مَعَ كَرَاهَةِ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ . فَعُلِمَ أَنَّ الْحَائِضَ يُرَخَّصُ لَهَا فِيمَا لَا يُرَخَّصُ لِلْجُنُبِ فِيهِ ؛ لِأَجْلِ الْعُذْرِ . وَإِنْ كَانَتْ عِدَّتُهَا أَغْلَظَ فَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لَمْ يَنْهَهَا الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ نَهَى الْجُنُبَ لِأَنَّ الْجُنُبَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيَقْرَأَ بِخِلَافِ الْحَائِضِ ؛ تَبْقَى حَائِضًا أَيَّامًا فَيَفُوتُهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ تَفْوِيتَ عِبَادَةٍ تَحْتَاجُ إلَيْهَا مَعَ عَجْزِهَا عَنْ الطَّهَارَةِ وَلَيْسَتْ الْقِرَاءَةُ كَالصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ يُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ وَالْقِرَاءَةُ تَجُوزُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ بِالنَّصِّ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَالصَّلَاةُ يَجِبُ فِيهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاللِّبَاسُ وَاجْتِنَابُ النَّجَاسَةِ وَالْقِرَاءَةُ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ حَائِضٌ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا : { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلنَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي مُنَزِّلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ } فَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمَاشِيًا وَمُضْطَجِعًا . وَرَاكِبًا .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَرْمَدَ فَلَحِقَتْهُ جَنَابَةٌ وَلَا يَقْدِرُ يَتَطَهَّرُ بِمَاءِ مُسَخَّنٍ وَلَا بَارِدٍ وَيَقْدِرُ عَلَى الْوُضُوءِ . فَمَا يَصْنَعُ ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ بِهِ رَمَدٌ فَإِنَّهُ يَغْسِلُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ بَدَنِهِ . وَمَا يَضُرُّهُ الْمَاءُ - كَالْعَيْنِ وَمَا يُقَارِبُهَا - فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : يَتَيَمَّمُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالثَّانِي : لَيْسَ عَلَيْهِ تَيَمُّمٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ لَكِنَّ غَسْلَ أَكْثَرِ الْبَدَنِ الَّذِي يُمْكِنُ غَسْلُهُ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ بَاشَرَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ فِي عَافِيَةٍ . فَهَلْ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ بِالتَّطَهُّرِ إلَى أَنْ يتضاحى النَّهَارُ ؟ أَمْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ .

فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ بَلْ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ بِمَاءِ بَارِدٍ أَوْ حَارٍّ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ وَإِلَّا تَيَمَّمَ : فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لَكِنْ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاغْتِسَالِ اغْتَسَلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ بِهَا مَرَضٌ فِي عَيْنَيْهَا وَثِقَلٌ فِي جِسْمِهَا مِنْ الشَّحْمِ وَلَيْسَ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الْحَمَّامِ ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَزَوْجُهَا لَمْ يَدَعْهَا تَطَّهَّرُ وَهِيَ تَطْلُبُ الصَّلَاةَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَغْسِلَ جِسْمَهَا الصَّحِيحَ ؟ وَتَتَيَمَّمُ عَنْ رَأْسِهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَلَا الْحَارِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهَا تَغْسِلُ مَا يُمْكِنُ وَتَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ إنْ غَسَلَتْ الْأَكْثَرَ لَمْ تَتَيَمَّمْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا غَسْلُ الْأَقَلِّ تَيَمَّمَتْ وَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ سَافَرَ مَعَ رُفْقَةٍ وَهُوَ إمَامُهُمْ . ثُمَّ احْتَلَمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ الْبَرْدُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى بِهِمْ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةٌ ؟ وَعَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْأُولَى : أَنَّ تَيَمُّمَهُ جَائِزٌ وَصَلَاتَهُ جَائِزَةٌ وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ { عَنْ عَمْرِو بْنِ العاص أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ وَإِنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَكَذَلِكَ هَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ هَلْ يَؤُمُّ الْمُتَوَضِّئِينَ ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَؤُمُّهُمْ كَمَا أَمَّهُمْ عَمْرُو بْنُ العاص وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّهُمْ .

الثَّالِثَةُ : فِي الْإِعَادَةِ فَالْمَأْمُومُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . بِالِاتِّفَاقِ مَعَ صِحَّةِ صَلَاتِهِ وَأَمَّا الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ إذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ . فَقِيلَ : يُعِيدُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ : يُعِيدُ فِي الْحَضَرِ فَقَطْ دُونَ السَّفَرِ . كَقَوْلِ لَهُ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : لَا يُعِيدُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ العاص بِإِعَادَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَعْذَارِ الْمُعْتَادَةِ وَغَيْرِ الْمُعْتَادَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ الْخَوْفِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ . فَهَلْ إذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَقَرَأَ وَمَسَّ الْمُصْحَفَ وَتَهَجَّدَ بِاللَّيْلِ إمَامًا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُعِيدُ الصَّلَاةَ أَمْ لَا ؟ وَإِلَى كَمْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ خَائِفًا مِنْ الْبَرْدِ إنْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ يَمْرَضُ أَوْ كَانَ خَائِفًا إنْ اغْتَسَلَ أَنْ يُرْمَى بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَيَتَضَرَّرَ بِذَلِكَ أَوْ كَانَ خَائِفًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ سَبُعٌ يَخَافُ ضَرَرَهُ إنْ قَصَدَ الْمَاءَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ .

وَأَمَّا الْإِعَادَةُ : فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ هَلْ يُعِيدُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ؟ أَوْ لَا يُعِيدُ فِيهِمَا ؟ أَوْ يُعِيدُ فِي الْحَضَرِ فَقَطْ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَالْأَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِحَالِ . وَمَنْ جَازَتْ لَهُ الصَّلَاةُ جَازَتْ لَهُ الْقِرَاءَةُ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ . وَالْمُتَيَمِّمُ يَؤُمُّ الْمُغْتَسِلَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ التَّيَمُّمِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ جِرَاحَةٌ وَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ عِنْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ ؟ أَمْ يُكْمِلُ وُضُوءَهُ إلَى آخِرِهِ ؟ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَيَمَّمُ ؟ وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ مَشْدُودَةً : فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحِلَّ الْجِرَاحَ . وَيَغْسِلَ جَمِيعَ الصَّحِيحِ ؟ أَمْ يَغْسِلَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَيَتْرُكَ الشَّدَّ عَلَى حَالِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّيَمُّمَ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ بَلْ هَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ إذَا قِيلَ : إنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَيَمُّمٍ وَلَكِنَّ مَذْهَبَ

الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَإِذَا جَبَرَهَا مَسَحَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ جَبْرُهَا عَلَى وُضُوءٍ أَوْ غَيْرِ وُضُوءٍ . وَكَذَلِكَ إذَا شَدَّ عَلَيْهَا عِصَابَةً وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَيَمُّمٍ فِي ذَلِكَ هَذَا أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهِ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ جُنُبٍ وَهُوَ فِي بَيْتٍ مُبَلَّطٍ عَادِمٍ فِيهِ التُّرَابَ مَغْلُوقٍ عَلَيْهِ الْبَابُ وَلَمْ يَعْلَمْ مَتَى يَكُونُ الْخُرُوجُ مِنْهُ فَهَلْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ إلَى وُجُودِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَا عَلَى التَّمَسُّحِ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِلَا مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . وَهَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَظْهَرُهُمَا : أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَلَمْ يَأْمُرْ الْعَبْدَ بِصَلَاتَيْنِ وَإِذَا صَلَّى قَرَأَ الْقِرَاءَةَ الْوَاجِبَةَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ نَامٍ وَهُوَ جُنُبٌ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا قريب طُلُوعِ الشَّمْسِ وَخَشِيَ مِنْ الْغُسْلِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ وَإِنْ سَخَّنَ الْمَاءَ خَرَجَ الْوَقْتُ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ إلَى حَيْثُ يَغْتَسِلُ أَوْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَالْأَكْثَرُ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد يَأْمُرُونَهُ بِطَلَبِ الْمَاءِ وَإِنْ صَلَّى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ . وَمَالِكٌ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِلْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إنْ اسْتَيْقَظَ فِي الْوَقْتِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْغُسْلِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَظَائِرِهَا وَبَيْنَ صُورَةِ السُّؤَالِ : بِأَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا خُوطِبَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أُمِرَ بِهَا بَعْدَ الِانْتِبَاهِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهَا بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ

مِنْ الِاغْتِسَالِ الْمُعْتَادِ فَيَكُونُ فِعْلُهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِعْلًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَجْنَبَ وَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَخَافَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَبَعْدَ الصَّلَاةِ اغْتَسَلَ فَهَلْ تُجْزِئُ الصَّلَاةُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَدْرَكَتْهُ الْجَنَابَةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْغُسْلَ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا يُصَلِّي جُنُبًا وَبَعْضُهُمْ قَالَ : يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْجُنُبِ إذَا انْتَبَهَ مَنْ نَوْمِهِ وَهُوَ فِي الْحَضَرِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِقَلِيلِ هَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ ؟ أَوْ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ؟ .

فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَغْتَسِلُ وَلَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
إذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ جُنُبٌ وَيَخْشَى إنْ اشْتَغَلَ بِفِعْلِ الطَّهَارَةِ يَفُوتُهُ الْوَقْتُ فَهَلْ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ وَالْمَاءُ بَعِيدٌ مِنْهُ يَخَافُ إنْ طَلَبَهُ أَنْ تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ أَوْ كَانَ الْوَقْتُ بَارِدًا يَخَافُ إنْ سَخَّنَهُ أَوْ ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ فَاتَتْ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ وَخَافَ إنْ تَطَهَّرَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا بِالْوُضُوءِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافًا . كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ فَإِنَّهُ هُنَا إنَّمَا خُوطِبَ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِ وَمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ صَلَّاهَا إذَا اسْتَيْقَظَ وَكَانَ ذَلِكَ وَقْتَهَا فِي حَقِّهِ .

وَسُئِلَ :
عَنْ أَقْوَامٍ خَرَجُوا مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ لِيُصَلُّوا الْجُمُعَةَ فِيهَا فَوَجَدُوا الصَّلَاةَ قَدْ أُقِيمَتْ وَبَعْضُهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَوْ ذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فَهَلْ يَتَيَمَّمُ ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ تُمْكِنْهُمْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ إلَّا بِالتَّيَمُّمِ صَلَّوْا بِالتَّيَمُّمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمُسَافِرِ يَصِلُ إلَى مَاءٍ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَإِنْ تَشَاغَلَ بِتَحْصِيلِهِ خَرَجَ الْوَقْتُ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا وَصَلَ إلَى مَاءٍ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هُنَاكَ بِئْرٌ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْنَعَ لَهُ حَبْلًا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ أَوْ يُمْكِنُ حَفْرُ الْمَاءِ وَلَا يَحْفِرُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : إنَّهُ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِاشْتِغَالِهِ بِتَحْصِيلِ الشَّرْطِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَالْمُسَافِرُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ حَتَّى يَفُوتَ الْوَقْتُ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْمَاءِ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الِاغْتِسَالُ وَالصَّلَاةُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ . بَلْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عَاصِيًا بِالِاتِّفَاقِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمَاءِ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَغَرَضُهُ إنَّمَا هُوَ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ وَلَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ الَّذِي يَفُوتُهُ مَعَهُ الْوَقْتُ بِخِلَافِ الْمُسْتَيْقِظِ آخِرَ الْوَقْتِ وَالْمَاءُ حَاضِرٌ فَإِنَّ هَذَا مَأْمُورٌ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ وَوَقْتُهُ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ لَا مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ يَقْظَانَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ عِنْدَ زَوَالِهَا إمَّا مُقِيمًا وَإِمَّا مُسَافِرًا فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ مِنْ حِينَئِذٍ .
وَسُئِلَ :
عَنْ التَّيَمُّمِ : هَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ وَالْفَرِيضَةَ وَأَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُحْدِثَ ؟ أَمْ لَا ؟ .

فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ كَمَا يُصَلِّيَ بِالْوُضُوءِ فَيُصَلِّي بِهِ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ وَيَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَلَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ إلَّا مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَالْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْحَاقِنِ ، أَيُّمَا أَفْضَلُ : يُصَلِّي بِوُضُوءِ مُحْتَقِنًا أَوْ أَنْ يُحْدِثَ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ ؟ .
فَأَجَابَ :
صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ بِلَا احْتِقَانٍ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْوُضُوءِ مَعَ الِاحْتِقَانِ فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَ الِاحْتِقَانِ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَفِي صِحَّتِهَا رِوَايَتَانِ . وَأَمَّا صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ فَصَحِيحَةٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهَا : الْمَنْعُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَالثَّانِي : الْجَوَازُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي طَهَارَةِ فَمِ الْهِرَّةِ بِرِيقِهَا وَطَهَارَةِ أَفْوَاهِ الصِّبْيَانِ بِأَرْيَاقِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالسُّنَّةُ قَدْ جَاءَتْ بِالْأَمْرِ بِالْمَاءِ فِي قَوْلِهِ لِأَسْمَاءِ : { حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ

ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ } وَقَوْلِهِ فِي آنِيَةِ الْمَجُوسِ : { ارْحَضُوهَا ثُمَّ اغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ } . وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ : { صُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } فَأَمَرَ بِالْإِزَالَةِ بِالْمَاءِ فِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ وَلَمْ يَأْمُرْ أَمْرًا عَامًّا بِأَنْ تُزَالَ كُلُّ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ . وَقَدْ أَذِنَ فِي إزَالَتِهَا بِغَيْرِ الْمَاءِ فِي مَوَاضِعَ :
مِنْهَا الِاسْتِجْمَارُ بِالْحِجَارَةِ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي النَّعْلَيْنِ : { ثُمَّ لِيُدَلِّكَهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورًا } وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي الذَّيْلِ : { يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ } وَمِنْهَا أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي الْهِرِّ : { إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } مَعَ أَنَّ الْهِرَّ فِي الْعَادَةِ يَأْكُلُ الْفَأْرَ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَنَاةٌ تَرِدُ عَلَيْهَا تُطَهِّرُ بِهَا أَفْوَاهَهَا بِالْمَاءِ بَلْ طَهَّرَهَا رِيقُهَا .
وَمِنْهَا أَنَّ الْخَمْرَ الْمُنْقَلِبَةَ بِنَفْسِهَا تَطْهُرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالرَّاجِحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ مَتَى زَالَتْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ زَالَ حُكْمُهَا فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا لَكِنْ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْأَمْوَالِ كَمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهَا .

وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمَاءِ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا تَعَبُّدٌ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَمَرَ بِالْمَاءِ فِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ لِتُعِينَهُ . لِأَنَّ إزَالَتَهَا بِالْأَشْرِبَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ إفْسَادٌ لَهَا . وَإِزَالَتُهَا بِالْجَامِدَاتِ كَانَتْ مُتَعَذِّرَةً كَغَسْلِ الثَّوْبِ وَالْإِنَاءِ وَالْأَرْضِ بِالْمَاءِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَاءُ وَرْدٍ وَخَلٍّ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِفْسَادِهِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمَاءَ لَهُ مِنْ اللُّطْفِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ فَلَا يَلْحَقُ غَيْرُهُ بِهِ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ الْخَلُّ وَمَاءُ الْوَرْدِ وَغَيْرُهُمَا يُزِيلَانِ مَا فِي الْآنِيَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ كَالْمَاءِ وَأَبْلَغُ وَالِاسْتِحَالَةُ لَهُ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ مِنْ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ فَإِنَّ الْإِزَالَةَ بِالْمَاءِ قَدْ يَبْقَى مَعَهَا لَوْنُ النَّجَاسَةِ فَيُعْفَى عَنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَكْفِيك الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ } وَغَيْرُ الْمَاءِ يُزِيلُ الطَّعْمَ وَاللَّوْنَ وَالرِّيحَ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ؛ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَزُولَ بِالْمَاءِ لِتَنْجِيسِهِ بِالْمُلَاقَاةِ لَكِنْ رَخَّصَ فِي الْمَاءِ لِلْحَاجَةِ فَجَعَلَ الْإِزَالَةَ بِالْمَاءِ صُورَةَ اسْتِحْسَانٍ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا . وَكِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ . فَلَيْسَتْ إزَالَتُهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَلْ الْقِيَاسُ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا . وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ مَمْنُوعٌ وَمَنْ سَلَّمَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَارِدِ

وَالْمَوْرُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَيْنَ الْجَارِي وَالْوَاقِفِ . وَلَوْ قِيلَ : إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَالصَّوَابُ أَنَّ مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ يُقَاسُ عَلَيْهِ إذَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ : إذْ الِاعْتِبَارُ فِي الْقِيَاسِ بِالْجَامِعِ وَالْفَارِقِ . وَاعْتِبَارُ طَهَارَةِ الْخَبَثِ بِطَهَارَةِ الْحَدَثِ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَاشْتُرِطَ فِيهَا النِّيَّةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَأَمَّا طَهَارَةُ الْخَبَثِ فَإِنَّهَا مِنْ بَابِ التروك فَمَقْصُودُهَا اجْتِنَابُ الْخَبَثِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا فِعْلُ الْعَبْدِ وَلَا قَصْدُهُ بَلْ لَوْ زَالَتْ بِالْمَطَرِ النَّازِلِ مِنْ السَّمَاءِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا النِّيَّةُ فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِأَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ . وَإِنَّمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا مِنْ ضِيقِ الْمَجَالِ فِي الْمُنَاظَرَةِ فَإِنَّ الْمُنَازِعَ لَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ قَاسَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ عَلَى طَهَارَةِ الْخَبَثِ فَمَنَعُوا الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءِ . وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِلْأَذَى الَّذِي كَانَ

فِيهِمَا وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ الصَّلَاةَ . وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَمَّا وَجَدَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً أَمَرَهُمْ بِغَسْلِهِ وَلَمْ يُعِدْ الصَّلَاةَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ اجْتِنَابَ الْمَحْظُورِ إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " قَدْ فَعَلْت " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَلِهَذَا كَانَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ : أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ لَا يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا وَالْأَكْلِ نَاسِيًا وَالطِّيبِ نَاسِيًا وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ إذَا زَالَ الْخَبَثُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَلَكِنْ إنْ زَالَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَنِيَّتِهِ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا إذَا عَدِمَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَلَا نِيَّتِهِ زَالَتْ الْمَفْسَدَةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِقَابٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ اسْتِحَالَةِ النَّجَاسَةِ كَرَمَادِ السِّرْجِينِ النَّجِسِ وَالزِّبْلِ النَّجِسِ

تُصِيبُهُ الرِّيحُ وَالشَّمْسُ فَيَسْتَحِيلُ تُرَابًا . فَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا اسْتِحَالَةُ النَّجَاسَةِ ، كَرَمَادِ السِّرْجِينِ النَّجِسِ وَالزِّبْلِ النَّجِسِ يَسْتَحِيلُ تُرَابًا فَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ . وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الرَّاجِحُ . فَأَمَّا الْأَرْضُ إذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ ؛ فَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا تَطْهُرُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِالِاسْتِحَالَةِ . فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ " مَسْأَلَةِ الِاسْتِحَالَةِ " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالصَّوَابُ الطَّهَارَةُ فِي الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا طِينُ الشَّوَارِعِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ : وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ ثُمَّ ذَهَبَتْ بِالرِّيحِ أَوْ الشَّمْسِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . هَلْ تَطْهُرُ الْأَرْضُ ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَطْهُرُ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ : وَلَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُصَلَّى عَلَيْهَا وَلَا يُتَيَمَّمُ بِهَا . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُتَيَمَّمُ بِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَوَجَبَ غَسْلُ ذَلِكَ . وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ { أَمَرَهُمْ أَنْ يَصُبُّوا عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } فَإِنَّ هَذَا يَحْصُلُ بِهِ تَعْجِيلُ تَطْهِيرِ الْأَرْضِ وَهَذَا مَقْصُودٌ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصَبَّ الْمَاءُ فَإِنَّ النَّجَاسَةَ تَبْقَى إلَى أَنْ تَسْتَحِيلَ . وَأَيْضًا فَفِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ بِهَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا : { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَجُرُّ ذَيْلَهَا عَلَى الْمَكَانِ الْقَذِرِ ثُمَّ عَلَى الْمَكَانِ الطَّاهِرِ فَقَالَ : يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ } وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى الْأَخْذِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّانِي وَنَصَّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَلَى الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَدْ جَعَلَ التُّرَابَ يُطَهِّرُ أَسْفَلَ النَّعْلِ وَأَسْفَلَ الذَّيْلِ وَسَمَّاهُ طَهُورًا : فَلَأَنْ يُطَهِّرَ نَفْسَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . فَالنَّجَاسَةُ إذَا اسْتَحَالَتْ فِي التُّرَابِ فَصَارَتْ تُرَابًا لَمْ يَبْقَ نَجَاسَةً . وَأَيْضًا فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا اسْتَحَالَتْ حَقِيقَةُ النَّجَاسَةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إذَا انْقَلَبَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ بِدُونِ قَصْدِ صَاحِبِهَا وَصَارَتْ خَلًّا أَنَّهَا تَطْهُرُ . وَلَهُمْ فِيهَا إذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ تَخْلِيلَهَا لَا تَطْهُرُ بِحَالِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا صَحَّ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَخْلِيلِهَا وَلِأَنَّ حَبْسَهَا مَعْصِيَةٌ وَالطَّهَارَةُ نِعْمَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَارَتْ النَّجَاسَةُ مِلْحًا فِي الْمَلَّاحَةِ أَوْ صَارَتْ رَمَادًا أَوْ صَارَتْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَالصَّدِيدُ تُرَابًا : كَتُرَابِ الْمَقْبَرَةِ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَجِسٌ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ طَاهِرٌ إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ النَّجَاسَةِ لَا طَعْمُهَا وَلَا لَوْنُهَا وَلَا رِيحُهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَذَلِكَ يَتْبَعُ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ وَحَقَائِقَهَا

فَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ مِلْحًا أَوْ خَلًّا دَخَلَتْ فِي الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْخَبَائِثِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَكَذَلِكَ التُّرَابُ وَالرَّمَادُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي نُصُوصِ التَّحْرِيمِ . وَإِذَا لَمْ تَتَنَاوَلْهَا أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ . لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى لَمْ يَجُزْ الْقَوْلُ بِتَنْجِيسِهِ وَتَحْرِيمِهِ فَيَكُونُ طَاهِرًا وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي غَيْرِ التُّرَابِ فَالتُّرَابُ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَحِينَئِذٍ فَطِينُ الشَّوَارِعِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ بِهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فَهُوَ طَاهِرٌ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِيهِ فَهَذَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ : فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانَ أَحَدُهُمْ يَخُوضُ فِي الْوَحْلِ ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّي وَلَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ حَكَاهُ مَالِكٌ عَنْهُمْ مُطْلَقًا وَذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الطِّينِ عَذِرَةٌ مُنْبَثَّةٌ لَعُفِيَ عَنْ ذَلِكَ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ طِينِ الشَّوَارِعِ مَعَ تَيَقُّنِ نَجَاسَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْخَمْرَةِ : إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَلْبِهَا هَلْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا ؟ أَوْ يَبِيعَهَا ؟ أَوْ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا انْقَلَبَتْ هَلْ يَأْكُلُ مِنْهَا أَوْ يَبِيعُهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا التَّخْلِيلُ فَفِيهِ نِزَاعٌ ، قِيلَ يَجُوزُ تَخْلِيلُهَا كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ ؛ لَكِنْ إذَا خُلِّلَتْ طَهُرَتْ كَمَا يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ وَقِيلَ يَجُوزُ بِنَقْلِهَا مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ وَكَشْفِ الْغِطَاءِ عَنْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ دُونَ أَنْ يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ . كَمَا هُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِحَالِ . كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ خَمْرٍ لِيَتَامَى فَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا . فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُمْ فُقَرَاءُ فَقَالَ : سَيُغْنِيهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فَلَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا وَنَهَى عَنْ تَخْلِيلِهَا وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ . فَيَجِبُ أَنْ تُرَاقَ الْخَمْرَةُ وَلَا تُخَلَّلُ . هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَتَامَى وَمَعَ كَوْنِ تِلْكَ الْخَمْرَةِ كَانَتْ مُتَّخَذَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً .

فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَأُمِرُوا بِذَلِكَ كَمَا أُمِرُوا بِكَسْرِ الْآنِيَةِ وَشَقِّ الظُّرُوفِ لِيَمْتَنِعُوا عَنْهَا . قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَرِدْ بَعْدَ هَذَا نَصٌّ يَنْسَخُهُ . الثَّانِي : أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَمِلُوا بِهَذَا . كَمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَأْكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللَّهُ بِفَسَادِهَا وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ خَلِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ " . فَهَذَا عُمَرُ يَنْهَى عَنْ خَلِّ الْخَمْرِ الَّتِي قَصَدَ إفْسَادَهَا وَيَأْذَنُ فِيمَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا وَيُرَخِّصُ فِي اشْتِرَاءِ خَلِّ الْخَمْرِ . مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُفْسِدُونَ خَمْرَهُمْ وَإِنَّمَا يَتَخَلَّلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ . وَفِي قَوْلِ عُمَرَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ الصَّحَابَةُ كَانُوا أَطْوَعَ النَّاسِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِهَذَا لَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ الْخَمْرُ أَرَاقُوهَا فَإِذَا كَانُوا مَعَ هَذَا قَدْ نُهُوا عَنْ تَخْلِيلِهَا وَأُمِرُوا بِإِرَاقَتِهَا فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَوْلَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُمْ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَلَّظَ عَلَى النَّاسِ الْعُقُوبَةَ فِي شُرْبِ

الْخَمْرِ حَتَّى كَانَ يَنْفِي فِيهَا لِأَنَّ أَهْلَ زَمَانِهِ كَانُوا أَقَلَّ اجْتِنَابًا لَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَكَيْفَ يَكُونُ زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَهُ أَقَلُّ اجْتِنَابًا لِلْمَحَارِمِ فَكَيْفَ تُسَدُّ الذَّرِيعَةُ عَنْ أُولَئِكَ الْمُتَّقِينَ وَتُفْتَحُ لِغَيْرِهِمْ وَهُمْ أَقَلُّ تَقْوَى مِنْهُمْ . وَأَمَّا مَا يُرْوَى : " خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ " فَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ وَلَكِنْ هُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ خَلَّ الْخَمْرِ لَا يَكُونُ فِيهَا مَاءٌ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الَّذِي بَدَأَ اللَّهُ بِقَلْبِهِ . وَأَيْضًا فَكُلُّ خَمْرٍ يُعْمَلُ مِنْ الْعِنَبِ بِلَا مَاءٍ فَهُوَ مِثْلُ خَلِّ الْخَمْرِ . وَقَدْ وَصَفَ الْعُلَمَاءُ عَمَلَ الْخَلِّ : أَنَّهُ يُوضَعُ أَوَّلًا فِي الْعِنَبِ شَيْءٌ يُحَمِّضُهُ حَتَّى لَا يَسْتَحِيلَ أَوَّلًا خَمْرًا . وَلِهَذَا تَنَازَعُوا فِي خَمْرَةِ الْخِلَالِ : هَلْ يَجِبُ إرَاقَتُهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ إرَاقَتِهَا كَغَيْرِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ خَمْرَةٌ مُحْتَرَمَةٌ وَلَوْ كَانَ لِشَيْءِ مِنْ الْخَمْرِ حُرْمَةٌ لَكَانَتْ لِخَمْرِ الْيَتَامَى الَّتِي اُشْتُرِيَتْ لَهُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا وَلَا يَكُونُ فِي بَيْتِ مُسْلِمٍ خَمْرٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي التَّخْلِيلِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّخْلِيلَ إصْلَاحٌ لَهَا كَدِبَاغِ الْجِلْدِ النَّجِسِ . وَبَعْضُهُمْ قَالَ : اقْتِنَاؤُهَا لَا يَجُوزُ : لَا لِتَخْلِيلِ وَلَا غَيْرِهِ . لَكِنْ

إذَا صَارَتْ خَلًّا فَكَيْفَ تَكُونُ نَجِسَةً وَبَعْضُهُمْ قَالَ : إذَا أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ تَنَجَّسَ أَوَّلًا ثُمَّ تَنَجَّسَتْ بِهِ ثَانِيًا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُلْقَ فِيهَا شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ . وَأَمَّا أَهْلُ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ فَقَالُوا : قَصْدُ الْمُخَلِّلِ لِتَخْلِيلِهَا هُوَ الْمُوجِبُ لِتَنْجِيسِهَا فَإِنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْ اقْتِنَائِهَا وَأُمِرَ بِإِرَاقَتِهَا فَإِذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ كَانَ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا . وَغَايَةُ مَا يَكُونُ تَخْلِيلُهَا كَتَذْكِيَةِ الْحَيَوَانِ وَالْعَيْنِ إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَمْ تَصِرْ مُحَلَّلَةً بِالْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْحَيَوَانُ مُحَرَّمًا قَبْلَ التَّذْكِيَةِ وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِالتَّذْكِيَةِ فَلَوْ ذَكَّاهُ تَذْكِيَةً مُحَرَّمَةً مِثْلُ أَنْ يُذَكِّيَهُ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّة مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ . أَوَّلًا يَقْصِدُ ذَكَاتَهُ . أَوْ يَأْمُرُ وَثَنِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا بِتَذْكِيَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ . وَكَذَلِكَ الصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لَمْ يَصِرْ ذَكِيًّا فَالْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ تَكُونُ طَاهِرَةً حَلَالًا فِي حَالٍ وَتَكُونُ حَرَامًا نَجِسَةً فِي حَالٍ . تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْفَاعِلِ : كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ . وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الذَّبِيحَةِ بِالْمُحَدَّدِ وَغَيْرِهِ . وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ وَغَيْرِهِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ . وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْفَاعِلِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ مَا قُصِدَ تَذْكِيَتُهُ وَمَا قُصِدَ قَتْلُهُ . حَتَّى إنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إذَا ذَكَّى الْحَلَالُ صَيْدًا أُبِيحَ لِلْحَلَالِ دُونَ الْمُحْرِمِ فَيَكُونُ حَلَالًا طَاهِرًا فِي حَقِّ هَذَا

حَرَامًا نَجِسًا فِي حَقِّ هَذَا وَانْقِلَابُ الْخَمْرِ إلَى الْخَلِّ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِثْلُ مَا كَانَ ذَلِكَ مَحْظُورًا فَإِذَا قَصَدَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يَصِرْ الْخَلُّ بِهِ حَلَالًا وَلَا طَاهِرًا كَمَا لَمْ يَصِرْ لَحْمُ الْحَيَوَانِ حَلَالًا طَاهِرًا بِتَذْكِيَةِ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ . وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ مَتَى عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ قَصَدَ تَخْلِيلَهَا لَمْ تُشْتَرَ مِنْهُ وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ جَازَ اشْتِرَاؤُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ صَاحِبَ الْخَمْرِ لَا يَرْضَى أَنْ يُخَلِّلَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الزَّيْت إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِثْلُ الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا وَمَاتَتْ فِيهِ . هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قِيلَ يَنْجُسُ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُكَاثَرَ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ أَمْ لَا ؟ . وَإِذَا قِيلَ تَجُوزُ الْمُكَاثَرَةُ هَلْ يَجُوزُ إلْقَاءُ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجِسِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ لَا فَرْقَ . وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْمُكَاثَرَةُ وَقِيلَ بِنَجَاسَتِهِ هَلْ لَهُمْ طَرِيقٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ مِثْلَ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ أَوْ غَسْلِهِ إذَا قِيلَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَتْ الْمِيَاهُ النَّجِسَةُ الْيَسِيرَةُ تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ هَلْ تَطْهُرُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ بِالْمُكَاثَرَةِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَائِعَاتِ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ : فَهَلْ تَنْجُسُ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ ؟ أَوْ تَكُونُ كَالْمَاءِ فَلَا تَنْجُسُ مُطْلَقًا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ ؟ أَوْ لَا يَنْجُسُ الْكَثِيرُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا إذَا بَلَغَتْ قُلَّتَيْنِ . فِيهِ عَنْ أَحْمَد ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهُنَّ أَنَّهَا تَنْجُسُ وَلَوْ مَعَ الْكَثْرَةِ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهَا كَالْمَاءِ . سَوَاءٌ كَانَتْ مَائِيَّةً أَوْ غَيْرَ مَائِيَّةٍ

وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ نَقَلَهُ المروذي عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَيُحْكَى ذَلِكَ لِأَحْمَد فَقَالَ : إنَّ أَبَا ثَوْرٍ شَبَّهَهُ بِالْمَاءِ ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ المروذي . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْمَاءِ وَمَذْهَبُهُمْ فِي الْمَائِعَاتِ مَعْرُوفٌ فِيهِ . فَإِذَا كَانَتْ مُنْبَسِطَةً بِحَيْثُ لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهَا بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ لَمْ تَنْجُسْ كَالْمَاءِ عِنْدَهُمْ . وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ : بِالْعَكْسِ . بِالْقُلَّتَيْنِ كَالشَّافِعِيِّ . وَالْقَوْلُ أَنَّهَا كَالْمَاءِ يُذْكَرُ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي يَسِيرِ النَّجَاسَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي الطَّعَامِ الْكَثِيرِ رِوَايَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي نَافِعٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحِبَابِ الَّتِي بِالشَّامِ لِلزَّيْتِ تَمُوتُ فِيهِ الْفَأْرَةُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ الزَّيْتَ قَالَ : وَلَيْسَ الزَّيْتُ كَالْمَاءِ . وَقَالَ ابْنُ الماجشون فِي الزَّيْتِ وَغَيْرِهِ تَقَعُ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَوْصَافَهُ وَكَانَ كَثِيرًا لَمْ يَنْجُسْ ؛ بِخِلَافِ مَوْتِهَا فِيهِ فَفَرَّقَ بَيْنَ مَوْتِهَا فِيهِ وَوُقُوعِهَا فِيهِ وَمَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ إلَّا السَّمْنَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ إلَّا إذَا بَالَ فِيهِ بَائِلٌ . وَالثَّالِثَةُ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَائِعِ الْمَائِيِّ . كَخَلِّ الْخَمْرِ وَغَيْرِ الْمَائِيِّ كَخَلِّ الْعِنَبِ فَيَلْحَقُ الْأَوَّلُ بِالْمَاءِ دُونَ الثَّانِي .

وَفِي الْجُمْلَةِ لِلْعُلَمَاءِ فِي الْمَائِعَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا كَالْمَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِنْ الْمَاءِ لِأَنَّهَا طَعَامٌ وَإِدَامٌ فَإِتْلَافُهَا فِيهِ فَسَادٌ وَلِأَنَّهَا أَشَدُّ إحَالَةً لِلنَّجَاسَةِ مِنْ الْمَاءِ أَوْ مُبَايِنَةٌ لَهَا مِنْ الْمَاءِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمَاءَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِنْهَا لِأَنَّهُ طَهُورٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَذَكَرْنَا حُجَّةَ مَنْ قَالَ : بِالتَّنْجِيسِ وَأَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ؛ وَبَيَّنَّا ضَعْفَ هَذَا الْحَدِيثِ . وَطَعَنَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِي وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّ وَالدَّارَقُطْنِي وَغَيْرُهُمْ فِيهِ وَأَنَّهُمْ بَيَّنُوا أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ . قَالَ أَبُو دَاوُد : ( بَابٌ فِي الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ { أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ } . وَقَالَ ثَنَا أَحْمَد بْنُ صَالِحٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ وَاللَّفْظُ لِلْحُسَيْنِ

قَالَا ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ } قَالَ الْحَسَنُ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ رُبَّمَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ أَبُو دَاوُد قَالَ أَحْمَد بْنُ صَالِحٍ : قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مردويه عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ . وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ : " بَابٌ مَا جَاءَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ " حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو عَمَّارٍ قَالَا : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ { أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ فَسُئِلَ عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ } . قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ مَيْمُونَةَ . وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَصَحُّ .

وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ وَهُوَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ . قَالَ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا خَطَأٌ . قَالَ : وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ . قُلْت : وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ هَذَا الَّذِي خَطَّأَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ إنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ . كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَسْنَدِهِ وَغَيْرُهُ وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ مَعْمَرًا كَانَ يَرْوِيهِ أَحْيَانًا مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ فَكَانَ يَضْطَرِبُ فِي إسْنَادِهِ . كَمَا اضْطَرَبَ فِي مَتْنِهِ . وَخَالَفَ فِيهِ الْحُفَّاظَ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رَوَوْهُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَمَعْمَرٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْغَلَطِ وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَلَا يُعْرَفُ مِنْهُ غَلَطٌ فَلِهَذَا بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ مَا دَلَّ عَلَى خَطَأِ مَعْمَرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : " بَابٌ إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ " ثَنَا الحميدي ثَنَا سُفْيَانُ ثَنَا الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ عَنْ مَيْمُونَةَ : { أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ

فَمَاتَتْ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا - فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ } . قِيلَ لِسُفْيَانَ : فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا سَمِعْت الزُّهْرِيَّ يَقُولُهُ إلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ سَمِعْته مِنْهُ مِرَارًا . ثَنَا عبدان ثنا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ أَوْ السَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ - الْفَأْرَةُ أَوْ غَيْرُهَا - قَالَ : { بَلَغَنَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِفَأْرَةِ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ ثُمَّ أَكَلَ } - مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ كَمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَة . وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَة بِسَنَدِهِ وَلَفْظُهُ . وَأَمَّا مَعْمَرٌ فَاضْطَرَبَ فِيهِ فِي سَنَدِهِ وَلَفْظِهِ فَرَوَاهُ تَارَةً عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَقَالَ فِيهِ { وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ } . وَقِيلَ عَنْهُ : { وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ } وَاضْطُرِبَ عَلَى مَعْمَرٍ فِيهِ وَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حَدِيثَ مَعْمَرٍ مَحْفُوظٌ فَعَمِلُوا بِهِ وَمِمَّنْ يُثْبِتُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذهلي فِيمَا جَمَعَهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ . وَكَذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ أَحْمَد لَمَّا أَفْتَى بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْجَامِدِ

وَالْمَائِعِ وَكَانَ أَحْمَد يَحْتَجُّ أَحْيَانًا بِأَحَادِيثَ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ كَاحْتِجَاجِهِ بِقَوْلِهِ : { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ فَاسْتَدَلَّ بِغَيْرِهِ . وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَعَلَّلُوا حَدِيثَ مَعْمَرٍ وَبَيَّنُوا غَلَطَهُ وَالصَّوَابُ مَعَهُمْ . فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة : أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْته مِنْ الزُّهْرِيِّ مِرَارًا لَا يَرْوِيهِ إلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ إلَّا قَوْلُهُ : { أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ } وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ وَغَيْرِهِ فَأَفْتَى { بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِفَأْرَةِ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ } فَهَذِهِ فُتْيَا الزُّهْرِيِّ فِي الْجَامِدِ وَغَيْرِ الْجَامِدِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ رَوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ يَحْتَجُّ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ النَّوْعَيْنِ بِالْحَدِيثِ وَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى وَالزُّهْرِيُّ أَحْفَظُ أَهْلِ زَمَانِهِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ فِي حَدِيثٍ وَلَا نِسْيَانٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَكْثَرُ حَدِيثًا مِنْهُ . وَيُقَالُ : إنَّهُ حَفِظَ عَلَى الْأُمَّةِ تِسْعِينَ سَنَةً لَمْ يَأْتِ بِهَا غَيْرُهُ وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كِتَابًا مِنْ حِفْظِهِ ثُمَّ اسْتَعَادَهُ مِنْهُ بَعْدَ عَامٍ فَلَمْ يَخُطَّ مِنْهُ حَرْفًا . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ إلَّا نِسْيَانُ الزُّهْرِيِّ أَوْ مَعْمَرٍ لَكَانَ نِسْبَةُ النِّسْيَانِ إلَى مَعْمَرٍ أَوْلَى بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ

بِالرِّجَالِ مَعَ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى نِسْيَانِ مَعْمَرٍ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَعْمَرًا كَثِيرُ الْغَلَطِ عَلَى الزُّهْرِيِّ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا حَدَّثَهُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةً . فَقَالَ أَحْمَد : هَكَذَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرٌ بِالْبَصْرَةِ وَحَدَّثَهُمْ بِالْبَصْرَةِ مَنْ حَفِظَهُ وَحَدَّثَ بِهِ بِالْيَمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِالِاسْتِقَامَةِ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّ مَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ بِالْبَصْرَةِ فَفِيهِ أَغَالِيطُ وَهُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ الَّذِينَ رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هُمْ الْبَصْرِيُّونَ . كَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى الشَّامِيِّ وَالِاضْطِرَابُ فِي الْمَتْنِ ظَاهِرٌ . فَإِنَّ هَذَا يَقُولُ : " إنْ كَانَ ذَائِبًا أَوْ مَائِعًا لَمْ يُؤْكَلْ " وَهَذَا يَقُولُ : " وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَنْتَفِعُوا بِهِ وَاسْتَصْبِحُوا بِهِ " وَهَذَا يَقُولُ " فَلَا تَقْرَبُوهُ " وَهَذَا يَقُولُ : " فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤْخَذَ وَمَا حَوْلَهَا فَتُطْرَحُ " فَأَطْلَقَ الْجَوَابَ . وَلَمْ يَذْكُرْ التَّفْصِيلَ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ مِنْ كِتَابٍ بِلَفْظِ مَضْبُوطٍ وَإِنَّمَا رَوَاهُ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ مِنْ الْمَعْنَى فَغَلِطَ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ : " وَإِنْ

كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ " فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْقَلِيلِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ كَالسَّمْنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ السَّائِلِ سَمْنٌ فَوْقَ قُلَّتَيْنِ يَقَعُ فِيهِ فَأْرَةٌ حَتَّى يُقَالَ فِيهِ : تَرْكُ الاستفصال فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ بَلْ السَّمْنُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَوْعِيَتِهِمْ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ قَلِيلًا فَلَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَمْ يَدُلّ إلَّا عَلَى نَجَاسَةِ الْقَلِيلِ . فَإِنَّ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةَ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا لَا نَصٌّ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ . وَعُمْدَةُ مَنْ يُنَجِّسُهُ يَظُنُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ سَرَتْ فِيهِ كُلِّهِ فَنَجَّسَتْهُ . وَقَدْ عُرِفَ فَسَادُ هَذَا وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِطَرْدِهِ فَإِنَّ طَرْدَهُ يُوجِبُ نَجَاسَةَ الْبَحْرِ بَلْ الَّذِينَ قَالُوا ؛ هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ : مِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الْآخَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ الْمُسْتَثْنَى بِمَشَقَّةِ التَّنْجِيسِ وَبَعْضُهُمْ بِعَدَمِ وُصُولِ النَّجَاسَةِ إلَى الْكَثِيرِ وَبَعْضُهُمْ بِتَعَذُّرِ التَّطْهِيرِ وَهَذِهِ الْعِلَلُ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَثِيرِ مِنْ الْأَدْهَانِ : فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَبِّ الْعَظِيمِ قَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ مِنْ الزَّيْتِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ صِيَانَتُهُ عَنْ الْوَاقِعِ وَالدُّورُ وَالْحَوَانِيتُ مَمْلُوءَةٌ مِمَّا لَا يُمْكِنُ صِيَانَتُهُ كَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِ فَالْعُسْرُ وَالْحَرَجُ بِتَنْجِيسِ هَذَا عَظِيمٌ جِدًّا .

وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ بِتَنْجِيسِ الْكَثِيرِ أَثَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ . وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَنْجِيسِ الْكَثِيرِ . وَأَمَّا الْقَلِيلُ فَإِنَّهُ ظَنَّ صِحَّةَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ فَأَخَذَ بِهِ . وَقَدْ اطَّلَعَ غَيْرُهُ عَلَى الْعِلَّةِ الْقَادِحَةِ فِيهِ وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَمْ يَقُلْ بِهِ ؛ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَانَ يَأْخُذُ بِحَدِيثِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ ضَعْفُهُ فَيَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ وَقَدْ يَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَتَبَيَّنَ صِحَّتُهُ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّتُهُ أَخَذَ بِهِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَلِظَنِّهِ صِحَّتَهُ عَدَلَ إلَيْهِ عَمَّا رَآهُ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . فَرَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَبِيهِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ : ثَنَا أَبِي ثَنَا إسْمَاعِيلُ ثَنَا عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ قَالَ : تُؤْخَذُ الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا . قُلْت : يَا مَوْلَانَا فَإِنَّ أَثَرَهَا كَانَ فِي السَّمْنِ كُلِّهِ قَالَ : عَضِضْت بهن أَبِيك إنَّمَا كَانَ أَثَرُهَا بِالسَّمْنِ وَهِيَ حَيَّةٌ وَإِنَّمَا مَاتَتْ حَيْثُ وُجِدَتْ . ثنا أَبِي ثنا وَكِيعٌ ثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنْ جَرٍّ فِيهِ زَيْتٌ وَقَعَ فِيهِ جُرَذٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : خُذْهُ وَمَا حَوْلَهُ فَأَلْقِهِ وَكُلْهُ . قُلْت : أَلَيْسَ جَالَ فِي الْجَرِّ كُلَّهُ ؟ قَالَ : إنَّهُ جَالَ وَفِيهِ الرُّوحُ فَاسْتَقَرَّ حَيْثُ مَاتَ . وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ صَالِحٍ قَالَ : ثَنَا أَبِي ثنا وَكِيعٌ ثنا سُفْيَانُ عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي

الْأَسْوَدِ الدؤلي . قَالَ : سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا وَدَمُهَا . قُلْت : فَهَذِهِ فَتَاوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالزُّهْرِيِّ مَعَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ رَاوِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ ثُمَّ إنَّ قَوْلَ مَعْمَرٍ فِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فَلَا تَقْرَبُوهُ مَتْرُوكٌ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ يُجَوِّزُونَ الِاسْتِصْبَاحَ بِهِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُجَوِّزُ بَيْعَهُ أَوْ تَطْهِيرَهُ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ : { فَلَا تَقْرَبُوهُ } . وَمَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ يَقُولُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } احْتِرَازٌ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْإِنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَجَّسُ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِمَاءِ يَتَنَجَّسُ فَإِنَّ الْهَوَاءَ وَنَحْوَهُ لَا يَتَنَجَّسُ وَلَيْسَ بِمَاءِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ احْتِرَازٌ عَنْ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ يَجْنُبُ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِمَاءِ يَجْنُبُ وَلَكِنْ خُصَّ الْمَاءُ بِالذِّكْرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ فَإِنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ اغْتَسَلَتْ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَوَضَّأَ بِسُؤْرِهَا فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ جُنُبًا فَقَالَ : { إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ } مَعَ أَنَّ الثَّوْبَ لَا يَجْنُبُ وَالْأَرْضَ لَا تَجْنُبُ وَتَخْصِيصُ الْمَاءِ بِالذِّكْرِ لِمُفَارَقَةِ الْبَدَنِ لَا لِمُفَارَقَةِ كُلِّ شَيْءٍ وَكَذَلِكَ قَالُوا : لَهُ { أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة . وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى

فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } فَنَفَى عَنْهُ النَّجَاسَةَ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ كَمَا نَفَى عَنْهُ الْجَنَابَةَ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ . وَالنَّجَاسَاتُ مِنْ الْخَبَائِثِ فَالْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لِلْخَبِيثِ .
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ : وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ فَهَلْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ تَنَجُّسُهُ لِاخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ إلَى حَيْثُ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى تَطْهِيرِهِ أَوْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ طَهَارَتُهُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا لِلْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الْأَصْلُ النَّجَاسَةُ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بِنَاءً عَلَى أَنَّ اخْتِلَاطَ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ يُوجِبُ تَحْرِيمَهُمَا جَمِيعًا . ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ طَرَدُوا ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ . قَالُوا : لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَبْلُغُهُ إذَا بَلَغَتْهُ الْحَرَكَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ طَرْدُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ تَنْجِيسُ الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَطْرُدُوا ذَلِكَ فِيمَا

إذَا كَانَ الْمَاءُ عَمِيقًا . وَمِسَاحَتُهُ قَلِيلَةٌ ثُمَّ إذَا تَنَجَّسَ الْمَاءُ : فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَطْهُرَ بِنَزْحِ فَيَجِبُ طَمُّ الْآبَارِ الْمُتَنَجِّسَةِ وَطَرَدَ هَذَا الْقِيَاسَ بِشْرٌ المريسي . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا : بِالتَّطْهِيرِ بِالنَّزْحِ اسْتِحْسَانًا إمَّا بِنَزْحِ الْبِئْرِ كُلِّهَا إذَا كَبُرَ الْحَيَوَانُ أَوْ تَفَسَّخَ وَإِمَّا بِنَزْحِ بَعْضِهَا إذَا صَغُرَ بِدِلَاءِ ذَكَرُوا عَدَدَهَا فَمَا أَمْكَنَ طَرْدُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ . وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد قَالُوا : بِطَهَارَةِ مَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ : لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفَلَوَاتِ وَالْغُدْرَانِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ صِيَانَتُهَا عَنْ النَّجَاسَةِ فَجَعَلُوا طِهَارَةَ ذَلِكَ رُخْصَةً لِأَجْلِ الْحَاجَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : إنَّ الْبَوْلَ وَالْعَذِرَةَ الرَّطْبَةَ لَا يَنْجُسُ بِهِمَا إلَّا مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ تَرَكَ طَرْدَ الْقِيَاسِ . لِأَنَّ مَا يَتَعَذَّرُ نَزْحُهُ يَتَعَذَّرُ تَطْهِيرُهُ فَجُعِلَ تَعَذُّرُ التَّطْهِيرِ مَانِعًا مِنْ التَّنَجُّسِ . فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَغَيْرُهَا مِنْ مَقَالَاتِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ : تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَطْرُدْهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَنَّ كُلَّهُمْ خَالَفُوا فِيهِ الْقِيَاسَ رُخْصَةً وَأَبَاحُوا مَا تُخَالِطُهُ النَّجَاسَاتُ مِنْ الْمِيَاهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الْخَاصَّةِ . وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي : فَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُنَجَّسَ الْمَاءُ حَتَّى

يَتَغَيَّرَ كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ كَمَالِكِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْقَاضِي أَبِي خَازِمٍ مَعَ قَوْلِهِ : إنَّ الْقَلِيلَ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ وَأَمَّا ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْمُنَى وَابْنُ الْمُظَفَّرِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَأَبُو نَصْرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَنَصَرُوا هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَالرِّوَايَةِ الْمُوَافِقَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْمَحَاسِنِ الروياني وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : وَدِدْت أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمِيَاهِ كَانَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَكَلَامُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَنْجُسُ ؟ وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ } ضَعِيفٌ ؟ فَأَجَابَ : بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ . وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَإِذَا ظَهَرَ فِي الْمَاءِ طَعْمُ الدَّمِ أَوْ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ لِذَلِكَ مُسْتَعْمِلًا لِهَذِهِ الْخَبَائِثِ وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ التَّحْرِيمَ مُطْلَقًا لَمْ يَخُصَّ صُورَةَ التَّحْرِيمِ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَبَائِثَ الَّتِي هِيَ الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ فِي الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ وَاسْتُهْلِكَتْ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ دَمٌ وَلَا مَيْتَةٌ وَلَا لَحْمُ خِنْزِيرٍ

أَصْلًا . كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا اُسْتُهْلِكَتْ فِي الْمَائِعِ لَمْ يَكُنْ الشَّارِبُ لَهَا شَارِبًا لِلْخَمْرِ وَالْخَمْرَةُ إذَا اسْتَحَالَتْ بِنَفْسِهَا وَصَارَتْ خَلًّا كَانَتْ طَاهِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ النَّجَاسَةَ إذَا اسْتَحَالَتْ طَهُرَتْ أَقْوَى . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فَإِنَّ انْقِلَابَ النَّجَاسَةِ مِلْحًا وَرَمَادًا وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ كَانْقِلَابِهَا مَاءً فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَسْتَحِيلَ رَمَادًا أَوْ مِلْحًا أَوْ تُرَابًا أَوْ مَاءً أَوْ هَوَاءً وَنَحْوَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ . وَهَذِهِ الْأَدْهَانُ وَالْأَلْبَانُ وَالْأَشْرِبَةُ الْحُلْوَةُ وَالْحَامِضَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثَةِ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ وَاسْتَحَالَتْ فِيهَا فَكَيْفَ يَحْرُمُ الطَّيِّبُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ الَّذِي قَالَ : إنَّهُ إذَا خَالَطَهُ الْخَبِيثُ وَاسْتُهْلِكَ فِيهِ وَاسْتَحَالَ قَدْ حَرُمَ ؟ وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ بِئْرِ بضاعة لَمَّا ذُكِرَ لَهُ أَنَّهَا يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَالَ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ : { لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . فَقَوْلُهُ : { لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } بَيَّنَ أَنَّ تَنْجِيسَهُ بِأَنْ يَحْمِلَ الْخَبَثَ أَيْ بِأَنْ يَكُونَ الْخَبَثُ فِيهِ مَحْمُولًا وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مَعَ اسْتِحَالَةِ الْخَبَثِ لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ .

فَصْلٌ :
وَإِذَا عُرِفَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا ؛ كَالْخَمْرِ لَمَّا كَانَ الْمُوجِبُ لِتَحْرِيمِهَا وَنَجَاسَتِهَا هِيَ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ فَإِذَا زَالَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ طَهُرَتْ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا زَالَتْ بِقَصْدِ الْآدَمِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ . كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَا تَأْكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللَّهُ بِفَسَادِهَا " وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ خَلَّ خَمْرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فَسَادَهَا . وَذَلِكَ لِأَنَّ اقْتِنَاءَ الْخَمْرِ مُحَرَّمٌ فَمَتَى قَصَدَ بِاقْتِنَائِهَا التَّخْلِيلَ كَانَ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَالْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ وَأَمَّا إذَا اقْتَنَاهَا لِشُرْبِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا خَمْرًا فَهُوَ لَا يُرِيدُ تَخْلِيلَهَا وَإِذَا جَعَلَهَا اللَّهُ خَلًّا كَانَ مُعَاقَبَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَلَا يَكُونُ فِي حِلِّهَا وَطَهَارَتِهَا مَفْسَدَةٌ . وَأَمَّا سَائِرُ النَّجَاسَاتِ فَيَجُوزُ التَّعَمُّدُ لِإِفْسَادِهَا ؛ لِأَنَّ إفْسَادَهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ . كَمَا لَا يُحَدُّ شَارِبُهَا ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا يُخَافُ عَلَيْهَا بِمُقَارَبَتِهَا الْمَحْظُورَ كَمَا يُخَافُ مِنْ مُقَارَبَةِ الْخَمْرِ ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَ الْجُمْهُورُ أَنْ تُدْبَغَ

جُلُودُ الْمَيْتَةِ وَجَوَّزُوا أَيْضًا إحَالَةَ النَّجَاسَةِ بِالنَّارِ وَغَيْرِهَا وَالْمَاءُ لِنَجَاسَتِهِ سَبَبَانِ : أَحَدُهُمَا : مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ بِالنَّجَاسَةِ فَمَتَى كَانَ الْمُوجِبُ لِنَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرَ فَزَالَ التَّغَيُّرُ كَانَ طَاهِرًا . كَالثَّوْبِ الْمُضَمَّخِ بِالدَّمِ إذَا غُسِلَ عَادَ طَاهِرًا . وَالثَّانِي : الْقُلَّةُ : فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَفِي نَجَاسَتِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُ يُنَجَّسُ مَا دُونُ الْقُلَّتَيْنِ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ يُسْتَثْنَى الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ الْمَائِعَةُ فَيُجْعَلُ مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ نَجِسًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يُنَجَّسُ مَا وَصَلَتْ إلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّهُ لَا يُنَجَّسُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ وَاخْتَارَ هَذَا الْأَوَّلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ وَقَدْ نَصَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَمَا نَصَرَ الْأُولَى طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ قَالُوا : إنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ يُنَجَّسُ بِقَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يَحُدُّوا ذَلِكَ بِقُلَّتَيْنِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ فَهَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد قَالَ فِي الْمَائِعَاتِ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ . فَهَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا مِنْ الْمَائِعَاتِ

إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ؛ لَكِنْ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَد اعْتِبَارُ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْمَاءِ . وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ إذَا سُوِّيَتْ بِهِ . فَنَقُولُ : إذَا وَقَعَ فِي الْمَائِعِ الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ فَصُبَّ عَلَيْهِ مَائِعٌ كَثِيرٌ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ طَاهِرًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا وَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ قَلِيلٌ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَصَارَ الْجَمِيعُ كَثِيرًا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَاءِ أَنَّ الْجَمِيعَ طَاهِرٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَاهِرًا حَتَّى يَكُونَ الْمُضَافُ كَثِيرًا . وَالْمُكَاثَرَةُ الْمُعْتَبَرَةُ أَنْ يُصَبَّ الطَّاهِرُ عَلَى النَّجِسِ وَلَوْ صُبَّ النَّجِسُ عَلَى الطَّاهِرِ الْكَثِيرِ كَانَ كَمَا لَوْ صُبَّ الْمَاءُ النَّجِسُ عَلَى مَاءٍ كَثِيرٍ طَاهِرٍ أَيْضًا وَذَلِكَ مُطَهِّرٌ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا وَإِنْ صُبَّ الْقَلِيلُ الَّذِي لَاقَتْهُ النَّجَاسَةُ عَلَى قَلِيلٍ لَمْ تُلَاقِهِ النَّجَاسَةُ - وَكَانَ الْجَمِيعُ كَثِيرًا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ - كَانَ كَالْمَاءِ الْقَلِيلِ إذَا ضُمَّ إلَى الْقَلِيلِ وَفِي ذَلِكَ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ الْمَاءِ هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ لَوْ نُجِّسَ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْ تَنْجِيسُ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ وَلِهَذَا أَمَرَ مَالِكٌ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ

الْكَلْبُ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَاسْتَعْظَمَ إرَاقَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا ثَمَنَ لَهُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ أَشْرِبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَطْعِمَتِهِمْ فَإِنَّ فِي نَجَاسَتِهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالضِّيقِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ رَفْعَ الْحَرَجِ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِذَا لَمْ يُنَجِّسُوا الْمَاءَ الْكَثِيرَ رَفْعًا لِلْحَرَجِ . فَكَيْفَ يُنَجِّسُونَ نَظِيرَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ ؟ وَالْحَرَجُ فِي هَذَا أَشَقُّ وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا تَكَادُ تَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : الْمَاءُ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ غَيْرِهِ فَعَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِخِلَافِ الْمَائِعَاتِ . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُزِيلُهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَتَنْتَقِلُ مَعَهُ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْمَحَلِّ نَجَاسَةٌ وَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَإِنَّمَا كَانَ طَاهِرًا لِاسْتِحَالَتِهَا فِيهِ لَا لِكَوْنِهِ أَزَالَهَا عَنْ نَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ فِي الْإِزَالَةِ وَهِيَ كَالْمَاءِ فِي التَّنْجِيسِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَاءِ يُزِيلُهَا إذَا زَالَتْ مَعَهُ أَنْ يُزِيلَهَا إذَا كَانَتْ فِيهِ .
وَنَظِيرُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ الْغُسَالَةُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْ الْمَحَلِّ

وَتِلْكَ نَجِسَةٌ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ . وَفِيهَا بَعْدَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : هَلْ هِيَ طَاهِرَةٌ أَوْ مُطَهِّرَةٌ أَوْ نَجِسَةٌ ؟ . وَأَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : الْمَاءُ يُنَجَّسُ بِوُقُوعِهَا فِيهِ وَإِنْ كَانَ يُزِيلُهَا عَنْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا كَانَتْ النُّصُوصُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْوُقُوعِ مَعَ الْكَثْرَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَقَوْلُهُ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } فَإِنَّهُ إذَا كَانَ طَهُورًا يُطَهَّرُ بِهِ غَيْرُهُ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنَجَّسُ بِالْمُلَاقَاةِ . إذْ لَوْ نُجِّسَ بِهَا لَكَانَ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ يُنَجَّسُ بِمُلَاقَاتِهَا فَحِينَئِذٍ لَا يُنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ؛ لَكِنْ إنْ بَقِيَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ حَرَّمَتْ وَإِنْ اسْتَحَالَتْ زَالَتْ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْتِحَالَةَ النَّجَاسَةِ بِمُلَاقَاتِهِ لَهَا فِيهِ لَا يُنَجِّسُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ زَالَتْ كَمَا زَالَتْ عَنْ الْمَحَلِّ . فَإِنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يُزِيلُهَا عَنْ غَيْرِهِ فَقَدْ خَالَفَ الْمُشَاهَدَةَ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ مَنَّ الْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا . الْوَجْهُ الثَّانِي ؛ أَنْ يُقَالَ غَايَةُ هَذَا أَنْ يَقْتَضِيَ أَنَّهُ يُمْكِنُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعِ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ . وَأَحْمَد جَعَلَهُ لَازِمًا لِمَنْ قَالَ : إنَّ الْمَائِعَ لَا يُنَجَّسُ

بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَقَالَ : يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ تُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَاءِ فَيَلْزَمُ جَوَازُ إزَالَتِهِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ لِلْعَيْنِ قَلَّاعٍ لِلْأَثَرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فَنَقُولُ بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ . وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ دَفْعُهَا عَنْ غَيْرِهِ لِكَوْنِ الْإِحَالَةِ أَقْوَى مِنْ الْإِزَالَةِ فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ أَنْ تَكُونَ الْمَائِعَاتُ كَالْمَاءِ فَإِذَا كَانَ الصَّحِيحُ فِي الْمَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مَعَ الْكَثْرَةِ - فَكَذَلِكَ الصَّوَابُ فِي الْمَائِعَاتِ . وَفِي الْجُمْلَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ مُمْكِنٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَهَذَا مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَاتِ وَفِي مَسْأَلَةِ مُلَاقَاتِهَا لِلْمَائِعَاتِ الْمَاءِ وَغَيْرِ الْمَاءِ . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا وَالْمَعَانِيَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ بِدُونِ التَّغَيُّرِ بَعِيدٌ عَنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ وَكَوْنُ حُكْمِ النَّجَاسَةِ يَبْقَى فِي مَوَارِدِهَا بَعْدَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِمَائِعِ أَوْ غَيْرِ مَائِعٍ بَعِيدٌ عَنْ الْأُصُولِ وَمُوجِبُ الْقِيَاسِ . وَمَنْ كَانَ فَقِيهًا خَبِيرًا بِمَآخِذِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَزَالَ عَنْهُ الْهَوَى

تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ إذَا كَانَ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَسَادٌ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ : كَمَا يُنْهَى عَنْ ذَبْحِ الْخَيْلِ الَّتِي يُجَاهَدُ عَلَيْهَا وَالْإِبِلِ الَّتِي يُحَجُّ عَلَيْهَا . وَالْبَقَرُ الَّتِي يُحْرَثُ عَلَيْهَا . وَنَحْوِ ذَلِكَ . لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لَا لِأَجْلِ الْخَبَثِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ فَنَفِدَتْ أَزْوَادُهُمْ فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي نَحْرِ الظَّهْرِ فَأَذِنَ لَهُمْ ثُمَّ أَتَى عُمَرُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ الْأَزْوَادَ فَيَدْعُو اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ فِيهَا وَيَبْقَى الظَّهْرُ فَفَعَلَ ذَلِكَ } فَنَهْيُهُ لَهُمْ عَنْ نَحْرِ الظَّهْرِ كَانَ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ لِلرُّكُوبِ ؛ لَا لِأَنَّ الْإِبِلَ مُحَرَّمَةٌ . فَهَكَذَا يُنْهَى فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِهَا كَمَا يُنْهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِمَا لَهُ حُرْمَةٌ مِنْ طَعَامِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَلَفِ دَوَابِّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهَا بَلْ لِحُرْمَتِهَا فَالْقَوْلُ فِي الْمَائِعَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الْجَامِدَاتِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ إحَالَةُ الْمَائِعَاتِ لِلنَّجَاسَةِ إلَى طَبْعِهَا أَقْوَى مِنْ إحَالَةِ الْمَاءِ وَتَغَيُّرُ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَاتِ أَسْرَعُ مِنْ تَغَيُّرِ الْمَائِعَاتِ فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ لِاسْتِحَالَتِهَا إلَى طَبِيعَتِهِ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى وَأَحْرَى . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْمَاءِ وَالْمَائِعِ طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رِيحٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنْ يُقَالَ بِنَجَاسَتِهِ أَصْلًا كَمَا فِي الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ أَوْ

أَبْلَغُ وَطُرِدَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الِاسْتِحَالَةِ . فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ مِنْ النَّجَاسَاتِ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ دَفْعَ الْمَائِعَاتِ لِلنَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهَا كَدَفْعِ الْمَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ بَلْ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي التُّرَابِ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي النَّجَاسَةِ إذَا أَصَابَتْ الْأَرْضَ وَذَهَبَتْ بِالشَّمْسِ أَوْ الرِّيحِ أَوْ الِاسْتِحَالَةِ هَلْ تَطْهُرُ الْأَرْضُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَطْهُرُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الدَّلِيلِ . فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : { كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا فِي التُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } . وَكَانَ الصَّحَابَةُ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ يَخُوضُونَ فِي الْوَحْلِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ وَلَا يَغْسِلُونَ أَقْدَامَهُمْ . وَأَوْكَدُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذُيُولِ النِّسَاءِ إذَا أَصَابَتْ أَرْضًا طَاهِرَةً بَعْدَ أَرْضٍ خَبِيثَةٍ : { تِلْكَ بِتِلْكَ } وَقَوْلُهُ . { يُطَهِّرُهُ

مَا بَعْدَهُ } وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشالنجي الَّتِي شَرَحَهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجوزجاني وَهِيَ مِنْ أَجْلِ الْمَسَائِلِ . وَهَذَا لِأَنَّ الذُّيُولَ تَتَكَرَّرُ مُلَاقَاتُهَا لِلنَّجَاسَةِ فَصَارَتْ كَأَسْفَلِ الْخُفِّ وَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ . فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَ الْجَامِدَاتِ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ عَنْ غَيْرِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ . كَمَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ وَجَعَلَ الْجَامِدَ طَهُورًا عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ . وَإِذَا كَانَتْ الْجَامِدَاتُ لَا تَنْجُسُ بِمَا اسْتَحَالَ إلَيْهَا مِنْ النَّجَاسَةِ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى وَأَحْرَى لِأَنَّ إحَالَتَهَا أَشَدُّ وَأَسْرَعُ وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَوَاضِعُ غَيْرُ هَذَا . وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ الدُّهْنَ يَنْجُسُ بِمَا يَقَعُ فِيهِ : فَفِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَظْهَرُهُمَا : جَوَازُ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي طَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . أَحَدُهُمَا : يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ شريح وَأَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ شَعْبَانَ وَغَيْرُهُمْ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ . وَهَذَا النِّزَاعُ يَجْرِي فِي

الدُّهْنِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ بِلَا رَيْبٍ فَفِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ هَذَا النِّزَاعُ . وَكَذَلِكَ فِي غَسْلِهِ هَذَا النِّزَاعُ . وَأَمَّا بَيْعُهُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا مِنْ كَافِرٍ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَعَنْ أَحْمَد أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ كَافِرٍ إذَا أَعْلَمَ بِنَجَاسَتِهِ . كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ لَهُ بِجَوَازِ بَيْعِهِ مِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ كَمَا فَعَلَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ جَوَازَ بَيْعِهِ عَلَى جَوَازِ تَطْهِيرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَطْهِيرُهُ صَارَ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ وَالْإِنَاءِ النَّجِسِ وَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وِفَاقًا . وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَهُمْ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ إذَا قَالُوا : بِجَوَازِ تَطْهِيرِهِ وَجْهَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمَائِعَاتُ : كَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَدْهَانِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَغَيْرِهِمَا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مِثْلُ الْفَأْرَةِ الْمَيِّتَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ .

أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ الْمَاءِ وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَيُذْكَرُ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَاسَ الْمَاءَ عَلَى الْمَائِعَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَائِعَاتِ تُنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ : هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَائِعَاتِ الْمَائِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَخَلُّ التَّمْرِ يَلْحَقُ بِالْمَاءِ وَخَلُّ الْعِنَبِ لَا يَلْحَقُ بِهِ . وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ الزَّيْتُ كَثِيرًا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد فِي كَلْبٍ وَلَغَ فِي زَيْتٍ كَثِيرٍ . فَقَالَ : لَا يُنَجَّسُ . وَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ قَلِيلًا انْبَنَى عَلَى النِّزَاعِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ . فَمَنْ قَالَ . إنَّ الْقَلِيلَ لَا يُنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ قَالَ : ذَلِكَ فِي الزَّيْتِ وَغَيْرِهِ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الدَّوَابِّ . تَمُوتُ فِي سَمْنٍ أَوْ غَيْرِهِ مَنَّ الْأَدْهَانِ فَقَالَ : تُلْقَى وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلُ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ لِمَعْنًى سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمَائِعَ الْقَلِيلَ يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ قَالَ : إنَّهُ كَالْمَاءِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ كَمَا يَطْهُرُ الْمَاءُ بِالْمُكَاثَرَةِ فَإِذَا صُبَّ عَلَيْهِ زَيْتٌ كَثِيرٌ طَهُرَ الْجَمِيعُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تُنَجَّسُ كَمَا لَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ هُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ بَلْ هِيَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ الْمَاءِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَالْأَطْعِمَةُ وَالْأَشْرِبَةُ - مِنْ الْأَدْهَانِ وَالْأَلْبَانِ وَالزَّيْتِ وَالْخُلُولِ وَالْأَطْعِمَةِ الْمَائِعَةِ - هِيَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَنَا فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا صِفَةُ الْخَبَثِ : لَا طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَلَا رِيحُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ : كَانَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الطَّيِّبِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مِنْ الْخَبِيثِ الْمُحَرَّمَةِ مَعَ أَنَّ صِفَاتِهَا صِفَاتُ الطَّيِّبِ لَا صِفَاتُ الْخَبَائِثِ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبَائِثِ بِالصِّفَاتِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَهُمَا . وَلِأَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ حُرِّمَ هَذَا وَأُحِلَّ هَذَا وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَبُّ وَقَعَ فِيهِ قَطْرَةُ دَمٍ أَوْ قَطْرَةُ خَمْرٍ وَقَدْ اسْتَحَالَتْ وَاللَّبَنُ بَاقٍ عَلَى صِفَتِهِ وَالزَّيْتُ بَاقٍ عَلَى صِفَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَجْهٌ فَإِنَّ تِلْكَ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ وَاسْتَحَالَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا حَقِيقَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدَّمِ وَالْخَمْرِ . وَإِنَّمَا كَانَتْ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ مِنْ الْمَاءِ لِأَنَّ الشَّارِعَ رَخَّصَ فِي إرَاقَةِ الْمَاءِ وَإِتْلَافِهِ حَيْثُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي إتْلَافِ الْمَائِعَاتِ كَالِاسْتِنْجَاءِ فَإِنَّهُ يُسْتَنْجَى بِالْمَاءِ دُونَ هَذِهِ وَكَذَلِكَ إزَالَةُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ بِالْمَاءِ .

وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْمَائِعَاتِ فِي ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ : سَوَاءٌ قِيلَ تَزُولُ النَّجَاسَةُ أَوْ لَا تَزُولُ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْمَاءَ يُرَاقُ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ وَلَا تُرَاقُ آنِيَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَاءَ أَسْرَعُ تَغَيُّرًا بِالنَّجَاسَةِ مِنْ الْمِلْحِ وَالنَّجَاسَةُ أَشَدُّ اسْتِحَالَةً فِي غَيْرِ الْمَاءِ مِنْهَا فِي الْمَاءِ فَالْمَائِعَاتُ أَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ التَّنْجِيسِ حِسًّا وَشَرْعًا مِنْ الْمَاءِ فَحَيْثُ لَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى أَنْ لَا تُنَجَّسَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : { أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } . فَأَجَابَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا عَامًّا مُطْلَقًا بِأَنْ يُلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَأَنْ يَأْكُلُوا سَمْنَهُمْ وَلَمْ يستفصلهم هَلْ كَانَ مَائِعًا أَوْ جَامِدًا . وَتَرْكُ الاستفصال فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ . مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى سَمْنِ الْحِجَازِ أَنْ يَكُونَ ذَائِبًا . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا ذَائِبًا وَالْغَالِبُ عَلَى السَّمْنِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفْصِلْ هَلْ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ { إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .

قِيلَ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهَا ثَابِتَةٌ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدِينَ قَائِلِينَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ . وَقَدْ ضَعَّفَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذهلي حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ وَصَحَّحَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ؛ لَكِنْ قَدْ تَبَيَّنَ لِغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقَعَتْ خَطَأً فِي الْحَدِيثِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَبَيَّنَ لَنَا وَلِغَيْرِنَا وَنَحْنُ جَازِمُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ رَجَعْنَا عَنْ الْإِفْتَاءِ بِهَا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نُفْتِي بِهَا أَوَّلًا فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ قَدْ بَيَّنُوا لَنَا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَأَنَّ مَعْمَرًا غَلِطَ فِي رِوَايَتِهِ لَهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ وَكَانَ مَعْمَرٌ كَثِيرَ الْغَلَطِ والأثبات مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ : كَمَالِكِ . وَيُونُسَ وَابْنِ عُيَيْنَة خَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ نَفْسُهُ اضْطَرَبَتْ رِوَايَتُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إسْنَادًا وَمَتْنًا فَجَعَلَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ . وَفِي بَعْضِهَا فَلَا تَقْرَبُوهُ } . وَالْبُخَارِيُّ بَيَّنَ غَلَطَهُ فِي هَذَا بِأَنْ ذَكَرَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ يُونُسَ مِنْ الزُّهْرِيِّ نَفْسِهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : إنْ كَانَ

جَامِدًا أَوْ مَائِعًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا تُلْقَى وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : { أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } فَالزُّهْرِيُّ الَّذِي مَدَارُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ قَدْ أَفْتَى فِي الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ بِأَنْ تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلَ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ عَنْهُ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فَقَدْ غَلِطَ . وَأَيْضًا فَالْجُمُودُ والميعان أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ بَلْ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَطْعِمَةِ هَلْ تَلْحَقُ بِالْجَامِدِ أَوْ الْمَائِعِ . وَالشَّارِعُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إلَّا بِفَصْلِ مُبَيِّنٍ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } . وَالْمُحَرَّمَاتُ مِمَّا يَتَّقُونَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ الْمُحَرَّمَاتِ بَيَانًا فَاصِلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَلَالِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْخَمْرُ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ إذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا حَلَّتْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَغَيْرُهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ أَوْلَى أَنْ تَطْهُرَ بِالِانْقِلَابِ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ قَطْرَةَ خَمْرٍ وَقَعَتْ فِي خَلِّ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَاسْتَحَالَتْ كَانَتْ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ . فَإِنْ قِيلَ : الْخَمْرُ لَمَّا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهَا ؟ وَالْخَمْرُ إذَا قُصِدَ تَخْلِيلُهَا لَمْ تَطْهُرْ .

قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ : إنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ وَهِيَ طَاهِرَةٌ ثُمَّ تَسْتَحِيلُ دَمًا وَبَوْلًا وَغَائِطًا فَتَنْجُسُ . وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ يَكُونُ طَاهِرًا فَإِذَا مَاتَ احْتَبَسَتْ فِيهِ الْفَضَلَاتُ وَصَارَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ خِلَافَ حَالِهِ فِي الْحَيَاةِ فَيَنْجُسُ وَلِهَذَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ بَعْدَ الدِّبَاغِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ الدِّبَاغَ كَالْحَيَاةِ أَوْ قِيلَ إنَّهُ كَالذَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ كَالذَّكَاةِ . وَأَمَّا مَا قُصِدَ تَخْلِيلُهُ : فَذَلِكَ لِأَنَّ حَبْسَ الْخَمْرِ حَرَامٌ سَوَاءٌ حُبِسَتْ لِقَصْدِ التَّخْلِيلِ أَوْ لَا . وَالطَّهَارَةُ نِعْمَةٌ فَلَا تَثْبُتُ النِّعْمَةُ بِالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ يُسَافِرُ فِي الشِّتَاءِ وَيُصِيبُهُ بَلَلُ الْمَطَرِ وَالنَّدَاوَةُ وَيَمَسُّ مقادم الدَّوَابِّ وَرِحَالَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ - مِمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عَلَى الْمُسَافِرِ - وَيُنْزِلُ مَنَازِلَ مُتَنَجِّسَةً يَفْرِشُ عَلَيْهَا فَرْشَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسَافِرِ . فَهَلْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا عُفِيَ عَنْهُ فَهَلْ إذَا حَضَرَ فِي بَلْدَتِهِ

يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا لَامَسَ ثِيَابَهُ وَفَرْشَهُ وَفِرَاءَهُ ؟ وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِتِلْكَ الْمَقَاوِدِ . وَآلَةُ الدَّوَابِّ لَا تَخْلُو مِنْ النَّجَاسَاتِ وَقَدْ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْمَقَاوِدُ رَطْبَةً مِنْ بَوْلٍ أَوْ بَلَلٍ . وَيُمْسِكُهَا بِيَدِهِ وَيَلْمِسُ بِيَدِهِ ثِيَابَهُ وَقَدْ تَكُونُ فِي الصَّيْفِ يَدُهُ عرقانة . فَهَلْ يُعْفَى عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ فِي السَّفَرِ هَلْ يَكُونُ عَفْوًا لَهُ فِي الْحَضَرِ أَمْ يَجِبُ غَسْلُ مَا ذُكِرَ ؟ فَإِنَّ الْكَثِيرَ مِنْ النَّاسِ لَا يَغْسِلُونَ وَالْأَقَلُّ مِنْ النَّاسِ يَعْتَنُونَ بِالْغَسْلِ ؟ وَهَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَغْسِلُونَ مِنْ ذَلِكَ أَمْ يَتَجَاوَزُونَ ؟ وَهَلْ يَكُونُ الْغَسْلُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ السُّنَّةِ ؟ وَالْغَرَضُ مُتَابَعَةُ الصَّحَابَةِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ . وَفِي الرَّجُلِ إذَا مَسَّ ثَوْبَهُ الْقَصَّابُ أَوْ يَدَهُ وَعَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّسَمِ غَسَلَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ . فَهَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ مُصِيبٌ ؟ أَوْ هَذَا وَسْوَاسٌ ؟ وَفِي الرَّجُلِ أَيْضًا يُصَلِّي إلَى جَانِبِهِ قَصَّابٌ فِي الْمَسْجِدِ فَيَقُولُ مَكَانُ هَذَا الْقَصَّابِ غَيْرُ طَاهِرٍ ؛ لِأَنَّ الْقَصَّابِينَ لَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَإِذَا صَافَحَهُ قَصَّابٌ غَسَلَ يَدَهُ ؟ وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّهُ الطَّوَّافُ بِاللَّحْمِ غَسَلَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ . فَهَلْ هُوَ مُخْطِئٌ ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ . وَفِي الرَّجُلِ يَأْكُلُ الشَّرَائِحَ وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّ عُمَّالَهَا لَا يَغْسِلُونَ اللَّحْمَ فَهَلْ يَحْرُمُ أَكْلُهَا أَوْ يُكْرَهُ ؟ لِكَوْنِ الْقَصَّابِينَ يَذْبَحُونَ بِسِكِّينِ

وَيَسْلُخُونَ بِهَا مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ ؟ وَإِذَا عُفِيَ عَنْهُ فِي الْأَكْلِ : فَهَلْ يُعْفَى عَنْ الرَّجُلِ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ وَيُصِيبُ ثَوْبَهُ وَبَدَنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَغْسِلُهُ وَالْمُرَادُ مَا لَوْ جَرَى بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ أَوْ فَعَلَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ .
فَأَجَابَ : أَمَّا مَقَاوِدُ الْخَيْلِ وَرِبَاطُهَا فَطَاهِرٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ لِأَنَّ الْخَيْلَ طَاهِرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَلَكِنَّ الْحَمِيرَ فِيهَا خِلَافٌ : هَلْ هِيَ طَاهِرَةٌ أَوْ نَجِسَةٌ ؟ أَوْ مَشْكُوكٌ فِيهَا ؟ وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ شَعْرَهَا طَاهِرٌ إذْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَعْرَ الْكَلْبِ طَاهِرٌ فَشَعْرُ الْحِمَارِ أَوْلَى . وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي رِيقِ الْحِمَارِ هَلْ يَلْحَقُ بِرِيقِ الْكَلْبِ أَوْ بِرِيقِ الْخَيْلِ وَأَمَّا مَقَاوِدُهَا وَبَرَاذِعُهَا فَمَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهَا وَغَايَةُ مَا فِيهَا أَنَّهُ قَدْ يُصِيبُهَا بَوْلُ الدَّوَابِّ وَرَوْثُهَا . وَبَوْلُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ طَاهِرٌ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَجِّسُهُ وَهُمْ الْجُمْهُورُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ : لَكِنْ هَلْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد فَإِذَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِ بَوْلِهِ وَرَوْثِهِ كَانَ مَا يُصِيبُ الْمَقَاوِدَ وَغَيْرَهَا مَعْفُوًّا عَنْهُ وَهَذَا مَعَ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ . وَأَمَّا مَعَ الشَّكِّ فَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الطَّهَارَةُ وَالِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ وَسْوَاسٌ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا أَصَابَهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَيَجُوزُ أَنْ

يَكُونُ نَجِسًا لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ التَّجَنُّبُ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا الِاحْتِيَاطِ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ بِمِيزَابِ فَقَطَرَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ مَاءٌ . فَقَالَ صَاحِبُهُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُك طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ . وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْعَفْوِ فَإِذَا فَرَشَ فِي الْخَانَاتِ وَغَيْرِهَا عَلَى رَوْثِ الْحَمِيرِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا رَوْثُ الْخَيْلِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَاهِرٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى عَفْوٍ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا دَخَلَ الْحَضَرَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ يَدُهُ رَطْبَةً مِنْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ مِنْ الْمَقَاوِدِ . وَغَسْلُ الْمَقَاوِدِ بِدْعَةٌ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بَلْ كَانُوا يَرْكَبُونَهَا . وَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } { وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ يَرْكَبُهَا } وَرُوِيَ عَنْهُ : { أَنَّهُ رَكِبَ الْحِمَارَ } وَمَا نُقِلَ أَنَّهُ أَمَرَ خُدَّامَ الدَّوَابِّ أَنْ يَحْتَرِزُوا مِنْ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَثَوْبُ الْقَصَّابِ وَبَدَنُهُ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَسَمٌ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ مِنْ ذَلِكَ وَسُوسَةٌ وَبِدْعَةٌ وَمَكَانُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ طَاهِرٌ

وَغَايَةُ مَا يُصِيبُ الْقَصَّابَ أَنَّ الدَّمَ يُصِيبُهُ أَحْيَانًا فَاَلَّذِي يُمَاسُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ لَا يَضُرُّهُ وَلَوْ أَصَابَهُ دَمٌ يَسِيرٌ لَعُفِيَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَنَجَاسَةُ الْقَصَّابِ لَيْسَتْ مِنْ نَجَاسَةِ الدَّسَمِ فَإِنَّ الدَّسَمَ طَاهِرٌ لَا نَجَاسَةَ فِيهِ وَيَسِيرُ الدَّمِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَغَسْلُ يَدِهِ مِنْ مُصَافَحَةِ الْقَصَّابِ أَوْ الطَّوَّافِ وَسْوَسَةٌ وَتَنَطُّعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَوَضَّأَ مِنْ جَرَّةِ امْرَأَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ زَبِيبَةَ الْحَسَنِ وَقَدْ صَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ أمامة ابْنَةَ ابْنَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْآثَارِ يُبَيِّنُ سِعَةَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
أَكْلُ الشَّوَى والشريح جَائِزٌ سَوَاءٌ غَسَلَ اللَّحْمَ أَوْ لَمْ يَغْسِلْ ؛ بَلْ غَسْلُ لَحْمِ الذَّبِيحَةِ بِدْعَةٌ فَمَا زَالَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُونَ اللَّحْمَ فَيَطْبُخُونَهُ وَيَأْكُلُونَهُ بِغَيْرِ غَسْلِهِ وَكَانُوا يَرَوْنَ الدَّمَ فِي الْقِدْرِ خُطُوطًا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ أَيْ الْمَصْبُوبَ الْمِهْرَاقَ فَأَمَّا مَا يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ فَلَمْ يُحَرِّمْهُ . وَلَكِنْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتْبَعُوا الْعُرُوقَ كَمَا تَفْعَلُ الْيَهُودُ الَّذِينَ بِظُلْمِ مِنْهُمْ

حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا . وَسِكِّينُ الْقَصَّابِ يَذْبَحُ بِهَا وَيَسْلَخُ . فَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ . فَإِنَّ غَسْلَ السَّكَاكِينِ الَّتِي يُذْبَحُ بِهَا بِدْعَةٌ وَكَذَلِكَ غَسْلُ السُّيُوفِ . وَإِنَّمَا كَانَ السَّلَفُ يَمْسَحُونَ ذَلِكَ مَسْحًا ؛ وَلِهَذَا جَازَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَجْسَامِ الصَّقِيلَةِ كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ إذَا أَصَابَهَا نَجَاسَةٌ أَنْ تُمْسَحَ وَلَا تُغْسَلَ وَهَذَا فِيمَا لَا يُعْفَى عَنْهُ . فَأَمَّا مَا تَعَيَّنَ عَدَمُ نَجَسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ وَلَا مَسْحٍ وَالْيَسِيرُ يُعْفَى عَنْهُ . وَمَا عُفِيَ عَنْهُ فَالْحَمْلُ وَالْمَشْيُ . بِلَا رَيْبٍ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَكْلُهُ جَازَ مُبَاشَرَتُهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَ كُلُّ مَا جَازَتْ مُبَاشَرَتُهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا جَازَ أَكْلُهُ كَالسُّمُومِ الْمُضِرَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُهَا وَلَوْ بَاشَرَهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً تَجُوزُ مُبَاشَرَتُهَا فِي الصَّلَاةِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَأَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثُ يَضُرُّ وَالطَّيِّبُ يَنْفَعُ وَمَا ضَرَّ فِي مُبَاشَرَةِ الظَّاهِرِ كَانَتْ مَضَرَّتُهُ بِمُمَازَجَةِ الْأَبْدَانِ إذَا أَكَلَ أَقْوَى وَأَقْوَى وَلَيْسَ كُلُّ مَا ضَرَّ بِالْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ يَضُرُّ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا عُفِيَ عَنْهُ فِي الْحَمْلِ كَدَمِ الْجُرْحِ وَالدَّمَامِيلِ وَمَا يَعْلَقُ بِالسِّكِّينِ مِنْ دَمِ الشَّاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا إذَا وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ فَقِيلَ إنَّهُ يُنَجِّسُهُ وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَائِعَاتِ . كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ وَقَدْ كَانَ

أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْخِلُ أَحَدُهُمْ أُصْبُعَهُ فِي خَيْشُومِهِ فَيُلَوِّثُ أَصَابِعَهُ بِالدَّمِ فَيَمْضِي فِي صَلَاتِهِ وَكَذَلِكَ كَانَتْ أَيْدِيهِمْ تُصِيبُ الدَّمَامِيلَ وَالْجِرَاحَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْمَائِعَاتِ حَتَّى يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ اللَّحْمَ بِالْقِدْرِ فَيَبْقَى الدَّمُ فِي الْمَاءِ خُطُوطًا وَهَذَا لَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا فِي الْعَفْوِ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ بِاتِّفَاقِهِمْ وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ الدَّمِ فِي مَرَقِ الْقِدْرِ أَوْ مَائِعٍ آخَرَ وَكَوْنِهِ فِي السِّكِّينِ أَوْ غَيْرِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ سِتُّونَ قِنْطَارَ زَيْتٍ بِالدِّمَشْقِيِّ وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فِي بِئْرٍ وَاحِدَةٍ فَهَلْ يَنْجُسُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَنْجُسُ بِذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَحُكْمُ الْمَائِعَاتِ عِنْدَهُ حُكْمُ الْمَاءِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَلَا يَنْجُسُ إذَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ لَكِنْ تُلْقَى النَّجَاسَةُ وَمَا حَوْلَهَا وَقَدْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ حُكْمُ الْمَاءِ طَائِفَةٌ

مِنْ الْعُلَمَاءِ : كَالزُّهْرِيِّ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنِ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَفِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد فِي الْإِزَالَةِ ؛ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَأَى مُجَرَّدَ الْوُصُولِ مُنَجِّسًا وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَرَوْا الْوُصُولَ مُنَجِّسًا مَعَ الْكَثْرَةِ . وَتَنَازَعُوا فِي الْقَلِيلِ . إذْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ رَأَى أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنَّ الْخَبِيثَ إذَا وَقَعَ فِي الطَّيِّبِ أَفْسَدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّمَا يُفْسِدُهُ إذَا كَانَ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ فَأَمَّا إذَا اُسْتُهْلِكَ فِيهِ وَاسْتَحَالَ فَلَا وَجْهَ لِإِفْسَادِهِ كَمَا لَوْ انْقَلَبَتْ الْخَمْرَةُ خَلًّا بِغَيْرِ قَصْدِ آدَمِيٍّ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ لَكِنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْمَاءِ مَعْرُوفٌ وَعَلَى هَذَا أَدِلَّةٌ قَدْ بَسَطْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَا دَلِيلَ عَلَى نَجَاسَتِهِ لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ . وَعُمْدَةُ الَّذِينَ نَجَّسُوهُ . احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا

تَقْرَبُوهُ } وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا يَدُلُّ لَوْ دَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ السَّمْنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْفَأْرَةُ فَكَيْفَ وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ ؛ بَلْ بَاطِلٌ غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ غَلَطًا مَعْرُوفًا عِنْدَ النُّقَّادِ الْجَهَابِذَةِ كَمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ . وَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَلَمْ يَعْلَمْ الْعِلَّةَ الْبَاطِنَةَ فِيهِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ بِبُطْلَانِهِ فَإِنَّ عِلْمَ الْعِلَلِ مِنْ خَوَاصِّ عِلْمِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَلِهَذَا بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مَا يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ هُوَ عَلَى طَهَارَتِهِ أَدَلُّ مِنْهُ عَلَى النَّجَاسَةِ فَقَالَ : ( بَابٌ : إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ : حَدَّثَنَا عبدان قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّةِ الَّتِي تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ أَوْ السَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ . أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَالَ : { بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِفَأْرَةِ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ ثُمَّ أُكِلَ } . وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَ : { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ } فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمِ الْأُمَّةِ بِالسُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ أَنَّهُ أَفْتَى فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ الْجَامِدِ وَغَيْرِ الْجَامِدِ إذَا مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ أَنَّهَا تُطْرَحُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا .

وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ } وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ ؛ بَلْ هَذَا بَاطِلٌ . فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ رَوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَذَا التَّفْصِيلَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَجَابَ بِالْعُمُومِ فِي الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ مُسْتَدِلًّا بِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ لَا سِيَّمَا وَالسَّمْنُ بِالْحِجَازِ يَكُونُ ذَائِبًا أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ جَامِدًا ؛ بَلْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْحِجَازِ جَامِدًا بِحَالِ . فَإِطْلَاقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَوَابَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ يُوجِبُ الْعُمُومَ إذْ السُّؤَالُ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ وَتَرْكُ الاستفصال فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ . هَذَا إذَا كَانَ السَّمْنُ بِالْحِجَازِ يَكُونُ جَامِدًا وَيَكُونُ ذَائِبًا فَأَمَّا إنْ كَانَ وُجُودُ الْجَامِدِ نَادِرًا أَوْ مَعْدُومًا كَانَ الْحَدِيثُ نَصًّا فِي أَنَّ السَّمْنَ الذَّائِبَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ فَإِنَّهَا تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ . وَبِذَلِكَ أَجَابَ الزُّهْرِيُّ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ قَلِيلُهُ وَلَا كَثِيرُهُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَائِلِ الصَّحِيحِ : التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَدَلَائِلِهَا وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا

فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . كَيْفَ وَفِي تَنْجِيسِ مِثْلِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِهِ مِنْ فَسَادِ الْأَطْعِمَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ الْقَدْرِ مَا لَا تَأْتِي بِمِثْلِهِ الشَّرِيعَةُ الْجَامِعَةُ لِلْمَحَاسِنِ كُلِّهَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ تَنْزِيهًا لَنَا عَنْ الْمَضَارِّ وَأَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ كُلَّهَا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ الطَّيِّبَاتِ كَمَا حَرَّمَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ - بِظُلْمِهِمْ - طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ . وَمَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَهْدِيهِ اللَّهُ إلَيْهِ { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَسُئِلَ :
عَنْ الزَّيْتِ إذَا كَانَ فِي بِئْرٍ وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ : مِثْلُ الْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَنَحْوِهِمَا وَمَاتَا فِيهِ . فَمَا الْحُكْمُ إذَا كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ؟ وَإِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الزَّيْتِ أَوْ اللَّبَنِ فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ ؟ .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْقُلَّتَيْنِ فَهِيَ طَاهِرٌ عِنْد جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَمَذْهَبِ الْمَدَنِيِّينَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَاهِرٌ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد

وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ : كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْمَائِعُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّجَاسَةِ فِيهِ أَثَرٌ بَلْ اُسْتُهْلِكَتْ فِيهِ وَلَمْ تُغَيِّرْ لَهُ لَوْنًا وَلَا طَعْمًا وَلَا رِيحًا فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي اللَّبَنِ وَمُخِضَ اللَّبَنُ وَظَهَرَ فِيهِ زُبْدَةٌ : فَهَلْ يَحِلُّ تَطْهِيرُ الزُّبْدَةِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
اللَّبَنُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ هَلْ يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ أَوْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ . هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَكَذَلِكَ مَالِكٌ لَهُ فِي النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الطَّعَامِ الْكَثِيرِ هَلْ تُنَجِّسُهُ فِيهِ قَوْلَانِ . وَأَمَّا وُلُوغُ الْكَلْبِ فِي الطَّعَامِ فَلَا يُنَجِّسُهُ عِنْدَ مَالِكٍ فَهَذَا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَنْجُسْ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَنْجُسُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِهِ لَكِنْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ هَلْ يَطْهُرُ

الدُّهْنُ بِالْغَسْلِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا . فَمَنْ قَالَ إنَّ الْأَدْهَانَ تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ قَالَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْكَلْبِ إذَا وَلَغَ فِي اللَّبَنِ أَوْ غَيْرِهِ مَا الَّذِي يَجِبُ فِي ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْكَلْبُ فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ طَاهِرٌ حَتَّى رِيقُهُ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَالثَّانِي : نَجِسٌ حَتَّى شَعْرُهُ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَالثَّالِثُ : شَعْرُهُ طَاهِرٌ وَرِيقُهُ نَجِسٌ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ . فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ رُطُوبَةُ شَعْرِهِ لَمْ يَنْجُسْ بِذَلِكَ وَإِذَا وَلَغَ فِي الْمَاءِ أُرِيقَ الْمَاءُ .

وَإِنْ وَلَغَ فِي اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ يُؤْكَلُ ذَلِكَ الطَّعَامُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُرَاقُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَأَمَّا إنْ كَانَ اللَّبَنُ كَثِيرًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْجُبْنِ الْإِفْرِنْجِيِّ وَالْجُوخِ هَلْ هُمَا مَكْرُوهَانِ أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ إنَّهُمَا نَجِسَانِ وَأَنَّ الْجُبْنَ يُدْهَنُ بِدُهْنِ الْخِنْزِيرِ وَكَذَلِكَ الْجُوخُ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْجُبْنُ الْمَجْلُوبُ مِنْ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ فَاَلَّذِينَ كَرِهُوهُ ذَكَرُوا لِذَلِكَ سَبَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُوضَعُ بَيْنَهُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ إذَا حُمِلَ فِي السُّفُنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ مَا تُصْنَعُ مِنْهُ الْإِنْفَحَةُ بَلْ يَضْرِبُونَ رَأْسَ الْبَقَرِ وَلَا يُذَكُّونَهُ . فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَغَايَتُهُ أَنْ يُنَجَّسَ ظَاهِرُ الْجُبْنِ فَمَتَى كُشِطَ الْجُبْنُ أَوْ غُسِلَ طَهُرَ فَإِنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } فَإِذَا كَانَ مُلَاقَاةُ الْفَأْرَةِ لِلسَّمْنِ لَا تُوجِبُ نَجَاسَةَ جَمِيعِهِ فَكَيْفَ تَكُونُ مُلَاقَاةُ الشَّحْمِ النَّجِسِ لِلْجُبْنِ تُوجِبُ نَجَاسَةَ بَاطِنِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا يَجِبُ إزَالَةُ ظَاهِرِهِ إذَا تَيَقَّنَ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ لَهُ وَأَمَّا مَعَ الشَّكِّ فَلَا يَجِبُ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَعْقِرُونَهُ مِنْ الْأَنْعَامِ يَتْرُكُونَ ذَكَاتَهُ بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ إنَّمَا يَفْعَلُونَ هَذَا بِالْبَقَرِ وَقِيلَ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَسْقُطَ ثُمَّ يُذَكُّونَهُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ بَلْ إذَا اخْتَلَطَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ فِي عَدَدٍ لَا يَنْحَصِرُ : كَاخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَهْلِ بَلَدٍ وَاخْتِلَاطِ الْمَيْتَةِ وَالْمَغْصُوبِ بِأَهْلِ بَلْدَةٍ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَا فِي الْبَلَدِ كَمَا إذَا اخْتَلَطَتْ الْأُخْتُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ فَهَذَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ الْمَجْهُولَةِ الْحَالِ . وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْجُبْنُ مَصْنُوعًا مِنْ إنْفَحَةِ مَيْتَةٍ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَرَامٌ نَجِسٌ : كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي

الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَالْخِلَافُ مَشْهُورٌ فِي لَبَنِ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتِهَا : هَلْ هُوَ طَاهِرٌ ؟ أَمْ نَجِسٌ ؟ وَالْمُطَهِّرُونَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ مَعَ كَوْنِ ذَبَائِحِهِمْ مَيِّتَةً وَمَنْ خَالَفَهُمْ نَازَعَهُمْ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَأَمَّا الْجُوخُ فَقَدْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَدْهُنُونَهُ بِشَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ لَيْسَ يَفْعَلُ هَذَا بِهِ كُلَّهُ فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي عُمُومِ نَجَاسَةِ الْجُوخِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ لَمْ تُصِبْهَا ؛ إذْ الْعَيْنُ طَاهِرَةٌ وَمَتَى شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ وَلَوْ تَيَقَّنَّا نَجَاسَةَ بَعْضِ أَشْخَاصِ نَوْعٍ دُونَ بَعْضٍ لَمْ نَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ جَمِيعِ أَشْخَاصِهِ وَلَا بِنَجَاسَةِ مَا شَكَكْنَا فِي تَنَجُّسِهِ : وَلَكِنْ إذَا تَيَقَّنَ النَّجَاسَةَ أَوْ قَصَدَ قَاصِدٌ إزَالَةَ الشَّكِّ فَغَسَلَ الْجُوخَةَ يُطَهِّرُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صُوفٌ أَصَابَهُ دُهْنٌ نَجِسٌ وَإِصَابَةُ الْبَوْلِ وَالدَّمِ لِثَوْبِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ أَشَدُّ وَهُوَ بِهِ أَلْصَقُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِمَنْ أَصَابَ دَمُ الْحَيْضِ ثَوْبَهَا حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ } - وَفِي رِوَايَةٍ - { وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ مَرِيضٍ طُبِخَ لَهُ دَوَاءٌ فَوَجَدَ فِيهِ زِبْلَ الْفَأْرِ ؟ .
فَأَجَابَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ هَلْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ بَعْرِ الْفَأْرِ فَفِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فَيُؤْكَلُ مَا ذَكَرَ وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ كُنَّا فِي مَجْلِسِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالنَّظَرِ فِي مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ تَصْوِيرًا وَتَقْرِيرًا وَتَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا فَوَقَعَ الْكَلَامُ فِي شَرْحِ الْقَوْلِ فِي حُكْمِ مَنِيِّ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ الطَّاهِرَةِ وَفِي أَرْوَاثِ الْبَهَائِمِ الْمُبَاحَةِ : أَهِيَ طَاهِرَةٌ ؟ أَمْ نَجِسَةٌ ؟ عَلَى وَجْهٍ أَحَبَّ أَصْحَابُنَا تَقْيِيدَهُ وَمَا يُقَارِبُهُ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ فَكَتَبْت لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَأَقُولُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَفَصْلَيْنِ . أَمَّا الْأَصْلُ :

فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهَا أَنْ تَكُونَ حَلَالًا مُطْلَقًا لِلْآدَمِيِّينَ وَأَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُلَابَسَتُهَا وَمُبَاشَرَتُهَا وَمُمَاسَّتُهَا وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ وَمَقَالَةٌ عَامَّةٌ وَقَضِيَّةٌ فَاضِلَةٌ عَظِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ وَاسِعَةُ الْبَرَكَةِ يَفْزَعُ إلَيْهَا حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأَعْمَالِ وَحَوَادِثِ النَّاسِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا أَدِلَّةٌ عَشَرَةٌ - مِمَّا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ - وَهِيَ : كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْظُومَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } . ثُمَّ مَسَالِكُ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَمَنَاهِجُ الرَّأْيِ وَالِاسْتِبْصَارِ . الصِّنْفُ الْأَوَّلُ : الْكِتَابُ وَهُوَ عِدَّةُ آيَاتٍ . الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ لِلنَّاسِ مُضَافًا إلَيْهِمْ بِاللَّامِ وَاللَّامُ حَرْفُ الْإِضَافَةِ وَهِيَ تُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقَهُ إيَّاهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ مَوَارِدَ اسْتِعْمَالِهَا . كَقَوْلِهِمْ : الْمَالُ لِزَيْدِ وَالسَّرْجُ لِلدَّابَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَجِبُ إذًا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مُمَلَّكِينَ مُمَكَّنِينَ لِجَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ

فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ الْخَبَائِثُ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِفْسَادِ لَهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ أَوْ مَعَادِهِمْ فَيَبْقَى الْبَاقِي مُبَاحًا بِمُوجِبِ الْآيَةِ . الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } دَلَّتْ الْآيَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَبَّخَهُمْ وَعَنَّفَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَشْيَاءُ مُطْلَقَةً مُبَاحَةً لَمْ يَلْحَقْهُمْ ذَمٌّ وَلَا تَوْبِيخٌ إذْ لَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَجْهُولًا أَوْ كَانَتْ مَحْظُورَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ بَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَمَا لَمْ يُبَيِّنْ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ . وَمَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ فَهُوَ حَلَالٌ إذْ لَيْسَ إلَّا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ . الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَإِذَا كَانَ مَا فِي الْأَرْضِ مُسَخَّرًا لَنَا جَازَ اسْتِمْتَاعُنَا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } الْآيَةَ فَمَا لَمْ يَجِدْ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ وَمَا لَمْ يُحَرَّمْ فَهُوَ حِلٌّ وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ { إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ } الْآيَةَ ؛ لِأَنَّ حَرْفَ : ( إنَّمَا يُوجِبُ حَصْرَ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي ؛ فَيَجِبُ انْحِصَارُ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذُكِرَ وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُحِيطِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . الصِّنْفُ الثَّانِي : السُّنَّةُ وَاَلَّذِي حَضَرَنِي مِنْهَا حَدِيثَانِ : الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } . دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِتَحْرِيمِ خَاصٍّ لِقَوْلِهِ لَمْ يُحَرَّمْ وَدَلَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ الْمَسْأَلَةِ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهَا بِدُونِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ . الثَّانِي : رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ فَقَالَ : الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ } . فَمِنْهُ دَلِيلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَفْتَى بِالْإِطْلَاقِ فِيهِ . الثَّانِي قَوْلُهُ : { وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ } نَصَّ فِي أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ وَتَسْمِيَتُهُ هَذَا عَفْوًا كَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ هُوَ الْإِذْنُ فِي التَّنَاوُلِ بِخِطَابِ خَاصٍّ وَالتَّحْرِيمُ الْمَنْعُ مِنْ التَّنَاوُلِ كَذَلِكَ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لَمْ يُؤْذِنْ بِخِطَابِ يَخُصُّهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ فَيُرْجَعُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ لَا عِقَابَ إلَّا بَعْدَ الْإِرْسَالِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِقَابٌ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا . وَفِي السُّنَّةِ دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ . الصِّنْفُ الثَّالِثُ : اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَشَهَادَةُ شُهَدَاءِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ الَّذِينَ هُمْ عُدُولُ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمَعْصُومِينَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى ضَلَالَةٍ الْمَفْرُوضِ اتِّبَاعُهُمْ . وَذَلِكَ أَنِّي لَسْت أَعْلَمُ خِلَافَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّالِفَيْنِ : فِي أَنَّ مَا لَمْ يَجِئْ دَلِيلٌ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ وَأَحْسَبُ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا كَالْيَقِينِ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ وَقَدْ عَلِمْت اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ هَلْ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَظْرُ أَوْ الْإِبَاحَةُ ؟ أَوْ لَا يُدْرَى مَا الْحُكْمُ فِيهَا ؟ أَوْ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهَا أَصْلًا ؟ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ دَلِيلٌ مُتَّبَعٌ وَأَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي أُصُولِ

الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَ لَهَا قَبْلَ الشَّرْعِ مُسْتَصْحَبٌ بَعْدَ الشَّرْعِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ : بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الْحَظْرُ اسْتَصْحَبَ هَذَا الْحُكْمَ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْحِلِّ ؟ ؟ . فَأَقُولُ هَذَا قَوْلٌ مُتَأَخِّرٌ لَمْ يُؤْثَرْ أَصْلُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّابِقِينَ . مِمَّنْ لَهُ قَدَمٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَدْ زَالَ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْتهَا وَلَسْت أُنْكِرُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يُؤْتَ تَمْيِيزًا فِي مَظَانِّ الِاشْتِبَاهِ رُبَّمَا سَحَبَ ذَيْلَ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ عَلَى مَا بَعْدَهُ إلَّا أَنَّ هَذَا غَلَطٌ قَبِيحٌ لَوْ نُبِّهَ لَهُ لَتَنَبَّهَ مِثْلُ الْغَلَطِ فِي الْحِسَابِ لَا يَهْتِكُ حَرِيمَ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَثْلِمُ سُنَنَ الِاتِّبَاعِ . وَلَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ : هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ مُمْتَنِعَةٌ ؟ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَخْلُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ إذْ كَانَ آدَمَ نَبِيًّا مُكَلَّمًا حَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ خُلُوِّ الْأَقْطَارِ عَنْ حُكْمٍ مَشْرُوعٍ وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا جَوَازُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَضَهَا فِيمَنْ وُلِدَ بِجَزِيرَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُبَيِّنُ لَك أَنْ لَا عَمَلَ بِهَا وَأَنَّهَا نَظَرٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ كَالْكَلَامِ فِي مَبْدَإِ اللُّغَاتِ وَشِبْهِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا رَادَّ لَهُ

أَنَّ قَبْلَ الشَّرْعِ لَا تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ فَإِذْ لَا تَحْرِيمَ يُسْتَصْحَبُ وَيُسْتَدَامُ فَيَبْقَى الْآنَ كَذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ خُلُوُّهَا عَنْ الْمَآثِمِ وَالْعُقُوبَاتِ . وَأَمَّا مَسْلَكُ الِاعْتِبَارِ بِالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي الْأُصُولِ الْجَوَامِعِ فَمِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا . أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَجَعَلَ فِيهَا لِلْإِنْسَانِ مَتَاعًا وَمَنْفَعَةً . وَمِنْهَا مَا قَدْ يُضْطَرُّ إلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ جَوَادٌ مَاجِدٌ كَرِيمٌ رَحِيمٌ غَنِيٌّ صَمَدٌ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُهُ وَلَا يُعَذِّبُهُ عَلَى مُجَرَّدِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَثَانِيهَا : أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ مَضَرَّةٍ فَكَانَتْ مُبَاحَةً كَسَائِرِ مَا نُصَّ عَلَى تَحْلِيلِهِ وَهَذَا الْوَصْفُ قَدْ دَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } . فَكُلُّ مَا نَفَعَ فَهُوَ طَيِّبٌ وَكُلُّ مَا ضَرَّ فَهُوَ خَبِيثٌ . وَالْمُنَاسَبَةُ الْوَاضِحَةُ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنَّ النَّفْعَ يُنَاسِبُ التَّحْلِيلَ وَالضَّرَرَ يُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ وَالدَّوَرَانَ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَدُورُ مَعَ الْمَضَارِّ : وُجُودًا فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَذَوَاتِ الْأَنْيَابِ وَالْمَخَالِبِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَضُرُّ بِأَنْفُسِ النَّاسِ وَعَدَمًا فِي الْأَنْعَامِ وَالْأَلْبَانِ وَغَيْرِهَا . وَثَالِثُهَا : أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ أَوْ لَا يَكُونَ

وَالْأَوَّلُ صَوَابٌ وَالثَّانِي بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِذَا كَانَ لَهَا حُكْمٌ فَالْوُجُوبُ وَالْكَرَاهَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ مَعْلُومَةُ الْبُطْلَانِ بِالْكُلِّيَّةِ : لَمْ يَبْقَ إلَّا الْحِلُّ . وَالْحُرْمَةُ بَاطِلَةٌ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهَا نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا لَمْ يَبْقَ إلَّا الْحِلُّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ : الْأَصْلُ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الطَّاهِرَ مَا حَلَّ مُلَابَسَتُهُ وَمُبَاشَرَتُهُ وَحَمْلُهُ فِي الصَّلَاةِ . وَالنَّجِسُ بِخِلَافِهِ وَأَكْثَرُ الْأَدِلَّةِ السَّالِفَةِ تَجْمَعُ جَمِيعَ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ : أَكْلًا وَشُرْبًا وَلُبْسًا وَمَسًّا وَغَيْرَ ذَلِكَ . فَثَبَتَ دُخُولُ الطَّهَارَةِ فِي الْحِلِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ نَافِلَةٌ . الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ أَكْلِهَا وَشُرْبِهَا فَلِأَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مُلَابَسَتُهَا وَمُخَالَطَتُهَا الْخَلْقَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّعَامَ يُخَالِطُ الْبَدَنَ وَيُمَازِجُهُ وَيَنْبُتُ مِنْهُ فَيَصِيرُ مَادَّةً وَعُنْصُرًا لَهُ فَإِذَا كَانَ خَبِيثًا صَارَ الْبَدَنُ خَبِيثًا فَيَسْتَوْجِبُ النَّارَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ جِسْمٍ نَبَتَ مَنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } . وَالْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ . وَأَمَّا مَا يُمَاسُّ الْبَدَنَ وَيُبَاشِرُهُ فَيُؤَثِّرُ أَيْضًا فِي الْبَدَنِ مِنْ ظَاهِرٍ كَتَأْثِيرِ الْأَخْبَاثِ فِي أَبْدَانِنَا وَفِي ثِيَابِنَا الْمُتَّصِلَةِ بِأَبْدَانِنَا : لَكِنَّ تَأْثِيرَهَا دُونَ تَأْثِيرِ الْمُخَالِطِ الْمُمَازِجِ . فَإِذَا ثَبَتَ حِلُّ مُخَالَطَةِ الشَّيْءِ وَمُمَازَجَتِهِ فَحِلُّ

مُلَابَسَتِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ أَوْلَى وَهَذَا قَاطِعٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ . وَطَرْدُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ مُبَاشَرَتُهُ وَمُلَابَسَتُهُ حُرِّمَ مُخَالَطَتُهُ وَمُمَازَجَتُهُ وَلَا يَنْعَكِسُ . فَكُلُّ نَجِسٍ مُحَرَّمٌ الْأَكْلُ وَلَيْسَ كُلُّ مُحَرَّمٍ الْأَكْلُ نَجِسًا . وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ وَأَنَّ النَّجَاسَاتِ مُحْصَاةٌ مُسْتَقْصَاةٌ وَمَا خَرَجَ عَنْ الضَّبْطِ وَالْحَصْرِ فَهُوَ طَاهِرٌ كَمَا يَقُولُونَهُ فِيمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ وَمَا لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَشِبْهُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ غَايَةُ الْمُتَقَابِلَاتِ . تَجِدُ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ فِيهَا مَحْصُورًا مَضْبُوطًا وَالْجَانِبَ الْآخَرَ مُطْلَقٌ مُرْسَلٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْهَادِي لِلصَّوَابِ .
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ :
الْقَوْلُ فِي طَهَارَةِ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ الَّتِي لَمْ تَحْرُمْ وَعَلَى ذَلِكَ عِدَّةُ أَدِلَّةٍ .
الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَصْلَ الْجَامِعَ طَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْيَانِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ نَجَاسَتُهَا فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيَّنْ لَنَا أَنَّهُ نَجِسٌ فَهُوَ طَاهِرٌ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ لَمْ يُبَيَّنْ لَنَا نَجَاسَتُهَا فَهِيَ طَاهِرَةٌ . أَمَّا الرُّكْنُ الْأَوَّلُ مِنْ الدَّلِيلِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْقَاهِرَةِ . وَأَمَّا الثَّانِي فَنَقُولُ : إنَّ الْمَنْفِيَّ عَلَى

ضَرْبَيْنِ : نَفْيٌ نَحْصُرُهُ وَنُحِيطُ بِهِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ السَّمَاءَ لَيْسَ فِيهَا شَمْسَانِ وَلَا قَمَرَانِ طَالِعَانِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا إلَّا قِبْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ؛ بَلْ عِلْمِنَا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مَا لَيْسَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ لَيْسَ بِقُرْآنِ وَأَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ إلَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَعِلْمِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي (1) دَرَاهِمَ قَبْلُ (2) وَلَا تَغَيَّرَ وَأَنَّهُ لَمْ يُطْعَمْ وَأَنَّهُ الْبَارِحَةَ لَمْ يَنَمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ عَدُّهُ . فَهَذَا كُلُّهُ نَفْيٌ مُسْتَيْقَنٌ يُبَيِّنُ خَطَأَ مَنْ يُطْلِقُ قَوْلَهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ . الثَّانِي : مَا لَا يُسْتَيْقَنُ نَفْيُهُ وَعَدَمُهُ . ثُمَّ مِنْهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ وَيَقْوَى فِي الرَّأْيِ وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ . فَإِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا مَنُوطًا يَنْفِي مِنْ الصِّنْفِ الثَّانِي فَالْمَطْلُوبِ أَنْ نَرَى النَّفْيَ وَيَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِنَا . وَالِاسْتِدْلَالُ بِالِاسْتِصْحَابِ وَبِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ وَعَدَمِ الْمُوجِبِ لِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى مَجَازِهِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ . فَإِذَا بَحَثْنَا وَسَبَرْنَا عَمَّا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا مُنْذُ مِئَاتٍ مِنْ السِّنِينَ فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا إلَّا أَدِلَّةً مَعْرُوفَةً . شَهِدْنَا شَهَادَةً جَازِمَةً فِي هَذَا الْمَقَامِ بِحَسَبِ عِلْمِنَا أَنْ لَا دَلِيلَ إلَّا ذَلِكَ . فَنَقُولُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الدَّلِيلِ إنَّمَا يَتِمُّ بِفَسْخِ مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ

وَنَقْضِ ذَلِكَ وَقَدْ اُحْتُجَّ لِذَلِكَ بِمَسْلَكَيْنِ : أَثَرِيٍّ وَنَظَرِيٍّ : أَمَّا الْأَثَرِيُّ : فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ : إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ . أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ } - وَرُوِيَ { لَا يَسْتَنْزِهُ - } وَالْبَوْلُ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلًّى بِاللَّامِ فَيُوجِبُ الْعُمُومَ . كَالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا } فَإِنَّ الْمُرْتَضَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ تَقْتَضِي مِنْ الْعُمُومِ مَا تَقْتَضِيهِ أَسْمَاءُ الْجُمُوعِ لَسْت أَقُولُ : الْجِنْسُ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَكَثِيرِهِ الْهَاءُ : كَالتَّمْرِ وَالْبُرِّ وَالشَّجَرِ فَإِنَّ حُكْمَ تِلْكَ حُكْمُ الْجُمُوعِ بِلَا رَيْبٍ . وَإِنَّمَا أَقُولُ : اسْمُ الْجِنْسِ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى الشَّيْءِ وَعَلَى مَا أَشْبَهَهُ : كَإِنْسَانِ وَرَجُلٍ وَفَرَسٍ وَثَوْبٍ وَشِبْهِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ بِالْعَذَابِ مَنْ جِنْسِ الْبَوْلِ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ وَالتَّنَزُّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَوْلِ فَيَجْمَعُ ذَلِكَ أَبْوَالَ جَمِيعِ الدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَالْبَهِيمِ مَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ فَيَدْخُلُ بَوْلُ الْأَنْعَامِ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ . وَهَذَا قَدْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الِاسْتِدْلَالَ بِالسَّمْعِ وَبَعْضِ الرَّأْيِ وَارْتَضَاهُ بَعْضُ مَنْ يتكايس وَجَعَلَهُ مَفْزَعًا وَمَوْئِلًا .

الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّظَرِيُّ : وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : الْقِيَاسُ عَلَى الْبَوْلِ الْمُحَرَّمِ فَنَقُولُ : بَوْلٌ وَرَوْثٌ فَكَانَ نَجِسًا كَسَائِرِ الْأَبْوَالِ فَيَحْتَاجُ هَذَا الْقِيَاسُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَنَّهُ بَوْلٌ وَرَوْثٌ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ تَنْبِيهَاتُ النُّصُوصِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { اتَّقُوا الْبَوْلَ } وَقَوْلِهِ : { كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ ثَوْبُ أَحَدِهِمْ الْبَوْلَ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ } . وَالْمُنَاسَبَةُ أَيْضًا : فَإِنَّ الْبَوْلَ وَالرَّوْثَ مُسْتَخْبَثٌ مُسْتَقْذَرٌ تَعَافُهُ النُّفُوسُ عَلَى حَدٍّ يُوجِبُ الْمُبَايَنَةَ وَهَذَا يُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ حَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَحْوَالِ وَقَدْ شَهِدَ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ تَنَجُّسُ أَرْوَاثِ الْخَبَائِثِ .
الثَّانِي أَنْ نَقُولَ : إذَا فَحَصْنَا وَبَحَثْنَا عَنْ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ النَّجَاسَاتِ والطهارات ؛ وَجَدْنَا مَا اسْتَحَالَ فِي أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ عَنْ أَغْذِيَتِهَا فَمَا صَارَ جُزْءًا فَهُوَ طَيِّبُ الْغِذَاءِ وَمَا فُضِّلَ فَهُوَ خَبِيثُهُ وَلِهَذَا يُسَمَّى رَجِيعًا . كَأَنَّهُ أَخَذَ ثُمَّ رَجَعَ أَيْ رَدَّ . فَمَا كَانَ مِنْ الْخَبَائِثِ يَخْرُجُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ : كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَذْي وَالْوَدْيِ فَهُوَ نَجِسٌ . وَمَا خَرَجَ مِنْ الْجَانِبِ الْأَعْلَى : كَالدَّمْعِ وَالرِّيقِ وَالْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ وَنُخَامَةِ الرَّأْسِ فَهُوَ طَاهِرٌ . وَمَا تَرَدَّدَ كَبَلْغَمِ الْمَعِدَةِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ .

وَهَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ مَا خَرَجَ مِنْ أَعْلَى الْبَدَنِ وَأَسْفَلِهِ قَدْ جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ الضَّيِّقِ . الَّذِي لَمْ يُفْقَهْ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى زَعَمَ زَاعِمُونَ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ وَابْتِلَاءٌ وَتَمْيِيزٌ بَيْنَ مَنْ يُطِيعُ وَبَيْنَ مَنْ يَعْصِي . وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بِمُفْرَدِهِ حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ أَشْيَاءُ أُخَرُ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا اسْتَحَالَ فِي مَعِدَةِ الْحَيَوَانِ كَالرَّوْثِ وَالْقَيْءِ وَمَا اسْتَحَالَ مِنْ مَعِدَتِهِ كَاللَّبَنِ . وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ : فَهَذِهِ الْأَبْوَالُ وَالْأَرْوَاثُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ وَيُنْصَعُ طَيِّبُهُ وَيَخْرُجُ خَبِيثُهُ مِنْ جِهَةِ دُبُرِهِ وَأَسْفَلِهِ وَيَكُونُ نَجِسًا . فَإِنْ فُرِّقَ بِطَيِّبِ لَحْمِ الْمَأْكُولِ وَخُبْثِ لَحْمِ الْمُحَرَّمِ فَيُقَالُ : طَيِّبُ الْحَيَوَانِ وَشَرَفُهُ وَكَرَمُهُ لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ رَوْثِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا حَرَّمَ لَحْمَهُ كَرَامَةً لَهُ وَشَرَفًا وَمَعَ ذَلِكَ فَبَوْلُهُ أَخْبَثُ الْأَبْوَالِ . أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ تَقُولُونَ : إنَّ مُفَارَقَةَ الْحَيَاةِ لَا تُنَجِّسُهُ وَأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَهُوَ طَاهِرٌ أَيْضًا كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ فَلَوْ كَانَ إكْرَامُ الْحَيَوَانِ مُوجِبًا لِطَهَارَةِ رَوْثِهِ لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ الْقَدَحِ الْمُعَلَّى . وَهَذَا سِرُّ الْمَسْأَلَةِ وَلُبَابُهَا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ السُّفْلَى مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ وَالطَّبَقَةِ

النَّازِلَةِ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ . كَمَا شَهِدَ بِهِ أَنْفُسُ النَّاسِ . وَتَجِدُهُ طَبَائِعُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ حَتَّى لَا نَكَادَ نَجِدُ أَحَدًا يُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ دُرِّ الْحَيَوَانِ وَنَسْلِهِ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ وَإِذَا فَارَقَ الطهارات دَخَلَ فِي النَّجَاسَاتِ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النَّجَاسَاتِ . مِنْ مُبَاعَدَتِهِ وَمُجَانَبَتِهِ فَلَا يَكُونُ طَاهِرًا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ إذَا تَجَاذَبَتْهَا الْأُصُولُ لَحِقَتْ بِأَكْثَرِهَا شَبَهًا وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ اللَّبَنِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَوْلِ وَهُوَ بِهَذَا أَشْبَهُ . وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ فَكَذَلِكَ الْفَرْثُ لِتَظْهَرَ الْقُدْرَةُ وَالرَّحْمَةُ فِي إخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ . وَيُبَيِّنُ هَذَا جَمِيعَهُ أَنَّهُ يُوَافِقُ غَيْرَهُ مِنْ الْبَوْلِ فِي خَلْقِهِ وَلَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَطَعْمِهِ فَكَيْفَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مَعَ هَذِهِ الْجَوَامِعِ الَّتِي تَكَادُ تَجْعَلُ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةَ الْآخَرِ . فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ : قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَتَعْلِيقُ الْحَكَمِ بِالْمُشْتَرَكِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : قِيَاسُ التَّعْلِيلِ بِتَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَضَبْطِ أَصْلٍ كُلِّيٍّ . وَالثَّالِثُ : التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِ الطَّاهِرَاتِ فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِيهَا فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ . أَصْلٌ وَوَصْلٌ وَفَصْلٌ . فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ : هُوَ الْأَصْلُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَاثِ .

وَالثَّانِي : هُوَ الْأَصْلُ وَالْقَاعِدَةُ وَالضَّابِطُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَجِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . أَمَّا الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ : فَضَعِيفٌ جِدًّا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّامَ فِي الْبَوْلِ لِلتَّعْرِيفِ فَتُفِيدُ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطِبِينَ فَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ وَاحِدًا مَعْهُودًا فَهُوَ الْمُرَادُ وَمَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ عَهِدَ بِوَاحِدِ أَفَادَتْ الْجِنْسَ إمَّا جَمِيعُهُ عَلَى الْمُرْتَضَى أَوْ مُطْلَقُهُ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ النَّاسِ وَرُبَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ . وَقَدْ نَصَّ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللِّسَانِ وَالنَّظَرِ فِي دَلَالَاتِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ شَيْءٌ مَعْهُودٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ ثُمَّ شَيْءٌ مَعْهُودٌ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } صَارَ مَعْهُودًا بِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ وَقَوْلِهِ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ } هُوَ مُعَيَّنٌ لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ بِتَقَدُّمِ مَعْرِفَتِهِ وَعِلْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِتَعْرِيفِ جِنْسِ ذَلِكَ الِاسْمِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِ هَلْ يُفِيدُ تَعْرِيفَ عُمُومِ الْجِنْسِ أَوْ مُطْلَقَ الْجِنْسِ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَسَالِكِ . فَإِنَّ الْحَقَائِقَ ثَلَاثَةٌ : عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ وَمُطْلَقَةٌ . فَإِذَا قُلْت الْإِنْسَانَ قَدْ تُرِيدُ جَمِيعَ الْجِنْسِ وَقَدْ تُرِيدُ مُطْلَقَ

الْجِنْسِ وَقَدْ تُرِيدُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِنْ الْجِنْسِ . فَأَمَّا الْجِنْسُ الْعَامُّ : فَوُجُودُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَتَصَوُّرًا . وَأَمَّا الْخَاصُّ مِنْ الْجِنْسِ : مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَوُجُودُهُ هُوَ حَيْثُ حَلَّ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَفِي خَارِجِ الْأَذْهَانِ وَقَدْ يُتَصَوَّرُ هَكَذَا فِي الْقَلْبِ خَاصًّا مُتَمَيِّزًا . وَأَمَّا الْجِنْسُ الْمُطْلَقُ مِثْلَ الْإِنْسَانِ الْمُجَرَّدِ عَنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ وَمُطْلَقُ الْجِنْسِ فَهَذَا كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَحَلِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالْقُلُوبِ فَتُجْعَلُ مَحَلًّا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَرُبَّمَا جُعِلَ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِي كُلِّ إنْسَانٍ حَظًّا مِنْ مُطْلَقِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَالْمَوْجُودُ فِي الْعَيْنِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ النَّوْعِ حَظُّهَا وَقِسْطُهَا . فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَوْلُهُ : فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ الْبَوْلِ بَيَانٌ لِلْبَوْلِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُهُ وَهُوَ بَوْلُ نَفْسِهِ . يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا سَبْعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَا رُوِيَ { فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ } وَالِاسْتِبْرَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَوْلِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ بَرَاءَةِ الذَّكَرِ كَاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ مِنْ الْوَلَدِ .

الثَّانِي : أَنَّ اللَّامَ تُعَاقِبُ الْإِضَافَةَ فَقَوْلُهُ : { مِنْ الْبَوْلِ } كَقَوْلِهِ : مِنْ بَوْلِهِ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ } أَيْ أَبْوَابُهَا . الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ { فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ } وَهَذَا يُفَسِّرُ تِلْكَ الرِّوَايَةَ . ثُمَّ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي اللَّفْظِ مُتَأَخِّرٌ : عَنْ مَنْصُورٍ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَدِّثَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَالْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَكَرُّرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يَبِنْ أَيُّ اللَّفْظَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ . ثُمَّ إنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ اللَّفْظَيْنِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى أَحَدِهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الْآخَرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا فَالظَّاهِرُ الْمُوَافَقَةُ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْحَدِيثَ فِي حِكَايَةِ حَالٍ لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ أَنَّ الْبَوْلَ كَانَ يُصِيبُهُ وَلَا يَسْتَتِرُ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ بَوْلُ نَفْسِهِ . الْخَامِسُ : أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ : الْبَوْلُ كُلُّهُ نَجِسٌ وَقَالَ أَيْضًا لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْغَنَمِ فَعُلِمَ أَنَّ الْبَوْلَ الْمُطْلَقَ عِنْدَهُ هُوَ بَوْلُ الْإِنْسَانِ .

السَّادِسُ : أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ لِلسَّامِعِ عِنْدَ تَجَرُّدِ قَلْبِهِ عَنْ الْوَسْوَاسِ وَالتَّمْرِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ : فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ إلَّا بَوْلَ نَفْسِهِ . وَلَوْ قِيلَ : أَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ لِأَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى بَالِهِمْ جَمِيعُ الْأَبْوَالِ : مِنْ بَوْلِ بَعِيرٍ . وَشَاةٍ وَثَوْرٍ لَكَانَ صِدْقًا . السَّابِعُ : أَنَّهُ يَكْفِي بِأَنْ يُقَالَ : إذَا احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بَوْلَ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ وَأَنْ يُرِيدَ جَمِيعَ جِنْسِ الْبَوْلِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلِ فَيَقِفُ الِاسْتِدْلَالُ . وَهَذَا لَعَمْرِي تَنْزِلُ وَإِلَّا فَاَلَّذِي قَدَّمْنَا أَصْلٌ مُسْتَقِرٌّ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَوْلِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَوْلِ وَهُوَ بَوْلُ نَفْسِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ غَالِبًا وَيَتَرَشْرَشُ عَلَى أَفْخَاذِهِ وَسُوقِهِ وَرُبَّمَا اسْتَهَانَ بِإِنْقَائِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ الِاسْتِنْجَاءَ مِنْهُ فَأَمَّا بَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّ حُكْمَهُ وَإِنْ سَاوَى حُكْمَ بَوْلِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بَلْ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ . أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَكَادُ يُصِيبُهُ بَوْلُ غَيْرِهِ وَلَوْ أَصَابَهُ لَسَاءَهُ ذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ مَوْجُودٍ غَالِبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { اتَّقُوا الْبَوْلَ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ } فَكَيْفَ يَكُونُ عَامَّةُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ شَيْءٍ لَا يَكَادُ يُصِيبُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَهَذَا بَيِّنٌ لَا خَفَاءَ بِهِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيع الْأَبْوَالِ فَسَوْفَ نَذْكُرُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ عَلَى طَهَارَةِ هَذَا النَّوْعِ مَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ الْعَامِّ وَمَعْلُومٌ مِنْ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ إذَا تَعَارَضَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ فَالْعَمَلُ بِالْخَاصِّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ إبْطَالٌ لَهُ وَإِهْدَارٌ وَالْعَمَلُ بِهِ تَرْكٌ لِبَعْضِ مَعَانِي الْعَامِّ وَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ بِبِدَعِ فِي الْكَلَامِ بَلْ هُوَ غَالِبٌ كَثِيرٌ . وَلَوْ سَلَّمْنَا التَّعَارُضَ عَلَى التَّسَاوِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ فِي أَدِلَّتِنَا مِنْ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّرْجِيحِ وُجُوهًا أُخْرَى مِنْ الْكَثْرَةِ وَالْعَمَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِنْ عَجِيبِ مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ } . وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ إصَابَةَ الْإِنْسَانِ بَوْلَ غَيْرِهِ قَلِيلٌ نَادِرٌ وَإِنَّمَا الْكَثِيرُ إصَابَتُهُ بَوْلُ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يُدْرِجَ بَوْلَهُ فِي الْجِنْسِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ الْعَذَابِ بِنَوْعِ مِنْهُ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ . وَاعْتَمَدَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ } يَعْنِي الْبَوْلَ وَالنَّجْوَ . وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا يُفِيدُ تَسْمِيَةَ كُلِّ بَوْلٍ وَنَجْوٍ أَخْبَثَ

وَالْأَخْبَثُ حَرَامٌ نَجِسٌ وَهَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ . فَإِنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ شُمُولٌ لِغَيْرِ مَا يُدَافِعُ أَصْلًا . وَقَوْلُهُ : " إنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُ الْجِنْسَ كُلَّهُ . فَيُقَالُ لَهُ : وَمَا الْجِنْسُ الْعَامُّ ؟ أَكُلُّ بَوْلٍ وَنَجْوٍ ؟ أَمْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ وَنَجْوِهِ ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يُدَافِعُ كُلَّ شَخْصٍ مِنْ جِنْسِ الَّذِي يُدَافِعُ غَيْرُهُ فَأَمَّا مَا لَا يُدَافِعُ أَصْلًا فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ فَهَذِهِ عُمْدَةُ الْمُخَالِفِ . وَأَمَّا الْمَسْلَكُ النَّظَرِيُّ : فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ : مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ . أَمَّا الْمُفَصَّلُ فَالْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ بَوْلٌ وَرَوْثٌ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَنْبِيهِ النُّصُوصِ فَقَدْ سَلَفَ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بَوْلُ الْإِنْسَانِ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فَنَقُولُ : التَّعْلِيلُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بِجِنْسِ اسْتِخْبَاثِ النَّفْسِ وَاسْتِقْذَارِهَا أَوْ بِقَدْرِ مَحْدُودٍ مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ وَالِاسْتِقْذَارِ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ : وَجَبَ تَنْجِيسُ كُلِّ مُسْتَخْبَثٍ مُسْتَقْذَرٍ فَيَجِبُ نَجَاسَةُ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالنُّخَامَةِ ؛ بَلْ نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ الَّذِي جَاءَ الْأَثَرُ بِإِمَاطَتِهِ مِنْ الثِّيَابِ ؛ بَلْ رُبَّمَا نَفَرَتْ النُّفُوسُ عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَشَدُّ مِنْ نُفُورِهَا عَنْ أَرْوَاثِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْبَهَائِمِ مِثْلَ مَخْطَةِ الْمَجْذُومِ إذَا اخْتَلَطَتْ

بِالطَّعَامِ وَنُخَامَةُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ إذَا وُضِعَتْ فِي الشَّرَابِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةً لِبَعْضِ الْأَنْفُسِ إلَى أَنْ يَذْرَعَهُ الْقَيْءُ . وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ بِقَدْرِ مُوَقَّتٍ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ حَقًّا لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَدْرِ مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ الْمُوجِبِ لِلتَّنْجِيسِ وَبَيْنَ مَا لَا يُوجِبُ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ مِمَّا يَنْقُضُ بَيَانَ اسْتِقْذَارِهَا الْحَدُّ الْمُعْتَبَرُ . ثُمَّ إنَّ التَّقْدِيرَاتِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَحْكَامِ إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ اسْتِقْذَارِهَا عَنْ الشَّرْعِ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ فَنَقُولُ : مَتَى حُكِمَ بِنَجَاسَةِ نَوْعٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ مِمَّا غَلُظَ اسْتِخْبَاثُهُ وَمَتَى لَمْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ نَوْعٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَغْلُظْ اسْتِخْبَاثُهُ فَنَعُودُ مُسْتَدِلِّينَ بِالْحُكْمِ عَلَى الْمُعْتَبَرِ مِنْ الْعِلَّةِ فَمَتَى اسْتَرَبْنَا فِي الْحُكْمِ فَنَحْنُ فِي الْعِلَّةِ أَشَدُّ اسْتِرَابَةً فَبَطَلَ هَذَا . وَأَمَّا الشَّاهِدُ بِالِاعْتِبَارِ فَكَمَا أَنَّهُ شَهِدَ لِجِنْسِ الِاسْتِخْبَاثِ شَهِدَ لِلِاسْتِخْبَاثِ الشَّدِيدِ وَالِاسْتِقْذَارِ الْغَلِيظِ . وَثَانِيهِمَا أَنْ نَقُولَ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ؟ وَهَذِهِ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنَّا وَمِنْ الْمُخَالِفِينَ . فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالِانْعِكَاسُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْعِلَلِ فَنَقُولُ فِيهِ مَا قَالُوا فِي اطِّرَادِ الْعِلَّةِ وَأَوْلَى حَيْثُ خُولِفُوا فِيهِ

وَعَدَمُ الِانْعِكَاسِ أَيْسَرُ مِنْ عَدَمِ الِاطِّرَادِ . وَإِذَا افْتَرَقَ الصِّنْفَانِ فِي اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَاللَّبَنِ وَالشَّعْرِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ افْتِرَاقُهُمَا فِي الرَّوْثِ وَالْبَوْلِ وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ أَبْيَنُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ هُوَ بَعْضٌ مِنْ أَبِعَاضِ الْبَهِيمَةِ أَوْ مُتَوَلَّدٍ مِنْهَا فَيَلْحَقُ سَائِرَهَا قِيَاسًا لِبَعْضِ الشَّيْءِ عَلَى جُمْلَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ وَلَبَنُهُ طَاهِرٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَمْوَاهِهِ وَفَضَلَاتِهِ وَمَعَ هَذَا فَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ مِنْ أَخْبَثِ الْأَخْبَاثِ فَحَصَلَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ . فَنَقُولُ : اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ فَارَقَ غَيْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي هَذَا الْبَابِ طَرْدًا وَعَكْسًا فَقِيَاسُ الْبَهَائِمِ بَعْضُهَا بِبَعْضِ وَجَعْلُهَا فِي حَيِّزٍ يُبَايِنُ حَيِّزَ الْإِنْسَانِ وَجُعِلَ الْإِنْسَانُ فِي حَيِّزٍ هُوَ الْوَاجِبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَهِيَ تَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ثُمَّ بَوْلُهُ أَشَدُّ مِنْ بَوْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ مُفَارِقٌ لِتَحْرِيمِ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ لِكَرَمِ نَوْعِهِ وَحُرْمَتِهِ حَتَّى يُحَرِّمَ الْكَافِرُ وَغَيْرُهُ وَحَتَّى لَا يَحِلَّ أَنْ يُدْبَغُ جِلْدُهُ مَعَ أَنَّ بَوْلَهُ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ فَهَذَا وَغَيْرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَوْلَ الْإِنْسَانِ فَارَقَ سَائِرَ فَضَلَاتِهِ أَشَدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ بَوْلِ الْبَهَائِمِ فَضَلَاتُهَا إمَّا لِعُمُومِ

مُلَابَسَتِهِ حَتَّى لَا يَسْتَخِفَّ بِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي عَذِرَةِ الْإِنْسَانِ وَبَوْلِهِ مِنْ الْخَبَثِ وَالنَّتِنِ وَالْقَذِرِ مَا لَيْسَ فِي عَامَّةِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِلْحَاقُ الْأَبْوَالِ بِاللُّحُومِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ أَحْسَنُ طَرْدًا مِنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَنَقُولُ ذَلِكَ الْأَصْلُ فِي الْآدَمِيِّينَ مُسَلَّمٌ وَاَلَّذِي جَاءَ عَنْ السَّلَفِ إنَّمَا جَاءَ فِيهِمْ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ وَخُرُوجُهُ مِنْ الشِّقِّ الْأَعْلَى أَوْ الْأَسْفَلِ فَمِنْ أَيْنَ يُقَالُ كَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ ؛ وَقَدْ مَضَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْفَرْقِ ثُمَّ مُخَالِفُوهُمْ يَمْنَعُونَهُمْ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ فِي الْبَهَائِمِ ؛ فَيَقُولُونَ : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَا خَبُثَ لَحْمُهُ خَبُثَ لَبَنُهُ وَمَنِيُّهُ ؛ بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الِاسْتِحَالَةِ : بَلْ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّ جَمِيعَ الْفَضَلَاتِ الرَّطْبَةِ مِنْ الْبَهَائِمِ حُكْمُهَا سَوَاءٌ فَمَا طَابَ لَحْمُهُ طَابَ لَبَنُهُ وَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ وَمَنِيُّهُ وَعَرَقُهُ وَرِيقُهُ وَدَمْعُهُ . وَمَا خَبُثَ لَحْمُهُ خَبُثَ لَبَنُهُ وَرِيقُهُ وَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ وَمَنِيُّهُ وَعَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَهَذَا قَوْلٌ يَقُولُهُ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّبَنُ وَالْمَنِيُّ يَشْهَدُ لَهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ شَهَادَةً قَاطِعَةً وَبِاسْتِوَاءِ الْفَضَلَاتِ مِنْ الْحَيَوَانِ ضَرْبًا مِنْ الشَّهَادَةِ ؛ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ فَإِنَّهُ مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ نَجَاسَتُهُ كُلُّهَا فِي أَعَالِيهِ . وَمَعِدَتُهُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ اسْتِحَالَةِ

الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الشِّقِّ الْأَسْفَلِ . وَأَمَّا الثَّدْيُ وَنَحْوُهُ فَهُوَ فِي الشِّقِّ الْأَعْلَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ . فَإِنَّ ضَرْعَهَا فِي الْجَانِبِ الْمُؤَخَّرِ مِنْهَا وَفِيهِ اللَّبَنُ الطَّيِّبُ وَلَا مَطْمَعَ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَزْوَرَاتِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ : فَمَدَارُهُ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ فَإِنْ فُصِلَ بِنَوْعِ الِاسْتِقْذَارِ بَطَلَ بِجَمِيعِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي رُبَّمَا كَانَتْ أَشَدَّ اسْتِقْذَارًا مِنْهُ وَإِنْ فُصِلَ بِقَدْرِ خَاصٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِهِ وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُ هَذَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ الْعَامُّ فَمِنْ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ الْآثَارِ الْمَنْصُوصَةِ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدُ الْوَضْعِ وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السَّنَة بَيْنَهُ فَقَدْ ضَاهَى قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَلِذَلِكَ طَهَّرَتْ السُّنَّةُ هَذَا وَنَجَّسَتْ هَذَا . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي بَابٍ لَمْ تَظْهَرْ أَسْبَابُهُ وَأَنْوَاطُهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مَأْخَذُهُ وَمَا . . . (1) ، بَلْ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ : إمَّا قَائِلٌ يَقُولُ هَذَا اسْتِعْبَادٌ مَحْضٌ وَابْتِلَاءٌ صَرْفٌ فَلَا قِيَاسَ وَلَا إلْحَاقَ وَلَا اجْتِمَاعَ وَلَا افْتِرَاقَ

وَإِمَّا قَائِلٌ يَقُولُ : دَقَّتْ عَلَيْنَا عِلَلُهُ وَأَسْبَابُهُ وَخَفِيَتْ عَلَيْنَا مَسَالِكُهُ وَمَذَاهِبُهُ وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولًا يُزَكِّينَا وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بَعَثَهُ إلَيْنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَصْنَعُ مَا رَأَيْنَاهُ يَصْنَعُ وَالسُّنَّةُ لَا تُضْرَبُ لَهَا الْأَمْثَالُ وَلَا تُعَارَضُ بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَالدِّينِ لَيْسَ بِالرَّأْيِ وَيَجِبُ أَنْ يُتَّهَمَ الرَّأْيُ عَلَى الدِّينِ وَالْقِيَاسُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ مُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ أُولِي الْأَلْبَابِ . الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : هَذَا كُلُّهُ مَدَارُهُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ فَإِنَّ رِيحَ الْمُحَرَّمِ خَبِيثَةٌ وَأَمَّا رِيحُ الْمُبَاحِ فَمِنْهُ مَا قَدْ يُسْتَطَابُ : مِثْلَ أَرْوَاثِ الظِّبَاءِ وَغَيْرِهَا . وَمَا لَمْ يَسْتَطِبْ مِنْهُ فَلَيْسَ رِيحُهُ كَرِيحِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ غَالِبًا فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ الْمُبَاحِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةِ وَسَنَعُودُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِهَا .
الدَّلِيلُ الثَّانِي : الْحَدِيثُ الْمُسْتَفِيضُ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُمْ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ نَاسًا مَنَّ عُكْلٍ أَوْ عُرَينة قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَقَاحِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ } . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . فَوَجْهُ الْحُجَّةِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْبِ الْأَبْوَالِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَفْوَاهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ وَآنِيَتَهُمْ فَإِذَا كَانَتْ

نَجِسَةً وَجَبَ تَطْهِيرُ أَفْوَاهِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ لِلصَّلَاةِ وَتَطْهِيرُ آنِيَتِهِمْ فَيَجِبُ بَيَانُ ذَلِكَ لَهُمْ : لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إمَاطَةُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ نَجِسٍ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنْ لَوْ كَانَتْ أَبْوَالُ الْإِبِلِ كَأَبْوَالِ النَّاسِ لَأَوْشَكَ أَنْ يَشْتَدَّ تَغْلِيظُهُ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وُجُوبَ التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَقَدْ أَبْعَدَ غَايَةَ الْإِبْعَادِ وَأَتَى بِشَيْءِ قَدْ يُسْتَيْقَنُ بُطْلَانُهُ لِوُجُوهِ : ( أَحَدُهَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَوَّلُ مَا شُرِعَتْ كَانَتْ أَخْفَى وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَتَنَاقُلِ الْعِلْمِ وَإِفْشَائِهِ صَارَتْ أَبْدَى وَأَظْهَرَ وَإِذَا كُنَّا إلَى الْيَوْمِ لَمْ يَسْتَبِنْ لَنَا نَجَاسَتُهَا بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى طَهَارَتِهَا وَعَامَّةُ التَّابِعِينَ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ : إنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يُنَجِّسُونَهَا وَلَا يَتَّقُونَهَا . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ : وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ وَقَدْ ذُكِرَ طَهَارَةُ الْأَبْوَالِ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ . ثُمَّ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْأَبْوَالُ كُلُّهَا نَجَسٌ . قَالَ : وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ إنَّ أَبْوَالَ الْأَنْعَامِ وأبعارها نَجَسٌ . ( قُلْت وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَوْلِ النَّاقَةِ فَقَالَ :

اغْسِلْ مَا أَصَابَك مِنْهُ . وَعَنْ الزُّهْرِيِّ فِيمَا يُصِيبُ الرَّاعِيَ مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ قَالَ : يُنْضَحُ . وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي بَوْلِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ يُغْسَلُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ نَجَاسَةُ ذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِيهِ فَلَعَلَّ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِ قَلِيلِ الْبَوْلِ وَالرَّوْثِ وَكَثِيرِهِ . فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ بِغَسْلِهِ كَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مَكَانٍ فِيهِ رَوْثُ الدَّوَابِّ وَالصَّحْرَاءُ أَمَامَهُ . وَقَالَ هَاهُنَا وَهَاهُنَا سَوَاءٌ . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لَا بَأْسَ بِبَوْلِ كُلِّ ذِي كِرْشٍ . وَلَسْت أَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا ؛ بَلْ الْقَوْلُ بِطَهَارَتِهَا ؛ إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنْ كَانَ أَرَادَ النَّجَاسَةَ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِأُولَئِكَ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا فَوُجُوبُ التَّطَهُّرِ مِنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ الْبَيِّنَةِ قَدْ أَنْكَرَهُ فِي الثِّيَابِ طَائِفَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُهُ أُولَئِكَ ؟ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُسْتَفِيضًا بَيْنَ ظهراني الصَّحَابَةِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْلَمَهُ أُولَئِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ حَدِيثُو الْعَهْدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرِ فَقَدْ كَانُوا

يَجْهَلُونَ أَصْنَافَ الصَّلَوَاتِ وَأَعْدَادَهَا وَأَوْقَاتَهَا وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ فَجَهْلُهُمْ بِشَرْطِ خَفِيٍّ فِي أَمْرٍ خَفِيٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى لَا سِيَّمَا وَالْقَوْمُ لَمْ يَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أَدْنَى تَفَقُّهٍ وَلِذَلِكَ ارْتَدُّوا وَلَمْ يُخَالِطُوا أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ؛ بَلْ حِينَ أَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ الِاسْتِيخَامُ أَمَرَهُمْ بِالْبَدَاوَةِ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْخَفِيِّ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فِي تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَاكِلًا لِلتَّعْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ ؛ بَلْ يُبَيِّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لِمَنْ أَحْسَنَ الْمَعْرِفَةَ بِالسُّنَنِ الْمَاضِيَةِ .
وَخَامِسُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِنَجَاسَةِ هَذِهِ الْأَرْوَاثِ أَبْيَنَ مِنْ الْعِلْمِ بِنَجَاسَةِ بَوْلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ عَلِمَهُ الْعَذَارَى فِي حِجَالِهِنَّ وَخُدُورِهِنَّ ثُمَّ قَدْ حَذَّرَ مِنْهُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ . فَصَارَ الْأَعْرَابُ الْجُفَاةُ أَعْلَمَ بِالْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ فَهَذَا كَمَا تَرَى .
وَسَادِسُهَا : أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَبْوَالِ وَالْأَلْبَانِ وَأَخْرَجَهُمَا مَخْرَجًا وَاحِدًا وَالْقِرَانُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إنْ لَمْ يُوجِبْ اسْتِوَاءَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُورِثَ شُبْهَةً فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَيَانُ وَاجِبًا لَكَانَتْ الْمُقَارَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّاهِرِ مُوجِبَةً لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ التَّمْيِيزُ حَقًّا .

وَفِي الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ أُخْرَى فِيهَا تَنَازُعٌ وَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ شُرْبَهَا وَلَوْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً نَجِسَةً لَمْ يُبِحْ لَهُمْ شُرْبَهَا وَلَسْت أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي جَوَازِ التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ . كَمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ ؛ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ مَنَاطِهِ فَقِيلَ : هُوَ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنَّمَا أَبَاحَهَا لِلتَّدَاوِي . وَقِيلَ : هِيَ مَعَ ذَلِكَ نَجِسَةٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْوَجْهِ يَحْتَاجُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ النَّجِسَةِ مُحَرَّمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّحْرِيمِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } وَ : { كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ } وَ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ } عَامَّةٌ فِي حَالِ التَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَخَصَّ الْعُمُومَ ؛ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَبَاحَهَا لِلضَّرُورَةِ وَالْمُتَدَاوِي مُضْطَرٌّ فَتُبَاحُ لَهُ أَوْ أَنَّا نَقِيسُ إبَاحَتَهَا لِلْمَرِيضِ عَلَى إبَاحَتِهَا لِلْجَائِعِ بِجَامِعِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرَضَ يُسْقِطُ الْفَرَائِضَ مِنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَالِانْتِقَالِ مِنْ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ إلَى الطَّهَارَةِ بِالصَّعِيدِ فَكَذَلِكَ يُبِيحُ الْمَحَارِمَ ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْمَحَارِمَ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْحِلْيَةِ وَاللِّبَاسِ مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ

قَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِبَاحَةِ اتِّخَاذِ الْأَنْفِ مِنْ الذَّهَبِ وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ بِهِ وَرَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأُصُولُ الْكَثِيرَةُ عَلَى إبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ حِينَ الِاحْتِيَاجِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهَا . قُلْت : أَمَّا إبَاحَتُهَا لِلضَّرُورَةِ فَحَقٌّ ؛ وَلَيْسَ التَّدَاوِي بِضَرُورَةِ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَرْضَى أَوْ أَكْثَرُ الْمَرْضَى يَشْفُونَ بِلَا تَدَاوٍ لَا سِيَّمَا فِي أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْقُرَى وَالسَّاكِنِينَ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ يَشْفِيهِمْ اللَّهُ بِمَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنْ الْقُوَى الْمَطْبُوعَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ الرَّافِعَةِ لِلْمَرَضِ وَفِيمَا يُيَسِّرُهُ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ حَرَكَةٍ وَعَمَلٍ أَوْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ أَوْ رُقْيَةٍ نَافِعَةٍ أَوْ قُوَّةٍ لِلْقَلْبِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ غَيْرِ الدَّوَاءِ وَأَمَّا الْأَكْلُ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانِ تَقُومُ إلَّا بِالْغِذَاءِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ لَمَاتَ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّدَاوِي لَيْسَ مِنْ الضَّرُورَةِ فِي شَيْءٍ . وَثَانِيهَا : أَنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاجِبٌ . قَالَ مَسْرُوقٌ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ وَالتَّدَاوِي غَيْرُ وَاجِبٍ وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ : خَصَمَتْهُ السُّنَّةُ فِي الْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ

بِالْعَافِيَةِ . فَاخْتَارَتْ الْبَلَاءَ وَالْجَنَّةَ . وَلَوْ كَانَ رَفْعُ الْمَرَضِ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ مَوْضِعٌ كَدَفْعِ الْجُوعِ وَفِي دُعَائِهِ لِأَبِي بِالْحِمَى وَفِي اخْتِيَارِهِ الْحِمَى لِأَهْلِ قُبَاء وَفِي دُعَائِهِ بِفَنَاءِ أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ وَفِي نَهْيِهِ عَنْ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ . وَخَصَمَهُ حَالُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُبْتَلِينَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْبَلَاءِ حِينَ لَمْ يَتَعَاطَوْا الْأَسْبَابَ الدَّافِعَةَ لَهُ : مِثْلَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ . وَخَصَمَهُ حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالُوا لَهُ : أَلَا نَدْعُوَ لَك الطَّبِيبَ ؟ قَالَ : قَدْ رَآنِي قَالُوا : فَمَا قَالُ لَك ؟ قَالَ : إنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدَ . وَمِثْلُ هَذَا وَنَحْوِهِ يُرْوَى عَنْ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم الْمُخْبِتِ الْمُنِيبِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْكُوفِيِّينَ أَوْ كَأَفْضَلِهِمْ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ الْهَادِي الْمَهْدِيِّ وَخَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصُونَ عَدَدًا . وَلَسْت أَعْلَمُ سَالِفًا أَوْجَبَ التداوي وَإِنَّمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ يُفَضِّلُ تَرْكَهُ تَفَضُّلًا وَاخْتِيَارًا ؛ لِمَا اخْتَارَ اللَّهُ وَرِضًى بِهِ وَتَسْلِيمًا لَهُ وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُوجِبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهُ وَيُرَجِّحُهُ . كَطَرِيقَةِ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ اسْتِمْسَاكًا لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَجَعَلَهُ مِنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ .

وَثَالِثُهَا : أَنَّ الدَّوَاءَ لَا يُسْتَيْقَنُ بَلْ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ لَا يَظُنُّ دَفْعَهُ لِلْمَرَضِ ؛ إذْ لَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَمُتْ أَحَدٌ بِخِلَافِ دَفْعِ الطَّعَامِ لِلْمَسْغَبَةِ وَالْمُجَاعَةِ فَإِنَّهُ مُسْتَيْقَنٌ بِحُكْمِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَخَلْقِهِ . وَرَابِعُهَا : أَنَّ الْمَرَضَ يَكُونُ لَهُ أَدْوِيَةٌ شَتَّى فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِالْمُحَرَّمِ انْتَقَلَ إلَى الْمُحَلَّلِ وَمُحَالٌ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْحَلَالِ شِفَاءٌ أَوْ دَوَاءٌ وَاَلَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً إلَّا الْمَوْتَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْوِيَةُ الْأَدْوَاءِ فِي الْقِسْمِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ . وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } بِخِلَافِ الْمَسْغَبَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ انْدَفَعَتْ بِأَيِّ طَعَامٍ اتَّفَقَ إلَّا أَنَّ الْخَبِيثَ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ فَقْدِ غَيْرِهِ فَإِنْ صَوَّرْت مِثْلَ هَذَا فِي الدَّوَاءِ فَتِلْكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَنْدَرُ مِنْ الْجُوعِ بِكَثِيرِ وَتَعَيُّنُ الدَّوَاءِ الْمُعَيَّنِ وَعَدَمُ غَيْرِهِ نَادِرٌ فَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا . عَلَى أَنَّ فِي الْأَوْجُهِ السَّالِفَةِ غِنًى . وَخَامِسُهَا : وَفِيهِ فِقْهُ الْبَابِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ خَلْقَهُ مُفْتَقِرِينَ إلَى الطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ لَا تَنْدَفِعُ مَجَاعَتُهُمْ وَمَسْغَبَتُهُمْ إلَّا بِنَوْعِ الطَّعَامِ وَصِنْفِهِ فَقَدْ هَدَانَا وَعَلَّمَنَا النَّوْعَ الْكَاشِفَ لِلْمَسْغَبَةِ الْمُزِيلَ لِلْمَخْمَصَةِ . وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ بِأَنْوَاعِ كَثِيرَةٍ مِنْ الْأَسْبَابِ : ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ رُوحَانِيَّةٍ وَجُسْمَانِيَّةٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الدَّوَاءُ مُزِيلًا . ثُمَّ الدَّوَاءُ بِنَوْعِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِنَوْعِ مِنْ

أَنْوَاعِ الْأَجْسَامِ فِي إزَالَةِ الدَّاءِ الْمُعَيَّنِ . ثُمَّ ذَلِكَ النَّوْعُ الْمُعَيَّنُ يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ بَلْ عَلَى عَامَّتِهِمْ دَرْكُهُ وَمَعْرِفَتُهُ الْخَاصَّةُ الْمُزَاوِلُونَ مِنْهُمْ هَذَا الْفَنَّ أُولُوا الْأَفْهَامِ وَالْعُقُولِ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَدْ أَفْنَى كَثِيرًا مِنْ عُمْرِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْفَى عَلَيْهِ نَوْعُ الْمَرَضِ وَحَقِيقَتُهُ وَيَخْفَى عَلَيْهِ دَوَاؤُهُ وَشِفَاؤُهُ فَفَارَقَتْ الْأَسْبَابُ الْمُزِيلَةُ لِلْمَرَضِ الْأَسْبَابَ الْمُزِيلَةَ لِلْمَخْمَصَةِ فِي هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَيِّنَةِ وَغَيْرِهَا فَكَذَلِكَ افْتَرَقَتْ أَحْكَامُهَا كَمَا ذَكَرْنَا . وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ الْأَقْيِسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهَا يَسْقُطُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ مَا حَضَرَنِي الْآنَ . أَمَّا سُقُوطُ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالِاغْتِسَالِ ؛ فَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ مُسْتَيْقَنَةٌ بِخِلَافِ التَّدَاوِي . وَأَيْضًا فَإِنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَيْسَرُ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَانْظُرْ كَيْفَ أَوْجَبَ الِاجْتِنَابَ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَفَرَّقَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ بَيْنَ الْمُسْتَطَاعِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا يَكَادُ يَكُونُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا فِي الْمَسْأَلَةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ تَسْقُطُ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِاسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَهَذَا بَيِّنٌ بِالتَّأَمُّلِ .

وَأَمَّا الْحِلْيَةُ : فَإِنَّمَا أُبِيحَ الذَّهَبُ لِلْأَنْفِ وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ ؛ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ وَهُوَ يَسُدُّ الْحَاجَةَ يَقِينًا كَالْأَكْلِ فِي الْمَخْمَصَةِ . وَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ : لِلْحَكَّةِ وَالْجَرَبِ إنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ لَيْسَا مُحَرَّمَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُمَا قَدْ أُبِيحَا لِأَحَدِ صِنْفَيْ الْمُكَلَّفِينَ وَأُبِيحَ لِلصِّنْفِ الْآخَرِ بَعْضُهُمَا وَأُبِيحَ التِّجَارَةُ فِيهِمَا وَإِهْدَاؤُهُمَا لِلْمُشْرِكِينَ . فَعُلِمَ إنَّهُمَا أُبِيحَا لِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّدَاوِي أَقْوَى مِنْ الْحَاجَةِ إلَى تَزَيُّنِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النَّجَاسَاتِ . وَأُبِيحَ أَيْضًا لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِذَلِكَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ . ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَرِيرِ وَالطَّعَامِ : أَنَّ بَابَ الطَّعَامِ يُخَالِفُ بَابَ اللِّبَاسِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّعَامِ فِي الْأَبْدَانِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِ اللِّبَاسِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى . فَالْمُحَرَّمُ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُبَاحُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي هِيَ الْمَسْغَبَةُ وَالْمَخْمَصَةُ وَالْمُحَرَّمُ مِنْ اللِّبَاسِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ وَلِلْحَاجَةِ أَيْضًا هَكَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ وَلَا جَمْعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ مَعْلُومٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ أَيُتَدَاوَى بِهَا ؟ فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ }

فَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ رَدًّا عَلَى مَنْ أَبَاحَهُ وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلُهَا قِيَاسًا خِلَافًا لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ قِيَاسَ الْمُحَرَّمِ مِنْ الطَّعَامِ أَشْبَهُ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ ؛ بَلْ الْخَمْرُ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَبَاحَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَوْعِهَا الشُّرْبَ دُونَ الْإِسْكَارِ وَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : الْخَمْرُ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هِيَ دَوَاءٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَفِي إبَاحَةِ التَّدَاوِي بِهَا إجَازَةُ اصْطِنَاعِهَا وَاعْتِصَارِهَا وَذَلِكَ دَاعٍ إلَى شُرْبِهَا وَلِذَلِكَ اخْتَصَّتْ بِالْحَدِّ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَةِ لِقُوَّةِ مَحَبَّةِ الْأَنْفُسِ لَهَا . فَأَقُولُ : أَمَّا قَوْلُك : لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هِيَ دَوَاءٌ . فَهُوَ حَقٌّ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ } ثُمَّ مَاذَا تُرِيدُ بِهَذَا ؟ أَتُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا قُوَّةً طَبِيعِيَّةً مِنْ السُّخُونَةِ وَغَيْرِهَا ؟ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهَا بَعْضُ الْأَدْوَاءِ الْبَارِدَةِ (1) . كَسَائِرِ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ الَّتِي أَوْدَعَهَا جَمِيعَ الْأَدْوِيَةِ مِنْ الْأَجْسَامِ . أَمْ تُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ ؟ فَإِنْ

أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْقَضَايَا الْمُجَرَّبَةِ الَّتِي تَوَاطَأَتْ عَلَيْهَا الْأُمَمُ وَجَرَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَجْرَى الضَّرُورِيَّات بَلْ هُوَ رَدٌّ لِمَا يُشَاهَدُ وَيُعَايَنُ . بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ رَدٌّ لِلْقُرْآنِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْخَمْرِ أَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَالَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ طِيبِ الْأَبْدَانِ . وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهَا دَاءٌ لِلنُّفُوسِ وَالْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَالنَّفْسُ وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَلِكُ الْمَطْلُوبُ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَإِنَّمَا الْبَدَنُ آلَةٌ لَهُ وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ مُطِيعٌ لَهُ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهَا فَإِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْبَدَنُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ فَالْخَمْرُ هِيَ دَاءٌ وَمَرَضٌ لِلْقَلْبِ مُفْسِدٌ لَهُ مُضَعْضِعٌ لِأَفْضَلِ خَوَاصِّهِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَتَصِيرُ دَاءً لِلْبَدَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهَا دَاءً لِلْقَلْبِ . وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْرُوقَةِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا صَلَحَ عَلَيْهَا الْبَدَنُ وَنَبَتَ وَسَمِنَ لَكِنْ يَفْسُدُ عَلَيْهَا الْقَلْبُ فَيَفْسُدُ الْبَدَنُ بِفَسَادِهِ . وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ : الَّتِي فِيهَا فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَدَنِ فَقَطْ وَنَفْعُهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ فَهِيَ وَإِنْ أَصْلَحَتْ شَيْئًا يَسِيرًا فَهِيَ فِي جَنْبِ مَا تُفْسِدُهُ كَلَا إصْلَاحٍ . وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فَهَذَا لَعَمْرِي شَأْنُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ

الْقُوَّةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ الْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ تَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً . عَلَى أَنَّا وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا نَظُنُّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ . فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَسِرُّهَا . وَأَمَّا إفْضَاؤُهُ إلَى اعْتِصَارِهَا : فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اعْتِصَارُهَا وَإِنَّمَا الْقَوْلُ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً أَنَّ هَذَا مُنْتَقِضٌ بِإِطْفَاءِ الْحَرْقِ بِهَا وَدَفْعِ الْغُصَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا . وَأَمَّا اخْتِصَاصُهَا بِالْحَدِّ : فَإِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْمَيْتَةِ أَيْضًا وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّ فِي النُّفُوسِ دَاعِيًا طَبْعِيًّا وَبَاعِثًا إرَادِيًّا إلَى الْخَمْرِ فَنَصْبُ رَادِعٍ شَرْعِيٍّ وَزَاجِرٍ دُنْيَوِيٍّ أَيْضًا لِيَتَقَابَلَا وَيَكُونَ مَدْعَاةً إلَى قِلَّةِ شُرْبِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهَا مِمَّا لَيْسَ فِي النُّفُوسِ إلَيْهِ كَثِيرُ مَيْلٍ وَلَا عَظِيمُ طَلَبٍ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا رَوَى حَسَّانُ بْنُ مخارق قَالَ : { قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ اشْتَكَتْ بِنْتٌ لِي فَنَبَذْت لَهَا فِي كُوزٍ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَغْلِي فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقُلْت : إنَّ بِنْتِي اشْتَكَتْ فَنَبَذْنَا لَهَا هَذَا فَقَالَ :

إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ { أَنَّ رَجُلًا وُصِفَ لَهُ ضُفْدَعٌ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَقَالَ : إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ } فَهَذَا حَيَوَانٌ مُحَرَّمٌ وَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . وَلَعَلَّ تَحْرِيمَ الضُّفْدَعِ أَخَفُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهَا أَنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ فَمَا ظَنُّك بِالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا كُلُّهُ بَيَّنَ لَك اسْتِخْفَافَهُ بِطَلَبِ الطِّبِّ وَاقْتِضَائِهِ وَإِجْرَائِهِ مَجْرَى الرِّفْقِ بِالْمَرِيضِ وَتَطْيِيبِ قَلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ لِرَجُلِ : قَالَ لَهُ : أَنَا طَبِيبٌ قَالَ : { أَنْتَ رَفِيقٌ وَاَللَّهُ الطَّبِيبُ } . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : مَا رُوِيَ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ } وَهُوَ نَصٌّ جَامِعٌ مَانِعٌ وَهُوَ صُورَةُ الْفَتْوَى فِي الْمَسْأَلَةِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ : { مَا أُبَالِي مَا أَتَيْت - أَوْ مَا رَكِبْت - إذَا شَرِبْت تِرْيَاقًا أَوْ تَعَلَّقْت تَمِيمَةً أَوْ قُلْت الشِّعْرَ مِنْ نَفْسِي } مَعَ

مَا رُوِيَ مِنْ كَرَاهَةِ مَنْ كَرِهَ التِّرْيَاقَ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَابِلْ ذَلِكَ نَصٌّ عَامٌّ وَلَا خَاصٌّ يَبْلُغُ ذُرْوَةَ الْمَطْلَبِ وَسَنَامَ الْمَقْصِدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَوْلَا أَنِّي كَتَبْت هَذَا مِنْ حِفْظِي لَاسْتَقْصَيْت الْقَوْلَ عَلَى وَجْهٍ يُحِيطُ بِمَا دَقَّ وَجَلَّ وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ .
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَابِعٌ : الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَغَيْرِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَقَالَ : صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ } . { وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ ؛ فَقَالَ : لَا تُصَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الشَّيَاطِينِ } . وَوَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِذْنَ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ حَائِلًا بَقِيَ مِنْ مُلَامَسَتِهَا وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ إلَى الْبَيَانِ . فَلَوْ احْتَاجَ لَبَيَّنَهُ وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُ هَذَا . وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ : تَرْكُ الاستفصال . فِي حِكَايَةِ الْحَالِ . مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ . يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ . فَإِنَّهُ تَرَكَ استفصال السَّائِلِ : أَهُنَاكَ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْن أبعارها ؟ مَعَ ظُهُورِ الِاحْتِمَالِ ؛ لَيْسَ مَعَ قِيَامِهِ فَقَطْ وَأَطْلَقَ الْإِذْنَ بَلْ هَذَا أَوْكَدُ مِنْ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْحَاجَةَ هنا إلَى الْبَيَانِ أَمَسُّ وَأَوْكَدُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً كَأَرْوَاثِ الْآدَمِيِّينَ لَكَانَتْ

الصَّلَاةُ فِيهَا : إمَّا مُحَرَّمَةً كَالْحُشُوشِ وَالْكُنُفِ أَوْ مَكْرُوهَةً كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْأَخْبَاثِ وَالْأَنْجَاسِ . فَأَمَّا أَنْ يَسْتَحِبَّ الصَّلَاةَ فِيهَا وَيُسَمِّيَهَا بَرَكَةً وَيَكُونَ شَأْنُهَا شَأْنَ الْحُشُوشِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ . وَحَاشَا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى صَلَّى فِي مَبَارِكِ الْغَنَمِ وَأَشَارَ إلَى الْبَرِيَّةِ وَقَالَ : هَاهُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ . وَهُوَ الصَّاحِبُ الْفَقِيهُ الْعَالِمُ بِالتَّنْزِيلِ الْفَاهِمُ لِلتَّأْوِيلِ . سَوَّى بَيْنَ مَحَلِّ الأبعار وَبَيْنَ مَا خَلَا عَنْهَا فَكَيْفَ يُجَامِعُ هَذَا الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا . وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَلَيْسَتْ اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالظِّبَاءِ وَالْخَيْلِ إذْ لَوْ كَانَ السَّبَبُ نَجَاسَةَ الْبَوْلِ لَكَانَ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ . وَهُوَ مُمْتَنِعٌ يَقِينًا .
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ : وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَابِعٌ : مَا ثَبَتَ وَاسْتَفَاضَ مِنْ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَدْخَلَهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَبَرَّكَهَا حَتَّى طَافَ أُسْبُوعًا . وَكَذَلِكَ إذْنُهُ لِأُمِّ سَلَمَةَ أَنْ تَطُوفَ رَاكِبَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الدَّوَابِّ مِنْ الْعَقْلِ مَا تَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ الْمَأْمُورِ بِتَطْهِيرِهِ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . فَلَوْ كَانَتْ أَبْوَالُهَا نَجِسَةً لَكَانَ فِيهِ تَعْرِيضُ

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِلتَّنْجِيسِ مَعَ أَنَّ الضَّرُورَةَ مَا دَعَتْ إلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ دَعَتْ إلَيْهِ وَلِهَذَا اسْتَنْكَرَ بَعْضُ مَنْ يَرَى تَنْجِيسَهَا إدْخَالُ الدَّوَابِّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَحَسْبُك بِقَوْلِهِ بُطْلَانًا رَدُّهُ فِي وَجْهِ السُّنَّةِ الَّتِي رِيبَ فِيهَا .
الدَّلِيلُ الْخَامِسُ وَهُوَ الثَّامِنُ : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فَأَمَّا مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَوْلِهِ } وَهَذَا تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ ؛ إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَبُولًا وَرَدًّا . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا رَيْبَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ قَوْلُ صَاحِبٍ وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ . وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ انْتَشَرَ فِي سَائِرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ فَصَارَ إجْمَاعًا سكوتيا .
الدَّلِيلُ السَّادِسُ وَهُوَ التَّاسِعُ : الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَاجِدًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي معيط إلَى قَوْمٍ قَدْ نَحَرُوا جَزُورًا لَهُمْ فَجَاءَ بِفَرْثِهَا وَسَلَاهَا فَوَضَعَهُمَا عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ وَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ } فَهَذَا أَيْضًا بَيِّنٌ فِي أَنَّ

ذَلِكَ الْفَرْثَ وَالسَّلَى لَمْ يَقْطَعْ الصَّلَاةَ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ فِيمَا أَرَى إلَّا عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ وَأَعْنِي بِالنَّسْخِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُرْتَفِعٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ثَبَتَ لِأَنَّهُ بِخِطَابِ كَانَ بِمَكَّةَ . وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِيَقِينِ ؛ وَأَمَّا بِالظَّنِّ فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ . وَأَيْضًا فَإِنَّا مَا عَلِمْنَا أَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ ثُمَّ صَارَ وَاجِبًا لَا سِيَّمَا مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وَسُورَةُ الْمُدَّثِّرِ فِي أَوَّلِ الْمُنَزَّلِ فَيَكُونُ فَرْضُ التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْفَرَائِضِ . فَهَذَا هَذَا . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَمْلِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ وَعَامَّةُ مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ فَيَلْزَمُهُمْ تَرْكُ الْحَدِيثِ . ثُمَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِخِلَافِهِ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ فِي دَمِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ . ثُمَّ إنِّي لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَأَنَّ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِنْهُ أَوْلَى فَهَذَا هَذَا . لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ : الْفَرْثُ وَالسَّلَى لَيْسَ بِنَجِسِ وَإِنَّمَا هُوَ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ فَرْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ وَظُهُورِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ . وَبِطُولِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ يُوجِبُ تَعَيُّنَ هَذَا . ( فَإِنْ قِيلَ فَفِيهِ السَّلَى وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ دَمٌ . قُلْنَا : يَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ دَمًا يَسِيرًا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَسِيرٌ وَالدَّمُ الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْ حَمْلِهِ فِي الصَّلَاةِ . ( فَإِنْ قِيلَ فَالسَّلَى لَحْمٌ مِنْ ذَبِيحَةِ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ نَجِسٌ وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ . قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حَرَّمَ حِينَئِذٍ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ بَلْ الْمَظْنُونُ أَوْ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ حِينَئِذٍ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنَجِّسُونَ ذَبَائِحَ قَوْمِهِمْ . وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِبُ إلَّا مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ . أَمَّا مَا ذَبَحَهُ قَوْمُهُ فِي دُورِهِمْ لَمْ يَكُنْ يَتَجَنَّبُهُ وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ قَدْ وَقَعَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفَرِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَا لَا قَبِلَ لَهُمْ بِهِ فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْبَلَدِ مُشْرِكُونَ وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا إلَّا مِنْ طَعَامِهِمْ وَخُبْزِهِمْ . وَفِي أَوَانِيهِمْ لِقِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ . ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ فَمَنْ ادَّعَاهُ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ .
الدَّلِيلُ السَّابِعُ وَهُوَ الْعَاشِرُ : مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ وَقَالَ : إنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { فَسَأَلُونِي الطَّعَامَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ فَقُلْت : لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَعُودُ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَلَا تَسْتَنْجُوا

بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ } الَّذِي هُوَ زَادُ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا نُنَجِّسَهُ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا اسْتَنْبَطَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِزَادِ الْإِنْسِ .
ثُمَّ إنَّهُ قَدْ اسْتَفَاضَ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ وَالتَّغْلِيظَ حَتَّى قَالَ : { مَنْ تَقَلَّدَ وَتَرًا أَوْ اسْتَنْجَى بِعَظْمِ أَوْ رَجِيعٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَعْرُ فِي نَفْسِهِ نَجِسًا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يُنَجِّسُهُ وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْبَعْرِ الْمُسْتَنْجَى بِهِ وَالْبَعْرِ الَّذِي لَا يُسْتَنْجَى بِهِ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ . ثُمَّ إنَّ الْبَعْرَ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ عَلَفًا لِقَوْمِ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ جَلَّالَةً وَلَوْ جَاز أَنْ تَصِيرَ جَلَّالَةً لَجَازَ أَنْ تُعْلَفَ رَجِيعَ الْإِنْسِ وَرَجِيعَ الدَّوَابِّ فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الزَّادَ لَهُمْ مَا فَضَلَ عَنْ الْإِنْسِ وَلِدَوَابِّهِمْ مَا فَضَلَ عَنْ دَوَابِّ الْإِنْسِ مِنْ الْبَعْرِ شَرَطَ فِي طَعَامِهِمْ كُلَّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُشْرَطَ فِي عَلَفِ دَوَابِّهِمْ نَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ الطَّهَارَةُ . وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ

وَرَوْثَةٍ فَقَالَ : { إنَّهَا رِكْسٌ } إنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهَا رَوْثَةَ آدَمِيٍّ وَنَحْوِهِ عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رَوْثَةَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثَةَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الرِّكْسِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ لِأَنَّ الرِّكْسَ هُوَ الْمَرْكُوسُ أَيْ الْمَرْدُودُ وَهُوَ مَعْنَى الرَّجِيعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالرَّجِيعِ لَا يَجُوزُ بِحَالِ إمَّا لِنَجَاسَتِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عَلَفُ دَوَابِّ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَتْ نَجِسَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ تَكْثُرُ مُلَابَسَةُ النَّاسِ لَهَا وَمُبَاشَرَتُهُمْ لِكَثِيرِ مِنْهَا خُصُوصًا الْأُمَّةَ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ وَلَا يَزَالُونَ يُبَاشِرُونَهَا وَيُبَاشِرُونَ أَمَاكِنَهَا فِي مُقَامِهِمْ وَسَفَرِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ الِاحْتِفَاءِ فِيهِمْ حَتَّى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ : تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشَنُوا وَامْشُوا حُفَاةً وَانْتَعِلُوا . وَمَحَالِبُ الْأَلْبَانِ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ أَبْوَالِهَا وَلَيْسَ ابْتِلَاؤُهُمْ بِهَا بِأَقَلَّ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي أَوَانِيهِمْ فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً يَجِبُ غَسْلُ الثِّيَابِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَوَانِي مِنْهَا وَعَدَمُ مُخَالَطَتِهِ وَيُمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ ذَلِكَ وَيَجِبُ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ مِمَّا فِيهِ ذَلِكَ إذَا صَلَّى فِيهَا وَالصَّلَاةُ فِيهَا تَكْثُرُ فِي أَسْفَارِهِمْ وَفِي مَرَاحِ أَغْنَامِهِمْ وَيَحْرُمُ شُرْبُ اللَّبَنِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ بَعْرُهَا

وَتُغْسَلُ الْيَدُ إذَا أَصَابَهَا الْبَوْلُ أَوْ رُطُوبَةُ الْبَعْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ لَوَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا تَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَنُقِلَ جَمِيعُهُ أَوْ بَعْضُهُ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ وَعَادَةَ الْقَوْمِ تُوجِبُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ نَجَاسَتَهَا . وَعَدَمُ ذِكْرِ نَجَاسَتِهَا دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهَا مِنْ جِهَةِ تَقْرِيرِهِ لَهُمْ عَلَى مُبَاشَرَتِهَا وَعَدَمُ النَّهْيِ عَنْهُ وَالتَّقْرِيرِ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ . وَمِنْ وَجْهٍ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالْخِطَابِ وَلَا تُحَالُ الْأُمَّةُ فِيهِ عَلَى الرَّأْيِ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُصُولِ لَا مِنْ الْفُرُوعِ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ لَا سِيَّمَا إذَا وَصَلَ بِهَذَا الْوَجْهِ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَهُوَ الثَّانِيَ عَشَرَ : وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّةَ السَّلَفِ قَدْ اُبْتُلِيَ النَّاسُ فِي أَزْمَانِهِمْ بِأَضْعَافِ مَا اُبْتُلُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي كَثْرَةِ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . ثُمَّ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا الْقَوْلُ بِالطَّهَارَةِ أَوْ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَنَسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَعَلَى رِجْلَيْهِ أَثَرُ السِّرْقِينِ . وَهَذَا قَدْ عَايَنَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ بِالْعِرَاقِ وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : إنَّ لِي غَنَمًا تَبْعَرُ فِي مَسْجِدِي وَهَذَا قَدْ عَايَنَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ بِالْحِجَازِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ

النَّخَعِي فِيمَنْ يُصَلِّي وَقَدْ أَصَابَهُ السِّرْقِينُ قَالَ لَا بَأْسَ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَصَابَتْ عِمَامَتَهُ بَوْلُ بَعِيرٍ فَقَالَا : جَمِيعًا لَا بَأْسَ . وَسَأَلَهُمَا جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغُسْلِ إمَّا ضَعِيفٌ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ وَالتَّنْظِيفِ فَإِنَّ نَافِعًا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ طَرِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَكَادُ يُخَالِفُهُ وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَلْفَاظٌ إنْ ثَبَتَتْ فَلَيْسَتْ صَرِيحَةً بِنَجَاسَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : الْبَوْلُ كُلُّهُ يُغْسَلُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْغَنَمِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بَوْلَ الْإِنْسَانِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ الْأَبْوَالُ كُلُّهَا أَنْجَاسٌ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ عَنْهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ النَّجَاسَةِ بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ التَّنْجِيسَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إبْطَالِ الْحَوَادِثِ لَا سِيَّمَا مَقَالَةٌ مُحْدَثَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ إذَا أَمْسَكُوا عَنْ تَحْرِيمِهَا وَتَنْجِيسِهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ كَانَ تَحْرِيمُهَا وَتَنْجِيسُهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَمْسِكُوا عَنْ بَيَانِ أَفْعَالٍ يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ وُجُوبِهَا لَوْ كَانَ

ثَابِتًا فَيَجِيءُ مَنْ بَعْدَهُمْ فَيُوجِبُهَا . وَمَتَى قَامَ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ أَوْ الْوُجُوبِ وَلَمْ يَذْكُرُوا وُجُوبًا وَلَا تَحْرِيمًا كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى عَدَمِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مُعْتَمَدَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ أَصْلٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ أَنْ يَتَأَمَّلَهَا وَلَا يُغْفَلُ عَنْ غَوْرِهَا ؛ لَكِنْ لَا يُسَلَّمُ إلَّا بِعَدَمِ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ بَطَلَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ .
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي الْحَقِيقَةِ : أَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْحُبُوبَ مِنْ الشَّعِيرِ وَالْبَيْضَاءِ وَالذُّرَةِ وَنَحْوِهَا كَانَتْ تُزْرَعُ فِي مَزَارِعِ الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الدَّوَابَّ إذَا دَاسَتْ فَلَا بُدَّ أَنْ تَرُوثَ وَتَبُولَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الْحُبُوبَ لَحُرِّمَتْ مُطْلَقًا أَوْ لَوَجَبَ تَنْجِيسُهَا . وَقَدْ أَسْلَمَتْ الْحِجَازُ وَالْيَمَنُ وَنَجْدُ وَسَائِرُ جَزَائِرِ الْعَرَبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَبُعِثَ إلَيْهِمْ سُعَاتُهُ وَعُمَّالُهُ يَأْخُذُونَ عُشُورَ حُبُوبِهِمْ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا وَكَانَتْ سَمْرَاءُ الشَّامِ تُجْلَبُ إلَى الْمَدِينَةِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى عَهْدِهِ وَعَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ وَكَانَ يُعْطِي الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقَ شَعِيرٍ مِنْ غَلَّةِ خَيْبَرَ وَكُلُّ هَذِهِ

تُدَاسُ بِالدَّوَابِّ الَّتِي تَرُوثُ وَتَبُولُ عَلَيْهَا فَلَوْ كَانَتْ تَنْجُسُ بِذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى أَقَلِّ الْأَحْوَالِ تَطْهِيرُ الْحَبِّ وَغَسْلُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا فُعِلَ عَلَى عَهْدِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهَا . وَلَا يُقَالُ : هُوَ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْحَبَّ الَّذِي أَكَلَهُ مِمَّا أَصَابَهُ الْبَوْلُ وَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : فَصَاحِبُ الْحَبِّ قَدْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ بَعْضِ حَبِّهِ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْجَمِيعِ ؛ بَلْ الْوَاجِبُ تَطْهِيرُ الْجَمِيعِ ؛ كَمَا إذَا عَلِمَ نَجَاسَةَ بَعْضِ الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ أَوْ الْأَرْضِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَكَانُ النَّجَاسَةِ غَسَلَ مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ غَسْلَهَا وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ . ثُمَّ اشْتِبَاهُ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ نَوْعٌ مِنْ اشْتِبَاهِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ فَكَيْفَ يُبَاحُ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ ؟ فَإِنَّ الْقَائِلَ : إمَّا أَنْ يَقُولَ يَحْرُمُ الْجَمِيعُ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ بِالتَّحَرِّي فَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِلَا تَحَرٍّ فَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا جَوَّزَهُ وَإِنَّمَا يُسْتَمْسَكُ بِالْأَصْلِ مَعَ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ إلَّا إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقَالَ : بِطَهَارَةِ هَذِهِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ أَوْ أَنْ يُقَالَ : عُفِيَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْحَاجَةِ . كَمَا يُعْفَى عَنْ رِيقِ الْكَلْبِ فِي بَدَنِ الصَّيْدِ عَلَى أَحَدِ

الْوَجْهَيْنِ وَكَمَا يَطْهُرُ مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ الْحَاجَاتِ . فَيُقَالُ : الْأَصْلُ فِيمَا اُسْتُحِلَّ جَرَيَانُهُ عَلَى وِفَاقِ الْأَصْلِ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَا مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ فَقَدْ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةِ قَوِيَّةٍ وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ . وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْحَظْرَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُسْتَثْنَى هَذَا الْمَوْضِعُ فَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ الْعُمُومِ الضَّعِيفِ وَالْقِيَاسِ الضَّعِيفِ فَدِلَالَةُ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ تِلْكَ عَلَى النَّجَاسَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ . عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ طَهَارَتِهَا وَالْعَفْوِ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَحَدُ مَوَارِدِ الْخِلَافِ فَيَبْقَى إلْحَاقُ الْبَاقِي بِهِ بِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ . وَمِنْ جِنْسِ هَذَا :
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَهُوَ الرَّابِعَ عَشَرَ : وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ عَلَى دِيَاسِ الْحُبُوبِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا بِالْبَقْرِ وَنَحْوِهَا مَعَ الْقَطْعِ بِبَوْلِهَا وَرَوْثِهَا عَلَى الْحِنْطَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ وَلَمْ يَغْسِلْ الْحِنْطَةَ لِأَجْلِ هَذَا أَحَدٌ وَلَا احْتَرَزَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا فِي الْبَيَادِرِ لِوُصُولِ الْبَوْلِ إلَيْهِ .

وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ عِلْمٌ اضْطِرَارِيٌّ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ سُؤَالًا وَلَا أَعْلَمُ لِمَنْ يُخَالِفُ هَذَا شُبْهَةً . وَهَذَا الْعَمَلُ إلَى زَمَانِنَا مُتَّصِلٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ لَكِنْ لَمْ نَحْتَجَّ بِإِجْمَاعِ الْأَعْصَارِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا هَذَا الْخِلَافُ ؛ لِئَلَّا يَقُولُ الْمُخَالِفُ أَنَا أُخَالِفُ فِي هَذَا وَإِنَّمَا احْتَجَجْنَا بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْخِلَافِ . وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مِنْ جِنْسِ الْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْحِنْطَةَ وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ وَيَسْكُنُونَ الْبِنَاءَ فَإِنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تُزْرَعُ وَنَتَيَقَّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ ذَلِكَ الْحَبَّ وَيُقِرُّونَ عَلَى أَكْلِهِ وَنَتَيَقَّنُ أَنَّ الْحَبَّ لَا يُدَاسُ إلَّا بِالدَّوَابِّ وَنَتَيَقَّنُ أَنْ لَا بُدَّ أَنْ تَبُولَ عَلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي يَبْقَى أَيَّامًا وَيَطُولُ دِيَاسُهَا لَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا مُقَدِّمَاتٌ يَقِينِيَّةٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِهِ الَّذِي هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِتَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ وَقَالَ : { جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } وَقَالَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْحَمَامَ لَمْ يَزَلْ مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَمْنِهِ وَعِبَادَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ ذَرْقُهُ يَنْزِلُ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْمَطَافِ وَالْمُصَلَّى . فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَتَنَجَّسَ الْمَسْجِدُ بِذَلِكَ وَلَوَجَبَ

تَطْهِيرُ الْمَسْجِدِ مِنْهُ : إمَّا بِإِبْعَادِ الْحَمَامِ أَوْ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ أَوْ بِتَسْقِيفِ الْمَسْجِدِ وَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِي أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ وَأُمِّهَا وَسَيِّدِهَا لِنَجَاسَةِ أَرْضِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ يَقِينًا . وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْنِ : إمَّا طَهَارَتُهُ مُطْلَقًا أَوْ الْعَفْوُ عَنْهُ . كَمَا فِي الدَّلِيلِ قَبْلَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا رُجْحَانَ الْقَوْلِ بِالطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ .
الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ السَّادِسَ عَشَرَ . مَسْلَكُ التَّشْبِيهِ وَالتَّوْجِيهِ فَنَقُولُ وَاَللَّهُ الْهَادِي : اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ إنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِ حَقِيقَتِهِمَا وَقَدْ سَمَّى اللَّهَ هَذَا طَيِّبًا وَهَذَا خَبِيثًا . وَأَسْبَابُ التَّحْرِيمِ : إمَّا الْقُوَّةُ السبعية الَّتِي تَكُونُ فِي نَفَسِ الْبَهِيمَةِ فَأَكْلُهَا يُورِثُ نَبَاتِ أَبْدَانِنَا مِنْهَا فَتَصِيرُ أَخْلَاقُ النَّاسِ أَخْلَاقَ السِّبَاعِ أَوْ لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَإِمَّا خُبْثُ مَطْعَمِهَا كَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ مِنْ الطَّيْرِ أَوْ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا مُسْتَخْبَثَةٌ كَالْحَشَرَاتِ فَقَدْ رَأَيْنَا طَيِّبَ الْمَطْعَمِ يُؤَثِّرُ فِي الْحِلِّ وَخُبْثِهِ يُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي لُحُومِ الْجَلَّالَةِ وَلَبَنِهَا وَبَيْضِهَا فَإِنَّهُ حُرِّمَ الطَّيِّبُ لِاغْتِذَائِهِ بِالْخَبِيثِ وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ الْمَسْقِيُّ بِالْمَاءِ النَّجِسِ وَالْمُسَمَّدُ بِالسِّرْقِينِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ وَقَدْ رَأَيْنَا عَدَمَ الطَّعَامِ يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ أَوْ خِفَّةِ نَجَاسَتِهِ مِثْلُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ

الطَّعَامَ . فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَشْيَاءَ : مِنْهَا أَنَّ الْأَبْوَالَ قَدْ يُخَفَّفُ شَأْنُهَا بِحَسَبِ الْمَطْعَمِ كَالصَّبِيِّ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا تَكُونُ مَطَاعِمُهَا إلَّا طَيِّبَةً فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ أَبْوَالُهَا طَاهِرَةً لِذَلِكَ . وَمِنْهَا أَنَّ الْمَطْعَمَ إذَا خَبُثَ وَفَسَدَ حَرُمَ مَا نَبَتَ مِنْهُ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ وَبَيْضٍ ؛ كَالْجَلَّالَةِ وَالزَّرْعِ الْمُسَمَّدِ وَكَالطَّيْرِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَإِذَا كَانَ فَسَادُهُ يُؤَثِّرُ فِي تَنْجِيسِ مَا تُوجِبُهُ الطَّهَارَةُ وَالْحِلُّ فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ طَيِّبُهُ وَحِلُّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَطْهِيرِ مَا يَكُونُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ نَجِسًا مُحَرَّمًا فَإِنَّ الْأَرْوَاث وَالْأَبْوَالَ مُسْتَحِيلَةٌ مَخْلُوقَةٌ فِي بَاطِنِ الْبَهِيمَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ . يُبَيِّنُ هَذَا مَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَرْوَاثِ مِنْ مُخَالَفَتِهَا غَيْرَهَا مِنْ الْأَرْوَاثِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّيحِ وَاللَّوْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ فَرْقُ مَا بَيْنَهَا فَرْقُ مَا بَيْنَ اللَّبَنَيْنِ وَالْمُنْبِتَيْنِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ خِلَافُهَا لِلْإِنْسَانِ . يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِلَى الْيَوْمِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ مَا زَالُوا يَدُوسُونَ الزُّرُوعَ الْمَأْكُولَةَ بِالْبَقَرِ وَيُصِيبُ الْحَبَّ مِنْ أَرْوَاثِ الْبَقَرِ وَأَبْوَالِهَا وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ

غَسَلَ حَبًّا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنَجَّسًا أَوْ مُسْتَقْذَرًا لَأَوْشَكَ أَنْ يُنْهَوْا عَنْهَا وَأَنْ تَنْفِرَ عَنْهُ نُفُوسُهُمْ نُفُورَهَا عَنْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ . وَلَوْ قِيلَ هَذَا إجْمَاعٌ عَمَلِيٌّ لَكَانَ حَقًّا وَكَذَلِكَ مَا زَالَ يَسْقُطُ فِي الْمَحَالِبِ مِنْ أبعار الْأَنْعَامِ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ . وَلِذَلِكَ عَفَا عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِالتَّنْجِيسِ عَلَى أَنَّ ضَبْطَ قَانُونٍ كُلِّيٍّ فِي الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ لَمْ يَتَيَسَّرْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْنَا بَعْدَ عِلْمِنَا بِالْأَنْوَاعِ الطَّاهِرَةِ وَالْأَنْوَاعِ النَّجِسَةِ . فَهَذِهِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إلَى مَسَالِكِ الرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَمَامُهُ مَا حَضَرَنِي كِتَابُهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } .
الْفَصْلُ الثَّانِي :
فِي مَنِيِّ الْآدَمِيِّ وَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ نَجِسٌ كَالْبَوْلِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا وَيَابِسًا مِنْ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيّ وَطَائِفَةٍ . وَثَانِيهَا : أَنَّهُ نَجِسٌ يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ

وَإِسْحَاقَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . ثُمَّ هُنَا أَوْجُهٌ قِيلَ : يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ وَمَسْحُ رَطْبِهِ مِنْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ وَمَنِيُّ الرَّجُلِ يَتَأَتَّى فَرْكُهُ وَمَسْحُهُ بِخِلَافِ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ رَقِيقٌ كَالْمَذْيِ وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ . وَقِيلَ يُجْزِئُ فَرْكُهُ فَقَطْ مِنْهُمَا لِذَهَابِهِ بِالْفَرْكِ وَبَقَاءِ أَثَرِهِ بِالْمَسْحِ . وَقِيلَ : بَلْ الْجَوَازُ مُخْتَصٌّ بِالْفَرْكِ مِنْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ . وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ كَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ } - وَرُوِيَ فِي لَفْظِ الدارقطني - { كُنْت أَفْرُكُهُ إذَا كَانَ يَابِسًا وَأَغْسِلُهُ إذَا كَانَ رَطْبًا } . فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ كَالْبَوْلِ يَكُونُ نَجِسًا نَجَاسَةً غَلِيظَةً . فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالدَّمِ أَوْ طَاهِرًا كَالْبُصَاقِ

لَكِنَّ الثَّانِيَ أَرْجَحُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنْ الْأَنْجَاسِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ حَمْلِ قَلِيلِهِ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرِهِ ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْغُسْلِ فِيهِ } . فَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ الْفَرْكِ فِي مَنِيِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْغَسْلُ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الطَّاهِرَ لَا يَطْهُرُ . فَيُقَالُ : هَذَا لَا يُخَالِفُهُ ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لِلرَّطْبِ وَالْفَرْكَ لِلْيَابِسِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ الدارقطني . أَوْ هَذَا أَحْيَانًا وَهَذَا أَحْيَانًا . وَأَمَّا الْغَسْلُ فَإِنَّ الثَّوْبَ قَدْ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالنُّخَامَةِ اسْتِقْذَارًا لَا تَنْجِيسًا ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ . وَابْنُ عَبَّاسٍ : أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ . الدَّلِيلُ الثَّانِي : مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْلِتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَيَحُتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ } . وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ لَا مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَاتِ

فَإِنَّ عَامَّةَ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَتِهِ لَا يُجَوِّزُونَ مَسْحَ رَطْبِهِ . الدَّلِيلُ الثَّالِثُ : مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَوَّلِينَا بِمَا رَوَاهُ إسْحَاقُ الْأَزْرَقُ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ : إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَإِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةِ أَوْ بإذخرة } . قَالَ الدارقطني : لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ شَرِيكٍ . قَالُوا : وَهَذَا لَا يَقْدَحُ ؛ لِأَنَّ إسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ . وَرَوَى عَنْ سُفْيَانَ وَشَرِيكٍ وَغَيْرِهِمَا وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحْمَدُ وَمِنْ فِي طَبَقَتِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَمَا يَنْفَرِدُ بِهِ . وَأَنَا أَقُولُ : أَمَّا هَذِهِ الْفُتْيَا فَهِيَ ثَابِتَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَبْلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمَا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كُتُبِهِمْ . وَأَمَّا رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمُنْكَرٌ بَاطِلٌ لَا أَصْل لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ رَوَوْهُ عَنْ شَرِيكٍ مَوْقُوفًا . ثُمَّ شَرِيكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - لَيْسَا فِي الْحِفْظِ بِذَاكَ وَاَلَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِعَطَاءِ مَثَلُ ابْنِ جريج الَّذِي هُوَ أَثْبَتُ فِيهِ مِنْ الْقُطْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَكِّيِّينَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلَّا مَوْقُوفًا وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى وَهْمِ تِلْكَ الرُّوَاةِ .

فَإِنْ قُلْت : أَلَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ أَنَّ زِيَادَةَ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ ؟ وَأَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ رَفَعَ لَا لِمَنْ وَقَفَ لِأَنَّهُ زَائِدٌ ؟ قُلْت : هَذَا عِنْدَنَا حَقٌّ مَعَ تَكَافُؤِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُخْبِرِينَ وَتَعَادُلِهِمْ وَأَمَّا مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ مَنْ لَمْ يَزِدْ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَوَّلُونَا . وَفِيهِ نَظَرٌ . وَأَيْضًا فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا لَمْ تَتَصَادَمْ الرِّوَايَتَانِ وَتَتَعَارَضَا وَأَمَّا مَتَى تَعَارَضَتَا يَسْقُطُ رِوَايَةُ الْأَقَلِّ بِلَا رَيْبٍ وَهَاهُنَا الْمَرْوِيُّ لَيْسَ هُوَ مُقَابَلًا بِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَهَا ثُمَّ قَالَهَا صَاحِبُهُ تَارَةً . تَارَةً ذَاكِرًا وَتَارَةً آثِرًا وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ حَالٍ وَقَضِيَّةُ عَيْنٍ فِي رَجُلٍ اسْتَفْتَى عَلَى صُورَةٍ وَحُرُوفٍ مَأْثُورَةٍ فَالنَّاسُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَتْ الْقَضِيَّةُ إلَّا وَاحِدَةً إذْ لَوْ تَعَدَّدَتْ الْقَضِيَّةُ لَمَا أَهْمَلَ الثِّقَاتُ الأثبات ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ اهْتِمَامِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَأَهْلُ نَقْدِ الْحَدِيثِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ أَقْعَدُ بِذَلِكَ وَلَيْسُوا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهْمٌ . الدَّلِيلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِطَهَارَتِهِ حَتَّى يَجِيئَنَا مَا يُوجِبُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ وَقَدْ بَحَثْنَا وَسَبَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ

أَصْلًا فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ مُلَابَسَتِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنِيَّ يُصِيبُ أَبْدَانَ النَّاسِ وَثِيَابَهُمْ وَفُرُشَهُمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَلَغُ الْهِرُّ فِي آنِيَتِهِمْ فَهُوَ طَوَافُ الْفَضَلَاتِ بَلْ قَدْ يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ الْمُصِيبِ ثِيَابَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ مَنِيِّ الِاحْتِلَامِ وَالْجِمَاعِ وَهَذِهِ الْمَشَقَّةُ الظَّاهِرَةُ تُوجِبُ طَهَارَتَهُ وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّنْجِيسِ قَائِمًا . أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ خَفَّفَ فِي النَّجَاسَةِ الْمُعْتَادَةِ فَاجْتَزَأَ فِيهَا بِالْجَامِدِ مَعَ أَنَّ إيجَابَ الِاسْتِنْجَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ أَهْوَنُ مِنْ إيجَابِ غَسْلِ الثِّيَابِ مِنْ الْمَنِيِّ لَا سِيَّمَا فِي الشِّتَاءِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ . فَإِنْ قِيلَ : الَّذِي يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : مَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ - النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْقَيْءِ } رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَدْ مَضَى فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْسِلُهُ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ طَهَارَتَيْ الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ فَكَانَ نَجِسًا كَالْبَوْلِ وَالْحَيْضِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إيجَابَ نَجَاسَةِ الطَّهَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ

نَجِسٌ فَإِنَّ إمَاطَتَهُ وَتَنْحِيَتَهُ أَخَفُّ مِنْ التَّطَيُّرِ مِنْهُ فَإِذَا وَجَبَ الْأَثْقَلُ فَالْأَخَفُّ أَوْلَى . لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ إمَاطَةٌ وَتَنْحِيَةٌ فَإِذَا وَجَبَ تَنْحِيَتُهُ فِي مَخْرَجِهِ فَفِي غَيْرِ مَخْرَجِهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَذْيِ فَكَانَ نَجِسًا كَالْمَذْيِ وَذَاكَ لِأَنَّ الْمَذْيَ يَخْرُجُ عِنْدَ مُقَدِّمَاتِ الشَّهْوَةِ وَالْمَنِيُّ أَصْلُ الْمَذْيِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِهَا وَهُوَ يَجْرِي فِي مَجْرَاهُ وَيَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِهِ فَإِذَا نُجِّسَ الْفَرْعُ فَلَأَنْ يُنَجَّسَ الْأَصْلُ أَوْلَى . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الذَّكَرِ أَوْ خَارِجٌ مِنْ الْقُبُلِ فَكَانَ نَجِسًا كَجَمِيعِ الْخَوَارِجِ : مِثْلُ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّجَاسَةِ مَنُوطٌ بِالْمَخْرَجِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَضَلَاتِ الْخَارِجَةَ مِنْ أَعَالِي الْبَدَنِ لَيْسَتْ نَجِسَةً وَفِي أَسَافِلِهِ تَكُونُ نَجِسَةً وَإِنْ جَمَعَهَا الِاسْتِحَالَةُ فِي الْبَدَنِ ؟ الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ قَصَرَتْهُ الشَّهْوَةُ وَلِهَذَا يَخْرُجُ عِنْدَ الْإِكْثَارِ مِنْ الْجِمَاعِ أَحْمَرَ وَالدَّمُ نَجِسٌ وَالنَّجَاسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ عِنْدَكُمْ .

الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ فَيَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ الْبَوْلِ فَيَكُونُ كَاللَّبَنِ فِي الظَّرْفِ النَّجِسِ . فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ . فَنَقُولُ : الْجَوَابُ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ : أَمَّا حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَلَا أَصْلَ لَهُ . فِي إسْنَادِهِ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ الدارقطني : ضَعِيفٌ جِدًّا وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : لَهُ مَنَاكِيرُ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَوْلُهُمْ : يُوجِبُ طَهَارَتَيْ الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ أَمَّا الْخَبَثُ فَمَمْنُوعٌ ؛ بَلْ الِاسْتِنْجَاءُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ كَمَا يُسْتَحَبُّ إمَاطَتُهُ مِنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَقَدْ قِيلَ : هُوَ وَاجِبٌ كَمَا قَدْ قِيلَ يَجِبُ غَسْلُ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْ الْمَذْيِ وَكَمَا يَجِبُ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إذَا خَرَجَ الْخَارِجُ مِنْ الْفَرْجِ فَهَذَا كُلُّهُ طَهَارَةٌ وَجَبَتْ لِخَارِجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ بِهَا إمَاطَتَهُ وَتَنْجِيسَهُ ؛ بَلْ سَبَبٌ آخَرُ كَمَا يُغْسَلُ مِنْهُ سَائِرُ الْبَدَنِ . فَالْحَاصِلُ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ النَّجَاسَةَ ؛ بَلْ سَبَبٌ آخَرُ . فَقَوْلُهُمْ : يُوجِبُ طَهَارَةَ الْخَبَثِ وَصْفٌ مَمْنُوعٌ فِي الْفَرْعِ فَلَيْسَ غَسْلُهُ عَنْ الْفَرْجِ لِلْخَبَثِ وَلَيْسَتْ الطهارات مُنْحَصِرَةً فِي ذَلِكَ : كَغَسْلِ الْيَدِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ وَغَسْلِ الْمَيِّتِ وَالْأَغْسَالُ الْمُسْتَحَبَّةُ وَغَسْلِ الْأُنْثَيَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الطَّهَارَةُ إنْ قِيلَ : بِوُجُوبِهَا فَهِيَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَيَبْطُلُ قِيَاسُهُ عَلَى الْبَوْلِ ؛ لِفَسَادِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ .

وَأَمَّا إيجَابُهُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ فَهُوَ حَقٌّ ؛ لَكِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَيْسَتْ أَسْبَابُهَا مُنْحَصِرَةً فِي النَّجَاسَاتِ . فَإِنَّ الصُّغْرَى تَجِبُ مِنْ الرِّيحِ إجْمَاعًا وَتَجِبُ بِمُوجَبِ الْحُجَّةِ مِنْ مُلَامَسَةِ الشَّهْوَةِ وَمِنْ مَسِّ الْفَرْجِ وَمِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَمِنْ الرِّدَّةِ وَغَسْلِ الْمَيِّتِ وَقَدْ كَانَتْ تَجِبُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلِّ مَا غَيَّرَتْهُ النَّارُ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَسْبَابُ غَيْرُ نَجِسَةٍ . وَأَمَّا الْكُبْرَى : فَتَجِبُ بِالْإِيلَاجِ إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَلَا نَجَاسَةَ وَتَجِبُ بِالْوِلَادَةِ الَّتِي لَا دَمَ مَعَهَا عَلَى رَأْيٍ مُخْتَارٍ وَالْوَلَدُ طَاهِرٌ . وَتَجِبُ بِالْمَوْتِ وَلَا يُقَالُ هُوَ نَجِسٌ . وَتَجِبُ بِالْإِسْلَامِ عِنْدَ طَائِفَةٍ . فَقَوْلُهُمْ : إنَّمَا أَوْجَبَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ أَوْ أَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ نَجِسٌ مُنْتَقِضٌ بِهَذِهِ الصُّوَرِ الْكَثِيرَةِ فَبَطَلَ طَرْدُهُ . فَإِنْ ضَمُّوا إلَى الْعِلَّةِ كَوْنَهُ خَارِجًا انْتَقَضَ بِالرِّيحِ وَالْوَلَدِ نَقْضًا قَادِحًا . ثُمَّ يُقَالُ : قَوْلُكُمْ خَارِجٌ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِرَازُ بِهِ . ثُمَّ إنَّ عَكْسَهُ أَيْضًا بَاطِلٌ وَالْوَصْفُ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ فَإِنَّ مَا لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ : نَجِسٌ كَالدَّمِ الَّذِي لَمْ يُسَلَّ وَالْيَسِيرِ مِنْ الْقَيْءِ . وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَهَذِهِ أَوْجُهٌ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : التَّطْهِيرُ مِنْهُ أَبْعَدُ مِنْ تَطْهِيرِهِ . فَجَمَعَ مَا بَيْنَ مُتَفَاوِتَيْنِ

مُتَبَايِنَيْنِ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ مِنْهُ طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ وَتَطْهِيرُهُ إزَالَةُ خَبَثٍ وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْأَسْبَابُ وَالْأَحْكَامُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ دُونَ تِلْكَ . وَهَذِهِ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتِلْكَ مِنْ بَابِ اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهَذِهِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَاءِ أَوْ التُّرَابِ وَقَدْ تُزَالُ تِلْكَ بِغَيْرِ الْمَاءِ فِي مَوَاضِعَ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي مَوَاضِعَ عَلَى رَأْيٍ وَهَذِهِ يَتَعَدَّى حُكْمُهَا مَحَلَّ سَبَبِهَا إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ وَتِلْكَ يَخْتَصُّ حُكْمُهَا بِمَحَلِّهَا . وَهَذِهِ تَجِبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ السَّبَبِ أَوْ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَتِلْكَ تَجِبُ فِي مَحَلِّ السَّبَبِ فَقَطْ وَهَذِهِ حِسِّيَّةٌ وَتِلْكَ عَقْلِيَّةٌ وَهَذِهِ جَارِيَةٌ فِي أَكْثَرِ أُمُورِهَا عَلَى سُنَنِ مُقَايِسِ الْبَحَّاثِينَ وَتِلْكَ مُسْتَصْعَبَةٌ عَلَى سَبْرِ الْقِيَاسِ وَهَذِهِ وَاجِبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي وُجُوبِ الْأُخْرَى خِلَافٌ مَعْلُومٌ . وَهَذِهِ لَهَا بَدَلٌ وَفِي بَدَلِ تِلْكَ فِي الْبَدَنِ خَاصَّةً خِلَافٌ ظَاهِرٌ . وَبِالْجُمْلَةِ فَقِيَاسُ هَذِهِ الطَّهَارَةِ عَلَى تِلْكَ الطَّهَارَةِ كَقِيَاسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ وَتِلْكَ عِبَادَةٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقِيقَتَيْنِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ إلْحَاقُهُ بِالْمَذْيِ فَقَدْ مُنِعَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ عَلَى قَوْلٍ بِطَهَارَةِ الْمَذْيِ وَالْأَكْثَرُونَ سَلَّمُوهُ وَفَرَّقُوا بِافْتِرَاقِ الْحَقِيقَتَيْنِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ بِخِلَافِهِ . أَلَا

تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْإِمْنَاءِ عَيْبٌ يُبْنَى عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ : مَنْشَؤُهَا عَلَى أَنَّهُ نَقْصٌ وَكَثْرَةُ الْإِمْذَاءِ رُبَّمَا كَانَتْ مَرَضًا وَهُوَ فَضْلَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ كَالْبَوْلِ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي انْبِعَاثِهِمَا عَنْ شَهْوَةِ النِّكَاحِ فَلَيْسَ الْمُوجِبُ لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ عَنْ شَهْوَةِ الْبَاءَةِ فَقَطْ ؛ بَلْ شَيْءٌ آخَرُ . وَإِنْ أَجْرَيْنَاهُ مَجْرَاهُ فَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْعًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ النَّاقِصِ : كَالْإِنْسَانِ إذَا أَسْقَطَتْهُ الْمَرْأَةُ قَبْلَ كَمَالِ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَبْدَأَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَلَا يُنَاطُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْسَانِ إلَّا مَا قَلَّ وَلَوْ كَانَ فَرْعًا ؛ فَإِنَّ النَّجَاسَةَ اسْتِخْبَاثٌ وَلَيْسَ اسْتِخْبَاثُ الْفَرْعِ بِالْمُوجِبِ خُبْثَ أَصْلِهِ : كَالْفُضُولِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْإِنْسَانِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ : فَقِيَاسُهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَارِجَاتِ بِجَامِعِ اشْتِرَاكِهِنَّ فِي الْمَخْرَجِ مَنْقُوضٌ بِالْفَمِ فَإِنَّهُ مَخْرَجُ النُّخَامَةِ وَالْبُصَاقِ الطَّاهِرَيْنِ وَالْقَيْءِ النَّجِسِ . وَكَذَلِكَ الدُّبُرُ مَخْرَجُ الرِّيحِ الطَّاهِرِ وَالْغَائِطِ النَّجِسِ . وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ مَخْرَجُ الْمُخَاطِ الطَّاهِرِ وَالدَّمِ النَّجِسِ . وَإِنْ فَصَلُوا بَيْنَ مَا يَعْتَادُ النَّاسُ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ لِأَسْبَابِ حَادِثَةٍ .

قُلْنَا : النُّخَامَةُ الْمُعْدِيَةُ - إذَا قِيلَ : بِنَجَاسَتِهَا - مُعْتَادَةٌ وَكَذَلِكَ الرِّيحُ . وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ : لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَخْرَجِ ؟ وَلِمَ لَا يُقَالُ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْدِنِ والمستحال فَمَا خُلِقَ فِي أَعْلَى الْبَدَنِ فَطَاهِرٌ وَمَا خُلِقَ فِي أَسْفَلِهِ فَنَجِسٌ وَالْمَنِيُّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ؛ بِخِلَافِ الْبَوْلِ وَالْوَدْيِ . وَهَذَا أَشَدُّ اطِّرَادًا ؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ وَالنُّخَامَةَ الْمُنَجَّسَةَ خَارِجَانِ مِنْ الْفَمِ لَكِنْ لَمَّا اسْتَحَالَا فِي الْمَعِدَةِ كَانَا نَجِسَيْنِ . وَأَيْضًا فَسَوْفَ نُفَرِّقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ فَقَوْلُهُمْ : مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ : عَنْهُ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ مُسْتَنِيرَةٍ قَاطِعَةٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْآدَمِيِّ وَبِمُضْغَتِهِ فَإِنَّهُمَا مُسْتَحِيلَانِ عَنْهُ وَبَعْدَهُ عَنْ الْعَلَقَةِ وَهِيَ دَمٌ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِنَجَاسَتِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ . وَثَانِيهَا : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّمَ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَبُرُوزِهِ يَكُونُ نَجِسًا فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَنْجِيسِهِ وَلَا يُغْنِي الْقِيَاسُ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ وَبَرَزَ بِاتِّفَاقِ الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لِلدَّلِيلِ عَلَى طَهَارَتِهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّجِسَ هُوَ الْمُسْتَقْذَرُ الْمُسْتَخْبَثُ وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَثْبُتُ

لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ إلَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا مَوَاضِعَ خَلْقِهَا فَوَصْفُهَا بِالنَّجَاسَةِ فِيهَا وَصْفٌ بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ . وَثَانِيهَا : أَنَّ خَاصَّةَ النَّجِسِ وُجُوبُ مُجَانَبَتِهِ فِي الصَّلَاةِ . وَهَذَا مَفْقُودٌ فِيهَا فِي الْبَدَنِ مِنْ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى حَامِلًا وِعَاءً مَسْدُودًا قَدْ أُوعِيَ دَمًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَلَئِنْ قُلْت : عُفِيَ عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ . قُلْت : بَلْ جُعِلَ طَاهِرًا لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ . فَمَا الْمَانِعُ مِنْهُ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّلُ طَهَارَةَ الْهِرَّةِ بِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ حَيْثُ يَقُولُ : { إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } ؟ . بَلْ أَقُولُ : قَدْ رَأَيْنَا جِنْسَ الْمَشَقَّةِ فِي الِاحْتِرَازِ مُؤَثِّرًا فِي جِنْسِ التَّخْفِيفِ . فَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ جَمِيعِ الْجِنْسِ مشقا عُفِيَ عَنْ جَمِيعِهِ فَحُكِمَ بِالطَّهَارَةِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ بَعْضِهِ عُفِيَ عَنْ الْقَدْرِ المشق وَهُنَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي دَاخِلِ الْأَبْدَانِ فَيُحْكَمُ لِنَوْعِهِ بِالطَّهَارَةِ كَالْهِرِّ وَمَا دُونَهَا وَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الدِّمَاءَ الْمُسْتَخْبَثَةَ فِي الْأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَا تَقُومُ حَيَاتُهُ إلَّا بِهَا حَتَّى سُمِّيَتْ نَفْسًا فَالْحُكْمُ

بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ أَحَدَ أَرْكَانِ عِبَادِهِ مِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ نَوْعًا نَجِسًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ إلَّا بِدَلِيلِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الدِّمَاءِ الْمُسْتَخْبَثَةِ شَيْءٌ مِنْ أَدِلَّةِ النَّجَاسَةِ وَخَصَائِصِهَا . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْأَعْيَانَ تَفْتَرِقُ حَالُهَا : بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ عَمَلِهَا وَمَنْفَعَتِهَا وَبَيْنَ مَا إذَا فَارَقَتْ ذَلِكَ . فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ مَا دَامَ جَارِيًا فِي أَعْضَاءِ الْمُتَطَهِّرِ فَهُوَ طَهُورٌ فَإِذَا انْفَصَلَ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ . وَالْمَاءُ فِي الْمَحَلِّ النَّجِسِ مَا دَامَ عَلَيْهِ فَعَمَلُهُ بَاقٍ وَتَطْهِيرُهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ فَإِذَا فَارَقَ مَحَلَّ عَمَلِهِ فَهُوَ إمَّا نَجِسٌ أَوْ غَيْرُ مُطَهِّرٍ ؛ وَهَذَا مَعَ تَغَيُّرِ الْأَمْوَاهِ فِي مَوَارِدِ التَّطْهِيرِ تَارَةً بِالطَّاهِرَاتِ وَتَارَةً بِالنَّجَاسَاتِ فَإِذَا كَانَتْ الْمُخَالَطَةُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ أَسْبَابِ التَّغْيِيرِ لَا تُؤَثِّرُ فِي مَحَلِّ عَمَلِنَا وَانْتِفَاعِنَا فَمَا ظَنُّك بِالْجِسْمِ الْمُفْرَدِ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ لُبَابُ الْفِقْهِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ عَنْ أَصْلِ الدَّلِيلِ : أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَحَالَ وَتَبَدَّلَ . وَقَوْلُهُمْ : الِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ . قُلْنَا : مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الْفَتْوَى الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِجْمَاعِ

فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا وَتَحْوِيلِهَا خَلًّا طَهُرَتْ وَكَذَلِكَ تَحْوِيلُ الدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ بَلْ أَقُولُ : الِاسْتِقْرَاءُ دَلَّنَا أَنَّ كُلَّ مَا بَدَأَ اللَّهُ بِتَحْوِيلِهِ وَتَبْدِيلِهِ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ مِثْلُ جَعْلِ الْخَمْرِ خَلًّا وَالدَّمِ مَنِيًّا وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً وَلَحْمِ الْجَلَّالَةِ الْخَبِيثِ طَيِّبًا وَكَذَلِكَ بَيْضُهَا وَلَبَنُهَا وَالزَّرْعُ الْمَسْقِيُّ بِالنَّجِسِ إذَا سُقِيَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَزُولُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ وَيَزُولُ حَقِيقَةُ النَّجِسِ وَاسْمُهُ التَّابِعُ لِلْحَقِيقَةِ وَهَذَا ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحَوِّلُهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَيُبَدِّلُهَا خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَوَادِّهَا وَعَنَاصِرِهَا . وَأَمَّا مَا اسْتَحَالَ بِسَبَبِ كَسْبِ الْإِنْسَانِ كَإِحْرَاقِ الرَّوْثِ حَتَّى يَصِيرَ رَمَادًا وَوَضْعِ الْخِنْزِيرِ فِي الْمَلَّاحَةِ حَتَّى يَصِيرَ مِلْحًا فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ . وَلِلْقَوْلِ بِالتَّطْهِيرِ اتِّجَاهٌ وَظُهُورُ وَمَسْأَلَتِنَا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . الدَّلِيلُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَنِيَّ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ فِي خَلْقِهِ فَإِنَّهُ غَلِيظٌ وَتِلْكَ رَقِيقَةٌ . وَفِي لَوْنِهِ فَإِنَّهُ أَبْيَضُ شَدِيدُ الْبَيَاضِ . وَفِي رِيحِهِ فَإِنَّهُ طَيِّبٌ كَرَائِحَةِ الطَّلْعِ وَتِلْكَ خَبِيثَةٌ . ثُمَّ جَعَلَهُ اللَّهُ أَصْلًا لِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَالْإِنْسَانِ الْمُكَرَّمِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُهُ نَجِسًا وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَقَدْ نَاظَرَ بَعْضَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ

لِرَجُلِ قَالَ لَهُ : مَا بَالُك وَبَالُ هَذَا ؟ قَالَ : أُرِيدَ أَنْ أَجْعَلَ أَصْلَهُ طَاهِرًا وَهُوَ يَأْبَى إلَّا أَنْ يَكُونَ نَجِسًا ثُمَّ لَيْسَ شَأْنُهُ شَأْنَ الْفُضُولِ بَلْ شَأْنَ مَا هُوَ غِذَاءٌ وَمَادَّةٌ فِي الْأَبْدَانِ إذْ هُوَ قِوَامُ النَّسْلِ فَهُوَ بِالْأُصُولِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْفَضْلِ . الدَّلِيلُ السَّادِسُ : وَفِيهِ أَجْوِبَةٌ : ( أَحَدُهَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ بَيْنَهُمَا جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ وَإِنَّ الْبَوْلَ إنَّمَا يَخْرُجُ رَشْحًا وَهَذَا مَشْهُورٌ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ اتِّصَالِهِمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْلُومًا إلَّا فِي ثُقْبِ الذَّكَرِ وَهُوَ طَاهِرٌ أَوْ مَعْفُوٌّ عَنْ نَجَاسَتِهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَرَى فِي مَجْرَاهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَوْلَ قَبْلَ ظُهُورِهِ نَجِسٌ . كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي الدَّمِ وَهُوَ فِي الدَّمِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْبَوْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُكْنٌ وَبَعْضُ وَهَذَا فَضْلٌ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُمَاسَّةَ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ مُوجِبَةٌ لِلتَّنْجِيسِ . كَمَا قَدْ قِيلَ فِي الِاسْتِحَالَةِ وَهُوَ فِي الْمُمَاسَّةِ أَبْيَنُ . يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } وَلَوْ كَانَتْ الْمُمَاسَّةُ فِي الْبَاطِنِ لِلْفَرْثِ مَثَلًا مُوجِبَةً لِلنَّجَاسَةِ لَنُجِّسَ اللَّبَنُ .

فَإِنْ قِيلَ : فَلَعَلَّ بَيْنَهُمَا حَاجِزًا . قِيلَ : الْأَصْلُ عَدَمُهُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ هَذَا فِي مَعْرِضِ بَيَانِ ذِكْرِ الِاقْتِدَارِ بِإِخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ فِي الِاغْتِذَاءِ وَلَا يَتِمُّ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجِزِ وَإِلَّا فَهُوَ مَعَ الْحَاجِزِ ظَاهِرٌ فِي كَمَالِ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { خَالِصًا } وَالْخُلُوصُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ قِيَامِ الْمُوجِبِ لِلشُّرْبِ وَبِالْجُمْلَةِ فَخُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مَنْ رَأَى إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرًا لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا وَإِنَّمَا حَدَثُ نَجَاسَةِ الْوِعَاءِ فَقَالَ : الْمُلَاقَاةُ فِي الْبَاطِنِ غَيْرُ ظَاهِرٍ . وَمَنْ نَجَّسَ هَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنِيِّ بِأَنَّ الْمَنِيَّ يَنْفَصِلُ عَنْ النَّجِسِ فِي الْبَاطِنِ أَيْضًا بِخِلَافِ اللَّبَنِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهُ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا بَعْدَ إبْرَازِ الضَّرْعِ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ فِي حَدِّ مَا يَلْحَقُهُ النَّجَاسَةُ . { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى . وَهَذَا الَّذِي حَضَرَنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .

وَسُئِلَ : (*)
عَنْ الْمَنِيِّ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ طَاهِرًا فَمَا حُكْمُ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ إذَا خَالَطَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْمَنِيُّ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ نَجِسٌ يُجْزِئُ فَرْكُهُ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهَلْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ كَالدَّمِ أَوْ لَا يُعْفَى عَنْهُ كَالْبَوْلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : إنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَحْتَلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْمَنِيَّ يُصِيبُ بَدَنَ أَحَدِهِمْ وَثِيَابَهُ وَهَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَجِسًا لَكَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرُهُمْ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ مِنْ أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِنْجَاءِ وَكَمَا أَمَرَ الْحَائِضَ بِأَنْ تَغْسِلَ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ ثَوْبِهَا بَلْ إصَابَةُ النَّاسِ الْمَنِيَّ أَعْظَمُ بِكَثِيرِ مِنْ

إصَابَةِ دَمِ الْحَيْضِ لِثَوْبِ الْحُيَّضِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ بِغَسْلِ الْمَنِيِّ مِنْ بَدَنِهِ وَلَا ثَوْبِهِ فَعُلِمَ يَقِينًا أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَهَذَا قَاطِعٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ . وَأَمَّا كَوْنُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَغْسِلُهُ تَارَةً مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْرُكُهُ تَارَةً فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَهُ ؛ فَإِنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْوَسَخِ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا : إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة . وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مُسْتَنْجِيًا أَوْ مُسْتَجْمِرًا فَإِنَّ مَنِيَّهُ طَاهِرٌ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : إنَّ مَنِيَّ الْمُسْتَجْمِرِ نَجِسٌ لِمُلَاقَاتِهِ رَأْسَ الذَّكَرِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ عَامَّتُهُمْ يَسْتَجْمِرُونَ وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ مِنْهُمْ إلَّا قَلِيلٌ جِدًّا بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الِاسْتِنْجَاءَ بَلْ أَنْكَرُوهُ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ أَحَدًا مِنْهُمْ بِغَسْلِ مَنِيِّهِ : بَلْ وَلَا فَرْكِهِ . وَالِاسْتِجْمَارُ بِالْأَحْجَارِ : هَلْ هُوَ مُطَهِّرٌ أَوْ مُخَفِّفٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ . فَإِنْ

قِيلَ إنَّهُ مُطَهِّرٌ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ مُخَفِّفٌ ؟ وَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ لِلْحَاجَةِ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ فِي مَحَلِّهِ وَفِيمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَالْمَنِيُّ يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَأُلْحِقَ بِالْمَخْرَجِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَنِيِّ مَا حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنِيَّ طَاهِرٌ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَمَّا كَوْنُ عَائِشَةَ تَغْسِلُهُ تَارَةً مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْرُكُهُ تَارَةً فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَهُ فَإِنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْوَسَخِ وَهَذَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا : إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة . وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مُسْتَنْجِيًا أَوْ مُسْتَجْمِرًا فَإِنَّ مَنِيَّهُ طَاهِرٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ مَنِيَّ الْمُسْتَجْمِرِ نَجِسٌ لِمُلَاقَاتِهِ رَأْسَ الذَّكَرِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ عَامَّتُهُمْ يَسْتَجْمِرُونَ وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ مِنْهُمْ إلَّا الْقَلِيلُ جِدًّا بَلْ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ الِاسْتِنْجَاءَ بَلْ أَنْكَرُوهُ وَالْحَقُّ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَحَدًا مِنْهُمْ بِغَسْلِ الْمَنِيِّ وَلَا فَرْكِهِ . وَالِاسْتِجْمَارُ بِالْحِجَارَةِ . هَلْ هُوَ مُخَفِّفٌ أَوْ مُطَهِّرٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فَإِنْ قِيلَ : هُوَ مُطَهِّرٌ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ هُوَ مُخَفِّفٌ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ لِلْحَاجَةِ وَيُعْفَى عَنْهُ فِي مَحَلِّهِ وَفِيمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأُلْحِقَ بِالْمُخْرَجِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ وَقَعَ عَلَى ثِيَابِهِ مَاءُ طَاقَةٍ مَا يَدْرِي مَا هُوَ : فَهَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجِبُ غَسْلُهُ ، بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ عَلَى الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ السُّؤَالُ عَنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ فَقَدْ مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ رَفِيقٍ لَهُ فَقَطَرَ عَلَى رَفِيقِهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ فَقَالَ صَاحِبُهُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْفَخَّارِ فَإِنَّهُ يُشْوَى بِالنَّجَاسَةِ فَمَا حُكْمُهُ ؟ وَالْأَفْرَانُ الَّتِي تُسَخَّنُ بِالزِّبْلِ فَمَا حُكْمُهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا السِّرْقِينُ النَّجِسُ وَنَحْوُهُ فِي الْوَقُودِ لِيُسَخِّنَ الْمَاءَ أَوْ الطَّعَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُلَابَسَةَ النَّجَاسَةِ وَمُبَاشَرَتَهَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ لِأَنَّ إتْلَافَ النَّجَاسَةِ لَا يَحْرُمُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهَا . وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فَإِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ بِالْإِتْلَافِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهِ وَلِكَرَاهَةِ دُخَّانِ النَّجَاسَةِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا } . ثُمَّ إنَّهُ حَرَّمَ لُبْسَهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ . وَهَذَا وَجْهٌ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عكيم : { كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ } فَإِنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْجُلُودِ بِلَا دِبَاغٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فَرَفَعَ النَّهْيَ عَمَّا أَرْخَصَ فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ قَطُّ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ الدِّبَاغَ مُطَهِّرٌ لِجُلُودِ الْمَيْتَةِ : لَكِنْ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الذَّكَاةِ أَوْ مَقَامَ الْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَأْكُولِ أَوْ جِلْدَ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ . فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ مَا تُطَهِّرُهُ الذَّكَاةُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَمْرِ فِي إطْفَاءِ الْحَرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَلَّمَهُ الْمُنَازِعُونَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِمُجَانَبَةِ الْخَمْرِ أَعْظَمُ فَإِذَا جَازَ إتْلَافُ الْخَمْرِ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَإِتْلَافُ النَّجَاسَاتِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا جَوَازَ طَعَامِ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي النَّارِ أَوْلَى . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا مَظِنَّةُ مُلَابَسَتِهَا فَيُقَالُ : مُلَابَسَةُ النَّجَاسَةِ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ إذَا طَهَّرَ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا . كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ مَعَ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يُكْرَهُ ذَلِكَ .

بَلْ يُسْتَعْمَلُ الْحَجَرُ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا . وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَاءِ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُبَاشَرَتُهَا . وَفِي اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا لَمْ يَقُلْ بِطَهَارَتِهَا فِي الْيَابِسَاتِ رِوَايَتَانِ : أَصَحُّهُمَا جَوَازُ ذَلِكَ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ يُكْرَهُ فَالْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِالْحَاجَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَذَا يُفْضِي إلَى التَّلَوُّثِ بِدُخَّانِ النَّجَاسَةِ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْمَلَّاحَةِ إذَا صَارَتْ مِلْحًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَلْ هِيَ نَجِسَةٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْخِنْزِيرِ الْمَشْوِيِّ فِي التَّنُّورِ هَلْ تُطَهِّرُ النَّارُ مَا لَصِقَ بِهِ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ :
أَحَدُهُمَا هِيَ نَجِسَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَد وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : لَا يَطْهُرُ مِنْ النَّجَاسَةِ بِالِاسْتِحَالَةِ إلَّا الْخَمْرَةُ الْمُنْتَقِلَةُ بِنَفْسِهَا وَالْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ إذَا قِيلَ إنَّ الدَّبْغَ إحَالَةٌ لَا إزَالَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا لَا تَبْقَى نَجِسَةً . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا نَصُّ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى النُّصُوصِ

بَلْ هِيَ أَعْيَانٌ طَيِّبَةٌ فَيَتَنَاوَلُهَا نَصُّ التَّحْلِيلِ وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ بِنَفْسِهَا وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ بِأَنَّ الْخَمْرَ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ إنَّمَا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ : كَالدَّمِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الْغِذَاءِ الطَّاهِرِ وَكَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ حَتَّى الْحَيَوَانُ النَّجِسُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الطَّاهِرَاتِ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنَّ نَفْسَ النَّجِسِ لَمْ يَطْهُرْ لَكِنْ اسْتَحَالَ وَهَذَا الطَّاهِرُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ النَّجِسَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا مِنْهُ وَالْمَادَّةُ وَاحِدَةٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ هُوَ الزَّرْعَ وَالْهَوَاءَ وَالْحَبَّ وَتُرَابُ الْمَقْبَرَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَيِّتَ وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ هُوَ الْمَنِيَّ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ أَجْسَامَ الْعَالَمِ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ وَيُحِيلُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَهِيَ تُبَدَّلُ مَعَ الْحَقَائِقِ لَيْسَ هَذَا هَذَا . فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّمَادُ هُوَ الْعَظْمَ الْمَيِّتَ وَاللَّحْمَ وَالدَّمَ نَفْسَهُ . بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْعَظْمِ . وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ هُوَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالْمَادَّةِ فَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَتْبَعُ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْخَبَثُ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ . وَعَلَى هَذَا فَدُخَانُ النَّارِ الْمُوقَدَةِ بِالنَّجَاسَةِ طَاهِرٌ وَبُخَارُ الْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِي السَّقْفِ طَاهِرٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْفَخَّارُ طَاهِرٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ شَيْءٌ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ خَالَطَهُ مِنْ دُخَانِهَا خَرَجَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَاهِرٌ . وَأَمَّا نَفْسُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَالنِّزَاعُ فِي الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ ؛ لَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . إحْدَاهُمَا : لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي يُكْرَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَلِلْكَرَاهَةِ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا : خَشْيَةُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَلَ إلَى الْمَاءِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيُكْرَهُ لِاحْتِمَالِ تَنَجُّسِهِ فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْمَوْقِدِ وَبَيْنَ النَّارِ حَاجِزٌ حَصِينٌ لَمْ يُكْرَهْ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مَكْرُوهًا وَأَنَّ السُّخُونَةَ حَصَلَتْ بِفِعْلِ مَكْرُوهٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمِثْلُ هَذَا

طَبْخُ الطَّعَامِ بِالْوَقُودِ النَّجِسِ فَإِنْ نَضِجَ الطَّعَامُ كَسُخُونَةِ الْمَاءِ وَالْكَرَاهَةِ فِي طَبْخِ الْفَخَّارِ بِالْوَقُودِ النَّجِسِ تُشْبِهُ تَسْخِينَ الْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ حَاجِزٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ : هَلْ هُوَ نَجِسٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثُ ذَلِكَ فَإِنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَيُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى تَنْجِيسِ ذَلِكَ . بَلْ الْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا سَلَفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ وَبَيَّنَّا فِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسِ . وَالْقَائِلُ بِتَنْجِيسِ ذَلِكَ لَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى نَجَاسَتِهِ أَصْلًا . فَإِنَّ غَايَةَ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ } وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّامَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْبَوْلُ الْمَعْهُودُ هُوَ بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ : { تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ عَذَابِ

الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَوْلِ الْآدَمِيِّ نَفْسِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ كَثِيرًا لَا مِنْ بَوْلِ الْبَهَائِمِ الَّذِي لَا يُصِيبُهُ إلَّا نَادِرًا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ العرنيين الَّذِينَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يَلْحَقُوا بِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا } وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ أَفْوَاهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ . وَلَا بِغَسْلِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَبْوَالُ مَعَ حَدَثَانِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ بَوْلُ الْأَنْعَامِ كَبَوْلِ الْإِنْسَانِ لَكَانَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا سِيَّمَا مَعَ أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْأَلْبَانِ الَّتِي هِيَ حَلَالٌ طَاهِرَةٌ مَعَ أَنَّ التداوي بِالْخَبَائِثِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَأَيْضًا : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ } وَأَنَّهُ أَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ حَائِلٍ وَلَوْ كَانَتْ أبعارها نَجِسَةً لَكَانَتْ مَرَابِضُهَا كَحُشُوشِ بَنِي آدَمَ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا مُطْلَقًا أَوْ لَا يُصَلِّي فِيهَا إلَّا مَعَ الْحَائِلِ الْمَانِعِ فَلَمَّا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ : كَانَ مَنْ سَوَّى بَيْن أَبْوَالِ الْآدَمِيِّينَ وَأَبْوَالِ الْغَنَمِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ . وَأَيْضًا : فَقَدْ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرِهِ

مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَبُولَ الْبَعِيرُ وَأَيْضًا فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَدُوسُونَ حُبُوبَهُمْ بِالْبَقَرِ مَعَ كَثْرَةِ مَا يَقَعُ فِي الْحَبِّ مِنْ الْبَوْلِ وَأَخْبَاثِ الْبَقَرِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ فَلَا يَجُوزُ التَّنْجِيسُ إلَّا بِدَلِيلِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّجَاسَةِ ؛ إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ .
وَسُئِلَ :
عَنْ فَرَّانٍ يَحْمِي بِالزِّبْلِ وَيَخْبِزُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ الزِّبْلُ طَاهِرًا مِثْلَ زِبْلِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَزِبْلِ الْخَيْلِ ، فَهَذَا لَا يُنَجِّسُ الْخُبْزَ ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا كَزِبْلِ الْبِغَالِ وَالْحُمُرِ وَزِبْلِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ فَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ : إنْ كَانَ يَابِسًا فَقَدْ يَبِسَ الْفُرْنُ مِنْهُ وَلَمْ يُنَجِّسْ الْخُبْزَ وَإِنْ عَلَقَ بَعْضُهُ بِالْخُبْزِ قُلِعَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ وَلَمْ يُنَجَّسْ الْبَاقِي . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْكَلْبِ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْكَلْبُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ نَجِسٌ كُلُّهُ حَتَّى شَعْرُهُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ حَتَّى رِيقُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ رِيقَهُ نَجِسٌ وَأَنَّ شَعْرَهُ طَاهِرٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ . فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ رُطُوبَةُ شَعْرِهِ لَمْ يَنْجُسْ بِذَلِكَ وَإِذَا وَلَغَ فِي الْمَاءِ أُرِيقَ وَإِذَا وَلَغَ فِي اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ : فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ يُؤْكَلُ ذَلِكَ الطَّعَامُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُرَاقُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . فَأَمَّا إنْ كَانَ اللَّبَنُ كَثِيرًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ . وَلَهُ فِي الشُّعُورِ النَّابِتَةِ عَلَى مَحَلٍّ نَجِسٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهَا : أَنَّ جَمِيعَهَا طَاهِرٌ حَتَّى شَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ جَمِيعَهَا نَجِسٌ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ .

وَالثَّالِثَةُ : أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْحَيَاةِ كَانَ طَاهِرًا كَالشَّاةِ وَالْفَأْرَةِ وَشَعْرُ مَا هُوَ نَجِسٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ نَجِسٌ : كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَنْصُوصَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ هُوَ طَهَارَةُ الشُّعُورِ كُلِّهَا : شَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرُهُمَا بِخِلَافِ الرِّيقِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ شَعْرُ الْكَلْبِ رَطْبًا وَأَصَابَ ثَوْبَ الْإِنْسَانِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ فَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ شَيْءٍ وَلَا تَحْرِيمُهُ إلَّا بِدَلِيلِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَرْفُوعًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا أَنَّهُ قَالَ : { الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ } . فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا ذِكْرُ الْوُلُوغِ لَمْ يَذْكُرْ سَائِرَ الْأَجْزَاءِ فَتَنْجِيسُهَا إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ .

فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْبَوْلَ أَعْظَمُ مِنْ الرِّيقِ كَانَ هَذَا مُتَوَجِّهًا . وَأَمَّا إلْحَاقُ الشَّعْرِ بِالرِّيقِ فَلَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّ الرِّيقَ مُتَحَلِّلٌ مِنْ بَاطِنِ الْكَلْبِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ فَإِنَّهُ نَابِتٌ عَلَى ظَهْرِهِ . وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ طَاهِرٌ بِخِلَافِ رِيقِهَا . وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الزَّرْعَ النَّابِتَ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ طَاهِرٌ فَغَايَةُ شَعْرِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ نَابِتًا فِي مَنْبَتٍ نَجِسٍ كَالزَّرْعِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ فَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ طَاهِرًا فَالشَّعْرُ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ لِأَنَّ الزَّرْعَ فِيهِ رُطُوبَةٌ وَلِينٌ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الْيُبُوسَةِ وَالْجُمُودِ مَا يَمْنَعُ ظُهُورَ ذَلِكَ . فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ : إنَّ الزَّرْعَ طَاهِرٌ فَالشَّعْرُ أَوْلَى وَمَنْ قَالَ إنَّ الزَّرْعَ نَجِسٌ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَا ذُكِرَ فَإِنَّ الزَّرْعَ يَلْحَقُ بِالْجَلَّالَةِ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْجَلَّالَةَ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَبَنِهَا فَإِذَا حُبِسَتْ حَتَّى تَطِيبَ كَانَتْ حَلَالًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي لَبَنِهَا وَبَيْضِهَا وَعَرَقِهَا فَيَظْهَرُ نَتْنُ النَّجَاسَةِ وَخُبْثُهَا فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتْ طَاهِرَةً فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا . وَالشَّعْرُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ النَّجَاسَةِ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ لِتَنْجِيسِهِ مَعْنًى .

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ فِي شُعُورِ الْمَيْتَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَكُلُّ حَيَوَانٍ قِيلَ بِنَجَاسَتِهِ فَالْكَلَامُ فِي شَعْرِهِ وَرِيشِهِ كَالْكَلَامِ فِي شَعْرِ الْكَلْبِ فَإِذَا قِيلَ : بِنَجَاسَةِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ إلَّا الْهِرَّةَ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : عُلَمَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي رِيشِ ذَلِكَ وَشَعْرِهِ فِيهِ هَذَا النِّزَاعُ : هَلْ هُوَ نَجِسٌ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ طَاهِرٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ نَجِسٌ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد وَالْقَوْلُ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ . كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي اقْتِنَاءِ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ وَلَا بُدَّ لِمَنْ اقْتَنَاهُ أَنْ يُصِيبَهُ رُطُوبَةُ شُعُورِهِ كَمَا يُصِيبُهُ رُطُوبَةُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ شُعُورِهَا

وَالْحَالُ هَذِهِ مِنْ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ عَنْ الْأُمَّةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ لُعَابَ الْكَلْبِ إذَا أَصَابَ الصَّيْدَ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ ذَلِكَ فَقَدْ عفى عَنْ لُعَابِ الْكَلْبِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَاعَى مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ وَحَاجَتَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ كَلْبٍ طَلَعَ مِنْ مَاءٍ فَانْتَفَضَ عَلَى شَيْءٍ فَهَلْ يَجِبُ تَسْبِيعُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجِبُ تَسْبِيعُهُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَجِبُ تَسْبِيعُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ سُؤْرِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ : هَلْ هُوَ طَاهِرٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا سُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ التَّوَضُّؤَ بِهِ . كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ . وَالثَّالِثَةُ أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ بَاطِنِ حَيَوَانٍ نَجِسٍ فَيَكُونُ نَجِسًا كَلُعَابِ الْكَلْبِ : لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْهِرَّةِ : { إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } فَعَلَّلَ طَهَارَةَ سُؤْرِهَا لِكَوْنِهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْنَا وَالطَّوَّافَاتِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَاجَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِلطَّهَارَةِ وَهَذَا مِنْ حُجَّةِ مَنْ يُبِيحُ سُؤْرَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ . فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ وَالْمَانِعُ يَقُولُ ذَلِكَ مِثْلُ سُؤْرِ الْكَلْبِ فَإِنَّهُ مَعَ إبَاحَةِ قِنْيَتِهِ لِمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ نُهِيَ عَنْ سُؤْرِهِ . وَالْمُرَخِّصُ يَقُولُ : إنَّ الْكَلْبَ أَبَاحَهُ لِلْحَاجَةِ وَلِهَذَا حَرَّمَ ثَمَنَهُ ؛ بِخِلَافِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَإِنَّ بَيْعَهُمَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَسْآرِ السِّبَاعِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ طِينِ جَبَلٍ بِزِبْلِ حِمَارٍ وَطُيِّنَ بِهِ سَطْحٌ فَوَقَعَ عَلَيْهِ قَطْرٌ فَتَعَلَّقَ بِهِ مَا حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ . فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .

وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الزِّبْلُ قَدْ خُلِطَ بِالطِّينِ الَّذِي طُيِّنَ بِهِ السَّطْحُ فَقَدْ يَكُونُ قَدْ اسْتَحَالَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِلْ فَاَلَّذِي تَعَلَّقَ بِالْقَطْرِ شَيْءٌ يَسِيرٌ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا بَالَ الْفَأْرُ فِي الْفِرَاشِ هَلْ يُصَلَّى فِيهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
غَسْلُهُ أَحْوَطُ وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد .
وَسُئِلَ :
عَنْ رِيشِ الْقُنْفُذِ هَلْ هُوَ نَجِسٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هُوَ طَاهِرٌ وَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ .

بَابٌ الْحَيْضُ :
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَيْضُ لِلْجَارِيَةِ : الْبِكْرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ } هَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؟ وَمَا تَأْوِيلُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا نَقْلُ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ بَلْ هُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ . وَلَكِنْ هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ أَبِي الْخُلْدِ عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي أَبِي الْخُلْدِ . وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ : أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ كَمَا يَقُولُهُ : الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَيَقُولُونَ : أَقَلُّهُ يَوْمٌ كَمَا يَقُولُهُ : الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد . أَوْ لَا حَدَّ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ . فَهُمْ يَقُولُونَ : لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ فِي هَذَا شَيْءٌ وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَادَةِ كَمَا قُلْنَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ جِمَاعِ الْحَائِضِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَطْءُ الْحَائِضِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ وَطِئَهَا وَكَانَتْ حَائِضًا فَفِي الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِي غُسْلِهَا مِنْ الْجَنَابَةِ دُونَ الْحَيْضِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَوَطْءُ النُّفَسَاءِ كَوَطْءِ الْحَائِضِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . لَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَسَوَاءٌ اسْتَمْتَعَ مِنْهَا بِفَمِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِرِجْلِهِ فَلَوْ وَطِئَهَا فِي بَطْنِهَا وَاسْتَمْنَى جَازَ . وَلَوْ اسْتَمْتَعَ بِفَخِذَيْهَا فَفِي جَوَازِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرْأَةِ تَطْهُرُ مِنْ الْحَيْضِ وَلَمْ تَجِدْ مَاءً تَغْتَسِلُ بِهِ هَلْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ غُسْلِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فَلَا يَطَؤُهَا زَوْجُهَا حَتَّى

تَغْتَسِلَ إذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ . وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ حَيْثُ رُوِيَ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ - مِنْهُمْ الْخُلَفَاءُ - أَنَّهُمْ قَالُوا : فِي الْمُعْتَدَّةِ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } قَالَ مُجَاهِدٌ : حَتَّى يَطْهُرْنَ يَعْنِي يَنْقَطِعُ الدَّمُ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ وَهُوَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ غَايَتَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } غَايَةُ التَّحْرِيمِ الْحَاصِلُ بِالْحَيْضِ وَهُوَ تَحْرِيمٌ لَا يَزُولُ بِالِاغْتِسَالِ وَلَا غَيْرِهِ فَهَذَا التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ ثُمَّ يَبْقَى الْوَطْءُ بَعْدَ ذَلِكَ جَائِزًا بِشَرْطِ الِاغْتِسَالِ لَا يَبْقَى مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِهَذَا قَالَ : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَنِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي غَايَةُ التَّحْرِيمِ الْحَاصِلِ بِالثَّلَاثِ فَإِذَا نَكَحَتْ الزَّوْجَ الثَّانِيَ زَالَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ ؛ لَكِنْ صَارَتْ فِي عِصْمَةِ الثَّانِي فَحُرِّمَتْ لِأَجْلِ حَقِّهِ ؛ لَا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ . فَإِذَا طَلَّقَهَا جَازَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أَيْ غَسَلْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَيْسَ بِشَيْءِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } فَالتَّطَهُّرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ هُوَ الِاغْتِسَالُ وَأَمَّا قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُغْتَسِلُ وَالْمُتَوَضِّئُ وَالْمُسْتَنْجِي لَكِنَّ التَّطَهُّرَ الْمَقْرُونَ بِالْحَيْضِ كَالتَّطَهُّرِ الْمَقْرُونِ بِالْجَنَابَةِ . وَالْمُرَادُ بِهِ الِاغْتِسَالُ . وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : إذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أَوْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ حَلَّتْ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ . وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّوَابُ . كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إتْيَانِ الْحَائِضِ قَبْلَ الْغُسْلِ ؟ وَمَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : فَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ ؟ وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ ؟ وَهَلْ الْأَئِمَّةُ مُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ

وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُجَوِّزُ وَطْأَهَا إذَا انْقَطَعَ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ أَوْ مَرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ فَاغْتَسَلَتْ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْآثَارُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ :
أَحَدُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - { أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حبيش سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَ : إنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي } - وَفِي رِوَايَةٍ - { وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي } . وَالْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : { أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ } . فَهَلْ كَانَتْ تَغْتَسِلُ الْغُسْلَ الْكَامِلَ الْمَشْرُوعَ ؟ أَمْ كَانَتْ تَغْسِلُ الدَّمَ وَتَتَوَضَّأُ ؟ وَمَعَ هَذَا

فَهَلْ كَانَتْ نَاسِيَةً لِأَيَّامِ الْحَيْضِ ؟ أَمْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً ؟ وَهَلْ نَسَخَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَ ؟ وَأَيُّهُمَا كَانَ النَّاسِخَ ؟ وَهَلْ إذَا اُبْتُلِيَتْ الْمَرْأَةُ بِمَا اُبْتُلِيَتْ بِهِ أُمُّ حَبِيبَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ الْغُسْلَ الْكَامِلَ ؟ وَإِذَا أُمِرَتْ بِالْغُسْلِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الْحَرَجِ الْعَظِيمِ ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَهَلْ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا . فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ : فِيمَنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ تَعْلَمُ قَدْرَهَا فَإِذَا اُسْتُحِيضَتْ قَعَدَتْ قَدْرَ الْعَادَةِ وَلِهَذَا قَالَ : { فَدَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا } وَقَالَ : { إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي } وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُعْتَادَةِ . أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى عَادَتِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد . لَكِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ لَوْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً تَمَيُّزَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْأَحْمَرِ : فَهَلْ تُقَدِّمُ التَّمْيِيزَ عَلَى الْعَادَةِ ؟ أَمْ الْعَادَةُ عَلَى التَّمْيِيزِ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ التَّمْيِيزَ عَلَى الْعَادَةِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالثَّانِي : فِي أَنَّهَا تُقَدِّمُ الْعَادَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَذْهَبُ

أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَعْتَبِرْ التَّمْيِيزَ كَمَا أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَعْتَبِرْ الْعَادَةَ . لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد يَعْتَبِرَانِ هَذَا وَهَذَا وَالنِّزَاعُ فِي التَّقْدِيمِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي : فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَكِنْ أَمَرَهَا بِالْغُسْلِ مُطْلَقًا فَكَانَتْ هِيَ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَالْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُسْتَحَبٌّ ؛ لَيْسَ بِوَاجِبِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ إذَا قَعَدَتْ أَيَّامًا مَعْلُومَةً هِيَ أَيَّامُ الْحَيْضِ ثُمَّ اغْتَسَلَتْ كَمَا تَغْتَسِلُ مَنْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا ثُمَّ صَلَّتْ وَصَامَتْ فِي هَذِهِ الِاسْتِحَاضَةِ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا مَالِكٌ فَعِنْدَهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ فَإِنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَهُ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ النَّادِرَاتِ وَقَدْ احْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ بِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ } . وَهَذِهِ الْمُسْتَحَاضَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ تَكُنْ مُبْتَدَأَةً وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ فَإِنَّهَا كَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً وَإِنَّمَا حَمَلُوا أَمْرَهَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَاسِيَةً لِعَادَتِهَا وَفِي السُّنَنِ : { أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَحِيضَ سِتًّا أَوْ سَبْعًا } كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بِنْتِ سَهْلٍ وَبِهَذَا احْتَجَّ الْإِمَامُ

أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ الْمُتَمَيِّزَةَ تَجْلِسُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا وَهُوَ غَالِبُ الْحَيْضِ . وَفِي الْمُسْتَحَاضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ سُنَنٍ : سُنَّةٌ فِي الْعَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَسُنَّةٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ } وَسُنَّةٌ فِي غَالِبِ الْحَيْضِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { تَحَيَّضِي سِتًّا أَوْ سَبْعًا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ أَوْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَيَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ } . وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي الِاسْتِحَاضَةِ نِزَاعٌ فَإِنَّ أَمْرَهَا مُشْكِلٌ لِاشْتِبَاهِ دَمِ الْحَيْضِ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ فَاصِلٍ يَفْصِلُ هَذَا مِنْ هَذَا . وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي قِيلَ بِهَا سِتَّةٌ : إمَّا الْعَادَةُ فَإِنَّ الْعَادَةَ أَقْوَى الْعَلَامَاتِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مُقَامُ الْحَيْضِ دُونَ غَيْرِهِ . وَإِمَّا التَّمْيِيزُ ؛ لِأَنَّهُ الدَّمُ الْأَسْوَدُ وَالثَّخِينُ الْمُنْتِنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَيْضًا مِنْ الْأَحْمَرِ . وَإِمَّا اعْتِبَارُ غَالِبِ عَادَةِ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ

الْأَغْلَبِ فَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ الثَّلَاثُ تَدُلُّ عَلَيْهَا السُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُجْلِسُهَا لَيْلَةً وَهُوَ أَقَلُّ الْحَيْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجْلِسُهَا الْأَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ دَمِ الصِّحَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهَا بِعَادَةِ نِسَائِهَا . وَهَلْ هَذَا حُكْمُ النَّاسِيَةِ . أَوْ حُكْمُ الْمُبْتَدَأَةِ وَالنَّاسِيَةِ جَمِيعًا فِيهِ نِزَاعٌ ؟ وَأَصْوَبُ الْأَقْوَالِ اعْتِبَارُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَإِلْغَاءُ مَا سِوَى ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمُتَمَيِّزَةُ فَتَجْلِسُ غَالِبَ الْحَيْضِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا دَمًا مَحْكُومًا بِأَنَّهُ حَيْضٌ بَلْ أَمَرَهَا بِالِاحْتِيَاطِ مُطْلَقًا فَقَدْ كَلَّفَهَا أَمْرًا عَظِيمًا لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِمِثْلِهِ وَفِيهِ تَبْغِيضُ عِبَادَةِ اللَّهِ إلَى أَهْلِ دِينِ اللَّهِ وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مِنْ أَضْعَفِ الْأَقْوَالِ جِدًّا . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الدَّمَ بِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ :
دَمٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ حَيْضٌ كَالدَّمِ الْمُعْتَادِ الَّذِي لَا اسْتِحَاضَةَ مَعَهُ .
وَدَمٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ كَدَمِ الصَّغِيرَةِ .
وَدَمٌ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ حَيْضٌ . وَهُوَ دَمُ الْمُعْتَادَةِ

وَالْمُمَيِّزَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ المستحاضات الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ حَيْضٌ . وَدَمٌ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ . وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ مِنْ دِمَاءِ هَؤُلَاءِ . وَدَمٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَهَذَا يَقُولُ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَيُوجِبُونَ عَلَى مَنْ أَصَابَهَا أَنْ تَصُومَ وَتُصَلِّيَ ثُمَّ تَقْضِي الصَّوْمَ وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } فَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَغَيْرِهَا مَا تَتَّقِيهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ الشَّرِيعَةَ فِيهَا شَكٌّ مُسْتَمِرٌّ يَحْكُمُ بِهِ الرَّسُولُ وَأُمَّتُهُ نَعَمْ : قَدْ يَكُونُ شَكٌّ خَاصٌّ بِبَعْضِ النَّاسِ . كَاَلَّذِي يَشُكُّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا ؟ كَالشُّبُهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَأَمَّا شَكٌّ وَشُبْهَةٌ تَكُونُ فِي نَفْسِ الشَّرِيعَةِ فَهَذَا بَاطِلٌ وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ هَذَا دَم شَكٍّ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الشَّرْعِ ؛ لَا يَقُولُونَ : نَحْنُ شَكَكْنَا ؛ فَإِنَّ الشَّاكَّ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ فَلَا يَجْزِمُ وَهَؤُلَاءِ يَجْزِمُونَ بِوُجُوبِ الصِّيَامِ وَإِعَادَتِهِ لِشَكِّهِمْ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَيْسَ فِيهَا إيجَابُ الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ وَلَا

الصِّيَامُ مَرَّتَيْنِ إلَّا بِتَفْرِيطِ مِنْ الْعَبْدِ . فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ تَفْرِيطِهِ فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ صَوْمَ شَهْرَيْنِ فِي السُّنَّةِ وَلَا صَلَاةَ ظُهْرَيْنِ فِي يَوْمٍ وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ ضَعْفُ قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ الصَّلَاةَ وَيُوجِبُ إعَادَتَهَا . فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ ضَعِيفٌ . كَمَا بُسِطَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَنْ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَإِعَادَتِهَا وَبِالصَّلَاةِ مَعَ الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ الَّتِي لَا تَتَّصِلُ وَإِعَادَتِهَا وَمَنْ يَأْمُرُ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالصِّيَامِ مَرَّتَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجَدُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنَّ الصَّوَابَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَمَا أُمِرَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ لَكِنْ يَأْمُرُ بِالْإِعَادَةِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } وَكَمَا أَمَرَ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ " فَأَمَّا الْمَعْذُورُ كَاَلَّذِي يَتَيَمَّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ خَوْفَ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضِ أَوْ لِبَرْدٍ وكالاستحاضة وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَؤُلَاءِ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ بَلْ سُنَّتُهُ فِيمَنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ الْوُجُوبَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ

عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ . وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ وَعَمَّارًا بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَا جُنُبَيْنِ . فَعُمَرُ لَمْ يُصَلِّ وَعَمَّارُ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ ظَنًّا أَنَّ التُّرَابَ يَصِلُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحِبَالُ السُّودُ مِنْ الْبِيضِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُمْ الْخَبَرُ النَّاسِخُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ بِالْحَبَشَةِ وَبَعْضُهُمْ بِمَكَّةَ وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِهَا بَلْ بَعْضُ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ صَلَّوْا بَعْضَ الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَبَعْضَهَا إلَى الصَّخْرَةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَنَظَائِرُهَا مُتَعَدِّدَةٌ . فَمَنْ اسْتَقْرَأَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ عَنْهُ مَا يُعْجِزُهُ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا . وَلِهَذَا عُذِرَ الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ لِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُفَرِّطِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ كَبِيرَةٌ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ .

وَمَقْصُودُ السَّائِلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحَاضَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ أَنْ تَصُومَ وَتَقْضِيَ الصَّوْمَ . كَمَا يَقُولُهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ نُفَسَاءَ لَمْ تَغْتَسِلْ : فَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءَ حَتَّى يَغْتَسِلَا فَإِنْ عَدِمَتْ الْمَاءَ أَوْ خَافَتْ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا الْمَاءَ لِمَرَضِ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ تَتَيَمَّمَ وَتُوطَأُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ . كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } أَيْ يَنْقَطِعُ الدَّمُ { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أَيْ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ . كَمَا قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَقَدْ رُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ : كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ حَيْثُ جَعَلُوا الزَّوْجَ أَحَقَّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَمَذْهَبُهُ إنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ وَمَرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أَوْ اغْتَسَلَتْ وَطِئَهَا وَإِلَّا فَلَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ نُفَسَاءَ : هَلْ يَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي حَالِ النِّفَاسِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعِينَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إذَا قَضَتْ الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ تَغْتَسِلْ فَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِغَيْرِ غُسْلٍ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ بِدُونِ الْأَرْبَعِينَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ لَكِنْ يَنْبَغِي لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا إلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ . وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا الْقُرْآنَ فَإِنْ لَمْ تَخَفْ النِّسْيَانَ فَلَا تَقْرَؤُهُ وَأَمَّا إذَا خَافَتْ النِّسْيَانَ فَإِنَّهَا تَقْرَؤُهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ وَاغْتَسَلَتْ قَرَأَتْ الْقُرْآنَ وَصَلَّتْ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنْ تَعَذَّرَ اغْتِسَالُهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ لِخَوْفِ ضَرَرٍ لِمَرَضِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهَا تَتَيَمَّمُ وَتَفْعَلُ بِالتَّيَمُّمِ مَا تَفْعَلُ بِالِاغْتِسَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ

الْجُزْءُ الْثَّانِي وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ الثَّانِي : الصَّلَاةُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَلْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ مِثْلَ مَا هِيَ عَلَيْنَا مِنْ الْوُجُوبِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْهَيْئَاتِ . أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، لَكِنْ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِصَلَاتِنَا فِي الْأَوْقَاتِ وَالْهَيْئَاتِ ، وَغَيْرِهِمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يَفْسُقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ تَنْهَ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ صَاحِبُهَا مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا } .
فَأَجَابَ :
هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ . وَبِكُلِّ

حَالٍ فَالصَّلَاةُ لَا تَزِيدُ صَاحِبَهَا بُعْدًا . بَلْ الَّذِي يُصَلِّي خَيْرٌ مِنْ الَّذِي لَا يُصَلِّي ، وَأَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا . لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ . وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا ، إلَّا ثُلُثُهَا ، إلَّا رُبْعُهَا ، حَتَّى قَالَ : إلَّا عُشْرُهَا } فَإِنَّ الصَّلَاةَ إذَا أَتَى بِهَا كَمَا أُمِرَ نَهَتْهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَإِذَا لَمْ تَنْهَهُ دَلَّ عَلَى تَضْيِيعِهِ لِحُقُوقِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } الْآيَةَ . وَإِضَاعَتُهَا التَّفْرِيطُ فِي وَاجِبَاتِهَا ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّيهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } وَالرَّجُلُ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَصَلَّى وَهُوَ سَكْرَانُ ، هَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
صَلَاةُ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ لَا تَجُوزُ بِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ ، وَقُرْبَانِ مَوَاضِعِ الصَّلَاةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي " قَاعِدَةٍ " مَا تُرِكَ مِنْ وَاجِبٍ وَفُعِلَ مِنْ مُحَرَّمٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ
قَاعِدَةُ مَا تَرَكَهُ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ مِنْ وَاجِبٍ : كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الرِّسَالَةُ قَدْ بَلَغَتْهُ أَوْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ كُفْرُهُ جُحُودًا ، أَوْ عِنَادًا ، أَوْ جَهْلًا .
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ ؛ بِخِلَافِ مَا عَلَى الذِّمِّيِّ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي أَوْجَبَتْ الذِّمَّةُ أَدَاءَهَا : كَقَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَرَدِّ الْأَمَانَاتِ ، والغصوب . فَإِنَّ هَذِهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ . لَا لِالْتِزَامِهِ وُجُوبَهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ . وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمَحْضُ فَلَمْ يَلْتَزِمْ وُجُوبَ شَيْءٍ لِلْمُسْلِمِينَ ، لَا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَلَا مِنْ الْحُقُوقِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ لَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ ، وَلَا مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا لَوْ لَمْ يُسْلِمْ . فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ.

وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَسْتَحِلُّهَا فِي دِينِهِ : كَالْعُقُودِ والقبوض الْفَاسِدَةِ ، كَعَقْدِ الرِّبَا ، وَالْمَيْسِرِ ، وَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ، وَقَبْضِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ ، وَالِاسْتِيلَاءِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمُحَرَّمَ يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْإِسْلَامِ ، وَيَبْقَى فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُحَرَّمْ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَغْفِرُ لَهُ بِهِ تَحْرِيمَ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ فِي حَقِّهِ عَفْوًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا أَوْ قَبَضَ قَبْضًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ ، فَيَجْرِي فِي حَقِّهِ مَجْرَى الصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا مَا تَقَابَضُوا فِيهِ مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ أُقِرُّوا عَلَى مُلْكِهِ إذَا أَسْلَمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا . وَكَذَلِكَ عُقُودُ النِّكَاحِ الَّتِي انْقَضَى سَبَبُ فَسَادِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ ، وَالْإِسْلَامِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَمْ يتقابضوه ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَقْبِضُوا قَبْضًا مُحَرَّمًا كَمَا كَانَ لَا يَعْقِدُونَ عَقْدًا مُحَرَّمًا ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ . لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ فِي الذِّمَمِ مِنْ الرِّبَا ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ } وَقَالَ : { وَأَيُّمَا قَسَمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ ، وَأَيُّمَا قَسَمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قَسَمِ الْإِسْلَامِ } وَأَقَرَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مناكحهم الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ فِي الْإِسْلَامِ ،

وَهَذَا كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ . لَكِنْ ثَمَّ خِلَافٌ شَاذٌّ فِي بَعْضِ صوره .
وَأَمَّا مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَسْلَمُوا فَإِنَّهُ لَهُمْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ ، وَجَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ . وَأَمَّا التَّحَاكُمُ إلَيْنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ . فَإِنَّهَا تَكُونُ إذَا كَانُوا ذَوِي عَهْدٍ بِأَمَانِ أَوْ ذِمَّةٍ أَوْ صُلْحٍ فَنُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا ، فَهَذَا فِي الْحُقُوقِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ بِاعْتِقَادِهِ فِي كُفْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا مُحَرَّمًا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مُحَرَّمٍ ، سَوَاءٌ كَانَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ ، فَلَا يُعَاقَبُ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ ، وَلَا رِبًا ، وَلَا سَرِقَةٍ ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ ، أَوْ بِأَهْلِ دِينِهِ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ فَهُوَ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، وَأَمَّا أَهْلُ دِينِهِ فَهُمْ مباحون فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ هُوَ الْحَظْرَ ، وَلِهَذَا نَقُولُ : إنَّ مَا سَبَاهُ وَغَنِمَهُ الْكَفَّارُ بَعْضُهُمْ مِنْ نُفُوسِ بَعْضٍ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ اعْتَقَدُوا التَّحْرِيمَ . فَمَتَى كَانَ مُبَاحًا فِي دِينِهِ أَوْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ زَالَتْ الْعُقُوبَةُ .

لَكِنْ إنْ كَانَ مُحَرَّمًا فِي الدِّينَيْنِ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ ، فَإِنْ كَانَ عَهْدُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَأْمَنُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُصَالَحُ ، فَهَؤُلَاءِ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ، وَيُعَاقَبُونَ عَلَى مَا تَعَدَّوْا بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَيُعَاقَبُونَ عَلَى الزِّنَا ، وَفِي شُرْبِ الْخَمْرِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَهْدُهُمْ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلِ قَضِيَّةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ (1) .
فَصْلٌ :
فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي الرِّدَّةِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ فِي الْمَشْهُورِ ، وَلَزِمَهُ مَا تَرَكَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ فِي الْمَشْهُورِ . وَقِيلَ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَقِيلَ : لَا يَجِبُ فِي الصُّورَتَيْنِ . وَيُحْكَى ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ مِنْ الْحُرُمَاتِ : فَإِنْ كَانَ فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ فَفِيهِ رِوَايَاتٌ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ : إذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ قَبْلَ بُلُوغِ الْحُجَّةِ ، أَوْ مُتَأَوِّلًا ، مِثْلُ مَنْ تَرَكَ الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ، أَوْ مَسِّ الذَّكَرِ ، أَوْ صَلَّى فِي أَعْطَانِ

الْإِبِلِ ، أَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ : تَارَةً تَكُونُ رِوَايَةً مَنْصُوصَةً ، وَتَارَةً تَكُونُ وَجْهًا . وَأَصْلُهَا أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ . وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ اخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخِطَابِ النَّاسِخِ ، وَالْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ . فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ النَّاسِخِ ؛ بِخِلَافِ الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ . وَقَدْ قَرَّرُوهُ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا ، وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ جُمْلَةً ، وَتَفْصِيلًا . وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَضَاءِ لِأَبِي ذَرٍّ لَمَّا مَكَثَ مُدَّةً لَا يُصَلِّي مَعَ الْجَنَابَةِ بِالتَّيَمُّمِ ، وَلَا أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي قَضِيَّةِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَلَا أَمَرَ بِإِعَادَةِ الصَّوْمِ مَنْ أَكَلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْعِقَالُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْأَسْوَدِ ، وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ . بَلْ إذَا عُفِيَ لِلْكَافِرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَمَّا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لِعَدَمِ الِاعْتِقَادِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَهَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُعَذَّبٌ عَلَى تَرْكِهَا ، فَلَأَنْ يَعْفُوَ لِلْمُسْلِمِ عَمَّا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَذِّبِهِ

عَلَى التَّرْكِ لِاجْتِهَادِهِ ، أَوْ تَقْلِيدِهِ ، أَوْ جَهْلِهِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَكَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، فَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، لَا سِيَّمَا تَوْبَةُ الْمَعْذُورِ الَّذِي بَلَغَهُ النَّصُّ ، أَوْ فَهِمَهُ بَعْدَ إنْ لَمْ يَكُنْ تَمَكَّنَ مِنْ سَمِعَهُ وَفَهِمَهُ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا إلَى الْغَايَةِ . وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ من الْعُقُودِ والقبوض الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهُ تَحْرِيمَهَا لِجَهْلِ يُعْذَرُ بِهِ ، أَوْ تَأْوِيلٍ . فَعَلَى إحْدَى الْقَوْلَيْنِ حُكْمُهُ فِيهَا هَذَا الْحُكْمُ وَأَوْلَى . فَإِذَا عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا بِتَأْوِيلِ : مِنْ رِبًا ، أَوْ مَيْسِرٍ ، أَوْ ثَمَنِ خَمْرٍ ، أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَتَابَ ، أَوْ تَحَاكَمَ إلَيْنَا ، أَوْ اسْتَفْتَانَا ، فَإِنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مَا قَبَضَهُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ ، وَيُقَرُّ عَلَى النِّكَاح الَّذِي مَضَى مُفْسِدُهُ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَزَوَّجَ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ بِلَا شُهُودٍ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ ، أَوْ نَكَحَ الْخَامِسَةَ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ ، أَوْ نِكَاحَ تَحْلِيلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ فَسَادَ النِّكَاحِ ، فَإِنَّهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ . أَمَا إذَا كَانَ نَكَحَ بِاجْتِهَادٍ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَسَادُ بِاجْتِهَادِ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ ، لَا فِي الْحُكْمِ وَلَا فِي الْفُتْيَا أَيْضًا ، فَهَذَا مَأْخَذٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَ التَّحْرِيمَ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ . كَتَيَقُّنِ

مَنْ كَانَ كَافِرًا صِحَّةَ الْإِسْلَامِ . فَإِنَّا نُقِرُّهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَمِنْ الْمَقْبُوضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ قَائِمًا . كَمَا يُقَرُّ الْكُفَّارُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلَى مُنَاكَحَتِهِمْ الَّتِي كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي الْإِسْلَامِ وَأَوْلَى . فَإِنَّ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ بَابٌ وَاحِدٌ . كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَافِرِ . وَهَذَا بَيِّنٌ ؛ فَإِنَّ الْعَفْوَ وَالْإِقْرَارَ لِلْمُسْلِمِ الْمُتَأَوِّلِ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنْ تَأْوِيلِهِ أَوْلَى مِنْ الْعَفْوِ وَالْإِقْرَارِ عَنْ الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ ، لَكِنْ فِي هَذَا خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ . وَشُبْهَةُ الْخَالِفِ نَظَرُهُ إلَى أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَجَعَلَ الْمُسْلِمِينَ جِنْسًا وَاحِدًا ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُتَأَوِّلِ وَغَيْرِهِ . وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : مَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلُونَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ، هَلْ يَضْمَنُونَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : يَضْمَنُونَهُ ، جَعَلَا لَهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ ، وَكَقِتَالِ الْعَصَبِيَّةِ الَّذِي لَا تَأْوِيلَ فِيهِ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَنْ يَجْعَلُ الْعُقُودَ والقبوض الْمُتَأَوَّلَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَا تَأْوِيلَ فِيهِ . والثانية : لَا يَضْمَنُونَهُ ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ السَّلَفُ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ ، فَأَجْمَعُوا

أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ - وَفِي لَفْظٍ - { أَلْحِقُوهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ } . وَلِهَذَا { لَمْ يُضَمِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ دَمَ الَّذِي قَتَلَهُ بَعْدَ مَا قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } لِأَنَّهُ قَتَلَهُ مُتَأَوِّلًا : أَيْ أَنَّهُمْ وَإِنْ اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانُوا جَاهِلِينَ مُتَأَوِّلِينَ ، كَانُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ ، وَإِنْ فَارَقُوهُمْ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ عُفِيَ لَهَا عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ الْكُفْرُ الَّذِي أَخْطَأَ فِيهِ .
فَصْلٌ :
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته فِيمَا تَرَكَهُ الْمُسْلِمُ مِنْ وَاجِبٍ ، أَوْ فَعَلَهُ مِنْ مُحَرَّمٍ بِتَأْوِيلِ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ ، وَاضِحٌ عِنْدِي ، وَحَالُهُ فِيهِ أَحْسَنُ مِنْ حَالِ الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ . وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ أُقَاتِلَ الْبَاغِيَ الْمُتَأَوِّلَ ، وَأَجْلِدَ الشَّارِبَ الْمُتَأَوِّلَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ لَا يَرْفَعُ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا مُطْلَقًا ؛ إذْ الْغَرَضُ بِالْعُقُوبَةِ دَفْعُ فَسَادِ الِاعْتِدَاءِ ، كَمَا لَا يَرْفَعُ عُقُوبَةَ الْكَافِرِ : وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي قَضَاءِ مَا تَرَكَهُ مِنْ وَاجِبٍ ، وَفِي الْعُقُودِ والقبوض الَّتِي فَعَلَهَا بِتَأْوِيلِ ،

وَفِي ضَمَانِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي اسْتَحَلَّهَا بِتَأْوِيلِ ، كَمَا اسْتَحَلَّ أُسَامَةُ قَتْلَ الَّذِي قَتَلَهُ بَعْدَمَا قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا مَضَى إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَجْرٌ عَنْ الْمُسْتَقْبِلِ . وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُسْتَقْبِلِ : كَقِتَالِ الْبَاغِي ، وَجَلْدِ الشَّارِبِ فَهَذِهِ مَقْصُودُهَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَدَفْعُ الْمُحَرَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهَذَا لَا كَلَامَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ يُشْرَعُ فِي مِثْلِ هَذَا عُقُوبَةُ الْمُتَأَوِّلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي مِنْ قَضَاءِ وَاجِبِهِ ، وَتَرْكِ الْحُقُوقِ الَّتِي حَصَلَتْ فِيهِ ، وَالْعُقُوبَةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ مِنْ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ ، وَالْعِبَادَاتِ هِيَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ الْمُتَأَوِّلُ أَحْسَنَ حَالًا فِيهَا مِنْ الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ ، وَأَوْلَى . فَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، وَالْمُسْلِمُ الْمُتَأَوِّلُ مَعْذُورٌ ، وَمَعَهُ الْإِسْلَامُ الَّذِي تُغْفَرُ مَعَهُ الْخَطَايَا ، وَالتَّوْبَةُ الَّتِي تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَفِي إيجَابِ الْقَضَاءِ وَإِسْقَاطِ الْحُقُوقِ وَإِقَامَةِ الْعُقُوبَاتِ تَنْفِيرٌ عَنْ التَّوْبَةِ ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ أَكْثَرُ مِنْ التَّنْفِيرِ بِذَلِكَ لِلْكَافِرِ ، فَإِنَّ إعْلَامَ الْإِسْلَامِ وَدَلَالَتَهُ أَعْظَمُ مِنْ إعْلَامِ هَذِهِ الْفُرُوعِ ، وَأَدِلَّتِهَا ، وَالدَّاعِي إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ وَالْقُدْرَةِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ الدَّاعِي إلَى هَذِهِ الْفُرُوعِ .

وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ عِنْدِي ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نِزَاعٌ ؛ فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْلَا مُضِيُّ السُّنَّةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ لَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْقِيَاسِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ طَرْدَهُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ أَيْضًا ، وَقَدْ رَاعَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ ، فَلَمْ يَمْنَعُوا مِنْهُ إلَّا مَا لَهُ مَسَاغٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَالنِّزَاعُ لَا يَهْتِكُ حُرْمَةَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ بَعْدَ ظُهُورِ حُجَّتِهِ .
فَصْلٌ :
وَلَكِنَّ النَّظَرَ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ ، أَوْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ لَا بِاعْتِقَادِ وَلَا بِجَهْلِ يُعْذَرُ فِيهِ ، وَلَكِنْ جَهْلًا وَإِعْرَاضًا عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ ، أَوْ أَنَّهُ سَمِعَ إيجَابَ هَذَا ، وَتَحْرِيمَ هَذَا ، وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ إعْرَاضًا . لَا كُفْرًا بِالرِّسَالَةِ ، فَهَذَانِ نَوْعَانِ يَقَعَانِ كَثِيرًا مَنْ تَرَكَ طَلَبَ الْعَامِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، حَتَّى تَرَكَ الْوَاجِبَ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ ، غَيْرَ عَالِمٍ بِوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ أَوْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ فِي ذَلِكَ ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ اتِّبَاعَهُ ، تَعَصُّبًا لِمَذْهَبِهِ . أَوْ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ ، فَإِنَّ هَذَا تَرَكَ الِاعْتِقَادَ الْوَاجِبَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ . كَمَا تَرَكَ الْكَافِرُ الْإِسْلَامَ . فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالتَّصْدِيقِ ، وَالِالْتِزَامِ ، فَقَدْ يَتْرُكُ التَّصْدِيقَ

وَالِالْتِزَامَ جَمِيعًا لِعَدَمِ النَّظَرِ الْمُوجِبِ لِلتَّصْدِيقِ ، وَقَدْ يَكُونُ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ لَكِنَّهُ غَيْرَ مُقِرٍّ وَلَا مُلْتَزِمٍ ، اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ . فَهَلْ يَكُونُ حَالُ هَذَا إذَا تَابَ وَأَقَرَّ بِالْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ تَصْدِيقًا وَالْتِزَامًا ، بِمَنْزِلَةِ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ؟ فَهَذِهِ الصُّورَةُ أَبْعَدُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى التَّارِكِ الْمُتَأَوِّلِ ، وَفَسَخَ الْعَقْدَ وَالْقَبْضَ عَلَى الْمُتَأَوِّلِ الْمَعْذُورِ ، فَعَلَى هَذَا الْمُذْنِبِ بِتَرْكِ الِاعْتِقَادِ الْوَاجِبِ أَوْلَى . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَجَزَمْنَا بِصِحَّتِهِ ، فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . قَدْ يُقَالُ : هَذَا عَاصٍ ظَالِمٌ بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ ، وَالِالْتِزَامِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ الْمُخْطِئِينَ فِي تَأْوِيلِهِ الْعَفْوُ عَنْ هَذَا . وَقَدْ يُقَالُ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ وَالْقِيَاسِ : لَيْسَ هَذَا بِأَسْوَإِ حَالٍ مِنْ الْكَافِرِ الْمُعَانِدِ الَّذِي تَرَكَ الْقُرْآنَ كِبْرًا وَحَسَدًا وَهَوًى ، أَوْ سَمِعَهُ وَتَدَبَّرَهُ وَاسْتَيْقَنَتْ نَفْسُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ جَحَدَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَعُلُوًّا : كَحَالِ فِرْعَوْنَ ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَالْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لَا يُكَذِّبُونَك ، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ . وَالتَّوْبَةُ كَالْإِسْلَامِ ، فَإِنَّ الَّذِي قَالَ : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } هُوَ الَّذِي قَالَ : { التَّوْبَةُ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا } وَذَلِكَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ

مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ العاص رَوَاهُ أَحْمَد وَمُسْلِمٌ . فَإِذَا كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الْكَافِرِ لِأَجْلِ مَا وَجَدَ مِنْ الْإِسْلَامِ الْمَاحِي ، وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ، وَلِأَنَّ فِي عَدَمِ الْعَفْوِ تَنْفِيرٌ عَنْ الدُّخُولِ ، لِمَا يَلْزَمُ الدَّاخِلَ فِيهِ مِنْ الْآصَارِ ، وَالْأَغْلَالِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى لِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي التَّوْبَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ ، فَإِنَّ الِاعْتِرَافَ بِالْحَقِّ وَالرُّجُوعَ إلَيْهِ حَسَنَةٌ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا السَّيِّئَاتِ ، وَفِي عَدَمِ الْعَفْوِ تَنْفِيرٌ عَظِيمٌ عَنْ التَّوْبَةِ ، وَآصَارٌ ثَقِيلَةٌ وَأَغْلَالٌ عَظِيمَةٌ عَلَى التَّائِبِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ لِعَبْدِهِ التَّائِبِ بَدَلَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً } عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } . فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الَّتِي تَابَ مِنْهَا صَارَتْ حَسَنَاتٍ ، لَمْ يَبْقَ فِي حَقِّهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ سَيِّئَةٌ أَصْلًا ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَبْضُ وَالْعَقْدُ مِنْ بَابِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ التَّرْكُ مِنْ بَابِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ ، فَلَا يُجْعَلُ تَارِكًا لِوَاجِبِ ، وَلَا فَاعِلًا لِمُحَرَّمِ ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ عَامِدًا : هَلْ يَقْضِيهِ ؟ .

فَقَالَ : الْأَكْثَرُونَ يَقْضِيهِ ، وَقَالَ : بَعْضُهُمْ لَا يَقْضِيهِ ، وَلَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بَعْدَ وَقْتِهِ كَالْحَجِّ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : عَنْ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا . { فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } . وَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ يُضَيِّعُ الصَّلَاةَ فَيُصَلِّيهَا بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَتْرُكُهَا . وَلَوْ كَانَتْ بَعْدَ الْوَقْتِ لَا تَصِحُّ بِحَالِ لَكَانَ الْجَمِيعُ سَوَاءً ؛ لَكِنَّ الْمُضَيَّعَ لِوَقْتِهَا كَانَ مُلْتَزِمًا لِوُجُوبِهَا ، وَإِنَّمَا ضَيَّعَ بَعْضَ حُقُوقِهَا وَهُوَ الْوَقْتُ ، وَأَتَى بِالْفِعْلِ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ جَهْلًا وَضَلَالًا ، أَوْ عَلِمَ الْإِيجَابَ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ فَهَذَا إنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ مُرْتَدٌّ ، وَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ لَكِنَّ هَذَا شَبِيهٌ بِكُفْرِ النِّفَاقِ . فَالْكَلَامُ فِي هَذَا مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ فِيمَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ نِفَاقًا أَوْ رِيَاءً ، فَإِنَّ هَذَا يُجْزِئُهُ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ

الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِمَامِ إذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ قَهْرًا : هَلْ تُجْزِئُهُ فِي الْبَاطِنِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، مَعَ أَنَّهَا لَا تُسْتَعَادُ مِنْهُ . أَحَدِهِمَا : لَا تُجْزِيهِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ نِيَّةَ الْإِمَامِ تَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الْمُمْتَنِعِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ بِإِعْطَائِهِمْ إيَّاهَا ، وَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِنَفْيِ قَبُولِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ وَهُمْ كَارِهُونَ . فَعُلِمَ أَنَّهُ إنْ أَنْفَقَ مَعَ كَرَاهَةِ الْإِنْفَاقِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ ، كَمَنْ صَلَّى رِيَاءً . لَكِنْ لَوْ تَابَ الْمُنَافِقُ وَالْمُرَائِي : فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ الْإِعَادَةُ ؟ أَوْ تَنْعَطِفُ تَوْبَتُهُ عَلَى مَا عَمِلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيُثَابَ عَلَيْهِ ، أَوْ لَا يُعِيدُ وَلَا يُثَابُ . أَمَّا الْإِعَادَةُ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُنَافِقِ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ جَمَاعَةٌ عَنْ النِّفَاقِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْإِعَادَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا نَقَمُوا إلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا

أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } . وَأَيْضًا : فَالْمُنَافِقُ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ ، فَإِذَا آمَنَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الْمُعْلِنِ إذَا أَسْلَمَ . وَأَمَّا ثَوَابُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَعَ التَّوْبَةِ : فَيُشْبِهُ الْكَافِرَ إذَا عَمِلَ صَالِحًا فِي كُفْرِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ هَلْ يُثَابُ عَلَيْهِ ؟ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ . أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ : { أَسْلَمْت عَلَى مَا سَلَفَ لَك مِنْ خَيْرٍ } . وَأَمَّا الْمُرَائِي إذَا تَابَ مِنْ الرِّيَاءِ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ يَعْتَقِدُ الْوُجُوبَ ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ أَدَاءَ الْوَاجِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ ، فَفِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ تَنْفِيرٌ عَظِيمٌ عَنْ التَّوْبَةِ . فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَعِيشُ مُدَّةً طَوِيلَةً يُصَلِّي وَلَا يُزَكِّي ، وَقَدْ لَا يَصُومُ أَيْضًا ، وَلَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ كَسَبَ الْمَالَ : أَمِنْ حَلَالٍ ؟ أَمْ مِنْ حِرَامٍ ؟ وَلَا يَضْبِطُ حُدُودَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَهُوَ فِي جَاهِلِيَّةٍ ، إلَّا أَنَّهُ مُنْتَسِبٌ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا هَدَاهُ اللَّهُ وَتَابَ عَلَيْهِ . فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ جَمِيعِ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ، وَأَمَرَ بِرَدِّ جَمِيعِ مَا

اكْتَسَبَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَالْخُرُوجِ عَمَّا يُحِبُّهُ مِنْ الْإِبْضَاعِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ صَارَتْ التَّوْبَةُ فِي حَقِّهِ عَذَابًا ، وَكَانَ الْكُفْرُ حِينَئِذٍ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِسْلَامِ ، الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مِنْ الْكُفْرِ رَحْمَةٌ ، وَتَوْبَتُهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ عَذَابٌ . وَأَعْرِفُ طَائِفَةً مِنْ الصَّالِحِينَ مَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ كَافِرًا لِيُسْلِمَ فَيُغْفَرَ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَهُ مُتَعَذِّرَةٌ عَلَيْهِ ، أَوْ مُتَعَسِّرَةٌ عَلَى مَا قَدْ قِيلَ لَهُ وَاعْتَقَدَهُ مِنْ التَّوْبَةِ ، ثُمَّ هَذَا مُنَفِّرٌ لِأَكْثَرِ أَهْلِ الْفُسُوقِ عَنْ التَّوْبَةِ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمُؤَيِّسِ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ . وَوَضْعُ الْآصَارِ ثَقِيلَةٌ ، وَالْأَغْلَالُ عَظِيمَةٌ عَلَى التَّائِبِينَ الَّذِينَ هُمْ أَحَبَابُ اللَّهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ، وَيُحِبَّ الْمُتَطَهِّرِينَ . وَاَللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ الْوَاجِدِ لِمَالِهِ الَّذِي بِهِ قُوَامُهُ ، بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ . فَيَنْبَغِي لِهَذَا الْمُقَامِ أَنْ يُحَرَّرَ ، فَإِنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، لِكَوْنِ الْكَافِرِ كَانَ مَعْذُورًا ، بِمَنْزِلَةِ الْمُجْتَهِدِ فَإِنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنَّمَا غُفِرَ لَهُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ تَوْبَةٌ ، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، وَالتَّوْبَةُ تَوْبَةٌ مِنْ تَرْكِ تَصْدِيقٍ وَإِقْرَارٍ ، وَتَرْكِ عَمَلٍ وَفِعْلٍ فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُجْعَلَ حَالُ هَؤُلَاءِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ كَحَالِ غَيْرِهِمْ .

فَصْلٌ :
فَالْأَحْوَالُ الْمَانِعَةُ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ لِلْوَاجِبِ وَالتَّرْكِ لِلْمُحَرَّمِ : الْكُفْرُ الظَّاهِرُ ، وَالْكُفْرُ الْبَاطِنُ ، وَالْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ ، وَكُفْرُ الرِّدَّةِ ، وَالْجَهْلُ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ لِعَدَمِ بُلُوغِ الْخِطَابِ . أَوْ لِمُعَارِضَةِ تَأْوِيلٍ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشَايِخِ يتوبونهم عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَقَتْلِ النَّفْسِ ، وَالسَّرِقَةِ ، وَأَلْزَمُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِكَوْنِهِمْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ عَادَةِ الْبَادِيَةِ ، فَهَلْ تَجِبُ إقَامَةُ حُدُودِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ

يَلْقَوْنَ غَيًّا } فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ إذَا سَهَوْا عَنْ الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا . الثَّانِي : أَنْ لَا يُكَمِّلَ وَاجِبَاتِهَا : مِنْ الطَّهَارَةِ ، وَالطُّمَأْنِينَةِ ، وَالْخُشُوعِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ - ثَلَاثَ مِرَارٍ - يَتَرَقَّبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } . فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْمُنَافِينَ التَّأْخِيرَ ، وَقِلَّةَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ

وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } فَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَإِضَاعَةُ حُقُوقِهَا ، قَالُوا : وَكَانُوا يُصَلُّونَ ، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا ؛ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ } وَقَالَ : { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا كَمَّلَ الصَّلَاةَ صَعِدَتْ وَلَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ . وَتَقُولُ حَفِظَك اللَّهُ كَمَا حَفِظْتنِي ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا فَإِنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ ، وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا وَتَقُولُ ضَيَّعَك اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتنِي } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إلَّا نِصْفُهَا ؛ إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبْعُهَا ، إلَّا خُمُسُهَا ؛ إلَّا سُدُسُهَا . حَتَّى قَالَ : إلَّا عُشْرُهَا } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا . وَقَوْلُهُ : { وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } الَّذِي يُشْتَغَلُ بِهَا عَنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ - كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهَوَاتِ : كَالرَّقَصِ ، وَالْغِنَاءِ : وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : وَعَلَيْك السَّلَامُ ، ارْجِعْ

فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ أَتَاهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : وَعَلَيْك السَّلَامُ ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ . . مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا . فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهَا ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ مِمَّا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ؟ ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } { وَنَهَى عَنْ نَقْرٍ كَنَقْرِ الْغُرَابِ } . وَرَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلًا يُصَلِّي لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَقَالَ : لَوْ مُتّ مُتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ : لَوْ مَاتَ هَذَا . رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ قَالَ : إنَّ الصِّبْيَانَ مَأْمُورُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَقَالَ آخَرُ : لَا نُسَلِّمُ ، فَقَالَ لَهُ : وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ } فَقَالَ : هَذَا مَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ ، وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ تَنْقِيصٌ ، فَهَلْ يَجِبُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .

فَأَجَابَ : إنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ فَالصَّوَابُ مَعَ الثَّانِي ، وَأَمَّا إنْ أَرَادَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ : أَيْ أَنَّ الرِّجَالَ يَأْمُرُونَهُمْ بِهَا لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّاهُمْ بِالْأَمْرِ ، أَوْ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ ، فَالصَّوَابُ مَعَ الْمُتَكَلِّمِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : مَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ ، إذَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا مِنْ اللَّهِ لِلصِّبْيَانِ ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لِمَنْ يَأْمُرُ الصِّبْيَانَ ، فَقَدْ أَصَابَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ أَمْرًا مِنْ اللَّهِ لِأَحَدِ ، فَهَذَا خَطَأٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ ، وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَقْوَامٍ يُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ ، لِأَشْغَالِ لَهُمْ مِنْ زَرْعٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ خِدْمَةِ أُسْتَاذٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلَ ، وَلَا يُؤَخِّرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ لِشُغْلِ مِنْ الْأَشْغَالِ ، لَا لِحَصْدِ وَلَا لِحَرْثِ وَلَا لِصَنَاعَةٍ وَلَا لِجَنَابَةِ . وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا صَيْدٍ وَلَا لَهْوٍ وَلَا لَعِبٍ وَلَا لِخِدْمَةِ أُسْتَاذٍ ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ

يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِالنَّهَارِ ، وَيُصَلِّيَ الْفَجْرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَلَا يَتْرُكَ ذَلِكَ لِصَنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ ، وَلَا لِلَّهْوِ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْغَالِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَمْنَعَ مَمْلُوكَهُ ، وَلَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ الْأَجِيرَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا . وَمَنْ أَخَّرَهَا لِصَنَاعَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ خِدْمَةِ أُسْتَاذٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ ، بَلْ يَجِبَ قَتْلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ أُلْزِمَ بِذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ : لَا أُصَلِّي إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِاشْتِغَالِهِ بِالصِّنَاعَةِ وَالصَّيْدِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ " . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِاشْتِغَالِهِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ ، ثُمَّ صَلَّاهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ } فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ حَالَ الْقِتَالِ ، بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ حَالَ الْقِتَالِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ حَالَ الْقِتَالِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ التَّأْخِيرِ ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَشْتَغِلُ بِالْقِتَالِ وَيُصَلِّي بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ الْجِهَادِ كَصَنَاعَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ هُمْ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ . وَإِنْ صَلَّاهَا فِي الْوَقْتِ فَتَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ وَتَأْخِيرَ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ بِمَنْزِلَةِ تَأْخِيرِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى شَوَّالٍ . فَمَنْ قَالَ أُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِاللَّيْلِ ، فَهُوَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ أُفْطِرُ شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَصُومُ شَوَّالٍ ، وَإِنَّمَا يُعْذَرُ بِالتَّأْخِيرِ النَّائِمُ وَالنَّاسِي . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ

أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } . فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لِجَنَابَةِ وَلَا حَدَثٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ ، بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَقَدْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى . وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضِ أَوْ لِبَرْدِ . وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانَا ، وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ فِي ثِيَابِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُزِيلَهَا فَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ . وَهَكَذَا الْمَرِيضُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي الْوَقْتِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } فَالْمَرِيضُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ قَاعِدًا أَوْ عَلَى جَنْبٍ ، إذَا كَانَ الْقِيَامُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ ، وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَائِمًا . وَهَذَا كُلُّهُ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَرْضٌ ، وَالْوَقْتُ أَوْكَدُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ ، كَمَا أَنَّ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ فِي وَقْتِهِ ، لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بمزدلفة ، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، وَبَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ

عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِلسَّفَرِ وَالْمَرَضِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ . وَأَمَّا تَأْخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ ، وَتَأْخِيرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ . فَلَا يَجُوزُ لِمَرَضِ وَلَا لِسَفَرِ ، وَلَا لِشَغْلِ مِنْ الْأَشْغَالِ ، وَلَا لِصَنَاعَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . بَلْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ . لَكِنَّ الْمُسَافِرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا . بَلْ الرَّكْعَتَانِ تُجْزِئُ الْمُسَافِرَ فِي سَفَرِ الْقَصْرِ ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ ، وَكِلَاهُمَا ضَلَالٌ ، مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، يُسْتَتَابُ قَائِلُهُ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ ، وَالْفَجْرَ رَكْعَتَيْنِ ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا ، وَأَفْطَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقَضَاهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ شَهْرَ رَمَضَانَ ، أَوْ صَلَّى أَرْبَعًا ، فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ ، فَالْمَرِيضُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّوْمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمُسَافِرُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصِّيَامَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .

وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْكَدُ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتِهِ ، قَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا ، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَيْفَ بِك إذَا كَانَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ، وَيَنْسَؤُنِ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ، قُلْت : فَمَاذَا تَأْمُرنِي ؟ قَالَ : صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ } وَعَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنْ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا ، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا } وَقَالَ رَجُلٌ أُصَلِّي مَعَهُمْ قَالَ : { نَعَمْ إنْ شِئْت ، وَاجْعَلُوهَا تَطَوُّعًا } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَيْفَ بِكُمْ إذَا كَانَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا ؟ قُلْت : فَمَا تَأْمُرنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، وَاجْعَلْ صَلَاتَك مَعَهُمْ نَافِلَةً } . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ عُرْيَانَا مِثْلَ أَنْ تَنْكَسِرَ

بِهِمْ السَّفِينَةُ أَوْ تَسْلُبَهُ الْقُطَّاعُ ثِيَابَهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانَا ، وَالْمُسَافِرُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ الْمَاءَ بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ الْمُسَافِرُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا فَخَافَ إنْ اغْتَسَلَ أَنْ يَمْرَضَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ ، وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِاغْتِسَالِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ } . وَكُلُّ مَا يُبَاحُ بِالْمَاءِ يُبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ ، فَإِذَا تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ فَرِيضَةٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا ، وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثِ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا ، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي } وَفِي لَفْظٍ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ } . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ ؟ وَهَلْ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ ؟ أَوْ يُصَلِّي مَا شَاءَ كَمَا يُصَلِّي بِالْمَاءِ

وَلَا يَنْقُضُهُ إلَّا مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ؟ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُهَا بِهِ صَلَّى فِي الْوَقْتِ وَعَلَيْهِ النَّجَاسَةُ ، كَمَا صَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجُرْحُهُ يَثْغَبُ دَمًا ، وَلَمْ يُؤَخِّرْ الصَّلَاةَ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ . وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا فَقِيلَ : يُصَلِّي عُرْيَانَا ، وَقِيلَ : يُصَلِّي فِيهِ وَيُعِيدُ ، وَقِيلَ : يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُعِيدُ : ، وَهَذَا أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعَبْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَرَّتَيْنِ ، إلَّا إذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا طُمَأْنِينَةٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ ، كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَطْمَئِنَّ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ . وَقَالَ : ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } . وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ وَصَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ ، كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ لَمْعَةً فِي قَدَمِهِ لَمْ يُمِسَّهَا الْمَاءُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ } .

فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَمَنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا فِي الْوَقْتِ وَالْمَاءُ بَعِيدٌ مِنْهُ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا ، وَيَضُرُّهُ الْمَاءُ الْبَارِدُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَى الْحَمَّامِ ، أَوْ تَسْخِينُ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ . وَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، فَإِذَا كَانَا جُنُبَيْنِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا الِاغْتِسَالُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ ، فَإِنَّهُمَا يُصَلِّيَانِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ . وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الْوَقْتِ ، وَلَمْ يُمْكِنْهَا الِاغْتِسَالُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ فِي الْوَقْتِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ .
وَإِذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ فَإِذَا اغْتَسَلَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُنَا يَقُولُونَ : يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ : بَلْ يَتَيَمَّمُ أَيْضًا هُنَا وَيُصَلِّي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ

كَمَا تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِالْغُسْلِ . وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } . فَالْوَقْتُ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا فِي حَقِّهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ وَالصَّلَاةُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِهَا فَقَدْ صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ يُفَوِّتْهَا ؛ بِخِلَافِ مَنْ اسْتَيْقَظَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ . وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً وَذَكَرَهَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ ، وَهَذَا هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، كَمَا اسْتَيْقَظَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامُوا عَنْ الصَّلَاةِ عَامَ خَيْبَرَ ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى حِينِ الزَّوَالِ ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلُ وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى قَرِيبِ الزَّوَالِ ، وَلَا يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ ، وَيُسْتَحَبُّ ، أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامَ فِيهِ ، كَمَا انْتَقَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ ، وَقَالَ : { هَذَا مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ } . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَإِنْ صَلَّى فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ .=ج35=

ج35. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُسَمَّى قَضَاءً أَوْ أَدَاءً ؟ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ هُوَ فَرْقٌ اصْطِلَاحِيٌّ ؛ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا قَضَاءً ، كَمَا قَالَ فِي الْجُمُعَةِ : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ يَفْعَلَانِ فِي الْوَقْتِ . و " الْقَضَاءُ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ : هُوَ إكْمَالُ الشَّيْءِ وَإِتْمَامُهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } أَيْ أَكْمَلَهُنَّ وَأَتَمَّهُنَّ . فَمَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَامِلَةً فَقَدْ قَضَاهَا ، وَإِنْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِهَا . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ بَقَاءَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَنَوَاهَا أَدَاءً . ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ صَحَّتْ لِأَنَّهُ ، وَلَوْ اعْتَقَدَ خُرُوجَهُ فَنَوَاهَا قَضَاءً ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ . وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، سَوَاءٌ نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً ، وَالْجُمُعَةُ تَصِحُّ سَوَاءٌ نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً إذْ أَرَادَ الْقَضَاءَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ ، وَالنَّائِمُ وَالنَّاسِي إذَا صَلَّيَا وَقْتَ الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ فَقَدْ صَلَّيَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَا بِالصَّلَاةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَا قَدْ صَلَّيَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ لِغَيْرِهِمَا . فَمَنْ سَمَّى ذَلِكَ قَضَاءً بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَكَانَ فِي لُغَتِهِ أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا

لِلْعُمُومِ ، فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ قَطُّ شُغْلٌ يُسْقِطُ عَنْهُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا ، بِحَيْثُ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَصَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ ؛ لَكِنْ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ ، فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهَا فَعَلَهُ ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ سَقَطَ عَنْهُ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْعُذْرِ بَيْنَ صَلَاتَيْ النَّهَارِ وَبَيْنَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : فَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَلَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ ؛ بِخِلَافِ الْقَصْرِ فَإِنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَرْبَعٍ ، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . فَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا فَهَلْ تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا قَطُّ ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ ، وَلَا عُمَرُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي لِلَّهِ بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَالْعَمَلِ الَّذِي بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ .

فَأَجَابَ :
وَأَمَّا عَمَلُ النَّهَارِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِاللَّيْلِ ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِالنَّهَارِ : فَهُمَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُؤَخِّرَهُمَا إلَى اللَّيْلِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ } . فَأَمَّا مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } . وَأَمَّا مَنْ فَوَّتَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا قَضَاءً أَصْلًا ، وَمَعَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لَا تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوَاجِبِ ، وَلَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْعِقَابُ ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ ؛ بَلْ يُخَفِّفُ عَنْهُ الْعَذَابَ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ إثْمُ التَّفْوِيتِ ، وَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى مُسْقِطٍ آخَرَ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ حَقَّانِ : فَعَلَ أَحَدَهُمَا ، وَتَرَكَ الْآخَرَ . قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } وَتَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا مِنْ السَّهْوِ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا

عَنْ وَقْتِهَا ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْوَيْلَ لِمَنْ أَضَاعَهَا وَإِنْ صَلَّاهَا ، وَمَنْ كَانَ لَهُ الْوَيْلُ لَمْ يَكُنْ قَدْ يُقْبَلُ عَمَلُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ أُخَرُ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ لَمْ يُتَقَبَّلْ ذَلِكَ الْعَمَلُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرِ : وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ فَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَكِنْ إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ ، أَوْ وُجُوبَ بَعْضِ أَرْكَانِهَا : مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ ، فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ أَوْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَنَابَةِ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ، فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ . لَكِنْ إذَا عَلِمَ الْوُجُوبَ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا . قِيلَ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ

الْقَضَاءُ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ . وَعَنْ أَحْمَد فِي هَذَا الْأَصْلِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فِيمَنْ صَلَّى فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ ، ثُمَّ عَلِمَ ، هَلْ يُعِيدُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ ، ثُمَّ عَلِمَ . هَلْ يُعِيدُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ . وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ : إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دُونَ دَارِ الْحَرْبِ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالصَّائِمُ إذَا فَعَلَ مَا يَفْطُرُ بِهِ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ : فَهَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا فِي الْحَجِّ جَاهِلًا . وَأَصْلُ هَذَا : أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ ؛ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَثْبُتُ . وَقِيلَ : لَا يَثْبُتُ ، وَقِيلَ : يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَثْبُتُ الْخِطَابُ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَلِقَوْلِهِ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا حَتَّى يَبْلُغَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَآمَنَ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَعْلَمْ كَثِيرًا مِمَّا

جَاءَ بِهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَلَى مَا لَمْ يَبْلُغْهُ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَذِّبْهُ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبْهُ عَلَى بَعْضِ شَرَائِطِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ { طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ ظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } هُوَ الْحَبْلَ الْأَبْيَضَ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْبِطُ فِي رِجْلِهِ حَبْلًا ، ثُمَّ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ هَذَا مِنْ هَذَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَاضُ النَّهَارِ ، وَسَوَادُ اللَّيْلِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ } . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَمَّارُ أَجْنَبَا ، فَلَمْ يُصَلِّ عُمَرُ حَتَّى أَدْرَكَ الْمَاءَ ، وَظَنَّ عَمَّارٌ أَنَّ التُّرَابَ يَصِلُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ فَتَمَرَّغَ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ وَلَمْ يَأْمُرْ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ ، وَكَذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ بَقِيَ مُدَّةً جُنُبًا لَمْ يُصَلِّ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ قَالَتْ : إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً تَمْنَعُنِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ ، فَأَمَرَهَا بِالصَّلَاةِ زَمَنَ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ . وَلَمَّا حُرِّمَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ تَكَلَّمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِي فِي

الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَقَالَ لَهُ : { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ . وَلَمَّا زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ حِينَ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، كَانَ مَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ : مِثْلُ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ ، وَبِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ . وَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَلَمْ يَبْلُغْ الْخَبَرُ إلَى مَنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، حَتَّى فَاتَ ذَلِكَ الشَّهْرُ ، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصِّيَامِ . { وَكَانَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ - لَمَّا ذَهَبُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ - قَدْ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانُوا حِينَئِذٍ يَسْتَقْبِلُونَ الشَّامَ ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَمَرَهُ بِاسْتِقْبَالِ الشَّامِ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا كَانَ صَلَّى . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { سُئِلَ - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ : عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ قَالَ لَهُ : انْزِعْ عَنْك جُبَّتَك ، وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ ، وَاصْنَعْ فِي

عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجِّك } . وَهَذَا قَدْ فَعَلَ مَحْظُورًا فِي الْحَجِّ ، وَهُوَ لُبْسُ الْجُبَّةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ بِدَمِ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ لَلَزِمَهُ دَمٌ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي فِي الصَّلَاةِ ، فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ الْمُجْزِيَةَ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ . مَعَ قَوْلِهِ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ ، فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا ، وَاَلَّتِي صَلَّاهَا لَمْ تَبْرَأْ بِهَا الذِّمَّةُ ، وَوَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ ، أَوْ طَهُرَتْ حَائِضٌ ، أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ " وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَزِمَتْهُمْ الصَّلَاةُ أَدَاءً لَا قَضَاءً . وَإِذَا كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا الْمُسِيءُ الْجَاهِلُ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الطُّمَأْنِينَةُ حِينَئِذٍ ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي صَلَاةِ تِلْكَ الْوَقْتِ ، دُونَ مَا قَبْلَهَا . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ أَنْ يُعِيدَ ، وَلِمَنْ تَرَكَ لَمْعَةً مِنْ قَدَمِهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ . وَقَوْلُهُ أَوَّلًا : { صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ }

تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ صَلَاةً ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ ، فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ ابْتِدَاءً ، ثُمَّ عَلَّمَهُ إيَّاهَا ، لَمَّا قَالَ : " وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا " . فَهَذِهِ نُصُوصُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَعَ الْجَهْلِ فِيمَنْ تَرَكَ وَاجِبَاتِهَا مَعَ الْجَهْلِ ، وَأَمَّا أَمْرُهُ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ أَنْ يُعِيدَ فَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ . فَثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ حِينَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَقَاءِ وَقْتِ الْوُجُوبِ ، لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ مَعَ مُضِيِّ الْوَقْتِ . وَأَمَّا أَمْرُهُ لِمَنْ تَرَكَ لَمْعَةً فِي رِجْلِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءَ بِالْإِعَادَةِ ، فَلِأَنَّهُ كَانَ نَاسِيًا ، فَلَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ ، كَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ ، وَكَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا ، فَإِنَّهَا قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ بِمُشَخَّصِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ . أَعْنِي أَنَّهُ رَأَى فِي رِجْلِ رَجُلٍ لَمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثٌ جَيِّدٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ } وَنَحْوُهُ . فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَكْمِيلِ الْوُضُوءِ لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ بِإِعَادَةِ شَيْءٍ وَمَنْ كَانَ أَيْضًا يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنْ الْعَارِفِينَ ، أَوْ عَنْ الْمَشَايِخِ الْوَاصِلِينَ ، أَوْ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِهِمْ ، أَوْ أَنَّ الشَّيْخَ يُصَلِّي عَنْهُمْ ، أَوْ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا

أَسْقَطَ عَنْهُمْ الصَّلَاةَ ، كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْفَقْرِ وَالزُّهْدِ ، وَاتِّبَاعِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَالْمُعَرِّفَةِ ، فَهَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ ، وَإِلَّا قُوتِلُوا ، وَإِذَا أَصَرُّوا عَلَى جَحْدِ الْوُجُوبِ حَتَّى قُتِلُوا ، كَانُوا مِنْ الْمُرْتَدِّينَ ، وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَصَلَّى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا تَرَكَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ لِلْوُجُوبِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَالْمُرْتَدُّ إذَا أَسْلَمَ لَا يَقْضِي مَا تَرَكَهُ حَالَ الرِّدَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَا لَا يَقْضِي الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَالْأُخْرَى يَقْضِي الْمُرْتَدُّ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ . فَإِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْحَارِثِ ابْنِ قَيْسٍ ، وَطَائِفَةٍ مَعَهُ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ } الْآيَةَ ، وَاَلَّتِي بَعْدَهَا . وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ، وَاَلَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ : { ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فَهَؤُلَاءِ عَادُوا إلَى الْإِسْلَامِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ عَامَ الْفَتْحِ ، وَبَايَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا

مِنْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ فِي الرِّدَّةِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ يَأْمُرْ سَائِرَ الْكُفَّارِ إذَا أَسْلَمُوا . وَقَدْ ارْتَدَّ فِي حَيَاتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ اتَّبَعُوا الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ الَّذِي تَنَبَّأَ بِصَنْعَاءَ الْيَمَنِ ، ثُمَّ قَتَلَهُ اللَّهُ ، وَعَادَ أُولَئِكَ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ . وَتَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، قَاتَلَهُمْ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى أَعَادُوا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَكَانَ أَكْثَرُ الْبَوَادِي قَدْ ارْتَدُّوا ثُمَّ عَادُوا إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ ، بَلْ جُهَّالًا بِالْوُجُوبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا حُكْمُ مَنْ تَرَكَهَا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِوُجُوبِهَا . وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى تَرْكِ : فَقَدْ ذَكَرَ عَلَيْهِ الْمُفَرِّعُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فُرُوعًا :

أَحَدُهَا هَذَا ، فَقِيلَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِذَا صَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ فَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا مُرْتَدًّا ، أَوْ فَاسِقًا كَفُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورِينَ . حُكِيَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ، وَهَذِهِ الْفُرُوعُ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ ، وَهِيَ فُرُوعٌ فَاسِدَةٌ ، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالصَّلَاةِ فِي الْبَاطِنِ ، مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا ، يَمْتَنِعُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يُقْتَلَ ، وَهُوَ لَا يُصَلِّي هَذَا لَا يُعْرَفُ مِنْ بَنِي آدَمَ وَعَادَتِهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ هَذَا قَطُّ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا ، وَيُقَالُ لَا إنْ لَمْ تُصَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاك ، وَهُوَ يُصِرُّ عَلَى تَرْكِهَا ، مَعَ إقْرَارِهِ بِالْوُجُوبِ ، فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ في الْإِسْلَامِ . وَمَتَى امْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يُقْتَلَ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاطِنِ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا ، وَلَا مُلْتَزِمًا بِفِعْلِهَا ، وَهَذَا كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا اسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِكُفْرِ هَذَا ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَوْلِهِ : { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } . وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ : كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ فِي تَرْكِهِ كُفْرٌ إلَّا الصَّلَاةَ ، فَمَنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يَمُوتَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً قَطُّ ، فَهَذَا لَا يَكُونُ قَطُّ مُسْلِمًا مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا ، فَإِنَّ اعْتِقَادَ

الْوُجُوبِ ، وَاعْتِقَادَ أَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ هَذَا دَاعٍ تَامٌّ إلَى فِعْلِهَا ، وَالدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يُوجِبُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ ، فَإِذَا كَانَ قَادِرًا وَلَمْ يَفْعَلْ قَطُّ عُلِمَ أَنَّ الدَّاعِيَ فِي حَقِّهِ لَمْ يُوجَدْ . وَالِاعْتِقَادُ التَّامُّ لِعِقَابِ التَّارِكِ بَاعِثٌ عَلَى الْفِعْلِ ، لَكِنَّ هَذَا قَدْ يُعَارِضُهُ أَحْيَانًا أُمُورٌ تُوجِبُ تَأْخِيرَهَا وَتَرْكَ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا ، وَتَفْوِيتِهَا أَحْيَانًا . فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى تَرْكِهَا لَا يُصَلِّي قَطُّ ، وَيَمُوتُ عَلَى هَذَا الْإِصْرَارِ وَالتَّرْكِ فَهَذَا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُصَلُّونَ تَارَةً ، وَيَتْرُكُونَهَا تَارَةً ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا ، وَهَؤُلَاءِ تَحْتَ الْوَعِيدِ ، وَهُمْ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ حَدِيثُ عبادة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافَظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ . } فَالْمُحَافِظُ عَلَيْهَا الَّذِي يُصَلِّيهَا فِي مَوَاقِيتِهَا ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَاَلَّذِي يُؤَخِّرُهَا أَحْيَانًا عَنْ وَقْتِهَا ، أَوْ يَتْرُكُ وَاجِبَاتِهَا ، فَهَذَا تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ يَكُونُ لِهَذَا نَوَافِلُ يُكَمِّلُ بِهَا فَرَائِضَهُ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فَيَمْتَنِعُ ، وَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِقَوْلِهِ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } هَلْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ ، أَمْ لَا ؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ فِي حَقِّ مَنْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ إذَا تَرَكُوا الصَّلَاةَ ؟ وَهَلْ قِيَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ وَأَكْبَرِ أَبْوَابِ الْبِرِّ ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الْغَلِيظَةَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، بَلْ يَجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ : كَمَالِكِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَد ، وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُسْتَتَابَ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . بَلْ تَارِكُ الصَّلَاةِ شَرٌّ مِنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي ، وَشَارِبِ الْخَمْرِ ، وَآكِلِ الْحَشِيشَةِ . وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُطَاعٍ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يُطِيعُهُ بِالصَّلَاةِ ، حَتَّى الصِّغَارَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } .

وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ صَغِيرٌ مَمْلُوكٌ أَوْ يَتِيمٌ أَوْ وَلَدٌ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ الْكَبِيرُ إذَا لَمْ يَأْمُرْ الصَّغِيرَ ، وَيُعَزِّرُ الْكَبِيرَ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا ؛ لِأَنَّهُ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ عِنْدَهُ مَمَالِيكُ كِبَارٌ ، أَوْ غِلْمَانُ الْخَيْلِ وَالْجِمَالِ وَالْبُزَاةِ ، أَوْ فَرَّاشُونَ أَوْ بَابِيَّةٌ يَغْسِلُونَ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ ، أَوْ خَدَمٌ ، أَوْ زَوْجَةٌ ، أَوْ سُرِّيَّةٌ ، أَوْ إمَاءٌ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ بِالصَّلَاةِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ ، بَلْ مِنْ جُنْدِ التَّتَارِ . فَإِنَّ التَّتَارَ يَتَكَلَّمُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَمَعَ هَذَا فَقِتَالُهُمْ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ كُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ ، أَوْ الْبَاطِنَةِ الْمَعْلُومَةِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا ، فَلَوْ قَالُوا : نَشْهَدُ وَلَا نُصَلِّي قُوتِلُوا حَتَّى يُصَلُّوا ، وَلَوْ قَالُوا : نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي قُوتِلُوا حَتَّى يُزَكُّوا ، وَلَوْ قَالُوا : نُزَكِّي وَلَا نَصُومُ وَلَا نَحُجُّ ، قُوتِلُوا حَتَّى يَصُومُوا رَمَضَانَ . وَيَحُجُّوا الْبَيْتَ . وَلَوْ قَالُوا : نَفْعَلُ هَذَا لَكِنْ لَا نَدَعُ الرِّبَا ، وَلَا شُرْبَ الْخَمْرِ ، وَلَا الْفَوَاحِشَ ، وَلَا نُجَاهَدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا نَضْرِبُ الْجِزْيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَنَحْوُ ذَلِكَ . قُوتِلُوا حَتَّى يَفْعَلُوا ذَلِكَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ }. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } .

وَالرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، وَكَانَ أَهْلُ الطَّائِفِ قَدْ أَسْلَمُوا وَصَلَّوْا وَجَاهَدُوا ، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الرِّبَا ، كَانُوا مِمَّنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ : كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ . فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَلَمْ يَقُلْ : إلَّا بِحَقِّهَا ؟ . وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ . قَالَ عُمَرُ : فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ ، فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ : { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ يَقُومُونَ اللَّيْلَ ، وَيَصُومُونَ النَّهَارَ ، وَيَقْرَؤُونَ

الْقُرْآنَ ، أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ ، فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الَّذِينَ لَا يَلْتَزِمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ بباساق (1) مُلُوكُهُمْ ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يَأْمُرُهُ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ ، وَلَمْ يُصَلِّ ، فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً عَمْدًا بِنِيَّةِ أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا قَضَاءً فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُهُ كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ غَيْرِ وَقْتِهَا الَّذِي يَجِبُ فِعْلُهَا فِيهِ عَمْدًا مِنْ الْكَبَائِرِ بَلْ قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

قَالَ : { مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ } . وَرَفَعَ هَذَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَظَرٌ . فَإِنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ : الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَثَرِ مَعْرُوفٌ وَأَهْلُ الْعِلْمِ ذَكَرُوا ذَلِكَ مُقِرِّينَ لَهُ لَا مُنْكِرِينَ لَهُ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَحُبُوطُ الْعَمَلِ لَا يُتَوَعَّدُ بِهِ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ - وَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْعَصْرِ أَعْظَمُ مِنْ تَفْوِيتِ غَيْرِهَا فَإِنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الْمَخْصُوصَةُ بِالْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي فُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَضَيَّعُوهَا فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا فَلَهُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي لَمَّا فَاتَتْ سُلَيْمَانَ فَعَلَ بِالْخَيْلِ مَا فَعَلَ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } وَالْمُوتُورُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ يَبْقَى مَسْلُوبًا لَيْسَ لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي حَبِطَ عَمَلُهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ

سَاهُونَ } فَتَوَعَّدَ بِالْوَيْلِ لِمَنْ يَسْهُو عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَإِنْ صَلَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } وَقَدْ سَأَلُوا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ إضَاعَتِهَا فَقَالَ : هُوَ تَأْخِيرُهَا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا فَقَالُوا : مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إلَّا تَرْكَهَا فَقَالَ : لَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ عَنْ بَعْضِ أُمَرَاءَ الْكُوفَةِ فِي زَمَانِهِ : مَا فَعَلَ خَلْفُكُمْ ؟ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا . وَقَوْلُهُ : { وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ اسْتَعْمَلَ مَا يَشْتَهِيهِ عَنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي وَقْتِهَا سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَهَى مِنْ جِنْسِ الْمُحَرَّمَاتِ : كَالْمَأْكُولِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَشْرُوبِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَنْكُوحِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَسْمُوعِ الْمُحَرَّمِ أَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ لَكِنَّ الْإِسْرَافَ فِيهِ يُنْهَى عَنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ اشْتَغَلَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ بِلَعِبِ أَوْ لَهْوٍ أَوْ حَدِيثٍ مَعَ أَصْحَابِهِ أَوْ تَنَزُّهٍ فِي بُسْتَانِهِ أَوْ عِمَارَةِ عَقَارِهِ أَوْ سَعْيٍ فِي تِجَارَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ أَضَاعَ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعَ مَا يَشْتَهِيهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } وَمَنْ أَلْهَاهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ عَنْ فِعْلِ الْمَكْتُوبَةِ فِي وَقْتِهَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ خَاسِرًا . وَقَالَ تَعَالَى فِي ضِدِّ هَؤُلَاءِ : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ

لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } . فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ قَدْ تَوَعَّدَ بِلُقِيِّ الْغَيِّ مَنْ يُضَيِّعُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَيَتَّبِعُ الشَّهَوَاتِ وَالْمُؤَخِّرَ لَهَا عَنْ وَقْتِهَا مُشْتَغِلًا بِمَا يَشْتَهِيهِ هُوَ مُضَيِّعٌ لَهَا مُتَّبِعٌ لِشَهْوَتِهِ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ هَذَا الْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى كَبِيرَةٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ جَعْلُهُ خَاسِرًا وَالْخُسْرَانُ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفِّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ .
وَأَيْضًا فَلَا . . . (1) أَحَدًا مَنْ صَلَّى بِلَا طَهَارَةٍ أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ عَمْدًا وَتَرَكَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ أَوْ الْقِرَاءَةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدَا أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِذَلِكَ كَبِيرَةً بَلْ قَدْ يَتَوَرَّعُ فِي كُفْرَهُ إنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا اسْتَحَلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا رَيْبٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَقْتَ لِلصَّلَاةِ مُقَدَّمٌ عَلَى هَذِهِ الْفُرُوضِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ الْمُسَافِرُ الْعَادِمُ لِلْمَاءِ أَنَّهُ يَجِدُهُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِيُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ بِوُضُوءِ أَوْ غُسْلٍ ؛ بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْفَرْضُ وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ إذَا اسْتَحَلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا رَيْبٍ .

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَعْدَ الْوَقْتِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ لِإِمْكَانِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا إلَّا لِنَاوٍ لِجَمْعِهَا أَوْ مُشْتَغِلٍ بِشَرْطِهَا فَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ قَبْلَهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَائِرِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ فَهَذَا أَشُكُّ فِيهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا فِيهِ صُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَمَا إذَا أَمْكَنَ الْوَاصِلَ إلَى الْبِئْرِ أَنْ يَضَعَ حَبْلًا يَسْتَقِي وَلَا يَفْرَغُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ ؛ وَإِذَا أَمْكَنَ الْعُرْيَانَ أَنْ يَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا وَلَا يَفْرَغَ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ وَنَحْوَ هَذِهِ الصُّوَرِ وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِي قَالَهُ فِي ذَلِكَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَحْمَد وَأَصْحَابِهِ وَخِلَافُ قَوْلِ جَمَاعَةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَمَا أَعْلَمُ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِاشْتِغَالِ بِالشَّرْطِ لَا يُبِيحُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْمَاءَ وَهُوَ لَا يَجِدُهُ . إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّأْخِيرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالشَّرْطِ . وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى قَرْيَةٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ مِنْهَا ثَوْبًا وَهُوَ لَا يُصَلِّي إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّأْخِيرُ بِلَا نِزَاعٍ .

وَالْأُمِّيُّ كَذَلِكَ إذَا أَمْكَنَهُ تَعَلُّمُ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ لَا يَتَعَلَّمُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ تَعَلُّمِ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ لَوْ كَانَ دَمُهَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ . الصَّلَاةَ لِتُصَلِّي بِطَهَارَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ . بَلْ تُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَأَمَّا حَيْثُ جَازَ الْجَمْعُ فَالْوَقْتُ وَاحِدٌ وَالْمُؤَخِّرُ لَيْسَ بِمُؤَخِّرِ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ : فِعْلُهَا فِيهِ ؛ بَلْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الْجَمْعُ إلَى النِّيَّةِ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ . وَكَذَلِكَ الْقَصْرُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْخَوْفِ تَجِبُ فِي الْوَقْتِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا فَلَا يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَعْمَلُ عَمَلًا كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْ الْإِمَامِ بِرَكْعَةِ وَلَا يُفَارِقُ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ وَلَا يَقْضِي مَا سَبَقَ بِهِ قَبْلَ السَّلَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِأَجْلِ الْوَقْتِ وَإِلَّا فَفِعْلُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ وَلَوْ بِاللَّيْلِ مُمْكِنٌ عَلَى الْإِكْمَالِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَأَمْكَنَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ مِصْرًا يَعْلَمُ فِيهِ الْقِبْلَةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا نَازَعَ مَنْ نَازَعَ إذَا أَمْكَنَهُ تَعَلُّمُ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يَتَعَلَّمُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ . وَهَذَا النِّزَاعُ هُوَ

الْقَوْلُ الْمُحْدَثُ الشَّاذُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَأَمَّا النِّزَاعُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي مِثْلِ مَا إذَا اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الطُّلُوعِ بِوُضُوءِ : هَلْ يُصَلِّي بِتَيَمُّمِ ؟ أَوْ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي بَعْدَ الطُّلُوعِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ : الْأَوَّلُ : قَوْلُ مَالِكٍ ؛ مُرَاعَاةً . لِلْوَقْتِ . الثَّانِي : قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَهَذِهِ . الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي تَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَقْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } فَجَعَلَ الْوَقْتَ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ هُوَ وَقْتَ الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ فَعَلَهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ فَقَدْ فَعَلَهَا فِي الْوَقْتِ وَهَذَا لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ وَلَا مُضَيِّعٍ لَهَا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ ؛ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ } . بِخِلَافِ الْمُتَنَبِّهِ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَوْ أَخَّرَهَا عَنْهُ عَمْدًا كَانَ مُضَيِّعًا مُفَرِّطًا فَإِذَا اشْتَغَلَ عَنْهَا بِشَرْطِهَا

وَكَانَ قَدْ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ أَنْ يَفْعَلَهَا فِيهِ وَلَوْلَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَجَازَ تَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ إذَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِتَحْصِيلِ مَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ ثَوْبِ الِاسْتِعَارَةِ بِالذَّهَابِ إلَى مَكَانِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . بَلْ الْمُسْتَيْقِظُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ كَمَا يَتَوَضَّأُ الْمُسْتَيْقِظُ فِي الْوَقْتِ فَلَوْ أَخَّرَهَا لِأَنَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ عِنْدَ الزَّوَالِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ . عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ قَالَ أَنَا أُصَلِّيهَا قَضَاءً . كَمَا يُقْتَلُ إذَا قَالَ : أُصَلِّي بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَكُلُّ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهِ . كَمَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ . فَإِنْ قُلْنَا : يُقْتَلُ بِضِيقِ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا : يُقْتَلُ بِضِيقِ الْأُولَى وَهُوَ الصَّحِيحُ أَوْ الثَّالِثَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ : هَلْ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ بِثَلَاثِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَإِذَا قِيلَ بِتَرْكِ صَلَاةٍ : فَهَلْ يُشْتَرَطُ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا أَوْ يَكْفِي ضِيقُ وَقْتِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجُمَعِ وَغَيْرِهَا . وَلَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ يَصِحُّ بَعْدَ الْوَقْتِ ؛ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ إذَا فَاتَ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِدْرَاكُهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ

يَفْعَلَهَا إلَّا فَائِتَةً وَيَبْقَى إثْمُ التَّأْخِيرِ مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ الَّتِي تَمْحُوهَا التَّوْبَةُ وَنَحْوُهَا وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْفَرَائِضِ فَيُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِالْقَضَاءِ . وَأَمَّا الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِتَالِهِمْ فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُمْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - إنَّهُمْ كَانُوا يُفَوِّتُونَهَا فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّةَ بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ . وَقَالَ : { اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } وَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ كَمَا نَهَى عَنْ قِتَالِ الْأَئِمَّةِ إذْ اسْتَأْثَرُوا وَظَلَمُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ وَاعْتَدَوْا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا يَقَعُ . وَمُؤَخِّرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَاسِقٌ وَالْأَئِمَّةُ لَا يُقَاتِلُونَ بِمُجَرَّدِ الْفِسْقِ وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ الْمَقْدُورُ قَدْ يُقْتَلُ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ : كَالزِّنَا وَغَيْرِهِ . فَلَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ فِيهِ الْقَتْلُ جَازَ أَنْ يُقَاتَلَ الْأَئِمَّةُ لِفِعْلِهِمْ إيَّاهُ ؛ إذْ فَسَادُ الْقِتَالِ أَعْظَمُ مِنْ فَسَادِ كَبِيرَةٍ يَرْتَكِبُهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ . وَلِهَذَا نَصَّ مَنْ نَصَّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّافِلَةَ تُصَلَّى خَلْفَ الْفُسَّاقِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ فُسَّاقٌ وَقَدْ أَمَرَ بِفِعْلِهَا خَلْفَهُمْ نَافِلَةً .

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفِسْقَ بِتَفْوِيتِ الصَّلَاةِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ . لَكِنْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ : الْكَبِيرَةُ تَفْوِيتُهَا دَائِمًا فَإِنَّ ذَلِكَ إصْرَارٌ عَلَى الصَّغِيرَةِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ تَقَدَّمَ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَعِيدَ يَلْحَقُ بِتَفْوِيتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِصْرَارَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدِ وَمَنْ أَتَى صَغِيرَةً وَتَابَ مِنْهَا ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى كَبِيرَةً . وَأَيْضًا فَمَنْ اشْتَرَطَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى التَّفْوِيتِ مُحْتَاجٌ إلَى ضَابِطٍ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى طُولِ عُمُرِهِ لَمْ يَكُنْ الْمَذْكُورُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَإِنْ أَرَادَ مِقْدَارًا مَحْدُودًا طُولِبَ بِدَلِيلِ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَالْقَتْلُ بِتَرْكِ وَاحِدَةٍ أَبْلَغُ مِنْ جَعْلِ ذَلِكَ كَبِيرَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ مُسْلِمٍ تَارِكٍ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ ، فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْوَاجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَعْنُ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ جَائِزٌ وَأَمَّا لَعْنَةُ الْمُعَيَّنِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتُوبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ
وَسُئِلَ :
عَنْ الْأَذَانِ . هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَمْ سُنَّةٌ ؟ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ التَّرْجِيعُ أَمْ لَا . وَهَلْ التَّكْبِيرُ أَرْبَعٌ أَوْ اثْنَتَانِ . كَمَالِكِ . وَهَلْ الْإِقَامَةُ شَفْعٌ أَوْ فَرْدٌ ؟ وَهَلْ يَقُولُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الصَّحِيحُ أَنْ الْأَذَانَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَيْسَ لِأَهْلِ مَدِينَةٍ وَلَا قَرْيَةٍ أَنْ يَدَعُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ " وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقَدْ أَطْلَقَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ سُنَّةٌ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ قُوتِلُوا وَالنِّزَاعُ مَعَ هَؤُلَاءِ . قَرِيبٌ مِنْ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ شَرْعًا فَالنِّزَاعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ وَاجِبٌ نِزَاعُ لَفْظِيٌّ وَلِهَذَا نَظَائِرُ مُتَعَدِّدَةٌ .

وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا إثْمَ عَلَى تَارِكِيهِ وَلَا عُقُوبَةَ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ . فَإِنَّ الْأَذَانَ هُوَ شِعَارُ دَارِ الْإِسْلَامِ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّقُ اسْتِحْلَالَ أَهْلِ الدَّارِ بِتَرْكِهِ فَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ سَمِعَ مُؤَذِّنًا لَمْ يُغِرْ وَإِلَّا أَغَارَ } . وَفِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَعَلَيْك بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
وَأَمَّا التَّرْجِيعُ وَتَرْكُهُ وَتَثْنِيَةُ التَّكْبِيرِ وَتَرْبِيعِهِ " وَتَثْنِيَةُ الْإِقَامَةِ وَإِفْرَادُهَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ { حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَذَانَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَانَ الْأَذَانُ فِيهِ وَفِي وَلَدِهِ . بِمَكَّةَ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَفِيهِ التَّرْجِيعُ } . وَرَوَى فِي حَدِيثِهِ { التَّكْبِيرُ مَرَّتَيْنِ } كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ . وَرَوَى { أَرْبَعًا } كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ . وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْإِقَامَةَ شَفْعًا . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ قَالَ : تَذَاكَرُوا أَنْ يَعْلَمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ . بِشَيْءِ يَعْرِفُونَهُ

فَذَكَرُوا أَنْ يوروا نَارًا أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا فَأَمَرَ بِلَالَ أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : " إلَّا الْإِقَامَةَ " . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ . أَنَّ { عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا أُرَى الْأَذَانَ أَمَرَهُ . النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَى بِلَالٍ فَأَلْقَاهُ . عَلَيْهِ وَفِيهِ التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا بِلَا تَرْجِيعٍ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَهُوَ تَسْوِيغُ كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْرَهُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إذْ تَنَوُّعُ صِفَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ كَتَنَوُّعِ صِفَةِ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّشَهُّدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَكْرَهَ . مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ . وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ بِهِ الْحَالُ إلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ حَتَّى يُوَالِيَ وَيُعَادِيَ وَيُقَاتِلَ عَلَى مِثْلِ هَذَا وَنَحْوِهِ . مِمَّا سَوَّغَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا . وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ - وَلَا أُحِبُّ تَسْمِيَتَهُ - مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلتَّرْجِيعِ وَظَنِّهِمْ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ غَلِطَ فِي نَقْلِهِ وَأَنَّهُ كَرَّرَهُ . لِيَحْفَظَهُ وَمِنْ كَرَاهَةِ مَنْ خَالَفَهُمْ لِشَفْعِ الْإِقَامَةِ مَعَ أَنَّهُمْ يَخْتَارُونَ أَذَانَ أَبِي مَحْذُورَةَ . هَؤُلَاءِ يَخْتَارُونَ إقَامَتَهُ وَيَكْرَهُونَ أَذَانَهُ وَهَؤُلَاءِ يَخْتَارُونَ أَذَانَهُ وَيَكْرَهُونَ

إقَامَتَهُ . فَكِلَاهُمَا قَوْلَانِ مُتَقَابِلَانِ . وَالْوَسَطُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا . وَإِنْ كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ يَخْتَارُونَ أَذَانَ بِلَالٍ وَإِقَامَتَهُ لِمُدَاوَمَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا كَمَا يَخْتَارُ بَعْضَ الْقِرَاءَاتِ . وَالتَّشَهُّدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا : أَنْ يُفْعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَهَذَا فِي مَكَانٍ وَهَذَا فِي مَكَانٍ ؛ لِأَنَّ هَجْرَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَمُلَازِمَةَ غَيْرِهِ قَدْ يُفْضِي إلَى أَنْ يَجْعَلَ السُّنَّةَ بِدْعَةً وَالْمُسْتَحَبَّ وَاجِبًا وَيُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ إذَا فَعَلَ آخَرُونَ الْوَجْهَ الْآخَرَ . فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي فِيهَا الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ . وَأَصَحُّ النَّاسِ طَرِيقَةً فِي ذَلِكَ هُمْ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ عَرَفُوا السُّنَّةَ وَاتَّبَعُوهَا إذْ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ مَنْ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ عُمْدَتُهُ الْعَمَلَ الَّذِي وَجَدَهُ بِبَلَدِهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ السُّنَّةَ دُونَ مَا خَالَفَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَسَّعَ فِي ذَلِكَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ . وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ أَذَانَ بِلَالٍ وَإِقَامَتَهُ مَا وَجَدَهُ فِي بَلَدِهِ : إمَّا بِالْكُوفَةِ وَإِمَّا بِالشَّامِ وَإِمَّا بِالْمَدِينَةِ . وَبِلَالٌ لَمْ يُؤَذِّنْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَلِيلًا وَإِنَّمَا أَذَّنَ بِالْمَدِينَةِ سَعْدٌ القرظي مُؤَذِّنُ أَهْلِ قُبَاء .

وَالتَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ اخْتِيَارُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : لَكِنَّ مَالِكًا يَرَى التَّكْبِيرَ مَرَّتَيْنِ وَالشَّافِعِيَّ يَرَاهُ . أَرْبَعًا وَتَرْكُهُ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَأَمَّا أَحْمَد فَعِنْدَهُ كِلَاهُمَا سُنَّةٌ وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَذَانُ بِلَالٍ . وَالْإِقَامَةُ يَخْتَارُ إفْرَادُهَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ : إنَّ تَثْنِيَتَهَا سُنَّةٌ وَالثَّلَاثَةُ : أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد يَخْتَارُونَ تَكْرِيرَ لَفْظِ الْإِقَامَةِ دُونَ مَالِكٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
وَأَمَّا الْأَذَانُ الَّذِي هُوَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ - كَأَحْمَدَ - فِيهِ جَمِيعَ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْسَنَ أَذَانَ بِلَالٍ وَإِقَامَتَهُ وَأَذَانَ أَبِي مَحْذُورَةَ وَإِقَامَتَهُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ الْأَذَانَ مُرَجَّعًا وَفِي الْإِقَامَةِ مَشْفُوعَةً . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ بِلَالًا أُمِرَ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُرَجِّعُ فَرَجَّحَ أَحْمَد أَذَانَ بِلَالٍ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمًا قَبْلَ

أَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَبَعْدَهُ إلَى أَنْ مَاتَ . وَاسْتَحْسَنَ أَذَانَ أَبِي مَحْذُورَةَ وَلَمْ يَكْرَهْهُ . وَهَذَا أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ لَهُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا يُسْتَحْسَنُ كُلُّ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِشَيْءِ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَاخْتِيَارِهِ . لِلْبَعْضِ أَوْ تَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْجَمِيعِ . كَمَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ ثَابِتَةٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَارَ بَعْضَ الْقِرَاءَةِ : مِثْلَ أَنْوَاعِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَأَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ . وَأَحَبُّهَا إلَيْهِ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ لِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ : مِنْهَا كَوْنُهُ أَصَحَّهَا وَأَشْهَرَهَا . ومِنْهَا كَوْنُهُ مَحْفُوظَ الْأَلْفَاظِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي حَرْفٍ مِنْهُ . ومِنْهَا كَوْنُ غَالِبِهَا يُوَافِقُ أَلْفَاظَهُ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِهِ غَالِبًا . وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ الْمَأْثُورَةِ وَأَنَّهُ اخْتَارَ بَعْضَهَا . وَكَذَلِكَ مَوْضِعُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَمَحَلُّ وَضْعِهَا بَعْدَ الرَّفْعِ وَصِفَاتُ التَّحْمِيدِ الْمَشْرُوعِ بَعْدَ التَّسْمِيعِ وَمِنْهَا صِفَاتُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضَهَا .

وَمِنْهَا أَنْوَاعُ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَيَجُوزُ كُلُّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ . وَمِنْهَا أَنْوَاعُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ يَجُوزُ كُلُّ مَأْثُورٍ وَإِنْ اسْتَحَبَّ بَعْضَهُ . وَمِنْهَا التَّكْبِيرُ عَلَى الْجَنَائِزِ يَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ : التَّرْبِيعُ وَالتَّخْمِيسُ وَالتَّسْبِيعُ وَإِنْ اخْتَارَ التَّرْبِيعَ . وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَيَخْتَارُونَ بَعْضَ ذَلِكَ وَيَكْرَهُونَ بَعْضَهُ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ " التَّرْجِيعَ " فِي الْأَذَانِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ . تَرْكَهُ كَالشَّافِعِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ شَفْعَ الْإِقَامَةِ كَالشَّافِعِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ . إفْرَادَهَا حَتَّى قَدْ آلَ الْأَمْرُ بِالْأَتْبَاعِ إلَى نَوْعِ جَاهِلِيَّةٍ فَصَارُوا يَقْتَتِلُونَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْمَشْرِقِ عَلَى ذَلِكَ حَمِيَّةً جَاهِلِيَّةً مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ حَسَنٌ قَدْ أَمَرَ بِهِ { رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا بِإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَأَمَرَ أَبَا مَحْذُورَةَ بِشَفْعِهَا } . وَإِنَّ الضَّلَالَةَ حَقَّ الضَّلَالَةِ أَنْ يُنْهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمُؤَذِّنِ إذَا قَالَ : { الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ } هَلْ السُّنَّةُ أَنْ يَسْتَدِيرَ وَيَلْتَفِتَ أَمْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ أَمْ الشَّرْقَ ؟ .

فَأَجَابَ :
لَيْسَ هَذَا سُنَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ السُّنَّةُ أَنْ يَقُولَهَا وَهُوَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ . وَكَقَوْلِهِ فِي الْإِقَامَةِ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ إلَّا الْحَيْعَلَةَ . فَإِنَّهُ يَلْتَفِتُ بِهَا يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَا يَخْتَصُّ الْمَشْرِقَ بِالْكَلِمَتَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مَا يَخْتَصُّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بِجِنْسِهِ . فَمَنْ قَالَ : " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " كِلَاهُمَا إلَى الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ فَهُوَ مُبْتَدَعٌ خَارِجٌ عَنْ السَّنَةِ فِي الْأَذَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يَدُورُ فِي الْمَنَارَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . فَمَنْ دَارَ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ إنْ دَارَ لِقَوْلِهِ : " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " لَزِمَهُ أَنْ يَدُورَ مَرَّتَيْنِ . وَلَا قَائِلَ بِهِ . وَإِنْ خَصَّ الْمَشْرِقَ بِهِمَا كَانَ أَبْعَدَ عَنْ السُّنَّةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَقُولَهُمَا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
لَمَّا ذَهَبْت عَلَى الْبَرِيدِ كُنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَكُنْت أَوَّلًا أُؤَذِّنُ عِنْدَ الْغُرُوبِ وَأَنَا رَاكِبٌ ثُمَّ تَأَمَّلْت فَوَجَدْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَمَعَ لَيْلَةَ جَمْعٍ لَمْ يُؤَذِّنُوا لِلْمَغْرِبِ فِي طَرِيقِهِمْ : بَلْ أَخَّرَ التَّأْذِينَ

حَتَّى نَزَلَ فَصِرْت أَفْعَلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجَمْعِ صَارَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ وَقْتًا لَهُمَا وَالْأَذَانُ إعْلَامٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ . وَلِهَذَا قُلْنَا يُؤَذَّنُ لِلْفَائِتَةِ كَمَا أَذَّنَ بِلَالٌ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ " لِأَنَّهُ وَقْتُهَا وَالْأَذَانُ لِلْوَقْتِ الَّذِي تُفْعَلُ فِيهِ ؛ لَا الْوَقْتُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ أَحْرَمَ وَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَتْ نَافِلَةً ثُمَّ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَهَلْ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ ؟ أَوْ يُتِمُّ صَلَاتَهُ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ وَهُوَ فِي صَلَاةٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا وَلَا يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ ذَلِكَ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ . لِأَنَّ . مُوَافَقَةَ الْمُؤَذِّنِ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ يَفُوتُ وَقْتُهَا وَهَذِهِ الْأَذْكَارُ لَا تَفُوتُ . وَإِذَا قَطَعَ الْمُوَالَاةَ . فِيهَا لِسَبَبِ شَرْعِيٍّ كَانَ جَائِزًا مِثْلَ مَا يَقْطَعُ

الْمُوَالَاةَ فِيهَا بِكَلَامِ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ خِطَابِ آدَمِيٍّ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بِسُجُودِ تِلَاوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ مُوَالَاتَهَا بِسَبَبِ آخَرَ كَمَا لَوْ سَمِعَ غَيْرَهُ يَقْرَأُ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَسْجُدْ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَمَعَ هَذَا فَفِي هَذَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا إذَا ابْتَدَءُوا الصَّلَاةَ بِالْمَوَاقِيتِ فَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ قَدْ اسْتَعْمَلُوا فِي هَذَا الْبَابِ جَمِيعَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ . عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْقَاتِ الْجَوَازِ . وَأَوْقَاتِ الِاخْتِيَارِ . فَوَقْتُ الْفَجْرِ : مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتُ الظُّهْرِ : مِنْ الزَّوَالِ إلَى مَصِيرِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلِهِ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ وَوَقْتُ الْعَصْرِ : إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ : إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ وَوَقْتُ الْعِشَاءِ : إلَى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهَذَا بِعَيْنِهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ

الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو . وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسِ أَصَحَّ مِنْهُ وَكَذَلِكَ صَحَّ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وبريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَاءَ مُفَرَّقًا فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَغَالِبُ الْفُقَهَاءِ إنَّمَا اسْتَعْمَلُوا غَالِبَ ذَلِكَ . فَأَهْلُ الْعِرَاقِ الْمَشْهُورُ عَنْهُمْ : أَنَّ الْعَصْرَ لَا يَدْخُلُ وَقْتُهَا حَتَّى يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ . وَأَهْلُ الْحِجَازِ - مَالِكٌ وَغَيْرُهُ - : لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ عِنْدَهُمْ إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ .
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ نَقُولُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَالْآثَارُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْمَطَرِ وَالْمَرَضِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ . وَنَقُولُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ مِنْ أَنَّ الْوَقْتَ وَقْتَانِ : وَقْتَ اخْتِيَارٍ وَهُوَ خَمْسُ مَوَاقِيتَ . وَوَقْتَ اضْطِرَارٍ وَهُوَ ثَلَاثُ مَوَاقِيتَ وَلِهَذَا أَمَرَتْ الصَّحَابَةُ - كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا -

الْحَائِضَ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَنْ تُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاء . وَأَحْمَد مُوَافِقٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِمَالِكِ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَزَائِدٌ عَلَيْهِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ دُونَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَصْلُهُ فِي الْجَمْعِ مَعْرُوفٌ . وَكَذَلِكَ أَوْقَاتُ الِاسْتِحْبَابِ . فَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يَسْتَحِبُّونَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الْجُمْلَةِ . إلَّا حَيْثُ يَكُونُ فِي التَّأْخِيرِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَيَسْتَحِبُّونَ تَأْخِيرَ الظُّهْرِ فِي الْحَرِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ وَيَسْتَحِبُّونَ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَشُقَّ . وَبِكُلِّ ذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَنُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا دَافِعَ لَهَا . وَكُلٌّ مِنْ الْفُقَهَاءِ يُوَافِقُهُمْ فِي الْبَعْضِ أَوْ الْأَغْلَبِ . فَأَبُو حَنِيفَةَ : يَسْتَحِبُّ التَّأْخِيرَ إلَّا فِي الْمَغْرِبِ وَالشَّافِعِيُّ : يَسْتَحِبُّ التَّقْدِيمَ مُطْلَقًا حَتَّى فِي الْعِشَاءِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَحَتَّى فِي الْحَرِّ إذَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ { وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الصَّحِيحُ فِيهِ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِالْإِبْرَادِ وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ } .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
" قَاعِدَةٌ " فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِهَا وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ جَمْعٍ وَقَصْرٍ .
جَرَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ لِلْعِلْمِ أَنْ يَذْكُرُوا فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ : أَوْقَاتَهَا وَأَعْدَادَهَا وَأَسْمَاءَهَا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ الْقَصْرَ وَالْجَمْعَ فِي بَابَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ مَعَ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ كَالْمَرِيضِ وَالْخَائِفِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ الْجَمْعَ فِي الْمَوَاقِيتِ . وَأَمَّا الْقَصْرُ فَيُفْرِدُهُ . فَإِنَّ سَبَبَ الْقَصْرِ هُوَ السَّفَرُ وَحْدَهُ فَقِرَانُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ بِصَلَاةِ الْخَائِفِ وَالْمَرِيضِ مُنَاسِبٌ . وَأَمَّا الْجَمْعُ : فَأَسْبَابُهُ مُتَعَدِّدَةٌ ؛ لَا اخْتِصَاصِ السَّفَرِ بِهِ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِي كُلٍّ مِنْهَا فَصْلًا جَامِعًا.

أَمَّا الْعَدَدُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ : ثَلَاثَةٌ رُبَاعِيَّةٌ وَوَاحِدَةٌ ثُلَاثِيَّةٌ وَوَاحِدَةٌ ثُنَائِيَّةٌ هَذَا فِي الْحَضَرِ . وَأَمَّا فِي السَّفَرِ فَقَدْ سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ سُفْرَةً وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي أَسْفَارِهِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ الْفَرْضَ أَرْبَعًا قَطُّ حَتَّى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ آخِرُ أَسْفَارِهِ كَانَ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَوَاتِ : رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ . وَهَذَا مِنْ الْعِلْمِ الْعَامِّ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَى نَقْلِهِ عَنْهُ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَمَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْهُمْ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الدارقطني عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَتَصُومُ } . بَاطِلٌ فِي الْإِتْمَامِ . وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْإِفْطَارِ ؛ بِخِلَافِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الْمُسْتَفِيضِ . وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا بَعْدُ قَطُّ . وَكَيْفَ يَكُونُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّي الْفَرْضَ إمَامًا لَكِنْ مَرَّةً فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ احْتَبَسَ لِلطَّهَارَةِ سَاعَةً فَقَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ بَعْضَ الصَّلَاةِ فَلَوْ صَلَّى بِهِمْ أَرْبَعًا فِي السَّفَرِ لَكَانَ هَذَا مِنْ أَوْكَدِ مَا تَتَوَفَّرُ هِمَمُهُمْ وَدَوَاعِيهِمْ عَلَى نَقْلِهِ ؛ لِمُخَالَفَتِهِ سُنَّتَهُ الْمُسْتَمِرَّةَ ؛ وَعَادَتَهُ الدَّائِمَةَ كَمَا نَقَلُوا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَحْيَانًا . فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ .

وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ : أَيْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِمَسْنُونِ وَلَا مَشْرُوعٍ فَقَدْ كَفَرَ . وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : الصَّلَاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَقُلْت لِعُرْوَةِ : فَمَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ . قَالَ : تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } . هَذَا وَلَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مُقَامِهِ بِمَكَّةَ وَالْمَشَاعِرِ مَعَ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَرَجَ مِنْهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ إلَى مِنًى وَعَرَّفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَقَامَ بِمِنَى إلَى عَشِيَّةِ الثُّلَاثَاءِ وَبَاتَ بِالْمُحَصَّبِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ وَطَافَ لِلْوَدَاعِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ . وَأَقَامَ أَيْضًا قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَأَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ .

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ { - عَائِشَةَ : أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى إذَا قَدِمَتْ مَكَّةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَصَرْت وَأَتْمَمْت وَأَفْطَرْت وَصُمْت . قَالَ : أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ } رَوَاهُ النَّسَائِي . وَرَوَى الدارقطني { خَرَجْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ وَصُمْت وَقَصَرَ وَأَتْمَمْت } وَقَالَ : إسْنَادُهُ حَسَنٌ . فَهَذَا لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمَّ " وَإِنَّمَا فِيهِ إذْنُهُ فِي الْإِتْمَامِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِصَحِيحِ " بَلْ هُوَ خَطَأٌ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ } وَقَدّ ذَكَرَ ابْنُ أَخِيهَا وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا : أَنَّهَا إنَّمَا أَتَمَّتْ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ بِتَأْوِيلِ تَأَوَّلَتْهُ لَا بِنَصِّ كَانَ مَعَهَا . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فِيهِ نَصٌّ . الثَّانِي : أَنَّ فِي الْحَدِيثِ : { أَنَّهَا خَرَجَتْ مُعْتَمِرَةً مَعَهُ فِي رَمَضَانَ عُمْرَةَ رَمَضَانَ وَكَانَتْ صَائِمَةً } وَهَذَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ قَطُّ وَإِنَّمَا كَانَتْ عُمَرُهُ كُلُّهَا فِي شَوَّالٍ وَإِذَا كَانَ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ فِي عُمْرَةٍ عَلَيْهِ صَوْمٌ بَطَلَ هَذَا الْحَدِيثُ .

الثَّالِثُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا سَافَرَ فِي رَمَضَانَ غَزْوَةَ بَدْرٍ وَغَزْوَةَ الْفَتْحِ . فَأَمَّا غَزْوَةُ بَدْرٍ فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِيهَا أَزْوَاجُهُ وَلَا كَانَتْ عَائِشَةُ . وَأَمَّا غَزْوَةُ الْفَتْحِ فَقَدْ كَانَ صَامَ فِيهَا فِي أَوَّلِ سَفَرِهِ ثُمَّ أَفْطَرَ خِلَافَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُفْتَعَلِ . الرَّابِعُ : أَنَّ اعْتِمَارَ عَائِشَةَ مَعَهُ فِيهِ نَظَرٌ . الْخَامِسُ : أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ بِاَلَّتِي تَصُومَ وَتُصَلِّي طُولَ سَفَرِهَا إلَى مَكَّةَ وَتُخَالِفُ فِعْلَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَلْ كَانَتْ تَسْتَفْتِيهِ قَبْلَ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ . فَثَبَتَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْحَضَرِ أَرْبَعٌ فَإِنَّ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ إنَّمَا أُخِذَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ وَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيَّ إنَّ الْأَصْلَ أَرْبَعٌ وَإِنَّمَا الرَّكْعَتَانِ رُخْصَةٌ . وَبَنَوْا عَلَى هَذَا : أَنَّ الْقَاصِرَ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْقَصْرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الخرقي وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا . بَلْ الصَّوَابُ مَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ بَلْ دُخُولُ الْمُسَافِرِ فِي صَلَاتِهِ كَدُخُولِ الْحَاضِرِ بَلْ لَوْ

نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا لَكَرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّرْبِيعِ فِي السَّفَرِ : هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ أَوْ تَرْكُ الْأَفْضَلِ . أَوْ هُوَ أَفْضَلُ . عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : فَالْأَوَّلُ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ . وَالثَّانِي : رِوَايَةٌ عَنْهُ وَعَنْ أَحْمَد . وَالثَّالِثُ : رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَأَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَالرَّابِعُ : قَوْلٌ لَهُ . والرَّابِعُ خَطَأٌ قَطْعًا لَا رَيْبَ فِيهِ . وَالثَّالِثُ ضَعِيفٌ : وَإِنَّمَا الْمُتَوَجِّهُ أَنْ يَكُونَ التَّرْبِيعُ إمَّا مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ لِأَنَّ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُرَبِّعُونَ وَكَانَ الْآخَرُونَ لَا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِمْ إنْكَارَ مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ بَلْ إنْكَارَ مَنْ فَعَلَ الْمَكْرُوهَ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَهُنَا عَلَّقَ الْقَصْرَ بِسَبَبَيْنِ : الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفِ مِنْ فِتْنَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ قَصْرَ عَدَدِهَا وَقَصْرَ عَمَلِهَا وَأَرْكَانِهَا . مِثْلَ الْإِيمَاءِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَهَذَا الْقَصْرُ إنَّمَا يَشْرَعُ بِالسَّبَبَيْنِ كِلَاهُمَا

كُلُّ سَبَبٍ لَهُ قَصْرٌ . فَالسَّفَرُ يَقْتَضِي قَصْرَ الْعَدَدِ وَالْخَوْفُ يَقْتَضِي قَصْرَ الْأَرْكَانِ . وَلَوْ قِيلَ : إنَّ الْقَصْرَ الْمُعَلَّقَ هُوَ قَصْرُ الْأَرْكَانِ فَإِنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ لَكَانَ وَجِيهًا . وَلِهَذَا قَالَ : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } . فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْقَصْرَ لَا يُسَوَّى بِالْجَمْعِ فَإِنَّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِرْعَتُهُ لِأُمَّتِهِ بَلْ الْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ أَضْعَفُ مِنْ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ . فَإِنَّ الْجَمْعَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي السَّفَرِ أَحْيَانًا وَأَمَّا الْإِتْمَامُ فِيهِ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ قَطُّ وَكِلَاهُمَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ الْإِتْمَامِ : وَفِي " جَوَازِ الْجَمْعِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ وَجَوَازِ الْإِفْرَادِ . فَلَا يُشَبَّهُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ فِي أَسْفَارِهِ وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ ، [ فَلَا يُصَارُ ] (1) إلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ فِي سَفَرِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً [ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ] (2) وَقَدْ تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْوَقْتُ : فَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ نَوْعَانِ : وَقْتُ اخْتِيَارٍ وَرَفَاهِيَةٍ وَوَقْتُ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ .

أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْأَوْقَاتُ خَمْسَةٌ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَالْأَوْقَاتُ ثَلَاثَةٌ فَصَلَاتَا اللَّيْلِ وَصَلَاتَا النَّهَارِ وَهُمَا اللَّتَانِ فِيهِمَا الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا جَمْعٌ وَلَا قَصْرٌ لِكُلِّ مِنْهُمَا وَقْتٌ مُخْتَصٌّ وَقْتُ الرَّفَاهِيَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْوَقْتُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالِاضْطِرَارِ ؛ لَكِنْ لَا تُؤَخَّرُ صَلَاةُ نَهَارٍ إلَى لَيْلٍ وَلَا صَلَاةُ لَيْلٍ إلَى نَهَارٍ . وَلِهَذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَقَالَ : { فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ اللَّهَ فِي كِتَابِهِ ذَكَرَ الْوُقُوتَ تَارَةً ثَلَاثَةً وَتَارَةً خَمْسَةً . أَمَّا الثَّلَاثَةُ فَفِي قَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } وَفِي قَوْلِهِ : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } وَقَوْلِهِ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ . } وَأَمَّا الْخَمْسُ فَقَدْ ذَكَرَهَا أَرْبَعَةً : فِي قَوْلِهِ : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } وَقَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى . } وَقَوْلِهِ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ

وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } وَالسُّنَّةُ هِيَ الَّتِي فَسَّرَتْ ذَلِكَ وَبَيَّنَتْهُ وَأَحْكَمَتْهُ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي خَمْسِ مَوَاقِيتَ : فِي حَالِ مُقَامِهِ بِالْمَدِينَةِ وَفِي غَالِبِ أَسْفَارِهِ حَتَّى أَنَّهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - آخِرِ أَسْفَارِهِ - كَانَ يُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا رَكْعَتَيْنِ وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ بمزدلفة ؛ وَلِهَذَا { قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا الْمَغْرِبَ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَالْفَجْرَ بمزدلفة } . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَلَّسَ بِهَا تَغْلِيسًا شَدِيدًا وَقَدْ بَيَّنَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ صَلَّاهَا حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ ؛ لِأَنَّ جَمْعَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِمَّا صَلَّاهُ . بِالْمُسْلِمِينَ بِمِنَى أَوْ بِمَكَّةَ هُوَ مِنْ الْمَنْقُولِ نَقْلًا عَامًّا مُتَوَاتِرًا مُسْتَفِيضًا . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ بَيَّنَ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ الْمَوَاقِيتِ بِالْمَدِينَةِ كَمَا رَوَاهُ . مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَحَدِيثِ بريدة بْنِ الحصيب وَبَيَّنَ لَهُ جِبْرِيلُ الْمَوَاقِيتَ بِمَكَّةَ كَمَا رَوَاهُ . جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ الْمَوَاقِيتَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرُو وَهُوَ أَحْسَنُ أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ بِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { وَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ وَوَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَصِرْ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ } وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . مَرْفُوعًا وَفِيهِ نَظَرٌ . وَعَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اعْتَمَدَ الْإِمَامُ أَحْمَد لِكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى السُّنَنِ وَأَمَّا غَيْرُهُ . مِنْ الْأَئِمَّةِ فَبَلَغَهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دُونَ بَعْضٍ فَاتَّبَعَ مَا بَلَغَهُ وَمَنْ اتَّبَعَ مَا بَلَغَهُ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ : { سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُورُ تَأْخِيرُ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ؛ فَإِنَّ الْأُمَرَاءَ لَمْ يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَلَا صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ وَلَكِنَّ غَايَتَهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ أَوْ الْعَصْرَ إلَى الِاصْفِرَارِ أَوْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ . وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَلَوْ أَخَّرُوهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَكْرُوهًا . وَتَأْخِيرُهَا إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ أَحَدٌ وَلَا هُوَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْأُمَرَاءُ .

وَأَمَّا الثَّلَاثُ : فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : { أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاء يَجْمَعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَوْ إذَا كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتِهَا } . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْحِجَاز . وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا } رَوَاهُ . أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُعَاذٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ . وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا كَانَ نَازِلًا فِي وَقْتِ الصَّلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا : لَا يَجْمَعُ لِعَدَمِ السُّنَّةِ وَالْحَاجَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاخْتِيَارُ الخرقي . الثَّانِيَةُ : يَجْمَعُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِحَدِيثِ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ غَيْرُهُ وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَبِالِاتِّفَاقِ أَنَّهُ { جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ وبمزدلفة بَيْنَ صَلَاتَيْ الْعِشَاءَيْنِ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا : الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ

وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاء } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاء بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } . قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : مَا أَرَادَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ " . وَكَذَلِكَ قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ . وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْهُ حَدِيثَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَنَّهُ أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي حَدِيثِ حمنة بِنْتِ جَحْشٍ وَغَيْرِهَا فَهَذَا الْجَمْعُ بِالْمَدِينَةِ لِلْمَطَرِ وَلِغَيْرِ مَطَرٍ . وَقَدْ نَبَّهَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْجَمْعِ لِلْخَوْفِ وَالْمَطَرِ . وَالْجَمْعُ عِنْدَ الْمَسِيرِ فِي السَّفَرِ ؛ يَجْمَعُ فِي الْمَقَامِ وَفِي السَّفَرِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ . فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ السَّفَرُ سَبَبٌ لِلْجَمْعِ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْقَصْرِ فَإِنَّ قَصْرَ الْعَدَدِ دَائِرٌ مَعَ السَّفَرِ وَجُودًا وَعَدَمًا وَأَمَّا الْجَمْعُ فَقَدْ جَمَعَ فِي غَيْرِ سَفَرٍ وَقَدْ كَانَ فِي السَّفَرِ يَجْمَعُ لِلْمَسِيرِ وَيَجْمَعُ فِي مِثْلِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَلَا يَجْمَعُ فِي سَائِرِ مَوَاطِنِ السَّفَرِ وَأَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْجَمْعِ . فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجَمْعَ هُوَ لِرَفْعِ الْحَرَجِ فَإِذَا كَانَ فِي التَّفْرِيقِ حَرَجٌ جَازَ الْجَمْعُ وَهُوَ وَقْتُ الْعُذْرِ وَالْحَاجَةِ . وَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ : كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْغُرُوبِ : صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَقَالَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْجَمْعِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ . وَأَحْمَد فَهَذَا يُوَافِقُ " قَاعِدَةَ الْجَمْعِ " فِي أَنَّ الْوَقْتَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ

وَالْمَانِعِ . فَمَنْ أَدْرَكَ آخِرَ الْوَقْتِ الْمُشْتَرَكِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاتَيْنِ [ كِلْتَيْهِمَا ] (1) . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : إنَّ الْجَمْعَ مُعَلَّقٌ بِسَفَرِ الْقَصْرِ وَجُودًا وَعَدَمًا حَتَّى مَنَعُوا الْحَاجَّ الَّذِينَ بِمَكَّةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ وَصَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فَمَا أَعْلَمُ لِقَوْلِهِمْ حُجَّةً تُعْتَمَدُ : بَلْ خِلَافَ السُّنَّةِ الْمَعْلُومَةِ يَقِينًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْ الْحُجَّاجِ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعَصْرَ إلَى وَقْتِهَا الْمُخْتَصِّ وَلَا يُعَجِّلُوا الْمَغْرِبَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى مُزْدَلِفَةَ فَيُصَلُّوهَا إمَّا بِعَرَفَةَ وَإِمَّا قَرِيبًا مِنْ الْمَأْزِمَيْنِ هَذَا مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ يَقِينًا وَلَا قَالَ هَذَا أَحَدٌ بَلْ كَلَامُهُ وَنُصُوصُهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَوْسِمِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَكَمَا اخْتَارَهُ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِهِ : كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرِهِمَا . ثُمَّ إمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْجَمْعَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ مُطْلَقًا قَصِيرِهِ وَطَوِيلِهِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِأَجْلِ الْمَسِيرِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ الْجَمْعُ بمزدلفة لِأَجْلِ النُّسُكِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ عِنْدِي وَأَقْيَسُهُ بِأُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ لِشُغْلِ فَإِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ فَهُوَ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُعَلَّقَةَ بِالسَّفَرِ تَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ كَالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ وَالْمَسْحِ . وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ كَالصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ وَالْمُتَيَمِّمِ وَكَأَكْلِ الْمَيْتَةِ ،

فَهَذِهِ جَاءَتْ لِلْحَاجَةِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْحَضَرِ وَالْجَمْعُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . إنَّمَا جَازَ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ لَا لِخُصُوصِ السَّفَرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِالسَّفَرِ إنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ قَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا . وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْحَاجَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ضَرُورَةً لَا بُدَّ مِنْهَا . فَالْأَوَّلُ كَفِطْرِ الْمُسَافِرِ وَالثَّانِي كَفِطْرِ الْمَرِيضِ فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْعُمُومِ وَالْجَمْعِ وَإِنْ اشْتَبَهَ مَعْنَاهَا : قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَإِنَّهُ أَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطَيْنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ؛ وَخَوْفِ الْكُفَّارِ . وَلِهَذَا اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْقَصْرَ مُجَرَّدُ قَصْرِ الْعَدَدِ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ فَمِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ قَصْرُ الصَّلَاةِ إلَّا فِي حَالِ الْخَوْفِ حَتَّى رَوَى الصَّحَابَةُ السُّنَنَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَصْرِ فِي سَفَرِ الْأَمْنِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَقَدْ كَفَرَ . فَإِنَّ مِنْ الْخَوَارِجِ مَنْ يَرُدُّ السُّنَّةَ الْمُخَالِفَةَ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الرَّسُولَ سَنَّهَا . وَقَالَ { حَارِثَةُ بْنُ وَهْبٍ : صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمَنَ مَا كَانَ - رَكْعَتَيْنِ } . وَقَالَ { عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : صَلَّيْنَا خَلْفَ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ وَخَلْفَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ } وَقَالَ { عُمَرُ لِيَعْلَى بْنِ أُمِّيَّةَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ الْآيَةِ : فَقَالَ : عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ . فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ . } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْأَمْنِ صَدَقَةٌ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ . فَنَقُولُ : الْقَصْرُ الْكَامِلُ الْمُطْلَقُ هُوَ قَصْرُ الْعَدَدِ وَقَصْرُ الْأَرْكَانِ فَقَصْرُ الْعَدَدِ جَعْلُ الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ وَقَصْرُ الْأَرْكَانِ هُوَ قَصْرُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ الْيَسِيرِ . فَالسَّفَرُ سَبَبُ قَصْرِ الْعَدَدِ وَالْخَوْفُ سَبَبُ قَصْرِ الْأَرْكَانِ فَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ : قَصْرُ الْعَدَدِ وَالْأَرْكَانِ . وَإِنْ انْفَرَدَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ : انْفَرَدَ قَصْرُهُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : ( { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } مُطْلَقٌ فِي هَذَا الْقَصْرِ وَهَذَا الْقَصْرُ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفَسِّرُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ . وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لَهُ لَا مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِهِ . وَنَظِيرُ هَذَا أَيْضًا مَا قُرِئَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } مِنْ أَنَّ الْمَسْحَ مُطْلَقٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْحُ بِإِسَالَةِ وَهُوَ الْغَسْلُ

وَالْمَسْحُ بِغَيْرِ إسَالَةٍ وَهُوَ الْمَسْحُ بِلَا غَسْلٍ " فَالْقُرْآنُ أَمَرَ بِمَسْحِ مُطْلَقٍ وَالسُّنَّةُ تُثْبِتُ أَنَّ الْمَسْحَ فِي الرَّأْسِ بِغَيْرِ إسَالَةٍ وَالْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ بِإِسَالَةِ . فَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لَهُ لَا مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِهِ . فَيَنْبَغِي تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةُ وُجُوهِهِ " فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَتَوَهَّمُ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خُولِفَ ظَاهِرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا لَهُ دَلَالَاتٌ يَعْرِفُهَا مَنْ أَعْطَاهُ . اللَّهُ فَهْمًا فِي كِتَابِهِ وَيَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ خَمْسَةَ فَوَائِدَ : أَحَدُهَا : تَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ بِدَلَائِلَ الْقُرْآنِ . وَالثَّانِي : بَيَانُ اتِّفَاقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالثَّالِثُ : بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ مُفَسِّرَةٌ لَهُ لَا مُنَافِيَةٌ لَهُ . وَالرَّابِعُ : بَيَانُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ . وَالْخَامِسُ : الْإِجْمَاعُ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا } فَهَلْ هُوَ الْأَوَّلُ ؟ أَوْ الثَّانِي ؟ .

فَأَجَابَ :
الْوَقْتُ يَعُمُّ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَآخِرَهُ وَاَللَّهُ يَقْبَلُهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ لَكِنَّ أَوَّلَهُ أَفْضَلُ مِنْ آخِرِهِ إلَّا حَيْثُ اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ كَالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَكَالْعِشَاءِ إذَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يُشْتَرَطُ اللَّيْلُ إلَى مَطْلَعِ الشَّمْسِ ؟ وَكَمْ أَقَلُّ مَا بَيْنَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَدُخُولِ الْعِشَاءِ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا وَقْتُ الْعِشَاءِ فَهُوَ مَغِيبُ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ لَكِنْ فِي الْبِنَاءِ يُحْتَاطُ حَتَّى يَغِيبَ الْأَبْيَضُ فَإِنَّهُ قَدْ تَسْتَتِرُ الْحُمْرَةُ بِالْجُدْرَانِ فَإِذَا غَابَ الْبَيَاضُ تَيَقَّنَ مَغِيبَ الْأَحْمَرِ . هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ : فَالشَّفَقُ عِنْدَهُ هُوَ الْبَيَاضُ وَأَهْلُ الْحِسَابِ يَقُولُونَ : إنَّ وَقْتَهَا مَنْزِلَتَانِ لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْضَبِطُ فَإِنَّ الْمَنَازِلَ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالْكَوَاكِبِ بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَبَعْضُهَا بَعِيدٌ مِنْ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَوَقْتُ الْعِشَاءِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ يَتْبَعُ النَّهَارَ فَيَكُونُ

فِي الصَّيْفِ أَطْوَلَ كَمَا أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ يَتْبَعُ اللَّيْلَ فَيَكُونُ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَلَ . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ حِصَّةَ الْعِشَاءِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْفَجْرِ فِي الشِّتَاءِ وَفِي الصَّيْفِ : فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا حِسِّيًّا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَسَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ الْأَنْوَارَ تَتْبَعُ الْأَبْخِرَةَ فَفِي الشِّتَاءِ يَكْثُرُ الْبُخَارُ بِاللَّيْلِ فَيَظْهَرُ النُّورُ فِيهِ أَوَّلًا وَفِي الصَّيْفِ تَقِلُّ الْأَبْخِرَةُ بِاللَّيْلِ وَفِي الصَّيْفِ يَتَكَدَّرُ الْجَوُّ بِالنَّهَارِ بِالْأَبْخِرَةِ وَيَصْفُو فِي الشِّتَاءِ ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ مَزَّقَتْ الْبُخَارَ وَالْمَطَرَ لَبَّدَ الْغُبَارَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ النورين تَابِعَانِ لِلشَّمْسِ هَذَا يَتَقَدَّمُهَا وَهَذَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا تَابِعَيْنِ لِلشَّمْسِ فَإِذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ طَالَ زَمَنُ مَغِيبِهَا فَيَطُولُ زَمَانُ الضَّوْءِ التَّابِعِ لَهَا . وَأَمَّا جَعْلُ هَذِهِ الْحِصَّةِ بِقَدْرِ هَذِهِ الْحِصَّةِ وَأَنَّ الْفَجْرَ فِي الصَّيْفِ أَطْوَلُ وَالْعِشَاءَ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَلُ وَجُعِلَ الْفَجْرُ تَابِعًا لِلنَّهَارِ : يَطُولُ فِي الصَّيْفِ وَيَقْصُرُ فِي الشِّتَاءِ وَجُعِلَ الشَّفَقُ تَابِعًا لِلَّيْلِ يَقْصُرُ فِي الصَّيْفِ وَيَطُولُ فِي الشِّتَاءِ فَهَذَا قَلْبُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . وَلَا يَتَأَخَّرُ ظُهُورُ السَّوَادِ عَنْ مَغِيبِ الشَّمْسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
هَلْ التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ أَمْ الْإِسْفَارُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ سَبَبٌ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يُغَلِّسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { لَقَدْ كَانَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ يُصَلِّي الْفَجْرَ فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ } وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِدِهِ قَنَادِيلُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِمَا بَيْنَ السِّتِّينَ آيَةً إلَى الْمِائَةِ وَيَنْصَرِفُ مِنْهَا حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ وَهَذِهِ . الْقِرَاءَةُ هِيَ نَحْوُ نِصْفِ جُزْءٍ أَوْ ثُلُثِ جُزْءٍ وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْ الصَّلَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ } . وَهَكَذَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ كَانَ يُغَلِّسُ بِالْفَجْرِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَكَانَ بَعْدَهُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَنَشَأَ فِي دَوْلَتِهِمْ فُقَهَاءُ رَأَوْا

عَادَتَهُمْ فَظَنُّوا أَنَّ تَأْخِيرَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهَا وَذَلِكَ غَلَطٌ فِي السُّنَّةِ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ } وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ مُعَارِضًا لَمْ يُقَاوِمْهَا . لِأَنَّ تِلْكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ وَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ إذَا خَالَفَ الْمَشْهُورَ الْمُسْتَفِيضَ كَانَ شَاذًّا وَقَدْ يَكُونُ مَنْسُوخًا ؛ لِأَنَّ التَّغْلِيسَ هُوَ فِعْلُهُ حَتَّى مَاتَ وَفِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ . وَقَدْ تَأَوَّلَ الطَّحَاوِي مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ . كَأَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمَا قَوْلَهُ : { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ } عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِسْفَارُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا أَيْ أَطِيلُوا صَلَاةَ الْفَجْرِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْهَا مُسْفِرِينَ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْإِسْفَارِ التَّبَيُّنُ أَيْ صَلُّوهَا إذَا تَبَيَّنَ الْفَجْرُ وَانْكَشَفَ وَوَضَحَ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ بمزدلفة وَصَلَاةَ الْمَغْرِبِ بِجَمْعِ وَصَلَاةَ الْفَجْرِ إنَّمَا صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ } هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { وَصَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ حِينَ بَرَقَ

الْفَجْرُ } وَإِنَّمَا مُرَادُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ الْفَجْرَ عَنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَيَنْكَشِفَ وَيَظْهَرَ . وَذَلِكَ الْيَوْمَ عَجَّلَهَا قَبْلُ . وَبِهَذَا تَتَّفِقُ مَعَانِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا إذَا أَخَّرَهَا لِسَبَبِ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ مِثْلَ الْمُتَيَمِّمِ عَادَتُهُ إنَّمَا يُؤَخِّرُهَا لِيُصَلِّيَ آخِرَ الْوَقْتِ بِوُضُوءِ وَالْمُنْفَرِدُ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يُصَلِّيَ آخِرَ الْوَقْتِ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّلَاةِ آخِرَ الْوَقْتِ قَائِمًا وَفِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا يَقْدِرُ إلَّا قَاعِدًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ فَضِيلَةٌ تَزِيدُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَالتَّأْخِيرُ لِذَلِكَ أَفْضَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ } ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ } فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . لَكِنْ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يُغَلِّسُ بِالْفَجْرِ حَتَّى كَانَتْ تَنْصَرِفُ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ } . فَلِهَذَا فَسَّرُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ بِوَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ الْإِسْفَارَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا : أَيْ أَطِيلُوا الْقِرَاءَةَ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْهَا مُسْفِرِينَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةِ آيَةٍ نَحْوِ نِصْفِ حِزْبٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْفَجْرُ وَيَظْهَرَ فَلَا يُصَلِّي مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ التَّبَيُّنِ إلَّا يَوْمَ مُزْدَلِفَةَ فَإِنَّهُ قَدَّمَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى عَادَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَاظَبَ عَلَى أَدَائِهَا . فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْهَا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَوْ فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِهَا ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ ذَلِكَ نَاسِيًا لَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوُجُوبِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعُذْرِ يَعْتَقِدُ مَعَهُ جَوَازَ التَّأْخِيرِ وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ عَالِمًا عَمْدًا . فَأَمَّا النَّاسِي لِلصَّلَاةِ : فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا . لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } وَقَدْ اسْتَفَاضَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ : { أَنَّهُ نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ فَصَلَّوْهَا بَعْدَ مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ السُّنَّةَ وَالْفَرِيضَةَ بِأَذَانِ وَإِقَامَةٍ } . وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ وَصَلَّى نَاسِيًا : فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ بِطَهَارَةِ بِلَا نِزَاعٍ حَتَّى لَوْ كَانَ النَّاسِي إمَامًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ وَلَا إعَادَةَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ . كَمَا جَرَى لِعُمَرِ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَأَمَّا مَنْ نَسِيَ طِهَارَةَ الْخَبَثِ فَإِنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتِلْكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ نَاسِيًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِيمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَطَرَدَ ذَلِكَ فِيمَنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا وَمَنْ تَطَيَّبَ وَلَبِسَ نَاسِيًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ

وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَهُنَا مَسَائِلُ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا : مِثْلَ مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلِهَا .
وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا : مِثْلُ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْفُقَهَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهَا : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مُطْلَقًا . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ : إذَا تَرَكَهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ دُونَ دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ جَهْلٍ بِعُذْرِ فِيهِ ؛ بِخِلَافِ دَارِ الْإِسْلَامِ . وَالثَّالِثُ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا . وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ حُكْمَ الشَّارِعِ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ

الْمُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ لَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ وَغَيْرِهِ . أَحَدُهَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا . وَالثَّانِي : لَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا . وَالثَّالِثُ : يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ دُونَ الْخِطَابِ النَّاسِخِ كَقَضِيَّةِ أَهْلِ قُبَاء وَكَالنِّزَاعِ الْمَعْرُوفِ فِي الْوَكِيلِ إذَا عُزِلَ . فَهَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَزْلِ فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْعِلْمِ . وَعَلَى هَذَا : لَوْ تَرَكَ الطِّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ لِعَدَمِ بُلُوغِ النَّصِّ . مِثْلَ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ الْإِبِلِ وَلَا يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَبْلُغُهُ النَّصُّ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ أَوْ يُصَلِّي فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ثُمَّ يَبْلُغُهُ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ النَّصُّ فَهَلْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا مَضَى ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَنَظِيرُهُ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ . وَيُصَلِّي ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ . وَالصَّحِيحُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ . لِأَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَلِأَنَّهُ قَالَ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ

رَسُولًا } فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ أَمْرُ الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ وَعَمَّارًا لَمَّا أَجْنَبَا فَلَمْ يُصَلِّ عُمَرُ وَصَلَّى عَمَّارٌ بِالتَّمَرُّغِ أَنْ يُعِيدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ أَبَا ذَرٍّ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا كَانَ يُجْنِبُ وَيَمْكُثُ أَيَّامًا لَا يُصَلِّي وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ بِالْقَضَاءِ كَمَا لَمْ يَأْمُرْ مَنْ صَلَّى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ بُلُوغِ النَّسْخِ لَهُمْ بِالْقَضَاءِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ " الْمُسْتَحَاضَةُ " إذَا مَكَثَتْ مُدَّةً لَا تُصَلِّي لِاعْتِقَادِهَا عَدَمَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا لَا إعَادَةَ عَلَيْهَا . كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ : لِأَنَّ { الْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي حِضْت حَيْضَةً شَدِيدَةً كَبِيرَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ أَمَرَهَا بِمَا يَجِبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِقَضَاءِ صَلَاةِ الْمَاضِي } . وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدِي بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِالْبَوَادِي وَغَيْرِ الْبَوَادِي مَنْ يَبْلُغُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ ؛ بَلْ إذَا قِيلَ لِلْمَرْأَةِ : صَلِّي تَقُولُ : حَتَّى أَكْبُرَ وَأَصِيرَ عَجُوزَةً ظَانَّةً أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالصَّلَاةِ إلَّا الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ كَالْعَجُوزِ وَنَحْوِهَا . وَفِي اتِّبَاعِ الشُّيُوخِ

طَوَائِفُ كَثِيرُونَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ فَهَؤُلَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي الصَّحِيحِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ سَوَاءٌ قِيلَ : كَانُوا كُفَّارًا أَوْ كَانُوا مَعْذُورِينَ بِالْجَهْلِ . وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ خِلَافَهُ وَهُوَ لَا يُصَلِّي أَوْ يُصَلِّي أَحْيَانًا بِلَا وُضُوءٍ أَوْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ إذَا تَابَ مِنْ نِفَاقِهِ وَصَلَّى فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُرْتَدُّ الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ حَالَ الرِّدَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ ؛ فَإِنَّ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَغَيْرِهِ مَكَثُوا عَلَى الْكُفْرِ مُدَّةً ثُمَّ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ مَا تَرَكُوهُ وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّونَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يُؤْمَرُوا بِقَضَاءِ صَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا . وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوبِهَا وَتَرَكَهَا بِلَا تَأْوِيلٍ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا الْمُوَقَّتِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ فِعْلَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَنْ تَرَكَ الصَّوْمَ مُتَعَمِّدًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ . فَاتَتْهُ هَلْ يُصَلِّيهَا بِسُنَنِهَا . أَمْ الْفَرِيضَةُ وَحْدَهَا ؟ وَهَلْ تُقْضَى فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْمُسَارَعَةُ إلَى قَضَاءِ الْفَوَائِتِ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِالنَّوَافِلِ وَأَمَّا مَعَ قِلَّةِ الْفَوَائِتِ فَقَضَاءُ السُّنَنِ مَعَهَا حَسَنٌ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ الصَّلَاةِ - صَلَاةِ الْفَجْرِ - عَامَ حنين قَضَوْا السُّنَّةَ وَالْفَرِيضَةَ . وَلَمَّا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَضَى الْفَرَائِضَ بِلَا سُنَنٍ . وَالْفَوَائِتُ الْمَفْرُوضَةُ تُقْضَى فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
أَيُّهُمَا أَفْضَلُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ ؟ أَمْ الْقَضَاءُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَاجِبٌ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي تَشْغَلُ عَنْهُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامُ :
عَنْ رَجُلٍ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنْ فَرْضِ الظُّهْرِ فَسَلَّمَ ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا وَهُوَ فِي فَرْضِ الْعَصْرِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا فِي التَّحِيَّاتِ . فَمَاذَا يَصْنَعُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مَأْمُومًا فَإِنَّهُ يُتِمُّ الْعَصْرَ ثُمَّ يَقْضِي الظُّهْرَ وَفِي إعَادَةِ الْعَصْرِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ بَطَلَتْ بِطُولِ الْفَصْلِ وَالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَاتَتْهُ الظُّهْرُ وَمَنْ فَاتَتْهُ الظُّهْرُ وَحَضَرَتْ جَمَاعَةُ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ هَلْ يُعِيدُ الْعَصْرَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا : يُعِيدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالثَّانِي : لَا يُعِيدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَاخْتِيَارُ جَدِّي . وَمَتَى ذَكَرَ الْفَائِتَةَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ كَانَ كَمَا لَوْ ذَكَرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْفَائِتَةَ حَتَّى فَرَغَتْ الْحَاضِرَةُ فَإِنَّ الْحَاضِرَةَ تُجْزِئُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا مَالِكٌ فَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ : فَجَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ الْمَغْرِبَ قَدْ أُقِيمَتْ فَهَلْ يُصَلِّي الْفَائِتَةَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، بَلْ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يُصَلِّي الْعَصْرَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَكِنْ هَلْ يُعِيدُ الْمَغْرِبَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : يُعِيدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : لَا يُعِيدُ الْمَغْرِبَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالثَّانِي أَصَحُّ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ إذَا اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَامِعَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ كَلَامَ

الْخَطِيبِ فَذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ صَلَاةٍ فَقَضَاهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا ذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ فَائِتَةً وَهُوَ فِي الْخُطْبَةِ يَسْمَعُ الْخَطِيبَ أَوْ لَا يَسْمَعُهُ : فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إذَا أَمْكَنَهُ الْقَضَاءُ وَإِدْرَاكُ الْجُمُعَةِ بَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ عَنْ الْفَرِيضَةِ وَالْفَائِتَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ بَلْ لَا يَتَنَاوَلُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } " . وَأَيْضًا فَإِنْ فِعْلَ الْفَائِتَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ } . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْفَائِتَةَ عِنْدَ قِيَامِهِ إلَى الصَّلَاةِ هَلْ يَبْدَأُ بِالْفَائِتَةِ وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ ؟ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ يُصَلِّي الْفَائِتَةَ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا . ثُمَّ هَلْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ ظُهْرًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَأَصْلُ هَذَا : أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَوَاتِ

الْقَلِيلَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بَلْ يَجِبُ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقَلِيلَةِ وَالْكَثِيرَةِ . وَبَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِي حَدِّ الْقَلِيلِ كَذَلِكَ يَجِبُ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا تَرَكَهَا عَمْدًا فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ النَّاسِي . وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ وَفِي لَفْظٍ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } . وَاخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ لِلتَّرْتِيبِ هَلْ يَسْقُطُ بِضِيقِ الْوَقْتِ . عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . لَكِنَّ أَشْهَرَهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ . وَالْأُخْرَى لَا يَسْقُطُ كَقَوْلِ مَالِكٍ . كَذَلِكَ هَلْ يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ ؟ فِيهِ فِي نِزَاعٌ نَحْوَ هَذَا . وَإِذَا كَانَتْ الْمُسَارَعَةُ إلَى قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الْحَاضِرَةِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ : كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ هُوَ الْوَاجِبُ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِذَا كَانَ يُجَوِّزُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَالْفَائِتَةُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي " اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ " وَهُوَ أَخْذُ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ : الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ : ( بَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ ) فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الَّذِي يُسْتَرُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ الَّذِي يُسْتَرُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ وَهُوَ الْعَوْرَةُ وَأَخَذَ مَا يُسْتَرُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِهِ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ثُمَّ قَالَ { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } يَعْنِي الْبَاطِنَةَ { إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الْآيَةَ . فَقَالَ : يَجُوزُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ أَنْ تُبْدِيَ الزِّينَةَ الظَّاهِرَةَ دُونَ الْبَاطِنَةِ . وَالسَّلَفُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ : ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَنْ وَافَقَهُ ؛ هِيَ الثِّيَابُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ : هِيَ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ مِثْلُ الْكُحْلِ وَالْخَاتَمِ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي النَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ . فَقِيلَ : يَجُوزُ النَّظَرُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إلَى وَجْهِهَا وَيَدَيْهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .

وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا عَوْرَةٌ حَتَّى ظُفْرِهَا . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ : أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الزِّينَةَ زِينَتَيْنِ : زِينَةً ظَاهِرَةً وَزِينَةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ وَجَوَّزَ لَهَا إبْدَاءَ زِينَتَهَا الظَّاهِرَةَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ . وَكَانُوا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ كَانَ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ بِلَا جِلْبَابٍ يَرَى الرَّجُلُ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا وَكَانَ إذْ ذَاكَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَكَانَ حِينَئِذٍ يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا إظْهَارُهُ ثُمَّ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ الْحِجَابِ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } حَجَبَ النِّسَاءَ عَنْ الرِّجَالِ وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَأَرْخَى السِّتْرَ وَمَنَعَ النِّسَاءَ أَنْ يَنْظُرْنَ وَلَمَّا اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حيي بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ خَيْبَرَ قَالُوا : إنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ . وَإِلَّا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَحَجَبَهَا . فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ لَا يَسْأَلْنَ إلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتَه وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ - و " الْجِلْبَابُ " هُوَ الْمُلَاءَةُ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ الرِّدَاءَ وَتُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ الْإِزَارَ وَهُوَ الْإِزَارُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُغَطِّي رَأْسَهَا وَسَائِرَ بَدَنِهَا . وَقَدْ حَكَى أَبُو عَبِيدٍ وَغَيْرُهُ : أَنَّهَا تُدْنِيهِ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا فَلَا تُظْهِرُ إلَّا

عَيْنَهَا وَمِنْ جِنْسِهِ النِّقَابُ : فَكُنَّ النِّسَاءُ يَنْتَقِبْنَ . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمُحْرِمَةَ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ فَإِذَا كُنَّ مَأْمُورَاتٍ بِالْجِلْبَابِ لِئَلَّا يُعْرَفْنَ وَهُوَ سَتْرُ الْوَجْهِ أَوْ سَتْرُ الْوَجْهِ بِالنِّقَابِ : كَانَ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ مِنْ الزِّينَةِ الَّتِي أُمِرَتْ أَلَّا تُظْهِرَهَا لِلْأَجَانِبِ فَمَا بَقِيَ يَحِلُّ لِلْأَجَانِبِ النَّظَرُ إلَّا إلَى الثِّيَابِ الظَّاهِرَةِ فَابْنُ مَسْعُودٍ ذَكَرَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ ذَكَرَ أَوَّلَ الْأَمْرَيْنِ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : { أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُبْدِيَ الزِّينَةَ الْبَاطِنَةَ لِمَمْلُوكِهَا . وَفِيهِ قَوْلَانِ : قِيلَ الْمُرَادُ الْإِمَاءُ وَالْإِمَاءُ الْكِتَابِيَّاتُ . كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَرَجَّحَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَقِيلَ : هُوَ الْمَمْلُوكُ الرَّجُلُ : كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد . فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ نَظَرِ الْعَبْدِ إلَى مَوْلَاتِهِ وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ وَهَذَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى مُخَاطَبَةِ عَبْدِهَا أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى رُؤْيَةِ الشَّاهِدِ وَالْمُعَامِلِ وَالْخَاطِبِ فَإِذَا جَازَ نَظَرُ أُولَئِكَ فَنَظَرُ الْعَبْدِ أَوْلَى وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْرَمًا يُسَافِرُ بِهَا . كَغَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَجُوزُ لَهُمْ النَّظَرُ وَلَيْسُوا مَحَارِمَ يُسَافِرُونَ بِهَا فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ النَّظَرُ جَازَ لَهُ السَّفَرُ بِهَا وَلَا الْخَلْوَةُ بِهَا ؛ بَلْ عَبْدُهَا يَنْظُرُ إلَيْهَا لِلْحَاجَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو بِهَا وَلَا يُسَافِرُ بِهَا

فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ } " فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا عَتَقَ كَمَا يَجُوزُ لِزَوْجِ أُخْتِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا طَلَّقَ أُخْتَهَا وَالْمَحْرَمُ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ . فَالْآيَةُ رَخَّصَتْ فِي إبْدَاءِ الزِّينَةِ لِذَوِي الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ وَحَدِيثُ السَّفَرِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا ذَوُو الْمَحَارِمِ وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ نِسَاءَهُنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَغَيْرَ أُولِي الْإِرْبَةِ وَهِيَ لَا تُسَافِرُ مَعَهُمْ . وَقَوْلُهُ : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } قَالَ : احْتِرَازٌ عَنْ النِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ . فَلَا تَكُونُ الْمُشْرِكَةُ قَابِلَةً لِلْمُسْلِمَةِ وَلَا تَدْخُلُ مَعَهُنَّ الْحَمَّامَ لَكِنْ قَدْ كُنَّ النِّسْوَةُ الْيَهُودِيَّاتُ يَدْخُلْنَ عَلَى عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا فَيَرَيْنَ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَيَكُونُ هَذَا فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ الذِّمِّيَّاتِ وَلَيْسَ لِلذِّمِّيَّاتِ أَنْ يَطَّلِعْنَ عَلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ وَيَكُونُ الظُّهُورُ وَالْبُطُونُ بِحَسَبِ مَا يَجُوزُ لَهَا إظْهَارُهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَقَارِبُهَا تُبْدِي لَهُنَّ الْبَاطِنَةَ وَلِلزَّوْجِ خَاصَّةً لَيْسَتْ لِلْأَقَارِبِ . وَقَوْلُهُ : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُغَطِّي الْعُنُقَ فَيَكُونُ مِنْ الْبَاطِنِ لَا الظَّاهِرِ مَا فِيهِ مِنْ الْقِلَادَةِ وَغَيْرِهَا .

فَصْلٌ :
فَهَذَا سَتْرُ النِّسَاءِ عَنْ الرِّجَالِ وَسَتْرُ الرِّجَالِ عَنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَنْ النِّسَاءِ فِي الْعَوْرَةِ الْخَاصَّةِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ } " وَكَمَا قَالَ : " { احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا عَنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك . قُلْت : فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيْنَهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَاهَا قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا . قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ } " . { وَنَهَى أَنْ يُفْضِيَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَالْمَرْأَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ } وَقَالَ عَنْ الْأَوْلَادِ : " { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشَرِ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } " فَنَهَى عَنْ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ لِعَوْرَةِ النَّظِيرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ . وَأَمَّا الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فَلِأَجْلِ شَهْوَةِ النِّكَاحِ فَهَذَانِ نَوْعَانِ وَفِي الصَّلَاةِ نَوْعٌ ثَالِثٌ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ صَلَّتْ وَحْدَهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِالِاخْتِمَارِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ يَجُوزُ لَهَا كَشْفُ رَأْسِهَا فِي بَيْتِهَا فَأَخْذُ الزِّينَةَ فِي الصَّلَاةِ لِحَقِّ اللَّهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَا وَلَوْ

كَانَ وَحْدَهُ بِاللَّيْلِ وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانَا وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ فَعُلِمَ أَنَّ أَخْذَ الزِّينَةِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ لِيَحْتَجِبَ عَنْ النَّاسِ فَهَذَا نَوْعٌ وَهَذَا نَوْعٌ . وَحِينَئِذٍ فَقَدَ يَسْتُرُ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ مَا يَجُوزُ إبْدَاؤُهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَقَدْ يُبْدِي فِي الصَّلَاةِ مَا يَسْتُرُهُ عَنْ الرِّجَالِ : فَالْأَوَّلُ : مِثْلُ الْمَنْكِبَيْنِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ . فَهَذَا لِحَقِّ الصَّلَاةِ وَيَجُوزُ لَهُ كَشْفُ مَنْكِبَيْهِ لِلرِّجَالِ خَارِجَ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تَخْتَمِرُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ } " وَهِيَ لَا تَخْتَمِرُ عِنْدَ زَوْجِهَا وَلَا عِنْدَ ذَوِي مَحَارِمِهَا فَقَدْ جَازَ لَهَا إبْدَاءُ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ لِهَؤُلَاءِ وَلَا يَجُوزُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ أَنْ يُكْشَفَ رَأْسُهَا لِهَؤُلَاءِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ . وَعَكْسُ ذَلِكَ : الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ وَالْقَدَمَانِ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُبْدِيَ ذَلِكَ لِلْأَجَانِبِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ بِخِلَافِ مَا كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ بَلْ لَا تُبْدِي إلَّا الثِّيَابَ . وَأَمَّا سَتْرُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَجُوزُ لَهَا إبْدَاؤُهُمَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . فَكَذَلِكَ الْقَدَمُ يَجُوزُ إبْدَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَقْوَى . فَإِنَّ عَائِشَةَ جَعَلَتْهُ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ . قَالَتْ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قَالَتْ : " الْفَتْخُ " حَلَقٌ

مِنْ فِضَّةٍ تَكُونُ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُظْهِرْنَ أَقْدَامَهُنَّ أَوَّلًا كَمَا يُظْهِرْنَ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ كُنَّ يُرْخِينَ ذُيُولَهُنَّ فَهِيَ إذَا مَشَتْ قَدْ يَظْهَرُ قَدَمُهَا وَلَمْ يَكُنَّ يَمْشِينَ فِي خِفَافٍ وَأَحْذِيَةٍ وَتَغْطِيَةُ هَذَا فِي الصَّلَاةِ فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ . وَأُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ : " تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ سَابِغٍ يُغَطِّي ظَهْرَ قَدَمَيْهَا " فَهِيَ إذَا سَجَدَتْ قَدْ يَبْدُو بَاطِنُ الْقَدَمِ . وَبِالْجُمْلَةِ : قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَلْبَسَ الْجِلْبَابَ الَّذِي يَسْتُرُهَا إذَا كَانَتْ فِي بَيْتِهَا وَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا خَرَجَتْ . وَحِينَئِذٍ فَتُصَلِّي فِي بَيْتِهَا وَإِنْ رُئِيَ وَجْهُهَا وَيَدَاهَا وَقَدَمَاهَا كَمَا كُنَّ يَمْشِينَ أَوَّلًا قَبْلَ الْأَمْرِ بِإِدْنَاءِ الْجَلَابِيبِ عَلَيْهِنَّ فَلَيْسَتْ الْعَوْرَةُ فِي الصَّلَاةِ مُرْتَبِطَةً بِعَوْرَةِ النَّظَرِ لَا طَرْدًا وَلَا عَكْسًا . وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ : الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ هِيَ الثِّيَابُ لَمْ يَقُلْ إنَّهَا كُلَّهَا عَوْرَةٌ حَتَّى ظُفْرِهَا بَلْ هَذَا قَوْلُ أَحْمَد يَعْنِي أَنَّهَا تُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ ذَلِكَ : ( بَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَا يَسْتُرُهُ . الْمُصَلِّي فَهُوَ عَوْرَةٌ ؛ بَلْ قَالَ تَعَالَى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } { وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَا } فَالصَّلَاةُ أَوْلَى . وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ . فَقَالَ : " { أو لِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ ؟ }

وَقَالَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ : { إنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاِتَّزِرْ بِهِ } " " { وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ } . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ فِي الصَّلَاةِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ : الْفَخْذِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ جَوَّزْنَا لِلرَّجُلِ النَّظَرَ إلَى ذَلِكَ . فَإِذَا قُلْنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ الْعَوْرَةَ السَّوْأَتَانِ وَأَنَّ الْفَخْذَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةِ فَهَذَا فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَيْهَا ؛ لَيْسَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَكْشُوفَ الْفَخْذَيْنِ سَوَاءٌ قِيلَ هُمَا عَوْرَةٌ أَوْ لَا . وَلَا يَطُوفَ عُرْيَانَا . بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ ضَيِّقًا اتَّزَرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا الْتَحَفَ بِهِ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ كَانَ عَلَيْهِ تَغْطِيَةُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ بَادِيَ الْفَخْذَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِزَارِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَمَنْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْعَوْرَةِ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ فَقَدْ غَلِطُوا ؛ وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ : أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُصَلِّي عَلَى هَذِهِ الْحَالِ . كَيْفَ وَأَحْمَد يَأْمُرُهُ بِسَتْرِ الْمَنْكِبَيْنِ فَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُ كَشْفَ الْفَخْذِ فَهَذَا هَذَا .

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ إذَا كَانَ الرَّجُلُ خَالِيًا وَلَمْ يُخْتَلَف فِي أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَا بُدَّ مِنْ اللِّبَاسِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عُرْيَانَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اللِّبَاسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ لِلْعُرَاةِ أَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا وَيَكُونُ إمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ بِخِلَافِ خَارِجِ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ لَا لِأَجْلِ النَّظَرِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ { بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَمَّا قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا . قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } " فَإِذَا كَانَ هَذَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ فَتُؤْخَذُ الزِّينَةُ لِمُنَاجَاتِهِ سُبْحَانَهُ . وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِغُلَامِهِ نَافِعٍ لَمَّا رَآهُ يُصَلِّي حَاسِرًا : أَرَأَيْت لَوْ خَرَجْت إلَى النَّاسِ كُنْت تَخْرُجُ هَكَذَا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ مَنْ يُتَجَمَّلُ لَهُ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا قِيلَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا . فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ } . وَهَذَا كَمَا أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِالطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ . وَالطِّيبِ فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتَّخَذَ الْمَسَاجِدُ فِي الْبُيُوتِ وَتُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ وَعَلَى هَذَا فَيَسْتَتِرُ فِي الصَّلَاةِ أَبْلَغَ مِمَّا يَسْتَتِرُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ . وَلِهَذَا أُمِرَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْتَمِرَ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا وَجْهُهَا

وَيَدَاهَا وَقَدَمَاهَا فَهِيَ إنَّمَا نُهِيَتْ عَنْ إبْدَاءِ ذَلِكَ لِلْأَجَانِبِ لَمْ تَنْهَ عَنْ إبْدَائِهِ لِلنِّسَاءِ وَلَا لِذَوِي الْمَحَارِمِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ عَوْرَةِ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا ؛ لِأَجْلِ الْفُحْشِ وَقُبْحِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ . بَلْ هَذَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ إبْدَائِهَا نَهْيًا عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ : { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ } وَقَالَ فِي آيَةِ الْحِجَابِ : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } فَنَهَى عَنْ هَذَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ؛ لَا أَنَّهُ عَوْرَةٌ مُطْلَقَةٌ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا غَيْرِهَا فَهَذَا هَذَا . وَأَمْرُ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ بِتَغْطِيَةِ يَدَيْهَا بَعِيدٌ جِدًّا وَالْيَدَانِ يَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ وَالنِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ لَهُنَّ قُمَّصٌ وَكُنَّ يَصْنَعْنَ الصَّنَائِعَ والقمص عَلَيْهِنَّ فَتُبْدِي الْمَرْأَةُ يَدَيْهَا إذَا عَجَنَتْ وَطَحَنَتْ وَخَبَزَتْ وَلَوْ كَانَ سَتْرُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَذَلِكَ الْقَدَمَانِ . وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْخِمَارِ فَقَطْ مَعَ الْقَمِيصِ فَكُنَّ يُصَلِّينَ بقمصهن وَخُمُرِهِنَّ : { وَأَمَّا الثَّوْبُ الَّتِي كَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرْخِيهِ وَسَأَلَتْ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : شِبْرًا فَقُلْنَ : إذَنْ تَبْدُو سُوقُهُنَّ فَقَالَ : ذِرَاعٌ لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ } . وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ :

كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا * * * وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
فَهَذَا كَانَ إذَا خَرَجْنَ مِنْ الْبُيُوتِ ؛ وَلِهَذَا { سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَجُرُّ ذَيْلَهَا عَلَى الْمَكَانِ الْقَذِرِ فَقَالَ : يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ } " . وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْبَيْتِ فَلَمْ تَكُنْ تَلْبَسُ ذَلِكَ . كَمَا أَنَّ الْخِفَافَ اتَّخَذَهَا النِّسَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ لِسَتْرِ السُّوقِ إذَا خَرَجْنَ وَهُنَّ لَا يَلْبَسْنَهَا فِي الْبُيُوتِ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَ : إذَنْ تَبْدُوا سُوقُهُنَّ . فَكَانَ الْمَقْصُودُ تَغْطِيَةَ السَّاقِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ إذَا كَانَ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ بَدَا السَّاقُ عِنْدَ الْمَشْيِ . وَقَدْ رُوِيَ : { أَعْرُوا النِّسَاءَ يَلْزَمْنَ الْحِجَالَ } يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَا تَلْبَسُهُ فِي الْخُرُوجِ لَزِمَتْ الْبَيْتَ وَكُنَّ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ يُصَلِّينَ فِي بُيُوتِهِنَّ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } " وَلَمْ يُؤْمَرْنَ مَعَ القمص إلَّا بِالْخُمُرِ لَمْ تُؤْمَرْ بِسَرَاوِيلَ لِأَنَّ الْقَمِيصَ يُغْنِي عَنْهُ وَلَمْ تُؤْمَرْ بِمَا يُغَطِّي رِجْلَيْهَا لَا خُفٍّ وَلَا جَوْرَبٍ وَلَا بِمَا يُغَطِّي يَدَيْهَا لَا بِقُفَّازَيْنِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ سَتْرُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا رِجَالٌ أَجَانِبُ . وَقَدْ رُوِيَ : { أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنْظُرُ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ فَإِذَا وَضَعَتْ خِمَارَهَا وَقَمِيصَهَا لَمْ يُنْظَرْ إلَيْهَا } وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ خَدِيجَةَ .

فَهَذَا الْقَدْرُ لِلْقَمِيصِ وَالْخِمَارِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ لِحَقِّ الصَّلَاةِ كَمَا يُؤْمَرُ الرَّجُلُ إذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاسِعٍ أَنْ يَلْتَحِفَ بِهِ فَيُغَطِّي عَوْرَتَهُ وَمَنْكِبَيْهِ فَالْمَنْكِبَانِ فِي حَقِّهِ كَالرَّأْسِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُصَلِّي فِي قَمِيصٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْقَمِيصِ . وَهُوَ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَلْبَسُ عَلَى بَدَنِهِ مَا يُقَدِّرُ لَهُ كَالْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ . وَأَمَّا رَأْسُهُ فَلَا يُخَمِّرُهُ وَوَجْهُ الْمَرْأَةِ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ قِيلَ : إنَّهُ كَرَأْسِ الرَّجُلِ فَلَا يُغَطَّى . وَقِيلَ : إنَّهُ كَيَدَيْهِ فَلَا تُغَطَّى بِالنِّقَابِ وَالْبُرْقُعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا صُنِعَ عَلَى قَدْرِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ إلَّا عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ . وَكُنَّ النِّسَاءُ يُدْنِينَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ مَا يَسْتُرُهَا مِنْ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ وَضْعِ مَا يُجَافِيهَا عَنْ الْوَجْهِ فَعُلِمَ أَنَّ وَجْهَهَا كَيَدَيْ الرَّجُلِ وَيَدَيْهَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَهَا أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا لَكِنْ بِغَيْرِ اللِّبَاسِ الْمَصْنُوعِ بِقَدْرِ الْعُضْوِ كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَيَلْبَسُ الْإِزَارَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الصَّلَاةِ فِي النَّعْلِ وَنَحْوِهِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الصَّلَاةُ فِي النَّعْلِ وَنَحْوِهِ مِثْلَ الْجُمْجُمِ وَالْمَدَاسِ والزربول وَغَيْرِ ذَلِكَ : فَلَا يُكْرَهُ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ } فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ . وَإِذَا عُلِمَتْ طَهَارَتُهَا لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا إذَا تُيُقِّنَ نَجَاسَتُهَا فَلَا يُصَلِّي فِيهَا حَتَّى تُطَهَّرَ . لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ إذَا دُلِكَ النَّعْلُ بِالْأَرْضِ طَهُرَ بِذَلِكَ . كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ سَوَاءٌ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عُذْرَةً أَوْ غَيْرَ عُذْرَةٍ . فَإِنَّ أَسْفَلَ النَّعْلِ مَحَلُّ تَكَرُّرِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّبِيلَيْنِ فَلَمَّا كَانَ إزَالَتُهُ عَنْهَا بِالْحِجَارَةِ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا .

وَإِذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةٍ أَسْفَلَ الْخُفِّ لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهِ وَلَوْ تَيَقَّنَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ كَذَلِكَ غَيْرُهُ كَالْبَدَنِ وَالثِّيَابِ وَالْأَرْضِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ لُبْسِ الْقَبَاءِ فِي الصَّلَاةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي أَكْمَامِهِ هَلْ يُكْرَهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا بَأْسَ بِذَلِكَ . فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا جَوَازَ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ السَّدْلِ الْمَكْرُوهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْيَهُودِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ اللُّبْسَةَ لَيْسَتْ مِنْ مَلَابِسِ الْيَهُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْفِرَاءِ مِنْ جُلُودِ الْوُحُوشِ هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا جِلْدُ الْأَرْنَبِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ وَأَمَّا الثَّعْلَبُ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِيهِ وَجِلْدُ الضَّبُعِ كَذَلِكَ كُلُّ جِلْدٍ غَيْرِ جُلُودِ السِّبَاعِ التي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِهَا .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهَا فِي الصَّلَاةِ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا انْكَشَفَ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ شَعْرِهَا وَبَدَنِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الْإِعَادَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد ، وَإِنْ انْكَشَفَ شَيْءٌ كَثِيرٌ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا صَلَّتْ وَظَاهِرُ قَدَمِهَا مَكْشُوفٌ ، هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ صَلَاتُهَا جَائِزَةٌ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ فِي " مَحَبَّةِ الْجَمَالِ " (*)
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقَالَ : رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ . } فَقَوْلُهُ : " { إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجِمَالَ } " قَدْ أَدْرَجَ فِيهِ حُسْنَ الثِّيَابِ الَّتِي هِيَ الْمَسْئُولُ عَنْهَا فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْجَمِيلَ مِنْ النَّاسِ وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى الْجَمِيلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ : " { إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ } " . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : " { إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا } "

وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّجَمُّلِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْت هَذِهِ تَلْبَسُهَا فَقَالَ : إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } " وَهَذَا يُوَافِقُهُ فِي حُسْنِ الثِّيَابِ مَا فِي السُّنَنِ { عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ الجشمي قَالَ : رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيَّ أَطْمَارٌ فَقَالَ : هَلْ لَك مِنْ مَالٍ ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ : مِنْ أَيِّ الْمَالِ قُلْت : مِنْ كُلِّ مَا آتَانِي اللَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ قَالَ : فَلْتَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْك وَكَرَامَتَهُ عَلَيْك } . وَفِيهَا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ } لَكِنَّ هَذَا لِظُهُورِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شُكْرِهِ وَأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ وَذَلِكَ لِمَحَبَّةِ الْجَمَالِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَلَّ قَوْمٌ بِمَا تَأَوَّلُوهُ رَأَوْهُ مُعَارِضًا . وَكُلُّ مَصْنُوعِ الرَّبِّ جَمِيلٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } فَيُحِبُّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ : الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحْرِقُ مِنْ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ

وَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا مُرَادَةٌ لَهُ وَهَؤُلَاءِ يُصَرِّحُ أَحَدُهُمْ بِإِطْلَاقِ الْجَمَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَقَلُّ مَا يُصِيبُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْغِيرَةَ لِلَّهِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُتَنَاقِضُونَ إذْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الرِّضَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ . فَإِنَّ الْمُنْكَرَاتِ هِيَ أُمُورٌ مُضِرَّةٌ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فَيَبْقَى أَحَدُهُمْ مَعَ طَبْعِهِ وَذَوْقِهِ وَيَنْسَلِخُونَ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَرُبَّمَا دَخَلَ أَحَدُهُمْ فِي الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْمُطْلَقِ وَفِيهِمْ مَنْ يَخُصُّ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْمَسِيحِ أَوْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا أَوْ الْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ والمردان . فَيَقُولُونَ : بِحُلُولِهِ فِي الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ وَيَعْبُدُونَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ بَلْ يَتَدَيَّنُ بِحُبِّ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ مِنْ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ والمردان وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَرَى هَذَا مِنْ الْجَمَالِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ فَيُحِبُّهُ هُوَ وَيُلْبِسُ الْمَحَبَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ الْمُحَرَّمَةَ بِالْمَحَبَّةِ الدِّينِيَّةِ وَيَجْعَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِمَّا يُقَرِّبُ إلَيْهِ { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } وَالْآخَرُونَ قَالُوا : قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ

هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } وَالْأَثَاثُ الْمَالُ مِنْ اللِّبَاسِ وَنَحْوِهِ . وَالرِّئْيُ الْمَنْظَرُ . فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ قَبْلَهُمْ كَانُوا أَحْسَنَ صُوَرًا وَأَحْسَنَ أَثَاثًا وَأَمْوَالًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَهُ وَلَا يَعْبَأُ بِهِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إلَّا بِالتَّقْوَى } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ } وَأَيْضًا فَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْنَا مِنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمَ الْجَمَالِ فِي الدُّنْيَا وَحَرَّمَ اللَّهُ الْفَخْرَ وَالْخُيَلَاءَ وَاللِّبَاسَ الَّذِي فِيهِ الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ كَإِطَالَةِ الثِّيَابِ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ لِبَاسَ التَّقْوَى خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ قَارُونَ : { فَخَرَجَ عَلَى

قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } . قَالُوا : بِثِيَابِ الْأُرْجُوَانِ . وَلِهَذَا ثَبَتَ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ : إنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا . قُلْت : أَغْسِلُهُمَا قَالَ : اُحْرُقْهُمَا } وَلِهَذَا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْأَحْمَرَ الْمُشَبَّعَ حُمْرَةً كَمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنْ الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : دَعُوا هَذِهِ الْبَرَّاقَاتِ لِلنِّسَاءِ . وَالْآثَارُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ كَثِيرَةٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } إلَى قَوْلِهِ { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ : اصْرِفْ بَصَرَك } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ : { يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وَقَالَ : { لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ } إلَى قَوْلِهِ { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى - مَعَ ذَمِّهِ لِمَا ذَمَّهُ مِنْ

هَذِهِ الزِّينَةِ - : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَنَقُولُ : اعْلَمْ أَنَّ مَا يَصِفُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلْأَجْنَاسِ . الْمَحْبُوبَةِ وَمَا يُبْغِضُهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مِثْلُ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ هُمَا أَصْلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَذَلِكَ نَظِيرُ مَا يَعِدُهُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ مِنْ الثَّوَابِ وَيَتَوَعَّدُ بِهِ عَلَى الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ مِنْ الْعِقَابِ فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَوَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ وَحُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ . . . (1) .
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لِتَعَلُّقِهَا بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ فَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ شُعَبِهَا " مَسْأَلَةُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " فِي فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ . وَهَلْ يَجْتَمِعُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَمْ لَا يَجْتَمِعُ ذَلِكَ ؟ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَهَلْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَحْبُوبًا مِنْ وَجْهٍ مَبْغُوضًا مِنْ وَجْهٍ مَحْمُودًا مِنْ وَجْهٍ مَذْمُومًا مِنْ وَجْهٍ ؟ وَقَدْ تَنَازَعَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَغَيْرِهِمْ . وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ النُّصُوصِ إنَّمَا هُوَ لِتَعَارُضِ الْمُقْتَضِي لِلْحَمْدِ وَالذَّمِّ مِنْ الصِّفَاتِ

الْقَائِمَةِ بِذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْجِنْسُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ وَالْفِتْنَةِ . فَأَوَّلُ مَسْأَلَةٍ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْأُمَّةِ مَسْأَلَةُ الْفَاسِقِ الْمَلِيِّ فَأَدْرَجَتْهُ الْخَوَارِجُ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ فَخَلَّدُوهُ فِي النَّارِ لَكِنْ لَمْ يَحْكُمُوا بِكُفْرِهِ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ خَيْرًا مَحْضًا لَمْ يُوجِبْ فُرْقَةً وَلَوْ كَانَ شَرًّا مَحْضًا لَمْ يَخْفَ أَمْرُهُ لَكِنْ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ أَوْجَبَ الْفِتْنَةَ . وَكَذَلِكَ " مَسْأَلَةُ الْقَدَرِ " الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّهَا مُرَادَةٌ لَهُ لِكَوْنِهَا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَأَنَّهَا غَيْرُ مَحْبُوبَةٍ لَهُ بَلْ مَمْقُوتَةٌ مَبْغُوضَةٌ فَأَثْبَتُوا وُجُودَ الْكَائِنَاتِ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ غَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ لِرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ : يَا رَبِيعَةُ نَشَدْتُك اللَّهَ أَتَرَى اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْصَى ؟ فَقَالَ لَهُ رَبِيعَةُ : أَفْتَرَى اللَّهَ يُعْصَى قَسْرًا فَكَأَنَّهُ أَلْقَمَهُ حَجَرًا . يَقُولُ لَهُ : نَزَّهْته عَنْ مَحَبَّةِ الْمَعَاصِي فَسَلَبْته الْإِرَادَةَ وَالْقُدْرَةَ وَجَعَلْته مَقْهُورًا مَقْسُورًا . وَقَالَ مَنْ عَارَضَ الْقَدَرِيَّةَ بَلْ كُلُّ مَا أَرَادَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَلَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ مَرْضِيًّا . وَقَالُوا أَيْضًا : يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ

فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ وَرُبَّمَا قَالُوا : وَلَمْ يُحِبَّهُ وَلَمْ يَرْضَهُ إلَّا إذَا وُجِدَ . قَالُوا . وَلَكِنْ أَمَرَ بِهِ وَطَلَبَهُ . فَقِيلَ لَهُمْ : هَلْ يَكُونُ طَلَبٌ وَإِرَادَةٌ وَاسْتِدْعَاءٌ بِلَا إرَادَةٍ وَلَا مَحَبَّةٍ وَلَا رِضًى . هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَتَحَيَّرُوا . فَأُولَئِكَ سَلَبُوا الرَّبَّ خَلْقَهُ وَقُدْرَتَهُ وَإِرَادَتَهُ الْعَامَّةَ وَهَؤُلَاءِ سَلَبُوهُ مَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ وَإِرَادَتَهُ الدِّينِيَّةَ وَمَا تَضَمَّنَهُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ مِنْ ذَلِكَ . فَكَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مُثَابًا مُعَاقَبًا : بَلْ إمَّا مُثَابًا وَإِمَّا مُعَاقَبًا فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مُرَادًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ مُرَادًا غَيْرَ مَحْبُوبٍ بَلْ إمَّا مُرَادٌ مَحْبُوبٌ وَإِمَّا غَيْرُ مُرَادٍ وَلَا مَحْبُوبٍ . وَكَمَا تَفَرَّقُوا فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ تَفَرَّقُوا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ فَأُولَئِكَ لَمْ يُثْبِتُوا إلَّا قُدْرَةً وَاحِدَةً تَكُونُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ إلَّا قُدْرَةً وَاحِدَةً تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ . أُولَئِكَ نَفَوْا الْقُدْرَةَ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْفِعْلُ وَهَؤُلَاءِ نَفَوْا الْقُدْرَةَ الدِّينِيَّةَ الَّتِي بِهَا يَأْمُرُ اللَّهُ الْعَبْدَ وَيَنْهَاهُ وَهَذَا مِنْ أُصُولِ تُفَرِّقْهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ " . وَانْقَسَمُوا إلَى قَدَرِيَّةٍ مَجُوسِيَّةٍ ؛ تُثْبِتُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَتَنْفِي الْقَضَاءَ وَالْقَدْرَ . وَإِلَى قَدَرِيَّةٍ مشركية شَرٍّ مِنْهُمْ : تُثْبِتُ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَتُكَذِّبُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوْ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَإِلَى قَدَرِيَّةٍ إبليسية : تُصَدِّقُ بِالْأَمْرِ لَكِنْ تَرَى ذَلِكَ تَنَاقُضًا مُخَالِفًا لِلْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ وَهَذَا

شَأْنُ عَامَّةِ مَا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَسْبَابُ وَالدَّلَائِلُ . تَجِدُ فَرِيقًا يَقُولُونَ : بِهَذَا دُونَ هَذَا وَفَرِيقًا بِالْعَكْسِ أَوْ الْأَمْرَيْنِ فَاعْتَقَدُوا تَنَاقُضَهُمَا فَصَارُوا مُتَحَيِّرِينَ مُعْرِضِينَ عَنْ التَّصْدِيقِ بِهِمَا جَمِيعًا وَمُتَنَاقِضِينَ مَعَ هَذَا تَارَةً وَمَعَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَجِدُهُ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَمَسَائِلِ الْإِرَادَةِ وَالْعِبَادَاتِ . كَمَسْأَلَةِ السَّمَاعِ الصَّوْتِيِّ وَمَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَمَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ : هُوَ الْعَدْلُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ . وَبَيَّنَّا أَنَّ الْعَدْلَ جِمَاعُ الدِّينِ وَالْحَقِّ وَالْخَيْرِ كُلِّهِ : فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَالْعَدْلُ الْحَقِيقِيُّ قَدْ يَكُونُ مُتَعَذَّرًا أَوْ مُتَعَسِّرًا إمَّا عِلْمُهُ وَإِمَّا الْعَمَلُ بِهِ لِكَوْنِ التَّمَاثُلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مَا كَانَ أَشْبَهَ بِالْعَدْلِ وَأَقْرَبَ إلَيْهِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْمُتَنَزِّهِ عَنْ الْأَقْمِشَةِ الثَّمِينَةِ مِثْلِ الْحَرِيرِ وَالْكَتَّانِ الْمُتَغَالَى فِي تَحْسِينِهِ وَمَا نَاسَبَهَا : هَلْ فِي تَرْكِ ذَلِكَ أَجْرٌ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالْحَرِيرِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } وَقَالَ عَنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ : { هَذَا حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } . وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ : فَيُثَابُ عَلَى تَرْكِ فُضُولِهَا وَهُوَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ دِينِهِ كَمَا أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْمُبَاحَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ النَّارِ : { إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } { وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَآتِ

ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } { إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } . وَالْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَهُوَ مِنْ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكُ فُضُولِهَا هُوَ مِنْ الزُّهْدِ الْمُبَاحِ . وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ مُطْلَقًا كَاَلَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ أَوْ شُرْبِ الْمَاءِ أَوْ لُبْسِ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَلَا يَلْبَسُ إلَّا الصُّوفَ وَيَمْتَنِعُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ الزُّهْدِ الْمُسْتَحَبِّ فَهَذَا جَاهِلٌ ضَالٌّ مِنْ جِنْسِ زُهَّادِ النَّصَارَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى تَرْكِ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ . كَاللَّحْمِ وَنَحْوِهِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } .

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ . فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ وَأَنْ يَتَكَلَّمَ وَأَنْ يَجْلِسَ وَيُتِمَّ صَوْمَهُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } . فَأَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَالشُّكْرِ لَهُ وَالطَّيِّبُ هُوَ مَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَهُوَ مَا يَضُرُّهُ وَأَمَرَ بِشُكْرِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْذُورِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَلَى الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } فَمَنْ أَكَلَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَلَمْ يَشْكُرْ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى مَا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ الطَّيِّبَاتُ . فَإِنَّهُ إنَّمَا أَحَلَّهَا لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ ؛ لَا لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وَقَالَ الْخَلِيلُ :

{ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ الْإِنْسَانُ بِالْمُبَاحَاتِ عَلَى الْمَعَاصِي مِثْلَ مَنْ يُعْطِي الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ لِمَنْ يَشْرَبُ عَلَيْهِ الْخَمْرَ وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْفَوَاحِشِ . وَمَنْ حَرَّمَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاعْتَقَدَ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ مُطْلَقًا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَانَ مُعْتَدِيًا مُعَاقَبًا عَلَى تَحْرِيمِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَعَلَى تَعَبُّدِهِ لِلَّهِ تَعَالَى بالرهبانية وَرَغْبَتِهِ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . كَذَلِكَ مَنْ أَسْرَفَ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ : كَسَرْدِ الصَّوْمِ وَمُدَاوَمَةِ قِيَامِ اللَّيْلِ حَتَّى يُضْعِفَهُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : " { إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا وَلِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ } .
فَأَصْلُ الدِّينِ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ . فَمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ

إلَى اللَّهِ بِأَفْضَلَ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ . فَالنَّوَافِلُ الْمُسْتَحَبَّةُ الَّتِي لَا تَمْنَعُ الْوَاجِبَاتِ : مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الدَّرَجَاتِ وَتَرْكُ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ وَهُوَ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا لِفِعْلِ وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ مَعَ الْإِيثَارِ بِهَا مِمَّا يُثِيبُ اللَّهُ فَاعِلَهُ عَلَيْهِ وَمَنْ تَرَكَهَا لِمُجَرَّدِ الْبُخْلِ لَا لِلتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا . وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ بِتَرْكِهَا فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَمَنْ تَنَاوَلَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ مُظْهِرًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ مُسْتَعِينًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَانَ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أَيْ عَنْ شُكْرِ النَّعِيمِ فَيُطَالَبُ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى النَّعِيمِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُعَاقِبُ عَلَى مَا أَبَاحَ وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ وَفِعْلِ مَحْذُورٍ . وَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ الْجَامِعَةُ تُبَيِّنُ الْمَسَائِلَ الْمَذْكُورَةَ وَغَيْرَهَا . وَأَمَّا الْحَرِيرُ : فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مُسْتَثْنَاةٍ فَمَنْ لَبِسَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ آثِمٌ . وَأَمَّا الْكَتَّانُ وَالْقُطْنُ وَنَحْوُهُمَا فَمَنْ تَرَكَهُ مَعَ الْحَاجَةِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ وَمَنْ أَسْرَفَ فِيهِ فَهُوَ مَذْمُومٌ . وَمَنْ تَجَمَّلَ بِلُبْسِهِ إظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَشْكُورٌ عَلَى ذَلِكَ

فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةِ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعَمِهِ عَلَيْهِ } " وَقَالَ : " { إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ } وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ الرَّفِيعِ مِنْ الثِّيَابِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ لَا بُخْلًا وَلَا الْتِزَامًا لِلتَّرْكِ مُطْلَقًا فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَكْسُوهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ . وَتُكْرَهُ الشُّهْرَةُ مِنْ الثِّيَابِ وَهُوَ الْمُتَرَفِّعُ الْخَارِجُ عَنْ الْعَادَةِ وَالْمُتَخَفِّضُ الْخَارِجُ عَنْ الْعَادَةِ ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الشهرتين الْمُتَرَفِّعَ وَالْمُتَخَفِّضَ وَفِي الْحَدِيثِ " { مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ } " . وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا . وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ فِي الظَّاهِرِ يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَيُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ فَمَنْ حَجَّ مَاشِيًا لِقُوَّتِهِ عَلَى الْمَشْيِ وَآثَرَ بِالنَّفَقَةِ كَانَ مَأْجُورًا أَجْرَيْنِ أَجْرَ الْمَشْيِ وَأَجْرَ الْإِيثَارِ . وَمَنْ حَجَّ مَاشِيًا بُخْلًا بِالْمَالِ إضْرَارًا بِنَفْسِهِ كَانَ آثِمًا إثْمَيْنِ : إثْمَ الْبُخْلِ وَإِثْمَ الْإِضْرَارِ وَمَنْ حَجَّ رَاكِبًا ؛ لِضَعْفِهِ عَنْ الْمَشْيِ وَلِلِاسْتِعَانَةِ بِذَلِكَ عَلَى رَاحَتِهِ لِيَتَقَوَّى بِذَلِكَ عَلَى الْعِبَادَةِ كَانَ مَأْجُورًا أَجْرَيْنِ وَمَنْ حَجَّ رَاكِبًا يَظْلِمُ الْجَمَّالَ وَالْحَمَّالَ كَانَ آثِمًا إثْمَيْنِ . وَكَذَلِكَ اللِّبَاسُ : فَمَنْ تَرَكَ جَمِيلَ الثِّيَابِ بُخْلًا بِالْمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ وَمَنْ تَرَكَهُ مُتَعَبِّدًا بِتَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ كَانَ آثِمًا وَمَنْ لَبِسَ

جَمِيلَ الثِّيَابِ إظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ وَاسْتِعَانَةً عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَانَ مَأْجُورًا . وَمَنْ لَبِسَهُ فَخْرًا وَخُيَلَاءَ كَانَ آثِمًا . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ . وَلِهَذَا حَرَّمَ إطَالَةَ الثَّوْبِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَيْهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ طَرَفَ إزَارِي يَسْتَرْخِي إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ إنَّك لَسْت مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَنَحْوُهَا تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ عِلْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْحَرِيرِ الْمَحْضِ : هَلْ يَجُوزُ لِلْخَيَّاطِ خِيَاطَتُهُ لِلرِّجَالِ ؟ وَهَلْ أُجْرَتُهُ حَرَامٌ ؟ وَهَلْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ ؟ وَهَلْ تُبَاحُ الْخِيَاطَةُ بِخُيُوطِ الْحَرِيرِ فِي غَيْرِ الْحَرِيرِ ؟ وَهَلْ تَجُوزُ خِيَاطَتُهُ لِلنِّسَاءِ ؟ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَجُوزُ خِيَاطَةُ الْحَرِيرِ لِمَنْ يَلْبَسُ لِبَاسًا مُحَرَّمًا . مِثْلَ لُبْسِ الرَّجُلِ لِلْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ وَلِغَيْرِ التَّدَاوِي فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَكَذَلِكَ صَنْعَةُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ صَنْعَةُ آلَاتِ الْمَلَاهِي وَمِثْلَ تَصْوِيرِ الْحَيَوَانِ وَتَصْوِيرِ الْأَوْثَانِ وَالصُّلْبَانِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ تَصْوِيرُ الشَّيْءِ عَلَى صُورَةٍ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا . وَكَذَلِكَ صَنْعَةُ الْخَمْرِ وَأَمَّا أَمْكِنَةُ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْعِوَضُ الْمَأْخُوذُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْمُحَرَّمِ خَبِيثٌ وَيَجِبُ إنْكَارُ ذَلِكَ . وَأَمَّا خِيَاطَتُهُ لِمَنْ يَلْبَسُهُ لَبْسًا جَائِزًا فَهُوَ مُبَاحٌ : كَخِيَاطَتِهِ لِلنِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَمَسُّهُ عِنْدَ الْخِيَاطَةِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَمِثْلُ ذَلِكَ صِنَاعَةُ . الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِمَنْ يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالًا مُبَاحًا . وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ خُيُوطِ الْحَرِيرِ فِي لِبَاسِ الرِّجَالِ كَذَلِكَ يُبَاحُ الْعَلَمُ وَالسِّجَافُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ وَهُوَ مَا كَانَ مَوْضِعُ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةٌ مَكْفُوفَةٌ بِحَرِيرِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ خَيَّاطٍ خَاطَ لِلنَّصَارَى سَيْرَ حَرِيرٍ فِيهِ صَلِيبُ ذَهَبٍ . فَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي خِيَاطَتِهِ ؟ وَهَلْ تَكُونُ أُجْرَتُهُ حَلَالًا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ إذَا أَعَانَ الرَّجُلُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ آثِمًا ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَلِهَذَا لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا . وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ كَالْعَاصِرِ وَالْحَامِلِ وَالسَّاقِي إنَّمَا هُمْ يُعَاوِنُونَ عَلَى شُرْبِهَا ؛ وَلِهَذَا يُنْهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ قِتَالًا مُحَرَّمًا كَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَتَّالِ فِي الْفِتْنَةِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعَاصِي فَكَيْفَ بِالْإِعَانَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَشَعَائِرِ الْكُفْرِ . وَالصَّلِيبُ لَا يَجُوزُ عَمَلُهُ بِأُجْرَةِ وَلَا غَيْرِ أُجْرَةٍ وَلَا بَيْعُهُ صَلِيبًا كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَصْنَامِ وَلَا عَمَلُهَا . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ

وَالْأَصْنَامَ } . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى فِي الْبَيْتِ صُورَةً إلَّا قَضَبَهُ . فَصَانِعُ الصَّلِيبِ مَلْعُونٌ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَمَنْ أَخَذَ عِوَضًا عَنْ عَيْنٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ نَفْعٍ اسْتَوْفَاهُ مِثْلَ أُجْرَةِ حَمَّالِ الْخَمْرِ وَأُجْرَةِ صَانِعِ الصَّلِيبِ وَأُجْرَةِ الْبَغِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهَا وَلْيَتُبْ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمُحَرَّمِ وَتَكُونُ صَدَقَتُهُ بِالْعِوَضِ كَفَّارَةً لِمَا فَعَلَهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْعِوَضَ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ خَبِيثٌ وَلَا يُعَادُ إلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ . كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَنْ نَصَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ . كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مِثْلِ حَامِلِ الْخَمْرِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَتَّجِرُ فِي الأقباع : هَلْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْقُبَعِ المرعزي وَشِرَاؤُهُ ؟ وَالِاكْتِسَاءُ مِنْهُ ؟ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ الْحَرِيرِ الصَّامِتِ ؟ أَوْ يُحَرَّمُ عَلَيْهِ لِكَوْنِ الْقُبَعِ لُبْسُ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِلْجُنْدِ وَالصِّبْيَانِ إذَا كَانُوا دُونَ الْبُلُوغِ ؟ أَوْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَمْ لَا ؟ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا أقباع الْحَرِيرِ فَيَحْرُمُ لُبْسُهَا عَلَى الرِّجَالِ وَلِأَنَّهَا حَرِيرٌ

وَلُبْسُ الْحَرِيرِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ كَانَ مُبَطَّنًا بِقُطْنِ أَوْ كَتَّانٍ . وَأَمَّا عَلَى النِّسَاءِ ؛ فَلِأَنَّ الأقباع مِنْ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ . وَأَمَّا لِبَاسُ الْحَرِيرِ لِلصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا : فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنَّ أَظْهَرَهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ مَا حُرِّمَ عَلَى الرَّجُلِ فِعْلُهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْهُ الصَّغِيرُ فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ وَيَضْرِبُهُ عَلَيْهَا إذَا بَلَغَ عَشْرًا فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ الْمُحَرَّمَاتِ . وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى صَبِيٍّ لِلزُّبَيْرِ ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ فَمَزَّقَهُ وَقَالَ : " لَا تُلْبِسُوهُمْ الْحَرِيرَ " وَكَذَلِكَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَزَّقَ ثَوْبَ حَرِيرٍ كَانَ عَلَى ابْنِهِ وَمَا حُرِّمَ لُبْسُهُ لَمْ تَحِلّ صَنْعَتُهُ وَلَا بَيْعُهُ لِمَنْ يَلْبَسُهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيمِ . وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْتَسِبَ بِأَنْ يَخِيطَ الْحَرِيرَ لِمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَهُوَ مِثْلُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ لَا يُبَاعُ

الْحَرِيرُ لِرَجُلِ يَلْبَسُهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيمِ وَأَمَّا بَيْعُ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ فَيَجُوزُ . وَكَذَلِكَ إذَا بِيعَ لِكَافِرِ فَإِنَّ { عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ بِحَرِيرِ أَعْطَاهُ إيَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ مُشْرِكٍ } .
وَسُئِلَ :
هَلْ طَرْحُ الْقَبَاءِ عَلَى الْكَتِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي أَكْمَامِهِ مَكْرُوهٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ ذَكَرُوا جَوَازَ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ السَّدْلِ الْمَكْرُوهِ لِأَنَّ هَذِهِ اللُّبْسَةَ لَيْسَتْ لُبْسَةَ الْيَهُودِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ طُولِ السَّرَاوِيلِ إذَا تَعَدَّى عَنْ الْكَعْبِ هَلْ يَجُوزُ ؟ .
فَأَجَابَ :
طُولُ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَسَائِرِ اللِّبَاسِ إذَا تَعَدَّى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ . كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : : { الْإِسْبَالُ فِي السَّرَاوِيلِ وَالْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ } يَعْنِي نَهَى عَنْ الْإِسْبَالِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ لُبْسِ الْكُوفِيَّةِ لِلنِّسَاءِ . مَا حُكْمُهَا إذَا كَانَتْ بِالدَّائِرِ وَالْفَرْقِ ؟ وَفِي لُبْسِهِنَّ الفراجي ؟ وَمَا الضَّابِطُ فِي التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ فِي الْمَلْبُوسِ ؟ هَلْ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كُلُّ زَمَانٍ بِحَسَبِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْكُوفِيَّةُ الَّتِي بِالْفَرْقِ وَالدَّائِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتُرَ الشَّعْرَ الْمَسْدُولَ هِيَ مِنْ لِبَاسِ الصِّبْيَانِ وَالْمَرْأَةُ اللَّابِسَةُ لِذَلِكَ مُتَشَبِّهَةٌ بِهِمْ . وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ يَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ النِّسَاءِ قَصَدَتْ التَّشَبُّهَ بالمردان كَمَا يَقْصِدُ بَعْضُ الْبَغَايَا أَنْ تُضَفِّرَ شَعْرَهَا ضَفِيرًا وَاحِدًا مَسْدُولًا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَأَنْ تُرْخِيَ لَهَا السَّوَالِفَ وَأَنْ تَعْتَمَّ ؛ لِتُشْبِه المردان فِي الْعِمَامَةِ وَالْعِذَارِ وَالشَّعْرِ . ثُمَّ قَدْ تَفْعَلُ الْحُرَّةُ بَعْضَ ذَلِكَ لَا تَقْصِدُ هَذَا ؛ لَكِنْ هِيَ فِي ذَلِكَ مُتَشَبِّهَةٌ بِالرِّجَالِ . وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا بِلَعْنِ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ " { أَنَّهُ لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ والمترجلات مِنْ

النِّسَاءِ } وَأَمَرَ بِنَفْيِ الْمُخَنَّثِينَ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى نَفْيِهِمْ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا . وَقَالُوا جَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْيِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَنَفْيِ الْمُخَنَّثِينَ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ : كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا . وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ { مَرَّ بِبَابِ أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَعْتَصِبُ فَقَالَ : يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَيَّةٌ لَا لَيَّتَيْنِ } وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ : { كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ } بِأَنْ تَكْتَسِيَ مَا لَا يَسْتُرُهَا فَهِيَ كَاسِيَةٌ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ عَارِيَةٌ مِثْلُ مَنْ تَكْتَسِي الثَّوْبَ الرَّقِيقَ الَّذِي يَصِفُ بَشَرَتَهَا ؛ أَوْ الثَّوْبَ الضَّيِّقَ الَّذِي يُبْدِي تَقَاطِيعَ خَلْقِهَا مِثْلَ عَجِيزَتِهَا وَسَاعِدِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا كُسْوَةُ الْمَرْأَةِ مَا يَسْتُرُهَا فَلَا يُبْدِي جِسْمَهَا وَلَا حَجْمَ أَعْضَائِهَا لِكَوْنِهِ كَثِيفًا وَاسِعًا . وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ الضَّابِطُ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَعَنْ تَشَبُّهِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ رَاجِعًا إلَى مُجَرَّدِ مَا يَخْتَارُهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَيَشْتَهُونَهُ وَيَعْتَادُونَهُ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إذَا اصْطَلَحَ قَوْمٌ عَلَى أَنْ يَلْبَسَ الرِّجَالُ الْخُمُرَ الَّتِي

تُغَطِّي الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ وَالْعُنُقَ وَالْجَلَابِيبَ الَّتِي تُسْدَلُ مِنْ فَوْقِ الرُّءُوسِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْ لَابِسِهَا إلَّا الْعَيْنَانِ وَأَنْ تَلْبَسَ النِّسَاءُ الْعَمَائِمَ وَالْأَقْبِيَةَ الْمُخْتَصَرَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا سَائِغًا . وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلنِّسَاءِ : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الْآيَةَ وَقَالَ : { قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } . فَلَوْ كَانَ اللِّبَاسُ الْفَارِقُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مُسْتَنَدُهُ مُجَرَّدُ مَا يَعْتَادُهُ النِّسَاءُ أَوْ الرِّجَالُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَشَهْوَتِهِمْ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ الْجَلَابِيبَ وَلَا أَنْ يَضْرِبْنَ بِالْخُمُرِ عَلَى الْجُيُوبِ وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِنَّ التَّبَرُّجَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَادَةً لِأُولَئِكَ وَلَيْسَ الضَّابِطُ فِي ذَلِكَ لِبَاسًا مُعَيَّنًا مِنْ جِهَةِ نَصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ جِهَةِ عَادَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى عَهْدِهِ بِحَيْثُ يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ وَغَيْرُهُ يَحْرُمُ . فَإِنَّ النِّسَاءَ عَلَى عَهْدِهِ كُنَّ يَلْبَسْنَ ثِيَابًا طَوِيلَاتِ الذَّيْلِ . بِحَيْثُ يَنْجَرُّ خَلْفَ الْمَرْأَةِ إذَا خَرَجَتْ وَالرَّجُلُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُشَمِّرَ ذَيْلَهُ حَتَّى لَا يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّجَالَ عَنْ إسْبَالِ الْإِزَارِ وَقِيلَ لَهُ : فَالنِّسَاءُ ؟ قَالَ : يُرْخِينَ شِبْرًا قِيلَ لَهُ : إذَنْ

تَنْكَشِفَ سُوقُهُنَّ قَالَ : ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . حَتَّى إنَّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمَرْأَةِ إذَا جَرَّتْ ذَيْلَهَا عَلَى مَكَانٍ قَذِرٍ ثُمَّ مَرَّتْ بِهِ عَلَى مَكَانٍ طَيِّبٍ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِذَلِكَ وَذَلِكَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَعَلَ الْمَجْرُورَ بِمَنْزِلَةِ النَّعْلِ الَّذِي يَكْثُرُ مُلَاقَاتُهُ النَّجَاسَةَ فَيَطْهُرُ بِالْجَامِدِ كَمَا يَطْهُرُ السَّبِيلَانِ بِالْجَامِدِ لِمَا تَكَرَّرَ مُلَاقَاتُهُمَا النَّجَاسَةَ . ثُمَّ إنَّ هَذَا لَيْسَ مُعِينًا لِلسَّتْرِ فَلَوْ لَبِسَتْ الْمَرْأَةُ سَرَاوِيلَ أَوْ خُفًّا وَاسِعًا صُلْبًا كَالْمُوقِ وَتَدَلَّى فَوْقَهُ الْجِلْبَابُ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ حَجْمُ الْقَدَمِ لَكَانَ هَذَا مُحَصِّلًا لِلْمَقْصُودِ بِخِلَافِ الْخُفِّ اللَّيِّنِ الَّذِي يُبْدِي حَجْمَ الْقَدَمِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ لِبَاسِ الرِّجَالِ . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَوْ لَبِسَتْ جُبَّةً وَفَرْوَةً لِحَاجَتِهَا إلَى ذَلِكَ إلَى دَفْعِ الْبَرْدِ لَمْ تَنْهَ عَنْ ذَلِكَ . فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : لَمْ يَكُنْ النِّسَاءُ يَلْبَسْنَ الْفِرَاءَ قُلْنَا : فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْحَاجَةِ فَالْبِلَادُ الْبَارِدَةُ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى غِلَظِ الْكُسْوَةِ وَكَوْنِهَا مُدَفِّئَةً وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إلَى ذَلِكَ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ فَالْفَارِقُ بَيْنَ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَعُودُ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ . وَهُوَ مَا يُنَاسِبُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الرِّجَالُ وَمَا تُؤْمَرُ بِهِ النِّسَاءُ . فَالنِّسَاءُ مَأْمُورَاتٌ

بِالِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ دُونَ التَّبَرُّجِ وَالظُّهُورِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَشْرَعْ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْأَذَانِ وَلَا التَّلْبِيَةِ وَلَا الصُّعُودُ إلَى الصَّفَا والمروة وَلَا التَّجَرُّدُ فِي الْإِحْرَامِ . يَتَجَرَّدُ الرَّجُلُ . فَإِنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ أَنْ يَكْشِفَ رَأْسَهُ وَأَنْ لَا يَلْبَسَ الثِّيَابَ الْمُعْتَادَةَ وَهِيَ الَّتِي تُصْنَعُ عَلَى قَدْرِ أَعْضَائِهِ فَلَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا الْخُفَّ لَكِنَّ لَمَّا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَمْشِي فِيهِ رَخَّصَ لَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا أَنْ يَلْبَسَ سَرَاوِيلَ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ أَنْ يَلْبَسَ خُفَّيْنِ . وَجَعَلَ ذَلِكَ بَدَلًا لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ بِخِلَافِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً خَاصَّةً لِمَرَضِ أَوْ بَرْدٍ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ إذَا لَبِسَهُ وَلِهَذَا طَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا الْقِيَاسَ وَخَالَفَهُ الْأَكْثَرُونَ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَلِأَجْلِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا لَمْ تُنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ اللِّبَاسِ ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ فَلَا يَشْرَعُ لَهَا ضِدُّ ذَلِكَ لَكِنْ مُنِعَتْ أَنْ تَنْتَقِبَ وَأَنْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِبَاسٌ مَصْنُوعٌ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ وَلَا حَاجَةَ بِهَا إلَيْهِ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ هَلْ وَجْهُهَا كَرَأْسِ الرَّجُلِ أَوْ كَيَدَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَمَنْ جَعَلَ وَجْهَهَا كَرَأْسِهِ أَمَرَهَا إذَا

سَدَلَتْ الثَّوْبَ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا أَنْ تُجَافِيَهُ عَنْ الْوَجْهِ . كَمَا يُجَافَى عَنْ الرَّأْسِ مَا يُظَلَّلُ بِهِ . وَمَنْ جَعَلَهُ كَالْيَدَيْنِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - قَالَ هِيَ لَمْ تُنْهَ عَنْ سَتْرِ الْوَجْهِ وَإِنَّمَا نُهِيَتْ عَنْ الِانْتِقَابِ . كَمَا نُهِيَتْ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ ؛ وَذَلِكَ كَمَا نَهَى الرَّجُلَ عَنْ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَفِي مَعْنَاهُ الْبُرْقُعُ وَمَا صُنِعَ لِسَتْرِ الْوَجْهِ . فَأَمَّا تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ بِمَا يُسْدَلُ مِنْ فَوْقِ الرَّأْسِ فَهُوَ مِثْلُ تَغْطِيَتِهِ عِنْدَ النَّوْمِ بِالْمِلْحَفَةِ وَنَحْوِهَا . وَمِثْلُ تَغْطِيَةِ الْيَدَيْنِ بِالْكُمَّيْنِ وَهِيَ لَمْ تُنْهَ عَنْ ذَلِكَ . فَلَوْ أَرَادَ الرِّجَالُ أَنْ يَنْتَقِبُوا وَيَتَبَرْقَعُوا وَيَدَعُوا النِّسَاءَ بَادِيَاتِ الْوُجُوهِ لَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ . كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ أُمِرَتْ أَنْ تَجْتَمِعَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تُجَافِيَ بَيْنَ أَعْضَائِهَا وَأُمِرَتْ أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا فَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ وَلَوْ كَانَتْ فِي جَوْفِ بَيْتٍ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ مِنْ الْأَجَانِبِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِسَتْرِ لَا يُؤْمَرُ بِهِ الرَّجُلُ حَقًّا لِلَّهِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَرَهَا بَشَرٌ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } وَقَالَ : { صَلَاةُ إحْدَاكُنَّ

فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا وَصَلَاتُهَا فِي حُجْرَتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي دَارِهَا وَصَلَاتُهَا فِي دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا وَصَلَاتُهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا مَعِي } وَهَذَا كُلُّهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسَاكِنَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَابِسِ كِلَاهُمَا جُعِلَ فِي الْأَصْلِ لِلْوِقَايَةِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ . كَمَا جُعِلَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ فَاللِّبَاسُ يَتَّقِي الْإِنْسَانُ بِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَيَتَّقِي بِهِ سِلَاحَ الْعَدُوِّ وَكَذَلِكَ الْمَسَاكِنُ يُتَّقَى بِهَا الْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَيُتَّقَى بِهَا الْعَدُوُّ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } فَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِدَفْعِ مَا قَدْ يُؤْذِيهِمْ . وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مَا يَضْطَرُّونَ إلَيْهِ لِدَفْعِ مَا يَضُرُّهُمْ فَقَالَ : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فَذَكَرَ مَا يَسْتَدْفِئُونَ بِهِ وَيَدْفَعُونَ بِهِ الْبَرْدَ ؛ لِأَنَّ الْبَرْدَ يُهْلِكُهُمْ وَالْحَرَّ يُؤْذِيهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ : الْبَرْدُ بُؤْسٌ وَالْحَرُّ أَذًى ؛ وَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وِقَايَةَ الْبَرْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهُوَ ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ مَا أَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ وَذَكَرَ

فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أُصُولَ النِّعَمِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَقْصُودَ الثِّيَابِ تُشْبِهُ مَقْصُودَ الْمَسَاكِنِ وَالنِّسَاءُ مَأْمُورَاتٌ فِي هَذَا بِمَا يَسْتُرُهُنَّ وَيَحْجُبُهُنَّ فَإِذَا اخْتَلَفَ لِبَاسُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَمَّا كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ : كَانَ لِلنِّسَاءِ وَكَانَ ضِدُّهُ لِلرِّجَالِ . وَأَصْلُ هَذَا : أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ لَهُ مَقْصُودَانِ :
أَحَدُهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . والثَّانِي احْتِجَابُ النِّسَاءِ . فَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ مُجَرَّدَ الْفَرْقِ لَحَصَلَ ذَلِكَ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ بِهِ الِاخْتِلَافُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُ ذَلِكَ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاللِّبَاسِ إظْهَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِيَتَرَتَّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مَا يُنَاسِبُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ بِأَيِّ لِبَاسٍ اصْطَلَحَتْ الطَّائِفَتَانِ عَلَى التَّمَيُّزِ بِهِ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ رُوعِيَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْفَرْقِ فَإِنَّ لِبَاسَ الْأَبْيَضِ لَمَّا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { عَلَيْكُمْ بِالْبَيَاضِ فَلْيَلْبَسْهُ أَحْيَاؤُكُمْ . وَكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ } " لَمْ يَكُنْ

مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُجْعَلَ لِبَاسُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْأَبْيَضَ وَلِبَاسُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمَصْبُوغَ كَالْعَسَلِيِّ وَالْأَدْكَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ . كَذَلِكَ فِي الشُّعُورِ وَغَيْرِهَا : فَكَيْفَ الْأَمْرُ فِي لِبَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ مُجَرَّدَ الْفَرْقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ جَانِبِ الِاحْتِجَابِ وَالِاسْتِتَارِ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ حَجْبِ النِّسَاءِ وَسَتْرِهِنَّ دُونَ الْفَرْقِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الرِّجَالِ ؛ بَلْ الْفَرْقُ أَيْضًا مَقْصُودٌ حَتَّى لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الصِّنْفَيْنِ اشْتَرَكُوا فِيمَا يَسْتُرُ وَيَحْجُبُ بِحَيْثُ يُشْتَبَهُ لِبَاسُ الصِّنْفَيْنِ لَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَقْصُودَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } فَجَعَلَ كَوْنَهُنَّ يُعْرَفْنَ بِاللِّبَاسِ الْفَارِقِ أَمْرًا مَقْصُودًا . وَلِهَذَا جَاءَتْ صِيغَةُ النَّهْيِ بِلَفْظِ التَّشَبُّهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ . والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } " وَقَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ والمترجلات مِنْ

النِّسَاءِ } " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِاسْمِ التَّشَبُّهِ . وَيَكُونُ كُلُّ صِنْفٍ يَتَّصِفُ بِصِفَةِ الْآخَرِ . وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فِي ( اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ تُورِثُ تَنَاسُبًا وَتَشَابُهًا فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَلِهَذَا نُهِينَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ وَمُشَابَهَةِ الْأَعَاجِمِ وَمُشَابَهَةِ الْأَعْرَابِ وَنَهَى كُلًّا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَنْ مُشَابَهَةِ الصِّنْفِ الْآخَرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ : " { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } " . " { وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا } " وَالرَّجُلُ الْمُتَشَبِّهُ بِالنِّسَاءِ يَكْتَسِبُ مِنْ أَخْلَاقِهِنَّ بِحَسَبِ تَشَبُّهِهِ حَتَّى يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِهِ إلَى التَّخَنُّثِ الْمَحْضِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ . وَلَمَّا كَانَ الْغِنَاءُ مُقَدِّمَةَ ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ عَمَلِ النِّسَاءِ : كَانُوا يُسَمُّونَ الرِّجَالَ الْمُغَنِّينَ مَخَانِيثَ . وَالْمَرْأَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ تَكْتَسِبُ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ فِيهَا مِنْ التَّبَرُّجِ وَالْبُرُوزِ وَمُشَارَكَةِ الرِّجَالِ : مَا قَدْ يُفْضِي بِبَعْضِهِنَّ إلَى أَنْ تُظْهِرَ بَدَنَهَا كَمَا يُظْهِرُهُ الرَّجُلُ وَتَطْلُبُ أَنْ تَعْلُوَ عَلَى الرِّجَالِ كَمَا تَعْلُو الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ وَتَفْعَلَ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يُنَافِي الْحَيَاءَ وَالْخَفْرَ الْمَشْرُوعَ لِلنِّسَاءِ وَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْمُشَابَهَةِ . وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَرْقٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ الرِّجَالُ عَنْ النِّسَاءِ . وَأَنْ يَكُونَ لِبَاسُ النِّسَاءِ فِيهِ مِنْ

الِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ مَا يُحَصِّلُ مَقْصُودَ ذَلِكَ : ظَهَرَ أَصْلُ هَذَا الْبَابِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ اللِّبَاسَ إذَا كَانَ غَالِبُهُ لُبْسَ الرِّجَالِ نُهِيَتْ عَنْهُ الْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَ سَاتِرًا كالفراجي الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ الْبِلَادِ أَنْ يَلْبَسَهَا الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ وَالنَّهْيُ عَنْ مَثَلِ هَذَا بِتَغَيُّرِ الْعَادَاتِ وَأَمَّا مَا كَانَ الْفَرْقُ عَائِدًا إلَى نَفْسِ السِّتْرِ فَهَذَا يُؤْمَرُ بِهِ النِّسَاءُ بِمَا كَانَ أَسْتَرُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْفَرْقَ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي اللِّبَاسِ قِلَّةُ السَّتْرِ وَالْمُشَابَهَةُ نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ لُبْسِ النِّسَاءِ هَذِهِ الْعَمَائِمَ الَّتِي عَلَى رُءُوسِهِنَّ . هَلْ هِيَ حَرَامٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ وَمَا الْعَمَائِمُ الَّتِي تُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُنَّ لُبْسُ الْخُفِّ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، هَذِهِ الْعَمَائِمُ الَّتِي تَلْبَسُهَا النِّسَاءُ حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ : نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتُ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ } " .

وَأَيْضًا فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } " وَفِي لَفْظٍ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَخَنِّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ والمترجلات مِنْ النِّسَاءِ } " وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أُمَّ سَلَمَةَ تَعْتَصِبُ فَقَالَ : يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَيَّةٌ ؛ لَا لَيَّتَانِ } . وَمَا كَانَ مِنْ لِبَاسِ الرِّجَالِ مِثْلُ الْعِمَامَةِ وَالْخُفِّ وَالْقَبَاءِ الَّذِي لِلرِّجَالِ وَالثِّيَابِ الَّتِي تُبْدِي مَقَاطِعَ خَلْقِهَا وَالثَّوْبِ الرَّقِيقِ الَّذِي لَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْهَى عَنْهُ وَعَلَى وَلِيِّهَا كَأَبِيهَا وَزَوْجِهَا أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الْعَصَائِبِ الْكِبَارِ الَّتِي يَتَشَبَّهْنَ بِلُبْسِهَا بِالرِّجَالِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ نَصٌّ خَاصٌّ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا لُبْسُ النِّسَاءِ الْعَصَائِبَ الْكِبَارَ فَهُوَ حَرَامٌ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ : نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَمْثَالِ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ

الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا . وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَعْتَصِبُ : " { يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَيَّةٌ لَا لَيَّتَانِ } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } . وَالنُّصُوصُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . وَأَخْبَرَ بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا صَلَّى فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا صَلَّى وَبَعْضُ بَدَنِهِ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ لَمْ يُمْكِنْهُ الصَّلَاةُ إلَّا فِيهِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ . وَأَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ الصَّلَاةُ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَوْضِعِ النَّجِسِ .

وَسُئِلَ :
هَلْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي مُوَاطِنَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ فَقَالَ : " { لَا تُصَلُّوا فِيهَا } وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْغَنَمِ فَقَالَ : " { صَلُّوا فِيهَا } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ : " { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ " { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي السُّنَنِ : " { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بِأَرْضِ الْخَسْفِ } . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه وَغَيْرِهِ : " { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ : الْمَقْبَرَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالْحَمَّامِ وَظَهْرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ } وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ - غَيْرُ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ - قَدْ يُعَلِّلُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا مَظِنَّةُ النَّجَاسَةِ . وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ النَّهْيَ تَعَبُّدًا .

وَالصَّحِيحُ أَنَّ عِلَلَهَا مُخْتَلِفَةٌ . تَارَةً تَكُونُ الْعِلَّةُ مُشَابَهَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ . كَالصَّلَاةِ عِنْدَ الْقُبُورِ وَتَارَةً لِكَوْنِهَا مَأْوًى لِلشَّيَاطِينِ : كَأَعْطَانِ الْإِبِلِ . وَتَارَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْحَمَّامِ إذَا اُضْطُرَّ الْمُسْلِمُ لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَخَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَخْرُجَ وَيُصَلِّيَ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بِالْحَمَّامِ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَمَاكِنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الْوَقْتِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ فِي غَيْرِهَا وَلِهَذَا لَوْ حُبِسَ فِي الْحُشِّ صَلَّى فِيهِ وَفِي الْإِعَادَةِ نِزَاعٌ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا كَذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ وَالْخُرُوجُ لِلصَّلَاةِ خَارِجَ الْحَمَّامِ فِي الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي فِي الْحَمَّامِ إلَّا لِحَاجَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ ؟
فَأَجَابَ :
فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحُفَّاظُ . وَأَمَّا إنْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَهَلْ يُصَلِّي فِي الْحَمَّامِ ؟ أَوْ يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ فَيُصَلِّيَ خَارِجَهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ . وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ إنْ احْتَاجَ إلَى الْحَمَّامِ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَيَخْرُجَ يُصَلِّي ثُمَّ إنْ أَحَبَّ أَنْ يُتِمَّ اغْتِسَالَهُ بِالسِّدْرِ وَنَحْوِهِ عَادَ إلَى الْحَمَّامِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا ؛ إمَّا نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ لَا تَصِحُّ : كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِمَّا نَهْيَ تَنْزِيهٍ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .

وَسُئِلَ :
هَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ ، إذَا خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لِيَغْتَسِلَ وَيَخْرُجَ وَيُصَلِّيَ خَارِجَ الْحَمَّامِ فِي الْوَقْتِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ أَوْ تَفُوتَ الصَّلَاةُ فَالصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحَمَّامِ كَالصَّلَاةِ فِي الْحُشِّ وَالْمَوَاضِعِ النَّجِسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يَفُوتَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُفَوِّتُ الْوَقْتَ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْوَقْتِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مُرَاعَاةِ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ الصَّلَاةُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ جَائِزَةٌ مَعَ وُجُودِ الصُّوَرِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُقَالُ إنَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَتْ بُيُوتَ اللَّهِ وَإِنَّمَا بُيُوتُ اللَّهِ الْمَسَاجِدُ : بَلْ هِيَ بُيُوتٌ يُكْفَرُ فِيهَا بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُذْكَرُ فِيهَا فَالْبُيُوتُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِهَا وَأَهْلُهَا كُفَّارٌ فَهِيَ بُيُوتُ عِبَادَةِ الْكُفَّارِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهَا فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَالْإِذْنُ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهَا صُوَرٌ لَمْ يُصَلَّ فِيهَا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ حَتَّى مُحِيَ مَا فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ : إنَّا كُنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَهُمْ وَالصُّوَرُ فِيهَا . وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْقَبْرِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ ذُكِرَ

لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْحُسْنِ وَالتَّصَاوِيرِ فَقَالَ : " { أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا صُوَرٌ فَقَدْ صَلَّى الصَّحَابَةُ فِي الْكَنِيسَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَبْسُطُ سَجَّادَةً فِي الْجَامِعِ وَيُصَلِّي عَلَيْهَا : هَلْ مَا فَعَلَهُ بِدْعَةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى السَّجَّادَةِ بِحَيْثُ يَتَحَرَّى الْمُصَلِّي ذَلِكَ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ سُنَّةَ السَّلَفِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَتَّخِذُ أَحَدُهُمْ سَجَّادَةً يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَسَطَ سَجَّادَةً فَأَمَرَ مَالِكٌ بِحَبْسِهِ فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ بَسْطَ السَّجَّادَةِ فِي مَسْجِدِنَا بِدْعَةٌ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري فِي حَدِيثِ اعْتِكَافِ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - وَفِيهِ قَالَ : " { مَنْ اعْتَكَفَ فَلْيَرْجِعْ إلَى مُعْتَكَفِهِ فَإِنِّي رَأَيْت هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ } . وَفِي آخِرِهِ : " { فَلَقَدْ رَأَيْت يَعْنِي صَبِيحَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ عَلَى أَنْفِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ } . فَهَذَا بَيَّنَ أَنَّ سُجُودَهُ كَانَ عَلَى الطِّينِ . وَكَانَ مَسْجِدُهُ مَسْقُوفًا بِجَرِيدِ النَّخْلِ يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَطَرُ فَكَانَ مَسْجِدُهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ . وَرُبَّمَا وَضَعُوا فِيهِ الْحَصَى كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : { سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ الْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : مُطِرْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَصْبَحَتْ الْأَرْضُ مُبْتَلَّةً فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالْحَصَى فِي ثَوْبِهِ فَيَبْسُطُهُ تَحْتَهُ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ . قَالَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا ؟ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَيْضًا عَنْ أَبِي بَدْرٍ شُجَاعِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ . أَبُو بَدْرٍ أُرَاهُ قَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ الْحَصَاةَ تُنَاشِدُ الَّذِي يُخْرِجُهَا مِنْ الْمَسْجِدِ } . وَلِهَذَا فِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَمْسَحْ الْحَصَى ؛ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ } . وَفِي لَفْظٍ فِي مُسْنَدِ أَحْمَد قَالَ : { سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سَأَلْته عَنْ مَسْحِ

الْحَصَى فَقَالَ : وَاحِدَةٌ أَوْ دَعْ } . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَأَنْ يُمْسِكَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَنْ الْحَصَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلِّهَا سُودُ الْحَدَقِ فَإِنْ غَلَبَ أَحَدَكُمْ الشَّيْطَانُ فَلْيَمْسَحْ وَاحِدَةً } . وَهَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ معيقيب أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ إنْ كُنْت فَاعِلًا فَوَاحِدَةً } . فَهَذَا بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصَى فَكَانَ أَحَدُهُمْ يُسَوِّي بِيَدِهِ مَوْضِعَ سُجُودِهِ فَكَرِهَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْعَبَثَ وَرَخَّصَ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِلْحَاجَةِ وَإِنْ تَرَكَهَا كَانَ أَحْسَنَ . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " { كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ } أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ : كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ : بَيَانُ أَنَّ أَحَدَهُمْ إنَّمَا كَانَ يَتَّقِي شِدَّةَ الْحَرِّ بِأَنْ يَبْسُطَ ثَوْبَهُ الْمُتَّصِلَ . كَإِزَارِهِ وَرِدَائِهِ وَقَمِيصِهِ فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ . وَهَذَا بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ عَلَى سَجَّادَاتٍ ؛ بَلْ وَلَا عَلَى حَائِلٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ تَارَةً فِي نِعَالِهِمْ

وَتَارَةً حُفَاةً كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالْمَسْنَدِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ . قَالَ : لِمَ خَلَعْتُمْ ؟ قَالُوا : رَأَيْنَاك خَلَعْت . فَخَلَعْنَا قَالَ : فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خُبْثًا فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ فَإِنْ رَأَى خُبْثًا فَلْيَمْسَحْهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا } . فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ صَلَاتَهُمْ فِي نِعَالِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ إذْ لَمْ يَكُنْ يُوطَأُ بِهِمَا عَلَى مَفَارِشَ وَأَنَّهُ إذَا رَأَى بِنَعْلَيْهِ أَذًى فَإِنَّهُ يَمْسَحُهُمَا بِالْأَرْضِ وَيُصَلِّي فِيهِمَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِهِمَا وَلَا إلَى نَزْعِهِمَا وَقْتَ الصَّلَاةِ وَوَضْعِ قَدَمَيْهِ عَلَيْهِمَا كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . وَبِهَذَا كُلِّهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : " { سَأَلْت أَنَسًا أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ } . وَفِي سُنَنِ أَبَى دَاوُد عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ } فَقَدْ أَمَرَنَا بِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ إذْ هُمْ يَنْزِعُونَ الْخِفَافَ وَالنِّعَالَ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَيَأْتَمُّونَ فِيمَا يُذْكَرُ عَنْهُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قِيلَ لَهُ وَقْتَ الْمُنَاجَاةِ { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بالوادي الْمُقَدَّسِ طُوًى } . فَنُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ

وَأُمِرْنَا أَنْ نُصَلِّيَ فِي خِفَافِنَا وَنِعَالِنَا وَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى مَسَحْنَاهُمَا بِالْأَرْضِ لِمَا تَقَدَّمَ . وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلَيْهِ الْأَذَى فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } . وَفِي لَفْظٍ قَالَ : " { إذَا وَطِئَ الْأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ } وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَاهُ وَقَدْ قِيلَ حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَفْظُهُ الثَّانِي مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَان وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الشَّوَاهِدِ وَمُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَوَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَمْ يُسَمَّ رَاوِيهِ ؛ لَكِنَّ تَعَدُّدَهُ مَعَ عَدَمِ التُّهْمَةِ وَعَدَمِ الشُّذُوذِ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَسَنٌ أَيْضًا وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلِي الْعُلَمَاءِ وَمَعَ دَلَالَةِ السُّنَّةِ عَلَيْهِ هُوَ مُقْتَضَى الِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَحَلٌّ تَتَكَرَّرُ مُلَاقَاتُهُ لِلنَّجَاسَةِ فَأَجْزَأَ الْإِزَالَةَ عَنْهُ بِالْجَامِدِ كَالْمَخْرَجَيْنِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِمَا الِاسْتِجْمَارُ بِالْأَحْجَارِ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ

تَارَةً فِي نِعَالِهِمْ وَتَارَةً حُفَاةً كَمَا فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَه عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : " { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا } وَالْحُجَّةُ فِي الِانْتِعَالِ ظَاهِرَةٌ " . وَأَمَّا فِي الِاحْتِفَاءِ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ . " { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي يَوْمَ الْفَتْحِ وَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عَنْ يَسَارِهِ } وَكَذَلِكَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ : " { بَيْنَمَا رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ وَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ } . وَتَمَامُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ . كَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ السَّائِبِ فَإِنَّ أَصْلَهُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ : " { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى إذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ - أَوْ ذِكْرُ مُوسَى وَعِيسَى - أَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ } وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ حَاضِرٌ لِذَلِكَ فَهَذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَدْ وَضَعَ نَعْلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ النَّاسَ يُصَلُّونَ وَيَطُوفُونَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَوْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ نَجَاسَةٍ أَسْفَلَ النَّعْلِ مُسْتَحَبًّا لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقَّ النَّاسِ بِفِعْلِ الْمُسْتَحَبِّ الَّذِي فِيهِ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ . وَأَيْضًا فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَلَا يُؤْذِ بِهِمَا أَحَدًا وَلْيَجْعَلْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا } وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَضَعُ نَعْلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ : تَكُونُ عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ يَسَارِهِ أَحَدٌ . وَلْيَضَعْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ قِيلَ : فِي إسْنَادِهِ لِينٌ لَكِنَّهُ هُوَ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ . وَلَوْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ ظَنِّ نَجَاسَتِهِمَا مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . وَأَيْضًا فَفِي الْأَوَّلِ الصَّلَاةُ فِيهِمَا وَفِي الثَّانِي وَضْعُهُمَا عَنْ يَسَارِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُصَلٍّ . وَمَا ذُكِرَ مِنْ كَرَاهَةِ وَضْعِهِمَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ النَّجَاسَةِ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الْأَدَبِ . كَمَا كُرِهَ الْبُصَاقُ عَنْ يَمِينِهِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ خباب بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ : " { شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةَ حَرِّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا . وَأَكُفَّنَا فَلَمْ يَشْكُنَا } . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي مُسْلِمٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَسَبَبُ هَذِهِ الشَّكْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى الْأَرْضِ فَتَسْخَنُ جِبَاهُهُمْ وَأَكُفُّهُمْ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا وَيُبْرِدُ بِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ

أَنْ يَسْجُدُوا عَلَى مَا يَقِيهِمْ مِنْ الْحَرِّ مِنْ عِمَامَةٍ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ وَجَعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً فِي وُجُوبِ مُبَاشَرَةِ الْمُصَلِّي بِالْجَبْهَةِ . وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ : " { وَأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُهُمْ أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ } وَالسُّجُودُ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ كُمِّهِ وَذَيْلِهِ وَطَرَفِ إزَارِهِ وَرِدَائِهِ فِيهِ النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ وَيَسْجُدُ الرَّجُلُ عَلَى عِمَامَتِهِ رَوَاهُ البيهقي . وَقَدْ اسْتَشْهَدَ بِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فَقَالَ : " وَقَالَ الْحَسَنُ : كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ " وَرَوَى حَدِيثَ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمَ قَالَ : " { كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ أَحَدُنَا الثَّوْبَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ } وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ حَسَرَ الْعِمَامَةَ عَنْ جَبْهَتِهِ . وَعَنْ نَافِعٍ : " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سَجَدَ وَعَلَيْهِ الْعِمَامَةُ يَرْفَعُهَا حَتَّى يَضَعَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ " رَوَاهُ البيهقي . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " { إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلْيَحْسُرْ الْعِمَامَةَ عَنْ جَبْهَتِهِ } فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ

حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الخدري فِي الصَّحِيحَيْنِ : " { وَأَنَّهُ رَأَى أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى أَنْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْنَبَتِهِ } . وَفِي لَفْظٍ قَالَ : " { فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَيْت أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ } وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ . وَقَالَ الحميدي : يُحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا تُمْسَحُ الْجَبْهَةُ فِي الصَّلَاةِ بَلْ تُمْسَحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ الْمَاءُ فِي أَرْنَبَتِهِ وَجَبْهَتِهِ بَعْدَ مَا صَلَّى . قُلْت : كَرِهَ الْعُلَمَاءُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مَسْحَ الْجَبْهَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ الَّذِي يَعْلَقُ بِهَا فِي السُّجُودِ وَتَنَازَعُوا فِي مَسْحِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . كَالْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد فِي مَسْحِ مَاءِ الْوُضُوءِ بِالْمِنْدِيلِ وَفِي إزَالَةِ خُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ . وَعَنْ أَبِي حميد الساعدي : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا سَجَدَ مَكَّنَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ وَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حجر قَالَ : " { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ وَاضِعًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ فِي سُجُودِهِ } رَوَاهُ أَحْمَد .

فَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ كَانُوا يُبَاشِرُونَ الْأَرْضَ بِالْجِبَاهِ وَعِنْدَ الْحَاجَةِ كَالْحَرِّ وَنَحْوِهِ : يَتَّقُونَ بِمَا يَتَّصِلُ بِهِمْ مِنْ طَرَفِ ثَوْبٍ وَعِمَامَةٍ وَقَلَنْسُوَةٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُرَخَّصُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبُهُمْ مِنْهُ السُّجُودَ عَلَى الْحَائِلِ لَأَذِنَ لَهُمْ فِي اتِّخَاذِ مَا يَسْجُدُونَ عَلَيْهِ مُنْفَصِلًا عَنْهُمْ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخَمْرَةِ فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ : " { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ } أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَهْلِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ : أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه . وَرَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد : " { كَانَ يُصَلِّي وَأَنَا حِذَاءَهُ وَأَنَا حَائِضٌ وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إذَا سَجَدَ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : " { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَائِضٌ فَقَالَ : إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك } وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ : " { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ عَلَى إحْدَانَا وَهِيَ حَائِضٌ فَيَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهِيَ

حَائِضٌ ثُمَّ تَقُومُ إحْدَانَا بِخُمْرَتِهِ فَتَضَعُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ } رَوَاهُ . أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَلَفْظُهُ " { فَتَبْسُطُهَا وَهِيَ حَائِضٌ } فَهَذَا صَلَاتُهُ عَلَى الْخُمْرَةِ وَهِيَ نَسْجٌ يُنْسَجُ مِنْ خُوصٍ كَانَ يُسْجَدُ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : " { أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامِ صَنَعَتْهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ : قُومُوا فَلْأُصَلِّ لَكُمْ قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِسَ فَنَضَحْته بِمَاءِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَفَفْت أَنَا وَالْيَتِيمُ مِنْ وَرَائِهِ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ } وَفِي الْبُخَارِيِّ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " { قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ ضَخْمٌ - وَكَانَ ضَخْمًا - لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَك وَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا وَدَعَاهُ إلَى بَيْتِهِ وَقَالَ : صَلِّ حَتَّى أَرَاك كَيْفَ تُصَلِّي فَأَقْتَدِيَ بِك فَنَضَحُوا لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ لَهُمْ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قِيلَ لِأَنَسِ : أَكَانَ يُصَلِّي الْضُحَى ؟ فَقَالَ : لَمْ أَرَهُ صَلَّى إلَّا يَوْمَئِذٍ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ أُمَّ سُلَيْمٍ فَتُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ أَحْيَانًا فَيُصَلِّي عَلَى بِسَاطٍ لَهَا وَهُوَ حَصِيرٌ تَنْضَحُهُ بِالْمَاءِ } وَلِمُسْلِمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري : " { أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

فَرَأَيْته يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " { كُنْت أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلَيَّ فَإِذَا قَامَ بَسَطْتهمَا قَالَتْ : وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ } وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ } وَفِي لَفْظٍ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عُرْوَةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَعَائِشَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى الْفِرَاشِ الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ } . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا لِلْبُخَارِيِّ اسْتَدَلُّوا بِهَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْفَرْشِ وَذُكِرَ اللَّفْظُ الْأَخِيرُ مُرْسَلًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْمُسْنَدِ أَنَّ عُرْوَةَ إنَّمَا سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا سَمِعَ مِنْهَا . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ عَلَى الْمَفَارِشِ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ كَالْخُمْرَةِ وَالْحَصِيرِ وَنَحْوِهِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ : كَالْأَنْطَاعِ الْمَبْسُوطَةِ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ وَكَالْبُسُطِ وَالزَّرَابِيِّ الْمَصْبُوغَةِ مِنْ الصُّوفِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُرَخِّصُونَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ اسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَيْضًا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فَإِنَّ الْفِرَاشَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ

الْأَرْضِ وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَدِيمٍ أَوْ صُوفٍ . وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : " { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَعَلَى الْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمُغَيَّرَةِ . قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي : عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ مَجْهُولٌ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : " { مَا أُبَالِي لَوْ صَلَّيْت عَلَى خُمْرَةٍ } . وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى مَا يُفْرَشُ - بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ - عُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا شَيْئًا يَسْجُدُونَ عَلَيْهِ يَتَّقُونَ بِهِ الْحَرَّ ؛ وَلَكِنْ طَلَبُوا مِنْهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا فَلَمْ يُجِبْهُمْ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَّقِي الْحَرَّ إمَّا بِشَيْءِ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَإِمَّا بِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ طَرَفِ ثَوْبِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَفِي حَدِيثِ الْخُمْرَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَتَّخِذُ السَّجَّادَةَ كَمَا قَدْ احْتَجَّ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ

دَائِمًا بَلْ أَحْيَانًا كَأَنَّهُ كَانَ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَتَّقِي بِهَا الْحَرَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ رَأَى أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ يَتَّخِذُ السَّجَّادَةَ يُصَلِّي عَلَيْهَا دَائِمًا . وَالثَّانِي : قَدْ ذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِمَوْضِعِ سُجُودِهِ لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ السَّجَّادَةِ الَّتِي تَسَعُ جَمِيعَ بَدَنِهِ كَأَنَّهُ كَانَ يَتَّقِي بِهَا الْحَرَّ هَكَذَا قَالَ : أَهْلُ الْغَرِيبِ . قَالُوا : " الْخُمْرَةُ " كَالْحَصِيرِ الصَّغِيرِ تُعْمَلُ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ وَتُنْسَجُ بِالسُّيُورِ وَالْخُيُوطِ وَهِيَ قَدْرُ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْوَجْهِ وَالْأَنْفِ فَإِذَا كَبِرَتْ عَنْ ذَلِكَ فَهِيَ حَصِيرٌ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَتْرِهَا الْوَجْهَ وَالْكَعْبَيْنِ مِنْ حَرِّ الْأَرْضِ وَبَرْدِهَا . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ وَجْهَ الْمُصَلِّي أَيْ تَسْتُرُهُ . وَقِيلَ : لِأَنَّ خُيُوطَهَا مَسْتُورَةٌ بِسَعَفِهَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " { جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَاحْتَرَقَ مِنْهَا مِثْلُ مَوْضِعِ دِرْهَمٍ } قَالَ : وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إطْلَاقِ الْخُمْرَةِ عَلَى الْكَبِيرِ مِنْ نَوْعِهَا لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَالْقُعُودُ عَلَيْهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا طَوِيلَةٌ بِقَدْرِ مَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا ذَكَرُوهُ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْخُمْرَةَ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ اتِّقَاءِ النَّجَاسَةِ أَوْ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا

كَمَا يُعَلِّلُ بِذَلِكَ مَنْ يُصَلِّي عَلَى السَّجَّادَةِ وَيَقُولُ : إنَّهُ إنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ نَجَاسَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ نَجَاسَةِ حُصْرِ الْمَسْجِدِ وَفُرُشِهِ لِكَثْرَةِ دَوْسِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ وَأَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي نَعْلَيْهِ وَهُمْ فِي نِعَالِهِمْ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ لِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ وَأَنَّهُ أَمَرَ إذَا كَانَ بِهَا أَذًى أَنْ تُدَلَّكَ بِالتُّرَابِ وَيُصَلَّى بِهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّعَالَ تُصِيبُ الْأَرْضَ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يُصَلِّي فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ الدَّلْكِ وَإِنْ أَصَابَهَا أَذًى . فَمَنْ تَكُونُ هَذِهِ شَرِيعَتُهُ وَسُنَّتُهُ كَيْفَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَائِلًا لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعٌ . أَمَّا الْغُلَاةُ : مِنْ الْمُوَسْوِسِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا عَلَى مَا يُفْرَشُ لِلْعَامَّةِ عَلَى الْأَرْضِ لَكِنْ عَلَى سَجَّادَةٍ وَنَحْوِهَا وَهَؤُلَاءِ كَيْفَ يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَذَلِكَ أَبْعَدُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ النِّعَالَ قَدْ لَاقَتْ الطَّرِيقَ الَّتِي مَشَوْا فِيهَا ؛ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَلْقَى النَّجَاسَةَ بَلْ قَدْ يَقْوَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِذَا كَانُوا لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ مُبَاشِرِينَ لَهَا بِأَقْدَامِهِمْ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ الْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَلَا يُلَاقُونَهُ إلَّا وَقْتَ الصَّلَاةِ فَكَيْفَ بِالنِّعَالِ الَّتِي تَكَرَّرَتْ مُلَاقَاتُهَا لِلطُّرُقَاتِ الَّتِي تَمْشِي فِيهَا الْبَهَائِمُ وَالْآدَمِيُّونَ وَهِيَ مَظِنَّةُ النَّجَاسَةِ وَلِهَذَا هَؤُلَاءِ إذَا صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ وَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ

عَلَى ظَاهِرِ النِّعَالِ ؛ لِئَلَّا يَكُونُوا حَامِلِينَ لِلنَّجَاسَةِ وَلَا مُبَاشِرِينَ لَهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا فِي أَسْفَلِهِ نَجَاسَةٌ خِلَافًا مَعْرُوفًا فَيُفْرَشُ لِأَحَدِهِمْ مَفْرُوشٌ عَلَى الْأَرْضِ . وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَبْعَدُ الْمَرَاتِبِ عَنْ السُّنَّةِ . الثَّانِيَةُ : أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْحَصِيرِ وَنَحْوِهَا دُونَ الْأَرْضِ وَمَا يُلَاقِيهَا . الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يُصَلِّيَ فِي النَّعْلِ الَّذِي تَكَرَّرَ مُلَاقَاتُهَا لِلطُّرُقَاتِ : فَإِنَّ طَهَارَةَ مَا يَتَحَرَّى الْأَرْضَ قَدْ يَكُونُ طَاهِرًا وَاحْتِمَالُ تَنْجِيسِهِ بَعِيدٌ بِخِلَافِ أَسْفَلِ النَّعْلِ . الرَّابِعَةُ : أَنْ يُصَلِّيَ فِي النَّعْلَيْنِ وَإِذَا وُجِدَ فِيهِمَا أَذًى دَلَكَهُمَا بِالتُّرَابِ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ . فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ سُنَّتُهُ هِيَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ : امْتَنَعَ أَنْ يُسْتَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَائِلًا مِنْ سَجَّادَةٍ وَغَيْرِهَا ؛ لِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ مِنْ النَّجَاسَةِ . فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ حَدِيثِ الْخُمْرَةِ عَلَى أَنَّهُ وَضَعَهَا لِاتِّقَاءِ النَّجَاسَةِ فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لِاتِّقَاءِ الْحَرِّ فَهَذَا يُسْتَعْمَلُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِذَلِكَ وَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ لَمْ يَفْعَلْ . الرَّابِعُ : أَنَّ الْخُمْرَةَ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا الصَّحَابَةَ

وَلَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ لَهُ خُمْرَةً بَلْ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصَى كَمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا أَوْ سُنَّةً لَفَعَلُوهُ وَلَأَمَرَهُمْ بِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ رُخْصَةً لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إلَى مَا يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ الْمُصَلِّي وَهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ الْأَذَى بِثِيَابِهِمْ وَنَحْوِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدَهُ أَفْضَلُ مِنَّا وَأَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَأَطْوَعُ لِأَمْرِهِ فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ مَا يَقْصِدُهُ مُتَّخِذُو السَّجَّادَاتِ لَكَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوشًا بَلْ كَانَ تُرَابًا وَحَصًى وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَصِيرِ وَفِرَاشِ امْرَأَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَمْ يُصَلِّ هُنَاكَ لَا عَلَى خُمْرَةٍ وَلَا سَجَّادَةٍ وَلَا غَيْرِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَعَائِشَةَ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ قَالَ : نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ . وَأَيْضًا فَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ الْمُتَقَدِّمِ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ . قِيلَ : مَنْ اتَّخَذَ السَّجَّادَةِ لِيَفْرِشْهَا عَلَى حُصْرِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ حُجَّةٌ فِي السُّنَّةِ بَلْ كَانَتْ الْبِدْعَةُ فِي ذَلِكَ مُنْكَرَةٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَّقِي أَحَدُهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْأَرْضِ حَذَرًا أَنْ

تَكُونَ نَجِسَةً مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْأَرْضِ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ } . وَلَا يَشْرَعُ اتِّقَاءُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا لِأَجْلِ هَذَا . بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : " { كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ } أَوْ كَمَا قَالَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد " { تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ احْتَجَّ بِهِ مَنْ رَأَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا أَصَابَتْ الْأَرْضَ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِدَلْكِ النَّعْلِ النَّجِسِ بِالْأَرْضِ وَجَعَلَ التُّرَابَ لَهَا طَهُورًا فَإِذَا كَانَ طَهُورًا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَأَنْ يَكُونَ طَهُورًا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ يَقُولُ بِهِ مَنْ لَا يَقُولُ إنَّ النَّجَاسَةَ تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد تَطْهُرُ بِذَلِكَ مَعَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ إنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ النَّجَاسَةَ تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ مَذْهَبُ

أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ فَالْأَمْرُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَظْهَرُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّوْثَ النَّجِسَ إذَا صَارَ رَمَادًا وَنَحْوَهُ فَهُوَ طَاهِرٌ وَمَا يَقَعُ فِي الْمَلَّاحَةِ مِنْ دَمٍ وَمَيْتَةٍ وَنَحْوِهِمَا إذَا صَارَ مِلْحًا فَهُوَ طَاهِرٌ . وَقَدْ اتَّفَقُوا جَمِيعُهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ إذَا اسْتَحَالَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَصَارَتْ خَلًّا طَهُرَتْ . وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَسَائِرُ الْأَعْيَانِ إذَا انْقَلَبَتْ يَقِيسُونَهَا عَلَى الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ . وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا يَعْتَذِرُ بِأَنَّ الْخَمْرَ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ كَانَ طَاهِرًا فَلَمَّا اسْتَحَالَ خَمْرًا نَجِسَ فَإِذَا اسْتَحَالَ خَلًّا طَهُرَ . وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ إنَّمَا نَجِسَتْ أَيْضًا بِالِاسْتِحَالَةِ ؛ فَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يَتَنَاوَلُهُ الْحَيَوَانُ طَاهِرًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ ثُمَّ يَمُوتُ فَيُنَجَّسُ وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَالْكَلْبُ وَالسِّبَاعُ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهَا إنَّمَا خُلِقَتْ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ الطَّاهِرَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْخَلَّ وَالْمِلْحَ وَنَحْوَهُمَا أَعْيَانٌ طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } فَلِلْمُحَرَّمِ الْمُنَجَّسِ لَهَا أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ حَرَّمَهَا لِكَوْنِهَا دَاخِلَةً فِي الْمَنْصُوصِ أَوْ لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى الدَّاخِلَةِ فِيهِ فَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ ؛ فَإِنَّ النَّصَّ لَا يَتَنَاوَلُهَا

وَمَعْنَى النَّصِّ الَّذِي هُوَ الْخُبْثُ مُنْتَفٍ فِيهَا وَلَكِنْ كَانَ أَصْلُهَا نَجِسًا وَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الطَّيِّبَ مِنْ الْخَبِيثِ وَيُخْرِجُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى فِي الْحُجَّةِ نَصًّا وَقِيَاسًا . وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَنْبَنِي طَهَارَةُ الْمَقَابِرِ . فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَةِ الْمَقْبَرَةِ الْعَتِيقَةِ . يَقُولُونَ : إنَّهُ خَالَطَ التُّرَابَ صَدِيدُ الْمَوْتَى وَنَحْوُهُ وَاسْتَحَالَ عَنْ ذَلِكَ فَيُنَجِّسُونَهُ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الِاسْتِحَالَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَلَا يَكُونُ التُّرَابُ نَجِسًا وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ { أَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَائِطًا لِبَنِي النَّجَّارِ وَكَانَ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَخِرَبٌ وَنَخْلٌ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ . وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَجُعِلَ قِبْلَةً لِلْمَسْجِدِ } . . . (1) فَهَذَا كَانَ مَقْبَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ . ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِنَبْشِهِمْ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقْلِ التُّرَابِ الَّذِي لَاقَاهُمْ وَغَيْرِهِ مِنْ تُرَابِ الْمَقْبَرَةِ وَلَا أَمَرَ بِالِاحْتِرَازِ مِنْ الْعُذْرَةِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَكِنَّ الْغَرَضَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْوَسْوَاسِ مِنْ تَوَقِّي الْأَرْضِ وَتَنْجِيسِهَا بَاطِلٌ بِالنَّصِّ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ فِيهِ نِزَاعٌ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَفْتَرِشُ أَحَدُهُمْ السَّجَّادَةَ عَلَى مُصَلَّيَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْحُصْرِ وَالْبُسُطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْرَشُ فِي الْمَسَاجِدِ فَيَزْدَادُونَ بِدْعَةً عَلَى بِدْعَتِهِمْ . وَهَذَا الْأَمْرُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَكُونُ شُبْهَةً لَهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا ؛ بَلْ يُعَلِّلُونَ أَنَّ هَذِهِ الْحُصْرَ يَطَؤُهَا عَامَّةُ النَّاسِ وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى أَوْ سَمِعَ أَنَّهُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بَالَ صَبِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى بَعْضِ حُصْرِ الْمَسْجِدِ أَوْ رَأَى عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَرْقِ الْحَمَامِ . أَوْ غَيْرِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ حُجَّةً فِي الْوَسْوَاسِ . وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَا زَالَ يَطَأُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ وَهُنَاكَ مِنْ الْحَمَامِ مَا لَيْسَ بِغَيْرِهِ وَيَمُرُّ بِالْمَطَافِ مِنْ الْخَلْقِ مَا لَا يَمُرُّ بِمَسْجِدِ مِنْ الْمَسَاجِدِ فَتَكُونُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا أَقْوَى . ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ يُصَلِّي هُنَاكَ عَلَى حَائِلٍ وَلَا يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ هَذَا مُسْتَحَبًّا كَمَا زَعَمَهُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ الْأَفْضَلِ . وَيَكُونُ هَؤُلَاءِ أَطْوَعَ لِلَّهِ وَأَحْسَنَ عَمَلًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّ هَذَا خِلَافَ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَأَيْضًا فَقَدْ كَانُوا يَطَؤُونَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِنِعَالِهِمْ وَخِفَافِهِمْ وَيُصَلُّونَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَلَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُمْ هَذَا الِاحْتِرَازُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ هَؤُلَاءِ فَعُلِمَ خَطَؤُهُمْ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُولُوا : الْأَرْضُ تَطْهُرُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالِاسْتِحَالَةِ . دُونَ الْحَصِيرِ . فَيُقَالُ : هَذَا إذَا كَانَ حَقًّا فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ . وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِ ( الْوَجْهِ الثَّالِثِ : وَهُوَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا وَلَا الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لِاحْتِمَالِ وَجُودِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْمَشْكُوكِ فِيهِ مُطْلَقًا فَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ مَرَّ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ بِمَكَانِ فَسَقَطَ عَلَى صَاحِبِهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ فَنَادَى صَاحِبُهُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ أَمَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ " فَنَهَى عُمَرُ عَنْ إخْبَارِهِ لِأَنَّهُ تَكَلَّفَ مِنْ السُّؤَالِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ . وَهَذَا قَدْ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ . وَهُوَ : أَنَّ النَّجَاسَةَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا مَعَ الْعِلْمِ فَلَوْ صَلَّى وَبِبَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَأَحْمَد فِي أَقْوَى الرِّوَايَتَيْنِ وَسَوَاءٌ كَانَ عَلِمَهَا ثُمَّ نَسِيَهَا أَوْ جَهِلَهَا ابْتِدَاءً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ ثُمَّ خَلَعَهُمَا فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَمَّا أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّ بِهِمَا أَذًى وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْهَا مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَتَكَلُّفُهُ لِلْخَلْعِ فِي أَثْنَائِهَا مَعَ أَنَّهُ لَوْلَا الْحَاجَةُ لَكَانَ عَبَثًا أَوْ مَكْرُوهًا . . . (1) . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ مَعَ الْعِلْمِ وَمَظِنَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهَا فِي حَالِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ أُمِّ جحدر الْعَامِرِيَّةِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَتْ : " { كُنْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْنَا شِعَارُنَا وَقَدْ أَلْقَيْنَا فَوْقَهُ كِسَاءً فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْكِسَاءَ فَلَبِسَهُ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ لَمْعَةٌ مِنْ دَمٍ فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلِيهَا فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ مَصْرُورَةً فِي يَدِ غُلَامٍ فَقَالَ : اغْسِلِي هَذَا وأجفيها وَأَرْسِلِي بِهَا إلَيَّ فَدَعَوْت بِقَصْعَتِي فَغَسَلْتهَا ثُمَّ أَجَفَفْتهَا فَأَعَدْتهَا إلَيْهِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ النَّهَارِ وَهِيَ عَلَيْهِ } . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَأْمُرْ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَةِ وَلَا ذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُعِيدُ وَأَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ وَلَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ . وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَبَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ

مَعْفُوٌّ فِيهِ عَنْ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي . كَمَا قَالَ فِي دُعَاءِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ . وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ يُعْفَى فِيهَا عَنْ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ وَنَحْوِهِ وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي لَمَّا شَمَّتَ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ أَوَّلًا : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّشَهُّدِ الْمَشْهُورِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا يُعْفَى فِيهَا عَنْ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالنَّجَاسَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَا حَاجَةَ بِهِ حِينَئِذٍ عَنْ السُّؤَالِ عَنْ أَشْيَاءَ إنْ أُبْدِيَتْ سَاءَتْهُ قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَبْلُغُ الْحَالُ بِأَحَدِهِمْ إلَى أَنْ يَكْرَهَ الصَّلَاةَ

إلَّا عَلَى سَجَّادَةٍ ؛ بَلْ قَدْ جَعَلَ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِهَا مُحَرَّمًا فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ . وَهَذَا فِيهِ مُشَابَهَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي مَسَاجِدِهِمْ ؛ فَإِنَّ الَّذِي لَا يُصَلِّي إلَّا عَلَى مَا يُصْنَعُ لِلصَّلَاةِ مِنْ الْمَفَارِشِ شَبِيهٌ بِاَلَّذِي لَا يُصَلِّي إلَّا فِيمَا يَصْنَعُ لِلصَّلَاةِ مِنْ الْأَمَاكِنِ . وَأَيْضًا فَقَدْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَهْلِ الدِّينِ فَيَعُدُّونَ تَرْكَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ الدِّينِ وَمِنْ قِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ فَيَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْهَدْيِ الَّذِي مَا أُنْزِلَ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ أَكْمَلَ مِنْ هَدْيِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ . وَرُبَّمَا تَظَاهَرَ أَحَدُهُمْ بِوَضْعِ السَّجَّادَةِ عَلَى مَنْكِبِهِ وَإِظْهَارِ الْمَسَابِحِ فِي يَدِهِ وَجَعْلِهِ مِنْ شِعَارِ الدِّينِ وَالصَّلَاةِ وَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِعَارَهُمْ وَكَانُوا يُسَبِّحُونَ وَيَعْقِدُونَ عَلَى أَصَابِعِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { اعْقِدْنَ بِالْأَصَابِعِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ } وَرُبَّمَا عَقَدَ أَحَدُهُمْ التَّسْبِيحَ بِحَصَى أَوْ نَوَى . وَالتَّسْبِيحُ بِالْمَسَابِحِ مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : أَنَّ التَّسْبِيحَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ بِالْأَصَابِعِ وَغَيْرِهَا وَإِذَا كَانَ هَذَا مُسْتَحَبًّا يَظْهَرُ فَقَصْدُ إظْهَارِ ذَلِكَ وَالتَّمَيُّزُ بِهِ عَلَى النَّاسِ مَذْمُومٌ ؛ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ رِيَاءً فَهُوَ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الرِّيَاءِ إذْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَصْنَعُ هَذَا يَظْهَرُ مِنْهُ الرِّيَاءُ وَلَوْ كَانَ رِيَاءً بِأَمْرِ مَشْرُوعٍ لَكَانَتْ إحْدَى الْمُصِيبَتَيْنِ ؛ لَكِنَّهُ رِيَاءٌ لَيْسَ

مَشْرُوعًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } . قَالَ الْفُضَيْل ابْنُ عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ ؟ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ . وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفُضَيْل مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا مَأْمُورًا بِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ . وَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا " . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ . مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَإِنِّي مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : " { وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ . وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ . فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } وَفِي لَفْظٍ " { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : " { إنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدِثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } .
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ تَقْدِيمِ مَفَارِشَ إلَى الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَبْلَ ذَهَابِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ مُحَرَّمٌ . وَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ غَصَبَ بُقْعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِفَرْشِ ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ فِيهَا وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ يَسْبِقُونَهُ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَمَنْ صَلَّى فِي بُقْعَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ مَعَ مَنْعِ غَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا : فَهَلْ هُوَ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ

الْمَغْصُوبَةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقَاصِيرِ الَّتِي يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فِيهَا عُمُومُ النَّاسِ . وَالْمَشْرُوعُ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ النَّاسَ يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَلَا تُصَفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ : يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يستهموا عَلَيْهِ لاستهموا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إلَيْهِ } . وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَنْ يَسْبِقَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا قَدَّمَ الْمَفْرُوشَ وَتَأَخَّرَ هُوَ فَقَدْ خَالَفَ الشَّرِيعَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ تَأَخُّرِهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّقَدُّمِ . وَمِنْ جِهَةِ غَصْبِهِ لِطَائِفَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمَنْعِهِ السَّابِقِينَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ وَأَنْ يُتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ثُمَّ إنَّهُ يَتَخَطَّى النَّاسَ إذَا حَضَرُوا . وَفِي الْحَدِيثِ . " { الَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَتَّخِذُ جِسْرًا إلَى جَهَنَّمَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ : " { اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْت } . ثُمَّ إذَا فَرَشَ هَذَا فَهَلْ لِمَنْ سَبَقَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ وَيُصَلِّي مَوْضِعَهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ لِغَيْرِهِ رَفْعَهُ وَالصَّلَاةَ مَكَانَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّابِقَ يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِ هَذَا الْمَأْمُورِ وَاسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ إلَّا بِرَفْعِ ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ . وَمَا لَا يَتِمُّ الْمَأْمُورُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ . وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْمَفْرُوشُ وَضَعَهُ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الْغَصْبِ وَذَلِكَ مُنْكَرٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُؤَوَّلَ إلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْحَدِيثِ : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى سَجَّادَةٍ } فَقَدْ أَوْرَدَ شَخْصٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ائْتِينِي بِالْخُمْرَةِ فَأَتَتْ بِهِ . فَصَلَّى عَلَيْهِ } .
فَأَجَابَ :
لَفْظُ الْحَدِيثِ " { أَنَّهُ طَلَبَ الْخُمْرَةَ } وَالْخُمْرَةُ : شَيْءٌ يُصْنَعُ مِنْ الْخُوصِ

فَسَجَدَ عَلَيْهِ يَتَّقِي بِهِ حَرَّ الْأَرْضِ وَأَذَاهَا . فَإِنَّ حَدِيثَ الْخُمْرَةِ صَحِيحٌ . وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا كَبِيرَةً يُصَلِّي عَلَيْهَا يَتَّقِي بِهَا النَّجَاسَةَ وَنَحْوَهَا فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّخِذُ سَجَّادَةً يُصَلِّي عَلَيْهَا وَلَا الصَّحَابَةُ ؛ بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ حُفَاةً وَمُنْتَعِلِينَ وَيُصَلُّونَ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ : " { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ } وَقَالَ : " { إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ } وَصَلَّى مَرَّةً فِي نَعْلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ فِي نِعَالِهِمْ فَخَلَعَهُمَا فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعُوا فَقَالَ : " { مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ ؟ قَالُوا : رَأَيْنَاك خَلَعْت فَخَلَعْنَا . قَالَ : إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا أَذًى فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا يَخْلَعُونَهَا بَلْ يَطَئُونَ بِهَا عَلَى الْأَرْضِ وَيُصَلُّونَ فِيهَا فَكَيْفَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ يَتَّخِذُ سَجَّادَةً يَفْرِشُهَا عَلَى حَصِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهَا ؟ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَفْعَلُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَيُنْقَلُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَفَرَشَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ بِحَبْسِهِ . وَقَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ هَذَا فِي مَسْجِدِنَا بِدْعَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ تَحَجَّرَ مَوْضِعًا مِنْ الْمَسْجِدِ . بِسَجَّادَةِ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . هَلْ هُوَ حَرَامٌ ؟ وَإِذَا صَلَّى إنْسَانٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ هَلْ يُكْرَهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَحَجَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ شَيْئًا لَا سَجَّادَةً يَفْرِشُهَا قَبْلَ حُضُورِهِ وَلَا بِسَاطًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ . وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لَكِنْ يَرْفَعُهَا وَيُصَلِّي مَكَانَهَا ؛ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ :
عَنْ دُخُولِ النَّصْرَانِيِّ أَوْ الْيَهُودِيِّ فِي الْمَسْجِدِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ يَتَّخِذُهُ طَرِيقًا . فَهَلْ يَجُوزُ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّخِذَ الْمَسْجِدَ طَرِيقًا فَكَيْفَ إذَا اتَّخَذَهُ الْكَافِرُ طَرِيقًا فَإِنَّ هَذَا يُمْنَعُ بِلَا رَيْبٍ .

وَأَمَّا إذَا كَانَ دَخَلَهُ ذِمِّيٌّ لِمَصْلَحَةِ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَفِي اشْتِرَاطِ إذْنِ الْمُسْلِمِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
وَسُئِلَ :
هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ فِيهِ قَبْرٌ وَالنَّاسُ تَجْتَمِعُ فِيهِ لِصَلَاتَيْ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُمَهَّدُ الْقَبْرُ أَوْ يُعْمَلُ عَلَيْهِ حَاجِزٌ أَوْ حَائِطٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُبْنَى مَسْجِدٌ عَلَى قَبْرٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ . فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } .

وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْنُ مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ . فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ قَبْلَ الدَّفْنِ غُيِّرَ : إمَّا بِتَسْوِيَةِ الْقَبْرِ وَإِمَّا بِنَبْشِهِ إنْ كَانَ جَدِيدًا . وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بُنِيَ بَعْدَ الْقَبْرِ : فَإِمَّا أَنْ يُزَالَ الْمَسْجِدُ وَإِمَّا أَنْ تُزَالَ صُورَةُ الْقَبْرِ فَالْمَسْجِدُ الَّذِي عَلَى الْقَبْرِ لَا يُصَلَّى فِيهِ فَرْضٌ وَلَا نَفْلٌ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَمَاعَةٍ نَازِلِينَ فِي الْجَامِعِ مُقِيمِينَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَأَكْلُهُمْ وَشُرْبُهُمْ وَنَوْمُهُمْ وَقُمَاشُهُمْ وَأَثَاثُهُمْ الْجَمِيعُ فِي الْجَامِعِ وَيَمْنَعُونَ مَنْ يَنْزِلُ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمْ وَحَكَرُوا الْجَامِعَ ثُمَّ إنَّ جَمَاعَةً دَخَلُوا بَعْضَ الْمَقَاصِيرِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ احْتِسَابًا فَمَنَعَهُمْ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ وَقَالَ هَذَا مَوْضِعُنَا . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَخْتَصَّ بِشَيْءِ مِنْ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْهُ دَائِمًا ؛ بَلْ قَدْ " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إيطَانٍ كَإِيطَانِ الْبَعِيرِ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَاهُ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ مَكَانًا مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي

إلَّا فِيهِ فَإِذَا كَانَ لَيْسَ لَهُ مُلَازَمَةُ مَكَانٍ بِعَيْنِهِ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ بِمَنْ يَتَحَجَّرُ بُقْعَةً دَائِمًا . هَذَا لَوْ كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ فِيهَا مَا يُبْنَى لَهُ الْمَسْجِدُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا اتَّخَذَ الْمَسْجِدَ بِمَنْزِلَةِ الْبُيُوتِ فِيهِ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَنَوْمُهُ وَسَائِرُ أَحْوَالِهِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَمْ تُبْنَ الْمَسَاجِدُ لَهُ دَائِمًا ؛ فَإِنَّ هَذَا يُمْنَعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّمَا وَقَعَتْ الرُّخْصَةُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ لِذَوِي الْحَاجَةِ مِثْلِ مَا كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ : كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مُهَاجِرًا إلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ لَهُ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ فَيُقِيمُ بِالصُّفَّةِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ أَهْلٌ أَوْ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ . وَمِثْلِ الْمِسْكِينَةِ الَّتِي كَانَتْ تَأْوِي إلَى الْمَسْجِدِ وَكَانَتْ تَقُمُّهُ . وَمِثْلِ مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ عَزَبٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ يَأْوِي إلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : لَمَّا تَقَاوَلَ هُوَ وَفَاطِمَةُ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ فَنَامَ فِيهِ . فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ وَبَيْنَ مَا يَصِيرُ عَادَةً وَيَكْثُرُ وَمَا يَكُونُ لِغَيْرِ ذَوِي الْحَاجَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا تَتَّخِذُوا الْمَسْجِدَ مَبِيتًا وَمَقِيلًا . هَذَا وَلَمْ يَفْعَلْ فِيهِ إلَّا النَّوْمُ فَكَيْفَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأُمُورِ وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الْمُعْتَكِفِ هَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِمُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ إلَّا لِحَاجَةِ وَالْأَئِمَّةُ كَرِهُوا اتِّخَاذَ الْمَقَاصِيرَ فِي الْمَسْجِدِ لَمَّا أَحْدَثَهَا بَعْضُ الْمُلُوكِ ؛ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً وَأُولَئِكَ إنَّمَا

كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا خَاصَّةً . فَأَمَّا اتِّخَاذُهَا لِلسُّكْنَى وَالْمَبِيتِ وَحِفْظِ الْقُمَاشِ وَالْمَتَاعِ فِيهَا فَمَا عَلِمْت مُسْلِمًا تَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يَجْعَلُ الْمَسْجِدَ بِمَنْزِلَةِ الْفَنَادِقِ الَّتِي فِيهَا مَسَاكِنُ مُتَحَجِّرَةٌ وَالْمَسْجِدُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ أَحَدٌ بِشَيْءِ مِنْهُ إلَّا بِمِقْدَارِ لُبْثِهِ لِلْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ فَمَنْ سَبَقَ إلَى بُقْعَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ تَعَلُّمِ عِلْمٍ أَوْ اعْتِكَافٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَقْضِيَ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَيْسَ لِأَحَدِ إقَامَتُهُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَلَكِنْ يُوَسِّعُ وَيُفْسِحُ . وَإِذَا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَكَانِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ ذَلِكَ قَالَ : " { إذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } وَأَمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمَقَامِ وَالسُّكْنَى فِيهِ كَمَا يَخْتَصُّ النَّاسُ بِمَسَاكِنِهِمْ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ مُقَامُ الْمُعْتَكِفِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ يَحْتَجِرُ لَهُ حَصِيرًا فَيَعْتَكِفُ فِيهِ وَكَانَ يَعْتَكِفُ فِي قُبَّةٍ وَكَذَلِكَ كَانَ النَّاسُ يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَيَضْرِبُونَ لَهُمْ فِيهِ الْقِبَابَ فَهَذَا مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ خَاصَّةً وَالِاعْتِكَافُ عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَيْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَالْمَشْرُوعُ لَهُ

أَنْ لَا يَشْتَغِلَ إلَّا بِقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ وَاَلَّذِي يَتَّخِذُهُ سَكَنًا لَيْسَ مُعْتَكِفًا بَلْ يَشْتَمِلُ عَلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمَشْرُوعِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوا فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ مَا بُنِيَ لَهُ الْمَسْجِدُ مِنْ صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ كَمَا فِي الِاسْتِفْتَاءِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمْنَعُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرَّاءِ وَاَلَّذِي فَعَلَهُ هَذَا الظَّالِمُ مُنْكَرٌ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا اتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ مَبِيتًا وَمَقِيلًا وَسَكَنًا كَبُيُوتِ الْخَانَاتِ وَالْفَنَادِقِ .
وَالثَّانِي مَنْعُهُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ حَيْثُ يُشْرَعُ .
وَالثَّالِثُ مَنْعُ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَإِنْ احْتَجَّ بِأَنَّ أُولَئِكَ يَقْرَءُونَ لِأَجْلِ الْوَقْفِ الْمَوْقُوف عَلَيْهِمْ وَهَذَا لَيْسَ مَنْ أَهْلِ الْوَقْفِ كَانَ هَذَا الْعُذْرُ أَقْبَحَ مِنْ الْمَنْعِ لِأَنَّ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مُحْتَسِبًا أَوْلَى بِالْمُعَاوَنَةِ مِمَّنْ يَقْرَؤُهُ لِأَجْلِ الْوَقْفِ وَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ أَنْ يُغَيِّرَ دِينَ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ وَقْفِهِ يَصِيرُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ فِي الْمَسْجِدِ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ الْوَاقِفُ أَنْ يَحْتَجِرَ بُقْعَةً مِنْ الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ وَقْفِهِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ عَيَّنَ بُقْعَةً مِنْ الْمَسْجِدِ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تَتَعَيَّنْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ كَمَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي

النَّذْرِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَعْتَكِفَ فِي بُقْعَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ تَتَعَيَّنْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ وَكَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَعْتَكِفَ فِي سَائِرِ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنْ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فَلَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةً بِدُونِ النَّذْرِ وَإِلَّا فَالنَّذْرُ لَا يَجْعَلُ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةِ عِبَادَةً وَالنَّاذِرُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُوقِفَ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ . وَفِي الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ أَوْجَبَهَا فِي الْمَشْهُورِ أَحْمَد وَلَمْ يُوجِبْهَا الثَّلَاثَةُ . وَكَذَلِكَ شَرْطُ الْوَاقِفِ وَالْبَائِعِ وَغَيْرِهِمَا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } وَهَذَا كُلُّهُ

لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُغَيِّرَ شَرِيعَتَهُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا رَسُولَهُ وَلَا يَبْتَدِعَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَا يُغَيِّرَ أَحْكَامَ الْمَسَاجِدِ عَنْ حُكْمِهَا الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْكَلَامِ وَالْمَشْيِ بِالنِّعَالِ فِي أَمَاكِنِ الصَّلَاةِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا النَّوْمُ أَحْيَانًا لِلْمُحْتَاجِ مِثْلَ الْغَرِيبِ وَالْفَقِيرِ الَّذِي لَا مَسْكَنَ لَهُ فَجَائِزٌ وَأَمَّا اتِّخَاذُهُ مَبِيتًا وَمَقِيلًا فَيَنْهَوْنَ عَنْهُ . وَأَمَّا الْكَلَامُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الْمَسْجِدِ فَحَسَنٌ وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا . وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ . وَيُكْرَهُ فِيهِ فُضُولُ الْمُبَاحِ . وَأَمَّا الْمَشْيُ بِالنِّعَالِ فَجَائِزٌ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَمْشُونَ بِنِعَالِهِمْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْظُرَ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ السِّوَاكِ وَتَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ : هَلْ هُوَ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا السِّوَاكُ فِي الْمَسْجِدِ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ كَرِهَهُ بَلْ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَسْتَاكُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَجُوزُ أَنْ يَبْصُقَ الرَّجُلُ فِي ثِيَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَمْتَخِطَ فِي ثِيَابِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ عَنْهُ بَلْ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا كَرَاهَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . فَإِذَا جَازَ الْوُضُوءُ فِيهِ مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ يَكُونُ فِيهِ السِّوَاكُ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَالصَّلَاةُ يُسْتَاكُ عِنْدَهَا فَكَيْفَ يُكْرَهُ السِّوَاكُ وَإِذَا جَازَ الْبُصَاقُ وَالِامْتِخَاطُ فِيهِ فَكَيْفَ يُكْرَهُ السِّوَاكُ . وَأَمَّا التَّسْرِيحُ : فَإِنَّمَا كَرِهَهُ بَعْضُ النَّاسِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفَصِلَ نَجِسٌ وَيُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ نَجِسٌ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَالْقَذَاةِ . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ طَاهِرٌ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَلَقَ رَأْسَهُ وَأَعْطَى نِصْفَهُ لِأَبِي طَلْحَةَ وَنِصْفَهُ قَسَمَهُ بَيْنَ النَّاسِ } . و ( بَابُ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ يُشَارِكُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أُمَّتَهُ . بَلْ الْأَصْلُ أَنَّهُ أُسْوَةٌ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا مَا قَامَ فِيهِ دَلِيلٌ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهِ . وَأَيْضًا الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ شُعُورَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ . بَلْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الشُّعُورِ طَاهِرَةٌ حَتَّى شَعْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ إذَا سَرَّحَ شَعْرَهُ وَجَمَعَ الشَّعْرَ فَلَمْ يُتْرَكْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . وَأَمَّا تَرْكُ شَعْرِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَهَذَا يُكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُصَانُ حَتَّى عَنْ الْقَذَاةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْعَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الضَّحَايَا : هَلْ يَجُوزُ ذَبْحُهَا فِي الْمَسْجِدِ ؟ وَهَلْ تُغَسَّلُ الْمَوْتَى وَتُدْفَنُ الْأَجِنَّةُ فِيهَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ تَغْيِيرُ وَقْفِهَا مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَعُودُ عَلَيْهَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْغُسْلُ ؟ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ فَمَا جَزَاءُ

مَنْ يَفْعَلُهُ وَلَا يَأْتَمِرُ بِأَمْرِ اللَّه ؟ وَلَا يَنْتَهِي عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ ؟ وَإِنْ أَفْتَاهُ عَالِمٌ سَبَّهُ . وَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ زَجْرُهُ وَمَنْعُهُ وَإِعَادَةُ الْوَقْفِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ أَنْ يُذْبَحَ فِي الْمَسْجِدِ : لَا ضَحَايَا وَلَا غَيْرُهَا كَيْفَ وَالْمَجْزَرَةُ الْمُعَدَّةُ لِلذَّبْحِ قَدْ كُرِهَ الصَّلَاةُ فِيهَا إمَّا كَرَاهِيَةُ تَحْرِيمٍ وَإِمَّا كَرَاهِيَةُ تَنْزِيهٍ ؛ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمَسْجِدُ مُشَابِهًا لِلْمَجْزَرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ تَلْوِيثِ الدَّمِ لِلْمَسْجِدِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَنُ فِي الْمَسْجِدِ مَيِّتٌ : لَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا جَنِينٌ وَلَا غَيْرُهُ . فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَا يَجُورُ تَشْبِيهُهَا بِالْمَقَابِرِ . وَأَمَّا تَغْيِيرُ الْوَقْفِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ ؛ فَلَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ فِيهَا . وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَفِي كَرَاهَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ امْتِخَاطٌ أَوْ بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْبُصَاقَ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا فَكَيْفَ بِالْمُخَاطِ . وَمَنْ لَمْ يَأْتَمِرْ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَيَنْتَهِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ؛ بَلْ يَرُدُّ عَلَى الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تُوجِبُ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ أَدَاءَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ .

وَلَا تُغَسَّلُ الْمَوْتَى فِي الْمَسْجِدِ وَإِذَا أَحْدَثَ فِي الْمَسْجِدِ مَا يَضُرُّ بِالْمُصَلِّينَ أُزِيلَ مَا يَضُرُّهُمْ وَعُمِلَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ إمَّا إعَادَتُهُ إلَى الصِّفَةِ الْأُولَى أَوْ أَصْلَحَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ : هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْبَيَاتُ فِي الْمَسْجِدِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يُصَانُ الْمَسْجِدُ عَمَّا يُؤْذِيهِ وَيُؤْذِي الْمُصَلِّينَ فِيهِ حَتَّى رَفْعُ الصِّبْيَانِ أَصْوَاتَهُمْ فِيهِ وَكَذَلِكَ تَوْسِيخُهُمْ لِحُصْرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ وَقْتَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ الْمُنْكَرَاتِ . وَأَمَّا الْمَبِيتُ فِيهِ : فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةِ كَالْغَرِيبِ الَّذِي لَا أَهْلَ لَهُ وَالْغَرِيبِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا بَيْتَ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَبِيتُ فِيهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ فَلَا بَأْسَ وَأَمَّا مَنْ اتَّخَذَهُ مَبِيتًا وَمَقِيلًا فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَسْجِدٍ يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَالتَّلْقِينُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً ثُمَّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ شُهُودٌ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ وَيَقَعُ التَّشْوِيشُ عَلَى الْقُرَّاءِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ . أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُؤْذِيَ أَهْلَ الْمَسْجِدِ : أَهْلَ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الدُّعَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لَهُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا عَلَى بَابِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ مَا يُشَوِّشُ عَلَى هَؤُلَاءِ . بَلْ قَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَيَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ . فَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ } . فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى الْمُصَلِّيَ أَنْ يَجْهَرَ عَلَى الْمُصَلِّي فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ وَمَنْ فَعَلَ مَا يُشَوِّشُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ أَوْ فَعَلَ مَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ السُّؤَالِ فِي الْجَامِعِ : هَلْ هُوَ حَلَالٌ ؟ أَمْ حَرَامٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ وَأَنَّ تَرْكَهُ أَوْجَبُ مِنْ فِعْلِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَصْلُ السُّؤَالِ مُحَرَّمٌ فِي الْمَسْجِدِ وَخَارِجَ الْمَسْجِدِ إلَّا لِضَرُورَةِ فَإِنْ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ وَسَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا بِتَخَطِّيهِ رِقَابَ النَّاسِ وَلَا غَيْرِ تَخَطِّيهِ وَلَمْ يَكْذِبْ فِيمَا يَرْوِيهِ وَيَذْكُرُ مِنْ حَالِهِ وَلَمْ يَجْهَرْ جَهْرًا يَضُرُّ النَّاسَ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ أَوْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ عِلْمًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ جَازَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي " اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ " وَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ وَالْعَيْنِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } إلَى قَوْلِهِ { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وَشَطْرُهُ : نَحْوُهُ وَتِلْقَاؤُهُ كَمَا قَالَ : أَقِيمِي أُمَّ زنباع أَقِيمِي صُدُورَ الْعِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ وَقَالَ : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } و " الوجهة " هِيَ الْجِهَةُ كَمَا فِي عِدَةٍ وَزِنَةٍ . أَصْلُهَا : وعدة وَوِزْنَةٌ . فَالْقِبْلَةُ هِيَ الَّتِي تُسْتَقْبَلُ والوجهة هِيَ الَّتِي يُوَلِّيهَا . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُوَلِّيَ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ و " { الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } " هُوَ الْحَرَمُ كُلُّهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْكَعْبَةِ وَهَذَا يُحَقِّقُ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ : " الْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةُ مَكَّةَ وَمَكَّةُ قِبْلَةُ الْحَرَمِ وَالْحَرَمُ قِبْلَةُ الْأَرْضِ " وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ صَلَّى فِي قِبْلَةِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ : هَذِهِ الْقِبْلَةُ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطِ وَلَا بَوْلٍ ؛ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا ؛ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا } " فَنَهَى عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِغَائِطِ أَوْ بَوْلٍ وَأَمَرَ بِاسْتِقْبَالِهَا فِي الصَّلَاةِ فَالْقِبْلَةُ الَّتِي نَهَى عَنْ اسْتِقْبَالِهَا

وَاسْتِدْبَارِهَا بِالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِاسْتِقْبَالِهَا فِي الصَّلَاةِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ } " قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : مِثْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ . وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ ؛ وَهَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ . وَقَدْ حَكَى مُتَأَخِّرُو الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقَدْ تَأَمَّلْت نُصُوصَ أَحْمَد فِي هَذَا الْبَابِ فَوَجَدْتهَا مُتَّفِقَةً لَا اخْتِلَافَ فِيهَا وَكَذَلِكَ يَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَيْسَ بِخِلَافِ ؛ بَلْ مَنْ قَالَ : يَجْتَهِدُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ أَوْ فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ فَقَدْ أَصَابَ . وَمَنْ قَالَ : يَجْتَهِدُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ أَوْ فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فَقَدْ أَصَابَ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ شَاهَدَ الْكَعْبَةَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي إلَيْهَا . وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا قَرُبَ الْمُصَلُّونَ إلَيْهَا كَانَ صَفُّهُمْ أَقْصَرَ مِنْ الْبَعِيدِينَ عَنْهَا . وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَا يُسْتَقْبَلُ . فَالصَّفُّ الْقَرِيبُ مِنْهَا لَا يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ . وَلَوْ زَادَ

لَكَانَ الزَّائِدُ مُصَلِّيًا إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ . وَالصَّفُّ الَّذِي خَلْفَهُ يَكُونُ أَطْوَلَ مِنْهُ وَهَلُمَّ جَرَّا . فَإِذَا كَانَتْ الصُّفُوفُ تَحْتَ سَقَائِفِ الْمَسْجِدِ كَانَتْ مُنْحَنِيَةً بِقَدْرِ مَا يَسْتَقْبِلُونَ الْكَعْبَةَ وَهُمْ يُصَلُّونَ إلَيْهَا وَإِلَى جِهَتِهَا أَيْضًا فَإِذَا بَعُدَ النَّاسُ عَنْهَا كَانُوا مُصَلِّينَ إلَى جِهَتِهَا وَهُمْ مُصَلُّونَ إلَيْهَا أَيْضًا وَلَوْ كَانَ الصَّفُّ طَوِيلًا يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الصَّفُّ مُسْتَقِيمًا حَيْثُ لَمْ يُشَاهِدُوهَا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ سَارَ مِنْ الصُّفُوفِ عَلَى خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ إلَيْهَا لَكَانَ مَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِهَا خَارِجًا عَنْ مَسَافَتِهَا . فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْفَرْضَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُصَلِّي الصَّلَاةَ فِي مَكَانٍ لَوْ سَارَ عَلَى خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ وَصَلَ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ . وَمَنْ فَسَّرَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ إلَى الْعَيْنِ بِهَذَا وَأَوْجَبَ هَذَا فَقَدَ أَخْطَأَ وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ قَائِلٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ ؛ بَلْ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ . فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الصَّفِّ الْمُسْتَطِيلِ الَّذِي يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى سَمْتِ الْكَعْبَةِ بِأَضْعَافِ مُضَاعَفَةٍ وَإِنْ كَانَ الصَّفُّ مُسْتَقِيمًا لَا انْحِنَاءَ فِيهِ وَلَا تَقَوُّسَ . فَإِنْ قِيلَ : مَعَ الْبُعْدِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الِانْحِنَاءِ وَالتَّقَوُّسِ كَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْقُرْبِ كَمَا أَنَّ النَّاسَ إذَا اسْتَقْبَلُوا الْهِلَالَ أَوْ الشَّمْسَ أَوْ جَبَلًا مِنْ الْجِبَالِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَهُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا لَمْ يَسْتَقْبِلُوهُ

إلَّا مَعَ الْقِلَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ قِيلَ : لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ الِانْحِنَاءُ وَالتَّقَوُّسُ فِي الْبُعْدِ بِقَدْرِ الِانْحِنَاءِ وَالتَّقَوُّسِ فِي الْقُرْبِ ؛ بَلْ كُلَّمَا زَادَ الْبُعْدُ قَلَّ الِانْحِنَاءُ وَكُلَّمَا قَرُبَ كَثُرَ الِانْحِنَاءُ حَتَّى يَكُونَ أَعْظَمُ النَّاسِ انْحِنَاءً وَتَقَوُّسًا الصَّفُّ الَّذِي يَلِي الْكَعْبَةَ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَوُّسِ وَالِانْحِنَاءِ فِي الْبُعْدِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا خَطٌّ مُسْتَقِيمٌ بِحَيْثُ لَوْ مَشَى إلَيْهِ لَوَصَلَ إلَيْهَا ؛ لَكِنْ يَكُونُ التَّقَوُّسُ شَيْئًا يَسِيرًا جِدًّا كَمَا قِيلَ إنَّهُ إذَا قُدِّرَ الصَّفُّ مِيلًا وَهُوَ مَثَلًا فِي الشَّامِ كَانَ الِانْحِنَاءُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ شَعِيرَةٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مَنْ نَصَّ [ عَلَى ] (1) وُجُوبِ اسْتِقْبَالِ الْعَيْنِ وَقَالَ : إنَّ مِثْلَ هَذَا التَّقَوُّسِ الْيَسِيرِ يُعْفَى عَنْهُ . فَيُقَالُ لَهُ : فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا : إنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ وَهُوَ الْعَفْوُ عَنْ وُجُوبِ تَحَرِّي مِثْلِ هَذَا التَّقَوُّسِ وَالِانْحِنَاءِ فَصَارَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ صَلَّى إلَى جِهَتِهَا فَهُوَ مُصَلٍّ إلَى عَيْنِهَا وَإِنْ كَانَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى مِثْلَ هَذَا . وَلَا يُقَالُ لِمَنْ صَلَّى كَذَلِكَ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الْبَاطِنِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ؛ بَلْ هَذَا مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهَذَا هُوَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بَنَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَاجِدَ الْأَمْصَارِ كَانَ فِي بَعْضِهَا مَا لَوْ خَرَجَ مِنْهُ خَطٌّ مُسْتَقِيمٌ إلَى الْكَعْبَةِ لَكَانَ مُنْحَرِفًا وَكَانَتْ صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .

وَبِهَذَا يَظْهَرُ حَقِيقَةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ مَنْ قَرُبَ مِنْهَا أَوْ مِنْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى خَطَأٍ . فَيُقَالُ : هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ تَكُونُ خَطَأً وَإِنَّمَا تَكُونُ خَطَأً لَوْ كَانَ الْفَرْضُ أَنْ يَتَحَرَّى اسْتِقْبَالَ خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ بَيْنَ وَسَطِ أَنْفِهِ وَبَيْنَهَا ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ إذَا وَقَفَ النَّاسُ يَوْمَ الْعَاشِرِ خَطَأً أَجْزَأَهُمْ فَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَلَا خَطَأَ فِي ذَلِكَ ؛ بَلْ يَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَعْرِفُ فِيهِ النَّاسُ وَالْهِلَالُ إنَّمَا يَكُونُ هِلَالًا إذَا اسْتَهَلَّهُ النَّاسُ وَإِذَا طَلَعَ وَلَمْ يَسْتَهِلُّوهُ فَلَيْسَ بِهِلَالِ ؛ مَعَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْهِلَالِ مَشْهُورٌ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَطْلُعُ وَإِنْ لَمْ يُسْتَهَلَّ بِهِ ؟ أَوْ لِمَا يُسْتَهَلُّ بِهِ ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ بِخِلَافِ النِّزَاعِ فِي اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِأَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَرَّى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَسَطِ أَنْفِهِ وَجَبْهَتِهِ وَبَيْنَهَا خَطٌّ مُسْتَقِيمٌ قِيلَ فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ يُعْلَمُ بِهَا ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا إلَّا وَقَدْ نَصَبَ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ دَلِيلًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَاصَّةُ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ وَمَعَ كَثْرَةِ الْخَطَأِ فِي ذَلِكَ وَوُجُوبُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عَامٌّ

لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ الْوَاجِبُ خَفِيًّا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِطَرِيقِ طَوِيلَةٍ صَعْبَةٍ مَخُوفَةٍ مَعَ تَعَذُّرِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ أَوْ تَعَسُّرِهِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ . وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ سَلَكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَ يَتَكَلَّمُونَ بِلَا عِلْمٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ الْمَشْهُورُ لَهُمْ الْجَدْيُ وَالْقُطْبُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْقُطْبُ هُوَ الْجَدْيُ وَهُوَ كَوْكَبٌ خَفِيٌّ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ؛ فَإِنَّ الْقُطْبَ لَيْسَ هُوَ الْجَدْيَ وَالْجَدْيُ لَيْسَ بِكَوْكَبِ خَفِيٍّ ؛ بَلْ كَوْكَبٌ نَيِّرٌ وَالْقُطْبُ لَيْسَ أَيْضًا كَوْكَبًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْجَدْيُ هُوَ كَوْكَبٌ خَفِيٌّ وَهُوَ خَطَأٌ . وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ الْقُطْبُ كَوْكَبٌ خَفِيٌّ وَيَحْكُونَ قَوْلَيْنِ فِي الْقُطْبِ هَلْ يَدُورُ أَوْ لَا يَدُورُ ؟ وَهَذَا تَخْلِيطٌ ؛ فَإِنَّ الْقُطْبَ الَّذِي هُوَ مَرْكَزُ الْحَرَكَةِ لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ مَوْضِعِهِ كَمَا أَنَّ قُطْبَ الرَّحَى لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ مَوْضِعِهِ . وَلَكِنْ هُنَاكَ كَوْكَبٌ صَغِيرٌ خَفِيٌّ قَرِيبٌ مِنْهُ . وَهَذَا إذَا سُمِّيَ قُطْبًا كَانَ تَسْمِيَتُهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَقْرَبَ الْكَوَاكِبِ إلَى الْقُطْبِ وَهَذَا يَدُورُ ؛ فَالْكَوَاكِبُ تَدُورُ بِلَا رَيْبٍ وَمَدَارُ الْحَرَكَةِ الَّذِي هُوَ قُطْبُهَا لَا يَدُورُ بِلَا رَيْبٍ فَحِكَايَةُ قَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَالدَّلِيلُ الظَّاهِرُ هُوَ الْجَدْيُ . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الْعَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ؛ لَا فِي جَمِيعِهَا ؛ فَإِنَّ الْقُطْبَ إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ عِنْدَ تَنَاهِي قِصَرِ الظِّلَالِ يَكُونُ الْقُطْبُ مُحَاذِيًا لِلرُّكْنِ الشَّامِيِّ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي يَكُونُ عَنْ

يَمِينِ الْمُسْتَقْبِلِ لِلْبَابِ فَمَنْ كَانَ بَلَدُهُ مُحَاذِيًا لِهَذَا الْقُطْبِ كَأَهْلِ حَرَّانَ وَنَحْوِهِمْ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ إلَى الرُّكْنِ . وَلِهَذَا يُقَالُ أَعْدَلُ الْقِبَلِ قِبْلَتُهُمْ . وَمَنْ كَانَ بَلَدُهُ غَرْبِيَّ هَؤُلَاءِ - كَأَهْلِ الشَّامِ - فَإِنَّهُمْ يَمِيلُونَ إلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ قَلِيلًا بِقَدْرِ بُعْدِهِمْ عَنْ هَذَا الْخَطِّ فَكُلَّمَا بَعُدُوا ازْدَادُوا فِي الِانْحِرَافِ وَمَنْ كَانَ شَرْقِيَّ هَؤُلَاءِ - كَأَهْلِ الْعِرَاقِ - كَانَتْ قِبْلَتُهُ بِالْعَكْسِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ يَجْعَلُونَ الْقُطْبَ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ خَلْفَ أَقْفَائِهِمْ وَأَهْلُ الشَّامِ يَمِيلُونَ قَلِيلًا فَيَجْعَلُونَ مَا بَيْنَ الْأُذُنِ الْيُسْرَى وَنَقْرَةِ الْقَفَا أَوْ خَلْفَ الْأُذُنِ الْيُسْرَى بِحَسَبِ قُرْبِ الْبَلَدِ وَبُعْدِهِ عَنْ هَؤُلَاءِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ خَلْفَ الْأُذُنِ الْيُمْنَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ لَمْ يَأْمُرُوا أَحَدًا بِمُرَاعَاةِ الْقُطْبِ وَلَا مَا قَرُبَ مِنْهُ وَلَا الْجَدْيُ وَلَا بَنَاتُ نَعْشٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى مَنْ أَمَرَ بِمُرَاعَاةِ ذَلِكَ وَأَمَرَ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْقِبْلَةُ بِالْجَدْيِ وَقَالَ : لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْجَدْيِ ؛ وَلَكِنْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ تَحْدِيدُ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا لَكَانَ الصَّحَابَةُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَإِلَيْهِ أَسْبَقُ وَلَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَدَعْ مِنْ الدِّينِ شَيْئًا إلَّا بَيَّنَهُ فَكَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ وَنَهَى عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا بِغَائِطِ أَوْ بَوْلٍ وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ

الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُتَخَلِّي وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ خَطٌّ مُسْتَقِيمٌ : بَلْ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَمْرٌ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي حَالٍ كَمَا نُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِهَا فِي حَالٍ . وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ قَدْ يَتَنَاوَلُ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ لَكِنَّ هَذَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ : " مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ " . وَأَيْضًا فَإِنَّ تَعْلِيقَ الدِّينِ بِذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَنَازُعِ الْأُمَّةِ وَاخْتِلَافِهَا فِي دِينِهَا وَاَللَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ ؛ فَإِنَّ جَمَاهِيرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ تَحْدِيدًا : وَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُقَلِّدُونَ لِمَنْ قَرَّبَ ذَلِكَ . فَالتَّحْدِيدُ فِي هَذَا مُتَعَذَّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ وَمِثْلُ هَذَا لَا تَرِدُ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَاَلَّذِينَ يَدَّعُونَ الْحِسَابَ وَمَعْرِفَةَ ذَلِكَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا هُوَ خَطَأٌ وَبِمَا إذَا طُولِبُوا بِدَلِيلِهِ رَجَعُوا إلَى مُقَدِّمَاتٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ وَأَخْبَارِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِخَبَرِهِ . وَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ هُمْ تَلَقَّوْهُ عَنْ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يُحَكِّمُوهُ فَصَارَ مَرْجِعُ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ إلَى تَقْلِيدٍ يَتَضَمَّنُ خَطَأً فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِيعِ ثُمَّ يَدَّعِي هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ الَّتِي عَيَّنَهَا هِيَ الصَّوَابُ دُونَ مَا عَيَّنَهُ الْآخَرُ وَيَدَّعِي الْآخَرُ ضِدَّ ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ أَحْزَابًا وَفِرَقًا وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَدْخَلُوا فِي دِينِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَشَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْبِدْعَةِ الَّتِي شَرَعُوهَا ؛ لِأَنَّهَا

لَا ضَابِطَ لَهَا كَمَا يَخْتَلِفُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْلَمُوا طُلُوعَ الْهِلَالِ بِالْحِسَابِ أَوْ طُلُوعَ الْفَجْرِ بِالْحِسَابِ وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ حِسَابِيٌّ مُطَّرِدٌ ؛ بَلْ ذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ مُخْتَلِفٌ فَهَؤُلَاءِ أَعْرَضُوا عَنْ الدِّينِ الْوَاسِعِ وَالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَدَخَلُوا فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْجَهْلِ وَالْبِدَعِ مَعَ دَعْوَاهُمْ الْعِلْمَ وَالْحِذْقَ كَذَلِكَ يَفْعَلُ اللَّهُ بِمَنْ خَرَجَ عَنْ الْمَشْرُوعِ إلَى الْبِدَعِ وَتَنَطَّعَ فِي الدِّينِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ } قَالَهَا ثَلَاثًا وَرَوَاهُ أَيْضًا أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَقَالَ : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } أَيْ مُسْتَقْبِلُهَا . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَذِهِ الْقِبْلَةُ } وَالْقِبْلَةُ مَا يُسْتَقْبَلُ وَقَالَ : { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا } . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ فَالْمَأْمُورُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ لِلْقِبْلَةِ وَتَوْلِيَةُ الْوَجْهِ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَيُنْظَرُ هَلْ الِاسْتِقْبَالُ وَتَوْلِيَةُ الْوَجْهِ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ وَسَطَ وَجْهِهِ مُسْتَقْبِلًا

لَهَا - كَوَسَطِ الْأَنْفِ وَمَا يُحَاذِيهِ مِنْ الْجَبْهَةِ وَالذَّقَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . أَوْ يَكُونَ الشَّخْصُ مُسْتَقْبِلًا لِمَا يَسْتَقْبِلُهُ إذَا وَجَّهَ إلَيْهِ وَجْهَهُ وَإِنْ لَمْ يُحَاذِهِ بِوَسَطِ وَجْهِهِ . فَهَذَا أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ قَدْ سُنَّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْخَطِيبَ بِوُجُوهِهِمْ وَنُهُوا عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِغَائِطِ أَوْ بَوْلٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِقْبَالُ بِوَسَطِ الْوَجْهِ وَالْبَدَنِ ؛ بَلْ لَوْ كَانَ مُنْحَرِفًا انْحِرَافًا يَسِيرًا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الِاسْتِقْبَالِ . وَالِاسْمُ إنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ رُجِعَ إلَيْهِ وَإِلَّا رُجِعَ إلَى حَدِّهِ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَالِاسْتِقْبَالُ هُنَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَاللُّغَةُ وَالْعُرْفُ . وَأَمَّا الشَّارِعُ فَقَالَ : { مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَنَحْوِهِمَا إذَا جَعَلَ الْمَشْرِقَ عَنْ يَسَارِهِ وَالْمَغْرِبَ عَنْ يَمِينِهِ فَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ لِلْكَعْبَةِ بِبَدَنِهِ ؛ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ وَجْهِهِ خَطٌّ مُسْتَقِيمٌ إلَى الْكَعْبَةِ وَمِنْ صَدْرِهِ وَبَطْنِهِ ؛ لَكِنْ قَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخَطُّ مِنْ وَسَطِ وَجْهِهِ وَصَدْرِهِ . فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ بِالْوَجْهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَخْتَصَّ بِوَسَطِهِ فَقَطْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهَلْ مَحَلُّ ذَلِكَ الْقَلْبُ ؟ أَمْ اللِّسَانُ ؟ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ نَجْهَرَ بِالنِّيَّةِ ؟ أَوْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ ؟ أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . أَوْ غَيْرُهَا ؟ أَوْ قَالَ : إنَّ صَلَاةَ الْجَاهِرِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْخَافِتِ . إمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا وَهَلْ التَّلَفُّظُ بِهَا وَاجِبٌ أَمْ لَا ؟ أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : إنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالنِّيَّةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ؟ . وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا ؟ وَمَا السُّنَّةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ؟ وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الْجَهْرِ بِهَا مُعْتَقِدًا أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ : فَهَلْ هُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْتَهِ ؟ وَأَبْسِطُوا لَنَا الْجَوَابَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ

الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ : الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالْعِتْقِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَوْ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ بِخِلَافِ مَا نَوَى فِي قَلْبِهِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا نَوَى بِقَلْبِهِ لَا بِاللَّفْظِ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ تَحْصُلْ النِّيَّةُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُجْزِئْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ النِّيَّةَ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْقَصْدِ ؛ وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ نَوَاك اللَّهُ بِخَيْرِ : أَيْ قَصَدَك بِخَيْرِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } مُرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّيَّةِ النِّيَّةُ الَّتِي فِي الْقَلْبِ ؛ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَسَبَبُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ سَبَبَهُ أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا : أُمُّ قَيْسٍ فَسُمِّيَ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ . فَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ . وَهَذَا كَانَ نِيَّتُهُ فِي قَلْبِهِ . وَالْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ الْجَاهِرُ بِالنِّيَّةِ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مِنْ الشَّرْعِ : فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ وَإِلَّا الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَصَرَّ

عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ وَالْبَيَانِ لَهُ لَا سِيَّمَا إذَا آذَى مَنْ إلَى جَانِبِهِ بِرَفْعِ صَوْتِهِ أَوْ كَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّ صَلَاةَ الْجَاهِرِ بِالنِّيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْخَافِتِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا . وَأَمَّا التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا فَلَا يَجِبُ أَيْضًا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ لَا فِي طَهَارَةٍ وَلَا فِي صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا حَجٍّ . وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ : أُصَلِّي الصُّبْحَ وَلَا أُصَلِّي الظُّهْرَ وَلَا الْعَصْرَ وَلَا إمَامًا وَلَا مَأْمُومًا وَلَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ : فَرْضًا وَلَا نَفْلًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَكْفِي فِي أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الْقُلُوبِ . وَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءِ يَكْفِي فِيهِ نِيَّةُ الْقَلْبِ . وَكَذَلِكَ نِيَّةُ الصِّيَامِ فِي رَمَضَانَ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : أَنَا صَائِمٌ غَدًا . بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ يَكْفِيهِ نِيَّةُ قَلْبِهِ . وَالنِّيَّةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ فَمَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ فَإِذَا عَلِمَ الْمُسْلِمُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ مِمَّنْ يَصُومُ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ

أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ غَدًا الْعِيدَ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ . وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ : فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْقَائِمَةَ صَلَاةُ الْفَجْرِ أَوْ الظُّهْرِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْفَجْرِ أَوْ الظُّهْرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَنْوِي تِلْكَ الصَّلَاةَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا الْفَجْرُ وَيَنْوِي الظُّهْرَ . وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ وَالنِّيَّةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ وَالِاعْتِقَادَ اتِّبَاعًا ضَرُورِيًّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ . فَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ صَلَاةُ الظُّهْرِ امْتَنَعَ أَنْ يَقْصِدَ غَيْرَهَا وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ خَرَجَ فَنَوَى الصَّلَاةَ بَعْدَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا فِي الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ الصَّلَاةُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ - أَيِّ جِنَازَةٍ كَانَتْ - فَظَنَّهَا رَجُلًا وَكَانَتْ امْرَأَةً صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ مَا نَوَى . وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُهُ فُلَانًا وَصَلَّى عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فُلَانٌ فَتَبَيَّنَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ هُنَا لَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ عَلَى ذَلِكَ الْحَاضِرِ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ : وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ خَرَّجَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِوُجُوبِ ذَلِكَ وَغَلَّطَهُ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ غَلَطُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ فِي أَوَّلِهَا فَظَنَّ هَذَا الغالط أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ النُّطْقَ بِالنِّيَّةِ فَغَلَّطَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ جَمِيعُهُمْ وَقَالُوا : إنَّمَا أَرَادَ النُّطْقَ بِالتَّكْبِيرِ لَا بِالنِّيَّةِ . وَلَكِنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ ؟ أَمْ لَا ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْفُقَهَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّ التَّلَفُّظَ بِهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقَالُوا : التَّلَفُّظُ بِهَا أَوْكَدُ وَاسْتَحَبُّوا التَّلَفُّظَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَحِبَّ التَّلَفُّظَ بِهَا كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد سُئِلَ تَقُولُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا ؟ قَالَ : لَا . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ يَتَلَفَّظُ بِالنِّيَّةِ لَا فِي الطَّهَارَةِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الصِّيَامِ وَلَا فِي الْحَجِّ . وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَلَا خُلَفَاؤُهُ وَلَا أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ بَلْ قَالَ لِمَنْ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ : كَبِّرْ ؛ كَمَا فِي

الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَلَمْ يَتَلَفَّظْ قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِنِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا وَلَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ . وَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ إنَّمَا كَانَ يَسْتَفْتِحُ الْإِحْرَامَ بِالتَّلْبِيَةِ وَشَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُلَبُّوا فِي أَوَّلِ الْحَجِّ { وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لضباعة بِنْتِ الزُّبَيْرِ : حُجِّي وَاشْتَرِطِي فَقُولِي : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَمَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي } فَأَمَرَهَا أَنْ تَشْتَرِطَ بَعْدَ التَّلْبِيَةِ . وَلَمْ يَشْرَعْ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ شَيْئًا . لَا يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ وَلَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَا يَقُولُ : فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي وَلَا يَقُولُ : نَوَيْتُهُمَا جَمِيعًا وَلَا يَقُولُ : أَحْرَمْتُ لِلَّهِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا . وَلَا يَقُولُ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ شَيْئًا بَلْ جَعَلَ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ . وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ : فُلَانٌ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ؛ أَوْ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا . كَمَا يُقَالُ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ وَالْإِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَكَانَ يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ : { لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَةً } يَنْوِي مَا يُرِيدُ أَنْ

يَفْعَلَهُ بَعْدَ التَّلْبِيَةِ ؛ لَا قَبْلَهَا . وَجَمِيعُ مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ مِنْ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ وَقَبْلَ التَّلْبِيَةِ وَفِي الطَّهَارَةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَهِيَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكُلُّ مَا يَحْدُثُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ الزِّيَادَاتِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ بِدْعَةٌ بَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَاوِمُ فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى تَرْكِهَا فَفِعْلُهَا وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ مُسْتَحَبٌّ أَيْ يَكُونُ فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ فَيَبْقَى حَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَا فَعَلْنَاهُ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِمَّا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ فَقَالَ : " أَخَافُ عَلَيْك الْفِتْنَةَ فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : أَيُّ فِتْنَةٍ فِي ذَلِكَ ؟ وَإِنَّمَا زِيَادَةُ أَمْيَالٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ : وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ فِي نَفْسِك أَنَّك خُصِصْت بِفَضْلِ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } فَأَيُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ سُنَّةً أَفْضَلُ مِنْ سُنَّتِي فَرَغِبَ عَمَّا [ سَنَنْته ] (1) مُعْتَقِدًا

أَنَّ مَا رَغِبَ فِيهِ أَفْضَلُ مِمَّا رَغِبَ عَنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ؛ لِأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصحيح عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ هَدْيَ غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ هَدْيِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ مَفْتُونٌ ؛ بَلْ ضَالٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - إجْلَالًا لَهُ وَتَثْبِيتًا لِحَجَّتِهِ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً - { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أَيْ : وَجِيعٌ . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّبَاعِهِ وَأَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبَ مَا أَوْجَبَهُ وَاسْتِحْبَابَ مَا أَحَبَّهُ . وَأَنَّهُ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ هَذَا فَقَدْ عَصَى أَمْرَهُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ - قَالَهَا ثَلَاثًا - } أَيْ الْمُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ ؛ وَقَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ . وَلَا يَحْتَجُّ مُحْتَجٌّ بِجَمْعِ التَّرَاوِيحِ وَيَقُولُ : " نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ " فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِكَوْنِهِمْ فَعَلُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ هَذِهِ وَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ . وَهَكَذَا إخْرَاجُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمِصْرِ الْأَمْصَارِ كَالْكُوفَةِ

وَالْبَصْرَةِ وَجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ وَفَرْضِ الدِّيوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَقِيَامُ رَمَضَانَ سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ وَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً عِدَّةَ لَيَالٍ وَكَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً وَفُرَادَى لَكِنْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَى جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لِئَلَّا يَفْتَرِضَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ . فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَهُمْ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ وَاَلَّذِي جَمَعَهُمْ أبي بْنُ كَعْبٍ جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعُمَرَ هُوَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حَيْثُ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ } يَعْنِي الْأَضْرَاسَ ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فِي الْقُوَّةِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ فَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ " فَأَيُّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ لَا تُجْزِئُ الْمُسَافِرَ كَفَرَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : مِنْ حَيْثُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى خِلَافِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ فِي زِيَادَتِهِ خَيْرًا كَمَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْعِيدَيْنِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا

لَوْ صَلَّى عَقِيبَ السَّعْيِ رَكْعَتَيْنِ قِيَاسًا عَلَى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَقَدْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي الْحَاجِّ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَنْ يَسْتَفْتِحَ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَخَالَفُوا الْأَئِمَّةَ وَالسُّنَّةَ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ الْمُحْرِمُ بِالطَّوَافِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ ؛ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ الَّذِي يُرِيدُ الصَّلَاةَ فِيهِ دُونَ الطَّوَافِ فَهَذَا إذَا صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَحَسَنٌ . وَفِي الْجُمْلَةِ : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْمَلَ اللَّهُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ بِهِ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ فَمَنْ جَعَلَ عَمَلًا وَاجِبًا مِمَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ [ مَكْرُوهًا ] (1) لَمْ يَكْرَهْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ غَالِطٌ . فَإِجْمَاعُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا وَهَذَا فَقَدْ دَخَلَ فِي حَرْبٍ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَحَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِرَسُولِهِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ السُّورِ حَيْثُ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . فَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَذَمَّهُمْ اللَّهُ وَعَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ . فَلِهَذَا كَانَ دِينُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ : الْإِيجَابُ

وَالِاسْتِحْبَابُ وَالتَّحْلِيلُ وَالْكَرَاهِيَةُ وَالتَّحْرِيمُ لَا يُؤْخَذُ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا حَلَالَ إلَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَمِنْ ذَلِكَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَمِنْهُ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . فَمَنْ تَكَلَّمَ بِجَهْلِ وَبِمَا يُخَالِفُ الْأَئِمَّةَ فَإِنَّهُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيُؤَدَّبُ عَلَى الْإِصْرَارِ كَمَا يُفْعَلُ بِأَمْثَالِهِ مِنْ الْجُهَّالِ وَلَا يُقْتَدَى فِي خِلَافِ الشَّرِيعَةِ بِأَحَدِ مِنْ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا عَنْهُ الْعِلْمُ . كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : لَا تَنْظُرُ إلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ وَلَكِنْ سَلْهُ يُصَدِّقْك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَخْرُجُ مَنْ بَيْتِهِ نَاوِيًا الطَّهَارَةَ أَوْ الصَّلَاةَ . هَلْ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ غَيْرِ هَذِهِ عِنْدَ فِعْلِ الطَّهَارَةِ أَوْ الصَّلَاةِ ؟ أَوْ لَا ؟ وَهَلْ التَّلَفُّظُ

بِالنِّيَّةِ سُنَّةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ لِلصَّلَاةِ هَلْ يَنْوِي حِينَ الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : قَدْ نَوَى حِينَ خَرَجَ وَلِهَذَا قَالَ أَكَابِرُ أَصْحَابِهِ - كالخرقي وَغَيْرِهِ - يُجْزِئُهُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ مِنْ حِينِ يَدْخُلُ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَ مُسْتَحْضِرًا لِلنِّيَّةِ إلَى حِينِ الصَّلَاةِ أَجْزَأَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَإِنَّ النِّيَّةَ لَا يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَمَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ أَنَّ مَنْ كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ نَوَى الظُّهْرَ فَمَتَى عَلِمَ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ نَوَاهُ بِالضَّرُورَةِ وَلَكِنْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْ نَسِيَ شَذَّتْ عَنْهُ النِّيَّةُ وَهَذَا نَادِرٌ وَالتَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ فِي اسْتِحْبَابِهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ . قَالَ أَبُو دَاوُد قُلْت لِأَحْمَد : يَقُولُ الْمُصَلِّي قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا ؟ قَالَ : لَا .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ ؟ وَالْمَسْئُولُ أَنْ يُوَضِّحَ لَنَا كَيْفِيَّةَ مُقَارَنَتِهَا لِلتَّكْبِيرِ كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا

بِمُقَارَنَتِهَا التَّكْبِيرَ . وَهَذَا يَعْسُرُ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مُقَارَنَتُهَا التَّكْبِيرَ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ . . . (1) .
وَالْمُقَارَنَةُ الْمَشْرُوطَةُ : قَدْ تُفَسَّرُ بِوُقُوعِ التَّكْبِيرِ عَقِيبَ النِّيَّةِ وَهَذَا مُمْكِنٌ لَا صُعُوبَةَ فِيهِ بَلْ عَامَّةُ النَّاسِ إنَّمَا يُصَلُّونَ هَكَذَا وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَوْ كُلِّفُوا تَرْكَهُ لَعَجَزُوا عَنْهُ . وَقَدْ تُفَسَّرُ بِانْبِسَاطِ آخِرِ النِّيَّةِ عَلَى آخِرِ التَّكْبِيرِ . بِحَيْثُ يَكُونُ أَوَّلُهَا مَعَ أَوَّلِهِ وَآخِرُهَا مَعَ آخِرِهِ . وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي عُزُوبَ كَمَالِ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَخُلُوَّ أَوَّلِ الصَّلَاةِ عَنْ النِّيَّةِ الْوَاجِبَةِ . وَقَدْ تُفَسَّرُ بِحُضُورِ جَمِيعِ النِّيَّةِ مَعَ جَمِيعِ آخِرِ التَّكْبِيرِ وَهَذَا تَنَازَعُوا فِي إمْكَانِهِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلَا مَقْدُورٍ لِلْبَشَرِ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ وَلَوْ قِيلَ بِإِمْكَانِهِ فَهُوَ مُتَعَسِّرٌ فَيَسْقُطُ بِالْحَرَجِ .

وَأَيْضًا فَمِمَّا يُبْطِلُ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْمُكَبِّرَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ التَّكْبِيرَ وَيَتَصَوَّرَهُ فَيَكُونُ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِمَعْنَى التَّكْبِيرِ لَا بِمَا يَشْغَلُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ اسْتِحْضَارِ النِّيَّةِ ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ الشُّرُوطِ وَالشُّرُوطُ تَتَقَدَّمُ الْعِبَادَاتِ وَيَسْتَمِرُّ حُكْمُهَا إلَى آخِرِهَا كَالطَّهَارَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ " النِّيَّةِ " فِي الدُّخُولِ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا . هَلْ تَفْتَقِرُ إلَى نُطْقِ اللِّسَانِ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ ؛ نَوَيْت أَصُومُ نَوَيْت أُصَلِّي هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نِيَّةُ الطَّهَارَةِ مِنْ وُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ أَوْ تَيَمُّمٍ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نُطْقِ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ . بَلْ النِّيَّةُ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَلَوْ لَفَظَ بِلِسَانِهِ غَلَطًا بِخِلَافِ مَا نَوَى فِي قَلْبِهِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا نَوَى لَا بِمَا لَفَظَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إلَّا أَنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَرَّجَ وَجْهًا فِي ذَلِكَ وَغَلَّطَهُ فِيهِ أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ . وَكَانَ سَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : إنَّ الصَّلَاةَ لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ

فِي أَوَّلِهَا . وَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ : التَّكْبِيرَ الْوَاجِبَ فِي أَوَّلِهَا فَظَنَّ هَذَا الغالط أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ النُّطْقَ بِالنِّيَّةِ فَغَلَّطَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ جَمِيعُهُمْ . وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ سِرًّا أَمْ لَا ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْفُقَهَاءِ . فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا ؛ كَوْنُهُ أَوْكَدَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ وَلَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْهُورًا مَشْرُوعًا لَمْ يُهْمِلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُبْتَلَاةٌ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ . بَلْ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ . أَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّهُ بِدْعَةٌ . وَأَمَّا فِي الْعَقْلِ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُرِيدُ [ أَنْ ] (1) يَأْكُلَ طَعَامًا فَيَقُولُ : نَوَيْت بِوَضْعِ يَدِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ أَنِّي أُرِيدُ [ أَنْ ] (2) آخُذَ مِنْهُ لُقْمَةً فَأَضَعُهَا فِي فَمِي فَأَمْضُغُهَا ثُمَّ أَبْلَعُهَا لِأَشْبَعَ . مِثْلَ الْقَائِلِ الَّذِي يَقُولُ : نَوَيْت أُصَلِّي فَرِيضَةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيَّ

حَاضِرَ الْوَقْتِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي جَمَاعَةٍ أَدَاءً لِلَّهِ تَعَالَى . فَهَذَا كُلُّهُ حُمْقٌ وَجَهْلٌ وَذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ بَلَاغُ الْعِلْمِ فَمَتَى عَلِمَ الْعَبْدُ مَا يَفْعَلُهُ كَانَ قَدْ نَوَاهُ ضَرُورَةً فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ أَنْ يَفْعَلَ بِلَا نِيَّةٍ ؛ وَلَا يُمْكِنُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ أَنْ تَحْصُلَ نِيَّةٌ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ وَتَكْرِيرَهَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ بَلْ مَنْ اعْتَادَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَدَّبَ تَأْدِيبًا يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ التَّعَبُّدِ بِالْبِدَعِ وَإِيذَاءِ النَّاسِ بِرَفْعِ صَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ : { أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرَنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ } فَكَيْفَ حَالُ مَنْ يُشَوِّشُ عَلَى النَّاسِ بِكَلَامِهِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ؟ بَلْ يَقُولُ : نَوَيْت أُصَلِّي أُصَلِّي فَرِيضَةَ كَذَا وَكَذَا فِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ : لَا يَجُوزُ الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : صَحِيحٌ أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَمَرَ بِهِ لَكِنْ مَا نَهَى عَنْهُ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ جَهَرَ بِهَا . ثُمَّ إنَّهُ قَالَ : لَنَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ وَبِدْعَةٌ سَيِّئَةٌ وَاحْتَجَّ بِالتَّرَاوِيحِ

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَمَعَهَا وَلَا نَهَى عَنْهَا . وَأَنَّ عُمَرَ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِهَا . فَهَلْ هُوَ كَمَا قَالَ ؟ وَهَلْ تُسَمَّى سُنَنُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِدْعَةً ؟ وَهَلْ يُقَاسُ عَلَى سُنَنِهِمْ مَا سَنَّهُ غَيْرُهُمْ فَهَلْ لَهَا أَصْلٌ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ ؟ وَقَوْلُهُ : وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ جَهَرَ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا . فَهَلْ يَأْثَمُ الْمُنْكِرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْبِدَعِ السَّيِّئَةِ لَيْسَ مِنْ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ مُسْتَحَبٌّ وَلَا هُوَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ سُنَّةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَقَائِلٌ هَذَا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا عُوقِبَ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي نَفْسِ التَّلَفُّظِ بِهَا سِرًّا . هَلْ يُسْتَحَبُّ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَتَلَفَّظُونَ بِهَا لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا ؛ وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي شَرَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ لَيْسَ لِأَحَدِ تَغْيِيرُهَا وَإِحْدَاثُ بِدَعَةِ فِيهَا . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ مِثْلَ مَا أَحْدَثَ بَعْضُ النَّاسِ الْأَذَانَ فِي الْعِيدَيْنِ . وَاَلَّذِي أَحْدَثُهُ مَرْوَانُ بْنُ

الْحَكَمِ فَأَنْكَرَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ذَلِكَ . هَذَا وَإِنْ كَانَ الْأَذَانُ ذِكْرَ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ لَمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ اجْتِمَاعًا رَاتِبًا غَيْرَ الشَّرْعِيِّ : مِثْلَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوَّلَ رَجَبٍ أَوْ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ فِيهِ وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ أَحْدَثَ نَاسٌ صَلَاةً سَادِسَةً يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا غَيْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَأَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ . وَأَمَّا " قِيَامُ رَمَضَانَ " فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ وَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةٌ عِدَّةَ لَيَالٍ وَكَانُوا عَلَى عَهْدِهِ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً وَفُرَادَى لَكِنْ لَمْ يُدَاوِمُوا عَلَى جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لِئَلَّا تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ . فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَهُمْ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أبي بْنُ كَعْبٍ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حَيْثُ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي . عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ } يَعْنِي الْأَضْرَاسَ ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فِي الْقُوَّةِ . وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ سُنَّةٌ ؛ لَكِنَّهُ قَالَ نِعْمَت الْبِدْعَةُ هَذِهِ فَإِنَّهَا

بِدْعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِكَوْنِهِمْ فَعَلُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ وَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ . وَهَكَذَا إخْرَاجُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَهِيَ الْحِجَازُ وَالْيَمَنُ وَالْيَمَامَةُ وَكُلُّ الْبِلَادِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ مُلْكُ فَارِسَ وَالرُّومِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَصْرِ الْأَمْصَارِ : كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَجَمْعُ الْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ وَفَرْضُ الدِّيوَانِ وَالْأَذَانُ الْأَوَّلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتِنَابَةُ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ خَارِجَ الْمِصْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ سَنُّوهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ سُنَّةٌ . وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ يُسَمَّى بِدْعَةً . وَأَمَّا الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ وَتَكْرِيرُهَا فَبِدْعَةٌ سَيِّئَةٌ لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ إذَا صَلَّى يُشَوِّشُ عَلَى الصُّفُوفِ الَّذِي حَوَالَيْهِ بِالْجَهْرِ بِالنِّيَّةِ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَرَّةً وَلَمْ يَرْجِعْ وَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ : هَذَا الَّذِي تَفْعَلُهُ مَا هُوَ

مِنْ دِينِ اللَّهِ وَأَنْتَ مُخَالِفٌ فِيهِ السُّنَّةَ . فَقَالَ : هَذَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا وَكَذَلِكَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ . فَهَلْ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ؟ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؟ أَوْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا كَانَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَالْعُلَمَاءُ يَعْمَلُونَ هَذَا فِي الصَّلَاةِ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَنْسُبُ هَذَا إلَيْهِمْ وَهُوَ يَعْمَلُهُ ؟ فَهَلْ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعِينَهُ بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ إذَا عَمِلَ هَذَا وَنَسَبَهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ وَيَقُولُ لِلْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِ كُلٌّ يَعْمَلُ فِي دِينِهِ مَا يَشْتَهِي ؟ وَإِنْكَارُكُمْ عَلَيَّ جَهْلٌ وَهَلْ هُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْجَهْرُ بِلَفْظِ النِّيَّةِ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ دِينُ اللَّهِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ الشَّرِيعَةَ وَاسْتِتَابَتُهُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ قُتِلَ بَلْ النِّيَّةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . و " النِّيَّةُ " هِيَ الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ وَالْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ مَحَلُّهُمَا الْقَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . فَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ،

وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ عِنْدَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَيُفْتَى بِقَوْلِهِ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ زَعَمَ أَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ الْجَهْرَ بِهَا وَاجِبٌ وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ صَرِيحٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ وَكَيْفَ كَانَ يُصَلِّي الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَلَفَّظُونَ بِالنِّيَّةِ وَلَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَلَا عَلَّمَهُ لِأَحَدِ مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ { إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ . وَلَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِلَفْظِ النِّيَّةِ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَلَا أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْهِمَمَ وَالدَّوَاعِيَ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ لَوْ كَانَ

ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ عَادَةً وَشَرْعًا كِتْمَانُ نَقْلِ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ . وَلِهَذَا يَتَنَازَعُ الْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي اللَّفْظِ بِالنِّيَّةِ : هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ مَعَ النِّيَّةِ الَّتِي فِي الْقَلْبِ ؟ فَاسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . قَالُوا لِأَنَّهُ أَوْكَدُ وَأَتَمُّ تَحْقِيقًا لِلنِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ بَلْ رَأَوْا أَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ . قَالُوا : لَوْ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَأَمَرَ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ كُلَّ مَا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ لَا سِيَّمَا الصَّلَاةُ الَّتِي لَا تُؤْخَذُ صِفَتُهَا إلَّا عَنْهُ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } . قَالَ هَؤُلَاءِ فَزِيَادَةُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الزِّيَادَاتِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْعِبَادَاتِ كَمَنْ زَادَ فِي الْعِيدَيْنِ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَمَنْ زَادَ فِي السَّعْيِ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى الْمَرْوَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ فَاسِدٌ فِي الْعَقْلِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَنْوِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْوِي آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ

لِأَشْبَعَ وَأَنْوِي أَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ لِأَسْتَتِرَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ النِّيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقَلْبِ الَّتِي يُسْتَقْبَحُ النُّطْقُ بِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } قَالُوا : لَمْ يَقُولُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَإِنَّمَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ . وَبِالْجُمْلَةِ : فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْقَلْبِ بِلَا نِزَاعٍ . وَأَمَّا التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا فَهَلْ يُكْرَهُ أَوْ يُسْتَحَبُّ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَأَمَّا الْجَهْرُ بِهَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ تَكْرِيرُهَا أَشَدُّ وَأَشَدُّ . وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يُشْرَعُ لِأَحَدِ مِنْهُمْ أَنْ يَجْهَرَ بِلَفْظِ النِّيَّةِ وَلَا يُكَرِّرَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ بَلْ جَهْرُ الْمُنْفَرِدِ بِالْقِرَاءَةِ إذَا كَانَ فِيهِ أَذًى لِغَيْرِهِ لَمْ يُشْرَعْ كَمَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ } . وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَالسُّنَّةُ لَهُ الْمُخَافَتَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ إذَا جَهَرَ أَحْيَانًا

بِشَيْءِ مِنْ الذِّكْرِ فَلَا بَأْسَ كَالْإِمَامِ إذَا أَسْمَعَهُمْ أَحْيَانًا الْآيَةَ فِي صَلَاةِ السِّرِّ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي قتادة { أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانًا } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ الْمَأْمُومِينَ مَنْ جَهَرَ بِدُعَاءِ حِينَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَعِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ وَتَحْسِينِهَا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَزَّرَ تَعْزِيرًا يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَمَنْ نَسَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَاطِلَ خَطَأً فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ عُوقِبَ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُعِينَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ أَوْ أَدْخَلَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : كَلٌّ يَعْمَلُ فِي دِينِهِ الَّذِي يَشْتَهِي . فَهِيَ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْهَا وَإِلَّا عُوقِبَ ؛ بَلْ الْإِصْرَارُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يُوجِبُ الْقَتْلَ ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْمَلَ فِي الدِّينِ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ دُونَ مَا يَشْتَهِيهِ وَيَهْوَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ

هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ } . قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } وَقَالَ تَعَالَى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { المص } { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } وَأَمْثَالُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَّبِعَ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلَا يَجْعَلَ دِينَهُ تَبَعًا لِهَوَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " النِّيَّةِ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لَا تَدْخُلْ الصَّلَاةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } وَقَالَ الْآخَرُ : تَجُوزُ بِلَا نِيَّةٍ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةِ ؛ لَكِنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَهِيَ الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ . فَإِنْ نَوَى بِقَلْبِهِ خِلَافَ مَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا قَصَدَ بِقَلْبِهِ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا نَوَاهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ وَلَا تَكْرِيرُ التَّكَلُّمِ بِهَا ؛ بَلْ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالنِّيَّةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَمْ يُخَالِفْ إلَّا بَعْضُ شُذُوذِ الْمُتَأَخِّرِينَ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نِيَّةُ الْمَرْءِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ } .
فَأَجَابَ :
هَذَا الْكَلَامُ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ؛ وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُهُ مَرْفُوعًا وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا أَنَّ النِّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ مِنْ الْعَمَلِ يُثَابُ عَلَيْهَا وَالْعَمَلَ الْمُجَرَّدَ عَنْ النِّيَّةِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِغَيْرِ إخْلَاصٍ لِلَّهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ } . ( الثَّانِي أَنَّ مَنْ نَوَى الْخَيْرَ وَعَمِلَ مِنْهُ مَقْدُورَهُ وَعَجَزَ عَنْ إكْمَالِهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ عَامِلٍ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } . وَقَدْ صَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري عَنْ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ ذَكَرَ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ . وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا . فَقَالَ : لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ . قَالَ : فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَقَالَ : لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ قَالَ : فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ .
الثَّالِثُ أَنَّ الْقَلْبَ مَلِكُ الْبَدَنِ وَالْأَعْضَاءَ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَالنِّيَّةُ عَمَلُ الْمَلِكِ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا عَمَلُ الْجُنُودِ . الرَّابِعُ أَنَّ تَوْبَةَ الْعَاجِزِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ تَصِحُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ .

كَتَوْبَةِ الْمَجْبُوبِ عَنْ الزِّنَا وَكَتَوْبَةِ الْمَقْطُوعِ اللِّسَانِ عَنْ الْقَذْفِ وَغَيْرِهِ . وَأَصْلُ التَّوْبَةِ عَزْمُ الْقَلْبِ وَهَذَا حَاصِلٌ مَعَ الْعَجْزِ . الْخَامِسُ أَنَّ النِّيَّةَ لَا يَدْخُلُهَا فَسَادٌ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ النِّيَّةَ أَصْلُهَا حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِرَادَةُ وَجْهِهِ وَهَذَا هُوَ بِنَفْسِهِ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَرْضِيٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ تَدْخُلُهَا آفَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمَا لَمْ تَسْلَمْ مِنْهَا لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَعْمَالُ الْقَلْبِ الْمُجَرَّدَةِ أَفْضَلَ مِنْ أَعْمَالِ الْبَدَنِ الْمُجَرَّدَةِ . كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : قُوَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَقُوَّةُ الْمُنَافِقِ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ وَتَفْصِيلُ هَذَا يَطُولُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَنَفِيٍّ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ وَأَسَرَّ نِيَّتَهُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ ؛ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقِيهُ الْجَمَاعَةِ وَقَالَ لَهُ : هَذَا لَا يَجُوزُ فِي مَذْهَبِك وَأَنْتَ مُبْتَدِعٌ فِيهِ وَأَنْتَ مُذَبْذَبٌ لَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت وَلَا بِمَذْهَبِك اهْتَدَيْت . فَهَلْ مَا فَعَلَهُ نَقْصٌ فِي صَلَاتِهِ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِمَامِهِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِ إسْرَارَهُ بِالنِّيَّةِ فَهُوَ جَاهِلٌ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا

أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَعُ الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ وَمَنْ جَهَرَ بِالنِّيَّةِ فَهُوَ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ ؛ بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ بِالنِّيَّةِ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا كَانَتْ صَحِيحَةً وَلَا يَجِبُ التَّكَلُّمُ بِالنِّيَّةِ . لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَتَّى أَنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا ذَكَرَ وَجْهًا مُخَرَّجًا : أَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّيَّةِ لَا وَاجِبٌ . غَلَّطَهُ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ وَقَالُوا : إنَّمَا أَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ النُّطْقَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ لَا بِالنِّيَّةِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ النُّطْقَ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ وَكَذَلِكَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَد وَأَصْحَابُهُ ؛ بَلْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ سِرًّا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ لَا الْجَهْرُ بِهَا وَلَا يَجِبُ التَّلَفُّظُ وَلَا الْجَهْرُ . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : بَلْ لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا كَمَا لَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَتَلَفَّظُونَ بِالنِّيَّةِ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ .

وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ حَتَّى فِي السُّجُودِ فَلَيْسَتْ هِيَ السُّنَّةَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهَا وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ . وَأَمَّا رَفْعُهُمَا عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ . كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَعُلَمَاءِ الْآثَارِ فَإِنَّهُمْ عَرَفُوا ذَلِكَ - لَمَّا أَنَّهُ اسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كالأوزاعي وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَإِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ وَلَا كَذَلِكَ بَيْنَ السُّجُودَيْنِ } وَثَبَتَ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الحويرث وَوَائِلِ بْنِ حجر وَأَبِي حميد الساعدي : فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهُمْ أَبُو قتادة وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا رَأَى مَنْ يُصَلِّي وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ حَصَبَهُ . وَقَالَ عُقْبَةُ ابْنُ عَامِرٍ : لَهُ بِكُلِّ إشَارَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ .

وَالْكُوفِيُّونَ حُجَّتُهُمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَهُمْ مَعْذُورُونَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُمْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ هُوَ الْفَقِيهُ الَّذِي بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِيُعَلِّمَ أَهْلَ الْكُوفَةِ السُّنَّةَ ؛ لَكِنْ قَدْ حَفِظَ الرَّفْعَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْفَعْ إلَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ ؛ لَكِنَّهُمْ رَأَوْهُ يُصَلِّي وَلَا يَرْفَعُ إلَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ . وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَنْسَى وَقَدْ يُذْهَلُ وَقَدْ خَفِيَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ التَّطْبِيقُ فِي الصَّلَاةِ ؛ فَكَانَ يُصَلِّي وَإِذَا رَكَعَ طَبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ . ثُمَّ إنَّ التَّطْبِيقَ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأُمِرُوا بِالرُّكَبِ وَهَذَا لَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ؛ فَإِنَّ الرَّفْعَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَيْسَ مِنْ نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا رَفْعٍ وَإِذَا رَفَعَ كَانَ أَفْضَلَ وَأَحْسَنَ . وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُتَّبِعًا لِأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد : وَرَأَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَذْهَبَ غَيْرِهِ أَقْوَى فَاتَّبَعَهُ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي دِينِهِ . وَلَا عَدَالَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ ؛ بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالْحَقِّ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ يَتَعَصَّبُ لِوَاحِدِ مُعَيَّنٍ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنْ يَتَعَصَّبُ لِمَالِكِ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَرَى أَنَّ قَوْلَ هَذَا الْمُعَيَّنِ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ دُونَ قَوْلِ الْإِمَامِ الَّذِي خَالَفَهُ .

فَمَنْ فَعَلَ هَذَا كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ كَافِرًا ؛ فَإِنَّهُ مَتَى اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ دُونَ الْإِمَامِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . بَلْ غَايَةُ مَا يُقَالُ : إنَّهُ يَسُوغُ أَوْ يَنْبَغِي أَوْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ زَيْدٍ وَلَا عَمْرٍو . وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدُ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ . وَمَنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلْأَئِمَّةِ مُحِبًّا لَهُمْ يُقَلِّدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ فَهُوَ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ . بَلْ هَذَا أَحْسَنُ حَالًا مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا مُذَبْذَبٌ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ . وَإِنَّمَا الْمُذَبْذَبُ الْمَذْمُومُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مَعَ الْكُفَّارِ بَلْ يَأْتِي الْمُؤْمِنِينَ بِوَجْهِ وَيَأْتِي الْكَافِرِينَ بِوَجْهِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ : تُعِيرُ إلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً وَإِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً } . فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمُذَبْذَبُونَ هُمْ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالَ فِي

حَقِّهِمْ : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْ الْيَهُودِ وَلَا هُمْ مِنَّا مِثْلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى والتتر وَغَيْرِهِمْ وَقَلْبُهُ مَعَ طَائِفَتِهِ . فَلَا هُوَ مُؤْمِنٌ مَحْضٌ وَلَا هُوَ كَافِرٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُذَبْذَبُونَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لَا كُفَّارًا وَلَا مُنَافِقِينَ بَلْ يُحِبُّونَ لِلَّهِ وَيُبْغِضُونَ لِلَّهِ وَيُعْطُونَ لِلَّهِ وَيَمْنَعُونَ لِلَّهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ

أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا - وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } . وَقَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءِ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ . أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ } . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالِاجْتِمَاعِ والائتلاف وَنَهَاهُمْ عَنْ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } إلَى قَوْلِهِ : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلُ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ .

فَأَئِمَّةُ الدِّينِ هُمْ عَلَى مِنْهَاجِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَالصَّحَابَةُ كَانُوا مُؤْتَلِفِينَ مُتَّفِقِينَ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي بَعْضِ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فِي الطَّهَارَةِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْفَرَائِضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ . وَمَنْ تَعَصَّبَ لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ دُونَ الْبَاقِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَعَصَّبَ لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ دُونَ الْبَاقِينَ . كالرافضي الَّذِي يَتَعَصَّبُ لِعَلِيِّ دُونَ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ . وَكَالْخَارِجِيِّ الَّذِي يَقْدَحُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . فَهَذِهِ طُرُقُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ خَارِجُونَ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَمَنْ تَعَصَّبَ لِوَاحِدِ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِعَيْنِهِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ هَؤُلَاءِ سَوَاءٌ تَعَصَّبَ لِمَالِكِ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ أَحْمَد أَوْ غَيْرِهِمْ . ثُمَّ غَايَةُ الْمُتَعَصِّبِ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِقَدْرِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَبِقَدْرِ الْآخَرِينَ فَيَكُونُ جَاهِلًا ظَالِمًا وَاَللَّهُ يَأْمُرُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَيَنْهَى عَنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ . قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . وَهَذَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَتْبَعُ النَّاسِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَعْلَمُهُمْ بِقَوْلِهِ

وَهُمَا قَدْ خَالَفَاهُ فِي مَسَائِلَ لَا تَكَادُ تُحْصَى لِمَا تَبَيَّنَ لَهُمَا مِنْ السُّنَّةِ وَالْحُجَّةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا اتِّبَاعُهُ وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ مُعَظِّمَانِ لِإِمَامِهِمَا . لَا يُقَالُ فِيهِمَا مُذَبْذَبَانِ : بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَقُولُ الْقَوْلَ ثُمَّ تَتَبَيَّنُ لَهُ الْحُجَّةُ فِي خِلَافِهِ فَيَقُولُ بِهَا وَلَا يُقَالُ لَهُ مُذَبْذَبٌ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَزَالُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ . فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا كَانَ خَافِيًا عَلَيْهِ اتَّبَعَهُ وَلَيْسَ هَذَا مُذَبْذَبًا ؛ بَلْ هَذَا مُهْتَدٍ زَادَهُ اللَّهُ هُدًى . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } . فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ يَقْصِدَ الْحَقَّ وَيَتَّبِعَهُ حَيْثُ وَجَدَهُ وَيَعْلَمَ أَنَّ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْهُمْ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ اجْتَهَدَ مِنْهُمْ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ لِاجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ . وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا إمَامَهُمْ إذَا فَعَلَ مَا يَسُوغُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ } وَسَوَاءٌ رَفَعَ يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِمْ وَلَا يُبْطِلُهَا لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا الشَّافِعِيِّ وَلَا مَالِكٍ وَلَا أَحْمَد . وَلَوْ رَفَعَ الْإِمَامُ دُونَ الْمَأْمُومِ أَوْ الْمَأْمُومُ دُونَ الْإِمَامِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ رَفَعَ الرَّجُلُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَّخِذَ قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ شِعَارًا يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ وَيَنْهَى عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ؛ بَلْ كُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَهُوَ وَاسِعٌ : مِثْلُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ . فَقَدَ

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ عَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ الْإِقَامَةَ شَفْعًا شَفْعًا كَالْأَذَانِ } فَمَنْ شَفَعَ الْإِقَامَةَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ أَفْرَدَهَا فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ أَوْجَبَ هَذَا دُونَ هَذَا فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَمَنْ وَالَى مَنْ يَفْعَلُ هَذَا دُونَ هَذَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ . وَبِلَادُ الشَّرْقِ مِنْ أَسْبَابِ تَسْلِيطِ اللَّهِ التتر عَلَيْهَا كَثْرَةُ التَّفَرُّقِ وَالْفِتَنِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَذَاهِبِ وَغَيْرِهَا حَتَّى تَجِدَ الْمُنْتَسِبَ إلَى الشَّافِعِيِّ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ الدِّينِ وَالْمُنْتَسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ الدِّينِ وَالْمُنْتَسِبَ إلَى أَحْمَد يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى مَذْهَبِ هَذَا أَوْ هَذَا . وَفِي الْمَغْرِبِ تَجِدُ الْمُنْتَسِبَ إلَى مَالِكٍ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى هَذَا أَوْ هَذَا . وَكُلُّ هَذَا مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ . وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَصِّبِينَ بِالْبَاطِلِ الْمُتَّبِعِينَ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ الْمُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ مُسْتَحِقُّونَ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْفُتْيَا لِبَسْطِهِ ؛ فَإِنَّ الِاعْتِصَامَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالْفَرْعُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ الْخَفِيَّةِ فَكَيْفَ يَقْدَحُ فِي الْأَصْلِ بِحِفْظِ الْفَرْعِ وَجُمْهُورُ الْمُتَعَصِّبِينَ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْكِتَابِ

وَالسُّنَّةِ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ بَلْ يَتَمَسَّكُونَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ أَوْ آرَاءٍ فَاسِدَةٍ أَوْ حِكَايَاتٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّيُوخِ قَدْ تَكُونُ صِدْقًا وَقَدْ تَكُونُ كَذِبًا وَإِنْ كَانَتْ صِدْقًا فَلَيْسَ صَاحِبُهَا مَعْصُومًا يَتَمَسَّكُونَ بِنَقْلِ غَيْرِ مُصَدَّقٍ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ وَيَدَّعُونَ النَّقْلَ الْمُصَدَّقَ عَنْ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ الأثبات مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَدَوَّنُوهُ فِي الْكُتُبِ الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ مُصَدَّقُونَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَالْمَنْقُولَ عَنْهُ مَعْصُومٌ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ طَاعَتَهُ وَاتِّبَاعَهُ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْهُدَى وَالنِّيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ إمَامٍ شَافِعِيٍّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ يُكَرِّرُ التَّكْبِيرَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً وَالنَّاسُ وُقُوفٌ خَلْفَهُ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تَكْرِيرُ اللَّفْظِ بِالنِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرُ وَالْجَهْرُ بِلَفْظِ النِّيَّةِ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَفَاعِلُ ذَلِكَ مُسِيءٌ . وَإِنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ دِينًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجِبُ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ عُزِلَ عَنْ الْإِمَامَةِ إذَا لَمْ يَنْتَهِ كَأَنَّ لَهُ وَجْهٌ فَإِنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِعَزْلِ إمَامٍ لِأَجْلِ بُزَاقِهِ فِي الْقِبْلَةِ } فَإِنَّ الْإِمَامَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ الْمُنْفَرِدُ بَلْ يُنْهَى عَنْ التَّطْوِيلِ وَالتَّقْصِيرِ فَكَيْفَ إذَا أَصَرَّ عَلَى مَا يُنْهَى عَنْهُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ إذَا صَلَّى بِاللَّيْلِ يَنْوِي وَيَقُولُ : أُصَلِّي نَصِيبَ اللَّيْلِ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْعِبَارَةُ أُصَلِّي نَصِيبَ اللَّيْلِ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا وَالْمَشْرُوعُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّلَاةَ لِلَّهِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِاللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ ؛ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ فَإِنْ تَلَفَّظَ بِهَا . وَقَالَ : أُصَلِّي لِلَّهِ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَوْ أُصَلِّي قِيَامَ اللَّيْلِ وَنَحْوَ ذَلِكَ جَازَ وَلَمْ يُسْتَحَبَّ ذَلِكَ بَلْ الِاقْتِدَاءُ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ رَكْعَةً فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ لِيُتِمَّ صَلَاتَهُ فَجَاءَ آخَرُ فَصَلَّى مَعَهُ فَهَلْ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهَذَا الْمَأْمُومِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ نَوَى الْإِمَامَةَ وَالْمُؤْتَمُّ قَدْ نَوَى الِائْتِمَامَ . فَإِنْ نَوَى الْمَأْمُومُ

الِائْتِمَامَ وَلَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ الْإِمَامَةَ فَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : تَصِحُّ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَالثَّانِي : لَا تَصِحُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ كَانَ مُؤْتَمًّا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَصَارَ مُنْفَرِدًا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَإِذَا ائْتَمَّ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ صَارَ الْمُنْفَرِدُ إمَامًا كَمَا صَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَامًا بِابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُنْفَرِدًا . وَهَذَا يَصِحُّ فِي النَّفْلِ كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذُكِرَ فِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ فَنِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ فَإِنَّ الْإِمَامَ الْتَزَمَ بِالْإِمَامَةِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يُلْزِمُهُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ فَلَيْسَ بِمَصِيرِ الْمُنْفَرِدِ إمَامًا مَحْذُورًا أَصْلًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَشَى إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مُسْتَعْجِلًا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالَ : امْشِ عَلَى رِسْلِك . فَرَدَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَقَالَ : قَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } فَمَا الصَّوَابُ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ الْمَأْمُورِ بِهِ الْعَدُوَّ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةَ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا - وَرَوَى فَاقْضُوا } . وَلَكِنْ قَالَ الْأَئِمَّةُ : السَّعْيُ فِي كِتَابِ اللَّهِ هُوَ الْعَمَلُ وَالْفِعْلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } وَقَالَ عَنْ فِرْعَوْنَ { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى } وَقَدْ قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ( فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ فَالسَّعْيُ الْمَأْمُورُ بِهِ إلَى الْجُمُعَةِ هُوَ الْمُضِيُّ إلَيْهَا وَالذَّهَابُ إلَيْهَا . وَلَفْظُ " السَّعْيِ " فِي الْأَصْلِ اسْمُ جِنْسٍ وَمِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْعُرْفِ إذَا كَانَ الِاسْمُ عَامًّا لِنَوْعَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُفْرِدُونَ أَحَدَ نَوْعَيْهِ بِاسْمِ وَيَبْقَى الِاسْمُ الْعَامُّ مُخْتَصًّا بِالنَّوْعِ الْآخَرِ كَمَا فِي لَفْظِ " ذَوِي الْأَرْحَامِ " فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَقَارِبِ مَنْ يَرِثُ بِفَرْضِ وَتَعْصِيبٍ وَمَنْ لَا فَرْضَ لَهُ وَلَا تَعْصِيبَ فَلَمَّا مَيَّزَ ذُو الْفَرْضِ وَالْعَصَبَةِ صَارَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ ذووا الْأَرْحَامِ مُخْتَصًّا بِمَنْ لَا فَرْضَ لَهُ وَلَا تَعْصِيبَ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْجَائِزِ " يَعُمُّ مَا وَجَبَ وَلَزِمَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْعُقُودِ وَمَا لَمْ يَلْزَمُ فَلَمَّا خَصَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ بِالْوُجُوبِ وَبَعْضَ الْعُقُودِ بِاللُّزُومِ بَقِيَ اسْمُ الْجَائِزِ فِي عُرْفِهِمْ مُخْتَصًّا بِالنَّوْعِ الْآخَرِ . وَكَذَلِكَ اسْمُ " الْخَمْرِ " هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ شَرَابٍ لَكِنْ لَمَّا أَفْرَدَ مَا يُصْنَعُ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ بِاسْمِ النَّبِيذِ صَارَ اسْمُ الْخَمْرِ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصًّا بِعَصِيرِ الْعِنَبِ حَتَّى ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ . وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُمُومِهِ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ .

وَبِسَبَبِ هَذَا الِاشْتِرَاكِ الْحَادِثِ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي فَهْمِ الْخِطَابِ بِلَفْظِ السَّعْيِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ عَامٌّ فِي كُلِّ ذَهَابٍ وَمُضِيٍّ وَهُوَ السَّعْيُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ يَخُصُّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِاسْمِ الْمَشْيِ فَيَبْقَى لَفْظُ السَّعْيِ مُخْتَصًّا بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهَذَا هُوَ السَّعْيُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ } وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقْرَأُ : ( فَامْضُوا وَيَقُولُ : لَوْ قَرَأْتهَا فَاسْعَوْا لَعَدَوْت حَتَّى يَكُونَ كَذَا وَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْهُ فَيَكُونُ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ لَفْظَ السَّعْيِ هُوَ الْخَاصُّ . وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا : السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُهَرْوِلُ فِي بَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الْمِيلَيْنِ . ثُمَّ لَفْظُ السَّعْيِ يُخَصُّ بِهَذَا . وَقَدْ يُجْعَلُ لَفْظُ السَّعْيِ عَامًّا لِجَمِيعِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَكِنَّ هَذَا كَأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَهُ سَعْيٌ خَاصٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَقْوَامٍ يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ قَبْلَ النَّاسِ وَقَبْلَ تَكْمِيلِ الصُّفُوفِ وَيَتَّخِذُونَ لَهُمْ مَوَاضِعَ دُونَ الصَّفِّ فَهَلْ يَجُوزُ التَّأَخُّرُ عَنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ؟ .

فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا تُصَفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ : يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يستهموا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُّوا عَلَيْهِ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : { خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ السُّنَنِ الَّتِي يَنْبَغِي فِيهَا لِلْمُصَلِّينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ ثُمَّ الثَّانِي . فَمَنْ جَاءَ أَوَّلَ النَّاسِ وَصَفَّ فِي غَيْرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ خَالَفَ الشَّرِيعَةَ وَإِذَا ضَمَّ إلَى ذَلِكَ إسَاءَةَ الصَّلَاةِ أَوْ فُضُولَ الْكَلَامِ أَوْ مَكْرُوهَهُ أَوْ مُحَرَّمَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ : مِمَّا يُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنْهُ فَقَدْ تَرَكَ تَعْظِيمَ الشَّرَائِعِ وَخَرَجَ عَنْ الْحُدُودِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ نَقْصَ مَا فَعَلَهُ وَيَلْتَزِمْ اتِّبَاعَ أَمْرِ اللَّهِ : اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَحْمِلُهُ وَأَمْثَالُهُ عَلَى أَدَاءِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ
عَنْ الْمُصَلِّينَ إذَا لَمْ يُسَوُّوا صُفُوفَهُمْ بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا وَهَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ هَكَذَا فِي الْأَسْوَاقِ " أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ ؛ بَلْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا مُصْطَفِّينَ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا صَلَاةَ لِفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ } وَلَا يَصِحُّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي السُّوقِ حَتَّى تَتَّصِلَ الصُّفُوفُ ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَارِبُوا الصُّفُوفَ وَيَسُدُّوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا يَشْتَبِهُ عَلَى الطَّالِبِ لِلْعِبَادَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَفْضَلِيَّةِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي أَذْكُرُهَا : وَهِيَ أَيُّمَا أَفْضَلُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ تَرْكُ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ أَوْ الْجَهْرِ بِهَا ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ أَمْ تَرْكُهُ أَمْ فِعْلُهُ أَحْيَانًا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ ؟ وَكَذَلِكَ فِي الْوِتْرِ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ طُولُ الصَّلَاةِ وَمُنَاسَبَةُ أَبْعَاضِهَا فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ أَوْ تَخْفِيفِهَا بِحَسَبِ مَا اعْتَادُوهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ مَعَ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ مُدَاوَمَةُ الْجَمْعِ أَمْ فِعْلُهُ أَحْيَانًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ ؟ وَهَلْ قِيَامُ اللَّيْلِ كُلِّهِ بِدْعَةٌ أَمْ سُنَّةٌ أَمْ قِيَامُ بَعْضِهِ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِهِ كُلِّهِ ؟ وَكَذَلِكَ سَرْدُ الصَّوْمِ أَفْضَلُ أَمْ صَوْمُ بَعْضِ الْأَيَّامِ وَإِفْطَارُ بَعْضِهَا ؟ وَفِي الْمُوَاصَلَةِ أَيْضًا ؟ وَهَلْ لُبْسُ الْخَشِنِ وَأَكْلُهُ دَائِمًا أَفْضَلُ أَمْ لَا ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ فِعْلُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فِي السَّفَرِ أَمْ تَرْكُهَا ؟ أَمْ فِعْلُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ . وَكَذَلِكَ التَّطَوُّعُ بِالنَّوَافِلِ فِي السَّفَرِ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَمْ الْفِطْرُ ؟ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ لِمَرَضِ أَوْ يُخَافُ مِنْهُ الضَّرَرُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ

فَهَلْ يَتَيَمَّمُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَقُومُ التَّيَمُّمُ مَقَامَ الْوُضُوءِ فِيمَا ذُكِرَ أَمْ لَا ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ فِي إغْمَاءِ هِلَالِ رَمَضَانَ الصَّوْمُ أَمْ الْفِطْرُ ؟ أَمْ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ أَمْ يُسْتَحَبُّ فِعْلُ أَحَدِهِمَا ؟ وَهَلْ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ هَلْ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ ؟ أَمْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ وَالرَّاتِبَيْنِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا النِّزَاعُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ الْعِبَادَاتِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ :
مِنْهَا : مَا ثَبَتَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ لَكِنْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَفْضَلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِأَيِّ قِرَاءَةٍ شَاءَ مِنْهَا كَالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَذِهِ يَقْرَأُ الْمُسْلِمُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضَهَا لِسَبَبِ مِنْ الْأَسْبَابِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الِاسْتِفْتَاحَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهَا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَأَنْوَاعِ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي كَانَ يَدْعُو بِهَا فِي صَلَاتِهِ فِي آخِرِ التَّشَهُّدِ فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهَا سَائِغَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ لَنَا مِمَّا فَعَلَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي التَّشَهُّدِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ . وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } فَالدُّعَاءُ بِهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } وَهَذَا أَيْضًا قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَمَرَ بِهِ . وَمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ فَهُوَ أَوْكَدُ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ . وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي كَانَ يُكَرِّرُهُ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أَوْكَدُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ .

الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ كَانَتْ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَفْضَلِ وَفِيمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ وَمَسْأَلَةُ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَصِفَةُ الِاسْتِعَاذَةِ وَنَحْوُهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ . فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ جَهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَمَنْ خَافَتَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَعَلَى أَنَّ مَنْ قَنَتَ فِي الْفَجْرِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَمَنْ لَمْ يَقْنُتْ فِيهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ قِرَاءَتَهَا لَا تَجِبُ وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَتِهَا وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ قِرَاءَتَهَا مُسْتَحَبَّةٌ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا تَرَكَ الْإِمَامُ مَا يَعْتَقِدُ الْمَأْمُومُ وُجُوبَهُ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا أَوْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ وَلَا يَتَوَضَّأُ وَالْمَأْمُومُ يَرَى وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يُصَلِّيَ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَةِ وَالْمَأْمُومُ يَرَى أَنَّ الدِّبَاغَ لَا يَطْهُرُ أَوْ يَحْتَجِمَ وَلَا يَتَوَضَّأُ وَالْمَأْمُومُ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الْحِجَامَةِ . وَالصَّحِيحُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ صَحِيحَةٌ خَلْفَ إمَامِهِ وَإِنْ كَانَ إمَامُهُ مُخْطِئًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ : لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . وَكَذَلِكَ إذَا اقْتَدَى الْمَأْمُومُ بِمَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ أَوْ الْوِتْرِ قَنَتَ مَعَهُ سَوَاءٌ

قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ . وَإِنْ كَانَ لَا يَقْنُتُ لَمْ يَقْنُتْ مَعَهُ . وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى اسْتِحْبَابَ شَيْءٍ وَالْمَأْمُومُونَ لَا يَسْتَحِبُّونَهُ فَتَرْكُهُ لِأَجْلِ الِاتِّفَاقِ والائتلاف : كَانَ قَدْ أَحْسَنَ . مِثَالُ ذَلِكَ الْوِتْرُ فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِثَلَاثِ مُتَّصِلَةٍ . كَالْمَغْرِبِ : كَقَوْلِ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا رَكْعَةً مَفْصُولَةً عَمَّا قَبْلَهَا كَقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْأَمْرَيْنِ جَائِزَانِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَخْتَارُونَ فَصْلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ فَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى الْفَصْلَ فَاخْتَارَ الْمَأْمُومُونَ أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ كَالْمَغْرِبِ فَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ : { لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَلَأَلْصَقْتهَا بِالْأَرْضِ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ } فَتَرَكَ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُ : لِئَلَّا يَنْفِرَ النَّاسُ .

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَجُلٌ يَرَى الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ فَأَمَّ بِقَوْمِ لَا يَسْتَحِبُّونَهُ أَوْ بِالْعَكْسِ وَوَافَقَهُمْ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ فَهُوَ بِحَسَبِ مَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ السُّنَّةِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ اعْتَقَدَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْنُتْ إلَّا شَهْرًا ثُمَّ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لَهُ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ مَنْسُوخٌ وَطَائِفَةٌ مِنْ L أهل الْحِجَازِ اعْتَقَدُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ . وَالصَّوَابُ هُوَ " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا . أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رَعْلٍ وذكوان وَعُصَيَّةَ ثُمَّ تَرَكَ هَذَا الْقُنُوتَ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةِ بَعْدَ خَيْبَرَ وَبَعْدَ إسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَنَتَ وَكَانَ يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ : { اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ أَشْدِدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِّي يُوسُفَ } . فَلَوْ كَانَ قَدْ نُسِخَ الْقُنُوتُ لَمْ يَقْنُتْ هَذِهِ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ وَفِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَكْثَرُ قُنُوتِهِ

كَانَ فِي الْفَجْرِ وَلَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى الْقُنُوتِ لَا فِي الْفَجْرِ وَلَا غَيْرِهَا ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا } . فَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : { مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا } إنَّمَا قَالَهُ فِي سِيَاقِهِ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ عَارَضَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ فَإِنَّ الرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ لَيْسَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ فَكَيْفَ وَهُوَ لَمْ يُعَارِضْهُ . وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ الْقِيَامَ فِي الْفَجْرِ دَائِمًا قَبْلَ الرُّكُوعِ . وَأَمَّا أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي الْفَجْرِ دَائِمًا فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ بِدُعَاءِ يُسْمَعُ مِنْهُ أَوْ لَا يُسْمَعُ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا وَكُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَلِمَ هَذَا بِالضَّرُورَةِ وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ وَاقِعًا لَنَقَلَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَلَمَا أَهْمَلُوا قُنُوتَهُ الرَّاتِبَ الْمَشْرُوعَ لَنَا مَعَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا قُنُوتَهُ الَّذِي لَا يُشْرَعُ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا يُشْرَعُ نَظِيرُهُ ؛ فَإِنَّ دُعَاءَهُ لِأُولَئِكَ الْمُعَيَّنِينَ وَعَلَى أُولَئِكَ الْمُعَيَّنِينَ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ إنَّمَا يُشْرَعُ نَظِيرُهُ . فَيُشْرَعُ أَنْ يَقْنُتَ عِنْدَ النَّوَازِلِ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَدْعُو عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْفَجْرِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ وَهَكَذَا كَانَ عُمَرُ يَقْنُتُ لَمَّا حَارَبَ النَّصَارَى بِدُعَائِهِ الَّذِي فِيهِ : " اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " إلَى آخِرِهِ .

وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا حَارَبَ قَوْمًا قَنَتَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ وَيَنْبَغِي لِلْقَانِتِ أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ كُلِّ نَازِلَةٍ بِالدُّعَاءِ الْمُنَاسِبِ لِتِلْكَ النَّازِلَةِ وَإِذَا سَمَّى مَنْ يَدْعُو لَهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَدْعُو عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا . وَأَمَّا قُنُوتُ الْوَتَرِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : لَا يُسْتَحَبُّ بِحَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْوِتْرِ . وَقِيلَ : بَلْ يُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كَمَا يُنْقَلُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ وَقِيلَ : بَلْ يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ . كَمَا كَانَ أبي بْنُ كَعْبٍ يَفْعَلُ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ قُنُوتَ الْوِتْرِ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ السَّائِغِ فِي الصَّلَاةِ مَنْ شَاءَ فَعَلَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ . كَمَا يُخَيَّرُ الرَّجُلُ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثِ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَكَمَا يُخَيَّرُ إذَا أَوْتَرَ بِثَلَاثِ إنْ شَاءَ فَصَلَ وَإِنْ شَاءَ وَصَلَ . وَكَذَلِكَ يُخَيَّرُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِذَا صَلَّى بِهِمْ قِيَامَ رَمَضَانَ فَإِنْ قَنَتَ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ فَقَدْ أَحْسَنَ وَإِنْ قَنَتَ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ فَقَدْ أَحْسَنَ وَإِنْ لَمْ يَقْنُتْ بِحَالِ فَقَدْ أَحْسَنَ .

كَمَا أَنَّ نَفْسَ قِيَامِ رَمَضَانَ لَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَدَدًا مُعَيَّنًا ؛ بَلْ كَانَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةِ رَكْعَةً لَكِنْ كَانَ يُطِيلُ الرَّكَعَاتِ فَلَمَّا جَمَعَهُمْ عُمَرُ عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثِ وَكَانَ يُخِفُّ الْقِرَاءَةَ بِقَدْرِ مَا زَادَ مِنْ الرَّكَعَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مِنْ تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ يَقُومُونَ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثِ وَآخَرُونَ قَامُوا بِسِتِّ وَثَلَاثِينَ وَأَوْتَرُوا بِثَلَاثِ وَهَذَا كُلُّهُ سَائِغٌ فَكَيْفَمَا قَامَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ أَحْسَنَ . وَالْأَفْضَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُصَلِّينَ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ احْتِمَالٌ لِطُولِ الْقِيَامِ فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلَاثٍ بَعْدَهَا . كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هُوَ الْأَفْضَلُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَحْتَمِلُونَهُ فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الْأَفْضَلُ وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَلَا يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ

السَّعَةُ فِي نَفْسِ عَدَدِ الْقِيَامِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِزِيَادَةِ الْقِيَامِ لِأَجْلِ دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْ تَرْكِهِ كُلُّ ذَلِكَ سَائِغٌ حَسَنٌ . وَقَدْ يَنْشَطُ الرَّجُلُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَطْوِيلَ الْعِبَادَةِ وَقَدْ لَا يَنْشَطُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَخْفِيفَهَا . وَكَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَدِلَةً . إذَا أَطَالَ الْقِيَامَ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَإِذَا خَفَّفَ الْقِيَامَ خَفَّفَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ الْأَفْضَلُ طُولُ الْقِيَامِ ؟ أَمْ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ؟ أَوْ كِلَاهُمَا سَوَاءٌ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَصَحُّهَا أَنَّ كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ فَإِنَّ الْقِيَامَ اخْتَصَّ بِالْقِرَاءَةِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالسُّجُودُ نَفْسُهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِيَامِ فَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا طَوَّلَ الْقِيَامَ أَنْ يُطِيلَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَهَذَا هُوَ طُولُ الْقُنُوتِ الَّذِي أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا { قِيلَ لَهُ : أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : طُولُ الْقُنُوتِ } فَإِنَّ الْقُنُوتَ هُوَ إدَامَةُ الْعِبَادَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الْقِيَامِ أَوْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا } فَسَمَّاهُ قَانِتًا فِي حَالِ سُجُودِهِ كَمَا سَمَّاهُ قَانِتًا فِي حَالِ قِيَامِهِ .

وَأَمَّا الْبَسْمَلَةُ : فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يَجْهَرُ بِهَا وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا بَلْ يَقْرَؤُهَا سِرًّا أَوْ لَا يَقْرَؤُهَا وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَجْهَرُونَ بِهَا أَكْثَرُهُمْ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا تَارَةً وَيُخَافِتُ بِهَا أُخْرَى وَهَذَا لِأَنَّ الذِّكْرَ قَدْ يَكُونُ السُّنَّةُ الْمُخَافَتَةَ بِهِ وَيُجْهَرُ بِهِ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ مِثْلِ تَعْلِيمِ الْمَأْمُومِينَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ جَهَرَ بِالْفَاتِحَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّهَا سُنَّةٌ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قِيلَ : لَا تُسْتَحَبُّ بِحَالِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَقِيلَ : بَلْ يَجِبُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ بِالْفَاتِحَةِ . كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقِيلَ : بَلْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا سُنَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ بَلْ دَعَا بِلَا قِرَاءَةٍ جَازَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ : " اللَّهُ أَكْبَرُ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك " يَجْهَرُ بِذَلِكَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِذَلِكَ لَيْسَ بِسُنَّةِ رَاتِبَةٍ ؛ لَكِنْ جَهَرَ بِهِ لِلتَّعْلِيمِ وَلِذَلِكَ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ

يَجْهَرُ أَحْيَانًا بِالتَّعَوُّذِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ جَهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مَعَ إقْرَارِ الصَّحَابَةِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ . وَأَنْ يَشْرَعَ الْجَهْرُ بِهَا أَحْيَانًا لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ . لَكِنْ لَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْهَرْ بِالِاسْتِفْتَاحِ . وَلَا بِالِاسْتِعَاذَةِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَعِّدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَعَّدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ أَقْوَى مِنْ الْجَهْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ ؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهَا وَإِنْ كَانُوا قَدْ تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ . وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ أَضْعَفُ مِنْ النِّزَاعِ فِي وُجُوبِ الْبَسْمَلَةِ . وَالْقَائِلُونَ بِوُجُوبِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا وَلَيْسَ فِي الصِّحَاحِ وَلَا السُّنَنِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ بِالْجَهْرِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّرِيحَةُ بِالْجَهْرِ كُلُّهَا

ضَعِيفَةٌ ؛ بَلْ مَوْضُوعَةٌ ؛ وَهَذَا لَمَّا صَنَّفَ الدارقطني مُصَنَّفًا فِي ذَلِكَ قِيلَ لَهُ : هَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَحِيحٌ ؟ فَقَالَ : أَمَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا وَأَمَّا عَنْ الصَّحَابَةِ فَمِنْهُ صَحِيحٌ وَمِنْهُ ضَعِيفٌ . وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ يَنْقُلُونَ ذَلِكَ وَلَكَانَ الْخُلَفَاءُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَمَا كَانَ النَّاسُ يَحْتَاجُونَ أَنْ يَسْأَلُوا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَصْرِ الْخُلَفَاءِ وَلَمَا كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ثُمَّ خُلَفَاءُ بَنِي أُمِّيَّةَ وَبَنِيَّ الْعَبَّاسِ كُلِّهِمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ وَلَمَا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ - وَهُمْ أَعْلَمُ أَهْلِ الْمَدَائِنِ بِسُنَّتِهِ - يُنْكِرُونَ قِرَاءَتَهَا بِالْكُلِّيَّةِ سِرًّا وَجَهْرًا وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ هِيَ آيَةٌ أَوْ بَعْضُ آيَةٍ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ ؟ أَوْ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ ؟ أَوْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ حَيْثُ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : هُوَ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَدِلَّةُ فَإِنَّ كِتَابَةَ الصَّحَابَةِ لَهَا فِي الْمَصَاحِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ . وَكَوْنُهُمْ فَصَلُوهَا عَنْ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } إلَى آخِرِهَا } .

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ أَوَّلُ مَا جَاءَ الْمَلَكُ بِالْوَحْيِ قَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } } فَهَذَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ وَلَمْ يَنْزِلْ قَبْلَ ذَلِكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ : { سُورَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلِ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ . } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ . فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي . فَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي . فَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ . وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ . فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ اللَّهُ : هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } . فَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ

حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ . وَأَجْوَدُ مَا يُرَى فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحَدِيثِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُقْرَأُ بِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْهَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقُرَّاءُ مِنْهُمْ مَنْ يَقْرَأُ بِهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْرَأُ بِهَا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ سَائِغٌ لَكِنْ مَنْ قَرَأَ بِهَا كَانَ قَدْ أَتَى بِالْأَفْضَلِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَرَّرَ قِرَاءَتَهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كَانَ أَحْسَنَ مِمَّنْ تَرَكَ قِرَاءَتَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَرَأَ مَا كَتَبَتْهُ الصَّحَابَةُ فِي الْمَصَاحِفِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ كَتَبُوهَا عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْرَأَ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَكْتُبُونَ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَا يَشْرَعُ قِرَاءَتُهُ وَهُمْ قَدْ جَرَّدُوا الْمُصْحَفَ عَمَّا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا التَّأْمِينَ وَلَا أَسْمَاءَ السُّورِ وَلَا التَّخْمِيسَ وَالتَّعْشِيرَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ . مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ : آمِينَ فَكَيْفَ يَكْتُبُونَ مَا لَا يَشْرَعُ أَنْ يَقُولَهُ وَهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا مَا يَشْرَعُ أَنْ يَقُولَهُ الْمُصَلِّي مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ . وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ { أَنَسٍ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } أَوْ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى " فَلَمْ يَكُونُوا يَذْكُرُونَ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) فِي

أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا آخِرِهَا " إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجَهْرِ لِأَنَّ أَنَسًا لَمْ يَنْفِ إلَّا مَا عَلِمَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا كَانَ يَقُولُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرًّا . وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ ؛ بَلْ يَصِلُ . التَّكْبِيرَ بِالْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَهُ : أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ } . وَمَنْ تَأَوَّلَ حَدِيثَ أَنَسٍ عَلَى نَفْيِ قِرَاءَتِهَا سِرًّا فَهُوَ مُقَابِلٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مُرَادُ أَنَسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَبْلَ غَيْرِهَا مِنْ السُّورِ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي مَا زَالَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ صَلَّى خَلْفَهُمْ أَنَسٌ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ قَبْلَ السُّورَةِ وَلَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ وَلَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَحَدٌ لَا أَنَسٌ وَلَا غَيْرُهُ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَرْوِيَ أَنَسٌ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ وَمَنْ رَوَى عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ شَكَّ هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ أَوْ لَا يَقْرَؤُهَا فَرِوَايَتُهُ تُوَافِقُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّ أَنَسًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هَلْ قَرَأَهَا سِرًّا أَمْ لَا وَإِنَّمَا نَفَى الْجَهْرَ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الَّذِي اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ : فِعْلُ الرَّوَاتِبِ فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ مَنْ شَاءَ فَعَلَهَا وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَالصَّلَاةُ الَّتِي يَجُوزُ فِعْلُهَا وَتَرْكُهَا قَدْ يَكُونُ فِعْلُهَا أَحْيَانًا أَفْضَلَ

لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إلَيْهَا وَقَدْ يَكُونُ تَرْكُهَا أَفْضَلَ إذَا كَانَ مُشْتَغِلًا عَنْ النَّافِلَةِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا ؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي مِنْ الرَّوَاتِبِ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ وَلَمَّا نَامَ عَنْ الْفَجْرِ صَلَّى السُّنَّةَ وَالْفَرِيضَةَ بَعْدَ مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ وَهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ . فَأَمَّا الصَّلَاةُ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرِيضَةِ . فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوَقِّتْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا . وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَّتَ أَشْيَاءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ؛ بَلْ أَحَادِيثَ يَعْلَمُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ كَمَنْ يُوَقِّتُ سِتًّا قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعِشَاءِ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ الْقَوْلُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ دُونَ مَا عَارَضَهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ

وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ } . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا } وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا وَسَائِرُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهَكَذَا فِي الصَّحِيحِ وَفِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا التِّرْمِذِيُّ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ . وَحَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } . وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَنِ تَفْسِيرُهَا : ( أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ " فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّهُ رَغَّبَ بِقَوْلِهِ فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً . وَفِي الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ : أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ الْمَكْتُوبَةِ إمَّا عَشْرَ رَكَعَاتٍ وَإِمَّا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَكَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً فَكَانَ مَجْمُوعُ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً كَانَ يُوتِرُ صَلَاةَ النَّهَارِ بِالْمَغْرِبِ وَيُوتِرُ صَلَاةَ اللَّيْلِ بِوَتْرِ اللَّيْلِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ وَقَالَ : فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً .

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَإِقَامَتِهَا رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ يَرَاهُمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ فَإِذَا كَانَ التَّطَوُّعُ بَيْنَ أَذَانَيْ الْمَغْرِبِ مَشْرُوعًا فَلَأَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا بَيْنَ أَذَانَيْ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ السُّنَّةَ تَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعَصْرِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ : مِنْ التَّطَوُّعِ الْمَشْرُوعِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا بِقَوْلِهِ وَلَا دَاوَمَ عَلَيْهَا بِفِعْلِهِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سُنَّةٌ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْعَصْرِ قَضَاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَدْ غَلِطَ وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ لَمَّا فَاتَتْهُ قَضَاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ وَمَا يَفْعَلُ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُوَ قَبْلَ الْعَصْرِ وَلَمْ يَقْضِ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَّا الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ . و " التَّطَوُّعُ الْمَشْرُوعُ " كَالصَّلَاةِ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ وَكَالصَّلَاةِ وَقْتَ الضُّحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ كَسَائِرِ التَّطَوُّعَات مِنْ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ مِمَّا قَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لِمَنْ لَا يَشْتَغِلُ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لِمَنْ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْقَلِيلِ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ لَا يُدَاوَمُ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيمَةً . وَاسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَدَدٌ مِنْ الرَّكَعَاتِ يَقُومُ بِهَا مِنْ

اللَّيْلِ لَا يَتْرُكُهَا فَإِنْ نَشِطَ أَطَالَهَا وَإِنْ كَسِلَ خَفَّفَهَا وَإِذَا نَامَ عَنْهَا صَلَّى بَدَلَهَا مِنْ النَّهَارِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَامَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ صَلَّى فِي النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَقَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ " صَلَاةُ الضُّحَى " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ وَمَنْ زَعَمَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ رَكْعَتَيْ الضُّحَى كَانَتَا وَاجِبَتَيْنِ عَلَيْهِ فَقَدْ غَلِطَ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ { ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرِيضَةٌ وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ : الْوِتْرُ وَالْنَحْرُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى } حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ ؛ بَلْ ثَبَتَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَقْتَ الضُّحَى لِسَبَبِ عَارِضٍ ؛ لَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ : مِثْلَ أَنْ يَنَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَيُصَلِّيَ مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَمِثْلَ أَنْ يَقْدَمَ مِنْ سَفَرٍ وَقْتَ الضُّحَى فَيَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّيَ فِيهِ . وَمِثْلَ مَا صَلَّى لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ كَانُوا يُسَمُّونَهَا " صَلَاةَ الْفَتْحِ " وَكَانَ مِنْ الْأُمَرَاءِ مَنْ يُصَلِّيهَا إذَا فَتَحَ مِصْرًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا صَلَّاهَا لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ . وَلَوْ كَانَ سَبَبُهَا مُجَرَّدَ الْوَقْتِ كَقِيَامِ اللَّيْلِ لَمْ يَخْتَصَّ بِفَتْحِ مَكَّةَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ

مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَا يُصَلِّي الضُّحَى ؛ لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : { أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثِ : صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ } . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى كُلَّ يَوْمٍ } " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ قُبَاء وَهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى فَقَالَ : صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمَضَتْ الْفِصَالُ مِنْ الضُّحَى } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَأَمْثَالُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَقْتَ الضُّحَى حَسَنَةٌ مَحْبُوبَةٌ . بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : فَهَلْ الْأَفْضَلُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا ؟ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ الْأَفْضَلُ تَرْكُ الْمُدَاوَمَةِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعُوا فِيهِ . وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ : مَنْ كَانَ مُدَاوِمًا عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ أَغْنَاهُ عَنْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ وَمَنْ كَانَ يَنَامُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ فَصَلَاةُ الضُّحَى بَدَلٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ .

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَوْصَاهُ أَنْ يُوتِرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ وَهَذَا إنَّمَا يُوصِي بِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَادَتُهُ قِيَامَ اللَّيْلِ وَإِلَّا فَمَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ قِيَامَ اللَّيْلِ وَهُوَ يَسْتَيْقِظُ غَالِبًا مِنْ اللَّيْلِ فَالْوِتْرُ آخِرُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ لَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَسْتَيْقِظَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ آخِرَهُ . فَلْيُوتِرْ آخِرَهُ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ : أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ ؟ فَقَالَ : قِيَامُ اللَّيْلِ } .
فَصْلٌ :
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَنَّهُ سَنَّ الْأَمْرَيْنِ لَكِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ حَرَّمَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ أَوْ كَرِهَهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ تَأَوَّلَ الْحَدِيثَ تَأْوِيلًا ضَعِيفًا وَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ فَهُوَ مَسْنُونٌ لَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . فَمِنْ ذَلِكَ أَنْوَاعُ التَّشَهُّدَاتِ : فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ

مُسْلِمٍ تَشَهُّدُ أَبِي مُوسَى وَأَلْفَاظُهُ قَرِيبَةٌ مِنْ أَلْفَاظِهِ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَشَهُّدُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَفِي السُّنَنِ تَشَهُّدُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَثَبَتَ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ تَشَهُّدًا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ لِيُعَلِّمَهُمْ تَشَهُّدًا يُقِرُّونَهُ عَلَيْهِ إلَّا وَهُوَ مَشْرُوعٌ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ التَّشَهُّدَ بِكُلِّ مِنْ هَذِهِ جَائِزٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْإِتْيَانَ بِأَلْفَاظِ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَاجِبٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد فَقَدْ أَخْطَأَ . وَمِنْ ذَلِكَ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ : فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ بِلَالًا أُمِرَ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ " { أَنَّهُ عَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ فَرَجَّعَ فِي الْأَذَانِ وَثَنَّى الْإِقَامَةَ } وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ كَبَّرَ فِي أَوَّلِهِ أَرْبَعًا كَمَا فِي السُّنَنِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَبَّرَ مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ . وَفِي السُّنَنِ أَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ لَيْسَ فِيهِ تَرْجِيعٌ لِلْأَذَانِ وَلَا تَثْنِيَةٌ لِلْإِقَامَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَذَانِ بِلَالٍ وَأَبِي مَحْذُورَةَ سُنَّةٌ فَسَوَاءٌ رَجَّعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْأَذَانِ أَوْ لَمْ يُرَجِّعْ وَسَوَاءٌ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ أَوْ ثَنَّاهَا فَقَدْ أَحْسَنَ وَاتَّبَعَ السُّنَّةَ .

وَمَنْ قَالَ : إنَّ التَّرْجِيعَ وَاجِبٌ لَا بُدَّ مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَكِلَاهُمَا مُخْطِئٌ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّ إفْرَادَ الْإِقَامَةِ مَكْرُوهٌ أَوْ تَثْنِيَتَهَا مَكْرُوهٌ فَقَدْ أَخْطَأَ . وَأَمَّا اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا فَهَذَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَاخْتِيَارِ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَاخْتِيَارِ بَعْضِ التَّشَهُّدَاتِ عَلَى بَعْضٍ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْوَاعُ " صَلَاةِ الْخَوْفِ " الَّتِي صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ " الِاسْتِسْقَاءِ " فَإِنَّهُ اسْتَسْقَى مَرَّةً فِي مَسْجِدِهِ بِلَا صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَمَرَّةً خَرَجَ إلَى الصَّحْرَاءِ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَكَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِالدُّعَاءِ بِلَا صَلَاةٍ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ جَائِزٌ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ : فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا الْفِطْرُ وَأَنَّهُ لَوْ صَامَ لَمْ يُجْزِئْهُ . وَزَعَمُوا أَنَّ الْإِذْنَ لَهُمْ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ : { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ . وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُنَافِي إذْنَهُ لَهُمْ فِي الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْبِرِّ وَلَمْ يَنْفِ أَنْ

يَكُونَ جَائِزًا مُبَاحًا وَالْفَرْضُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ النَّوْعِ الْجَائِزِ الْمُبَاحِ إذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ . وَالْمُرَادُ بِهِ كَوْنُهُ فِي السَّفَرِ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ كَمَا لَوْ صَامَ وَعَطَّشَ نَفْسَهُ بِأَكْلِ الْمَالِحِ أَوْ صَامَ وَأَضْحَى لِلشَّمْسِ فَإِنَّهُ يُقَالُ : لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي الشَّمْسِ وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة : مَعْنَاهُ لَيْسَ مَنْ صَامَ بِأَبَرَّ مِمَّنْ لَمْ يَصُمْ . فَفِي هَذَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ فَإِنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَامَ أَوَّلًا فِي السَّفَرِ ؛ ثُمَّ أَفْطَرَ فِيهِ وَمَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ نَقْصٌ فِي الدِّينِ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ وَإِذَا صَامَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَقِدًا وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَتَحْرِيمَ الْفِطْرِ فَقَدْ أَمَرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِالْإِعَادَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ حَمْزَةَ . بْنَ عَمْرٍو سَأَلَهُ ؛ فَقَالَ : إنَّنِي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ : إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ } فَإِذَا فَعَلَ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ مِنْ تَعْجِيلِ الصَّوْمِ أَوْ تَأْخِيرِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِنَا الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِنَا الْعُسْرَ . أَمَّا إذَا كَانَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنْ تَأْخِيرِهِ فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ فَإِنَّ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } وَأَخْرَجَهُ بَعْضُهُمْ إمَّا ابْنُ خُزَيْمَة وَإِمَّا غَيْرُهُ فِي صَحِيحِهِ وَهَذِهِ الصِّحَاحُ مَرْتَبَتُهَا دُونَ مَرْتَبَةِ صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ .

وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ : إذَا حَالَ دُونَ مَنْظَرِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَكَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُفْطِرُ وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَوْجَبَ صَوْمَهُ بَلْ الَّذِينَ صَامُوهُ إنَّمَا صَامُوهُ عَلَى طَرِيقِ التَّحَرِّي وَالِاحْتِيَاطِ وَالْآثَارُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُمْ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَالْعُلَمَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ نَهَى عَنْ صَوْمِهِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْرَعُ فِيهِ الْأَمْرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْإِمْسَاكِ إذَا غَمَّ مَطْلَعُ الْفَجْرِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ اتِّبَاعًا لِابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَابِ كَسَائِرِ مَا يُشَكُّ فِي وُجُوبِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ . وَإِذَا صَامَهُ الرَّجُلُ بِنِيَّةِ مُعَلَّقَةٍ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا فَلَا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ فَمَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ نَوَاهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الشَّيْءَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقْصِدَهُ

فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْصِدَ صَوْمَ رَمَضَانَ جَزْمًا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ
وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَاَلَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ فَلَا يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ فِي السَّفَرِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ الشَّيْخَانِ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ . وَمَا كَانَ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إلَّا أَحْيَانًا عِنْدَ الْحَاجَةِ لَمْ يَكُنْ جَمْعُهُ كَقَصْرِهِ بَلْ الْقَصْرُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ وَالْجَمْعُ رُخْصَةٌ عَارِضَةٌ فَمَنْ نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَبَّعَ فِي السَّفَرِ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ أَوْ الْعِشَاءَ فَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ لَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ . وَلَكِنْ رَوَى بَعْضُ النَّاسِ حَدِيثًا عَنْ { عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَتَصُومُ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ } " فَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ هُوَ كَانَ الَّذِي يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ وَنَفْسُ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي فِعْلِهَا بَاطِلٌ وَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَّا كَصَلَاتِهِ وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهُ أَحَدٌ أَرْبَعًا قَطُّ لَا بِعَرَفَةَ وَلَا بمزدلفة وَلَا غَيْرِهِمَا لَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ بَلْ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ يُقِيمُ بِمِنَى أَيَّامَ الْمَوْسِمِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ

ثُمَّ عُثْمَانُ بْنُ عفان فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعًا لِأُمُورِ رَآهَا تَقْتَضِي ذَلِكَ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَفَهُ . وَلَمْ يَجْمَعْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَّا بِعَرَفَةَ وبمزدلفة خَاصَّةً لَكِنَّهُ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْفَارِهِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ إلَى بَعْدِ الْعِشَاءِ ثُمَّ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ فَصَلَّاهُمَا جَمِيعًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ يَجُوزُ سَوَاءٌ نَوَى الْقَصْرَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ سَوَاءٌ نَوَاهُ مَعَ الصَّلَاةِ الْأُولَى أَوْ لَمْ يَنْوِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا صَلَّوْا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ عِنْدَ افْتِتَاحِ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِأَنْ يَنْوُوا الْجَمْعَ وَلَا كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَجْمَعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ سُفْرَتِهِ تِلْكَ وَلَا أَمَرَ أَحَدًا خَلْفَهُ لَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا غَيْرِهِمْ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْهُ لَا بِتَرْبِيعِ الصَّلَاتَيْنِ وَلَا بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ بَلْ صَلَّوْهَا مَعَهُ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ الْأَفْضَلُ إلَّا قَوْلًا شَاذًّا لِبَعْضِهِمْ وَاتَّفَقُوا أَنَّ فِعْلَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يُوجِبُ الْجَمْعَ إلَّا قَوْلًا شَاذًّا لِبَعْضِهِمْ .

وَالْقَصْرُ سَبَبُهُ السَّفَرُ خَاصَّةً لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ السَّفَرِ وَأَمَّا الْجَمْعُ فَسَبَبُهُ الْحَاجَةُ وَالْعُذْرُ فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهِ جَمَعَ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ وَنَحْوِهِ وَلِلْمَرَضِ وَنَحْوِهِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَمَعَ فِي السَّفَرِ وَهُوَ نَازِلٌ إلَّا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْمُجَوِّزُونَ لِلْجَمْعِ . كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : هَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ النَّازِلِ ؟ . فَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجَمْعَ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ فِي الْحَجِّ . فَإِنَّ مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ جَوَازُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا التَّمَتُّعُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالشِّيعَةِ وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُتْعَةِ وَيُعَاقِبُونَ مَنْ تَمَتَّعَ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي حَجَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَمَتَّعَ فِيهِ أَوْ أَفْرَدَ أَوْ قَرَنَ ؟ وَتَنَازَعُوا أَيُّ الثَّلَاثَةِ أَفْضَلُ ؟ فَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد تَظُنُّ أَنَّهُ تَمَتَّعَ تَمَتُّعًا حَلَّ فِيهِ مِنْ إحْرَامِهِ . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَظُنُّ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ حَتَّى طَافَ وَسَعَى لِلْعُمْرَةِ .

وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ تَظُنُّ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ تَظُنُّ أَنَّهُ قَرَنَ قِرَانًا طَافَ فِيهِ طَوَافَيْنِ وَسَعَى فِيهِ سعيين . وَطَائِفَةٌ تَظُنُّ أَنَّهُ أَحْرَمَ مُطْلَقًا . وَكُلُّ ذَلِكَ خَطَأٌ لَمْ تَرْوِهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَلْ عَامَّةُ رِوَايَاتِ الصَّحَابَةِ مُتَّفِقَةٌ وَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فَلِعَدَمِ فَهْمِهِ أَحْكَامَهُمْ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ نَقَلُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ هَكَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَأَنَّهُ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا كَمَا نَقَلُوا أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ بَلْ لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ الْحَجِّ إلَّا عَائِشَةُ ؛ لِأَجْلِ حَيْضَتِهَا . وَلَفْظُ " الْمُتَمَتِّعِ " فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ اسْمٌ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا لِكَوْنِهِ سَاقَ الْهَدْيَ أَوْ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَسُقْهُ وَهَذَا قَدْ يُسَمُّونَهُ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ وَقَارِنًا . وَقَدْ يَقُولُونَ لَا يَدْخُلُ فِي التَّمَتُّعِ الْخَاصِّ بَلْ هُوَ قَارِنٌ . وَمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الْقِرَانَ يُسَمُّونَهُ تَمَتُّعًا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثَ

صَحِيحَةٍ ؛ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ نَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجِّ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ لِأَجْلِ سَوْقِهِ الْهَدْيَ فَهُوَ لَمْ يَتَمَتَّعْ مُتْعَةً حَلَّ فِيهَا مِنْ إحْرَامِهِ : فَلِهَذَا صَارَ كَالْمُفْرِدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَأَمَّا الْأَفْضَلُ لِمَنْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ : فَالتَّحَلُّلُ مِنْ إحْرَامِهِ بِعُمْرَةِ أَفْضَلُ لَهُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَإِنَّهُ أَمَرَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ بِالتَّمَتُّعِ وَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ لَهُ أَفْضَلُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي سَفْرَةٍ وَحَجَّ فِي سَفْرَةٍ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ فَهَذَا الْإِفْرَادُ لَا أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : فَهُوَ مِمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ : فَأَوْجَبَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا أَوْ اسْتَحَبَّهُ وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ وَالسُّنَّةُ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ تُسَوِّغْهُمَا جَمِيعًا فَهَذَا هُوَ أَشْكَلُ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ . وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَالسُّنَّةُ قَدْ سَوَّغَتْ الْأَمْرَيْنِ . وَهَذَا مِثْلُ تَنَازُعِهِمْ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَ الْجَهْرِ فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ . قِيلَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ يَسْمَعُ لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ

وَالْخَلَفِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : بَلْ يَجُوزُ الْأَمْرَانِ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ . وَيُرْوَى هَذَا عَنْ الأوزاعي وَأَهْلِ الشَّامِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَقِيلَ : بَلْ الْقِرَاءَةُ وَاجِبَةٌ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ . وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } قَالَ أَحْمَد : أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا وَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ فَتِلْكَ بِتِلْكَ } الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ . وَرُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَذَكَرَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ ثَابِتٌ : فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِنْصَاتِ لِلْإِمَامِ إذَا قَرَأَ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الِائْتِمَامِ بِهِ فَمَنْ لَمْ يُنْصِتْ لَهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ ائْتَمَّ بِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ لِأَجْلِ الْمَأْمُومِ وَلِهَذَا يُؤَمِّنُ الْمَأْمُومُ عَلَى دُعَائِهِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ ضَاعَ جَهْرُهُ وَمَصْلَحَةُ مُتَابِعَةِ الْإِمَامِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُنْفَرِدُ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَعَلَ كَمَا يَفْعَلُ فَيَتَشَهَّدُ عَقِيبَ الْوِتْرِ

وَيَسْجُدُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ إذَا وَجَدَهُ سَاجِدًا كُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ فَكَيْفَ لَا يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ مَعَ أَنَّهُ بِالِاسْتِمَاعِ يَحْصُلُ لَهُ مَصْلَحَةُ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ الْمُسْتَمِعَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْقَارِئِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا اتِّفَاقُهُمْ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ مَعَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ إذَا جَهَرَ فَلَوْلَا أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الْقِرَاءَةِ بِإِنْصَاتِهِ لَهُ لَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ لِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنْ اسْتِمَاعِهِ لِلْإِمَامِ وَإِذَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِالْإِنْصَاتِ أَجْرُ الْقَارِئِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قِرَاءَتِهِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ بَلْ فِيهَا مَضَرَّةٌ شَغَلَتْهُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَقَدْ تَنَازَعُوا إذَا لَمْ يَسْمَعْ الْإِمَامَ لِكَوْنِ الصَّلَاةِ صَلَاةَ مُخَافَتَةٍ أَوْ لِبُعْدِ الْمَأْمُومِ أَوْ طَرَشِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ هَلْ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَقْرَأَ أَوْ يَسْكُتَ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمِعُ قِرَاءَةً يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ فَإِذَا قَرَأَ لِنَفْسِهِ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ الْقِرَاءَةِ وَإِلَّا بَقِيَ سَاكِتًا لَا قَارِئًا وَلَا مُسْتَمِعًا وَمَنْ سَكَتَ غَيْرَ مُسْتَمِعٍ وَلَا قَارِئٍ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِذَلِكَ وَلَا مَحْمُودًا ؛ بَلْ جَمِيعُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى : كَالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ أَوْ الِاسْتِمَاعِ لِلذِّكْرِ . وَإِذَا قِيلَ : بِأَنَّ الْإِمَامَ يَحْمِلُ عَنْهُ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فَقِرَاءَتُهُ لِنَفْسِهِ أَكْمَلُ لَهُ وَأَنْفَعُ لَهُ وَأَصْلَحُ لِقَلْبِهِ وَأَرْفَعُ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَالْإِنْصَاتُ

يُؤْمَرُ بِهِ إلَّا حَالَ الْجَهْرِ فَأَمَّا حَالَ الْمُخَافَتَةِ فَلَيْسَ فِيهِ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ حَتَّى يُنْصِتَ لَهُ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ : فِعْلُ الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مِثْلِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ . وَالسُّنَّةُ إمَّا أَنْ تَسْتَحِبَّهُ وَإِمَّا أَنْ تَكْرَهَهُ . وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ فَإِنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ } عُمُومٌ مَخْصُوصٌ خَصَّ مِنْهَا صَلَاةَ الْجَنَائِزِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَخَصَّ مِنْهَا قَضَاءَ الْفَوَائِتِ بِقَوْلِهِ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَضَى رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ } { وَقَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا لَمْ يُصَلِّيَا بَعْدَ الْفَجْرِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ : إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } وَقَدْ قَالَ : { يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى فِيهِ أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } فَهَذَا الْمَنْصُوصُ يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ خَرَجَتْ مِنْهُ صُورَةٌ .

أَمَّا قَوْلُهُ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } فَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ لَمْ يَخُصَّ مِنْهُ صُورَةً فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِعُمُومِ مَخْصُوصٍ ؛ بَلْ الْعُمُومُ الْمَحْفُوظُ أَوْلَى مِنْ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَشَدُّ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } فَلَمَّا أَمَرَ بِالرَّكْعَتَيْنِ فِي وَقْتِ هَذَا النَّهْيِ فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِ ذَلِكَ النَّهْيِ وَأَوْلَى . وَلِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ فِي بَعْضِهَا " لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ " فَنَهَى عَنْ التَّحَرِّي لِلصَّلَاةِ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَلِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : إنَّ النَّهْيَ فِيهَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ . وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ جَوَّزَ التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْعَصْرِ مُطْلَقًا وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ إنَّمَا كَانَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ إلَى التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ وَمَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِلذَّرِيعَةِ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ . كَالصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ تَفُوتُ بِفَوَاتِ السَّبَبِ فَإِنْ لَمْ تُفْعَلْ فِيهِ وَإِلَّا فَاتَتْ الْمَصْلَحَةُ وَالتَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ لَا يَحْتَاجُ إلَى فِعْلِهِ وَقْتَ النَّهْيِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَغْرِقُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بِالصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي النَّهْيِ تَفْوِيتُ مَصْلَحَةٍ وَفِي فِعْلِهِ فِيهِ مَفْسَدَةٌ ؛ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ الَّذِي لَهُ سَبَبٌ يَفُوتُ : كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ ثُمَّ أَنَّهُ إذَا جَازَ رَكَعَتَا الطَّوَافِ مَعَ إمْكَانِ تَأْخِيرِ

الطَّوَافِ فَمَا يَفُوتُ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يُجَوِّزُونَ قَضَاءَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ دُونَ غَيْرِهَا لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي قَضَاءِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَيُقَالُ إذَا جَازَ قَضَاءُ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ مَعَ إمْكَانِ تَأْخِيرِهَا فَمَا يَفُوتُ كَالْكُسُوفِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَضَاءُ الْفَرِيضَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ قَضَائِهَا كَمَا { أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَ الْفَجْرِ لَمَّا نَامَ عَنْهَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ . وَقَالَ : إنَّ هَذَا وَادٍ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ } فَإِذَا جَازَ فِعْلُ مَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ . فَمَا لَا يُمْكِنُ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ أَوْلَى . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الْجَوَابِ.
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قِيَامُ اللَّيْلِ وَصِيَامُ النَّهَارِ فَالْأَفْضَلُ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ . وَقَالَ : { أَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد . كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إذَا لَاقَى } وَقَدْ ثَبَتَ

فِي الصِّحَاحِ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ . وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ . وَلَأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّ يَوْمٍ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ أَيْ غَارَتْ وَنَفَهَتْ لَهُ النَّفْسُ - أَيْ سَئِمَتْ - وَلَكِنْ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ صِيَامُك الدَّهْرَ يَعْنِي الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَقَالَ : إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَمَا زَالَ يُزَايِدُهُ . حَتَّى قَالَ : صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا قَالَ : إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ : لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ : فِي الْقِرَاءَةِ اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَمَا زَالَ يُزَايِدُهُ حَتَّى قَالَ اقْرَأْ فِي سَبْعٍ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ أَفْضَلَ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُد وَقَالَ لَهُ : إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا . وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا وَلِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا . فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ } فَبَيَّنَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ تُغَيِّرُ الْبَدَنَ وَالنَّفْسَ وَتَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ مَا هُوَ أَجْرٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ لِحَقِّ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالزَّوْجِ . وَأَفْضَلُ الْجِهَادِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَا كَانَ أَطْوَعَ لِلرَّبِّ وَأَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فَإِذَا كَانَ يَضُرُّهُ وَيَمْنَعُهُ مِمَّا هُوَ أَنْفَع مِنْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَالِحًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رِجَالًا قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ . أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَيْتُ وَكَيْتُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الزُّهْدِ الْفَاسِدِ وَالْعِبَادَةِ الْفَاسِدَةِ لَيْسَتْ مِنْ سُنَّتِهِ فَمَنْ رَغِبَ فِيهَا عَنْ سُنَّتِهِ فَرَآهَا خَيْرًا مِنْ سُنَّتِهِ فَلَيْسَ مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ : " عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إلَّا تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يتحات الْوَرَقُ الْيَابِسُ عَنْ الشَّجَرِ وَمَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إلَّا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ أَبَدًا . وَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ إنْ كَانَتْ اجْتِهَادًا أَوْ اقْتِصَادًا عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ " وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ : اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَة . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي سَرْدِ الصَّوْمِ : إذَا أَفْطَرَ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ مِنًى . فَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْعِبَادِ فَرَأَوْهُ أَفْضَلَ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يَرَوْهُ أَفْضَلَ بَلْ جَعَلُوهُ . سَائِغًا بِلَا كَرَاهَةٍ وَجَعَلُوا صَوْمَ شَطْرِ الدَّهْرِ أَفْضَلَ مِنْهُ وَحَمَلُوا مَا وَرَدَ فِي تَرْكِ صَوْمِ الدَّهْرِ عَلَى مَنْ صَامَ أَيَّامَ النَّهْيِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ :

وَهُوَ الصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ تَرْكًا لِلْأَوْلَى أَوْ كَرِهَ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَهْيِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ : { مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ } وَغَيْرَهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ . وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَوْمُ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ فَقَدْ غَلِطَ فَإِنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ لَا يُرَادُ بِهِ صَوْمُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ وَتِلْكَ الْخَمْسَةُ صَوْمُهَا مُحَرَّمٌ وَلَوْ أَفْطَرَ غَيْرَهَا فَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِكَوْنِ ذَلِكَ صَوْمًا لِلدَّهْرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ صَوْمِ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ يَوْمٍ وَالْمُرَادُ خَمْسَةٌ بَلْ مِثَالُ هَذَا مِثَالُ مَنْ قَالَ : ائْتِنِي بِكُلِّ مَنْ فِي الْجَامِعِ وَأَرَادَ بِهِ خَمْسَةً مِنْهُمْ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ : هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي سَرْدِ الصَّوْمِ لَا فِي صَوْمِ الْخَمْسَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ . فَقَالَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ قَالَ : فَمَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَقَالَ : وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ قَالَ : فَمَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ فَقَالَ : وَدِدْت أَنِّي طُوِّقْت ذَلِكَ فَقَالَ : فَمَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَقَالَ : ذَلِكَ أَفْضَلُ الصَّوْمِ } فَسَأَلُوهُ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ ثُمَّ عَنْ صَوْمِ ثُلُثَيْهِ ثُمَّ عَنْ صَوْمِ ثُلُثِهِ ثُمَّ عَنْ صَوْمِ شَطْرِهِ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ : { صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ } وَقَوْلُهُ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ . الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا } وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَمُرَادُهُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ صِيَامِ الدَّهْرِ بِتَضْعِيفِ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ فَإِذَا صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ صَوْمِ الدَّهْرِ بِدُونِ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَإِذَا صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالٍ حَصَلَ بِالْمَجْمُوعِ أَجْرُ صَوْمِ الدَّهْرِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ اسْتِغْرَاقُ الزَّمَانِ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً لَوْلَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاجِحَ وَهُوَ إضَاعَةُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ الصَّوْمِ وَحُصُولُ الْمَفْسَدَةِ رَاجِحَةٌ فَيَكُونُ قَدْ فَوَّتَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً مَعَ حُصُولِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَصْلَحَةِ الصَّوْمِ . وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكْمَةَ النَّهْيِ فَقَالَ : { مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ } فَإِنَّهُ يَصِيرُ الصِّيَامُ لَهُ عَادَةً كَصِيَامِ اللَّيْلِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا الصَّوْمِ وَلَا يَكُونُ صَامَ وَلَا هُوَ أَيْضًا أَفْطَرَ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ سَرَدَ الصَّوْمَ فَقَدْ ذَهَبَ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ جَمِيعَ اللَّيْلِ دَائِمًا أَوْ أَنَّهُ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ كَذَا كَذَا سَنَةً مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَنْقُولِ مِنْ ذَلِكَ ضَعِيفٌ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لِأَصْحَابِهِ : أَنْتُمْ

أَكْثَرُ صَوْمًا وَصَلَاةً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ . قَالُوا : لِمَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا وَأَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ .
فَأَمَّا سَرْدُ الصَّوْمِ بَعْضَ الْعَامِ فَهَذَا قَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ قَدْ كَانَ يَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا يُفْطِرُ . وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا يَصُومُ . وَكَذَلِكَ قِيَامُ بَعْضِ اللَّيَالِي جَمِيعَهَا . كَالْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ قِيَامِ غَيْرِهَا أَحْيَانًا فَهَذَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَنُ . وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ الْمِئْزَرَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ . وَأَحْيَا لَيْلَهُ كُلَّهُ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَامَ بِآيَةِ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ : { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَلَكِنْ غَالِبَ قِيَامِهِ كَانَ جَوْفَ اللَّيْلِ وَكَانَ يُصَلِّي بِمَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ كَمَا صَلَّى لَيْلَةً بِابْنِ عَبَّاسٍ وَلَيْلَةً بِابْنِ مَسْعُودٍ وَلَيْلَةً بِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ { وَقَدْ كَانَ أَحْيَانًا يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ وَيَرْكَعُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَيَرْفَعُ نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ

يَقُولُ : لِرَبِّي الْحَمْدُ لِرَبِّي الْحَمْدُ وَيَسْجُدُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَيَجْلِسُ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ يَقُولُ : رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي وَيَسْجُدُ } .
وَأَمَّا " الْوِصَالُ فِي الصِّيَامِ " فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ أَصْحَابَهُ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ إلَّا فِي الْوِصَالِ إلَى السَّحَرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ كَأَحَدِهِمْ . وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ يُوَاصِلُونَ مِنْهُمْ مَنْ يَبْقَى شَهْرًا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْقَى شَهْرَيْنِ وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِهِمْ ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِطَرِيقِ اللَّهِ وَأَنْصَحُ الْخَلْقِ لِعِبَادِ اللَّهِ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَطْوَعُهُمْ لَهُ وَأَتْبَعُهُمْ لِسُنَّتِهِ . وَالْأَحْوَالُ الَّتِي تَحْصُلُ عَنْ أَعْمَالٍ فِيهَا مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ أَحْوَالٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُكَاشَفَاتٌ وَفِيهَا تَأْثِيرَاتٌ فَمَنْ كَانَ خَبِيرًا بِهَذَا الْبَابِ عَلِمَ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْحَاصِلَةَ عَنْ عِبَادَاتٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ كَالْأَمْوَالِ الْمَكْسُوبَةِ بِطَرِيقِ غَيْرِ شَرْعِيٍّ وَالْمِلْكِ الْحَاصِلِ بِطَرِيقِ غَيْرِ شَرْعِيٍّ : فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْ اللَّهُ عَبْدَهُ بِتَوْبَةِ يَتَّبِعُ بِهَا الطَّرِيقَ الشَّرْعِيَّةَ وَإِلَّا كَانَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ سَبَبًا لِضَرَرِ يَحْصُلُ لَهُ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ وَقَدْ يَكُونُ مُذْنِبًا ذَنْبًا مَغْفُورًا لِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مُبْتَلًى بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ وَقَدْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ

وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى تَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ السُّنَّةِ وَفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ حَتَّى قَدْ يَصِيرُ فَاسِقًا أَوْ دَاعِيًا إلَى بِدْعَةٍ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْكَبَائِرِ فَقَدْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلَبَ الْإِيمَانَ فَإِنَّ الْبِدَعَ لَا تَزَالُ تُخْرِجُ الْإِنْسَانَ مِنْ صَغِيرٍ إلَى كَبِيرٍ حَتَّى تُخْرِجَهُ إلَى الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ كَمَا وَقَعَ هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ كَانَ لَهُمْ أَحْوَالٌ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ هَذَا مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ . فَالسُّنَّةُ مِثَالُ سَفِينَةِ نُوحٍ : مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ : الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ وَعَامَّةُ مَنْ تَجِدُ لَهُ حَالًا مِنْ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ أَعَانَ بِهِ الْكُفَّارَ أَوْ الْفُجَّارَ أَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعْصِيَةٍ فَإِنَّمَا ذَاكَ نَتِيجَةُ عِبَادَاتٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ . كَمَنْ اكْتَسَبَ أَمْوَالًا مُحَرَّمَةً فَلَا يَكَادُ يُنْفِقُهَا إلَّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ .
وَالْبِدَعُ نَوْعَانِ :
نَوْعٌ فِي الْأَقْوَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَنَوْعٌ فِي الْأَفْعَالِ وَالْعِبَادَاتِ . وَهَذَا الثَّانِي يَتَضَمَّنُ الْأَوَّلَ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ يَدْعُو إلَى الثَّانِي . فَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَعْتَصِمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْعِبَادَةِ وَالنَّظَرِ وَالْإِرَادَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَعْتَصِمُوا بِالْكِتَابِ

وَالسُّنَّةِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي . وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } آمِينَ . وَصَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة : كَانُوا يَقُولُونَ مَنْ فَسَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ الْعِبَادِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى وَكَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ : احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ : فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ فَطَالِبُ الْعِلْمِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِطَلَبِهِ فِعْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَتَرْكُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِلَّا وَقَعَ فِي الضَّلَالِ . وَأَهْلُ الْإِرَادَةِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِرَادَتِهِمْ طَلَبُ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِلَّا وَقَعُوا فِي الضَّلَالِ وَالْبَغْيِ وَلَوْ اعْتَصَمَ رَجُلٌ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ بِالْوَاجِبِ كَانَ غَاوِيًا وَإِذَا اعْتَصَمَ بِالْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِالْوَاجِبِ كَانَ ضَالًّا وَالضَّلَالُ سِمَةُ النَّصَارَى وَالْبَغْيُ سِمَةُ الْيَهُودِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْأُمَّتَيْنِ فِيهَا الضَّلَالُ وَالْبَغْيُ وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ انْحَرَفَ عَنْ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالسُّلُوكِ وَالطَّرِيقِ يَنْتَهُونَ إلَى الْفَنَاءِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُونَ فِيهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ فَيَكُونُونَ فِيهِ مُتَّبِعِينَ أَهْوَاءَهُمْ . وَإِنَّمَا الْفَنَاءُ الشَّرْعِيُّ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ

وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَبِسُؤَالِهِ عَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ وَبِخَوْفِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَهَذَا هُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ . وَتَجِدُ أَيْضًا مَنْ انْحَرَفَ عَنْ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْجَبْرِ وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالْبَحْثِ يَنْتَهِي أَمْرُهُمْ إلَى الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ كَمَا يَنْتَهِي الْأَوَّلُونَ إلَى الشَّطْحِ وَالطَّامَّاتِ فَهَؤُلَاءِ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ وَأُولَئِكَ يُصَدِّقُونَ بِالْبَاطِلِ . وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الدِّينُ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ وَطَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَفِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ . وَمَنْ عَظَّمَ مُطْلَقَ السَّهَرِ وَالْجُوعِ وَأَمَرَ بِهِمَا مُطْلَقًا فَهُوَ مُخْطِئٌ بَلْ الْمَحْمُودُ السَّهَرُ الشَّرْعِيُّ وَالْجُوعُ الشَّرْعِيُّ فَالسَّهَرُ الشَّرْعِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ كِتَابَةِ عِلْمٍ أَوْ نَظَرٍ فِيهِ أَوْ دَرْسِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأَفْضَلُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : كِتَابَةُ الْحَدِيثِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ وَبَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُ : رَكْعَتَانِ . أُصَلِّيهِمَا بِاللَّيْلِ حَيْثُ لَا يَرَانِي أَحَدٌ أَفْضَلُ مِنْ كِتَابَةِ مِائَةِ حَدِيثٍ وَآخَرُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَقُولُ : بَلْ الْأَفْضَلُ فِعْلُ هَذَا وَهَذَا وَالْأَفْضَلُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَمِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ جِنْسُهُ أَفْضَلَ ثُمَّ يَكُونُ

تَارَةً مَرْجُوحًا أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ . كَالصَّلَاةِ ؛ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ ثُمَّ الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ - كَمَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَوَقْتِ الْخُطْبَةِ - مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالِاشْتِغَالُ حِينَئِذٍ إمَّا بِقِرَاءَةِ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ اسْتِمَاعٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ ثُمَّ الذِّكْرُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَشْرُوعُ . دُونَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ يَصْلُحُ دِينُهُ عَلَى الْعَمَلِ الْمَفْضُولِ دُونَ الْأَفْضَلِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ كَمَا أَنَّ الْحَجَّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الذِّكْرُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اجْتِهَادُهُ فِي الدُّعَاءِ لِكَمَالِ ضَرُورَتِهِ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ ذِكْرٍ هُوَ فِيهِ غَافِلٌ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَكُونُ تَارَةً هَذَا أَفْضَلُ لَهُ وَتَارَةً هَذَا أَفْضَلُ لَهُ وَمَعْرِفَةُ حَالِ كُلِّ شَخْصٍ وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ لَهُ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي كِتَابٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ هِدَايَةٍ يَهْدِي اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ وَمَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ إلَّا صُنِعَ لَهُ . وَفِي الصَّحِيحِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ

يَقُولُ : { اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَكْلُ وَاللِّبَاسُ : فَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ خُلُقُهُ فِي الْأَكْلِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا تَيَسَّرَ إذَا اشْتَهَاهُ وَلَا يَرُدُّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا فَكَانَ إنْ حَضَرَ خُبْزٌ وَلَحْمٌ أَكَلَهُ وَإِنْ حَضَرَ فَاكِهَةٌ وَخُبْزٌ وَلَحْمٌ أَكَلَهُ وَإِنْ حَضَرَ تَمْرٌ وَحْدَهُ أَوْ خُبْزٌ وَحْدَهُ أَكَلَهُ وَإِنْ حَضَرَ حُلْوٌ أَوْ عَسَلٌ طَعِمَهُ أَيْضًا وَكَانَ أَحَبَّ الشَّرَابِ إلَيْهِ الْحُلْوُ الْبَارِدُ وَكَانَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ . بِالرُّطَبِ فَلَمْ يَكُنْ إذَا حَضَرَ لَوْنَانِ مِنْ الطَّعَامِ يَقُولُ : لَا آكُلُ لَوْنَيْنِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ طَعَامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ . وَكَانَ أَحْيَانًا يَمْضِي الشَّهْرَانِ وَالثَّلَاثَةُ لَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ وَلَا يَأْكُلُونَ إلَّا التَّمْرَ وَالْمَاءَ وَأَحْيَانًا يَرْبُطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ وَكَانَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا فَإِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ . وَأُكِلَ عَلَى

مَائِدَتِهِ لَحْمُ ضَبٍّ فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ وَقَالَ : { إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافَهُ } . وَكَذَلِكَ اللِّبَاسُ كَانَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَالْعِمَامَةَ وَيَلْبَسُ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَيَلْبَسُ الْجُبَّةَ وَالْفَرُّوجَ وَكَانَ يَلْبَسُ مِنْ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . لَبِسَ فِي السَّفَرِ جُبَّةَ صُوفٍ وَكَانَ يَلْبَسُ مِمَّا يُجْلَبُ مِنْ الْيَمَنِ وَغَيْرِهَا وَغَالِبُ ذَلِكَ مَصْنُوعٌ مِنْ الْقُطْنِ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ مِنْ قَبَاطِيِّ مِصْرَ وَهِيَ مَنْسُوجَةٌ مِنْ الْكَتَّانِ . فَسُنَّتُهُ فِي ذَلِكَ تَقْتَضِي أَنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ وَيَطْعَمَ مِمَّا يَسَّرَهُ اللَّهُ بِبَلَدِهِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ . وَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأَمْصَارِ . وَقَدْ كَانَ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَنَحْوِهِ وَعَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَزَوُّجِ النِّسَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رِجَالًا قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . فَقَالَ : { لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ

إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } فَأَمَرَ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ فَمَنْ حَرَّمَ الطَّيِّبَاتِ كَانَ مُعْتَدِيًا وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ كَانَ مُفَرِّطًا مُضَيِّعًا لِحَقِّ اللَّهِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا } وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ } . فَهَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ أَعْدَلُ الطُّرُقِ وَأَقْوَمُهَا . وَالِانْحِرَافُ عَنْهَا إلَى وَجْهَيْنِ . قَوْمٌ يُسْرِفُونَ فِي تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ مَعَ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } . وَقَوْمٌ يُحَرِّمُونَ الطَّيِّبَاتِ وَيَبْتَدِعُونَ رَهْبَانِيَّةً لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ

بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ } وَكُلُّ حَلَالٍ طَيِّبٌ وَكُلُّ طَيِّبٍ حَلَالٌ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ لَكِنَّ جِهَةَ طِيبِهِ كَوْنُهُ نَافِعًا لَذِيذًا . وَاَللَّهُ حَرَّمَ عَلَيْنَا كُلَّ مَا يَضُرُّنَا وَأَبَاحَ لَنَا كُلَّ مَا يَنْفَعُنَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ بِظُلْمِ مِنْهُمْ : حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ عُقُوبَةً لَهُمْ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَالنَّاسُ تَتَنَوَّعُ أَحْوَالُهُمْ فِي الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَتَنَوَّعُ حَالُهُ وَلَكِنَّ خَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا كَانَ لِلَّهِ أَطْوَعَ وَلِصَاحِبِهِ أَنْفَعَ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَيْسَرَ الْعَمَلَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ أَشَدَّهُمَا فَلَيْسَ كُلُّ شَدِيدٍ فَاضِلًا وَلَا كُلُّ يَسِيرٍ مَفْضُولًا . بَلْ الشَّرْعُ إذَا أَمَرَنَا بِأَمْرِ شَدِيدٍ فَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لَا لِمُجَرَّدِ تَعْذِيبِ النَّفْسِ . كَالْجِهَادِ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } .

وَالْحَجُّ هُوَ الْجِهَادُ الصَّغِيرُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْعُمْرَةِ : { أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْجِهَادِ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . } وَأَمَّا مُجَرَّدُ تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ فَلَيْسَ هَذَا مَشْرُوعًا لَنَا بَلْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِمَا يَنْفَعُنَا وَنَهَانَا عَمَّا يَضُرُّنَا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ } وَقَالَ لِمُعَاذِ وَأَبِي مُوسَى لَمَّا بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ : { يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا } وَقَالَ { هَذَا الدِّينُ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ فَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا } وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ } . فَالْإِنْسَانُ إذَا أَصَابَهُ فِي الْجِهَادِ وَالْحَجِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَرٌّ أَوْ بَرْدٌ أَوْ جُوعٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهُوَ مِمَّا يُحْمَدُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } . وَكَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْكَفَّارَاتُ : إسْبَاغُ الْوُضُوءِ

عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَى إلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ } . وَأَمَّا مُجَرَّدُ بُرُوزِ الْإِنْسَانِ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ . بِلَا مَنْفَعَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَاحْتِفَاؤُهُ وَكَشْفُ رَأْسِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ فَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْإِنْسَانِ وَطَاعَةٌ لِلَّهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : { مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ . فَقَالَ : مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ } . وَلِهَذَا نَهَى عَنْ الصَّمْتِ الدَّائِمِ بَلْ الْمَشْرُوعُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } فَالتَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ وَالسُّكُوتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ .
فَصْلٌ :
وَالْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَحَرَّى صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا بِأَصْحَابِهِ بَلْ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ الْأَئِمَّةُ

كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الحويرث وَصَاحِبِهِ : { إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَحَدُكُمَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِمَا بَيْنَ السِّتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةِ آيَةٍ } وَهَذَا بِالتَّقْرِيبِ نَحْوُ ثُلُثِ جُزْءٍ إلَى نِصْفِ جُزْءٍ مِنْ تَجْزِئَةِ ثَلَاثِينَ فَكَانَ يَقْرَأُ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ يَقْرَأُ بِقَافِ وَيَقْرَأُ الم تَنْزِيلُ وَتَبَارَكَ وَيَقْرَأُ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَقْرَأُ الصَّافَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ بِنَحْوِ ثَلَاثِينَ آيَةً وَيَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ . وَفِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِنَحْوِ : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى } وَنَحْوِهِمَا . وَكَانَ أَحْيَانًا يُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيَقْرَأُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَقْرَأَ فِي الْمَغْرِبِ ( بِالْأَعْرَافِ ) وَيَقْرَأَ فِيهَا ( بِالطُّورِ ) وَيَقْرَأَ فِيهَا ( بِالْمُرْسَلَاتِ ) . وَأَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ قَرَأَ مَرَّةً فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَعُمَرُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ : ( بِسُورَةِ هُودٍ و ( سُورَةِ يُوسُفَ وَنَحْوِهِمَا وَأَحْيَانًا يُخَفِّفُ إمَّا لِكَوْنِهِ فِي السَّفَرِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ . كَمَا قَالَ :

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ } حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ ( سُورَةَ التَّكْوِيرِ و ( سُورَةَ الزَّلْزَلَةِ ؛ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَحَرَّى الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُونَ لَمْ يَعْتَادُوا لِصَلَاتِهِ وَرُبَّمَا نَفَرُوا عَنْهَا دَرَّجَهُمْ إلَيْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَلَا يَبْدَؤُهُمْ بِمَا يُنَفِّرُهُمْ عَنْهَا بَلْ يَتَّبِعُ السُّنَّةَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطِيلَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ إلَّا أَنْ يَخْتَارُوا ذَلِكَ . كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ بِهِمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ السَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ : { إذَا أَمَّ أَحَدُكُمْ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ } . وَكَانَ يُطِيلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ؛ والاعتدالين كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ يَقْعُدُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ شَبَّهَ صَلَاةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِصَلَاتِهِ وَكَانَ عُمَرُ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ نَحْوَ عَشْرِ تَسْبِيحَاتٍ وَفِي السُّجُودِ نَحْوَ عَشْرِ تَسْبِيحَاتٍ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْغَالِبِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ فِي الْغَالِبِ وَإِذَا اقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُطِيلَ أَكْثَرَ

مِنْ ذَلِكَ أَوْ يُقَصِّرَ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَ ذَلِكَ . كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَأَحْيَانًا يُنْقِصُ عَنْ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ فَفِيهِ حَدِيثُ بِلَالٍ الْمَعْرُوفُ عَنْ بريدة ابْنِ حصيب قَالَ : { أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ : يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتنِي إلَى الْجَنَّةِ فَمَا دَخَلْت الْجَنَّةَ قَطُّ إلَّا سَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي دَخَلْت الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي فَأَتَيْت عَلَى قَصْرٍ مُرَبَّعٍ مُشْرِفٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْت : لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِرَجُلِ عَرَبِيٍّ . فَقُلْت : أَنَا عَرَبِيٌّ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِرَجُلِ مِنْ قُرَيْشٍ قُلْت : أَنَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِرَجُلِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ . فَقُلْت أَنَا مُحَمَّدٌ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ : بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْت قَطُّ إلَّا صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إلَّا تَوَضَّأَتْ عِنْدَهَا فَرَأَيْت أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْك بِهِمَا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ وَلَا يُعَارِضُ

ذَلِكَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ مِنْ الْغَائِطِ فأتى بِطَعَامِ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَتَوَضَّأُ ؟ قَالَ : لَمْ أُصَلِّ فَأَتَوَضَّأَ } فَإِنَّ هَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ وَيَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالْوُضُوءِ لِأَجْلِ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا اسْتَحَبَّ الْوُضُوءَ لِلْأَكْلِ إلَّا إذَا كَانَ جُنُبًا وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الْأَكْلِ هَلْ يُكْرَهُ أَوْ يُسْتَحَبُّ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . فَمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ احْتَجَّ { بِحَدِيثِ سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأْت فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءَ بَعْدَهُ } وَمَنْ كَرِهَهُ قَالَ : لِأَنَّ هَذَا خِلَافَ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ قَبْلَ الْأَكْلِ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ . وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ فَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ وَقَدْ يُقَالُ : كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافِقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُسْدِلُ شَعْرَهُ مُوَافَقَةً ثُمَّ فَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا صَامَ عَاشُورَاءَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ : { لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ } يَعْنِي مَعَ الْعَاشِرِ ؛ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ عَنْ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِبَادَتِهِ وَعَادَتِهِ هَلْ هِيَ سُنَّةٌ ؟ أَمْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الرَّاتِبِينَ ؟ فَيُقَالُ : الَّذِي نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِهِ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ طَاعَتَهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَقَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } . وَقَدْ أَوْجَبَ السَّعَادَةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ بِقَوْلِهِ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } وَعَلَّقَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ بِطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا } وَجَمِيعُ الرُّسُلِ دَعَوْا إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ . وَخَشْيَتِهِ وَإِلَى طَاعَتِهِمْ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } وَقَالَ كُلٌّ مِنْ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ . } وَطَاعَةُ الرَّسُولِ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَمِدَهُ وَهُوَ سَبَبُ السَّعَادَةِ كَمَا أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ سَبَبُ الشَّقَاوَةِ وَطَاعَتُهُ فِي أَمْرِهِ أَوْلَى بِنَا مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِي فِعْلٍ لَمْ يَأْمُرْنَا بِمُوَافَقَتِهِ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أَمْرَهُ أَوْكَدُ مِنْ فِعْلِهِ ؛ فَإِنَّ فِعْلَهُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِهِ وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَأَمَّا أَمْرُهُ لَنَا فَهُوَ مِنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِهِ . وَمِنْ أَفْعَالِهِ مَا قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَهُ كَقَوْلِهِ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَقَوْلِهِ : لَمَّا صَلَّى بِهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ : { إنَّمَا فَعَلْت هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي } وَقَوْلِهِ لَمَّا حَجَّ : { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ . } وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَنَا إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } فَأَبَاحَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ

امْرَأَةَ دَعِيِّهِ لِيَرْفَعَ الْحَرَجَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ فَعُلِمَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ كَانَ لَنَا مُبَاحًا أَنْ نَفْعَلَهُ . وَلَمَّا خَصَّهُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ قَالَ : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فَلَمَّا أَحَلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْمَوْهُوبَةَ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ خَالِصٌ لَهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً بِلَا مَهْرٍ غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي صَحِيحِ مسلم : { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ ؟ فَقَالَ لَهُ : سَلْ هَذِهِ - لِأُمِّ سَلَمَةَ - فَأَخْبَرَتْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ لَهُ : أَمَا وَاَللَّهِ إنَّنِي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ . } فَلَمَّا أَجَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْأُمَّةِ مَا أُبِيحَ لَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إذَا أَمَرَهُ بِأَمْرِ أَوْ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ كَانَتْ أُمَّتُهُ أُسْوَةً لَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ .

فَمِنْ خَصَائِصِهِ : مَا كَانَ مِنْ خَصَائِصَ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ فَهَذَا لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَهَذَا مِثْلُ كَوْنِهِ يُطَاعُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ جِهَةَ أَمْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ كُلُّ مَنْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدِ بَعْدَهُ فَوُلَاةُ الْأُمُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ يُطَاعُونَ إذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِخِلَافِ أَمْرِهِ ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ طَاعَتَهُمْ فِي ضِمْنِ طَاعَتِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } . فَقَالَ : وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ يُطَاعُونَ طَاعَةً تَابِعَةً لِطَاعَتِهِ فَلَا يُطَاعُونَ اسْتِقْلَالًا وَلَا طَاعَةً مُطْلَقَةً وَأَمَّا الرَّسُولُ فَيُطَاعُ طَاعَةً مُطْلَقَةً مُسْتَقِلَّةً فَإِنَّهُ : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } فَقَالَ تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } فَإِذَا أَمَرَنَا الرَّسُولُ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ أَمْرِهِ وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ اللَّهِ لَا تَكُونُ طَاعَتُهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ قَطُّ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنْ خَصَائِصِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَيُكْرَمُ بِهِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهِ . وَبَعْضُ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ مُتَنَازَعٌ فِيهِ . وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَامَ الْأُمَّةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ وَهُوَ الَّذِي يَقْسِمُ وَهُوَ الَّذِي يَغْزُو بِهِمْ وَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ الْحُدُودَ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِي الْحُقُوقَ وَهُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ بِحَسَبِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ فَإِمَامُ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ يَقْتَدِي

بِهِ فِي ذَلِكَ وَأَمِيرُ الْغَزْوِ يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ وَاَلَّذِي يُقِيمُ الْحُدُودَ يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ . وَاَلَّذِي يَقْضِي أَوْ يُفْتِي يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي أُمُورٍ فَعَلَهَا : هَلْ هِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَمْ لِلْأُمَّةِ فِعْلُهَا ؟ كَدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ إمَامًا بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ غَيْرُهُ وَكَتَرْكِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَالِّ وَالْقَاتِلِ . وَأَيْضًا فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا لِسَبَبِ وَقَدْ عَلِمْنَا ذَلِكَ السَّبَبَ أَمْكَنَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ فَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ السَّبَبَ أَوْ كَانَ السَّبَبُ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا فَهَذَا مِمَّا يَتَنَازَعُ فِيهِ النَّاسُ : مِثْلَ نُزُولِهِ فِي مَكَانٍ فِي سَفَرِهِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَنْزِلَ حَيْثُ نَزَلَ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ نَفْسُ مُوَافَقَتِهِ فِي الْفِعْلِ هُوَ حَسَنٌ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ هُوَ اتِّفَاقًا وَنَحْنُ فَعَلْنَاهُ لِقَصْدِ التَّشَبُّهِ بِهِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا تُسْتَحَبُّ الْمُتَابَعَةُ إذَا فَعَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ اتِّفَاقًا لَمْ يَشْرَعْ لَنَا أَنْ نَقْصِدَ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَفْعَلُونَ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ . وَأَيْضًا فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ يَكُونُ تَارَةً فِي نَوْعِ الْفِعْلِ وَتَارَةً فِي جِنْسِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِمَعْنَى يَعُمُّ ذَلِكَ النَّوْعَ وَغَيْرَهُ لَا لِمَعْنَى يَخُصُّهُ فَيَكُونُ الْمَشْرُوعُ هُوَ الْأَمْرُ الْعَامُّ . مِثَالُ ذَلِكَ احْتِجَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ لِحَاجَتِهِ

إلَى إخْرَاجِ الدَّمِ الْفَاسِدِ ثُمَّ التَّأَسِّي هَلْ مَخْصُوصٌ بِالْحِجَامَةِ ؟ أَوْ الْمَقْصُودُ إخْرَاجُ الدَّمِ عَلَى الْوَجْهِ النَّافِعِ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّأَسِّي هُوَ الْمَشْرُوعُ فَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارًّا يَخْرُجُ فِيهِ الدَّمُ إلَى الْجِلْدِ كَانَتْ الْحِجَامَةُ هِيَ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ بَارِدًا يَغُورُ فِيهِ الدَّمُ إلَى الْعُرُوقِ كَانَ إخْرَاجُهُ بِالْفَصْدِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ . وَكَذَلِكَ ادِّهَانُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . هَلْ الْمَقْصُودُ خُصُوصُ الدَّهْنِ أَوْ الْمَقْصُودُ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ ؟ فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ رَطْبًا وَأَهْلُهُ يَغْتَسِلُونَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ الَّذِي يُغْنِيهِمْ عَنْ الدَّهْنِ وَالدَّهْنُ يُؤْذِي شُعُورَهُمْ وَجُلُودَهُمْ يَكُونُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِمْ تَرْجِيلَ الشَّعْرِ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَشْبَهُ . وَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ وَالتَّمْرَ وَخُبْزَ الشَّعِيرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ قُوتِ بَلَدٍ فَهَلْ التَّأَسِّي بِهِ أَنْ يُقْصَدَ خُصُوصُ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ مَنْ يَكُونُ فِي بِلَادٍ لَا يَنْبُتُ فِيهَا التَّمْرُ وَلَا يَقْتَاتُونَ الشَّعِيرَ بَلْ يَقْتَاتُونَ الْبُرَّ أَوْ الرُّزَّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمَشْرُوعُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا الْأَمْصَارَ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْكُلُ مَنْ قُوتِ بَلَدِهِ وَيَلْبَسُ مِنْ لِبَاسِ بَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ أَقْوَاتَ الْمَدِينَةِ وَلِبَاسَهَا وَلَوْ كَانَ هَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِمْ لَكَانُوا أَوْلَى بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ .

وَعَلَى هَذَا يُبْنَى نِزَاعُ الْعُلَمَاءِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ : إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْبَلَدِ يَقْتَاتُونَ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ . فَهَلْ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ كَالْبُرِّ وَالرُّزِّ أَوْ يُخْرِجُونَ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ . لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ : أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يأتزرون وَيَرْتَدُونَ ؛ فَهَلْ الْأَفْضَلُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْتَدِيَ ويأتزر وَلَوْ مَعَ الْقَمِيصِ ؟ أَوْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَلْبَسَ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ . هَذَا أَيْضًا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَالثَّانِي أَظْهَرُ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ بَلْ وَبِكَثِيرِ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ وَهَذَا سَمَّتْهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ : " تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِهَا بَلْ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا فَيُحْتَاجُ أَنْ يُعْرَفَ " مَنَاطُ الْحُكْمِ " .

مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : اُلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ ؛ بَلْ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُمَا فَبَقِيَ الْمَنَاطُ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ مَا هُوَ ؟ فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِفَأْرَةِ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَيُنَجِّسُونَ مَا كَانَ كَذَلِكَ مُطْلَقًا وَلَا يُنَجِّسُونَ السَّمْنَ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْكَلْبُ وَالْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ وَلَا يُنَجِّسُونَ الزَّيْتَ وَنَحْوَهُ . إذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ قَطْعًا . وَلَيْسَ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً . فَإِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي يَكُونُ النِّزَاعُ فِيهِ هُوَ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ وَهُوَ أَنْ يَجُوزَ اخْتِصَاصُ مَوْرِدِ النَّصِّ بِالْحُكْمِ فَإِذَا جَازَ اخْتِصَاصُهُ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَوْرِدِ النَّصِّ وَغَيْرِهِ . احْتَاجَ مُعْتَبِرُ الْقِيَاسِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ } فَلَمَّا نَهَى عَنْ التَّفَاضُلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِمَعْنَى مُشْتَرَكٍ وَلِمَعْنَى مُخْتَصٍّ . وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَأَجَابَ : عَنْ تِلْكَ

الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ قَضَايَا الْأَعْيَانِ كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ لَهُ : إنِّي وَقَعْت عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ . أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَإِنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . لَكِنْ هَلْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَفْطَرَ أَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ أَوْ أَفْطَرَ فِيهِ بِالْجِمَاعِ أَوْ أَفْطَرَ بِالْجِنْسِ الْأَعْلَى هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ . وَكَذَلِكَ لَمَّا سَأَلَهُ سَائِلٌ عَمَّنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ . فَقَالَ : { انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجَّتِك } . فَهَلْ أَمَرَهُ بِغَسْلِ الْخَلُوقِ لِكَوْنِهِ طَيِّبًا حَتَّى يُؤْمَرَ الْمُحَرَّمُ بِغَسْلِ كُلِّ طِيبٍ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ لِكَوْنِهِ خَلُوقًا لِرَجُلِ ؟ وَقَدْ نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ فَيَنْهَى عَنْ الْخُلُوقِ لِلرَّجُلِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ . وَكَذَلِكَ لَمَّا عَتَقَتْ بَرِيرَةُ فَخَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا : لَكِنْ هَلْ التَّخْيِيرُ لِكَوْنِهَا عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَكَمَّلَتْ تَحْتَ نَاقِصٍ ؟ وَلَا تُخَيَّرُ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ الْحُرِّ أَوْ الْحُكْمُ لِكَوْنِهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَتُخَيَّرُ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعُوا فِيهِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ مُعَيَّنَةٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا

فَيَحْتَاجُ أَنْ يُعْرَفَ الْمَنَاطُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ قِيَاسًا ؛ وَبَعْضُهُمْ لَا يُسَمِّيهِ قِيَاسًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَسْتَعْمِلُونَ فِيهَا الْقِيَاسَ . وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ النِّزَاعُ كَمَا أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ لَيْسَ مِمَّا يَقْبَلُ النِّزَاعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ " تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ " و " تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ " و " تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ " هِيَ جِمَاعُ الِاجْتِهَادِ .
فَالْأَوَّلُ أَنْ يَعْمَلَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِوَصْفِ يَحْتَاجُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُعَيَّنِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ ثُبُوتَ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِيهِ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِإِشْهَادِ ذَوِي عَدْلٍ مِنَّا وَمِمَّنْ نَرْضَى مِنْ الشُّهَدَاءِ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ كُلِّ شَاهِدٍ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْلَمَ فِي الشُّهُودِ الْمُعَيَّنِينَ : هَلْ هُمْ مِنْ ذَوِي الْعَدْلِ الْمَرْضِيِّينَ أَمْ لَا ؟ وَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِعِشْرَةِ الزَّوْجَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلنِّسَاءِ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَلَمْ يُمْكِنْ تَعْيِينُ كُلِّ زَوْجٍ فَيُحْتَاجُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْأَعْيَانِ . ثُمَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ إلَى الْعُرْفِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ : { خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } .

وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي تَسْلِيمِهِ إلَى هَذَا التَّاجِرِ بِجُزْءِ مِنْ الرِّبْحِ . هَلْ هُوَ مِنْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } يَبْقَى هَذَا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ هَلْ هُوَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا ؟ وَكَمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَالرِّبَا عُمُومًا يَبْقَى الْكَلَامُ فِي الشَّرَابِ الْمُعَيَّنِ . هَلْ هُوَ خَمْرٌ أَمْ لَا ؟ وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بَلْ الْعُقَلَاءُ : بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنُصَّ الشَّارِعُ عَلَى حُكْمِ كُلِّ شَخْصٍ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ عَامٍّ وَكَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ . ( وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي الَّذِي يُسَمُّونَهُ " تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ " بِأَنْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ أَعْيَانٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ لَكِنْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا فَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى النَّصِّ بَلْ الْمُعَيَّنُ هُنَا نَصَّ عَلَى نَوْعِهِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْرِفَ نَوْعَهُ وَمَسْأَلَةُ الْفَأْرَةِ فِي السَّمْنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ . وَلَا بِفَأْرِ الْمَدِينَةِ وَسَمْنِهَا وَلَكِنَّ السَّائِلَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ ؛ فَأَجَابَهُ ؛ لَا إنَّ الْجَوَابَ يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا بِسُؤَالِهِ . كَمَا أَجَابَ غَيْرُهُ وَلَفْظُ الْفَأْرَةِ وَالسَّمْنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي عَلَّقَ الْحُكْمَ بِهَا بَلْ مِنْ كَلَامِ السَّائِلِ الَّذِي أَخْبَرَ بِمَا وَقَعَ لَهُ كَمَا قَالَ لَهُ

الْأَعْرَابِيُّ : إنَّهُ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَلَوْ وَقَعَ عَلَى سُرِّيَّتِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَمَا قَالَ لَهُ الْآخَرُ : رَأَيْت بَيَاضَ خَلْخَالِهَا فِي الْقَمَرِ فَوَثَبْت عَلَيْهَا وَلَوْ وَطِئَهَا بِدُونِ ذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ . فَالصَّوَابُ فِي هَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمَشْهُورُونَ : أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِالْخَبِيثِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ إذَا وَقَعَ فِي السَّمْنِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ فَإِذَا عَلَّقْنَا الْحُكْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى كُنَّا قَدْ اتَّبَعْنَا كِتَابَ اللَّهِ فَإِذَا وَقَعَ الْخَبِيثُ فِي الطَّيِّبِ أَلْقَى الْخَبِيثَ وَمَا حَوْلَهُ وَأَكَلَ الطَّيِّبَ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ مَوْضِعَ بَسْطِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ . وَلَكِنْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَفْعَالِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا . وَحِينَئِذٍ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِاجْتِهَادِ النَّاسِ وَاسْتِدْلَالِهِمْ وَمَا يُؤْتِيهِمْ اللَّهُ مِنْ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْحَقِّ مَنْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالْمَعَانِي الَّتِي عَلَّقَهَا بِهَا الشَّارِعُ . وَهَذَا مَوْضِعٌ تَفَاوَتَ فِيهِ النَّاسُ وَتَنَازَعُوا : هَلْ يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ ؟ أَوْ مِنْ الْمَعَانِي الْقِيَاسِيَّةِ ؟ فَقَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا يَتَنَاوَلُهَا خِطَابُ الشَّارِعِ بَلْ تَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ . وَقَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهَا ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَأَسْرَفُوا فِي تَعَلُّقِهِمْ بِالظَّاهِرِ

حَتَّى أَنْكَرُوا فَحْوَى الْخِطَابِ وَتَنْبِيهَهُ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَقَالُوا : إنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَأَنْكَرُوا " تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ " وَادَّعَوْا فِي الْأَلْفَاظِ مِنْ الظُّهُورِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَقَوْمٌ يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ تَارَةً لِكَوْنِ دَلَالَةِ النَّصِّ غَيْرَ تَامَّةٍ أَوْ لِكَوْنِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَأَقْوَامٌ يُعَارِضُونَ بَيْنَ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ وَيُقَدِّمُونَ النَّصَّ وَيَتَنَاقَضُونَ وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تَتَنَاقَضُ فَلَا تَتَنَاقَضُ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ وَلَا تَتَنَاقَضُ دَلَالَةُ الْقِيَاسِ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً وَدَلَالَةُ الْخِطَابِ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً . فَإِنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ حَقِيقَةُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ وَالرَّسُولُ لَا يَأْمُرُ بِخِلَافِ الْعَدْلِ وَلَا يَحْكُمُ فِي شَيْئَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَا يَحْرُمُ الشَّيْءُ وَيَحِلُّ نَظِيرُهُ . وَقَدْ تَأَمَّلْنَا عَامَّةَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي قِيلَ : إنَّ الْقِيَاسَ فِيهَا عَارَضَ النَّصَّ وَأَنَّ حُكْمَ النَّصِّ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ . فَوَجَدْنَا مَا خَصَّهُ الشَّارِعُ بِحُكْمِ عَنْ نَظَائِرِهِ فَإِنَّمَا خَصَّهُ بِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِوَصْفِ أَوْجَبَ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ كَمَا خَصَّ الْعَرَايَا بِجَوَازِ بَيْعِهَا بِمِثْلِهَا خَرْصًا لِتَعَذُّرِ الْكَيْلِ مَعَ

الْحَاجَةِ إلَى الْبَيْعِ وَالْحَاجَةُ تُوجِبُ الِانْتِقَالَ إلَى الْبَدَلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَصْلِ . فَالْخَرْصُ عِنْدَ الْحَاجَةِ قَامَ مَقَامَ الْكَيْلِ كَمَا يَقُومُ التُّرَابُ مَقَامَ الْمَاءِ وَالْمَيْتَةُ مَقَامَ الْمُذَكَّى عِنْدَ الْحَاجَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : الْقَرْضُ أَوْ الْإِجَارَةُ أَوْ الْقِرَاضُ أَوْ الْمُسَاقَاةُ أَوْ الْمُزَارِعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ اُخْتُصَّتْ بِصِفَاتِ أَوْجَبَتْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا لَيْسَ مِثْلَهَا فَقَدْ صَدَقَ . وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ حُكِمَ فِيهِمَا بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَهَذَا خَطَأٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ مَنْ هُوَ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَقْيِسَةَ الْمُعَارِضَةَ هِيَ الْفَاسِدَةُ كَقِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَقِيَاسُ الَّذِينَ قَالُوا " أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ ؟ " يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ " وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } . وَلَعَلَّ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا وَآتَاهُ مِنْ لَدُنْه عِلْمًا يَجِدُ عَامَّةَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعْلَمُ بِقِيَاسِ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ كَمَا أَنَّ غَايَةَ

مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْعَدْلِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ : فَالْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ أَحْوَالِ الرَّجُلِ السَّالِكِ يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ وَاسْتِهْدَاءٍ مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الدُّعَاءِ لِيَصِيرَ مِنْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ : مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
الْعِبَادَاتُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى وُجُوهٍ مُتَنَوِّعَةٍ
قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَوَاضِعَ : أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْوَاعٍ يُشْرَعُ فِعْلُهَا عَلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ لَا يُكْرَهُ مِنْهَا شَيْءٌ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ وَأَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحِ وَمِثْلُ الْوِتْرِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ وَمِثْلُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَالْمُخَافَتَةِ وَأَنْوَاعِ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا وَالتَّكْبِيرِ فِي الْعِيدِ وَمِثْلُ التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ وَتَرْكِهِ وَمِثْلُ إفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَتِهَا . وَقَدْ بَسَطْنَا فِي جَوَابِ مَسَائِلَ الزرعية وَغَيْرِهَا أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَأَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَحْتَاطَ فِيهِ فَهُوَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا اتَّفَقُوا فِيهِ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَلَكِنْ تَنَازَعُوا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ .

وَالثَّانِي مَا تَنَازَعُوا فِيهِ فِي جَوَازِ أَحَدِهِمَا وَكَثِيرٌ مِمَّا تَنَازَعُوا فِيهِ قَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ فِيهِ بِالْأَمْرَيْنِ مِثْلَ الْحَجِّ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ؛ بَلْ قِيلَ : وَلَا تَجُوزُ الْمُتْعَةُ وَقِيلَ بَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ كِلَيْهِمَا جَائِزٌ " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الصَّحَابَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْفَسْخِ وَقَدْ كَانَ خَيَّرَهُمْ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ حَجَّ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَلَمْ يَفْسَخُوا . كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ قِيلَ : لَا يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ الْفِطْرُ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ . ثُمَّ قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ إلَّا لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ وَمَا قَالَ أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفِطْرُ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَلَى وُجُوهٍ : كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَالِاسْتِفْتَاحِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ مَقَامَيْنِ : أَحَدِهِمَا فِي جَوَازِ تِلْكَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا بِلَا كَرَاهَةٍ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فِي هَذَا كُلِّهِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَدْ يَكْرَهُ أَوْ يُحَرِّمُ بَعْضَ تِلْكَ الْوُجُوهِ ؛ لِظَنِّهِ أَنَّ السُّنَّةُ لَمْ تَأْتِ بِهِ أَوْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ . كَمَا كَرِهَ طَائِفَةٌ التَّرْجِيعَ فِي الْأَذَانِ وَقَالُوا : إنَّمَا قَالَهُ لِأَبِي

مَحْذُورَةَ تَلْقِينًا لِلْإِسْلَامِ لَا تَعْلِيمًا لِلْأَذَانِ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ الْأَذَانِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ أَبُو مَحْذُورَةَ وَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ هُوَ وَوَلَدُهُ وَالْمُسْلِمُونَ يُقِرُّونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا . وَكَرِهَ طَائِفَةٌ الْأَذَانَ بِلَا تَرْجِيعٍ وَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا فَإِنَّ أَذَانَ بِلَالٍ الثَّابِتِ لَيْسَ فِيهِ تَرْجِيعٌ وَكَرِهَ طَائِفَةٌ تَرْجِيعَهَا وَكَرِهَ طَائِفَةٌ صَلَاةَ الْخَوْفِ إلَّا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَكَرِهَ آخَرُونَ مَا أَمَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ . وَالصَّوَابُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَلَا كَرَاهَةَ لِشَيْءِ مِنْهُ ؛ بَلْ هُوَ جَائِزٌ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ :
الْمَقَامُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْوَاعٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَإِنْ قِيلَ : إنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ أَفْضَلُ فَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَفْعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً أَفْضَلُ مِنْ لُزُومِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَهَجْرِ الْآخَرِ وَهَذَا مِثْلُ الِاسْتِفْتَاحِ : فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ اللَّهُمَّ بَعِّدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَعَّدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ } وَلَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ فِي الِاسْتِفْتَاحِ شَيْئًا إلَّا

هَذَا وَهُوَ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَى الِاسْتِفْتَاحِ فِي الْمَكْتُوبَةِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ ؟ وَهَذَا سُؤَالٌ عَنْ السُّكُوتِ . لَا عَنْ الْقَوْلِ سِرًّا وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ سَمُرَةَ وَحَدِيثُ أبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ . وَأَيْضًا فَلِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ أَقْوَالٌ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا سُكُوتَ فِيهَا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَلَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَهُ اسْتِفْتَاحٌ وَلَا اسْتِعَاذَةٌ وَلَا سُكُوتٌ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا سُكُوتٌ وَاحِدٌ لِلِاسْتِفْتَاحِ : كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ السَّكْتَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ فِيهَا سَكْتَتَيْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ السُّنَنِ . لَكِنْ رَوَى فِيهِ أَنَّهُ يَسْكُتُ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَرَوَى إذَا فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : يُسْتَحَبُّ ثَلَاثُ سَكَتَاتٍ . وَسَكْتَةُ الْفَاتِحَةِ جَعَلَهَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إلَّا سَكْتَتَانِ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إلَّا ذَلِكَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ غَلَطٌ وَإِلَّا كَانَتْ ثَلَاثًا

وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد . وَأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إلَّا سَكْتَتَانِ وَالثَّانِيَةُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَالْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرُّكُوعِ . وَأَمَّا السُّكُوتُ عَقِيبَ الْفَاتِحَةِ فَلَا يَسْتَحِبُّهُ أَحْمَد كَمَا لَا يَسْتَحِبُّهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ لَا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ لِيَقْرَأ الْمَأْمُومُ . وَذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ عِنْدَهُمْ إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَلَا مُسْتَحَبَّةٍ بَلْ هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَهَلْ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ إذَا قَرَأَ مَعَ الْإِمَامِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَهُوَ إذَا كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَاسْتِمَاعُهُ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَاسْتِمَاعِهِ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فَيَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ وَالِاسْتِمَاعِ بَدَلٌ عَنْ قِرَاءَتِهِ فَجَمْعُهُ بَيْنَ الِاسْتِمَاعِ وَالْقِرَاءَةِ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ أَحْمَد وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ قِرَاءَتَهُ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَسْكُتَ سُكُوتًا بَلِيغًا يَتَّسِعُ لِلِاسْتِفْتَاحِ وَالْقِرَاءَةِ . وَأَمَّا إنْ ضَاقَ عَنْهُمَا فَقَوْلُهُ وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ إنَّ الِاسْتِفْتَاحَ أَوْلَى مِنْ الْقِرَاءَةِ بَلْ هُوَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَأْمُرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ مِمَّنْ يَسْكُتُ عَقِيبَ الْفَاتِحَةِ سُكُوتًا يَتَّسِعُ لِلْقِرَاءَةِ فَالْقِرَاءَةُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ لَكِنْ هَلْ يُقَالُ الْقِرَاءَةُ فِيهِ بِالْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ لِلِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا . أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ لِكَوْنِهِ قَدْ اسْتَمَعَهَا ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ . وَمُقْتَضَى نُصُوصِ أَحْمَد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ

الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِهَا أَفْضَلُ . فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا مَعَ اسْتِمَاعِهِ قِرَاءَتَهَا وَعَامَّةُ السَّلَفِ الَّذِينَ كَرِهُوا الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ هُوَ فِيمَا إذَا جَهَرَ وَلَمْ يَكُنْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ يَسْكُتُ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ سُكُوتًا طَوِيلًا . وَكَانَ الَّذِي يَقْرَأُ حَالَ الْجَهْرِ قَلِيلًا . وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَى النَّهْيِ عَنْهُ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ نِزَاعٌ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ يَقْرَأُ حَالَ جَهْرِهِ بِالْفَاتِحَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ أَيْضًا نِزَاعٌ فَالنِّزَاعُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ؛ لَكِنَّ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ هُمْ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمَعَهُمْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوهَا عَلَى الْمَأْمُومِ فِي حَالِ الْجَهْرِ هَكَذَا . فَحَدِيثُهُمْ قَدْ ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا صَحَّحَهُ أَحْمَد وَإِسْحَاقُ وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُمْ وَعَلَّلَهُ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِحِ فِي صِحَّتِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ وَضَعَّفَهُ ثَابِتٌ مِنْ وُجُوهٍ . وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ عبادة بْنِ الصَّامِتِ . بَلْ يَفْعَلُ فِي سُكُوتِهِ مَا يَشْرَعُ مِنْ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ وَلَوْ لَمْ يَسْكُتْ الْإِمَامُ سُكُوتًا يَتَّسِعُ لِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُدْرِكْ سُكُوتَهُ فَهَلْ يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَعِيذُ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ ؟ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهَا : يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَعِيذُ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ ؛ لِأَنَّ

مَقْصُودَ الْقِرَاءَةِ حَصَلَ بِالِاسْتِمَاعِ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ اسْتِفْتَاحَهُ وَاسْتِعَاذَتَهُ إذْ كَانَ الْإِمَامُ يَفْعَلُ ذَلِكَ سِرًّا . وَالثَّانِيَةُ : يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَسْتَعِيذُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ تُرَادُ لِلْقِرَاءَةِ وَهُوَ لَا يَقْرَأُ وَأَمَّا الِاسْتِفْتَاحُ فَهُوَ تَابِعٌ لِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ . وَالثَّالِثَةُ : لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَسْتَعِيذُ وَهُوَ أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَكَذَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا أَظُنُّ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ فَلَا يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ . وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْقِرَاءَةِ فَكَذَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ يَقُولُ مَنْعُهُ أَوْلَى لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ وَاجِبَةٌ وَقَدْ سَقَطَتْ بِالِاسْتِمَاعِ ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد لَيْسَ مَنْعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ أَوْكَدَ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَهُ لَا تَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْمَأْمُومِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ . وَفِي مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ يَأْمُرُ بِهِمَا عِنْدَ الْجَهْرِ : أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ لَمْ يُجْعَلْ عَنْهُمَا بَدَلٌ ؛ بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ جُعِلَ مِنْهَا بَدَلٌ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ ؛ لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَالِاسْتِعَاذَةُ إنَّمَا أُمِرَ بِهَا مَنْ يَقْرَأُ وَالْأَمْرُ بِاسْتِمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَالْإِنْصَاتِ لَهُ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ

إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ حُذَّاقِ أَصْحَابِهِ : كالرَّازِي وَأَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ مُنْكَرٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد اسْتَحَبُّوا لِلْمَأْمُومِ الْقِرَاءَةَ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ بِالْفَاتِحَةِ وَإِنْ جَهَرَ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّي . كَمَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الأوزاعي وَغَيْرُهُ وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ لِيَقْرَأَ مَنْ خَلْفَهُ وَأَحْمَد لَمْ يَسْتَحِبَّ هَذَا السُّكُوتَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِبُّ الْقِرَاءَةَ إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ ؛ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ سُكُوتَ الِاسْتِفْتَاحِ ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَمَعَ هَذَا فَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَسْتَحِبُّونَ الِاسْتِفْتَاحَ بِغَيْرِهِ كَمَا يَسْتَحِبُّ جُمْهُورُهُمْ الِاسْتِفْتَاحَ بِقَوْلِهِ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ " وَقَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ أَنَّ فَضْلَ بَعْضِ الذِّكْرِ عَلَى بَعْضٍ هُوَ لِأَجْلِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ الْفَاضِلُ لَا لِأَجْلِ إسْنَادِهِ.
وَالذِّكْرُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَفْضَلُهُ مَا كَانَ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ ثُمَّ مَا كَانَ إنْشَاءً مِنْ الْعَبْدِ أَوْ اعْتِرَافًا بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَا كَانَ دُعَاءً مِنْ الْعَبْدِ .

فَالْأَوَّلُ مِثْلُ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَمِثْلُ : { سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك } وَمِثْلُ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَالثَّانِي مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } وَمَثَلُ قَوْلِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ : { اللَّهُمَّ لَك رَكَعْت وَلَك سَجَدْت } وَكَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَالثَّالِثُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ بَعِّدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ } وَمَثَلُ دُعَائِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَلِهَذَا أَوْجَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَا كَانَ ثَنَاءً كَمَا أَوْجَبُوا الِاسْتِفْتَاحَ وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ وَاخْتَارَ ابْنُ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ وُجُوبَ ذَلِكَ وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ النَّوْعَ الْمَفْضُولَ مِثْلُ الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَمِثْلُ الِاسْتِفْتَاحِ بوجهت أَوْ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ عِنْدَ مَنْ يُفَضِّلُ الْآخَرَ : فِعْلُهُ أَحْيَانًا أَفْضَلُ مِنْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى نَوْعٍ وَهَجْرِ نَوْعٍ وَذَلِكَ أَنَّ أَفْضَلَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ : { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَلَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى اسْتِفْتَاحٍ وَاحِدٍ قَطْعًا فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِهَذَا .

فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ فَكَانَتْ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ قُلْنَا : لَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَجْهَرُ : " بسبحانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " يُعَلِّمُهَا النَّاسَ . وَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهَا فِي الْفَرِيضَةِ مَا فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ " وَأَقَرَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَكَمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَجْهَرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي جَهْرِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ بِالْبَسْمَلَةِ إنَّهُ كَانَ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ قِرَاءَتَهَا كَمَا جَهَرَ مَنْ جَهَرَ مِنْهُمْ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَالِاسْتِفْتَاحِ وَكَمَا جَهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ هُوَ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ أَحْيَانًا بِذَلِكَ فَيُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ أَحْيَانًا وَنَصَّ قَوْمٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا إذَا صَلَّى بِالْمَدِينَةِ فَظَنَّ الْقَاضِي أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ شِيعَةٌ يَجْهَرُونَ بِهَا وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا حَجَّ كَانَ قَدْ ظَهَرَ بِهَا التَّشَيُّعُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِ مَكَّةَ العبيديون الْمِصْرِيُّونَ وَقَطَعُوا الْحَجَّ مِنْ الْعِرَاقِ مُدَّةً وَإِنَّمَا حَجَّ الْقَاضِي مِنْ الشَّامِ . وَالصَّوَابُ أَنَّ أَحْمَد لَمْ يَأْمُرْ بِالْجَهْرِ لِذَلِكَ بَلْ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِهِ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ بِهَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَأَرَادَ أَنْ يَجْهَرَ بِهَا كَمَا جَهَرَ بِهَا مَنْ جَهَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ تَعْلِيمًا لِلسُّنَّةِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِبُّ قِرَاءَتَهَا فِي الْجُمْلَةِ وَقَدْ اسْتَحَبَّ أَحْمَد أَيْضًا لِمَنْ صَلَّى بِقَوْمِ لَا يَقْنُتُونَ

بِالْوِتْرِ وَأَرَادُوا مِنْ الْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْنُتَ لِتَأْلِيفِهِمْ . فَقَدْ اسْتَحَبَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ لِتَأْلِيفِهِمْ وَهَذَا يُوَافِقُ تَعْلِيلَ الْقَاضِي . فَيُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِهَا إذَا كَانَ الْمَأْمُومُونَ يُخْتَارُونَ الْجَهْرَ لِتَأْلِيفِهِمْ وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا إذَا كَانَ فِيهِ إظْهَارُ السُّنَّةِ وَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ السُّنَّةَ مِنْهُ وَلَا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ جَامِعٍ : وَهُوَ أَنْ الْمَفْضُولَ قَدْ يَصِيرُ فَاضِلًا لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ وَإِذَا كَانَ الْمُحَرَّمَ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ قَدْ يَصِيرُ وَاجِبًا لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ . فَلَأَنْ يَصِيرَ الْمَفْضُولُ فَاضِلًا لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ أَوْلَى . وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي أَجْنَاسِ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ : جِنْسُهَا أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ . ثُمَّ إنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ فَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي مَشَاعِرِ الْحَجِّ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا } وَهَذَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَيْضًا أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ قَرَأَ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِي الْمَشَاعِرِ الْفَضِيلَةِ . . . (1) .

فَإِنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ وَلِكُلِّ مَكَانٍ عِبَادَةٌ تُشْرَعُ وَكَذَلِكَ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَقْتَ النَّهْيِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ . وَأَمَّا الطَّوَافُ فَهَلْ تُكْرَهُ فِيهِ الْقِرَاءَةُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَالرُّخْصَةُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ بَلْ هُوَ يُسْتَحَبُّ فِيهِ الْقِرَاءَةُ وَلَا يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِهَا وَلِلْأُخْرَى مُصَنَّفٌ . وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَجْنَاسِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي ثَبَتَ فَضْلُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ فِي أَنْوَاعِ الذِّكْرِ لَا سِيَّمَا فِيمَا فِيهِ نِزَاعٌ فَالْأَصْلُ بِلَا رَيْبٍ هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِهَذَا الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ بِهِ أَحْيَانًا وَيَسْتَفْتِحَ بِغَيْرِهِ أَحْيَانًا . وَأَيْضًا فَلِكُلِّ اسْتِفْتَاحٍ حَاجَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنُ بِحَظِّهِ مِنْ كُلِّ ذِكْرٍ . وَأَيْضًا فَقَدْ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إلَى الْمَفْضُولِ وَلَا يَكْفِيهِ الْفَاضِلُ . كَمَا فِي : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؛ أَيْ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهَا مِنْ الْأَجْرِ مَا يَعْدِلُ ثَوَابَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فِي الْقَدْرِ لَا فِي الصِّفَةِ فَإِنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يُغْنِي عَنْهُ

{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَلَيْسَ أَجْرُهَا مِنْ جِنْسِ أَجْرِهَا وَإِنْ كَانَ جِنْسُ أَجْرِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَفْضَلُ فَقَدْ يُحْتَاجُ إلَى الْمَفْضُولِ حَيْثُ لَا يُغْنِي الْفَاضِلُ . كَمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إلَى رِجْلِهِ حَيْثُ لَا تُغْنِي عَنْهَا عَيْنُهُ . وَكَذَلِكَ الْمَخْلُوقَاتُ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ حِكْمَةُ خُلِقَ لِأَجْلِهَا فَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ . فَجَمِيعُ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ لَهُ حِكْمَةٌ وَمَقْصُودٌ يُنْتَفَعُ بِهِ [ فِي ] (1) مَقْصُودِهِ فَلَا يُهْمَلُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ . وَإِنْ قِيلَ إنَّ جِنْسَ غَيْرِهِ أَفْضَلُ فَهُوَ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَالصَّلَوَاتُ الَّتِي كَانَ يَدْعُو فِيهَا بِهَذَا الِاسْتِفْتَاحِ : كَانَ دُعَاؤُهُ فِيهَا بِهَذَا الِاسْتِفْتَاحِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ دُعَاؤُهُ بِالطَّهَارَةِ وَالتَّنْقِيَةُ مِنْ الذُّنُوبِ التَّبْعِيدُ عَنْهَا مِنْ جِنْسِ الِاسْتِغْفَارِ فِي السَّحَرِ وَكَاسْتِغْفَارِهِ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَقَدْ كَانَ يَدْعُو بِمِثْلِ هَذَا الدُّعَاءِ فِي آخِرِ قِيَامِ الِاعْتِدَالِ بَعْدَ التَّحْمِيدِ فَكَانَ يَفْتَتِحُ بِهِ الْقِيَامَ تَارَةً وَيَخْتِمُ بِهِ الْقِيَامَ أَيْضًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي الِاسْتِفْتَاحِ أَنْوَاعٌ وَعَامَّتُهَا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَحْمَد . وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي بِاللَّيْلِ أَنْ يَسْتَفْتِحَ بِهَا كُلَّهَا وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى نَوْعٍ وَيَهْجُرَ غَيْرَهُ فَإِنَّ هَذَا هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ يُقَالُ أَيْضًا : هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَفْضَلُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ الْأَفْضَلُ بَلْ يَكُونُ فِعْلُهُ لِلْمَفْضُولِ

أَنْفَعُ . كَمَنْ يَنْتَفِعُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الذِّكْرِ أَوْ بِالذِّكْرِ دُونَ الْقِرَاءَةِ أَوْ بِالْقِرَاءَةِ دُونَ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَالْعِبَادَةُ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا فَيَحْضُرُ لَهَا قَلْبُهُ وَيَرْغَبُ فِيهَا وَيُحِبُّهَا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةٍ يَفْعَلُهَا مَعَ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ كَالْغِذَاءِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ الْإِنْسَانُ وَهُوَ جَائِعٌ : هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ غِذَاءٍ لَا يَشْتَهِيهِ أَوْ يَأْكُلُهُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِعٍ . فَكَذَلِكَ يُقَالُ هُنَا : قَدْ تَكُونُ مُدَاوَمَتُهُ عَلَى النَّوْعِ الْمَفْضُولِ أَنْفَعَ لِمَحَبَّتِهِ وَشُهُودِ قَلْبِهِ وَفَهْمِهِ ذَلِكَ الذِّكْرَ وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا التَّنَوُّعُ فِي هَذِهِ الْأَذْكَارِ أَفْضَلُ فَهُوَ أَيْضًا تَفْضِيلٌ لِجِنْسِ التَّنَوُّعِ وَالْمَفْضُولُ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ لِبَعْضِ النَّاسِ لِمُنَاسَبَتِهِ لَهُ كَمَا قَدْ يَكُونُ جِنْسُهُ فِي الشَّرْعِ أَفْضَلَ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ فَالْمَفْضُولُ تَارَةً يَكُونُ أَفْضَلَ مُطْلَقًا فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ لِأَنَّ انْتِفَاعَهُ بِهِ أَتَمُّ وَهَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ قَدْ يَنْتَفِعُونَ بِالْمَفْضُولِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِأَحْوَالِهِمْ النَّاقِصَةِ مَا لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْفَاضِلِ الَّذِي لَا يَصِلُونَ إلَى أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ .
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ " صَلَاةُ الْخَوْفِ " إذَا صَلَّى مَرَّةً عَلَى وَجْهٍ وَمَرَّةً عَلَى وَجْهٍ : كَأَنْ اتَّبَعَ مَنْ حَفِظَ وَجْهًا وَتَرَكَ آخَرَ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ

أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ لِمُنَاسَبَةِ حَالِهِ حَالَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَفْضَلَ . كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ فِي حَالٍ يَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ أَنْفَعَ لَهُ وَفِي حَالٍ يَكُونُ إقْرَارُهُ . لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ أَفْضَلَ لَهُ وَفِي حَالٍ يَكُونُ تَسْبِيحُهُ وَتَحْمِيدُهُ وَتَهْلِيلُهُ وَتَكْبِيرُهُ أَفْضَلَ لَهُ وَاَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ بَعْضَ الْمَشْرُوعِ وَيَكْرَهُونَ بَعْضَهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُقِيمُ طَائِفَةً تَقُولُ هَذَا وَطَائِفَةً تَقُولُ هَذَا وَطَائِفَةً تَقُولُ هَذَا وَيَتَنَازَعُونَ ؛ فَإِنَّهُ (1) بِسَبَبِ النِّزَاعِ تُظْهِرُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ السُّنَّةِ مَا قَالَتْ بِهِ وَتَرَكَتْهُ الْأُخْرَى كَالْمُخْتَلِفِينَ فِي الْبَسْمَلَةِ هَلْ تَجِبُ وَيُجْهَرُ بِهَا ؟ أَمْ تُكْرَهُ قِرَاءَتُهَا سِرًّا وَجَهْرًا ؟ يَحْتَاجُ أُولَئِكَ أَنْ يُظْهِرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ آيَةٌ مُفْرَدَةٌ تَبَعًا لِلسُّورِ وَيَحْتَاجُ أُولَئِكَ أَنْ يُظْهِرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّورِ وَلَا تَجِبُ قِرَاءَتُهَا وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ . " وَسُورَةُ اقْرَأْ " هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ احْتَجَّ بِهَا كُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَفِيهَا حُجَّةٌ لِمَا مَعَهُ مِنْ الْحَقِّ فَاَلَّذِينَ قَالُوا لَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ قَالُوا : إنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقِرَاءَتِهَا بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ : { بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وَلَوْ كَانَتْ هِيَ أَوَّلَ السُّورَةِ لَأَمَرَهُ بِهَا وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِقِرَاءَتِهَا قَالُوا : قَدْ قَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } فَهَذَا أَمْرٌ لِكُلِّ قَارِئٍ أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّهِ فَإِذَا قِيلَ اذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ

وَكُلْ بِسْمِ اللَّهِ وَارْكَبْ بِسْمِ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ اُذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ إذَا فَعَلْت ذَلِكَ . فَلَمَّا قَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } كَانَ أَمْرًا لِلْقَارِئِ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فَيَقُولُ : بِاسْمِ اللَّهِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ اسْمِ رَبِّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ . وَهُنَا قَدْ أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ أَيْضًا عِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ إذَا قَالَ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) فَقَدْ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ إذَا قَرَأَ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا جِبْرِيلُ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ بَعْدُ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ لَكِنْ عَلَّمَهُ هَذَا وَأَمَرَهُ فِيهِ بِذِكْرِ اسْمِ رَبِّهِ إذَا قَرَأَ فَكَانَ بَعْدَ هَذَا إذَا قَرَأَ السُّورَةَ يَقْرَأُ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ ثُمَّ قَرَأَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } { إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } } . وَلَكِنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَبَعٌ لِلْقُرْآنِ الْمَقْصُودِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ مُفْرِدَةً عَنْ السُّورَةِ لَمْ تُخْلَطْ بِهَا فَهِيَ قُرْآنٌ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ لَكِنْ أُنْزِلَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَالْمَقْصُودُ غَيْرُهُ فَلِهَذَا أُفْرِدَتْ فِي الْكِتَابَةِ وَالتِّلَاوَةِ فَفِي الْكِتَابَةِ تُكْتَبُ مُفْرَدَةً وَفِي التِّلَاوَةِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْهَرُ بِهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ الْقُرْآنِ الْمَفْرُوضِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِقَوْلِهِ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْت الصَّلَاةَ

بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ : نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِي } - إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فِي الْبَسْمَلَةِ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ مُفْرَدَةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ وَأَنَّهُ يُقْرَأُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ سِرًّا فَلَا تَخْرَجُ مِنْ الْقُرْآنِ وَتُهْجَرُ وَلَا تُشَبَّهْ بِالْقُرْآنِ الْمَقْصُودِ فَيُجْهَرَ وَهِيَ تُشْبِهُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَكِنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَيْسَتْ بِقُرْآنِ وَلَمْ تُكْتَبْ فِي الْمَصَاحِفِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَهَذَا قُرْآنٌ ؛ وَالْفَاتِحَةُ سَبْعُ آيَاتٍ بِالِاتِّفَاقِ . وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فَاتِحَةُ الْكِتَابِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي . } وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْهَا وَيَقْرَؤُهَا وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ لَا يَجْعَلُهَا مِنْهَا وَيَجْعَلُ الْآيَةَ السَّابِعَةَ { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ فَهِيَ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَتْ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ وَالْفَاتِحَةُ سَبْعُ آيَاتٍ . مِنْ وَجْهٍ تَكُونُ الْبَسْمَلَةُ مِنْهَا فَتَكُونُ آيَةً . وَمِنْ وَجْهٍ لَا تَكُونُ مِنْهَا فَالْآيَةُ السَّابِعَةُ { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ أُنْزِلَتْ تَبَعًا لِلسُّورِ .

وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُبْتَدَأَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فَهِيَ أُنْزِلَتْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ تَبَعًا لَمْ تَنْزِلْ فِي أَوَاخِرِ السُّورِ وَكُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ مُفْرَدَةً لَكِنْ تَبَعًا لِمَا بَعْدَهَا لَا لِمَا قَبْلَهَا . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ وَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } } . وفي السُّنَنِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْلَمُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا تَابِعَةً لِلسُّورَةِ تُجْعَلُ مِنْهَا وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْمَقْصُودِ أَنْ يَقْرَأَ بِسْمِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُ سَائِرَ الْأَفْعَالِ بِاسْمِ اللَّهِ وَالْقُرْآنُ الْمَقْصُودُ غَيْرُهَا لَمْ تَكُنْ آيَةً مِنْ السُّورَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأَعْلَمُ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلِ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } } . والقراء مِنْهُمْ مَنْ يَفْصِلُ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْصِلُ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَلَامَ اللَّهِ فَلَا يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ كَمَنْ سَمَّى إذَا أَكَلَ ثُمَّ أَكَلَ أَنْوَاعًا مِنْ الطَّعَامِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَهَذَا أَحْسَنُ لِمُتَابَعَتِهِ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَفْعِ طَعَامٍ وَوَضْعِ طَعَامٍ فَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ أَفْضَلُ .

وَكَذَلِكَ مَنْ ذَبَحَ شَاةً بَعْدَ شَاةٍ فَالتَّسْمِيَةُ عَلَى كُلِّ شَاةٍ أَفْضَلُ وَأَمَّا تِلَاوَتُهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فَهُوَ ابْتِدَاءٌ بِهَا لِلْقُرْآنِ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ كَلَامُ أَحْمَد هَلْ قِرَاءَتُهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فَرْضٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَذَكَرَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي الِاسْتِعَاذَةِ وَالِاسْتِفْتَاحِ فَالْبَسْمَلَةُ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ ثُمَّ وُجُوبُهَا قَدْ يُبْتَنَى عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ وَقَدْ يُقَالُ بِوُجُوبِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْفَاتِحَةِ كَمَا يُوجِبُ الِاسْتِعَاذَةَ وَالِاسْتِفْتَاحَ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجْعَلُ الْجَهْرَ بِهَا تَبَعًا لِوُجُوبِهَا بَلْ يُوجِبُهَا وَيَسْتَحِبُّ الْمُخَافَتَةَ بِهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَكَانَ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْفَاتِحَةِ دُونَ بَعْضٍ بَعِيدًا عَنْ الْأُصُولِ فَإِذَا جُعِلَتْ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ اتَّفَقَتْ الْأَدِلَّةُ وَالْأُصُولُ وَأُعْطِيَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ صِفَةً وَلَمْ يَقُلْ إنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَوْ كَقَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي حَالٍ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ . وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ إنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي قِرَاءَةٍ دُونَ قِرَاءَةٍ لِتَوَاتُرِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَيُقَالُ : الْمُتَوَاتِرُ هُوَ الْأَمْرُ الْوُجُودِيُّ وَهُوَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَبَلَّغُوهُ عَنْ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنُ فِي زَمَانِهِ لَمْ يُكْتَبْ وَلَا كَانَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَمْرًا وَاجِبًا مَأْمُورًا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَلْ الْأَمْرُ مُفَوَّضٌ فِي ذَلِكَ إلَى اخْتِيَارِ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا كَانَ لِجَمَاعَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ لِكُلِّ مِنْهُمْ اصْطِلَاحٌ فِي تَرْتِيبِ سُوَرِهِ غَيْرُ

اصْطِلَاحِ الْآخَرِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الَّذِينَ لَا يَقْرَءُونَهَا قَدْ أَقْرَأهُمْ الرَّسُولُ وَلَمْ يُبَسْمِلْ وَأُولَئِكَ أَقْرَأهُمْ وَبَسْمَلَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي أَحَدِ الْحَرْفَيْنِ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ قِرَاءَتِهَا فَإِنَّ هَذَا جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ كَيْفَ يَسُوغُ قِرَاءَتَهَا وَالنَّهْيُ عَنْ قِرَاءَتِهَا بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ كَالْحُرُوفِ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي قِرَاءَةٍ دُونَ قِرَاءَةٍ مِثْلِ مِنْ تَحْتِهَا وَمِثْلُ { إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ } فَالرَّسُولُ يُجَوِّزُ إثْبَاتَ ذَلِكَ وَيُجَوِّزُ حَذْفَهُ كِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي شَرْعِهِ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ أَثْبَتَهَا أَوْ مَكْرُوهَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهَا فَقَدْ غَلِطَ بَلْ الْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ . وَمَنْ قَرَأَ بِإِحْدَى الْقِرَاءَاتِ لَا يُقَالُ إنَّهُ كُلَّمَا قَرَأَ يَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا وَمَنْ تَرَكَ مَا قَرَأَ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَقُولُ إنَّ قِرَاءَةَ أُولَئِكَ مَكْرُوهَةٌ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ رَجَّحَ كُلُّ قَوْمٍ شَيْئًا وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهَا مِنْ الْقُرْآنِ بِالْكُلِّيَّةِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَقَطَعَ بِخَطَأِ مَنْ أَثْبَتَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُرْآنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَطْعِ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ وَيُقَالُ لَهُ : وَلَا تُنْفَى إلَّا بِالْقَطْعِ أَيْضًا . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : مَنْ أَثْبَتَهَا يَقْطَعُ بِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ وَيَقْطَعُ بِخَطَأِ مَنْ نَفَاهَا ؛ بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قَطْعِيًّا أَوْ غَيْرَ قَطْعِيٍّ أَمْرٌ إضَافِيٌّ وَالْقِرَاءَاتُ

تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ بِهَا أَفْضَلُ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ هَذَا . وَيُرَجِّحُونَ قِرَاءَتَهَا وَيُخْفُونَهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِغَيْرِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ . وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ . وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
" قَاعِدَةٌ " فِي صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا تَنَازُعٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي الرِّوَايَةِ وَالرَّأْيِ : مِثْلُ الْأَذَانِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ وَالتَّسْلِيمِ فِي الصَّلَاةِ وَرَفْعِ الْأَيْدِي فِيهَا وَوَضْعُ الْأَكُفِّ فَوْقَ الْأَكُفِّ . وَمِثْلُ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ التَّنَازُعَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالشَّعَائِرِ أَوْجَبَ أَنْوَاعًا مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ : " أَحَدُهَا " جَهْلُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ بِالْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ الْمَسْنُونِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِي سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ وَاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ . " الثَّانِي " ظُلْمُ كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ بَعْضَهُمْ لِبَعْضِ وَبَغْيُهُمْ عَلَيْهِمْ : تَارَةً بِنَهْيِهِمْ عَمَّا لَمْ يَنْهَ اللَّهُ عَنْهُ وَبُغْضُهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُبْغِضُهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَتَارَةً بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَصِلَتِهِمْ لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ

عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤْثِرُونَهُ حَتَّى يُقَدِّمُونَ فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمَحَبَّةِ وَإِعْطَاءِ الْأَمْوَالِ وَالْوِلَايَاتِ مَنْ يَكُونُ مُؤَخَّرًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَتْرُكُونَ مَنْ يَكُونُ مُقَدَّمًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِذَلِكَ . " الثَّالِثُ " اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَدِينًا بِاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ . وَحَتَّى يَصِيرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ مِنْ الْأَهْوَاءِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ . } " الرَّابِعُ " التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ الْمُخَالِفُ لِلِاجْتِمَاعِ والائتلاف حَتَّى يَصِيرَ بَعْضُهُمْ يُبْغِضُ بَعْضًا وَيُعَادِيهِ وَيُحِبُّ بَعْضًا وَيُوَالِيهِ عَلَى غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ وَحَتَّى يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِبَعْضِهِمْ إلَى الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ . وَبِبَعْضِهِمْ إلَى الِاقْتِتَالِ بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ وَبِبَعْضِهِمْ إلَى الْمُهَاجَرَةِ وَالْمُقَاطَعَةِ حَتَّى لَا يُصَلِّيَ بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ .

وَالِاجْتِمَاعُ والائتلاف مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } - إلَى قَوْلِهِ - { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ بِخُرُوجِهِ مِنْ السُّنَّةِ الَّتِي شَرَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ وَمِنْ أَهْلِ الْفُرْقَةِ بِالْفُرْقَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إنَّ

رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وَقَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } وَقَالَ : { إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } . وَهَذَا الْأَصْلُ الْعَظِيمُ : وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقَ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَمِمَّا عَظُمَتْ وَصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ . وَمِمَّا عَظُمَ ذَمُّهُ لِمَنْ تَرَكَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَمِمَّا عَظُمَتْ بِهِ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِن عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ : { عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ } وَقَوْلِهِ : { فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ } وَقَوْلِهِ : { أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَفْضَلِ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ . } وَقَوْلِهِ : { مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمَرَكُمْ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ } وَقَوْلِهِ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ

فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } وَقَوْلِهِ : { سَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً مِنْهَا وَاحِدَةٌ نَاجِيَةٌ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ - قِيلَ : وَمَنْ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ ؟ قَالَ - هِيَ الْجَمَاعَةُ يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ } .
وَبَابُ الْفَسَادِ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ . بَلْ وَفِي غَيْرِهَا : هُوَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ فَإِنَّهُ وَقَعَ بَيْنَ أُمَرَائِهَا وَعُلَمَائِهَا مِنْ مُلُوكِهَا وَمَشَايِخِهَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ مَغْفُورًا لِصَاحِبِهِ لِاجْتِهَادِهِ الَّذِي يُغْفَرُ فِيهِ خَطَؤُهُ أَوْ لِحَسَنَاتِهِ الْمَاحِيَةِ أَوْ تَوْبَتِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يُعْلَمُ أَنَّ رِعَايَتَهُ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا كَانَ امْتِيَازُ أَهْلِ النَّجَاةِ عَنْ أَهْلِ الْعَذَابِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَيَذْكُرُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ السُّنَنِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ . وَكَانَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ بَعْدَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي يَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهِ هُوَ الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى ضَلَالَةٍ .
النَّوْعُ الْخَامِسُ هُوَ شَكُّ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَطَعْنُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةُ عَلَيْهِ مُتَّفِقُونَ ؛ بَلْ وَفِي بَعْضِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ بَلْ وَبَعْضِ مَا عَلَيْهِ سَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ مُتَّفِقُونَ وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ نَقْلِهِمْ وَرِوَايَتِهِمْ تَارَةً وَمِنْ جِهَةِ تَنَازُعِهِمْ وَرَأْيِهِمْ أُخْرَى .

أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ الذِّكْرَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَمَرَ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ بِذِكْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } [ و ] (1) حَفِظَهُ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّحْرِيفِ مَا وَقَعَ فِيمَا أُنْزِلَ قَبْلَهُ . كَمَا عَصَمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ فَعَصَمَ حُرُوفَ التَّنْزِيلِ أَنْ يُغَيَّرَ وَحَفِظَ تَأْوِيلَهُ أَنْ يَضِلَّ فِيهِ أَهْلُ الْهُدَى الْمُتَمَسِّكُونَ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَحَفِظَ أَيْضًا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْكَذِبِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً بِمَا أَقَامَهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَحُفَّاظِهِ الَّذِينَ فَحَصُوا عَنْهَا وَعَنْ نَقَلَتِهَا وَرُوَاتِهَا وَعَلِمُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَعْلَمُ غَيْرُهُمْ حَتَّى صَارُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ مِنْهَا إجْمَاعًا مَعْصُومًا مِنْ الْخَطَأِ ؛ لِأَسْبَابِ يَطُولُ وَصْفُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَعَلِمُوا هُمْ خُصُوصًا وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ بَلْ وَعَامَّتُهَا عُمُومًا مَا صَانُوا بِهِ الدِّينَ عَنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ مِثْلَمَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ إلَّا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأَنَّ مَقَادِيرَ رَكَعَاتِهَا مَا بَيْنَ الثُّنَائِيِّ وَالثُّلَاثِيِّ وَالرُّبَاعِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّوْمِ إلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ وَمِنْ الْحَجِّ إلَّا حَجَّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَمِنْ الزَّكَاةِ إلَّا فَرَائِضِهَا الْمَعْرُوفَةِ إلَى نَحْوِ ذَلِكَ . وَعَلِمُوا كَذِبَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ فِيمَا قَدْ يَأْثُرُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِلْمِهِمْ بِكَذِبِ مَنْ يَزْعُمُ مِنْ الرَّافِضَةِ أَنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى عَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ نَصًّا قَاطِعًا جَلِيًّا وَزَعْمِ آخَرِينَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى آلِ العباس . وَعَلِمُوا أَكَاذِيبَ الرَّافِضَةِ وَالنَّاصِبَةِ - الَّتِي يَأْثُرُونَهَا فِي مِثْلِ " الْغَزَوَاتِ " الَّتِي يَرْوُونَهَا عَنْ عَلِيٍّ وَلَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ كَمَا يَرْوِيهَا الْمُكَذِّبُونَ الطرقية : مِثْلُ أَكَاذِيبِهِمْ الزَّائِدَةِ فِي سِيرَةِ عَنْتَرٍ وَالْبَطَّالِ - حَيْثُ عَلِمُوا مَجْمُوعَ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْقِتَالَ فِيهَا كَانَ فِي تِسْعَةِ مَغَازٍ فَقَطْ وَلَمْ يَكُنْ عِدَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْعَدُوِّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَغَازِي الْقِتَالِ عِشْرِينَ أَلْفًا . وَمِثْلُ " الْفَضَائِلِ " الْمَرْوِيَّةِ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَنَحْوِهِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الكَرَّامِيَة فِي الْإِرْجَاءِ وَنَحْوِهِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النُّسَّاكِ فِي صَلَوَاتِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَفِي صَلَوَاتِ أَيَّامِ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوُونَهَا فِي اسْتِمَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَتَوَاجُدِهِ وَسُقُوطِ الْبُرْدَةِ عَنْ رِدَائِهِ وَتَمْزِيقِهِ الثَّوْبَ وَأَخْذِ جِبْرِيلَ لِبَعْضِهِ وَصُعُودِهِ بِهِ إلَى السَّمَاءِ وَقِتَالِ أَهْلِ الصُّفَّةِ مَعَ الْكُفَّارِ وَاسْتِمَاعِهِمْ لِمُنَاجَاتِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ فِي نُزُولِ الرَّبِّ إلَى الْأَرْضِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَصَبِيحَةَ مُزْدَلِفَةَ وَرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فِي الْأَرْضِ بِعَيْنِ رَأْسِهِ وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ الَّتِي يَطُولُ وَصْفُهَا فَإِنَّ الْمَكْذُوبَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُحْصِيهِ أَحَدٌ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . لِأَنَّ الْكَذِبَ يَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الصِّدْقِ

الْمَوْرُوثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَحْفُوظٌ مَحْرُوسٌ بِنَقْلِ خُلَفَاءِ الرَّسُولِ وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ . وَكَانَ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى انْتِفَاءِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَكْذُوبَةِ وَغَيْرِهَا وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّ مَا تَوَفَّرَتْ هِمَمُ الْخَلْقِ وَدَوَاعِيهِمْ عَلَى نَقْلِهِ وَإِشَاعَتِهِ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ كِتْمَانُهُ فَانْفِرَادُ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِمْ كَمَا يُعْلَمُ كَذِبُ مَنْ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَخْبَرَ بِحَادِثَةٍ كَبِيرَةٍ فِي الْجَامِعِ مِثْلَ سُقُوطِ الْخَطِيبِ وَقَتْلِهِ وَإِمْسَاكِ أَقْوَامٍ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ إلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَيُعْلَمُ كَذِبُ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّ فِي الطُّرُقَاتِ بِلَادًا عَظِيمَةً وَأُمَمًا كَثِيرِينَ وَلَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ السَّيَّارَةُ وَإِنَّمَا انْفَرَدَ بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَيُعْلَمُ كَذِبُ مَنْ أَخْبَرَ بِمَعَادِنِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ مُتَيَسِّرَةٍ لِمَنْ أَرَادَهَا بِمَكَانِ يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَلَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ إلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فَبِاعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَقِيَاسِهِ وَضَرْبِهِ الْأَمْثَالَ يُعْلَمُ كَذِبُ مَا يُنْقَلُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِظُهُورِهَا وَانْتِشَارِهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً . كَمَا يُعْلَمُ أَيْضًا صِدْقُ مَا مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَاطَئُونَ فِيهِ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمَنْقُولَاتِ الْمُسْتَفِيضَةِ فَإِنَّ اللَّهَ جَبَلَ جَمَاهِيرَ الْأُمَمِ عَلَى الصِّدْقِ وَالْبَيَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ دُونَ

الْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ كَمَا جَبَلَهُمْ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ فَالنَّفْسُ بِطَبْعِهَا تَخْتَارُ الصِّدْقَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْكَذِبِ غَرَضٌ رَاجِحٌ وَتَخْتَارُ الْأَخْبَارَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ دُونَ كِتْمَانِهَا . وَالنَّاسُ يَسْتَخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَمِيلُونَ إلَى الِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِفْهَامِ عَمَّا يَقَعُ وَكُلُّ شَخْصٍ لَهُ مَنْ يُؤْثِرُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيُبَيِّنَ لَهُ دُونَ أَنْ يُكَذِّبَهُ وَيَكْتُمَهُ وَالْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ يَقَعُ كَثِيرًا فِي بَنِي آدَمَ فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ لَا تَنْضَبِطُ كَمَا يَقَعُ مِنْهُمْ الزِّنَا وَقَتْلُ النُّفُوسِ وَالْمَوْتُ جُوعًا وَعُرْيًا وَنَحْوُ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ الْغَالِبُ عَلَى أَنْسَابِهِمْ إلَّا الصِّحَّةُ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ إلَّا الْبَقَاءُ فَالْغَرَضُ هُنَا أَنَّ الْأُمُورَ الْمُتَوَاتِرَةَ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَاطَئُوا فِيهَا عَلَى الْكَذِبِ وَالْأَخْبَارِ الشَّاذَّةِ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَاطَئُوا فِيهَا عَلَى الْكِتْمَانِ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ دِينَ الْأُمَّةِ يُوجِبُ عَلَيْهِمْ تَبْلِيغَ الدِّينِ وَإِظْهَارَهُ وَبَيَانَهُ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ كِتْمَانُهُ وَيُوجِبُ عَلَيْهِمْ الصِّدْقَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ فَتَوَاطُؤُهُمْ عَلَى كِتْمَانِ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ كَتَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ وَكِلَاهُمَا مِنْ أَقْبَحِ الْأُمُورِ الَّتِي تُحَرَّمُ فِي دِينِ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ بَاعِثٌ مُوجِبٌ الصِّدْقَ وَالْبَيَانَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ عَدْلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَدِينِهَا وَعَظِيمِ رَغْبَتِهَا فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ وَإِظْهَارِهِ وَعَظِيمِ مُجَانَبَتِهَا لِلْكَذِبِ عَلَى الرَّسُولِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُوجِبُ أَعْظَمَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ ؛ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا فِيمَا نَقَلُوهُ عَنْهُ وَلَا كَتَمُوا مَا أَمَرَهُمْ بِتَبْلِيغِهِ وَهَذِهِ الْعَادَةُ الْحَاجِيَّةُ الْخَاصَّةُ الدِّينِيَّةُ لَهُمْ غَيْرُ الْعَادَةِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ جِنْسِ الْبَشَرِ . ( الرَّابِعُ : أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْخَاصَّةَ يَعْلَمُونَ مِنْ نُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُوجِبَةِ عَلَيْهِمْ التَّبْلِيغَ وَمِنْ تَعْظِيمِهِمْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِنْ دِينِ آحَادِهِمْ : مِثْلَ الْخُلَفَاءِ وَمِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبي وَمُعَاذٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ - إلَى ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمْ . يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا - لَا يَتَخَالَجُهُ رَيْبٌ - امْتِنَاعَ هَؤُلَاءِ مِنْ كِتْمَانِ قَوَاعِدِ الدِّينِ الَّتِي يَجِبُ تَبْلِيغُهَا إلَى الْعَامَّةِ كَمَا يَعْلَمُونَ امْتِنَاعَهُمْ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَعْلَمُ أَيْضًا أَهْلُ الْحَدِيثِ مِثْلَ أَحْوَالِ الْمَشَاهِيرِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِثْلُ الزُّهْرِيِّ وقتادة وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَمِثْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ أُمُورًا يَعْلَمُونَ مَعَهَا امْتِنَاعَهُمْ مِنْ الْكَذِبِ وَامْتِنَاعَهُمْ عَنْ كِتْمَانِ تَبْلِيغِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَأْبَى أَحْوَالُهُمْ كِتْمَانَهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَسْبَابٌ يَطُولُ شَرْحُهَا وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَقْرِيرُ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْ الشُّبْهَةِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ .

قَالُوا : هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِأَمْرِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يُفْعَلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي صِفَتِهِ وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ مِنْ أَعْظَمِ وَقَائِعِهِ وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي نَقْلِهَا وَذَكَرُوا نَحْوَ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الشُّبْهَةُ وَالنِّزَاعُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ وَجَعَلُوا هَذَا مُعَارِضًا لِمَا تَقَدَّمَ لِيُسَوِّغُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مَا لَمْ يُنْقَلْ بَلْ كُتِمَ لِأَهْوَاءِ وَأَغْرَاضِ . وَأَمَّا جِهَةُ الرَّأْيِ وَالتَّنَازُعِ فَإِنَّ تَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ بَلْ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ صَارَ شُبْهَةً لِكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالُوا : إنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَالْحَقُّ لَا يَكُونُ فِي جِهَتَيْنِ : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } . فَهَذَا التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْحَقِّ فِيمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُمْ بِعِبَارَاتِ تَارَةً يُسَمُّونَهُمْ الْجُمْهُورَ وَتَارَةً يُسَمُّونَهُمْ الْحَشْوِيَّةَ وَتَارَةً يُسَمُّونَهُمْ الْعَامَّةَ ثُمَّ صَارَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ لَمَّا جَعَلُوا هَذَا مَانِعًا مَنْ كَوْنِ الْحَقِّ فِيمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَلٌّ يَنْتَحِلُ سَبِيلًا مِنْ سُبُلِ الشَّيْطَانِ .

فَالرَّافِضَةُ تَنْتَحِلُ النَّقْلَ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ لِمَا لَا وُجُودَ لَهُ وَأَصْلُ مَنْ وَضَعَ ذَلِكَ لَهُمْ زَنَادِقَةٌ مِثْلُ رَئِيسِهِمْ الْأَوَّلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الَّذِي ابْتَدَعَ لَهُمْ الرَّفْضَ وَوَضَعَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى عَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ وَأَنَّهُ ظُلِمَ وَمُنِعَ حَقُّهُ وَقَالَ إنَّهُ كَانَ مَعْصُومًا وَغَرَضُ الزَّنَادِقَةِ بِذَلِكَ التَّوَسُّلُ إلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ بَابَ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ فَالصَّابِئَةُ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ أَخَذَ بِبَعْضِ أُمُورِهِمْ أَوْ زَادَ عَلَيْهِمْ - مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْنُصَيْرِيَّة والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْحَاكِمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - إنَّمَا يَدْخُلُونَ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالْكُفْرِ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَابِ التَّشَيُّعِ وَالرَّفْضِ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ تَنْتَحِلُ الْقِيَاسَ وَالْعَقْلَ وَتَطْعَنُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَنْقُلُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَنَحْوِهِ . وَرُبَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْمِلَّةِ مِنْ أَسْبَابِ الطَّعْنِ فِيهَا وَفِي أَهْلِهَا فَيَكُونُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَصِّبِينَ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ الصِّغَارِ سَاعِيًا فِي هَدْمِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الْكِبَارِ .
فَصْلٌ :
إذَا تَبَيَّنَ بَعْضُ مَا حَصَلَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ مِنْ الْفَسَادِ فَنَحْنُ نَذْكُرُ طَرِيقَ زَوَالِ ذَلِكَ وَنَذْكُرُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الدِّينِ فِي هَذِهِ الْمُنَازَعَاتِ وَذَلِكَ بِبَيَانِ الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا " السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ "

الْمَدْلُولُ عَلَيْهِمَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ إذَا اُتُّبِعَ كِتَابُ اللَّهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ جَمِيعًا حَصَلَ الْهُدَى وَالْفَلَاحُ وَزَالَ الضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ . أَمَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ " الْجَمَاعَةُ " وَبَدَأْنَا بِهِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ عِنْدَ عُمُومِ الْخَلْقِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَقْدِيمُ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا يَظُنُّونَهُ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَنَقُولُ : عَامَّةُ هَذِهِ التَّنَازُعَاتِ إنَّمَا هِيَ فِي أُمُورٍ مُسْتَحَبَّاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ لَا فِي وَاجِبَاتٍ وَمُحَرَّمَاتٍ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا حَجَّ مُتَمَتِّعًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا كَانَ حَجُّهُ مُجْزِئًا عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْخَارِجِينَ عَنْ الْجَمَاعَةِ يُوجِبُ أَوْ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَمِنْ الشِّيعَةِ مَنْ يُوجِبُ الْمُتْعَةَ وَيُحَرِّمُ مَا عَدَاهَا وَمِنْ النَّاصِبَةِ مَنْ يُحَرِّمُ الْمُتْعَةَ وَلَا يُبِيحُهَا بِحَالِ . وَكَذَلِكَ الْأَذَانُ سَوَاءٌ رَجَّعَ فِيهِ أَوْ لَمْ يُرَجِّعْ فَإِنَّهُ أَذَانٌ صَحِيحٌ عِنْدَ جَمِيعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعَامَّةِ خَلَفِهَا وَسَوَاءٌ رَبَّعَ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ ثَنَّاهُ وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ شَوَاذِّ الْمُتَفَقِّهَةِ كَمَا خَالَفَ فِيهِ بَعْضُ الشِّيعَةِ فَأَوْجَبَ لَهُ الْحَيْعَلَةَ " بحي عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ " وَكَذَلِكَ الْإِقَامَةُ يَصِحُّ فِيهَا الْإِفْرَادُ وَالتَّثْنِيَةُ بِأَيِّهَا أَقَامَ صَحَّتْ إقَامَتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إلَّا

مَا تَنَازَعَ فِيهِ شُذُوذُ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْمُخَافَتَةِ كِلَاهُمَا جَائِزٌ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ أَحَدَهُمَا أَوْ يَكْرَهُ الْآخَرَ أَوْ يَخْتَارُ أَنْ لَا يَقْرَأَ بِهَا . فَالْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ فِي الْمُسْتَحَبِّ وَإِلَّا فَالصَّلَاةُ بِأَحَدِهِمَا جَائِزَةٌ عِنْدَ عَوَامِّ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ تَنَازَعُوا بِالْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي مَوْضِعِهِمَا هَلْ هُمَا وَاجِبَانِ أَمْ لَا ؟ وَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَهَذَا فِي الْجَوِّ الطَّوِيلِ بِالْقَدْرِ الْكَثِيرِ مِثْلَ الْمُخَافَتَةِ بِقُرْآنِ الْفَجْرِ وَالْجَهْرُ بِقِرَاءَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ . فَأَمَّا الْجَهْرُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ أَوْ الْمُخَافَتَةُ بِهِ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُبْطِلَ الصَّلَاةَ بِذَلِكَ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانًا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزرقي قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ . قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ : رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : مَنْ الْمُتَكَلِّمُ ؟ قَالَ : أَنَا قَالَ : رَأَيْت بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْلَا جَهْرُهُ بِهَا لَمَا سَمِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا

الرَّاوِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْمَأْمُومِ الْمُخَافَتَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك . وَهَذَا فِعْلُهُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَالسُّنَّةُ الرَّاتِبَةُ فِيهِ الْمُخَافَتَةُ وَكَذَلِكَ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يَجْهَرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَقَالَ : لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا السُّنَّةُ وَلِهَذَا نَظَائِرُ . وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا كَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ وَتَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُبْطِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ صَلَاةَ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا مِمَّا لَمْ أَعْلَمِ فِيهِ نِزَاعًا وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ قِرَاءَتِهَا فَتِلْكَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى . وَكَذَلِكَ الْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ إنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْبَابِهِ أَوْ كَرَاهِيَتِهِ وَسُجُودِ السَّهْوِ لِتَرْكِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَإِلَّا فَعَامَّتُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ تَرَكَ الْقُنُوتَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ إذْ هُوَ تَطْوِيلٌ يَسِيرٌ لِلِاعْتِدَالِ وَدُعَاءِ اللَّهِ فِي هَذَا . . . (1) الْأَذَانِ فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ صَارَ ذَلِكَ مِثْلَ تَعْلِيمِهِ الْقُرْآنَ لِعُمَرِ بِحَرْفِ وَلِهُشَامِ بْنِ حَكِيمٍ بِحَرْفِ آخَرَ كِلَاهُمَا قُرْآنٌ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهِ . وَكَذَلِكَ التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ هُوَ ثَابِتٌ فِي أَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَهُوَ مَحْذُوفٌ مِنْ أَذَانِ بِلَالٍ الَّذِي رَوَوْهُ فِي السُّنَنِ وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْمُخَافَتَةِ بِهَا صَحَّ الْجَهْرُ بِهَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَصَحَّتْ الْمُخَافَتَةُ بِهَا عَنْ أَكْثَرِهِمْ وَعَنْ بَعْضِهِمْ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا . وَأَمَّا الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاَلَّذِي فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ ؛ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا كَمَا عَلَيْهِ عَمَلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَأُمَّتِهِ فَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ أَنَس وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً بَيِّنَةً لَا شُبْهَةَ فِيهَا وَفِي السُّنَنِ أَحَادِيثُ أُخَرُ : مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ حَدِيثٌ فِيهِ ذِكْرُ جَهْرِهِ بِهَا وَالْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِالْجَهْرِ عَنْهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجُوا فِي أُمَّهَاتِ الدَّوَاوِينِ مِنْهَا شَيْئًا وَلَكِنْ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ أَحَادِيثُ مُحْتَمَلَةٌ . وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِي بِإِسْنَادِ حَسَنٍ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا إذْ كَانَ بِمَكَّةَ وَأَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ تَرَكَ الْجَهْرَ بِهَا حَتَّى مَاتَ } . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَهَذَا

يُنَاسِبُ الْوَاقِعَ ؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ الْجَهْرُ بِهَا وَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْكُوفَةِ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِهَا وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا وَلِهَذَا سَأَلُوا أَنَسًا عَنْ ذَلِكَ . وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا بَعْضَ الْأَحْيَانِ أَوْ جَهْرًا خَفِيفًا إذَا كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا وَإِذَا كَانَ فِي نَفْسِ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً زَالَتْ الشُّبْهَةُ . وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَأَمْرُهُ بَيِّنٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْفَجْرِ مَرَّةً يَدْعُو عَلَى رَعْلٍ وذكوان وَعُصَيَّةَ ثُمَّ تَرَكَهُ } وَلَمْ يَكُنْ تَرَكَهُ نَسْخًا لَهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْعُو لِلْمُسْلِمِينَ : مِثْلَ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيَدْعُو عَلَى مُضَرَ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَنَتَ أَيْضًا فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ قُنُوتُ اسْتِنْصَارٍ . فَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَنْقُولٌ ثَابِتٌ عَنْهُ لَكِنْ اعْتَقَدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ تَرَكَهُ تَرْكَ نَسْخٍ فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْقُنُوتَ مَنْسُوخٌ وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْمَكِّيِّينَ أَنَّهُ مَا زَالَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ الْقُنُوتَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ قَنَتَ لِسَبَبِ وَتَرَكَهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ .

فَالْقُنُوتُ مِنْ السُّنَنِ الْعَوَارِضِ لَا الرَّوَاتِبِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَهُ لَمَّا زَالَ الْعَارِضُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ تَرَكَهُ لَمَّا زَالَ الْعَارِضُ وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا هَكَذَا ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَنَتَ الْقُنُوتَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا فِي كُتُبِ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ كَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مَالِكٍ الأشجعي وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَقْنُتُ قُنُوتًا يَجْهَرُ بِهِ لَكَانَ لَهُ فِيهِ دُعَاءٌ يَنْقُلُهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا مَا كَانَ يَقُولُهُ فِي الْقُنُوتِ الْعَارِضِ وَقُنُوتِ الْوِتْرِ فَالْقُنُوتُ الرَّاتِبُ أَوْلَى أَنْ يُنْقَلَ دُعَاؤُهُ فِيهِ فَإِذَا كَانَ الَّذِي نَسْتَحِبُّهُ إنَّمَا يَدْعُو فِيهِ لِقُنُوتِ الْوِتْرِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالْيَقِينِ الْقَطْعِيِّ كَمَا يُعْلَمُ عَدَمُ النَّصِّ عَلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ أَهْمَلُوا نَقْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ قَطْعًا . وَكَذَلِكَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا هُوَ الْقُنُوتُ الْعَارِضُ قُنُوتُ النَّوَازِلِ وَدُعَاءُ عُمَرَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : " اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " إلَخْ . يَقْتَضِي أَنَّهُ دَعَا بِهِ عِنْدَ قَتْلِهِ لِلنَّصَارَى وَكَذَلِكَ دُعَاءُ عَلِيٍّ عِنْدَ قِتَالِهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ عَنْ

أَنَسٍ : { أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا } مَعَ ضَعْفٍ فِي إسْنَادِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا فِيهِ الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ . وَفِي الصِّحَاحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَمْ يَقْنُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا } وَالْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ هُوَ الْقِيَامُ الطَّوِيلُ ؛ إذْ لَفْظُ الْقُنُوتِ مَعْنَاهُ دَوَامُ الطَّاعَةِ فَتَارَةً يَكُونُ فِي السُّجُودِ وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْقِيَامِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا حَجَّةُ الْوَدَاعِ وَإِنْ اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ حَيْثُ سَمِعُوا بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَقُولُ : إنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا يَقُولُونَ إنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ إنَّهُ قَرَنَ الْعُمْرَةَ إلَى الْحَجِّ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ وَنَحَرَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إلَّا عَائِشَةُ أَمَرَ أَخَاهَا أَنْ يَعْمُرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ أَدْنَى الْحِلِّ وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ طَوَافِهِ الْأَوَّلِ . فَاَلَّذِينَ نَقَلُوا أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ صَدَقُوا لِأَنَّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجِّ لَمْ يَقْرِنْ

بِهَا عَمَلَ الْعُمْرَةِ كَمَا يَتَوَهَّمُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سعيين وَلَمْ يَتَمَتَّعْ تَمَتُّعًا حَلَّ بِهِ مِنْ إحْرَامِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ ؛ بَلْ قَدْ أَمَرَ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيُهِلُّوا بِالْحَجِّ بَعْدَ قَضَاءِ عُمْرَتِهِمْ . ا هـ

وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
" أَنْوَاعُ الِاسْتِفْتَاحِ لِلصَّلَاةِ ثَلَاثَةٌ " وَهِيَ أَنْوَاعُ الْأَذْكَارِ مُطْلَقًا بَعْدَ الْقُرْآنِ . أَعْلَاهَا مَا كَانَ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ وَيَلِيهِ مَا كَانَ خَبَرًا مِنْ الْعَبْدِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالثَّالِثُ مَا كَانَ دُعَاءً لِلْعَبْدِ . فَإِنَّ الْكَلَامَ إمَّا إخْبَارٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ وَأَفْضَلُ الْإِخْبَارِ مَا كَانَ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ غَيْرِهِ وَمِنْ الْإِنْشَاءَاتِ وَلِهَذَا كَانَتْ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْخَبَرَ عَنْ اللَّهِ وَكَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَفْضَلَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ فَمَا كَانَ مِنْ الذِّكْرِ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَنْوَاعِ . وَالسُّؤَالُ لِلرَّبِّ هُوَ بَعْدَ الذِّكْرِ الْمَحْضِ كَمَا فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الحويرث : { مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتَيْ أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } . وَلِهَذَا كَانَتْ الْفَاتِحَةُ نِصْفَيْنِ : نِصْفًا ثَنَاءً وَنِصْفًا دُعَاءً . وَالنِصْفُ

الثَّانِى هُوَ الْمُقَدَّمُ وَهُوَ الَّذِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحِ قَالَ : { فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيَقُولُ : أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ } فَبَدَأَ بالحمد لِلَّهِ حَتَّى أُذِنَ لَهُ فِي السُّؤَالِ فَسَأَلَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي . فَإِنْ دَعَا اُسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ وَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ } وَقَالَ : { أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَلِهَذَا كَانَ التَّشَهُّدُ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَقَالَ فِي آخِرِهِ ثُمَّ لَيُتَخَيَّر مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ . وَالْأَدْعِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ ؛ لَمْ يَشْرَعْ الدُّعَاءُ فِي الْقُعُودِ قَبْلَ التَّشَهُّدِ ؛ بَلْ قَدَّمَ الثَّنَاءَ عَلَى الدُّعَاءِ وَفِي حَدِيثِ الَّذِي دَعَا قَبْلَ الثَّنَاءِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عَجِلَ هَذَا " . فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَأَبُو دَاوُد عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ { سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجِلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ - أَوْ لِغَيْرِهِ - إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا شَاءَ } . وَالذِّكْرُ الْمَشْرُوعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاعْتِدَالِ وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي الْفَرْضِ فَفِي كَرَاهِيَتِهِ نِزَاعٌ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَلَكِنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ ؛ فَإِنَّ الذِّكْرَ مَأْمُورٌ بِهِ فِيهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } و { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ } وَالثَّانِيَةُ { اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } . فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } فَفِيهِ الْأَمْرُ فِي الرُّكُوعِ بِالتَّعْظِيمِ وَأَمْرُهُ بِالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ الدُّعَاءَ فِي السُّجُودِ أَحَقُّ بِالْإِجَابَةِ مِنْ الرُّكُوعِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ كَمَا قَالَ : { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ } فَهُوَ أَمْرٌ بِأَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ . أَمْرٌ بِالصِّفَةِ لَا بِالْمَوْصُوفِ أَوْ أَمْرٌ بِالصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ وَإِنْ كَانَ التَّسْبِيحُ أَفْضَلَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَأْمُورِ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ

مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ بِحَسَبِ مَطْلُوبِ الْعَبْدِ لَمْ يَذْكُرْ دُعَاءً مُعَيَّنًا أَمَرَ بِهِ كَمَا أَمَرَ بِالْفَاتِحَةِ بِقَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَالدُّعَاءُ الْوَاجِبُ لَا يَكُونُ إلَّا مُعَيَّنًا وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الدُّعَاءِ وَاجِبًا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الدُّعَاءَ جَائِزٌ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَأَكْثَرُ الْأَدْعِيَةِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ : { أَنَّ أجوب الدُّعَاءِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ و دُبُرُ الصَّلَاةِ } . فَعُلِمَ أَنَّ الدُّعَاءَ دُبُرُ الصَّلَاةِ - لَا سِيَّمَا قَبْلَ السَّلَامِ . كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فِي الْغَالِبِ فَهُوَ - أجوب سَائِرِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بَعْدَ إكْمَالِ الْعِبَادَةِ . وَأَمَّا السُّجُودُ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ وَالرُّكُوعُ لِأَنَّهُ قَالَ : { إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا : أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } فَلَمَّا نَهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ ذَكَرَ مَا يَكُونُ بَدَلًا مَشْرُوعًا لِمَنْ أَرَادَ فَخَصَّ الرُّكُوعَ بِالتَّعْظِيمِ ؛ وَالسُّجُودَ بِالدُّعَاءِ . فَجَمَعَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ : الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ فَضْلَ الذِّكْرِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ : مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ

عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعُ : وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } وَلِهَذَا أَمَرَ بِالذِّكْرِ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَالَ مَشْرُوعٌ . فِيهِ التَّحْمِيدُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَكَانَ أَحْيَانًا يَدْعُو بَعْدَ التَّحْمِيدِ بِقَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ } فَأَخَّرَ السُّؤَالَ عَنْ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ وَأَمَرَ أَيْضًا بِالْحَمْدِ بِقَوْلِهِ : { فَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ . فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ } وَمَا دَاوَمَ عَلَيْهِ وَقَدَّمَهُ وَأَمَرَ بِهِ أَفْضَلُ مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ أَحْيَانًا وَيُؤَخِّرُهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ . وَأَيْضًا فَنَوْعُ الثَّنَاءِ أَضَافَهُ الرَّبُّ إلَى نَفْسِهِ وَنَوْعُ السُّؤَالِ أَضَافَهُ إلَى عَبْدِهِ . فَقَالَ : { إذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ . حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . قَالَ : هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } . وَأَيْضًا فَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إيجَابِ الثَّنَاءِ فَيُوجِبُونَ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ وَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ يَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فَإِذَا تَرَكَهُ

عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَتَسْبِيحُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كَذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ التَّكْبِيرُ تَكْبِيرُ الِانْتِقَالِ . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ مَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثًا عَمْدًا أَعَادَ الصَّلَاةَ وَمَذْهَبُ أَحْمَد مَشْهُورٌ عَنْهُ مُطْلَقًا وَمَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ : أَنَّ إيجَابَ هَذِهِ الْأَذْكَارِ مِنْ مُفْرَدَاتِ أَحْمَد عَنْ الثَّلَاثَةِ ؛ فَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ يُسَمُّونَ هَذِهِ سُنَنًا وَالسُّنَّةُ عِنْدَهُمْ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً إذَا تَرَكَهَا أَعَادَ وَهَذِهِ مِنْ ذَلِكَ فَيَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَهُمْ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلَمْ يَجِبْ مِنْهُ دُعَاءٌ مُفْرَدٌ أَصْلًا بَلْ مَا وَجَبَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَجَبَ بَعْدَ الثَّنَاءِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَوْجَبَ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ بِالدُّعَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ هُنَاكَ وَهُوَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَالْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَالدَّجَّالِ فَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوسٍ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَأَيْضًا فَالدُّعَاءُ لَمْ يُشْرَعْ مُجَرَّدًا لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَعَ الثَّنَاءِ . وَأَمَّا الثَّنَاءُ فَقَدْ شُرِعَ مُجَرَّدًا بِلَا كَرَاهَةٍ . فَلَوْ اقْتَصَرَ فِي الِاعْتِدَالِ عَلَى الثَّنَاءِ وَفِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى التَّسْبِيحِ كَانَ مَشْرُوعًا بِلَا كَرَاهَةٍ وَلَوْ اقْتَصَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الدُّعَاءِ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا وَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ نِزَاعٌ . و " أَيْضًا " فَالثَّنَاءُ يَتَضَمَّنُ مَقْصُودَ الدُّعَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ { أَفْضَلُ

الذِّكْرِ . لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } فَإِنَّ ثَنَاءَ الدَّاعِي عَلَى الْمَدْعُوِّ بِمَا يَتَضَمَّنُ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ ذِكْرِ الْمَطْلُوبِ كَمَا قِيلَ :
إذَا أَثْنَى عَلَيْك الْمَرْءُ يَوْمًا * * * كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
وَلِهَذَا يَقُولُ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ : { أَسْأَلُك بِأَنْ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ اللَّهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } . فَسَأَلَهُ بِأَنْ لَهُ الْحَمْدُ فَعُلِمَ بِأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ : هُوَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ . وَهَذَا كَقَوْلِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } فَقَوْلُهُ : هَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ : ارْحَمْنِي . وَفِي دُعَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّذِي رَوَتْهُ عَائِشَةُ : { اللَّهُمَّ إنَّك عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } . وَمِمَّا يُبَيِّنُ فَضْلَ الثَّنَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ أَنَّ الثَّنَاءَ الْمَشْرُوعَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَقَدْ لَا يَسْتَلْزِمُهُ إذْ الْكُفَّارُ يَسْأَلُونَ اللَّهَ

فَيُعْطِيهِمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَإِنَّ سُؤَالَ الرِّزْقِ وَالْعَافِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ : هُوَ مِمَّا يَدْعُو بِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ ؛ بِخِلَافِ الثَّنَاءِ كَقَوْلِهِ : { سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك } و { التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ } فَإِنَّ هَذَا لَا يُثْنَى بِهِ إلَّا الْمُؤْمِنُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدَهُ } لَكِنْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الثَّنَاءِ يُقِرُّ بِهِ الْكُفَّارُ كَإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَكِنْ الْمُشْرِكُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ثَنَاءٌ مَشْرُوعٌ يُثْنُونَ بِهِ عَلَى اللَّهِ حَتَّى فِي تَلْبِيَتِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ : لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك : إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ . وَكَذَلِكَ النَّصَارَى ثَنَاؤُهُمْ فِيهِ الشِّرْكُ وَأَمَّا الْيَهُودُ فَلَيْسَ فِي عِبَادَتِهِمْ ثَنَاءٌ اللَّهُمَّ إلَّا مَا يَكُونُ مَأْثُورًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَذَلِكَ مِنْ ثَنَاءِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ النَّصَارَى إنْ كَانَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا شَرَعَهُ مِنْ ثَنَائِهِ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ جِنْسِ الثَّنَاءِ عَلَى جِنْسِ الدُّعَاءِ كَثِيرَةٌ . مِثْلَ أَمْرِهِ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ سَمَاعِ الْمُؤَذِّنِ مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَسْأَلُ لَهُ الْوَسِيلَةَ ثُمَّ يَسْأَلُ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ . فَقَدَّمَ الثَّنَاءَ عَلَى

الدُّعَاءِ وَهَكَذَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ فَإِنَّهُ قَدَّمَ فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ الدُّعَاءَ لِرَسُولِهِ ثُمَّ لِلْإِنْسَانِ . وَكَذَلِكَ هُنَا مَعَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنَّ الْمَفْضُولَ قَدْ يَكُونُ أَحْيَانًا أَفْضَلَ . فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالذَّكَرَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالْمَفْضُولُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ حَالٌ يَكُونُ فِيهِ أَفْضَلَ ؛ لِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ إمَّا مُطْلَقًا كَفَضِيلَةِ الْقِرَاءَةِ وَقْتَ النَّهْيِ عَلَى الصَّلَاةِ وَإِمَّا لِحَالِ مَخْصُوصٍ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ جِنْسَ الثَّنَاءِ أَفْضَلُ مِنْ السُّؤَالِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْهُمَا ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ السَّائِلَ غَايَةُ مَقْصُودِهِ حُصُولُ مَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ . فَهُوَ مُرِيدٌ مِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ إعَانَتَهُ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ فَهُوَ يُرِيدُ مِنْهُ هَذَا الْأَمْرَ الْمَحْبُوبَ لِلَّهِ .

وَأَمَّا الْمُثْنِي فَهُوَ ذَاكِرٌ لِنَفْسِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَالْمَطْلُوبُ بِهَذَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ وَعِبَادَتُهُ . وَهَذَا مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْغَايَةُ الَّتِي خُلِقَ لَهَا الْخَلْقُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَالسُّؤَالُ وَسِيلَةٌ إلَى هَذَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْفَاتِحَةِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَقَدَّمَ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ لِنَفْسِهِ عَلَى قَوْلِهِ : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ . وَالْمَقَاصِدُ مُقَدَّمَةٌ فِي الْقَصْدِ وَالْقَوْلُ عَلَى الْوَسَائِلِ ثُمَّ مَقْصُودُ السَّائِلِ مِنْ الدُّعَاءِ يَحْصُلُ لِهَذَا الْعَابِدِ الْمُثْنِي مَعَ اشْتِغَالِهِ بِأَشْرَفِ الْقِسْمَيْنِ . وَأَمَّا الدَّاعِي فَإِذَا كَانَ مُهْتَمًّا بِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ كَحَاجَتِهِ إلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ الضَّرُورِيِّ كَانَ اشْتِغَالُهُ بِهَذَا نَفْسِهِ صَارِفًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا دَعَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِالدُّعَاءِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ مَا هُوَ أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ مِنْ مَطْلُوبِهِ ذَلِكَ . كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْت فِيهَا قَرْعَ بَابِ سَيِّدِك . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَأَدْعُوهُ فَيَفْتَحُ لِي مِنْ بَابِ مَعْرِفَتِهِ مَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ لِي قَضَاءَهَا ؛ لِئَلَّا يَنْصَرِفَ قَلْبِي عَنْ الدُّعَاءِ . وَالسَّائِلُ إذَا حَصَلَ سُؤَالُهُ بَرَدَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ إلَّا سُؤَالَهُ وَإِذَا حَصَلَ أَعْرَضَ عَنْ اللَّهِ فَهَذَا حَالُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ

قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } { قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إلَيْهِ ثُمَّ إذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } . فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ } أَيْ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إلَيْهِ وَهُوَ الْحَاجَةُ الَّتِي طَلَبَهَا فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَانَ إلَيْهَا أَيْ تَوَجُّهُهُ إلَيْهَا وَقَصْدُهُ فَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي كَانَ يَقْصِدُهَا . وَإِذَا كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً كَانَ تَقْدِيرُهُ نَسِيَ كَوْنَهُ يَدْعُو اللَّهَ إلَى حَاجَتِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } لَكِنْ عَلَى هَذَا يَبْقَى الضَّمِيرُ فِي إلَيْهِ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ بِخِلَافِ مَا إذَا جُعِلَتْ بِمَعْنَى الَّذِي فَإِنَّ التَّقْدِيرَ نَسِيَ حَاجَتَهُ الَّذِي دَعَانِي إلَيْهَا مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ دُعَاءَهُ اللَّهَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ الْحَاجَةِ وَإِلَى حَرْفِ الْغَايَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } فَقَدْ

أَخْبَرَ تَعَالَى : أَنَّهُ يَكْشِفُ مَا يَدْعُونَ إلَيْهِ ؛ وَهِيَ الشِّدَّةُ الَّتِي دَعَوْا إلَيْهَا . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ : فَلَا بُدَّ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِهِ لَهُ كَمَا أَمَرَهُ إمَّا قِيَامًا بِالْوَاجِبِ فَقَطْ فَيَكُونُ مِنْ الْأَبْرَارِ أَوْ بِالْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ فَيَكُونُ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ مَا أُمِرَ بِهِ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ الَّذِي يُبْتَلَى بِهِ غَالِبُ الْخَلْقِ : إمَّا شِرْكًا فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَإِمَّا شِرْكًا فِي الْأُلُوهِيَّةِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَقَدْ يُبْتَلَى فِي أَمَاكِنِ الْجَهْلِ وَزَمَانِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِمَا هُوَ مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . فَالسَّائِلُ مَقْصُودُهُ سُؤَالُهُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ مَا هُوَ مَحْبُوبُ الرَّبِّ مِنْ إنَابَتِهِ إلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَوْبَتِهِ فَهَذَا بِالْعَرَضِ وَقَدْ يَدُومُ . وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ لَا يَدُومُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبُ لِلرَّبِّ هُوَ سُؤَالَهُ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ التَّوْبَةَ وَالْإِعَانَةَ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ . فَهُنَا مَطْلُوبُهُ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَطْلُبْ إلَّا الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } . وَأَمَّا الْمُثْنِي : فَنَفْسُ ثَنَائِهِ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ وَحُصُولُ مَقْصُودِ السَّائِلِ يَحْصُلُ ضِمْنًا وَتَبَعًا فَهَذَا أَرْفَعُ . لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ لِمَنْ يُخْلِصُ إيمَانَهُ ====

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفتن

  ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر منذ 8 ساعات ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بيْنَكُمْ وبيْنَ بَنِي الأصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْ...