ج39.
مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطبري : عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : لِلْمُتَوَلِّي قِسْمَتُهَا وَوَضْعُهَا فِي أَيِّ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ إعْلَامًا مِنْهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ إلَى غَيْرِهَا لَا إيجَابًا لِقِسْمَتِهَا بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا : إنْ شِئْت جَعَلْته فِي صِنْفٍ أَوْ صِنْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ . قَالَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا صِنْفٍ أَعْطَيْته أَجْزَأَك وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عُمَرَ (1) يَأْخُذُ الْفَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ فَيَجْعَلُهُ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمَيْمُونُ بْنُ مهران وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي . قَالَ : وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ : عَلَيْهِ وَضْعُهَا فِي سِتَّةِ أَصْنَافٍ ؛ لِأَنَّهُ يَقْسِمُهَا فَسَقَطَ الْعَامِلُ وَالْمُؤَلَّفَةُ سَقَطُوا . قَالَ وَالصَّوَابُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ فِي مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : سَدُّ خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالثَّانِي : مَعُونَةُ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَتُهُ . فَمَا كَانَ مَعُونَةً لِلْإِسْلَامِ يُعْطِي مِنْهُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ كَالْمُجَاهِدِ وَنَحْوِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ وَمَا كَانَ فِي سَدِّ خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
الْأَصْلُ الثَّانِي : الزَّكَاةُ وَهُمْ أَيْضًا مُتَّبِعُونَ فِيهَا لِسُنَّةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ آخِذِينَ بِأَوْسَطِ
الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بِأَحْسَنِهَا فِي السَّائِمَة . فَأَخَذُوا فِي
أَوْقَاصِ الْإِبِلِ بِكِتَابِ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُتَابَعَتِهِ
: الْمُتَضَمِّنِ أَنَّ فِي الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ
لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ . لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ الْكِتَابِ الَّذِي
فِيهِ اسْتِئْنَافُ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ . فَإِنَّهُ
مُتَقَدِّمٌ عَلَى هَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَلَى
نَجْرَانَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمُدَّةِ . وَأَمَّا كِتَابُ الصِّدِّيقِ :
فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى
الْعُمَّالِ حَتَّى أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ . وَتَوَسَّطُوا فِي الْمُعَشَّرَاتِ
بَيْنَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ . فَإِنَّ أَهْلَ
الْعِرَاقِ كَأَبِي حَنِيفَةَ يُوجِبُونَ الْعُشْرَ فِي كُلِّ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ إلَّا الْقَصَبَ وَنَحْوَهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ . وَلِهَذَا لَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ . وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يُوجِبُونَ الْعُشْرَ إلَّا فِي النِّصَابِ الْمُقَدَّرِ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ . وَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يُوجِبُونَ مِنْ الثِّمَارِ إلَّا فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَفِي الزُّرُوعِ فِي الْأَقْوَاتِ . وَلَا يُوجِبُونَ فِي عَسَلٍ وَلَا غَيْرِهِ . وَالشَّافِعِيِّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحِجَازِ . وَأَمَّا أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : فَيُوَافِقُ فِي النِّصَابِ قَوْلَ أَهْلِ الْحِجَازِ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَلَا يُوجِبُونَ الزَّكَاةَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ ؛ لِمَا فِي التَّرْكِ مِنْ عَمَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَالْأَثَرِ عَنْهُ لَكِنْ يُوجِبُهَا فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ الَّتِي تُدَّخَرُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا كَالْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ جَعْلًا لِلْبَقَاءِ فِي الْمُعَشَّرَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْحَوْلِ فِي الْمَاشِيَةِ وَالْجَرِينِ . فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْخَضْرَاوَاتِ وَبَيْنَ الْمُدَّخَرَاتِ . وَقَدْ يَلْحَقُ بِالْمُوسَقِ الْمَوْزُونَاتُ : كَالْقُطْنِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَيُوجِبُهَا فِي الْعَسَلِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ الَّتِي جَمَعَهَا هُوَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ لَمْ تَبْلُغْهُ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ وَتَسْوِيَةً بَيْنَ جِنْسِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ
السَّمَاءِ وَمَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَرْضِ . وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَالْخَرَاجَ حَقُّ الْأَرْضِ . وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُمَا هُوَ قَوْلُ أَحْمَد أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ . وَأَمَّا مِقْدَارُ الصَّاعِ وَالْمُدِّ : فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ ؛ وَالْمُدُّ رُبْعُهُ . وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْمِيَاهِ . وَقِصَّةُ مَالِكٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ مَشْهُورَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد أَوْ أَكْثَرِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَالْمُدُّ رُبْعُهُ . وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الْجَمِيعِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ صَاعَ الطَّعَامِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ وَصَاعُ الطَّهَارَةِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ . كَمَا جَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَثَرُ . فَصَاعُ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ : هُوَ ثُلُثَا صَاعِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لِمَنْ تَأَمَّلَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ .
وَمِنْ أُصُولِهَا : أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْسَعُ فِي إيجَابِهَا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَة الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْآثَار (1) وَيُوجِبُهَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ . وَيَجْعَلُ الرِّكَازَ الْمَعْدِنَ وَغَيْرَهُ . فَيُوجِبُ فِيهِ الْخُمُسَ لَكِنَّهُ لَا يُوجِبُ مَا سِوَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرَ إلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ وَيُجَوِّزُ الِاحْتِيَالَ لِإِسْقَاطِهَا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ : هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَمْ لَا ؟ فَكَرِهَهُ مُحَمَّدٌ وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَبُو يُوسُفَ . وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ : فَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا التَّكْلِيفُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الْكَثِيرَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ . وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي الْخَيْلِ وَلَا فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَلَا فِي الْخَارِجِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَحَرَّمَ مَالِكٌ الِاحْتِيَالَ لِإِسْقَاطِهَا وَأَوْجَبَهَا مَعَ الْحِيلَةِ . وَكَرِهَ الشَّافِعِيِّ الْحِيلَةَ فِي إسْقَاطِهَا . وَأَمَّا أَحْمَد : فَهُوَ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعَشَّرَاتِ وَهُوَ يُوجِبُهَا فِي مَالِ الْمُكَلَّفِ وَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ . وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ . وَإِنْ كَانَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ . وَقَوْلُهُ فِي الِاحْتِيَالِ كَقَوْلِ مَالِكٌ يَحْرُمُ الِاحْتِيَالُ لِسُقُوطِهَا
وَيُوجِبُهَا
مَعَ الْحِيلَةِ . كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةِ " ن " وَغَيْرُهَا
مِنْ الدَّلَائِلِ . وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ الْأُمَّةِ - إلَّا
مَنْ شَذَّ - مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِهَا فِي عَرْضِ التِّجَارَةِ . سَوَاءٌ
كَانَ التَّاجِرُ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا . وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَرَبِّصًا -
وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِي التِّجَارَةَ وَقْتَ رُخْصِهَا وَيَدَّخِرُهَا إلَى
وَقْتِ ارْتِفَاعِ السِّعْرِ - أَوْ مُدِيرًا كَالتُّجَّارِ الَّذِينَ فِي
الْحَوَانِيتِ سَوَاءٌ كَانَتْ التِّجَارَةُ بَزًّا مِنْ جَدِيدٍ أَوْ لَبِيسٍ
أَوْ طَعَامًا مِنْ قُوتٍ أَوْ فَاكِهَةٍ . أَوْ أُدْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ
كَانَتْ آنِيَةً كَالْفَخَّارِ وَنَحْوِهِ أَوْ حَيَوَانًا مِنْ رَقِيقٍ أَوْ
خَيْلٍ أَوْ بِغَالٍ أَوْ حَمِيرٍ أَوْ غَنَمٍ مَعْلُوفَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
فَالتِّجَارَاتُ هِيَ أَغْلَبُ أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الْبَاطِنَةِ كَمَا
أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْمَاشِيَةَ هِيَ أَغْلَبُ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ .
فَصْلٌ :
وَلَا بُدَّ فِي الزَّكَاةِ مِنْ الْمِلْكِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَدِ .
فَلَهُمْ فِي زَكَاةِ مَا لَيْسَ فِي الْيَدِ كَالدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَجِبُ فِي كُلِّ دَيْنٍ وَكُلِّ عَيْنٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
تَحْتَ يَدِ
صَاحِبِهَا
كَالْمَغْصُوبِ وَالضَّالِّ . وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ وَعَلَى مُعْسِرٍ أَوْ
مُمَاطِلٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ الْإِخْرَاجِ مِمَّا يُمْكِنُ قَبْضُهُ
كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُوسِرِ . وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ
أَقْوَاهُمَا .
فَصْلٌ :
وَلِلنَّاسِ فِي إخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُجْزِئُ بِكُلِّ حَالٍ . كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُ بِحَالِ . كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّالِثُ
: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ مِثْلُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ
شَاةٌ فِي الْإِبِلِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَمِثْلُ مَنْ يَبِيعُ عِنَبَهُ
وَرُطَبَهُ قَبْلَ الْيُبْسِ . وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد صَرِيحًا .
فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ الْقِيَمِ . وَجَوَّزَهُ فِي مَوَاضِعَ
لِلْحَاجَةِ ؛ لَكِنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ جَوَازَهُ .
فَجَعَلُوا عَنْهُ فِي إخْرَاجِ الْقِيمَةِ رِوَايَتَيْنِ . وَاخْتَارُوا
الْمَنْعَ . لِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَهَذَا
الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ كَمَا ذَكَرْنَا مِثْلَهُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ
الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلَعِينِ نَصًّا وَقِيَاسًا : كَسَائِرِ أَدِلَّةِ
الْوُجُوبِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَصْلَحَةَ وُجُوبِ الْعَيْنِ قَدْ يُعَارِضُهَا
أَحْيَانًا فِي الْقِيمَةِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَفِي الْعَيْنِ مِنْ
الْمَشَقَّةِ الْمَنْفِيَّةِ شَرْعًا .
وَسُئِلَ
رَحِمَهُ اللَّهُ :
عَنْ صَدَاقِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا تَمُرُّ عَلَيْهِ السُّنُونَ
الْمُتَوَالِيَةُ لَا يُمْكِنُهَا مُطَالَبَتُهُ بِهِ لِئَلَّا يَقَعَ بَيْنَهُمَا
فُرْقَةٌ ثُمَّ إنَّهَا تَتَعَوَّضُ عَنْ صَدَاقِهَا بِعَقَارِ أَوْ يُدْفَعُ
إلَيْهَا الصَّدَاقُ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ السِّنِينَ ؛ فَهَلْ تَجِبُ زَكَاةَ
السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ ؟ أَمْ إلَى أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ قَبَضَتْ
الصَّدَاقَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ : قِيلَ
: يَجِبُ تَزْكِيَةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا
أَوْ مُعْسِرًا كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَقَدْ نَصَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا . وَقِيلَ يَجِبُ مَعَ يَسَارِهِ
وَتَمَكُّنِهَا مِنْ قَبْضِهَا دُونَ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَمْكِينُهُ مِنْ
الْقَبْضِ كَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي مَذْهَبِهِمَا . وَقِيلَ : تَجِبُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ
. كَقَوْلِ مَالِكٌ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَقِيلَ : لَا تَجِبُ بِحَالِ
كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَأَضْعَفُ
الْأَقْوَالِ : مَنْ يُوجِبُهَا لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ حَتَّى مَعَ الْعَجْزِ
عَنْ قَبْضِهِ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ فَأَمَّا أَنْ يَجِبَ لَهُمْ مَا
يَأْخُذُونَهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي
الشَّرِيعَةِ ثُمَّ إذَا طَالَ الزَّمَانُ كَانَتْ الزَّكَاةُ أَكْثَرَ مِنْ
الْمَالِ . ثُمَّ إذَا نَقَصَ النِّصَابَ وَقِيلَ : إنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي
عَيْنِ النِّصَابِ لَمْ يُعْلَمْ الْوَاجِبُ إلَّا بِحِسَابٍ طَوِيلٍ يَمْتَنِعُ
إتْيَانُ الشَّرِيعَةِ بِهِ . وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ لَا يُوجِبُ
فِيهِ شَيْئًا بِحَالِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ أَوْ يُوجِبُ فِيهِ
زَكَاةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْقَبْضِ فَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ وَهَذَا وَجْهٌ
. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٌ وَكِلَاهُمَا قِيل بِهِ
فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جِمَالٌ وَيَشْتَرِي لَهَا أَيَّامَ الرَّعْيِ مَرْعًى هَلْ
فِيهَا زَكَاةٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ رَاعِيَةً أَكْثَرَ الْعَامِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا ثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعَةً فَإِنَّهُ يُزَكِّيهَا هَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا كَانَتْ الْغَنَمُ أَرْبَعِينَ صِغَارًا أَوْ كِبَارًا وَجَبَتْ فِيهَا
الزَّكَاةُ إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ . وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ
أَرْبَعِينَ فَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ فَفِي هَذَا نِزَاعٌ
وَالْأَحْوَطُ أَدَاء الزَّكَاةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ غَنَمٌ وَلَمْ تَبْلُغْ النِّصَابَ : هَلْ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ
فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ
أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ حِينَ صَارَتْ أَرْبَعِينَ
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ
مَلَكَ الْأُمَّهَاتِ كَقَوْلِ مَالِكٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ قَرْيَةٍ بِهَا فَلَّاحُونَ وَهِيَ نِصْفَانِ : أَحَدُ فَلَّاحِي النِّصْفِ
لَهُ غَنَمٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَيْسَ لِفَلَّاحِيهِ
غَنَمٌ . قَدْرُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَأَلْزَمَ الْإِمَامُ أَهْلَ
الْقَرْيَةِ بِزَكَاةِ الْغَنَمِ عَلَى الْفَلَّاحِينَ : فَهَلْ تَجِبُ عَلَى مَنْ
لَهُ النِّصَابُ ؟ وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ : فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ
يَأْخُذَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ نِصَابٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ هُوَ مِقْدَارُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ
عَلَيْهِ الزَّكَاةُ اخْتَصُّوا بِأَدَائِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فَوْقَ
الْوَاجِبِ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ اشْتَرَكَ فِيهِ الْجَمِيعُ بِحَسَبِ
أَمْوَالِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ
زَكَاةُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا يَجِبُ مِنْ عُشْرِ الْحُبُوبِ وَمِقْدَارِهِ : وَهَلْ هُوَ عَلَى
الْمَالِكِ ؟ أَوْ الْفَلَّاحِ ؟ أَمْ عَلَيْهِمَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، النِّصَابُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ :
وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَصَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَهُ
الْأَئِمَّةُ لَمَّا بُنِيَتْ بَغْدَادُ بِخَمْسَةِ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ
بِالرِّطْلِ الْعِرَاقِيِّ إذْ ذَاكَ . فَيَكُونُ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ رِطْلٍ
بِالْعِرَاقِيِّ . وَكَانَ الرِّطْلُ الْعِرَاقِيُّ إذْ ذَاكَ تِسْعِينَ
مِثْقَالًا . مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعِ
دِرْهَمٍ . وَلَكِنْ زِيدَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ
ثُمَّ زِيدَ فِيهِ حَتَّى صَارَ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ فَظَنَّ بَعْضُ
مُتَأَخَّرِي الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذَا أَوْ هَذَا هُوَ الرِّطْلُ الَّذِي
قَدَّرَهُ بِهِ الْأَئِمَّةُ غَلَطًا مِنْهُمْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
فَمِقْدَارُهُ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ
ثَلَاثُمِائَةِ رِطْلٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رِطْلٍ وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ رِطْلٍ . وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ الرِّطْلِ : هُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعٍ . وَهُوَ ثُلُثَا رِطْلٍ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ . وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الرِّطْلَ الْبَغْدَادِيَّ : مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا زَادَ فِي كُلِّ رِطْلٍ بَغْدَادِيٍّ مِثْقَالًا وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ فَيَزِيدُ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ النِّصَابُ عَلَى قَوْلِهِ : ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَأَرْبَعِينَ رِطْلًا وَثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَسُبْعَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ نِصْفُ رِطْلٍ وَسُبْعَا أُوقِيَّةٍ . وَالْعُشْرُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ الزَّرْعَ فَإِذَا زَارَعَ الْفَلَّاحُ فَفِي صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . فَمَنْ اعْتَقَدَ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ أَخَذَ نَصِيبَهُ وَأَعْطَى الْفَلَّاحَ نَصِيبَهُ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا زَكَاةُ نَصِيبِهِ وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْ الْمُزَارَعَةَ جَعَلَ الزَّرْعَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْحَبِّ فَإِذَا كَانَ هُوَ الْفَلَّاحَ اسْتَحَقَّ الزَّرْعَ كُلَّهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ إلَّا أُجْرَةُ الْأَرْضِ وَالزَّكَاةُ حِينَئِذٍ عَلَى الْفَلَّاحِ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : إنَّ الْمُقَاسَمَةَ جَائِزَةٌ وَالْعُشْرَ كُلَّهُ عَلَى الْفَلَّاحِ ؛ بَلْ مَنْ قَالَ : الْعُشْرُ عَلَى الْفَلَّاحِ قَالَ : لَيْسَ لِلْمَالِكِ فِي الزَّرْعِ شَيْءٌ . وَلَا الْمُقْطِعُ وَلَا غَيْرُهُمَا . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعُشْرَ عَلَى الْفَلَّاحِ
مَعَ جَوَازِ الْمُقَاسَمَةِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَالْعَمَلُ فِي بِلَادِ الشَّامِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ كَمَا مَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ الْعَامِلِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِهِمْ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ نَبِيِّهِمْ وَإِلَى الْيَوْمِ . فَمَنْ كَانَ يُعَامِلُ بِالْمُزَارَعَةِ : كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةُ نَصِيبِهِمْ وَمَنْ كَانَ يَتَقَلَّدُ قَوْلَ مَنْ يُبْطِلُ هَذِهِ الْمُزَارَعَةَ وَيَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّرْعِ شَيْئًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْفَلَّاحِ إلَّا الْأُجْرَةُ وَأَنَّهُ إذَا أَخَذَ الْمُقَاسَمَةَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْفَلَّاحِ كَانَ ظَالِمًا آكِلًا لِلْحَرَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الزَّرْعَ لِلْفَلَّاحِ . وَيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ إلَّا أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الْفَلَّاحِ بَعْدَ هَذَا بِأَنْ يُقَاسِمَهُ وَيُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ كَانَ الْفَلَّاحُ حِينَئِذٍ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ بِطِيبِ نَفْسِهِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْفَلَّاحِينَ لَوْ عَلِمُوا هَذَا لَمَا طَابَتْ بِذَلِكَ نَفْسُ أَكْثَرِهِمْ فَهَذَا حَقِيقَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْعُشْرُ " : فَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ :
كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَنْ نَبَتَ الزَّرْعُ
عَلَى مِلْكِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
} فَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ التِّجَارَةِ وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ
مَا أَخْرَجَ اللَّهُ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ . فَمَنْ أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُ
الْحَبَّ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا
فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ .
وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ :
الْعُشْرُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ . وَإِذَا زَارَعَ أَرْضًا عَلَى النِّصْفِ فَمَا
حَصَلَ لِلْمَالِكِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ وَمَا حَصَلَ لِلْعَامِلِ فَعَلَيْهِ
عُشْرُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُشْر مَا أَخْرَجَهُ الله له .
وَمَنْ أُعِيرُ أَرْضًا أَوْ أُقْطِعَهَا أَوْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى عَيْنِهِ فَازْدَرَعَ فِيهَا زَرْعًا : فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ وَإِنْ آجَرَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ زَارَعَهَا فَالْعُشْرُ بَيْنَهُمَا . وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ : أَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَهُمْ يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الزَّكَاةِ وَالْخَرَاجُ حَقُّ الْأَرْضِ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْفَيْءِ فَهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَاجْتَمَعَا . كَمَا لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ وَالْكَفَّارَةُ حَقٌّ لِلَّهِ . وَكَمَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ لِمَالِكِهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ حَقًّا لِلَّهِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : الْعُشْرُ حَقُّ الْأَرْضِ فَلَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا حَقَّانِ وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ : أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُزْرَعَ سَوَاءٌ زُرِعَتْ أَوْ لَمْ تُزْرَعْ وَأَمَّا الْعُشْرُ فَلَا يَجِبُ إلَّا فِي الزَّرْعِ . وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ : { لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ } كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ كَانَتْ لَهُ أَشْجَارُ أَعْنَابٍ لَا يَصِيرُ زَبِيبًا وَلَا يَتْرُكُهُ
صَاحِبُهُ إلَى الْجِذَاذِ كَيْفَ يُخْرَجُ عُشْرُهُ رَطْبًا ؟ أَوْ يَابِسًا ؟
وَإِنْ أَخْرَجَ يَابِسًا أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ ثَمَرِ بُسْتَانِهِ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْعِنَبُ الَّذِي لَا يَصِيرُ زَبِيبًا : فَإِذَا أَخْرَجَ عَنْهُ
زَبِيبًا بِقَدْرِ عُشْرِهِ لَوْ كَانَ يَصِيرُ زَبِيبًا جَازَ وَهُوَ أَفْضَلُ
وَأَجْزَأَهُ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ
الْإِخْرَاجُ مَنْ عَيْنِ الْمَالِ لَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا غَيْرِهَا
بَلْ مَنْ كَانَ مَعَهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ عَرَضُ تِجَارَةٍ أَوْ لَهُ
حَبٌّ أَوْ ثَمَرٌ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ مَاشِيَةٌ تَجِبُ فِيهَا
الزَّكَاةُ " وَأَخْرَجَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ الْمَنْصُوصِ مِنْ غَيْرِ
ذَلِكَ الْمَالِ أَجْزَأَهُ فَكَيْفَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ . وَإِنْ أَخْرَجَ
الْعُشْرَ عِنَبًا فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ
الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ . وَالثَّانِي : يُجْزِئُهُ وَهُوَ
قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ
أَظْهَرُ .
وَأَمَّا الْعِنَبُ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا لَكِنَّهُ قَطَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ زَبِيبًا فَهُنَا يُخْرِجُ زَبِيبًا بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ سُعَاتِهِ فَيَخْرُصُونَ النَّخْلَ وَالْكَرْمَ وَيُطَالِبُ أَهْلَهُ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ يَابِسًا وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الثِّمَارِ يَأْكُلُونَ كَثِيرًا مِنْهَا رَطْبًا وَيَأْمُرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَارِصِينَ أَنْ يَدَعُوا لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ وَيَقُولُ : { إذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ والوطية وَالسَّابِلَةَ } يَعْنِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَتَبَرَّعُ بِمَا يُعَرِّيهِ مِنْ النَّخْلِ لِمَنْ يَأْكُلُهُ وَعَلَيْهِ ضَيْفٌ يَطَئُونَ حَدِيقَتَهُ يُطْعِمُهُمْ وَيُطْعِمُ السَّابِلَةَ وَهُمْ أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَهَذَا الْإِسْقَاطُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ فِي الْأُولَى . وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَا عَلِمْت فِيهَا نِزَاعًا فَإِنَّ حَقَّ أَهْلِ السَّهْمَانِ لَا يَسْقُطُ بِاخْتِيَارِ قَطْعِهِ رَطْبًا إذَا كَانَ يَيْبَسُ . نَعَمْ لَوْ بَاعَ عِنَبَهُ أَوْ رُطَبَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَقَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ عُشْرِ الثَّمَنِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِ عِنَبٍ أَوْ زَبِيبٍ فَإِنَّ فِي إخْرَاجِ الْقِيمَةِ نِزَاعًا فِي مَذْهَبِهِ وَنُصُوصُهُ الْكَثِيرَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَلَا يُجَوِّزُ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَخَرَجَتْ عَنْهُ رِوَايَةٌ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا وَنُصُوصُهُ الصَّرِيحَةُ إنَّمَا هِيَ بِالْفَرْقِ .
وَمِثْلُ
هَذَا كَثِيرٌ فِي مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ
الْأَئِمَّةِ قَدْ يَنُصُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ بِجَوَابَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ وَيُخَرِّجُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ إلَى
الْأُخْرَى وَيَكُونُ الصَّحِيحُ إقْرَارَ نُصُوصِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ
الْمَسْأَلَتَيْنِ . كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ
تَجُوزُ بَعْدَ الْجَرْحِ وَنَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ إذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ
بَطَلَ التَّدْبِيرُ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ خَرَّجَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ
رِوَايَتَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ إذَا قَتَلَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ
بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا يَمْنَعُ قَتْلُ الْوَارِثِ لِمُورِثِهِ أَنْ
يَرِثَهُ وَأَمَّا إذَا أَوْصَى لَهُ بَعْدَ الْجَرْحِ فَهُنَا الْوَصِيَّةُ
صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ رَضِيَ بِهَا بَعْدَ جَرْحِهِ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ مُقْطِعٌ لَهُ فَلَّاحٌ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً : فَهَلْ
عَلَيْهِ عُشْرٌ ؟
أَجَابَ :
مَا نَبَتَ عَلَى مِلْكِ الْإِنْسَانِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ فَالْأَرْضُ
الْمُقْطَعَةُ إذَا كَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ نِصْفَيْنِ فَعَلَى الْفَلَّاحِ
تَعْشِيرُ نِصْفِهِ وَعَلَى الْمُقْطِعِ تَعْشِيرُ نِصْفِهِ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ
الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ : قَدِيمًا وَحَدِيثًا .
وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُزَارَعَة صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ
مِنْ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ الْعَامِلِ .
وَأَمَّا
مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُزَارَعَةَ بَاطِلَةٌ فَعِنْدَهُ لَا يَسْتَحِقُّ
الْمُقْطِعُ إلَّا أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَالزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْبَذْرِ
الْعَامِلِ وَحِينَئِذٍ فَالْعُشْرُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ فَإِنْ أَرَادَ
الْمُقْطِعُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْمُغَلِّ مُقَاسَمَةً وَيَجْعَلَ الْعُشْرَ
كُلَّهُ عَلَى صَاحِبِ النِّصْفِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إنْسَانٍ لَهُ إقْطَاعٌ مِنْ السُّلْطَانِ ؛ فَهَلْ الْحَاصِلُ الَّذِي
يَحْصُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِقْطَاعِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَحَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ مَا يَنْبُتُ عَلَى مِلْكِهِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ
سَوَاءٌ كَانَ مُقْطَعًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ مَالِكًا أَوْ مُسْتَعِيرًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ نَصِيبِ الْعَامِلِ فِي الْمَزْرَعَةِ : هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الزَّكَاةُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ : فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى
أَصْلٍ
وَهُوَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةُ : هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا لَا تَجُوزُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَبْطَلَهَا مُطْلَقًا ، كَأَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ فَيَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ لِلْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يُمْكِنُ إجَارَتُهُ بِخِلَافِ الْأَرْضِ وَجَوَّزُوا الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ إمَّا مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَيَاضُ قَدْرَ الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْمُسَاقَاةَ مُطْلَقًا . كَقَوْلِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَفِي الْجَدِيدِ قَصَرَ الْجَوَازَ عَلَى النَّخْلِ وَالْعِنَبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَيَقُولُ : إنَّ هَذِهِ مُشَارَكَةٌ وَهِيَ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْإِجَارَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا قَدْرُ النَّفْعِ وَالْأُجْرَةِ فَإِنَّ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَيْسَ بِمَقْصُودِ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرُ الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ وَلَكِنَّ هَذَا شَارَكَ بِنَفْعِ مَالِهِ وَهَذَا بِنَفْعِ بَدَنِهِ وَهَكَذَا الْمُضَارَبَةُ . فَعَلَى هَذَا : فَإِذَا افْتَرَقَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْعُقُودِ وَجَبَ لِلْعَامِلِ قِسْطُ مِثْلِهِ مِنْ الرِّبْحِ إمَّا ثُلُثُ الرِّبْحِ وَإِمَّا نِصْفُهُ وَلَمْ تَجِبْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ .
وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ : قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ والخطابي وَغَيْرِهِمْ . وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَحَلُّ مِنْ الْإِجَارَةِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْخَطَرِ . فَإِنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعُقُودِ : مِنْهُ مَا يَدْخُلُ فِي جِنْسِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ فِي الْقُرْآنِ وَمِنْهُ مَا يَدْخُلُ فِي جِنْسِ الْمَيْسِرِ الَّذِي هُوَ الْقِمَارُ . وَبَيْعُ الْغَرَرِ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ فَالْأُجْرَةُ وَالثَّمَنُ إذَا كَانَتْ غَرَرًا مِثْلَ مَا لَمْ يُوصَفْ وَلَمْ يُرَ وَلَمْ يُعْلَمْ جِنْسُهُ : كَانَ ذَلِكَ غَرَرًا وَقِمَارًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِالْأَرْضِ بِحُصُولِ الزَّرْعِ لَهُ فَإِذَا أَعْطَى الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ كَانَ الْمُؤَجِّرُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ بِيَقِينِ . وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَا يَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ لَهُ الزَّرْعُ أَمْ لَا ؟ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْحِرْمَانِ . كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ حَصَلَ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ وَكَانَ ذَهَابُ نَفْعِ مَالِ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ نَفْعِ بَدَنِ هَذَا .
وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْتَرَطَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ مِنْ النَّمَاءِ لَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَلَا فِي الْمُزَارَعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْعَدْلِ . إذْ قَدْ يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ وَالْآخَرُ لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي رُوِيَ فِيهَا " أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ " أَوْ " عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ " أَوْ " عَنْ الْمُزَارَعَةِ " كَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ . فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَيْهَا بِزَرْعِ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الْأَرْضِ لِلْمَالِكِ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : إنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو عِلْمٍ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ فَجَائِزَةٌ بِلَا رَيْبٍ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ الْعَامِلِ أَوْ مِنْهُمَا وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوْ الْمُزَارَعَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ سَفِينَتَهُ إلَى مَنْ يَكْتَسِبُ عَلَيْهَا وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَوْ مَنْ يَدْفَعُ مَاشِيَتَهُ أَوْ نَخْلَهُ لِمَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا وَالصُّوفُ وَاللَّبَنُ وَالْوَلَدُ وَالْعَسَلُ بَيْنَهُمَا . فَإِذَا عُرِفَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ
الْمُزَارَعَةَ
بَاطِلَةٌ قَالَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ
أَوْ الْعَامِلِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ . وَمَنْ قَالَ : لَهُ الزَّرْعُ
كَانَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَسْتَحِقُّ
جُزْءًا مُشَاعًا مِنْ الزَّرْعِ فَإِنَّ عَلَيْهِ عُشْرَهُ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّ رَبَّ الْأَرْضِ
يُقَاسِمُ الْعَامِلَ وَيَكُونُ الْعُشْرُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ فَمَنْ قَالَ
هَذَا فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ لُبْسِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ مِنْ الْكَلَالِيبِ وَخَاتَمٍ وَحِيَاصَةٍ
وَحِلْيَةٍ عَلَى السَّيْفِ وَسَائِرِ لُبْسِ الْفِضَّةِ : هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ
؟ وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا خَاتَمُ الْفِضَّةِ فَيُبَاحُ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَأَنَّ أَصْحَابَهُ اتَّخَذُوا
خَوَاتِيمَ . بِخِلَافِ خَاتَمِ الذَّهَبِ : فَإِنَّهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ .
وَالسَّيْفُ : يُبَاحُ تَحْلِيَتُهُ بِيَسِيرِ الْفِضَّةِ فَإِنَّ { سَيْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِ فِضَّةٌ } وَكَذَلِكَ يَسِيرُ الذَّهَبِ عَلَى الصَّحِيحِ . وَأَمَّا الْحِيَاصَةُ : إذَا كَانَ فِيهَا فِضَّةٌ يَسِيرَةٌ فَإِنَّهَا تُبَاحُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا الْكَلَالِيبُ الَّتِي تُمْسَكُ بِهَا الْعِمَامَةُ وَتَحْتَاجُ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ بِزِنَةِ الْخَوَاتِيمِ كَالْمِثْقَالِ وَنَحْوِهِ . فَهِيَ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ مِنْ الْخَاتَمِ فَإِنَّ الْخَاتَمَ يُتَّخَذُ لِلزِّينَةِ وَهَذَا لِلْحَاجَةِ . وَهَذِهِ مُتَّصِلَةٌ بِالْيَسِيرِ لَيْسَتْ مُفْرَدَةً كَالْخَاتَمِ وَيَسِيرُ الْفِضَّةِ التَّابِعُ لِغَيْرِهِ إذَا كَانَ يُحْتَاجُ إلَى جِنْسِهِ كَشُعَيْرَةِ السِّكِّينِ وَحَلْقَةِ الْإِنَاءِ تُبَاحُ فِي الْآنِيَةِ وَإِنْ كُرِهَ مُبَاشَرَتُهُ بِالِاسْتِعْمَالِ . وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ ( الْآنِيَةِ ) فَإِنَّ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَأَمَّا بَابُ اللِّبَاسِ : فَإِنَّ لِبَاسَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُبَاحُ لِلرَّجُلِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ . وَيُبَاحُ يَسِيرُ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ وَكَذَلِكَ يَسِيرُ الذَّهَبِ التَّابِعُ لِغَيْرِهِ كَالطُّرُزِ وَنَحْوِهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا . فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ يَسِيرَ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ مُفْرَدًا أَوْ مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ كَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَحْرُمُ
يَسِيرُ الْفِضَّةِ لِلْحَاجَةِ . وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ كَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظٌ عَامٌّ بِتَحْرِيمِ لُبْسِ الْفِضَّةِ كَمَا جَاءَ عَنْهُ لَفْظٌ عَامٌّ بِتَحْرِيمِ لُبْسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ حَيْثُ قَالَ : { هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } وَكَمَا جَاءَ عَنْهُ لَفْظٌ عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . فَلَمَّا كَانَتْ أَلْفَاظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَّةً فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَفِي لِبَاسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ . اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا خَصَّتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ كَيَسِيرِ الْحَرِيرِ وَيَسِيرِ الْفِضَّةِ فِي الْآنِيَةِ لِلْحَاجَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَأَمَّا لُبْسُ الْفِضَّةِ : إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَفْظٌ عَامٌّ بِالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مِنْهُ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَإِذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِبَاحَةِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِبَاحَةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ جُنْدِيٍّ قَالَ لِلصَّانِعِ : اعْمَلْ لِي حِيَاصَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ
فِضَّةٍ وَاكْتُبْ عَلَيْهَا ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : فَهَلْ
يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ إعَادَتِهَا إلَى النَّارِ لِتَمَامِ
عَمَلِهَا . وَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْبَسَ حِيَاصَةَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ
؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا حِيَاصَةُ الذَّهَبِ
فَمُحَرَّمَةٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ
لِإِنَاثِهَا } . وَأَمَّا حِيَاصَةُ الْفِضَّةِ ، فَفِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ : وَقَدْ أَبَاحَهَا الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ . وَأَمَّا كِتَابَة الْقُرْآنِ عَلَيْهَا : فَيُشْبِهُ كِتَابَة
الْقُرْآنِ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ . وَلَكِنْ يَمْتَازُ هَذَا
بِأَنَّهَا تُعَادُ إلَى النَّارِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَهَذَا كُلُّهُ مَكْرُوهٌ
فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى ابْتِذَالِ الْقُرْآنِ وَامْتِهَانِهِ وَوُقُوعِهِ فِي
الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهَا . فَإِنَّ الْحِيَاصَةَ وَالدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . هُوَ فِي مَعْرِضِ الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي حَمْلِ الدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي كِتَابَة الْقُرْآنِ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ
صَدَقَةُ الْفِطْرِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ : هَلْ تُخْرَجُ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ بُرًّا أَوْ
شَعِيرًا أَوْ دَقِيقًا ؟ وَهَلْ يُعْطِي لِلْأَقَارِبِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ
نَفَقَتُهُ ؟ أَوْ يَجُوزُ إعْطَاءُ الْقِيمَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَقْتَاتُونَ أَحَدَ
هَذِهِ الْأَصْنَافِ جَازَ الْإِخْرَاجُ مِنْ قُوتِهِمْ بِلَا رَيْبٍ . وَهَلْ
لَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مَا يَقْتَاتُونَ مِنْ غَيْرِهَا ؟ مِثْلُ أَنْ يَكُونُوا
يَقْتَاتُونَ الْأُرْزَ وَالدُّخْنَ فَهَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجُوا حِنْطَةً
أَوْ شَعِيرًا أَوْ يُجْزِئُهُمْ الْأُرْزُ وَالدُّخْنُ وَالذُّرَةُ ؟ فِيهِ
نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد :
إحْدَاهُمَا لَا يُخْرِجُ إلَّا الْمَنْصُوصَ . وَالْأُخْرَى : يُخْرِجُ مَا يَقْتَاتُهُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ . وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّدَقَاتِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى وَجْهِ الْمُسَاوَاةِ لِلْفُقَرَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ قُوتَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا لَيْسَ قُوتَهُمْ بَلْ يَقْتَاتُونَ غَيْرَهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مِمَّا لَا يَقْتَاتُونَهُ كَمَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ . وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مِنْ جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ هَذِهِ مُعَلَّقَةٌ بِالْبَدَنِ وَهَذِهِ مُعَلَّقَةٌ بِالْبَدَنِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْمَالِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ مِنْ جِنْسِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ . وَأَمَّا الدَّقِيقُ : فَيَجُوزُ إخْرَاجُهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد دُونَ الشَّافِعِيِّ . وَيُخْرِجُهُ بِالْوَزْنِ فَإِنَّ الدَّقِيقَ يُرَبَّعُ إذَا طُحِنَ وَالْقَرِيبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهَا إذَا كَانَتْ حَاجَتُهُ مِثْلَ حَاجَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ فَإِنَّ صَدَقَتَك عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ ؟ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا صَاعٌ وَيَزِيدُ
عَلَيْهِ وَيَقُولُ هُوَ نَافِلَةٌ هَلْ يُكْرَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوزُ بِلَا كَرَاهِيَةٍ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ ؛ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَإِنَّمَا تُنْقَلُ
كَرَاهِيَتُهُ عَنْ مَالِكٌ . وَأَمَّا النَّقْصُ عَنْ الْوَاجِبِ فَلَا يَجُوزُ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ هَلْ الْوَاجِبُ صَاعٌ ؟ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ ؟
أَوْ أَكْثَرُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ : هَلْ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ
فِي صَرْفِهَا ؟ أَمْ يُجْزِئُ صَرْفُهَا إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ ؟ وَمَا أَقْوَالُ
الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: فِي زَكَاةِ الْمَالِ كَزَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدِ وَعُرُوضِ
التِّجَارَةِ وَالْمُعَشَّرَاتِ فَهَذِهِ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُزَكٍّ أَنْ يَسْتَوْعِبَ بِزَكَاتِهِ
جَمِيعَ الْأَصْنَافِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا وَأَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ
ثَلَاثَةً وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد . الثَّانِي : بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ لَا
يَخْرُجَ بِهَا عَنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَلَا يُعْطِيَ أَحَدًا فَوْقَ
كِفَايَتِهِ وَلَا يُحَابِيَ أَحَدًا بِحَيْثُ يُعْطِي وَاحِدًا وَيَدَعُ
مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ مَعَ إمْكَانِ الْعَدْلِ . وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ إذَا دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ جَمِيعَهَا لِوَاحِدِ مِنْ صِنْفٍ . وَهُوَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَارِمًا عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَجِدُ لَهَا وَفَاءً فَيُعْطِيهِ زَكَاتَهُ كُلَّهَا وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَجْزَأَهُ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ : كَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ نَفْسِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لقبيصة بْنِ مخارق الْهِلَالِيِّ : أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَك بِهَا } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهَا أَنَّهُ { قَالَ لسلمة بْنِ صَخْرٍ البياضي : اذْهَبْ إلَى عَامِلِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْ صَدَقَتَهُمْ إلَيْك . } فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ دَفَعَ صَدَقَةَ قَوْمٍ لِشَخْصِ وَاحِدٍ لَكِنَّ الْآمِرَ هُوَ الْإِمَامُ وَفِي مِثْلِ هَذَا تَنَازُعٌ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْفَتْوَى . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ " صَدَقَةُ الْفِطْرِ " فَإِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ أَوْ صَدَقَةِ الْأَبْدَانِ كَالْكَفَّارَاتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ أَوْجَبَ الِاسْتِيعَابَ فِيهَا .
وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَنْبَنِي مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ دَفْعَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَى وَاحِدٍ كَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَجْرِي مَجْرَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ وَمَجْرَى كَفَّارَةِ الْحَجِّ فَإِنَّ سَبَبَهَا هُوَ الْبَدَنُ لَيْسَ هُوَ الْمَالَ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ . مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ : { أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ . } وَلِهَذَا أَوْجَبَهَا اللَّهُ طَعَامًا كَمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ طَعَامًا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يُجْزِئُ إطْعَامُهَا إلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْكَفَّارَةَ وَهُمْ الْآخِذُونَ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يُعْطِي مِنْهَا فِي الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا الرِّقَابِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ . وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَدْفَعَ
صَدَقَةَ فِطْرِهِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَوْ إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ لَمْ يَعْمَلْ بِهَذَا مُسْلِمٌ عَلَى عَهْدِهِمْ بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُ يَدْفَعُ صَدَقَةَ فِطْرِهِ وَصَدَقَةَ فِطْرِ عِيَالِهِ إلَى الْمُسْلِمِ الْوَاحِدِ . وَلَوْ رَأَوْا مَنْ يُقَسِّمُ الصَّاعَ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ نَفَسًا يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ حَفْنَةً لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ وَعَدُّوهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَنْكَرَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَحَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ . وَمِنْ الْبُرِّ إمَّا نِصْفَ صَاعٍ وَإِمَّا صَاعًا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ لِلْوَاحِدِ مِنْ الْمَسَاكِينِ وَجَعَلَهَا طُعْمَةً لَهُمْ يَوْمَ الْعِيدِ يَسْتَغْنُونَ بِهَا فَإِذَا أَخَذَ الْمِسْكِينُ حَفْنَةً لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَلَمْ تَقَعْ مَوْقِعًا . وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ ابْنُ سَبِيلٍ إذَا أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ حِنْطَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا مِنْ مَقْصُودِهَا مَا يُعَدُّ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا لَوْ فُرِضَ عَدَدٌ مُضْطَرُّونَ
وَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمْ الصَّاعَ عَاشُوا وَإِنَّ خَصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ مَاتَ الْبَاقُونَ فَهُنَا يَنْبَغِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ لَكِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ هُوَ الْمَصْلَحَةَ وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا الْعُقَلَاءُ وَلَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . ثُمَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ } نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ . وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّهَارِ : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصْرَفَ تِلْكَ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُخْرَجِ مِنْ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ وَالْوَاجِبُ مَا يَبْقَى ويستنمى ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبَ فِيهَا الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ إلَّا فِي التَّبِيعِ وَابْنِ لَبُونٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِنَاثِ . وَفِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْلَ كَانَ الذَّكَرُ أَفْضَلَ مِنْ الْأُنْثَى وَكَانَتْ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا إذَا تُصُدِّقَ بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمَسَاكِينِ أَهْلِ الْحَاجَةِ دُونَ اسْتِيعَابِ الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَجَبَتْ طَعَامًا لِلْأَكْلِ لَا للاستنماء . فَعُلِمَ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ قَوْلَهُ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } نَصٌّ فِي اسْتِيعَابِ الصَّدَقَةِ . قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ لِوُجُوهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّامَ فِي هَذِهِ إنَّمَا هِيَ لِتَعْرِيفِ الصَّدَقَةِ الْمَعْهُودَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا } وَهَذِهِ إذًا صَدَقَاتُ الْأَمْوَالِ دُونَ صَدَقَاتِ الْأَبْدَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ دَاخِلَةً فِي آيَةِ بَرَاءَةٌ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ فِدْيَةَ الْأَذَى لَا يَجِبُ صَرْفُهَا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْآيَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ } . لَا يَخْتَصُّ بِهَا الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَمْنَعُ دُخُولَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي الْآيَةِ وَهِيَ تَعُمُّ جَمِيعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ إنَّهُ يَجِبُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ بَلْ غَايَةُ مَا قِيلَ : إنَّهُ يَجِبُ إعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَهَذَا تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثُمَّ فِيهِ تَعْيِينُ فَقِيرٍ دُونَ فَقِيرٍ . وَأَيْضًا لَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ التَّسْوِيَةَ فِي آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ فَالْقَوْلُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ فِي الْأَصْنَافِ عُمُومًا وَتَسْوِيَةً كَالْقَوْلِ فِي آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ عُمُومًا وَتَسْوِيَةً . الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ } لِلْحَصْرِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَذْكُورُ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ وَالْمَعْنَى لَيْسَتْ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ بَلْ لِهَؤُلَاءِ فَالْمُثْبَتُ مِنْ جِنْسِ الْمَنْفِيِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَبْيِينَ الْمِلْكِ بَلْ قَصَدَ تَبْيِينَ الْحِلِّ أَيْ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى بَلْ تَحِلُّ لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِمَنْ سَأَلَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَالْمَذْمُومُ يُذَمُّ عَلَى طَلَبِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ لَا عَلَى طَلَبِ مَا يَحِلُّ لَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَذُمَّ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ إذَا سَأَلُوهَا مِنْ الْإِمَامِ قَبْلَ إعْطَائِهَا وَلَوْ كَانَ الذَّمُّ عَامًّا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَصْرِ ذَمٌّ لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ وَالذَّمُّ الَّذِي اخْتَصُّوا بِهِ سُؤَالُ مَا لَا يَحِلُّ فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي نَفَى وَيَكُونُ الْمُثْبَتُ هَذَا يَحِلُّ وَلَيْسَ مِنْ الْإِحْلَالِ لِلْأَصْنَافِ وَآحَادِهِمْ وُجُودُ الِاسْتِيعَابِ وَالتَّسْوِيَةِ كَاللَّامِ فِي قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَقَوْلِهِ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ اللَّامُ لِلْإِبَاحَةِ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ إنَّهُ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ
وَلَامِ التَّمْلِيكِ مَمْنُوعٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ فِي الْفَرَائِضِ : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَقَالَ { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ } وَقَالَ : { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } لَمَّا كَانَتْ اللَّامُ لِلتَّمْلِيكِ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ وَإِيرَادُ كُلِّ صِنْفٍ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَأَرْبَعَةُ بَنِينَ أَوْ بَنَاتٍ أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ إخْوَةٍ وَجَبَ الْعُمُومُ وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْأَفْرَادِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ بِالنَّسَبِ وَهُمْ مُسْتَوُونَ فِيهِ . وَهُنَاكَ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ " وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ ذَلِكَ . وَلَا يُقَالُ إفْرَادُ الصِّنْفِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِفْرَادِ مَا قِيلَ فِي الْأَصْنَافِ . فَإِذَا قِيلَ : يَجِبُ اسْتِيعَابُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَيَسْقُطُ الْمَعْجُوزُ عَنْهُ قِيلَ : فِي الْإِفْرَادِ كَذَلِكَ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ يَجِبُ تَحَرِّي الْعَدْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
إخْرَاجُ الزَّكَاةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ تَاجِرٍ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ زَكَاتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ
صِنْفًا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ؟ وَهَلْ إذَا مَاتَ إنْسَانٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ :
فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مَنْ أَقَارِبِ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ
مُسْتَحِقًّا لِلزَّكَاةِ ثُمَّ يَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ ؟ وَهَلْ إذَا أَخْرَجَ
زَكَاتَهُ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ آخَرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ
لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ أَجْزَأَ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا
إذَا أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ فَفِيهِ نِزَاعٌ : هَلْ يَجُوزُ مُطْلَقًا ؟ أَوْ لَا
يَجُوزُ مُطْلَقًا ؟ أَوْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِلْحَاجَةِ أَوْ
الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ - فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ . فَإِنْ كَانَ آخِذُ
الزَّكَاةِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا كُسْوَةً فَاشْتَرَى رَبُّ
الْمَالِ
لَهُ بِهَا كُسْوَةً وَأَعْطَاهُ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ . وَأَمَّا إذَا قَوَّمَ
هُوَ الثِّيَابَ الَّتِي عِنْدَهُ وَأَعْطَاهَا فَقَدْ يُقَوِّمُهَا بِأَكْثَرَ
مِنْ السِّعْرِ وَقَدْ يَأْخُذُ الثِّيَابَ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا بَلْ
يَبِيعُهَا فَيَغْرَمُ أُجْرَةَ الْمُنَادِي وَرُبَّمَا خَسِرَتْ فَيَكُونُ فِي
ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ . وَالْأَصْنَافُ الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا
يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا جَمِيعًا دَرَاهِمَ بِالْقِيمَةِ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ فَأَعْطَى ثَمَنَهَا بِالْقِيمَةِ فَالْأَظْهَرُ
أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ وَاسَى الْفُقَرَاءَ فَأَعْطَاهُمْ مِنْ جِنْسِ
مَالِهِ .
وَأَمَّا الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ : فَيَجُوزُ أَنْ يُوَفَّى مِنْ
الزَّكَاةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَحْمَد ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَالْغَارِمِينَ } وَلَمْ يَقُلْ
وَلِلْغَارِمِينَ . فَالْغَارِمُ لَا يُشْتَرَطُ تَمْلِيكُهُ . وَعَلَى هَذَا
يَجُوزُ الْوَفَاءُ عَنْهُ وَأَنْ يُمَلَّكَ لِوَارِثِهِ وَلِغَيْرِهِ وَلَكِنَّ
الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُعْطَى لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ زَكَاةِ الْعُشْرِ وَغَيْرِهِ يَأْخُذُهَا السُّلْطَانُ يَصْرِفُهَا حَيْثُ
شَاءَ وَلَا يُعْطِيهَا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ : هَلْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ
بِذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَا يَأْخُذُهُ وُلَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعُشْرِ وَزَكَاةِ
الْمَاشِيَةِ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ مِنْ
صَاحِبِهِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا يَصْرِفُهُ فِي مَصَارِفِهِ
الشَّرْعِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَا يَصْرِفُهُ
فِي مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِهِ أَنْ لَا يَدْفَعَ
الزَّكَاةَ إلَيْهِ بَلْ يَصْرِفُهَا هُوَ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا فَإِنْ أُكْرِهَ
عَلَى دَفْعِهَا إلَى الظَّالِمِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا إلَيْهِ لَحَصَلَ
لَهُ ضَرَرٌ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ . وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ ظَلَمُوا مُسْتَحِقِّيهَا كَوَلِيِّ
الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ إذَا قَبَضُوا مَالَهُ وَصَرَفُوهُ فِي غَيْرِ
مَصَارِفِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ فِي الزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ
أَنْفَعَ لِلْفَقِيرِ : هَلْ هُوَ جَائِزٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ وَأَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ مَنَعَ
الْقِيمَةَ فِي مَوَاضِعَ وَجَوَّزَهَا فِي مَوَاضِعَ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ
أَقَرَّ النَّصَّ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالْأَظْهَرُ
فِي هَذَا : أَنَّ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ
رَاجِحَةٍ مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَلِهَذَا قَدَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْجُبْرَانَ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَلَمْ يَعْدِلْ
إلَى الْقِيمَةِ وَلِأَنَّهُ مَتَى جَوَّزَ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا فَقَدْ
يَعْدِلُ الْمَالِكُ إلَى أَنْوَاعٍ رَدِيئَةٍ وَقَدْ يَقَعُ فِي التَّقْوِيمِ
ضَرَرٌ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي
قَدْرِ الْمَالِ وَجِنْسِهِ وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ لِلْحَاجَةِ أَوْ
الْمَصْلَحَةِ أَوْ الْعَدْلِ فَلَا
بَأْسَ بِهِ : مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ بُسْتَانِهِ أَوْ زَرْعِهِ بِدَرَاهِمَ فَهُنَا إخْرَاجُ عُشْرِ الدَّرَاهِمِ يُجْزِئُهُ وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَمَرًا أَوْ حِنْطَةً إذْ كَانَ قَدْ سَاوَى الْفُقَرَاءَ بِنَفْسِهِ " وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ . وَمِثْلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَبِيعُهُ شَاةً فَإِخْرَاجُ الْقِيمَةِ هُنَا كَافٍ وَلَا يُكَلَّفُ السَّفَرَ إلَى مَدِينَةٍ أُخْرَى لِيَشْتَرِيَ شَاةً وَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلزَّكَاةِ طَلَبُوا مِنْهُ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ لِكَوْنِهَا أَنْفَعَ فَيُعْطِيهِمْ إيَّاهَا أَوْ يَرَى السَّاعِي أَنَّ أَخْذَهَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ . كَمَا نُقِلَ عَنْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْيَمَنِ : " ائْتُونِي بِخَمِيصِ أَوْ لَبِيسٍ أَسْهَلُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِمَنْ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ " . وَهَذَا قَدْ قِيلَ إنَّهُ قَالَهُ فِي الزَّكَاةِ وَقِيلَ : فِي الْجِزْيَةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْ الْمُعْسِرِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَحْسِبَهُ مِنْ
الزَّكَاةِ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا إسْقَاطُ الدَّيْنِ عَنْ الْمُعْسِرِ فَلَا يُجْزِئُ عَنْ زَكَاةِ الْعَيْنِ
بِلَا نِزَاعٍ لَكِنْ إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ :
فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ قِدْرَ زَكَاةِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَيَكُونُ
ذَلِكَ زَكَاةَ ذَلِكَ الدَّيْنِ ؟ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ
مَبْنَاهَا عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَهُنَا قَدْ أَخْرَجَ مِنْ جِنْسِ مَا يَمْلِكُ
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَالُهُ عَيْنًا وَأَخْرَجَ دَيْنًا فَإِنَّ الَّذِي
أَخْرَجَهُ دُونَ الَّذِي يَمْلِكُهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ الْخَبِيثِ
عَنْ الطِّيبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } الْآيَةَ . وَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْمُزَكِّي
أَنْ يُخْرِجَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ لَا يُخْرِجُ أَدْنَى مِنْهُ فَإِذَا كَانَ
لَهُ ثَمَرٌ وَحِنْطَةٌ جَيِّدَةٌ لَمْ يُخْرِجْ عَنْهَا مَا هُوَ دُونَهَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ لَهُ زَكَاةٌ وَلَهُ أَقَارِبُ فِي بَلَدٍ تُقْصَرُ إلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَهُمْ مُسْتَحِقُّونَ الصَّدَقَةَ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ ؟
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ مُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ وَلَمْ
تَحْصُلْ لَهُمْ كِفَايَتُهُمْ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنْ
الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانُوا فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ الْمِسْكِينِ يَحْتَاجُ إلَى الزَّكَاةِ مِنْ الزَّرْعِ : فَهَلْ إعْطَاؤُهُ
. يُسْقِطُ الْفَرْضَ عَنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ إذَا عَجَّلَهَا لَهُ قَبْلَ
إدْرَاكِ زَرْعِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ
فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد . فَيَجُوزُ
تَعْجِيلُ
زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدَيْنِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ إذَا مَلَكَ
النِّصَابَ . وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْمُعَشَّرَاتِ قَبْلَ وُجُوبِهَا إذَا كَانَ
قَدْ طَلَعَ الثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَنَبَتَ الزَّرْعُ قَبْلَ
اشْتِدَادِ الْحَبِّ . فَأَمَّا إذَا اشْتَدَّ الْحَبُّ وَبَدَا صَلَاحُ
الثَّمَرَةِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ مَالٌ فَوْقَ النِّصَابِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا
مِنْ زَكَاةِ الْفَرْضِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ
ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ وَفِيمَنْ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ
وَفِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ الْحَوْلُ حَالًّا فَهِيَ زَكَاةٌ وَإِلَّا تَكُونُ
سَلَفًا عَلَى مَا يَجِبُ بَعْدُ : هَلْ يُجْزِئُ فِي الصُّورَتَيْنِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشَايِخِ : هَلْ
يَجُوزُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الزَّكَاةُ : فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَرَّى بِهَا
الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ . وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الْمُتَّبِعِينَ لِلشَّرِيعَةِ فَمَنْ أَظْهَرَ
بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالْهَجْرِ
وَغَيْرِهِ . وَالِاسْتِتَابَةَ فَكَيْفَ يُعَانُ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا مَنْ
يَأْخُذُهَا وَيُنْفِقُهَا بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِ أَوْ يُنْفِقُهَا عَلَى
عِيَالِهِ مَعَ غِنَاهُ فَهَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ وَلَا تَبْرَأُ
ذِمَّةُ مَنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ بَلْ لَا تُعْطَى إلَّا لِمُسْتَحِقِّهَا أَوْ
لِمَنْ يُعْطِيهَا لِمُسْتَحِقِّهَا مِثْلُ مَنْ عِنْدَهُ خِبْرَةٌ
بِأَهْلِهَا
وَأَمَانَةٌ فَيُؤَدِّيهَا إلَيْهِمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } . وَإِذَا طَلَبَهَا
مَنْ لَا يَعْلَمُ حَاجَتَهُ إلَيْهَا وَهُوَ يَعْلَمُ حَاجَةَ آخَرَ فَإِعْطَاءُ
مَنْ يَعْلَمُ حَاجَتَهُ أَوْلَى وَإِعْطَاءُ الْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ الَّذِي
لَيْسَ مَنْ أَهْلِ نَفَقَتِهِ أَوْلَى مِنْ إعْطَاءِ الْبَعِيدِ الْمُسَاوِي لَهُ
فِي الْحَاجَةِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ زَكَاةٌ : هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِأَقَارِبِهِ
الْمُحْتَاجِينَ ؟ أَوْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمْ مِنْهَا ثِيَابًا أَوْ حُبُوبًا ؟
وَإِذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ غَنَمِهِ هَلْ تَسْقُطُ زَكَاتُهَا ؟ وَهَلْ
يَلْزَمُهُ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ فِي بَلَدِ الْقِلَّةِ وَالْمَالِ أَمْ لَا .
وَهَلْ إذَا مَاتَ فَقِيرٌ وَلَهُ عَلَيْهِ مَالٌ : هَلْ لَهُ أَنْ يَحْسِبَهُ
مِنْ الزَّكَاةِ ؟ أَوْ يَطْلُبَهُ مَنْ غَيْرِهِ فَيَأْخُذَ عَنْهُ ؟ وَهَلْ
يُعْطِي لِمَنْ لَا يُصَلِّي ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا
وَإِنْ كَانُوا مَنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَيْسُوا فِي عِيَالِهِ لَكِنْ
يُعْطِيهِمْ مِنْ مَالِهِ وَهُمْ يَأْذَنُونَ لِمَنْ يَشْتَرِي لَهُمْ بِهَا مَا
يُرِيدُونَ .
وَمَا
أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مِنْ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهِ احْتَسَبَ
بِهِ وَجِيرَانُ الْمَالِ أَحَقُّ بِصَدَقَتِهِ فَإِنْ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا
أَعْطَى الْبَعِيدَ وَإِنْ أَعْطَاهَا الْفُقَرَاءَ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ جَازَ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ لَمْ يَحْتَسِبْ بِهِ مِنْ
الزَّكَاةِ وَلَا يَحْتَالُ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا أُمِرَ
بِالصَّلَاةِ فَإِنْ قَالَ : أَنَا أُصَلِّي أُعْطِيَ وَإِلَّا لَمْ يُعْطَ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى أَقَارِبِهِ الْمُحْتَاجِينَ الَّذِينَ لَا
تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ ؟ هَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ أَوْ دَفْعُهَا إلَى
الْأَجْنَبِيِّ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى أَقَارِبِهِ : فَإِنْ كَانَ الْقَرِيبُ الَّذِي
يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ حَاجَتُهُ مِثْلُ حَاجَةِ الْأَجْنَبِيِّ إلَيْهَا
فَالْقَرِيبُ أَوْلَى . وَإِنْ كَانَ الْبَعِيدُ أَحْوَجَ لَمْ يُحَابِ بِهَا
الْقَرِيبَ . قَالَ أَحْمَد عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة كَانُوا يَقُولُونَ :
لَا يُحَابِي بِهَا قَرِيبًا وَلَا يَدْفَعُ بِهَا مَذَمَّةً وَلَا يَقِي بِهَا
مَالَهُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ دَفْعِهَا إلَى وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُمْ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ صِنْفَانِ : صِنْفٌ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ .
كَالْفَقِيرِ وَالْغَارِمِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ . وَصِنْفٌ يَأْخُذُهَا
لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ : كَالْمُجَاهِدِ وَالْغَارِمِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ
الْبَيْنِ فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
أَقَارِبِهِ . وَأَمَّا دَفْعُهَا إلَى الْوَالِدَيْنِ : إذَا كَانُوا غَارِمِينَ
أَوْ مُكَاتَبِينَ : فَفِيهَا وَجْهَانِ . وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ ذَلِكَ . وَأَمَّا
إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَفَقَتِهِمْ فَالْأَقْوَى جَوَازُ
دَفْعِهَا إلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ مَوْجُودٌ
وَالْمَانِعَ مَفْقُودٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ
الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ وَعَلَيْهَا دَيْنٌ وَلَهَا أَوْلَادُ بِنْتٍ صِغَارٌ
وَلَهُمْ مَالٌ وَهُمْ تَحْتَ الْحَجْرِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعُوا
زَكَاتَهُمْ إلَى جَدَّتِهِمْ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هِيَ أَوْلَى مَنْ غَيْرِهَا
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا دَفْعُ زَكَاتِهِمْ إلَيْهَا لِقَضَاءِ دَيْنِهَا فَيَجُوزُ فِي أَظْهَرِ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ دَفْعُهَا إلَى سَائِرِ الْأَقَارِبِ لِأَجْلِ الدَّيْنِ
. وَأَمَّا دَفْعُهَا لِأَجْلِ النَّفَقَةِ : فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَغْنِيَةً
بِنَفَقَتِهِمْ أَوْ نَفَقَةِ غَيْرِهِمْ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهَا . وَإِنْ كَانَتْ
مُحْتَاجَةً إلَى زَكَاتِهِمْ دُفِعَتْ إلَيْهَا فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ وَهِيَ أَحَقُّ مِنْ الْأَجَانِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَكَاةِ أَبِيهِ
لِقَضَاءِ . دَيْنِهِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ عَلَى الْوَلَدِ دَيْنٌ وَلَا وَفَاءَ لَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ
مِنْ زَكَاةِ أَبِيهِ ؛ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى النَّفَقَةِ وَلَيْسَ لِأَبِيهِ
مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ : وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ
أَخْذُ زَكَاةِ أَبِيهِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا بِنَفَقَةِ أَبِيهِ
فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى زَكَاتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
هَلْ يُجْزِئُ الرَّجُلَ عَنْ زَكَاتِهِ مَا يُغَرِّمُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي
الطُّرُقَاتِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
مَا يَأْخُذُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ بِغَيْرِ اسْمِ الزَّكَاةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ
مِنْ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مَالُ الْإِنْسَانِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ فَإِنَّ
نَفَقَةَ الْقَرِيبِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يُعْطِي الْبَعِيدَ مَا يَضُرُّ
بِالْقَرِيبِ . وَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ
مِنْهَا الْقَرِيبَ الَّذِي لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَالْقَرِيبُ أَوْلَى إذَا
اسْتَوَتْ الْحَاجَةُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَعْطَاهُ أَخٌ لَهُ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا أَيَقْبَلُهُ ؟ أَمْ
يَرُدُّهُ ؟ وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ جَاءَهُ شَيْءٌ بِغَيْرِ سُؤَالٍ فَرَدَّهُ
فَكَأَنَّمَا رَدَّهُ عَلَى اللَّهِ } هَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ { عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
لِعُمَرِ : مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا
مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك } وَثَبَتَ أَيْضًا فِي
الصَّحِيحِ : { أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ
فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ قَالَ : يَا حَكِيمُ مَا أَكْثَرَ
مَسْأَلَتِك إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ
نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ
لَهُ فِيهِ فَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ :
وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ بَعْدَك مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا } .
فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُعْطَيَانِهِ فَلَا يَأْخُذُ . فَتَبَيَّنَ بِهَذَيْنِ
الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ سَائِلًا بِلِسَانِهِ ، أَوْ
مُشْرِفًا إلَى مَا يُعْطَاهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَهُ إلَّا حَيْثُ تُبَاحُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَالِاسْتِشْرَافُ . وَأَمَّا إذَا أَتَاهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ ؛ وَلَا إشْرَافٍ فَلَهُ أَخْذُهُ إنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَعْطَاهُ حَقَّهُ كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ عَمِلَ فَأَعْطَاهُ عِمَالَتَهُ وَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ كَمَا فَعَلَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَهُ وَكَانَ مِنْ غَيْرِ إشْرَافٍ لَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَحْسَنَ . وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَافِئَ بِالْمَالِ مَنْ أَسْدَاهُ . إلَيْهِ لِخَبَرِ { مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ مَا تُكَافِئُوهُ . فَادْعُوا حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ } .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ . فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ { حَكِيمِ بْنِ
حِزَامٍ : لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً
بَعْدَ مَرَّةٍ ثُمَّ قَالَ : يَا حَكِيمُ : إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ
حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ
بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا
يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى . قَالَ حَكِيمٌ :
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ
أَحَدًا بَعْدَك شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا . فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ
مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ إنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ .
فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي رِوَايَةٍ إنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا
مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَى حَكِيمٍ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ
اللَّهُ لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ
حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ } .
قَوْلُهُ : " لَمْ يَرْزَأْ " : أَيْ لَمْ يُنْقِصْ لَا لَمْ يَسْأَلْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ . فَفِيهِ أَنَّ حَكِيمًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ . وَهَذَا حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافٍ . وَقَوْلُهُ : { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى أَنَّ يَدَ الْآخِذِ سُفْلَى . وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَد عَنْ حُجَّةٍ لِذَلِكَ مِنْ الْآيَةِ فَلَمْ يَعْرِفْهَا . وَهَذِهِ حُجَّةٌ جَيِّدَةٌ . وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ زِيَادَاتٌ مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّ خَيْرًا لَك أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا } لَكِنْ يُنْظَرُ إسْنَادُهُ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ عَدَمِ الْأَخْذِ مُطْلَقًا .
كِتَابُ
الصِّيَامِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ يَوْمُ
شَكٍّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ إذَا حَالَ دُونَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ غَيْمٌ
أَوْ قَتَرٌ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . أَحَدُهَا : أَنَّ صَوْمَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . ثُمَّ هَلْ هُوَ
نَهْيُ تَحْرِيمٍ ؟ أَوْ تَنْزِيهٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ
فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ
. وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : كَأَبِي الْخَطَّابِ
وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ منده الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ صِيَامَهُ وَاجِبٌ كَاخْتِيَارِ الْقَاضِي والخرقي وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَهَذَا يُقَالُ إنَّهُ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْ أَحْمَد لِمَنْ عَرَفَ نُصُوصَهُ وَأَلْفَاظَهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ صِيَامَ يَوْمِ الْغَيْمِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يُوجِبُهُ عَلَى النَّاسِ بَلْ كَانَ يَفْعَلُهُ احْتِيَاطًا وَكَانَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ مَنْ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَصُومُهُ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْهَى عَنْهُ . كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِ فَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا . وَأَمَّا إيجَابُ صَوْمِهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَد وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَذْهَبَهُ إيجَابُ صَوْمِهِ وَنَصَرُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَيَجُوزُ فِطْرُهُ وَهَذَا
مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ
عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ
أَكْثَرِهِمْ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ عِنْدَ الْحَائِلِ عَنْ رُؤْيَةِ الْفَجْرِ
جَائِزٌ . فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ أَكَلَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَ
الْفَجْرِ وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ ؟ أَمْ لَا ؟ إنْ شَاءَ تَوَضَّأَ
وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَوَضَّأْ .
وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ حَالَ حَوْلُ الزَّكَاةِ ؟ أَوْ لَمْ يَحُلْ ؟ وَإِذَا
شَكَّ هَلْ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِائَةٌ ؟ أَوْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ
؟ فَأَدَّى الزِّيَادَةَ . وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى
أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُحَرَّمٍ ثُمَّ إذَا صَامَهُ
بِنِيَّةِ مُطْلَقَةٍ أَوْ بِنِيَّةٍ مُعَلَّقَةٍ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ عَنْ رَمَضَانَ وَإِلَّا فَلَا .
فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْزِيهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ الَّتِي نَقَلَهَا المروذي وَغَيْرُهُ وَهَذَا
اخْتِيَارُ الخرقي فِي شَرْحِهِ لِلْمُخْتَصَرِ وَاخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ
وَغَيْرِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بِنِيَّةِ
أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا
الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ :
هَلْ هُوَ وَاجِبٌ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ رَمَضَانَ فَإِنْ صَامَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ مُعَلَّقَةٍ أَوْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ النَّذْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَالثَّانِي : يُجْزِئُهُ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ لَا بِنِيَّةِ تَعْيِينِ غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي وَأَبِي الْبَرَكَاتِ . وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ . فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَدَاء الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي عَلِمَ وُجُوبَهُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ وَمَنْ أَوْجَبَ التَّعْيِينَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَدْ أَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ . فَإِذَا قِيلَ إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَصَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ مُعَلَّقَةٍ أَجْزَأَهُ . وَأَمَّا إذَا قَصَدَ صَوْمَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ
مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَيْضًا كَمَنْ كَانَ لِرَجُلٍ
عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ
التَّبَرُّعِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى
إعْطَائِهِ ثَانِيًا بَلْ يَقُولُ ذَلِكَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْك هُوَ حَقٌّ كَانَ
لَك عِنْدِي وَاَللَّهُ يَعْلَمُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ . وَالرِّوَايَةُ الَّتِي
تُرْوَى عَنْ أَحْمَد أَنَّ النَّاسَ فِيهِ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ فِي نِيَّتِهِ
عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ كَمَا فِي
السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ
تُضَحُّونَ } .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْهِلَالِ " : هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا
يَطْلُعُ فِي السَّمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ؟ أَوْ لَا يُسَمَّى هِلَالًا
حَتَّى يَسْتَهِلَّ بِهِ النَّاسُ وَيَعْلَمُوهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَتْ
السَّمَاءُ مُطْبِقَةً بِالْغَيْمِ أَوْ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ مُطْلَقًا . هَلْ
هُوَ يَوْمُ شَكٍّ . عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِشَكِّ بَلْ الشَّكُّ إذَا أَمْكَنَتْ رُؤْيَتُهُ
وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَالثَّانِي
: أَنَّهُ شَكٌّ لِإِمْكَانِ طُلُوعِهِ .
وَالثَّالِثُ
: أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حُكْمًا فَلَا يَكُونُ يَوْمَ شَكٍّ وَهُوَ اخْتِيَارُ
طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ
فِي الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ هَلْ يَصُومُ
وَيُفْطِرُ وَحْدَهُ ؟ أَوْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ ؟
أَوْ يَصُومُ وَحْدَهُ وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
مَعْرُوفَةٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ بَعْضِ الْبِلَادِ رُؤْيَةٌ لِجَمِيعِهَا : فِيهَا اضْطِرَابٌ
فَإِنَّهُ قَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ
الِاخْتِلَافَ فِيمَا يُمْكِنُ اتِّفَاقُ الْمَطَالِعِ فِيهِ فَأَمَّا مَا كَانَ
مِثْلَ الْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ . قُلْت
: أَحْمَد اعْتَمَدَ فِي الْبَابِ عَلَى حَدِيثِ { الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ
أَنَّهُ أَهَلَّ الْهِلَالُ الْبَارِحَةَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَلَى هَذِهِ الرُّؤْيَةِ } مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ
فِي غَيْرِ الْبَلَدِ وَمَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ
وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ ؛ لَكِنْ مَا حَدُّ ذَلِكَ ؟
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : لَا تَكُونُ رُؤْيَةً لِجَمِيعِهَا كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ مَنْ حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَطَالِعُ : كَالْحِجَازِ مَعَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ مَعَ خُرَاسَانَ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ مَسَافَةَ الْقَصْرِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْهِلَالِ . وَأَمَّا الْأَقَالِيمُ فَمَا حَدَّدَ ذَلِكَ ؟ ثُمَّ هَذَانِ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّشْرِيقِ وَالتَّغْرِيبِ فَإِنَّهُ مَتَى رُئِيَ فِي الْمَشْرِقِ وَجَبَ أَنْ يُرَى فِي الْمَغْرِبِ وَلَا يَنْعَكِسُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِالْمَغْرِبِ عَنْ وَقْتِ غُرُوبِهَا بِالْمَشْرِقِ فَإِذَا كَانَ قَدْ رُئِيَ ازْدَادَ بِالْمَغْرِبِ نُورًا وَبُعْدًا عَنْ الشَّمْسِ وَشُعَاعِهَا وَقْتَ غُرُوبِهَا فَيَكُونُ أَحَقَّ بِالرُّؤْيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا رُئِيَ بِالْمَغْرِبِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الرُّؤْيَةِ تَأَخُّرَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَهُمْ فَازْدَادَ بُعْدًا وَضَوْءًا وَلَمَّا غَرَبَتْ بِالْمَشْرِقِ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا . ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا رُئِيَ بِالْمَغْرِبِ كَانَ قَدْ غَرَبَ عَنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالْهِلَالِ وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَلِذَلِكَ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ بِالْمَغْرِبِ دَخَلَ بِالْمَشْرِقِ وَلَا يَنْعَكِسُ وَكَذَلِكَ الطُّلُوعُ إذَا طَلَعَتْ بِالْمَغْرِبِ طَلَعَتْ بِالْمَشْرِقِ وَلَا يَنْعَكِسُ فَطُلُوعُ الْكَوَاكِبِ وَغُرُوبُهَا بِالْمَشْرِقِ سَابِقٌ .
وَأَمَّا الْهِلَالُ فَطُلُوعُهُ وَرُؤْيَتُهُ بِالْمَغْرِبِ سَابِقٌ ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُعُ مِنْ الْمَغْرِبِ وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ مَا يَطْلُعُ مِنْ الْمَغْرِبِ غَيْرُهُ وَسَبَبُ ظُهُورِهِ بُعْدُهُ عَنْ الشَّمْسِ فَكُلَّمَا تَأَخَّرَ غُرُوبُهَا ازْدَادَ بُعْدُهُ عَنْهَا فَمَنْ اعْتَبَرَ بُعْدَ الْمَسَاكِنِ مُطْلَقًا فَلَمْ يَتَمَسَّكْ بِأَصْلِ شَرْعِيٍّ وَلَا حِسِّيٍّ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هِلَالَ الْحَجِّ : مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَتَمَسَّكُونَ فِيهِ بِرُؤْيَةِ الْحُجَّاجِ الْقَادِمِينَ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا اعْتَبَرْنَا حَدًّا : كَمَسَافَةِ الْقَصْرِ أَوْ الْأَقَالِيمَ فَكَانَ رَجُلٌ فِي آخِرِ الْمَسَافَةِ وَالْإِقْلِيمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ وَيَنْسُكَ وَآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ غَلْوَةُ سَهْمٍ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ . فَالصَّوَابُ فِي هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَنَّهُ رَآهُ بِمَكَانِ مِنْ الْأَمْكِنَةِ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَجَبَ الصَّوْمُ . وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ بِالرُّؤْيَةِ نَهَارَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلَى الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِمْ إمْسَاكُ مَا بَقِيَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ إقْلِيمٍ أَوْ إقْلِيمَيْنِ .
وَالِاعْتِبَارُ
بِبُلُوغِ الْعِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ فِي وَقْتٍ يُفِيدُ فَأَمَّا إذَا بَلَغَتْهُمْ
الرُّؤْيَةُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَالْمُسْتَقْبَلَ يَجِبُ صَوْمُهُ بِكُلِّ
حَالٍ لَكِنَّ الْيَوْمَ الْمَاضِيَ : هَلْ يَجِبُ قَضَاؤُهُ ؟ فَإِنَّهُ قَدْ
يَبْلُغُهُمْ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَنَّهُ رُئِيَ بِإِقْلِيمٍ آخَرَ وَلَمْ
يَرَ قَرِيبًا مِنْهُمْ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ إنْ رُئِيَ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ وَهُوَ
مَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ خَبَرُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَهُوَ كَمَا
لَوْ رُئِيَ فِي بَلَدِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ .
وَأَمَّا إذَا رُئِيَ بِمَكَانٍ لَا يُمْكِنُ وُصُولُ خَبَرِهِ إلَيْهِمْ إلَّا
بَعْدَ مُضِيِّ الْأَوَّلِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ صَوْمَ النَّاسِ هُوَ
الْيَوْمُ الَّذِي يَصُومُونَهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصُومُوا إلَّا الْيَوْمَ
الَّذِي يُمْكِنُهُمْ فِيهِ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَهَذَا لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ
فِيهِ بُلُوغُهُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَ صَوْمِهِمْ وَكَذَلِكَ فِي الْفِطْرِ
وَالنُّسُكِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ هَلْ يُفْطِرُونَ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ فِي
أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَنَّهُ رُئِيَ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الرُّؤْيَةِ ؟ لَكِنْ
إنْ بَلَغَتْهُمْ بِخَبَرِ وَاحِدٍ لَمْ يُفْطِرُوا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ
عِنْدَهُمْ فِي أَثْنَائِهِ مَا يُفْطِرُونَ بِهِ وَلَا يَقْضُونَ الْيَوْمَ
الْأَوَّلَ فَيَكُونُ صَوْمُهُمْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ
يَقُولُ بِالْمَطَالِعِ إذَا صَامَ بِرُؤْيَةِ مَكَانٍ ثُمَّ سَافَرَ إلَى مَكَانٍ
تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُمْ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ مَعَهُمْ وَلَا يَقْضِي الْيَوْمَ
الْأَوَّلَ . وَإِنْ تَأَخَّرَتْ رُؤْيَتُهُمْ فَهُنَا اخْتَلَفَتْ نُقُولُ
أَصْحَابِنَا إنْ قَالُوا يُفْطِرُ
وَحْدَهُ
فَهُوَ كَمَا لَوْ رَآهُ عِنْدَهُمْ لَمْ يُفْطِرْ وَحْدَهُ عِنْدَنَا عَلَى
الْمَشْهُورِ وَإِنْ صَامَ مَعَهُمْ فَقَدْ صَامَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ يَوْمًا .
وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ يَخْرُجُ فِيهَا لِأَصْحَابِنَا
قَوْلَانِ كَالْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَتِهِ فِي الْفِطْرِ لِأَنَّ انْفِرَادَ
الرَّجُلِ بِالْفِطْرِ هُوَ الْمَحْذُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَرُؤْيَةُ أَهْلِ
بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ كَرُؤْيَتِهِ وَرُؤْيَةِ طَائِفَةٍ مَعَهُ دُونَ
غَيْرِهِمْ . وَأَمَّا هِلَالُ الْفِطْرِ فَإِذَا ثَبَتَتْ رُؤْيَتُهُ فِي
الْيَوْمِ عَمِلُوا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ
فَائِدَةٌ - بَلْ الْعِيدُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي عيده النَّاسُ - وَلَكِنْ
نُقِلَ التَّارِيخُ (1) .
فَالضَّابِطُ أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ {
صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ } فَمَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ رُئِيَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ مِنْ
غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمَسَافَةٍ أَصْلًا وَهَذَا يُطَابِقُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ فِي أَنَّ طَرَفَيْ الْمَعْمُورَةِ لَا يَبْلُغُ الْخَبَرُ فِيهِمَا
إلَّا بَعْدَ شَهْرٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَمَاكِنِ الَّذِي يَصِلُ
الْخَبَرُ فِيهَا قَبْلَ انْسِلَاخِ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ .
فَتَدَبَّرْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْأَرْبَعَةَ : وُجُوبُ الصَّوْمِ
وَالْإِمْسَاكُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ وَوُجُوبُ بِنَاءِ الْعِيدِ عَلَى تِلْكَ
الرُّؤْيَةِ وَرُؤْيَةُ الْبَعِيدِ وَالْبَلَاغُ فِي وَقْتٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْعِبَادَةِ . وَلِهَذَا قَالُوا : إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَوَقَفُوا
فِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ
أَجْزَأَهُمْ اعْتِبَارًا بِالْبُلُوغِ وَإِذَا أَخْطَأَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَمْ يُجْزِئْهُمْ لِإِمْكَانِ الْبُلُوغِ فَالْبُلُوغُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ سَوَاءٌ كَانَ عَلِمَ بِهِ لِلْبُعْدِ أَوْ لِلْقِلَّةِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا إلَّا وُجُوبَ الْقَضَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُمْكِنُهُمْ فِيهِ بُلُوغُ الْخَبَرِ . وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّا نَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ مَا زَالَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرَى الْهِلَالُ فِي بَعْضِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ بَعْضٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَبْلُغَهُمْ الْخَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَلَوْ كَانُوا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ لَكَانَتْ هِمَمُهُمْ تَتَوَفَّرُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي سَائِرِ بُلْدَانِ الْإِسْلَامِ كَتَوَفُّرِهَا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي بَلَدِهِ وَلَكَانَ الْقَضَاءُ يَكْثُرُ فِي أَكْثَرِ الرمضانات وَمِثْلُ هَذَا لَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا . وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُفْطِرْ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ إلَّا بِقَوْلٍ وَاحِدٍ فَلَا يُفْطِرُ بِهِ وَلَا يُقَالُ أَصْحَابُنَا كَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا بَلَغَهُمْ الْهِلَالُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ بَنَوْا فِطْرَهُمْ عَلَيْهِ . قُلْنَا لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ لَا تَتَعَلَّقُ الْهِمَمُ بِالْبَحْثِ عَنْهُ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ
صَوْمِ
يَوْمٍ فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ وَإِلَّا فَالِاحْتِيَاطُ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّ
ذَاكَ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا
نَظَرٌ . وَلَوْ قِيلَ : إذَا بَلَغَهُمْ الْخَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَمْ
يَبْنُوا إلَّا عَلَى رُؤْيَتِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَهُمْ فِي الْيَوْمِ
الْأَوَّلِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ بَلْ الرُّؤْيَةُ الْقَلِيلَةُ لَوْ لَمْ تَبْلُغْ
الْإِنْسَانَ إلَّا فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ ذَلِكَ
الْيَوْمِ نَظَرٌ وَإِنْ كَانَ يُفْطِرُ بِهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ
تَصُومُونَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ صَوْمِنَا وَلِأَنَّ
التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَلَا عِلْمَ وَلَا دَلِيلَ ظَاهِرٌ فَلَا
وُجُوبَ وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ الْهِلَالَ إذَا ثَبَتَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ قَبْلَ
الْأَكْلِ أَوْ بَعْدَهُ أَتَمُّوا وَأَمْسَكُوا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ كَمَا
لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ
الثَّلَاثَةِ . فَقَدْ قِيلَ : يُمْسِكُ وَيَقْضِي . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا . وَقِيلَ : يَجِبُ الْإِمْسَاكُ دُونَ الْقَضَاءِ .
فَإِنَّ الْهِلَالَ مَأْخُوذٌ مِنْ الظُّهُورِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فَطُلُوعُهُ فِي
السَّمَاءِ إنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْأَرْضِ فَلَا حُكْمَ لَهُ لَا بَاطِنًا وَلَا
ظَاهِرًا وَاسْمُهُ مُشْتَقٌّ مَنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّينَ يُقَالُ : أَهْلَلْنَا
الْهِلَالَ وَاسْتَهْلَلْنَاهُ فَلَا هِلَالَ إلَّا مَا اُسْتُهِلَّ فَإِذَا
اسْتَهَلَّهُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ فَلَمْ يُخْبِرَا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ
هِلَالًا فَلَا يَثْبُتْ بِهِ حُكْمٌ حَتَّى يُخْبِرَا بِهِ فَيَكُونُ خَبَرُهُمَا
هُوَ الْإِهْلَالَ الَّذِي هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ
بِالْإِخْبَارِ بِهِ وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الْعِلْمَ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ عِلْمُهُ لَمْ يَجِبْ صَوْمُهُ . وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ التَّرْكُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَوْ اُسْتُحِبَّ إذَا بَلَغَ رُؤْيَتُهُ الْمَكَانَ الْبَعِيدَ أَوْ رُؤْيَةُ النَّفَرِ الْقَلِيلِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَاسْتُحِبَّ الصَّوْمُ يَوْمَ الشَّكِّ مَعَ الصَّحْوِ بَلْ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُخْبِرَ الْقَلِيلُ أَوْ الْبَعِيدَ بِرُؤْيَتِهِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَيُسْتَحَبُّ الصَّوْمُ احْتِيَاطًا وَمَا مِنْ شَيْءٍ فِي الشَّرِيعَةِ يُمْكِنُ وُجُوبُهُ إلَّا وَالِاحْتِيَاطُ مَشْرُوعٌ فِي أَدَائِهِ . فَلَمَّا لَمْ يُشْرَعْ الِاحْتِيَاطُ فِي أَدَائِهِ قَطَعْنَا بِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ مَعَ بُعْدِ الرَّائِي أَوْ خَفَائِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّائِي قَرِيبًا ظَاهِرًا فَتَكُونُ رُؤْيَتُهُ إهْلَالًا يَظْهَرُ بِهِ الطُّلُوعُ . وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ لَمْ يَحْتَطْ فِي الْغَيْمِ . وَلَكِنْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ طُلُوعَهُ هَذَا مِثَالٌ ظَاهِرٌ أَوْ مُسَاوٍ وَإِنَّمَا الْحَاجِبُ مَانِعٌ كَمَا لَوْ كَانُوا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ فِي مَغَارَةٍ أَوْ مَطْمُورَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّرَائِي . وَلِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا التَّبْيِيتَ : أَصْلُ مَأْخَذِهِمْ إجْزَاءُ يَوْمِ الشَّكِّ فَإِنَّ بُلُوغَ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ كَثِيرٌ كَيَوْمِ عَاشُورَاءَ وَإِيجَابُ الْقَضَاءِ فِيهِ عُسْرٌ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ مِثْلِ ذَلِكَ وَعَدَمِ شُهْرَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي السَّلَفِ . وَجَوَابُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ
فَإِنَّهُ لَا وُجُوبَ إلَّا مِنْ حِينِ الْإِهْلَالِ وَالرُّؤْيَةِ ؛ لَا مِنْ حِينِ الطُّلُوعِ وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ إذَا لَمْ يَبْلُغُ الْخَبَرُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَائِدَةٌ إلَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَعُلِمَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ بِرُؤْيَةٍ بَعِيدَةٍ مُطْلَقًا . فَتَلَخَّصَ : أَنَّهُ مَنْ بَلَغَهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤَدِّي بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ الصَّوْمَ أَوْ الْفِطْرَ أَوْ النُّسُكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ وَالنُّصُوصُ وَآثَارُ السَّلَفِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَمَنْ حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ قَصْرٍ أَوْ إقْلِيمٍ فَقَوْلُهُ : مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ إلَّا بَعْدَ الْأَدَاءِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُقْضَى كَالْعِيدِ الْمَفْعُولِ وَالنُّسُكِ فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ . وَأَمَّا إذَا بَلَغَهُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ : فَهَلْ يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ ؟ وَفِي بِنَاءِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ : مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْقَضَاءُ يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَفِي بِنَاءِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ نَظَرٌ . فَهَذَا مُتَوَسِّطٌ فِي الْمَسْأَلَةِ : وَمَا مِنْ قَوْلٍ سِوَاهُ إلَّا وَلَهُ لَوَازِمُ شَنِيعَةٌ
لَا سِيَّمَا مَنْ قَالَ بِالتَّعَدُّدِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي الْمَنَاسِكِ مَا يُعْلَمُ بِهِ خِلَافُ دِينِ الْإِسْلَامِ إذَا رَأَى بَعْضُ الْوُفُودِ أَوْ كُلُّهُمْ الْهِلَالَ وَقَدِمُوا مَكَّةَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ رُئِيَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَسَادِهِ صَارَ مُتَنَوِّعًا وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَحْصُلُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ الشَّرْعِيُّ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى مَا أَمْكَنَهُمْ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ وَإِذَا خَالَفَهُمْ مَنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِمُخَالَفَتِهِ لِانْفِرَادِهِ مِنْ الشُّعُورِ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَضُرَّ هَذَا وَإِنَّمَا الشَّأْنُ مِنْ الشُّعُورِ بِالْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ . وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْأَهِلَّةِ فَقَالَ : { هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْمَعْلُومَ بِبَصَرِ أَوْ سَمْعٍ وَلِهَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَلَمْ يَحْصُلْ أَحَدٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَكِّ لِانْتِفَاءِ الشَّكِّ فِي الْهِلَالِ وَإِنْ وَقَعَ شَكٌّ فِي الطُّلُوعِ . وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْهِلَالَ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ . وَهَذَا الْمِثَالُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِمَا يُفْعَلُ بِهِ كَالْإِزَارِ لِمَا يؤتزر بِهِ وَالرِّدَاءِ : لِمَا يُرْتَدَى بِهِ وَالرِّكَابِ : لِمَا يُرْكَبُ بِهِ وَالْوِعَاءِ : لِمَا يُوعَى فِيهِ وَبِهِ والسماد لِمَا تُسَمَّدُ بِهِ الْأَرْضُ وَالْعِصَابِ : لِمَا يُعْصَبُ بِهِ وَالسِّدَادِ لِمَا يُسَدُّ بِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ مُطَّرِدٌ فِي الْأَسْمَاءِ .
فَالْهِلَالُ
اسْمٌ لِمَا يُهَلُّ بِهِ : أَيْ يُصَاتُ بِهِ وَالتَّصْوِيتُ بِهِ لَا يَكُونُ
إلَّا مَعَ إدْرَاكِهِ بِبَصَرٍ أَوْ سَمْعٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ
:
يُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا * * * كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ
أَيْ : يُصَوِّتُونَ بِالْفَرْقَدِ فَجَعَلَهُمْ مُهِلِّينَ بِهِ فَلِذَلِكَ
سُمِّيَ هِلَالًا . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ }
أَيْ صُوِّتَ بِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ التَّصْوِيتُ بِهِ رَفِيعًا أَوْ خَفِيضًا
فَإِنَّهُ مِمَّا تُكُلِّمَ بِهِ وَجُهِرَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَنُطِقَ بِهِ
. الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَلَا تَكُونُ
مَوَاقِيتَ لَهُمْ إلَّا إذَا أَدْرَكُوهَا بِبَصَرٍ أَوْ سَمْعٍ فَإِذَا انْتَفَى
الْإِدْرَاكُ انْتَفَى التَّوْقِيتُ فَلَا تَكُونُ أَهِلَّةً وَهُوَ غَايَةُ مَا
يُمْكِنُ ضَبْطُهُ مِنْ جِهَةِ الْحِسِّ إذْ ضَبْطُ مَكَانِ الطُّلُوعِ
بِالْحِسَابِ لَا يَصِحُّ أَصْلًا وَقَدْ صَنَّفْت فِي ذَلِكَ شَيْئًا . وَهَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي قُوَى الْبَشَرِ
أَنْ يَضْبُطُوا لِلرُّؤْيَةِ زَمَانًا وَمَكَانًا مَحْدُودًا وَإِنَّمَا
يَضْبُطُونَ مَا يُدْرِكُونَهُ بِأَبْصَارِهِمْ أَوْ مَا يَسْمَعُونَهُ
بِآذَانِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ تَعْلِيقَهُ فِي حَقِّ مَنْ رَأَى
بِالرُّؤْيَةِ فَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرَ بِالسَّمَاعِ وَمَنْ لَا رُؤْيَةَ لَهُ
وَلَا سَمَاعَ فَلَا إهْلَالَ لَهُ وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَتَحَقَّقَ الرُّؤْيَةَ : فَهَلْ لَهُ
أَنْ يُفْطِرَ وَحْدَهُ ؟ أَوْ يَصُومَ وَحْدَهُ ؟ أَوْ مَعَ جُمْهُورِ النَّاسِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا رَأَى هِلَالَ الصَّوْمِ وَحْدَهُ أَوْ هِلَالَ
الْفِطْرِ وَحْدَهُ فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ ؟ أَوْ
يُفْطِرَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ ؟ أَمْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ
النَّاسِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد :
أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يُفْطِرَ سِرًّا وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ وَهُوَ
الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبَ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثُ :
يَصُومُ مَعَ النَّاسِ وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ وَهَذَا أَظْهَرُ
الْأَقْوَالِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنِ مَاجَه وَذَكَرَ الْفِطَرَ وَالْأَضْحَى فَقَطْ . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ المقبري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : { الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطَرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ قَالَ : وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ : إنَّمَا مَعْنَى هَذَا الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ آخَرَ : فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَقَالَ : { وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ . وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ . وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَكُلُّ جَمْعٍ مَوْقِفٌ } . وَلِأَنَّهُ لَوْ رَأَى هِلَالَ النَّحْرِ لَمَا اُشْتُهِرَ وَالْهِلَالُ اسْمٌ لَمَا اُسْتُهِلَّ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْهِلَالَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اسْتَهَلَّ بِهِ النَّاسُ وَالشَّهْرُ بَيِّنٌ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هِلَالًا وَلَا شَهْرًا . وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً
بِمُسَمَّى الْهِلَالِ وَالشَّهْرِ : كَالصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَالنَّحْرِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ . قَالَ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } إلَى قَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ } أَنَّهُ أَوْجَبَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَكِنَّ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ أَنَّ الْهِلَالَ . هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَظْهَرُ فِي السَّمَاءِ ؟ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ النَّاسُ ؟ وَبِهِ يَدْخُلُ الشَّهْرُ أَوْ الْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يَسْتَهِلُّ بِهِ النَّاسُ وَالشَّهْرُ لِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ يَقُولُ : مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ فَقَدْ دَخَلَ مِيقَاتُ الصَّوْمِ وَدَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ هِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ غَيْرُهُ . وَيَقُولُ مَنْ لَمْ يَرَهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ طَالِعًا قَضَى الصَّوْمَ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي شَهْرِ الْفِطْرِ وَفِي شَهْرِ النَّحْرِ لَكِنَّ شَهْرَ النَّحْرِ مَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا قَالَ مَنْ رَآهُ يَقِفُ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ وَأَنَّهُ يَنْحَرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَيَتَحَلَّلُ دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْفِطْرِ : فَالْأَكْثَرُونَ أَلْحَقُوهُ بِالنَّحْرِ وَقَالُوا لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَآخَرُونَ قَالُوا بَلْ الْفِطْرُ كَالصَّوْمِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ الْعِبَادَ بِصَوْمِ وَاحِدٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَتَنَاقُضُ
هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ . وَحِينَئِذٍ فَشَرْطُ كَوْنِهِ هِلَالًا وَشَهْرًا شُهْرَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتِهْلَالُ النَّاسِ بِهِ حَتَّى لَوْ رَآهُ عَشَرَةٌ وَلَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لِكَوْنِ شَهَادَتِهِمْ مَرْدُودَةً أَوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَمَا لَا يَقِفُونَ وَلَا يَنْحَرُونَ وَلَا يُصَلُّونَ الْعِيدَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ لَا يَصُومُونَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } . وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَتِهِ : يَصُومُ مَعَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ . قَالَ أَحْمَد : يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ . وَعَلَى هَذَا تَفْتَرِقُ أَحْكَامُ الشَّهْرِ : هَلْ هُوَ شَهْرٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَلَدِ كُلِّهِمْ ؟ أَوْ لَيْسَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ كُلِّهِمْ ؟ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالصَّوْمِ مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَالشُّهُودُ لَا يَكُونُ إلَّا لِشَهْرٍ اشْتَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ شُهُودُهُ وَالْغَيْبَةُ عَنْهُ . { وقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا وَصُومُوا مِنْ الْوَضَحِ إلَى الْوَضَحِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْجَمَاعَةِ لَكِنْ مَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ إذَا رَآهُ صَامَهُ فَإِنَّهُ
لَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهُ . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رُئِيَ فِي مَكَانٍ آخَرَ أَوْ ثَبَتَ نِصْفَ النَّهَارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . فَإِنَّهُ إنَّمَا صَارَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ مِنْ حِينِ ظَهَرَ وَاشْتَهَرَ . وَمِنْ حِينَئِذٍ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ كَأَهْلِ عَاشُورَاءَ : الَّذِينَ أُمِرُوا بِالصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقَضَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّالِثُ : فَالصِّيَامُ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَبْيِيتِ
نِيَّتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ أَبُو
حَنِيفَةَ - إنَّهُ يُجْزِئُ كُلُّ صَوْمٍ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا بِنِيَّةِ
قَبْلَ الزَّوَالِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَاشُورَاءَ وَحَدِيثُ {
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ
فِلْم يَجِدْ طَعَامًا فَقَالَ : إنِّي إذًا صَائِمٌ } . وَبِإِزَائِهَا طَائِفَةٌ
أُخْرَى - مِنْهُمْ مَالِكٌ - قَالَتْ : لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ إلَّا مُبَيَّتًا
مِنْ اللَّيْلِ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ حَفْصَةَ
وَابْنِ عُمَرَ : الَّذِي يُرْوَى مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا : { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } . وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ : فَالْفَرْضُ لَا يُجْزِئُ إلَّا بِتَبْيِيتِ النِّيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حَفْصَةَ وَابْنِ عُمَرَ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الزَّمَانِ يَجِبُ فِيهِ الصَّوْمُ وَالنِّيَّةُ لَا تَنْعَطِفُ عَلَى الْمَاضِي . وَأَمَّا النَّفْلُ فَيُجْزِئُ بِنِيَّةِ مِنْ النَّهَارِ . كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { إنِّي إذًا صَائِمٌ } كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ يَجِبُ فِيهَا مِنْ الْأَرْكَانِ - كَالْقِيَامِ وَالِاسْتِقْرَارِ عَلَى الْأَرْضِ - مَا لَا يَجِبُ فِي التَّطَوُّعِ تَوْسِيعًا مِنْ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي طُرُقِ التَّطَوُّعِ . فَإِنَّ أَنْوَاعَ التَّطَوُّعَاتِ دَائِمًا أَوْسَعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفْرُوضَاتِ وَصَوْمُهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إنْ كَانَ وَاجِبًا : فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّهَارِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا قَبْلَ ذَلِكَ . وَمَا رَوَاهُ بَعْضُ الخلافيين الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ : فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ . وَهَذَا أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمَا : هَلْ يُجْزِئُ التَّطَوُّعُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ ؟ وَالْأَظْهَرُ صِحَّتُهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُمَا فِي الثَّوَابِ : هَلْ هُوَ ثَوَابُ يَوْمٍ كَامِلٍ ؟ أَوْ مِنْ حِينِ
نَوَاهُ ؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ الثَّوَابَ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ . وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ - فِي مَذْهَبَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ رَمَضَانَ . فَلَا تُجْزِئُ نِيَّةٌ مُطْلَقَةً وَلَا مُعَيَّنَةٌ لِغَيْرِ رَمَضَانَ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُجْزِئُ بِنِيَّةِ مُطْلَقَةٍ وَمُعَيَّنَةٍ لِغَيْرِهِ . كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٍ مَحْكِيَّةٍ عَنْ أَحْمَد . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُجْزِئُ بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ دُونَ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ أَوْ الْقَضَاءِ أَوْ النَّذْرِ . وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
فَصْلٌ
:
وَاخْتَلَفُوا فِي صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ : وَهُوَ مَا إذَا حَالَ دُونَ
مَطْلَعِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ .
فَقَالَ قَوْمٌ : يَجِبُ صَوْمُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَد . وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ
مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ وَحَكَوْهَا عَنْ أَكْثَرِ مُتَقَدِّمِيهِمْ بِنَاءً
عَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى
شَعْبَانَ هُوَ النَّقْصُ فَيَكُونُ الْأَظْهَرُ طُلُوعَ الْهِلَالِ . كَمَا هُوَ
الْغَالِبُ فَيَجِبُ بِغَالِبِ الظَّنِّ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَا يَجُوزُ
صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ . وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ . كَابْنِ عَقِيلٍ وَالْحَلْوَانِيِّ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِمَا جَاءَ مِنْ
الْأَحَادِيثِ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ .
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ
وَيَجُوزُ
فِطْرُهُ
: وَالْأَفْضَلُ صَوْمُهُ مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ
عَرَفَ وَقْتَ الْفَجْرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ طُلُوعُهُ جَازَ لَهُ الْإِمْسَاكُ
وَالْأَكْلُ وَإِنْ أَمْسَكَ وَقْتَ الْفَجْرِ . فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى
لِاسْتِحْبَابِ الْإِمْسَاكِ لَكِنْ . . . (1) .
وَأَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَأَنَّهُ
كَانَ يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ وَيَفْعَلُهُ لَا أَنَّهُ يُوجِبُهُ وَإِنَّمَا أَخَذَ
فِي ذَلِكَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلِ ابْنِهِ عَبْدِ
اللَّهِ وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِمْ أَخَذَ بِمَا نَقَلَهُ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَنَحْوِهِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ :
أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ فِي حَالِ الْغَيْمِ لَا يُوجِبُونَ الصَّوْمَ
وَكَانَ غَالِبُ النَّاسِ لَا يَصُومُونَ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ التَّرْكَ
. وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَحِبَّ الصَّوْمَ فِي الصَّحْوِ بَلْ نَهَى عَنْهُ :
لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ عَدَمُ الْهِلَالِ فَصَوْمُهُ تَقْدِيمٌ
لِرَمَضَانَ بِيَوْمِ . وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ : هَلْ يُسَمَّى
يَوْمُ الْغَيْمِ يَوْمَ شَكٍّ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ
أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا يَوْمُ الصَّحْوِ عِنْدَهُ : فَيَوْمُ شَكٍّ أَوْ يَقِينٍ مِنْ شَعْبَانَ يُنْهَى عَنْ صَوْمِهِ بِلَا تَوَقُّفٍ . وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الْمَشْكُوكَ فِي وُجُوبِهِ - كَمَا لَوْ شَكَّ فِي وُجُوبِ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - لَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا . فَلَمْ تُحَرِّمْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ الِاحْتِيَاطَ وَلَمْ تُوجِبْ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ كَأَوَّلِ النَّهَارِ . وَلَوْ شَكَّ فِي طُلُوعِ النَّهَارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ بِقَصْدِ الصَّوْمِ وَلِأَنَّ الْإِغْمَامَ أَوَّلَ الشَّهْرِ كَالْإِغْمَامِ بِالشَّكِّ بَلْ يُنْهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ لِمَا يَخَافُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْفَرْضِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : يَجْتَمِعُ غَالِبُ الْمَأْثُورِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ . فَإِنَّ الْجَمَاعَاتِ الَّذِينَ صَامُوا مِنْهُمْ - كَعُمَرِ وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ - لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْوُجُوبِ وَغَالِبُ الَّذِينَ أَفْطَرُوا لَمْ يُصَرِّحُوا بِالتَّحْرِيمِ . وَلَعَلَّ مَنْ كَرِهَ الصَّوْمَ مِنْهُمْ إنَّمَا كَرِهَهُ لِمَنْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ : خَشْيَةَ إيجَابِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبِ . كَمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْهُمْ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ لِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ وُجُوبَهُ وَكَمَا أَمَرَ طَائِفَةً مِنْهُمْ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ أَنْ يَقْضِيَ ؛ لِمَا ظَنُّوهُ بِهِ مِنْ كَرَاهَةِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ فَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ عَائِدَةً إلَى حَالِ الْفَاعِلِ لَا إلَى نَفْسِ الِاحْتِيَاطِ بِالصَّوْمِ . فَإِنَّ تَحْرِيمَ الصَّوْمِ أَوْ إيجَابَهُ
كِلَاهُمَا فِيهِ بُعْدٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ . وَالْأَحَادِيثُ الْمَأْثُورَةُ فِي الْبَابِ إذَا تُؤُمِّلَتْ إنَّمَا يُصَرِّحُ غَالِبُهَا بِوُجُوبِ الصَّوْمِ بَعْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ . كَمَا دَلَّ بَعْضُهَا عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ الْإِكْمَالِ . أَمَّا الْإِيجَابُ قَبْلَ الْإِكْمَالِ لِلصَّوْمِ فَفِيهِمَا نَظَرٌ . فَهَذَا الْقَوْلُ الْمُتَوَسِّطُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ غَالِبُ نُصُوصِ أَحْمَد . وَلَوْ قِيلَ : بِجَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَاسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ لَكَانَ (1) عَنْ التَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ وَيُؤْثَرُ عَنْ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ . وَجَعَلَهُ
تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ . وَأَمَرَنَا
بِالِاعْتِصَامِ بِهِ إذْ هُوَ حَبْلُهُ الَّذِي هُوَ أَثْبَتُ الْأَسْبَابِ
وَهَدَانَا بِهِ إلَى سُبُلِ الْهُدَى وَمَنَاهِجِ الصَّوَابِ وَأَخْبَرَ فِيهِ
أَنَّهُ : { جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ
لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْأَرْبَابِ وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ
وَالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
صَلَاةً دَائِمَةً بَاقِيَةً بَعْدُ إلَى يَوْمِ الْمَآبِ . أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْمَلَ لَنَا دِينَنَا وَأَتَمَّ عَلَيْنَا نِعْمَتَهُ
وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَ صِرَاطَهُ
الْمُسْتَقِيمَ وَلَا نَتَّبِعَ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِنَا عَنْ سَبِيلِهِ
وَجَعَلَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ خَاتِمَةَ وَصَايَاهُ الْعَشْرِ الَّتِي هِيَ
جَوَامِعُ الشَّرَائِعِ الَّتِي تُضَاهِي الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا
اللَّهُ عَلَى مُوسَى فِي
التَّوْرَاةِ وَإِنْ كَانَتْ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا أَكْمَلَ وَأَبْلَغَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خثيم : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ يُفَضَّ خَاتَمُهُ بَعْدَهُ فَلْيَقْرَأْ آخِرَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الْآيَاتِ . وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَكُونَ كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأَخْبَرَ رَسُولُهُ أَنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْت مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ . وَذَكَرَ أَنَّهُ جَعَلَهُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَهَا وَلَا يَتَّبِعَ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ } . فَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَهُ مِنْ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْعًا أَوْ طَرِيقًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ سُنَّةً وَسَبِيلًا وَحَذَّرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَةُ غَيْرِهِ فَكَيْفَ بِمَا لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَةٌ بَلْ هُوَ طَرِيقَةُ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ .
وَأَمَرَهُ وَإِيَّانَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا دُونَ مَا خَالَفَهُ فَقَالَ : { المص } { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } . وَبَيَّنَ حَالَ الَّذِينَ وَرِثُوا الْكِتَابَ فَخَالَفُوهُ وَاَلَّذِينَ اسْتَمْسَكُوا بِهِ فَقَالَ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } وَقَالَ : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } الْآيَاتِ . وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } وَقَالَ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } وَحَبْلُ اللَّهِ كِتَابُهُ كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِهَا . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ جُمْلَةً . وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ التَّنَازُعُ فِي تَفْصِيلِهِ فَتَارَةً يَكُونُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي " مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ " وَتَارَةً يَتَنَازَعُ فِيهِ قَوْمٌ جُهَّالٌ بِالدِّينِ أَوْ مُنَافِقُونَ
أَوْ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ . فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِينَا قَوْمًا سَمَّاعِينَ لِلْمُنَافِقِينَ يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } وَإِنَّمَا عَدَّاهُ بِاللَّامِ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ : " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " أَيْ اسْتَجَابَ لِمَنْ حَمِدَهُ وَكَذَلِكَ { سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أَيْ مُطِيعُونَ لَهُمْ . فَإِذَا كَانَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْمٌ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَمَّنْ يُظْهِرُ الِانْقِيَادَ لِحُكْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَقُولُ : { لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } إلَى قَوْلِهِ { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ التَّعْدِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أَيْ قَائِلُونَ لِلْكَذِبِ مُرِيدُونَ لَهُ وَسَامِعُونَ مُطِيعُونَ لِقَوْمِ آخَرِينَ غَيْرِك فَلَيْسُوا مُفْرِدِينَ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ أَيْ يَسْمَعُونَ لِيَكْذِبُوا لِأَجْلِ أُولَئِكَ فَلَمْ يُصِبْ . فَإِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُرَادُ وَكَثِيرًا مَا يَضِيعُ الْحَقُّ بَيْنَ الْجُهَّالِ الْأُمِّيِّينَ وَبَيْنَ الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ الَّذِينَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
حَيْثُ قَالَ : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } الْآيَةَ . وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ : أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَتَّبِعُ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهَا حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ : وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيُغَيِّرُ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ أَمَرَ بِهِ . وَفِيهِمْ أُمِّيُّونَ لَا يَفْقَهُونَ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ رُبَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمَانِيِّ الَّتِي هِيَ مُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ وَمَعْرِفَةُ ظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ هُوَ غَايَةُ الدِّينِ . ثُمَّ قَدْ يُنَاظِرُونَ الْمُحَرِّفِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ أَوْ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِ أُولَئِكَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْأُمِّيُّونَ فَإِمَّا أَنْ تَضِلَّ الطَّائِفَتَانِ وَيَصِيرَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ فِتْنَةً عَلَى أُولَئِكَ حَيْثُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا يَقُولُهُ الْأُمِّيُّونَ هُوَ غَايَةُ عِلْمِ الدِّينِ وَيَصِيرُوا فِي طَرَفَيْ النَّقِيضِ . وَإِمَّا أَنْ يَتَّبِعَ أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ أُولَئِكَ الْمُحَرِّفِينَ فِي بَعْضِ ضَلَالِهِمْ . وَهَذَا مِنْ بَعْضِ أَسْبَابِ تَغْيِيرِ الْمِلَلِ إلَّا أَنَّ هَذَا الدِّينَ مَحْفُوظٌ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَلَا تَزَالُ فِيهِ طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ فَلَمْ يَنَلْهُ مَا نَالَ غَيْرَهُ مِنْ الْأَدْيَانِ مِنْ تَحْرِيفِ كُتُبِهَا وَتَغْيِيرِ شَرَائِعِهَا مُطْلَقًا ؛ لِمَا يُنْطِقُ
اللَّهُ
بِهِ الْقَائِمِينَ بِحُجَّةِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ الَّذِينَ يُحْيُونَ
بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِهِ أَهْلَ الْعَمَى فَإِنَّ
الْأَرْضَ لَنْ تَخْلُوَ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةِ ؛ لِكَيْلَا تَبْطُلَ
حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ .
وَكَانَ مُقْتَضَى تَقْدِيمِ هَذِهِ " الْمُقَدِّمَةِ " أَنِّي رَأَيْت
النَّاسَ فِي شَهْرِ صَوْمِهِمْ وَفِي غَيْرِهِ أَيْضًا : مِنْهُمْ مَنْ يُصْغِي
إلَى مَا يَقُولُهُ بَعْضُ جُهَّالِ أَهْلِ الْحِسَابِ : مِنْ أَنَّ الْهِلَالَ
يُرَى أَوْ لَا يُرَى . وَيَبْنِي عَلَى ذَلِكَ إمَّا فِي بَاطِنِهِ وَإِمَّا فِي
بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ . حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّ مِنْ الْقُضَاةِ مَنْ كَانَ يَرُدُّ
شَهَادَةَ الْعَدَدِ مِنْ الْعُدُولِ لِقَوْلِ الْحَاسِبِ الْجَاهِلِ الْكَاذِبِ :
إنَّهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى . فَيَكُونُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُ . وَرُبَّمَا أَجَازَ شَهَادَةَ غَيْرِ الْمَرْضِيِّ لِقَوْلِهِ .
فَيَكُونُ هَذَا الْحَاكِمُ مِنْ السَّمَّاعِينَ لِلْكَذِبِ . فَإِنَّ الْآيَةَ
تَتَنَاوَلُ حُكَّامَ السُّوءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ حَيْثُ يَقُولُ
: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } وَحُكَّامُ السُّوءِ
يَقْبَلُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ قَبُولُ قَوْلِهِ مِنْ مُخْبِرٍ أَوْ
شَاهِدٍ . وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنْ الرِّشَا وَغَيْرِهَا . وَمَا أَكْثَرُ
مَا يَقْتَرِنُ هذان . وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمُنَجِّمِ لَا فِي
الْبَاطِنِ وَلَا فِي الظَّاهِر ؛ لَكِنْ فِي قَلْبِهِ حَسِيكَةٌ مِنْ ذَلِكَ
وَشُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ لِثِقَتِهِ بِهِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ
تَلْتَفِتْ إلَى ذَلِكَ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ حِسَابِ
النَّيِّرَيْنِ
وَاجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ وَمُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ بِعِدَّةِ دَرَجَاتٍ وَسَبَبِ الْإِهْلَالِ وَالْإِبْدَارِ وَالِاسْتِتَارِ وَالْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ . فَأَجْرَى حُكْمَ الْحَاسِبِ الْكَاذِبِ الْجَاهِلِ بِالرُّؤْيَةِ هَذَا الْمَجْرَى . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَ مِنْ الْحِسَابِ وَصُورَةِ الْأَفْلَاكِ وَحَرَكَاتِهَا أَمْرًا صَحِيحًا : قَدْ يُعَارِضُهُمْ بَعْضُ الْجُهَّالِ مِنْ الْأُمِّيِّينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِيمَانِ أَوْ إلَى الْعَدَمِ أَيْضًا فَيَرَاهُمْ قَدْ خَالَفُوا الدِّينَ فِي الْعَمَلِ بِالْحِسَابِ فِي الرُّؤْيَةِ أَوْ فِي اتِّبَاعِ أَحْكَامِ النُّجُومِ فِي تَأْثِيرَاتِهَا الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ فَيَرَاهُمْ لَمَّا تَعَاطَوْا هَذَا - وَهُوَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الدِّينِ - صَارَ يَرُدُّ كُلَّ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ . وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ وَالْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لِلسَّمْعِ وَالْعَقْلِ مَعَ أَنَّ هَذَا أَحْسَنُ حَالًا فِي الدِّينِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . لِأَنَّ هَذَا كَذَّبَ بِشَيْءِ مِنْ الْحَقِّ مُتَأَوِّلًا جَاهِلًا مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ بَعْضِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ . وَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ قَدْ يَدْخُلُونَ فِي تَبْدِيلِ الْإِسْلَامِ . فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْعَمَلَ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْعِدَّةِ أَوْ الْإِيلَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْهِلَالِ بِخَبَرِ الْحَاسِبِ أَنَّهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى لَا يَجُوزُ . وَالنُّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَقَدّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ . وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ قَدِيمٌ أَصْلًا وَلَا خِلَافٌ حَدِيثٌ ؛ إلَّا أَنَّ
بَعْضَ
الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ الحادثين بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ
زَعَمَ أَنَّهُ إذَا غُمَّ الْهِلَالُ جَازَ لِلْحَاسِبِ أَنْ يَعْمَلَ فِي حَقِّ
نَفْسِهِ بِالْحِسَابِ فَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ دَلَّ عَلَى الرُّؤْيَةِ صَامَ
وَإِلَّا فَلَا . وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالْإِغْمَامِ
وَمُخْتَصًّا بِالْحَاسِبِ فَهُوَ شَاذٌّ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى
خِلَافِهِ . فَأَمَّا اتِّبَاعُ ذَلِكَ فِي الصَّحْوِ أَوْ تَعْلِيقُ عُمُومِ
الْحُكْمِ الْعَامِّ بِهِ فَمَا قَالَهُ مُسْلِمٌ . وَقَدْ يُقَارِبُ هَذَا قَوْلَ
مَنْ يَقُولُ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة بِالْعَدَدِ دُونَ الْهِلَالِ وَبَعْضُهُمْ
يَرْوِي عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ جَدْوَلًا يُعْمَلُ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي
افْتَرَاهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ
خَارِجَةٌ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَرَّأَ اللَّهُ مِنْهَا جَعْفَرًا
وَغَيْرَهُ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُمْكِنُهُ مَعَ ظُهُورِ دِينِ
الْإِسْلَامِ أَنْ يُظْهِرَ الِاسْتِنَادَ إلَى ذَلِكَ . إلَّا أَنَّهُ قَدْ
يَكُونُ لَهُ عُمْدَةٌ فِي الْبَاطِنِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَرَدِّهَا وَقَدْ
يَكُونُ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فِي كَوْنِ الشَّرِيعَةِ لَمْ تُعَلِّقْ الْحُكْمَ بِهِ
.
وَأَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أُبَيِّنُ ذَلِكَ وَأُوَضِّحُ مَا جَاءَتْ بِهِ
الشَّرِيعَةُ : دَلِيلًا وَتَعْلِيلًا شَرْعًا وَعَقْلًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }
فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ
وَخَصَّ الْحَجَّ بِالذِّكْرِ تَمْيِيزًا لَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْحَجَّ تَشْهَدُهُ
الْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ شُهُورِ الْحَوْلِ .
فَيَكُونُ عَلَمًا عَلَى الْحَوْلِ كَمَا أَنَّ الْهِلَالَ
عَلَمٌ عَلَى الشَّهْرِ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الْحَوْلَ حِجَّةً فَيَقُولُونَ : لَهُ سَبْعُونَ حِجَّةً وَأَقَمْنَا خَمْسَ حِجَجٍ . فَجَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً . أَوْ سَبَبًا مِنْ الْعِبَادَةِ . وَلِلْأَحْكَامِ الَّتِي تَثْبُتُ بِشُرُوطِ الْعَبْدِ . فَمَا ثَبَتَ مِنْ الْمُؤَقَّتَاتِ بِشَرْعٍ أَوْ شَرْطٍ فَالْهِلَالُ مِيقَاتٌ لَهُ وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَالْعِدَّةِ وَصَوْمُ الْكَفَّارَةِ . وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ فِي الْقُرْآنِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } . وَكَذَلِكَ صَوْمُ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ الشُّرُوطُ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالثَّمَنِ وَدَيْنُ السَّلَمِ وَالزَّكَاةُ وَالْجِزْيَةُ وَالْعَقْلُ وَالْخِيَارُ وَالْأَيْمَانُ وَأَجَلُ الصَّدَاقِ وَنُجُومُ الْكِتَابَةِ وَالصُّلْحُ عَنْ الْقِصَاصِ وَسَائِرُ مَا يُؤَجَّلُ مِنْ دَيْنٍ وَعَقْدٍ وَغَيْرِهِمَا . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَقِّ } فَقَوْلُهُ : { لِتَعْلَمُوا } مُتَعَلِّقٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِهِ : { وَقَدَّرَهُ } لَا بجعل . لِأَنَّ كَوْنَ هَذَا
ضِيَاءً . وَهَذَا نُورًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ ؛ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ انْتِقَالُهَا مِنْ بُرْجٍ إلَى بُرْجٍ . وَلِأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ يُعَلَّقْ لَنَا بِهَا حِسَابُ شَهْرٍ وَلَا سَنَةٍ وَإِنَّمَا عُلِّقَ ذَلِكَ بِالْهِلَالِ . كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَةُ وَلِأَنَّهُ قَدْ قَالَ : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الشُّهُورَ مَعْدُودَةٌ اثْنَا عَشَرَ وَالشَّهْرُ هِلَالِيٌّ بِالِاضْطِرَارِ . فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعْرُوفٌ بِالْهِلَالِ . وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الشَّرَائِعَ قَبْلَنَا أَيْضًا إنَّمَا عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْأَهِلَّةِ وَإِنَّمَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَهُود فِي اجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ وَفِي جَعْلِ بَعْضِ أَعْيَادِهَا بِحِسَابِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَكَمَا تَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي صَوْمِهَا حَيْثُ تُرَاعِي الِاجْتِمَاعَ الْقَرِيبَ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَتَجْعَلُ سَائِرَ أَعْيَادِهَا دَائِرَةً عَلَى السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمَسِيحِ وَكَمَا يَفْعَلُهُ الصَّابِئَةُ وَالْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي اصْطِلَاحَاتٍ لَهُمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ فَقَطْ وَلَهُمْ اصْطِلَاحَاتٌ فِي عَدَدِ شُهُورِهَا ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ طَبِيعِيَّةً فَشَهْرُهَا عَدَدِيٌّ وَضْعِيٌّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ الْقَمَرِيَّةَ لَكِنْ يَعْتَبِرُ اجْتِمَاعَ الْقُرْصَيْنِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ وَأَحْسَنُهَا وَأَبْيَنُهَا وَأَصَحُّهَا وَأَبْعَدُهَا مِنْ الِاضْطِرَابِ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْهِلَالَ أَمْرٌ مَشْهُودٌ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ . وَمِنْ أَصَحِّ الْمَعْلُومَاتِ مَا شُوهِدَ بِالْأَبْصَارِ وَلِهَذَا سَمَّوْهُ هِلَالًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ تَدُلُّ عَلَى الظُّهُورِ وَالْبَيَانِ : إمَّا سَمْعًا وَإِمَّا بَصَرًا كَمَا يُقَالُ : أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَأَهَلَّ بِالذَّبِيحَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ وَيُقَالُ لِوَقْعِ الْمَطَرِ الْهَلَلُ . وَيُقَالُ : اسْتَهَلَّ الْجَنِينُ إذَا خَرَجَ صَارِخًا . وَيُقَالُ : تَهَلَّلَ وَجْهُهُ إذَا اسْتَنَارَ وَأَضَاءَ . وَقِيلَ : إنَّ أَصْلَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ . ثُمَّ لَمَّا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ سَمَّوْهُ هِلَالًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ : يُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ وَتَهَلُّلُ الْوَجْهِ مَأْخُوذٌ مِنْ اسْتِنَارَةِ الْهِلَالِ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَوَاقِيتَ حُدِّدَتْ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ بَيِّنٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ وَلَا يَشْرَكُ الْهِلَالَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ الَّذِي هُوَ تَحَاذِيهِمَا الْكَائِنُ قَبْلَ الْهِلَالِ : أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِحِسَابٍ يَنْفَرِدُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ تَعَبٍ وَتَضْيِيعِ زَمَانٍ كَثِيرٍ وَاشْتِغَالٍ عَمَّا يَعْنِي النَّاسَ وَمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَرُبَّمَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ وَالِاخْتِلَافُ .
وَكَذَلِكَ كَوْنُ الشَّمْسِ حَاذَتْ الْبُرْجَ الْفُلَانِيَّ أَوْ الْفُلَانِيَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ . وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ الْخَفِيِّ الْخَاصِّ الْمُشْكِلِ الَّذِي قَدْ يُغْلَطُ فِيهِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْإِحْسَاسِ تَقْرِيبًا . فَإِنَّهُ إذَا انْصَرَمَ الشِّتَاءُ وَدَخَلَ الْفَصْلُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الصَّيْفَ وَيُسَمِّيهِ النَّاسُ الرَّبِيعَ : كَانَ وَقْتُ حُصُولِ الشَّمْسِ فِي نُقْطَةِ الِاعْتِدَالِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْحَمَلِ . وَكَذَلِكَ مِثْلُهُ فِي الْخَرِيفِ . فَاَلَّذِي يُدْرَكُ بِالْإِحْسَاسِ الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِاعْتِدَالَيْنِ تَقْرِيبًا . فَأَمَّا حُصُولُهَا فِي بُرْجٍ بَعْدَ بُرْجٍ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِحِسَابٍ فِيهِ كُلْفَةٌ وَشُغْلٌ عَنْ غَيْرِهِ مَعَ قِلَّةِ جَدْوَاهُ . فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوَاقِيتِ حَدٌّ ظَاهِرٌ عَامُّ الْمَعْرِفَةِ إلَّا الْهِلَالُ . وَقَدْ انْقَسَمَتْ عَادَاتُ الْأُمَمِ فِي شَهْرِهِمْ وَسَنَتِهِمْ الْقِسْمَةَ الْعَقْلِيَّةِ . وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ : إمَّا أَنْ يَكُونَا عَدَدِيَّيْنِ أَوْ طَبِيعِيَّيْنِ . أَوْ الشَّهْرُ طَبِيعِيًّا وَالسَّنَةُ عَدَدِيَّةً أَوْ بِالْعَكْسِ . فَاَلَّذِينَ يَعُدُّونَهُمَا : مِثْلُ مَنْ يَجْعَلُ الشَّهْرَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالسَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا . وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَهُمَا طَبِيعِيَّيْنِ . مِثْلُ مَنْ يَجْعَلُ الشَّهْرَ قَمَرِيًّا وَالسَّنَةَ شَمْسِيَّةً . وَيُلْحِقُ فِي آخِرِ الشُّهُورِ الْأَيَّامَ الْمُتَفَاوِتَةَ بَيْنَ
السَّنَتَيْنِ . فَإِنَّ السَّنَةَ الْقَمَرِيَّةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا . وَبَعْضُ يَوْمٍ خُمُسٌ أَوْ سُدْسٌ . وَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا جَبْرًا لِلْكَسْرِ فِي الْعَادَةِ - عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَكْمِيلِ مَا يَنْقُصُ مِنْ التَّارِيخِ فِي الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالْحَوْلِ . وَأَمَّا الشَّمْسِيَّةُ فَثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَبَعْضُ يَوْمٍ : رُبْعُ يَوْمٍ . وَلِهَذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا إلَّا قَلِيلًا : تَكُونُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَثُلْثِ سَنَةٍ : سَنَةٌ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } قِيلَ : مَعْنَاهُ ثَلَاثُمِائَةٍ سَنَةً شَمْسِيَّةً . { وَازْدَادُوا تِسْعًا } بِحِسَابِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ وَمُرَاعَاةُ هَذَيْنِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَمِ : مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بِسَبَبِ تَحْرِيفِهِمْ وَأَظُنُّهُ كَانَ عَادَةَ الْمَجُوسِ أَيْضًا . وَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُ السَّنَةَ طَبِيعِيَّةً وَالشَّهْرَ عَدَدِيًّا . فَهَذَا حِسَابُ الرُّومِ وَالسُّرْيَانِيِّين وَالْقِبْطِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ . مِمَّنْ يَعُدُّ شَهْرَ كَانُونَ وَنَحْوَهُ عَدَدًا وَيَعْتَبِرُ السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ بِسَيْرِ الشَّمْسِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَبِأَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ طَبِيعِيًّا وَالسَّنَةُ عَدَدِيَّةً فَهُوَ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ . ثُمَّ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ السَّنَةَ طَبِيعِيَّةً لَا يَعْتَمِدُونَ
عَلَى أَمْرٍ ظَاهِرٍ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الشَّهْرَ طَبِيعِيًّا . وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لَا بُدَّ مِنْ الْعَدَدِ وَالْحِسَابِ . ثُمَّ مَا يَحْسِبُونَهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ يَنْفَرِدُ بِهِ الْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ مَعَ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ وَتَعَرُّضٍ لِلْخَطَأِ . فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَتُنَا أَكْمَلُ الْأُمُورِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَّتَ الشَّهْرَ بِأَمْرِ طَبِيعِيٍّ ظَاهِرٍ عَامٍّ يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ فَلَا يَضِلُّ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ وَلَا يَشْغَلُهُ مُرَاعَاتُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِهِ وَلَا يَدْخُلُ بِسَبَبِهِ فِيمَا لَا يَعْنِيه وَلَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى التَّلْبِيسِ فِي دِينِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْمِلَلِ بِمِلَلِهِمْ . وَأَمَّا الْحَوْلُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ ظَاهِرٌ فِي السَّمَاءِ فَكَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ فَكَانَ عَدَدُ الشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ أَظْهَرَ وَأَعَمَّ مِنْ أَنْ يُحْسَبَ بِسَيْرِ الشَّمْسِ وَتَكُونُ السَّنَةُ مُطَابِقَةً لِلشُّهُورِ ؛ وَلِأَنَّ السِّنِينَ إذَا اجْتَمَعَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدِهَا فِي عَادَةِ جَمِيعِ الْأُمَمِ ؛ إذْ لَيْسَ لِلسِّنَّيْنِ إذَا تَعَدَّدَتْ حَدٌّ سَمَاوِيٌّ يُعْرَفُ بِهِ عَدَدُهَا فَكَانَ عَدَدُ الشُّهُورِ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْبُرُوجِ جُعِلَتْ السَّنَةُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِعَدَدِ الْبُرُوجِ الَّتِي تَكْمُلُ بِدَوْرِ الشَّمْسِ فِيهَا سَنَةً شَمْسِيَّةً فَإِذَا دَارَ الْقَمَرُ فِيهَا كَمَّلَ دَوْرَتَهُ السَّنَوِيَّةَ . وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ } فَإِنَّ عَدَدَ شُهُورِ السَّنَةِ وَعَدَدَ السَّنَةِ بَعْدَ السَّنَةِ إنَّمَا أَصْلُهُ بِتَقْدِيرِ الْقَمَرِ مَنَازِلَ . وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ ؛ فَإِنَّ حِسَابَ بَعْضِ الشُّهُورِ لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْهِلَالِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } . فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ بِالْهِلَالِ يَكُونُ تَوْقِيتُ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَقُومُ مَقَامَ الْهِلَالِ أَلْبَتَّةَ لِظُهُورِهِ وَظُهُورِ الْعَدَدِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ وَتَيَسُّرِ ذَلِكَ وَعُمُومِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْمَفَاسِدِ . وَمَنْ عَرَفَ مَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَعْيَادِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَتَوَارِيخِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ : ازْدَادَ شُكْرُهُ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَشْرَعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ أَدْخَلُوا فِي مِلَّتِهِمْ وَشَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . فَلِهَذَا ذَكَرْنَا مَا ذَكَرْنَاهُ حِفْظًا لِهَذَا الدِّينِ عَنْ إدْخَالِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُخَافُ تَغْيِيرُهُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا قَدْ غَيَّرَتْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ بِالنَّسِيءِ الَّذِي ابْتَدَعَتْهُ فَزَادَتْ بِهِ فِي السَّنَةِ شَهْرًا جَعَلَتْهَا كَبِيسًا ؛ لِأَغْرَاضِ لَهُمْ .
وَغَيَّرُوا بِهِ مِيقَاتَ الْحَجِّ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ حَتَّى كَانُوا يَحُجُّونَ تَارَةً فِي الْمُحَرَّمِ وَتَارَةً فِي صَفَرٍ . حَتَّى يَعُودَ الْحَجُّ إلَى ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْمُقِيمُ لِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَوَافَى حَجُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ وَقَدْ اسْتَدَارَ الزَّمَانُ كَمَا كَانَ وَوَقَعَتْ حِجَّتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا : { إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ : السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَمَحْرَمٌ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ } وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ الْحَجُّ لَا يَقَعُ فِي ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى حِجَّةِ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ . وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَأْخِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ . وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } . فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا سِوَاهُ مِنْ أَمْرِ النَّسِيءِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَادَاتِ الْأُمَمِ لَيْسَ قَيِّمًا ؛ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ الِانْحِرَافِ وَالِاضْطِرَابِ . وَنَظِيرُ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ الْيَوْمُ وَالْأُسْبُوعُ . فَإِنَّ الْيَوْمَ طَبِيعِيٌّ مِنْ طُلُوعِ
الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا . وَأَمَّا الْأُسْبُوعُ فَهُوَ عَدَدِيٌّ مِنْ أَجْلِ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ : الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . فَوَقَعَ التَّعْدِيلُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ : بِالْيَوْمِ وَالْأُسْبُوعِ بِسَيْرِ الشَّمْسِ . وَالشَّهْرُ وَالسَّنَةُ : بِسَيْرِ الْقَمَرِ وَبِهِمَا يَتِمُّ الْحِسَابُ . وَبِهَذَا قَدْ يَتَوَجَّهُ قَوْلُهُ : { لِتَعْلَمُوا } إلَى { جَعَلَ } فَيَكُونُ جَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِهَذَا كُلِّهِ . فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } وَقَوْلُهُ : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } فَقَدْ قِيلَ : هُوَ مِنْ الْحِسَابِ . وَقِيلَ : بِحُسْبَانٍ كَحُسْبَانِ الرَّحَا . وَهُوَ دَوَرَانُ الْفَلَكِ . فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَلْ قَدْ دَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى مَثَلِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ لَا مُسَطَّحَةٌ .
فَصْلٌ
:
لَمَّا ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَوْدُ الْمَوَاقِيتِ إلَى الْأَهِلَّةِ . وَجَبَ
أَنْ يَكُونَ الْمَوَاقِيتُ كُلُّهَا مُعَلَّقَةً بِهَا . فَلَا خِلَافَ بَيْنِ
الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَبْدَأُ الْحُكْمِ فِي الْهِلَالِ حُسِبَتْ
الشُّهُورُ كُلُّهَا هِلَالِيَّةً : مِثْلُ أَنْ يَصُومَ لِلْكَفَّارَةِ فِي هِلَالِ
الْمُحَرَّمِ أَوْ يَتَوَفَّى زَوْجُ الْمَرْأَةِ فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ أَوْ
يُولِيَ مِنْ امْرَأَتِهِ فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ أَوْ يَبِيعَهُ فِي هِلَالِ
الْمُحَرَّمِ إلَى شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ . فَإِنَّ جَمِيعَ الشُّهُورِ
تُحْسَبُ بِالْأَهِلَّةِ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَوْ جَمِيعُهَا نَاقِصًا .
فَأَمَّا إنْ وَقَعَ مَبْدَأُ الْحُكْمِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ . فَقَدْ قِيلَ :
تُحْسَبُ الشُّهُورُ كُلُّهَا بِالْعَدَدِ بِحَيْثُ لَوْ بَاعَهُ إلَى سَنَةٍ فِي
أَثْنَاءِ الْمُحَرَّمِ عَدَّ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَ
إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ عَدَّ مِائَةً وَثَمَانِينَ يَوْمًا فَإِذَا كَانَ
الْمُبْتَدَأُ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ كَانَ الْمُنْتَهَى الْعِشْرِينَ مِنْ
الْمُحَرَّمِ . وَقِيلَ : بَلْ يُكْمِلُ الشَّهْرَ بِالْعَدَدِ وَالْبَاقِيَ بِالْأَهِلَّةِ
. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَبَعْضُ
الْفُقَهَاءِ يُفَرِّقُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ .
ثُمَّ لِهَذَا الْقَوْلِ تَفْسِيرَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْعَلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَبَاقِيَ الشُّهُورِ هِلَالِيَّةً . فَإِذَا كَانَ الْإِيلَاءُ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ حَسَبَ بَاقِيَهُ . فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا أَخَذَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَمَّلَهُ بستة عَشَرَ يَوْمًا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى . وَهَذَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ . وَالتَّفْسِيرُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ كَامِلًا كَمُلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا جُعِلَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا . فَمَتَى كَانَ الْإِيلَاءُ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ كَمُلَتْ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ فِي مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْأُولَى . وَهَكَذَا سَائِرُ الْحِسَابِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْجَمِيعُ بِالْهِلَالِ وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ نَقُولَ بِالْعَدَدِ بَلْ نَنْظُرُ الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ الْمَبْدَأُ مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ . فَتَكُونُ النِّهَايَةُ مِثْلَهُ مِنْ الشَّهْرِ الْآخَرِ . فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَانَتْ النِّهَايَةُ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ بَعْدَ كَمَالِ الشُّهُورِ وَهُوَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ بَعْدَ انْسِلَاخِ الشُّهُورِ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ الْمُحَرَّمِ كَانَتْ النِّهَايَةُ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ الْمُحَرَّمِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى قَدْرِ الشُّهُورِ الْمَحْسُوبَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ . وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } فَجَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِجَمِيعِ النَّاسِ مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الشُّهُورِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَقَعُ فِي أَوَائِلهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِيقَاتًا إلَّا لِمَا
يَقَعُ فِي أَوَّلِهَا لَمَا كَانَتْ مِيقَاتًا إلَّا لِأَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ عُشْرِ أُمُورِ النَّاسِ . وَلِأَنَّ الشَّهْرَ إذَا كَانَ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ : فَمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ مِثْلُ مَا بَيْنَ نِصْفِ هَذَا وَنِصْفِ هَذَا سَوَاءٌ وَالتَّسْوِيَةُ مَعْلُومَةٌ بِالِاضْطِرَارِ . وَالْفَرْقُ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ . وَأَيْضًا فَمَنْ الَّذِي جَعَلَ الشَّهْرَ الْعَدَدِيَّ ثَلَاثِينَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ } وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ نِصْفَ شُهُورِ السَّنَةِ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَنِصْفَهَا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَأَيْضًا فَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ إذَا أَجَّلَ الْحَقَّ إلَى سَنَةٍ . فَإِنْ كَانَ مَبْدَؤُهُ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ كَانَ مُنْتَهَاهُ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ سَلْخَ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَهُمْ . وَإِنْ كَانَ مَبْدَؤُهُ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ كَانَ مُنْتَهَاهُ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ أَيْضًا . لَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ وَلَا يَبْنُونَ إلَّا عَلَيْهِ وَمَنْ أَخَذَ لِيَزِيدَ يَوْمًا لِنُقْصَانِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَانَ قَدْ غَيَّرَ عَلَيْهِمْ مَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَأَتَاهُمْ بِمُنْكَرِ لَا يَعْرِفُونَهُ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ مِمَّنْ تَوَهَّمَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ لِيُحْذَرَ الْوُقُوعُ فِيهِ وَلِيُعْلَمَ بِهِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } وَأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَحْفُوظٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ .
وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ
اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } يُبَيِّنُ بِذَلِكَ
أَنَّ جَمِيعَ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ تَابِعٌ لِتَقْدِيرِهِ مَنَازِلَ .
فَصْلٌ :
مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَحْكَامَ مِثْلَ صِيَامِ رَمَضَانَ مُتَعَلِّقَةٌ
بِالْأَهِلَّةِ لَا رَيْبَ فِيهِ . لَكِنْ الطَّرِيقُ إلَى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ
الْهِلَالِ هُوَ الرُّؤْيَةُ ؛ لَا غَيْرُهَا : بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ . أَمَّا
السَّمْعُ : فَقَدْ أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ المقدسي وَأَبُو الْغَنَائِمِ
الْمُسْلِمُ بْنُ عُثْمَانَ الْقَيْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا : أَنْبَأَنَا
حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُؤَذِّنُ أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ
الْمُذْهِبِ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ أَنْبَأَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ . وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ الثَّلَاثِينَ } . وَقَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ وَإِسْحَاقَ يَعْنِي الْأَزْرَقَ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ . الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي ذَكَرَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ قَالَ إسْحَاقُ : وَطَبَّقَ بِيَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ آدَمَ عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ } . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ سُلَيْمَانُ أُصْبُعَهُ فِي الثَّالِثَةِ يَعْنِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ } . رَوَاهُ
النَّسَائِي مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ . كَمَا ذَكَرْنَاهُ . وَمِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا كَمَا سُقْنَاهُ وَقَالَ فِي آخِرِهِ تَمَامُ الثَّلَاثِينَ . وَلَمْ يَقُلْ : يَعْنِي . فَرِوَايَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُسْنَدِ كَمَا سُقْنَاهُ أَجَلُّ الطُّرُقِ وَأَرْفَعُهَا قَدْرًا ؛ إذْ غُنْدَرٌ أَرْفَعُ مِنْ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ وَأَضْبَطُ لِحَدِيثِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد أَجَلُّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُسْنَدَةُ الَّتِي رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ تُفَسِّرُ رِوَايَةَ الْثَوْرِي وَسَائِرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِمَّا فِيهِ إجْمَالٌ يُوهَمُ بِسَبَبِهِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ مَا رَوَيْنَاهُ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَبَهْزٌ قَالَا : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جبلة يَقُولُ لَنَا ابْنُ سحيم : قَالَ بَهْزٌ : أَخْبَرَنِي جبلة بْنُ سحيم سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهْرُ هَكَذَا وَطَبَّقَ بِأَصَابِعِهِ مَرَّتَيْنِ وَكَسَرَ فِي الثَّالِثَةِ الْإِبْهَامَ . } قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فِي حَدِيثِهِ يَعْنِي قَوْلَهُ : " تِسْعًا وَعِشْرِينَ " . هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ } . وَمِثْلُ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ كَمَا رَوَيْنَاهُ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَحْمَد : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَبْعَثُ مَنْ يَنْظُرُ
فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ فَإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا . وَرَوَيْنَاهُ . فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ هَكَذَا سَوَاءً . وَلَفْظُهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } قَالَ فِي آخِرِهِ : فَكَانَ ابْنِ عُمَرَ إذَا كَانَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نُظِرَ لَهُ فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا قَالَ فَكَانَ ابْنِ عُمَرَ يُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ وَرِوَى لَهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } وَبِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ سَحَابٌ أَصْبَحَ صَائِمًا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَحَابٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا . قَالَ : وَأَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طاوس عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ وَهَكَذَا رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ كَمَا رَوَيْنَاهُ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَحْمَد : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : إذَا كَانَ لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ . وَكَانَ فِي السَّمَاءِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا . رَوَاهُ النَّسَائِي عَنْ عُمَرَو بْنُ عَلِيٍّ عَنْ يَحْيَى . وَلَفْظُهُ : { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ ،
فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } وَذَكَرَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قَالَ : ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهِلَالَ فَقَالَ : إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ } وَجَعَلَ هَذَا اخْتِلَافًا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ . وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَقْدَحُ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ فَإِنَّ الْحُفَّاظَ كَالزُّهْرِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَنَحْوِهِمَا يَكُونُ الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ وَثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ . فَتَارَةً يُحَدِّثُونَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ وَتَارَةً يُحَدِّثُونَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا . وَيُظْهِرُ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ الرُّوَاةِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْخَيْنِ أَوْ يَذْكُرُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَكَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَقَالَ : لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } لَمْ يَذْكُرْ فِي أَوَّلِهِ قَوْلَهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } وَلَا ذَكَرَ الزِّيَادَةَ عَلَى عَادَتِهِ فِي أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَتْرُكُ التَّحْدِيثَ بِمَا لَا يُعْمَلُ بِهِ عِنْدَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } فَرَوَاهَا مَالِكٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَرَوَاهَا مِنْ طَرِيقِهِ الْبُخَارِيُّ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسلمة وَهُوَ القعنبي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ مُخْتَصَرًا فِي الْبُخَارِيِّ . وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ القعنبي عَنْ مَالِكٍ . وَهُوَ نَاقِصٌ . فَإِنَّ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ : " يَوْمًا " لِأَنَّ القعنبي لَفْظُهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ . فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } فَذَكَرَ قَوْلَهُ : { وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ } وَذَكَرَهُ بِلَفْظَةِ { فَاقْدُرُوا لَهُ } لَا بِلَفْظِ { فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ } وَهَكَذَا فِي سَائِر الْمُوَطَّآتِ مَسْبُوقٌ بِذِكْرِ الْجُمْلَتَيْنِ . وَلَفْظُ " الْقَدْر " حَتَّى قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ : { فَاقْدُرُوا لَهُ } قَالَ : وَكَذَلِكَ رَوَى سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : وَرَوَاهُ الدراوردي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ فِيهِ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } فَهَذِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ نَقْصٌ وَرِوَايَةٌ بِالْمَعْنَى وَقَعَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي لَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ الْمُشْعِرُ بِالْحَصْرِ مَا رَوَيْنَاهُ أَيْضًا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى
أَحْمَد : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا شيبان عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ : قَالَ : سَمِعْت { ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } وَرَوَاهُ النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ عَنْ يَحْيَى هَكَذَا . وَسَاقَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشَّهْرُ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ } وَجَعَلَ النَّسَائِي هَذَا اخْتِلَافًا عَلَى يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ . وَالصَّوَابُ أَنَّ كِلَيْهِمَا مَحْفُوظٌ عَنْ يَحْيَى . عَنْ أَبِي سَلَمَةَ لَا اخْتِلَافَ فِي اللَّفْظِ . وَقَالَ أَحْمَد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ . حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ حريث سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وَطَبَّقَ شُعْبَةُ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَسَرَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ عُقْبَةُ وَأَحْسَبُهُ قَالَ : الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ وَطَبَّقَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } وَرَوَاهُ النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُثَنَّى عَنْ غُنْدُرٍ ؛ لَكِنْ لَفْظُهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } لَمْ يَزِدْ . فَرِوَايَةُ أَحْمَد أَكْمَلُ وَأَحْسَنُ سِيَاقًا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الْمُفَسِّرَةَ تُبَيِّنُ أَنَّ سَائِر رِوَايَاتِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي فِيهَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ عُنِيَ بِهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ : أَمَّا أَنَّ الشَّهْرَ
قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ رَدًّا عَلَى مَنْ يَتَّهِمُ أَنَّ الشَّهْرَ الْمُطْلَقَ هُوَ ثَلَاثُونَ كَمَا تَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الشَّهْرِ الْعَدَدِيِّ فَيَجْعَلُونَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِكُلِّ حَالٍ وَعَارَضَهُمْ قَوْمٌ فَقَالُوا : الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَالْيَوْمُ الْآخِرُ زِيَادَةٌ . وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا } يَعْنِي : مَرَّةً ثَلَاثِينَ وَمَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَمَنْ جَزَمَ بِكَوْنِهِ ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَقَدْ أَخْطَأَ . وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ عَدَدَ الشَّهْرِ اللَّازِمَ الدَّائِمَ هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَأَمَّا الزَّائِدُ فَأَمْرٌ جَائِزٌ يَكُونُ فِي بَعْضِ الشُّهُورِ وَلَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التِّسْعَةَ وَالْعِشْرِينَ يَجِبُ عَدَدُهَا وَاعْتِبَارُهَا بِكُلِّ حَالٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يُشْرَعُ الصَّوْمُ بِحَالِ حَتَّى يَمْضِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَا بُدَّ أَنْ يُصَامَ فِي رَمَضَانَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ ؛ لَا يُصَامُ أَقَلُّ مِنْهَا بِحَالِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يُفَسَّرُ بِهِ رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ : { إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ . فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ } أَيْ إنَّمَا الشَّهْرُ اللَّازِمُ الدَّائِمُ الْوَاجِبُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ . وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ
هَذَا اللَّفْظُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَصْرِ . وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ إشَارَةً إلَى شَهْرٍ بِعَيْنِهِ لَا إلَى جِنْسِ الشَّهْرِ : أَيْ إنَّمَا ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ كَأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي آلَى فِيهِ مِنْ أَزْوَاجِهِ لَكِنْ هَذَا يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ : { فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ . فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَقْدِرُوا لَهُ } فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ الشَّرْعِ الْعَامِّ الْمُتَعَلِّقِ بِجِنْسِ الشَّهْرِ لَا لِشَهْرِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ . فَلَوْ أَرَادَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ لَكَانَ إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ الْغَمِّ وَعَدَمِهِ وَلَمْ يَقُلْ : { فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ } وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا وَقَدْ رُئِيَ هِلَالُ الصَّوْمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَالُ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ } . وَلِذَلِكَ حَمَلَ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد قَوْلَهُ الْمُطْلَقَ عَلَى أَنَّهُ لِجِنْسِ الشَّهْرِ لَا لِشَهْرِ مُعَيَّنٍ . وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ . قَالَ حَنْبَلُ بْنُ إسْحَاقَ : حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حميد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قُلْت لِيَحْيَى : الَّذِينَ يَقُولُونَ الملائي قَالَ : نَعَمْ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ : صُمْنَا عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ فَأَمَرَنَا عَلِيٍّ أَنْ نُتِمَّهَا يَوْمًا . أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُ : الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَمَنْ صَامَ هَذَا الصَّوْمَ قَضَى يَوْمًا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ . وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذَا قَالَتْ . يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ { وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا فَنَزَلَ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ . فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ : إنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ } فَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَدَّتْ مَا أَفْهَمُوهَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَوْ مَا فَهِمَتْهُ هِيَ مِنْ أَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ إلَّا تِسْعًا وَعِشْرِينَ . وَابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرُدَّ هَذَا بَلْ قَدْ ذَكَرْنَا عَنْهُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ . بِأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ . فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ ابْنِ عُمَرَ رَوَى أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تَارَةً كَذَلِكَ وَتَارَةً كَذَلِكَ . وَمَا رَوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ أَيْضًا : مِنْ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّهْرَ اللَّازِمَ الدَّائِمَ الْوَاجِبَ هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ الشَّيْءَ فِي صِيَغِ الْحَصْرِ أَوْ غَيْرِهَا تَارَةً لِانْتِفَاءِ ذَاتِهِ . وَتَارَةً لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ . وَيَحْصُرُونَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِهِ : تَارَةً لِانْحِصَارِ جَمِيعِ الْجِنْسِ مِنْهُ . وَتَارَةً لِانْحِصَارِ الْمُفِيدِ أَوْ الْكَامِلِ فِيهِ . ثُمَّ إنَّهُمْ تَارَةً
يُعِيدُونَ النَّفْيَ إلَى الْمُسَمَّى . وَتَارَةً يُعِيدُونَ النَّفْيَ إلَى الِاسْمِ . وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي اللُّغَةِ ؛ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْحَقِيقِيُّ بِالِاسْمِ مُنْتَفِيًا عَنْهُ ثَابِتًا لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } فَنَفَى عَنْهُمْ مُسَمَّى الشَّيْءِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ شَامِلٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ؛ لَمَّا كَانَ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ يَئُولُ إلَى الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْعَدَمُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ . بَلْ مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا مِنْ الْمَعْدُومِ الْمُسْتَمِرِّ عَدَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ . فَمَنْ قَالَ الْكَذِبَ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا . وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَا يَنْفَعُهُ فَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْكُهَّانِ قَالَ . " لَيْسُوا بِشَيْءِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَاسٍ مِنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ : لَيْسُوا بِشَيْءِ } وَيَقُولُ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ بِشَيْءِ أَوْ عَنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ بِشَيْءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ ؛ لِظُهُورِ كَذِبِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً . وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَنَحْوِهَا : هَذَا لَيْسَ بِآدَمِيِّ وَلَا إنْسَانٍ مَا فِيهِ إنْسَانِيَّةٌ وَلَا مُرُوءَةٌ هَذَا حِمَارٌ ؛ أَوْ كَلْبٌ كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ اتَّصَفَ بِمَا هُوَ
فَوْقَهُ مِنْ حُدُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ . كَمَا قُلْنَ لِيُوسُفَ : { مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } . وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ إنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا } وَقَالَ : { مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : الَّذِي لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ فَقَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ إنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الْحَدِيثَ . وَقَالَ : { مَا تُعِدُّونَ الرَّقُوبَ ؟ } الْحَدِيثَ . فَهَذَا نَفْيٌ لِحَقِيقَةِ الِاسْمِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ اعْتِبَارُهُ : بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّقُوبَ وَالْمُفْلِسَ إنَّمَا قُيِّدَ بِهَذَا الِاسْمِ لَمَّا عَدِمَ الْمَالَ وَالْوَلَدَ وَالنُّفُوسُ تَجْزَعُ مِنْ ذَلِكَ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ حَيْثُ يَضُرُّهُ عَدَمُهُ هُوَ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ مِمَّنْ يَعْدَمُهُ حَيْثُ قَدْ لَا يَضُرُّهُ ضَرَرًا لَهُ اعْتِبَارٌ . وَمَثَّالُ هَذَا أَنْ يُقَالَ لِمَنْ يَتَأَلَّمُ أَلَمًا يَسِيرًا لَيْسَ هَذَا بِأَلَمِ إنَّمَا الْأَلَمُ كَذَا وَكَذَا وَلِمَنْ يَرَى أَنَّهُ غَنِيٌّ لَيْسَ هَذَا بِغَنِيِّ إنَّمَا الْغَنِيُّ فُلَانٌ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْعَالَمِ وَالزَّاهِدِ . كَقَوْلِهِمْ إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى .
وَكَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ النَّاسُ يَقُولُونَ : مَالِكٌ زَاهِدٌ إنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَتَرَكَهَا . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا تَكُونُ الْقُلُوبُ تُعَظِّمُهُ لِذَلِكَ الْمُسَمَّى اعْتِقَادًا وَاقْتِصَادًا : إمَّا طَلَبًا لِوُجُودِهِ وَإِمَّا طَلَبًا لِعَدَمِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلِاسْمِ فَيُبَيِّنُ لَهَا أَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتَةٌ لِغَيْرِهِ دُونَهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْبَغِي تَعْلِيقُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ وَالِاقْتِصَادِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلَى قَوْلِهِ { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِقُّونَ لِهَذَا الِاسْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْوَاجِبَةِ لَهُمْ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لَا عِلْمَ إلَّا مَا نَفَعَ وَلَا مَدِينَةَ إلَّا بِمُلْكِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } أَوْ { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } . فَإِنَّمَا الرِّبَا الْعَامُّ الشَّامِلُ لِلْجِنْسَيْنِ وَلِلْجِنْسِ الْوَاحِدِ الْمُتَّفِقَةِ صِفَاتُهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي النَّسِيئَةِ . وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَلَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَلَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ إلَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الصِّفَاتُ . كَالْمَضْرُوبِ بِالتِّبْرِ وَالْجِيدِ بِالرَّدِيءِ فَإِمَّا إذَا اسْتَوَتْ الصِّفَاتُ
فَلَيْسَ أَحَدٌ يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ . وَلِهَذَا شُرِعَ الْقَرْضُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التَّبَرُّعِ . فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ الرِّبَا وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَوَّلًا وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَهُوَ رِبَا النَّسَاءِ : قِيلَ إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ . وَأَيْضًا رِبَا الْفَضْلِ إنَّمَا حُرِّمَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى رِبَا النَّسِيئَةِ فَالرِّبَا الْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ فَلَا رِبَا إلَّا فِيهِ وَأَظْهَرُ مَا تَبَيَّنَ فِيهِ الرِّبَا الْجِنْسُ الْوَاحِدُ الْمُتَّفَقُ فِيهِ الصِّفَاتُ فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ وَعِشْرِينَ ظَهَرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ قَابَلَتْ الْأَجَلَ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ لِلْحَاجَةِ ؛ وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ الْآجَالُ بِالْيَدِ وَلَا بِالْإِتْلَافِ . فَلَوْ تَبَقَّى الْعَيْنُ فِي يَدِهِ أَوْ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ مُدَّةً لَمْ يَضْمَنْ الْأَجَلَ ؛ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الصِّفَةِ فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ وَفِي الْبَيْعِ إذَا قَابَلَتْ غَيْرَ الْجِنْسِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . فَإِنَّ الْكَلَامَ الْخَبَرِيَّ إمَّا إثْبَاتٌ وَإِمَّا نَفْيٌ . فَكَمَا أَنَّهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ يُثْبِتُونَ لِلشَّيْءِ اسْمَ الْمُسَمَّى إذَا حَصَلَ فِيهِ مَقْصُودُ الِاسْمِ وَإِنْ انْتَفَتْ صُورَةُ الْمُسَمَّى . فَكَذَلِكَ فِي النَّفْيِ . فَإِنَّ أَدَوَاتِ النَّفْيِ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الِاسْمِ بِانْتِفَاءِ مُسَمَّاهُ فَكَذَلِكَ تَارَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا . وَتَارَةً لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْحَقِيقَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْمُسَمَّى . وَتَارَةً لِأَنَّهُ لَمْ تَكْمُلْ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ . وَتَارَةً لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا ؛ بَلْ الْمَقْصُودُ غَيْرُهُ .
وَتَارَةً لِأَسْبَابِ أُخَرَ . وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا حَقِيقَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلِكَوْنِ الْمُرَكَّبِ قَدْ صَارَ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ مِنْ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهَا مَجَازًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ الْكَلَامُ مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرِينَتَيْنِ فَمَعْنَاهُ السَّلْبُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ . فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } وَقَوْلُهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } حَيْثُ قَصَدَ بِهِ الْحَصْرَ فِي النَّوْعِ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلَّقَ بِالشَّهْرِ أَحْكَامًا كَقَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ } وَقَوْلِهِ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وَقَوْلِهِ : { شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَانَ مِنْ الْأَفْهَامِ مَا يَسْبِقُ إلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّهْرِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا . وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ لَمْ يَعُدَّ أَيَّامَ الشَّهْرِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّنَةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا . وَأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهْرُ الثَّابِتُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ . وَزِيَادَةُ الْيَوْمِ قَدْ تَدْخُلُ فِيهِ وَقَدْ تَخْرُجُ مِنْهُ كَمَا يَقُولُ الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَقَدْ يَمُوتُ قَبْلَ الْكَلَامِ فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ فِي حَقِّهِ إلَّا مَا تَكَلَّمَ بِهِ .
وَعَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَيَكُونُ قَدْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِلَا الْخِبْرَيْنِ أَوْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ : { أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ } كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ وَسُمِعَ مِنْهُ : { أَنَّ الشَّهْرَ إنَّمَا هُوَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } رُوِيَ هَذَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَرْوِي بِالْمَعْنَى . رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ أَنَّ قَوْلَهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } لِشَهْرِ مُعَيَّنٍ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ يَكُونُ } وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا الشَّهْرُ } وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُوَافِقُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . مِثْلُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج . عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ إنَّك حَلَفْت أَنْ لَا تَدْخُلُ شَهْرًا . فَقَالَ : إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا } فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ يَكْمُلُ بِحَسْبِهِ مُطْلَقًا . إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِيلَاءُ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ . فَمَتَى كَانَ الْإِيلَاءُ . فِي أَثْنَائِهِ فَهُوَ نَصٌّ فِي مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ
عَنْ حَمِيدٍ عَنْ أَنَسٍ { قَالَ : آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرَبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْت شَهْرًا فَقَالَ : إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ } . وَأَمَّا الشَّهْرُ الْمُعَيَّنُ فَرَوَى النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ : تَمَّ الشَّهْرُ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ } هَكَذَا رَوَاهُ بَهْز عَنْهُ . وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ غُنْدُرٍ . وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ غُنْدُرٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ إيلَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ . فَلَمَّا مَضَى تِسْعٌ وَعِشْرُونَ أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّ الشَّهْرَ تَمَّ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ لِأَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي آلَى فِيهِ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظُنُّ أَنَّ عَلَيْهِ إكْمَالَ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ . فَأَخْبَرَهُ جبرائيل بِأَنَّهُ تَمَّ شَهْرُ إيلَائِهِ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ . وَلَوْ كَانَ الْإِيلَاءُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُخْبِرَهُ جبرائيل بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا رُئِيَ لِتَمَامِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ تَمَّ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ حَتَّى يُخْبِرَهُ بِهِ جبرائيل . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْإِيلَاءُ بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ لَكَانَ الصَّحَابَةُ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ
شَهْرٌ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّونَ فِيهِ هُمْ وَلَا أَحَدٌ أَنَّ الشَّهْرَ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْعَدَدِ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ الْإِيلَاءُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ شَهْرُ إيلَائِهِ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : { إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } أَيْ شَهْرُ الْإِيلَاءِ { وَأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ } . وَأَيْضًا فَقَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَعُدُّهُنَّ . وَلَوْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ لَمْ تَحْتَجْ إلَى أَنْ تَعُدَّهُنَّ كَمَا لَمْ يَعُدَّ رَمَضَانَ إذَا صَامُوا بِالرُّؤْيَةِ ؛ بَلْ رِوَى عَنْهُ مَا ظَاهِرُهُ الْحَصْرُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَحْمَد : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ { قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْرِبُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ : الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ يَقْبِضُ أُصْبُعَهُ فِي الثَّالِثَةِ } . وَقَالَ أَحْمَد حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا عَشْرٌ عَشْرٌ وَتِسْعٌ مَرَّةً } رَوَاهُ النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ . وَرَوَاهُ هُوَ وَأَحْمَد أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ إسْمَاعِيلَ مُسْنَدًا كَمَا تَقَدَّمَ
وَقَدْ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَوَكِيعٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي رِوَايَتِهِ قُلْت لِإِسْمَاعِيلَ : عَنْ أَبِيهِ ؟ قَالَ : لَا . وَقَدْ صَحَّحَ أَحْمَد الْمُسْنَدَ . وَقَالَ فِي حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ حَدِيثُ سَعْدٍ { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا } قَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ : أَرَدْنَا أَنْ يَقُولَ عَنْ أَبِيهِ فَأَبَى . قَالَ أَحْمَد : هَذَا عَنْ إسْمَاعِيلَ كَانَ يُسْنِدُهُ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا لَا يُسْنِدُهُ . وَرَوَاهُ زَائِدَةُ عَنْ أَبِيهِ قِيلَ لَهُ : إنَّ وَكِيعًا . قَدْ رَوَاهُ وَيَحْيَى يَقُولُ : مَا يَقُولُ ؟ قَالَ : زَائِدَةُ قَدْ رَوَاهُ . وَقَالَ أَيْضًا : قَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ وَابْنُ بِشْرٍ وَزَائِدَةُ وَغَيْرُهُمْ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ بَيَانٌ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ الثِّقَات فَهِيَ مَقْبُولَةٌ . وَأَنَّ الَّذِينَ حَدَّثُوا عَنْهُ كَانَ تَارَةً يَذْكُرُهَا وَتَارَةً يَتْرُكُهَا . وَقَدْ رُوِيَ مَا يُفَسِّرُهُ : فَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ وَكِيعٌ بِالْعَشْرِ الْأَصَابِعِ مَرَّتَيْنِ وَخَنَّسَ وَاحِدَةً الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ } . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ الْمُتَلَقَّاةُ بِالْقَبُولِ دَلَّتْ عَلَى أُمُورٍ . أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ } هُوَ خَبَرٌ
تَضَمَّنَ نَهْيًا . فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي اتَّبَعَتْهُ هِيَ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ أُمِّيَّةٌ لَا تَكْتُبُ وَلَا تَحْسُبُ . فَمَنْ كَتَبَ أَوْ حَسَبَ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ . بَلْ يَكُونُ قَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ مَا لَيْسَ مِنْ دِينِهَا وَالْخُرُوجُ عَنْهَا مُحَرَّمٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَيَكُونُ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ الْمَذْكُورَانِ مُحَرَّمَيْنِ مَنْهِيًّا عَنْهُمَا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْمُسْلِمِ فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ بَعْضِهَا خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { : الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا قِيلَ إنَّ لَفْظَهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ الطَّلَبُ ؟ . كَقَوْلِهِ : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ وَلَا يَحْسُبَ . نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَكُونُ خَبَرًا قَدْ خَالَفَ مَخْبَرَهُ . فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ أَوْ حَسَبَ . قِيلَ : هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ . فَإِنَّ ظَاهِرَهُ خَبَرٌ وَالصَّرْفُ عَنْ الظَّاهِرِ إنَّمَا يَكُونُ لِدَلِيلِ يحوج إلَى ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ .
وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ } لَيْسَ هُوَ طَلَبًا فَإِنَّهُمْ أُمِّيُّونَ قَبْلَ الشَّرِيعَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } وَقَالَ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ } فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ قَبْلَ الْمَبْعَثِ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِابْتِدَائِهَا . نَعَمْ قَدْ يُؤْمَرُونَ بِالْبَقَاءِ عَلَى بَعْضِ أَحْكَامِهَا فَإِنَّا سَنُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يَبْقَوْا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مُطْلَقًا . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إخْبَارًا مَحْضًا أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ ؛ إذْ لَهُمْ طَرِيقٌ آخَرُ غَيْرُهُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ بَلْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ فَإِنَّ الْأُمِّيَّةَ صِفَةُ نَقْصٍ لَيْسَتْ صِفَةَ كَمَالٍ فَصَاحِبُهَا بِأَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْدُوحًا . قِيلَ : لَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي بَعَثَهُ اللَّهُ إلَيْهَا فِيهِمْ مَنْ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ كَثِيرًا كَمَا كَانَ فِي أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ مَنْ يَحْسُبُ وَقَدْ بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي فِيهَا مِنْ الْحِسَابِ مَا فِيهَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَامِلُهُ عَلَى الصَّدَقَةِ ابْنُ اللتبية حَاسَبَهُ . وَكَانَ لَهُ كُتَّابٌ عِدَّةٌ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَمُعَاوِيَةَ - يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ وَيَكْتُبُونَ الْعُهُودَ وَيَكْتُبُونَ كُتُبَهُ إلَى النَّاسِ إلَى مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ
إلَيْهِ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَرُءُوسِ الطَّوَائِفِ : وَإِلَى عُمَّالِهِ وَوُلَاتِهِ وَسُعَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ الْحِسَابُ . وَإِنَّمَا " الْأُمِّيُّ " هُوَ فِي الْأَصْلِ مَنْسُوبٌ إلَى الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ جِنْسُ الْأُمِّيِّينَ وَهُوَ مَنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ الْجِنْسِ بِالْعِلْمِ الْمُخْتَصِّ : مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ كِتَابَة كَمَا يُقَالُ : عَامِّيٌّ لِمَنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ عَنْهُمْ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلُومٍ : وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى الْأُمِّ : أَيْ هُوَ الْبَاقِي عَلَى مَا عَوَّدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . ثُمَّ التَّمَيُّزُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْأُمِّيَّةِ الْعَامَّةِ إلَى الِاخْتِصَاصِ : تَارَةً يَكُونُ فَضْلًا وَكَمَالًا فِي نَفْسِهِ . كَالْمُتَمَيِّزِ عَنْهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ . وَتَارَةً يَكُونُ بِمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ : كَالتَّمَيُّزِ عَنْهُمْ بِالْكِتَابَةِ وَقِرَاءَةِ الْمَكْتُوبِ فَيُمْدَحُ فِي حَقِّ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْكَمَالِ وَيُذَمُّ فِي حَقِّ مَنْ عَطَّلَهُ أَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الشَّرِّ . وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ . وَكَانَ تَرْكُهُ فِي حَقِّهِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ . فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّمَيُّزَ عَنْ الْأُمِّيِّينَ نَوْعَانِ " فَالْأُمَّةُ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَاهُمْ الْعَرَبُ وَبِوَاسِطَتِهِمْ حَصَلَتْ الدَّعْوَةُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا بُعِثَ بِلِسَانِهِمْ فَكَانُوا أُمِّيِّينَ عَامَّةً لَيْسَتْ فِيهِمْ مَزِيَّةُ عِلْمٍ وَلَا كِتَابٍ وَلَا غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِ فِطَرِهِمْ كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لِلْعِلْمِ أَكْمَلَ مِنْ اسْتِعْدَادِ سَائِر الْأُمَمِ . بِمَنْزِلَةِ أَرْضِ الْحَرْثِ الْقَابِلَةِ لِلزَّرْعِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ يَقْرَءُونَهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا عُلُومٌ قِيَاسِيَّةٌ مُسْتَنْبِطَةٌ كَمَا لِلصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَكَانَ الْخَطُّ فِيهِمْ قَلِيلًا جِدًّا وَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُنَالُ بِالْفِطْرَةِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ الْأُمُوَّةِ الْعَامَّةِ . كَالْعِلْمِ بِالصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعْظِيمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمِ الْأَنْوَاءِ . وَالْأَنْسَابِ وَالشِّعْرِ . فَاسْتَحَقُّوا اسْمَ الْأُمِّيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . كَمَا قَالَ فِيهِمْ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } فَجَعَلَ الْأُمِّيِّينَ مُقَابِلِينَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ . فَالْكِتَابِيُّ غَيْرُ الْأُمِّيِّ . فَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَتَدَبُّرِهِ وَعَقْلِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ - وَقَدْ جَعَلَهُ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَعَلَّمَهُمْ نَبِيُّهُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ - صَارُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ . بَلْ صَارُوا أَعْلَمَ الْخَلْقِ
وَأَفْضَلَهُمْ فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَزَالَتْ عَنْهُمْ الْأُمِّيَّةُ الْمَذْمُومَةُ النَّاقِصَةُ وَهِيَ عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إلَى أَنْ عَلِمُوا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَأُورِثُوا الْكِتَابَ . كَمَا قَالَ فِيهِمْ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } فَكَانُوا أُمِّيِّينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . فَلَمَّا عَلَّمَهُمْ الْكِتَابُ وَالْحِكْمَةَ قَالَ فِيهِمْ : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } { أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ } وَاسْتُجِيبَ فِيهِمْ دَعْوَةُ الْخَلِيلِ حَيْثُ قَالَ : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } . فَصَارَتْ هَذِهِ الْأُمِّيَّةُ : مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ نَقْصٌ وَتَرْكُ الْأَفْضَلِ . فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْفَاتِحَةَ أَوْ لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أُمِّيًّا . وَيُقَابِلُونَهُ بِالْقَارِئِ
فَيَقُولُونَ : لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ . وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ الْأُمِّيُّ بِالْأُمِّيِّ . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ وَغَرَضُهُمْ بِالْأُمِّيِّ هُنَا الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقِرَاءَةَ الْوَاجِبَةَ سَوَاءٌ كَانَ يَكْتُبُ أَوْ لَا يَكْتُبُ يَحْسُبُ أَوْ لَا يَحْسُبُ . فَهَذِهِ الْأُمِّيَّةُ مِنْهَا مَا هُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ يُعَاقَبُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ . إذَا قَدَرَ عَلَى التَّعَلُّمِ فَتَرَكَهُ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مَذْمُومٌ كَاَلَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } فَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ لَا يَفْقَهُ كَلَامَ اللَّهِ وَيَعْمَلُ بِهِ وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَتِهِ . كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ . نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ فَاِتَّخِذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا . فَالْأُمِّيُّ هُنَا قَدْ يَقْرَأُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرَهَا وَلَا يَفْقَهُ . بَلْ يَتَكَلَّمُ فِي الْعِلْمِ بِظَاهِرِ مِنْ الْقَوْلِ ظَنًّا . فَهَذَا أَيْضًا أُمِّيٌّ مَذْمُومٌ كَمَا ذَمَّهُ اللَّهُ ؛ لِنَقْصِ عِلْمِهِ الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ أَمْ كِفَايَةٍ . وَمِنْهَا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ الْأَكْمَلُ كَاَلَّذِي لَا يَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا بَعْضَهُ وَلَا يَفْهَمُ مِنْهُ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا يَفْهَمُ مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَّا مِقْدَارَ الْوَاجِبِ
عَلَيْهِ فَهَذَا أَيْضًا يُقَالُ لَا أُمِّيٌّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ عِلْمًا وَعَمَلًا أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَكْمَلُ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمُمَيِّزَةُ لِلشَّخْصِ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ فَضَائِلُ وَكَمَالٌ : فَقَدَهَا أَمَّا فَقْدُ وَاجِبٍ عَيْنًا أَوْ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ مُسْتَحَبٌّ . وَهَذِهِ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا وَأَنْبِيَاؤُهُ مُطْلَقًا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ جَمَعَ الْعِلْمَ وَالْكَلَامَ النَّافِعَ طَلَبًا وَخَبَرًا وَإِرَادَة . وَكَذَلِكَ أَنْبِيَاؤُهُ وَنَبِيُّنَا سَيِّدُ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ . وَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُمَيِّزَةُ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ وَأَسْبَابٌ إلَى الْفَضَائِلِ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِغَيْرِهَا فَهَذِهِ مِثْلُ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْخَطُّ وَالْحِسَابُ فَهَذَا إذَا فَقَدَهَا مَعَ أَنَّ فَضِيلَتَهُ فِي نَفْسِهِ لَا تَتِمُّ بِدُونِهَا وَفَقْدُهَا نَقْصٌ إذَا حَصَّلَهَا وَاسْتَعَانَ بِهَا عَلَى كَمَالِهِ وَفَضْلِهِ كَاَلَّذِي يَتَعَلَّمُ الْخَطَّ فَيَقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنَ ؛ وَكُتُبَ الْعِلْمِ النَّافِعَةَ أَوْ يَكْتُبُ لِلنَّاسِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ : كَانَ هَذَا فَضْلًا فِي حَقِّهِ وَكَمَالًا . وَإِنْ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَضُرُّهُ أَوْ يَضُرُّ النَّاسَ كَاَلَّذِي يَقْرَأُ بِهَا كُتُبَ الضَّلَالَةِ وَيَكْتُبُ بِهَا مَا يَضُرُّ النَّاسَ كَاَلَّذِي يُزَوِّرُ خُطُوطَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ : كَانَ هَذَا ضَرَرًا فِي حَقِّهِ وَسَيِّئَةً وَمَنْقَصَةً وَلِهَذَا نَهَى عُمَرَ أَنْ تُعَلَّمَ النِّسَاءُ الْخَطَّ .
وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ يَنَالُ كَمَالَ الْعُلُومِ مِنْ غَيْرِهَا . وَيَنَالُ كَمَالَ التَّعْلِيمِ بِدُونِهَا : كَانَ هَذَا أَفْضَلَ لَهُ وَأَكْمَلَ . وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } فَإِنَّ أُمِّيَّتَهُ لَمْ تَكُنْ مِنْ جِهَةِ فَقْدِ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فَإِنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا . وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ مَكْتُوبًا . كَمَا قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَتَبَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِخَطِّهِ مُعْجِزَةً لَهُ ؟ أَمْ لَمْ يَكْتُبْ ؟ وَكَانَ انْتِفَاءُ الْكِتَابَةِ عَنْهُ مَعَ حُصُولِ أَكْمَلِ مَقَاصِدِهَا بِالْمَنْعِ مِنْ طَرِيقِهَا مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِهِ وَأَكْبَرِ مُعْجِزَاتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْعِلْمَ بِلَا وَاسِطَةِ كِتَابٍ مُعْجِزَةً لَهُ وَلَمَّا كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي الْكُتُبِ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَعَلَّمَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكْتُبَ بِيَدِهِ وَأَمَّا سَائِر أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَالْغَالِبُ عَلَى كِبَارِهِمْ الْكِتَابَةُ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهَا إذْ لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَنْ الْوَحْي مَا أُوتِيَهُ صَارَتْ أُمِّيَّتُهُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ كَمَالًا فِي حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ الْغِنَى بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا وَأَكْمَلُ وَنَقْصًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ فَقْدِهِ الْفَضَائِلَ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْكِتَابَةِ .
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا : فَكِتَابُ أَيَّامِ الشَّهْرِ وَحِسَابِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَإِنَّ مَنْ كَتَبَ مَسِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِحُرُوفِ " أَبِجَدِّ " وَنَحْوِهَا وَحَسَبَ كَمْ مَضَى مِنْ مَسِيرِهَا وَمَتَى يَلْتَقِيَانِ لَيْلَةَ الِاسْتِسْرَارِ وَمَتَى يَتَقَابَلَانِ لَيْلَةَ الْإِبْدَارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ مِنْ الْفَائِدَةِ إلَّا ضَبْطُ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا فِي تَحْدِيدِ الْحَوَادِثِ وَالْأَعْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُنَا مِنْ الْأُمَمِ فَضَبَطُوا مَوَاقِيتَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ كَمَا يَفْعَلُونَهُ بِالْجَدَاوِلِ أَوْ بِحُرُوفِ الْجُمَلِ وَكَمَا يَحْسُبُونَ مَسِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ : وَيَعْدِلُونَ ذَلِكَ وَيُقَوِّمُونَهُ بِالسَّيْرِ الْأَوْسَطِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ وَقْتُ الِاسْتِسْرَارِ وَالْإِبْدَارِ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّا أَيَّتُهَا الْأُمَّةَ الْأُمِّيَّةَ لَا نَكْتُبُ هَذَا الْكِتَابَ وَلَا نَحْسُبُ هَذَا الْحِسَابَ فَعَادَ كَلَامُهُ إلَى نَفْيِ الْحِسَابِ وَالْكِتَابِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَيَّامِ الشَّهْرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اسْتِسْرَارِ الْهِلَالِ وَطُلُوعِهِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّفْيَ وَإِنْ كَانَ عَلَى إطْلَاقِهِ يَكُونُ عَامًّا فَإِذَا كَانَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ مَا يُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ عُلِمَ بِهِ الْمَقْصُودُ أَخَاصٌّ هُوَ أَمْ عَامٌّ ؟ فَلَمَّا قَرَنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ } وَ { الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ } بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّا لَا نَحْتَاجُ فِي أَمْرِ الْهِلَالِ إلَى كِتَابٍ وَلَا
حِسَابٍ إذْ هُوَ تَارَةً كَذَلِكَ وَتَارَةً كَذَلِكَ . وَالْفَارِقُ بَيْنَهُمَا هُوَ الرُّؤْيَةُ فَقَطْ لَيْسَ بَيْنَهَا فَرْقٌ آخَرُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا حِسَابٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ . فَإِنَّ أَرْبَابَ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَضْبُطُوا الرُّؤْيَةَ بِضَبْطِ مُسْتَمِرٍّ وَإِنَّمَا يُقَرِّبُوا ذَلِكَ فَيُصِيبُونَ تَارَةً وَيُخْطِئُونَ أُخْرَى . وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا صِفَةُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْ جِهَةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ بِمَا هُوَ أَبْيَنُ مِنْهُ وَأَظْهَرُ وَهُوَ الْهِلَالُ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ هُنَا يَدْخُلُهُمَا غَلَطٌ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِمَا تَعَبًا كَثِيرًا بِلَا فَائِدَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ شُغْلٌ عَنْ الْمَصَالِحِ إذْ هَذَا مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ نَفْيُ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ عَنْهُمْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ وَلِلْمَفْسَدَةِ الَّتِي فِيهِ كَانَ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ فِي ذَلِكَ نَقْصًا وَعَيْبًا بَلْ سَيِّئَةً وَذَنْبًا فَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ فِيمَا هُوَ مِنْ الْكَمَالِ وَالْفَضْلِ السَّالِمِ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَدَخَلَ فِي أَمْرٍ نَاقِصٍ يُؤَدِّيهِ إلَى الْفَسَادِ وَالِاضْطِرَابِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذَا وَصْفًا لِلْأُمَّةِ . كَمَا جَعَلَهَا وَسَطًا فِي قَوْله تَعَالَى { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } فَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ .
وَأَيْضًا فَالشَّيْءُ إذَا كَانَ صِفَةً لِلْأُمَّةِ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَهُ فِيهِ مَفْسَدَةٌ : كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ : لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَلِأَنَّ صِفَةَ الْكَمَالِ الَّتِي لِلْأُمَّةِ يَجِبُ حِفْظُهَا عَلَيْهَا . فَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ تَحْصِيلُ الْمُسْتَحَبَّاتِ فَإِنَّ كُلَّ مَا شُرِعَ لِلْأُمَّةِ جَمِيعًا صَارَ مِنْ دِينِهَا وَحِفْظُ مَجْمُوعِ الدِّينِ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ فَرْضَ عَيْنٍ أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ . وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ حِفْظُ جَمِيعِ الْكِتَابِ وَجَمِيعِ السُّنَنِ الْمُتَعَلِّقَةِ بالمستحبات وَالرَّغَائِبِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَى آحَادِهَا . وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْعَامَّةِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْأَفْرَادِ . وَتَحْصِيلُهُ لِنَفْسِهِ : مِثْلُ الَّذِي يَؤُمُّ النَّاسَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ دَائِمًا مَا يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ فِعْلُهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُطَوِّلُ الصَّلَاةَ تَطْوِيلًا يَضُرُّ مَنْ خَلْفَهُ وَلَا يُنْقِصَهَا عَنْ سُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ : مِثْلِ قِرَاءَةِ السُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَإِكْمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الصَّحَابَةَ بِعَزْلِ إمَامٍ كَانَ يُصَلِّي لِبُصَاقِهِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ ؛ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً } - الْحَدِيثَ وَقَالَ : { إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَزَالُوا فِي سَفَالٍ } . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّ الْإِمَامَ الْمُقِيمَ بِالنَّاسِ حَجَّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ
بِكَمَالِ
الْحَجِّ مِنْ تَأْخِيرِ النَّفْرِ إلَى الثَّالِثِ مِنْ مِنًى وَلَا يَتَعَجَّلُ
فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ الَّتِي لَوْ
تَرَكَهَا الْوَاحِدُ لَمْ يَأْثَمْ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَرْكُهَا لِأَجْلِ
مَصْلَحَةِ عُمُومِ الْحَجِيجِ مِنْ تَحْصِيلِ كَمَالِ الْحَجِّ وَتَمَامِهِ
وَلِهَذَا { لَمَّا اجْتَمَعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدَانِ فَشَهِدَ الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمْعَةِ
قَالَ : إنَّا مُجَمِّعُونَ } فَقَالَ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرُهُ
: إنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ الْجُمُعَةَ لِيَحْصُلَ الْكَمَالُ
لِمَنْ شَهِدَهُمَا وَإِنْ جَازَ لِلْآحَادِ الِانْصِرَافُ . وَنَظَائِرُهُ
كَثِيرَةٌ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَحْفَظَ لِلْأُمَّةِ - فِي أَمْرِهَا الْعَامِّ
فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَعْمَالِ - كَمَالَ دَيْنِهَا الَّذِي
قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } فَمَا أَفْضَى إلَى
نَقْصِ كَمَالِ دِينِهَا وَلَوْ بِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ يُفْضِي إلَى تَرْكِهِ
مُطْلَقًا كَانَ تَحْصِيلُهُ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ إمَّا عَلَى
الْأَئِمَّةِ وَإِمَّا عَلَى غَيْرِهِمْ . فَالْكَمَالُ وَالْفَضْلُ الَّذِي
يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ دُونَ الْحِسَابِ يَزُولُ بِمُرَاعَاةِ الْحِسَابِ
لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ مَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا
حَتَّى تَرَوْهُ } كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَنَهَى
عَنْ الصَّوْمِ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ وَعَنْ الْفِطْرِ قَبْلَ
رُؤْيَتِهِ . وَلَا يَخْلُو النَّهْيُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الصَّوْمِ فَرْضًا وَنَفْلًا وَنَذْرًا وَقَضَاءً . أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَلَا تَصُومُوا رَمَضَانَ حَتَّى تَرَوْهُ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدْ نَهَى أَنْ يُصَامُ رَمَضَانُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَالرُّؤْيَةُ الْإِحْسَاسُ وَالْإِبْصَارُ بِهِ . فَمَتَى لَمْ يَرَهُ الْمُسْلِمُونَ . كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : قَدْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ أَنَّهُ يُرَى وَإِذَا رُئِيَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : أَخْبَرَ مُخْبَرٌ أَنَّهُ لَا يُرَى وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ } لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَصُومُهُ أَحَدٌ حَتَّى يَرَاهُ بِنَفْسِهِ بَلْ لَا يَصُومُهُ أَحَدٌ حَتَّى يَرَاهُ أَوْ يَرَاهُ غَيْرُهُ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ عُمُومِ النَّفْيِ لَا نَفْيِ الْعُمُومِ : أَيْ لَا يَصُومُهُ أَحَدٌ حَتَّى يَرَى أَوْ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ رُئِيَ أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ رُئِيَ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَهُ بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ احْتِيَاطًا وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ صَوْمَهُ مُطْلَقًا فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ كَرَاهَةَ الزِّيَادَةِ فِي الشَّهْرِ . وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ لِظُهُورِ الْعَدَمِ فِي الصَّحْوِ دُونَ الْغَيْمِ . كَانَ الَّذِي صَامُوهُ احْتِيَاطًا إنَّمَا صَامُوهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَآهُ غَيْرُهُمْ . فَيَنْقُصُونَهُ فِيمَا بَعْدُ . وَأَمَّا لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ يَسْتَجِيزُ أَنْ يَصُومَهُ لِكَوْنِ الْحِسَابِ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَطْلُعُ وَلَمْ يُرَ مَعَ ذَلِكَ كَمَا
أَنَّ الْجُمْهُورَ الَّذِينَ كَرِهُوا صَوْمَهُ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى هَذَا الْجَوَابِ إذْ الْحُكْمُ مَمْدُودٌ إلَى وُقُوعِ الرُّؤْيَةِ لَا إلَى جَوَازِهَا . وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ أَوْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَامَ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَمَضَانَ . إذَا لَمْ يُوَافِقْ عَادَةً ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ . هَذَا يُجَوِّزُهُ أَوْ يَسْتَحِبُّهُ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ . وَيَكْرَهُهُ وَيَحْظُرُهُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّقَدُّمِ وَلِخَوْفِ الزِّيَادَة . وَلِمَعَانٍ أُخَرَ . ثُمَّ إذَا صَامَهُ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَمَضَانَ أَوْ بِنِيَّتِهِ الْمَكْرُوهَةِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ إذَا تَبَيَّنَ أَوْ لَا يُجْزِئُهُ . بَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْأُمَّةِ . وَإِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ رُئِيَ إلَّا مِنْ النَّهَارِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ إنْشَاءُ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْأُمَّةِ : وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رُئِيَ فِي مَكَانٍ آخَرَ : فَهَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ أَوْ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا ؟ أَمْ إذَا كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ؟ أَمْ إذَا كَانَتْ الرُّؤْيَةُ فِي الْإِقْلِيمِ ؟ أَمْ إذَا كَانَ الْعَمَلُ وَاحِدًا ؟ وَهَلْ تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ ؟ أَمْ الِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا ؟ أَمْ لَا بُدَّ فِي الصَّحْوِ مَنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ الثَّلَاثِينَ وَتَفَرَّعَ بِسَبَبِهَا مَسَائِلُ أُخَرُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَذَا
الْأَمْرِ وَلِمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَرَأَوْهُ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِهِ وَلِمَا بَلَغَهُمْ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَهِيَ مَنْ جِنْسِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ مَنْ خَرَجَ فِي ذَلِكَ إلَى الْأَخْذِ بِالْحِسَابِ أَوْ الْكِتَابِ كَالْجَدَاوِلِ وَحِسَابِ التَّقْوِيمِ وَالتَّعْدِيلِ الْمَأْخُوذِ مَنْ سَيْرِهِمَا . وَغَيْرِ ذَلِكَ الَّذِي صَرَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْيِهِ عَنْ أُمَّتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ . وَلِهَذَا مَا زَالَ الْعُلَمَاءُ يَعُدُّونَ مَنْ خَرَجَ إلَى ذَلِكَ قَدْ أَدْخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَيُقَابِلُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ بِالْإِنْكَارِ الَّذِي يُقَابَلُ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا فِيهِ مَا يُشْبِهُ بِدَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالصَّابِئَةِ أَنْوَاعٌ : قَوْمٌ مُنْتَسِبَةٌ إلَى الشِّيعَةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَغَيْرِهِمْ . يَقُولُونَ بِالْعَدَدِ دُونَ الرُّؤْيَةِ . وَمَبْدَأُ خُرُوجِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ مِنْ الْكُوفَةِ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى جَدْوَلٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ جَعْفَرًا الصَّادِقَ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ عَلَى جَعْفَرٍ اخْتَلَقَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا . وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمَرْضِيِّ عَنْ جَعْفَرٍ وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُقَلَاءَ الشِّيعَةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى أَنَّ رَابِعَ رَجَبٍ أَوَّلُ رَمَضَانَ أَوْ عَلَى أَنَّ خَامِسَ رَمَضَانَ الْمَاضِيَ أَوَّلُ رَمَضَانَ الْحَاضِرِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْإِسْلَامِ وَلَا رَوَاهُ عَالِمٌ قَطُّ أَنَّهُ قَالَ : { يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ } . وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ يُوجِبُونَ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ تَامًّا وَيَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى رُؤْيَتِهِ بِالْمُشْرِقِ قَبْلَ الِاسْتِسْرَارِ فَيُوجِبُونَ اسْتِسْرَارَهُ لَيْلَتَيْنِ وَيَقُولُونَ : أَوَّلُ يَوْمٍ يُرَى فِي أَوَّلِهِ فَهُوَ مِنْ الشَّهْرِ الْمَاضِي . وَالْيَوْمُ يَكُونُ الْيَوْمَ الَّذِي لَا يُرَى فِي طَرَفَيْهِ . ثُمَّ الْيَوْمُ الَّذِي يُرَى فِي آخِرِهِ هُوَ أَوَّلُ الشَّهْرِ الثَّانِي وَيَجْعَلُونَ مَبْدَأَ الشَّهْرِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْهِلَالَ يُسْتَسَرُّ لِلَيْلَةِ تَارَةً وَلَيْلَتَيْنِ أُخْرَى وَقَدْ يُسْتَسَرُّ ثَلَاثَ لَيَالٍ . فَأَمَّا الَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى حِسَابِ الشُّهُورِ وَتَعْدِيلِهَا فَيَعْتَبِرُونَهُ بِرَمَضَانَ الْمَاضِي . أَوْ بِرَجَبِ أَوْ يَضَعُونَ جَدْوَلًا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فَهُمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ } إنَّمَا عُمْدَتُهُمْ
تَعْدِيلُ سَيْرِ النَّيِّرَيْنِ وَالتَّعْدِيلُ أَنْ يَأْخُذَ أَعْلَى سَيْرِهِمَا وَأَدْنَاهُ فَيَأْخُذَ الْوَسَطَ مِنْهُ وَيَجْمَعُهُ . وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى شُهُورِ الْعَامِ أَنْ الْأَوَّلَ ثَلَاثُونَ وَالثَّانِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ كَانَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ هَذَا الْحِسَابِ وَالْكِتَابِ مَبْنِيَّةً عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثُونَ وَالثَّانِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ . وَالسَّنَةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ . وَيَحْتَاجُونَ أَنْ يَكْتُبُوا فِي كُلِّ عِدَّةٍ مِنْ السِّنِينَ زِيَادَةَ يَوْمٍ تَصِيرُ فِيهِ السَّنَةُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا يَزِيدُونَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مَثَلًا فَهَذَا أَصْلُ عِدَّتِهِمْ . وَهَذَا الْقَدْرُ مُوَافِقٌ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الشُّهُورِ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَقَدْ يَتَوَالَى شَهْرَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَتَوَالَى شَهْرَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَيَنْتَقِضُ كِتَابُهُمْ وَحِسَابُهُمْ وَيَفْسُدُ دِينُهُمْ الَّذِي لَيْسَ بِقِيَمِ وَهَذَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِئَلَّا يُعْمَلَ بِالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ فِي الْأَهِلَّةِ . فَهَذِهِ طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ الْمَارِقِينَ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ الشَّهْرَ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الشُّهُورِ إمَّا فِي جَمِيعِ السِّنِينَ أَوْ بَعْضِهَا وَيَكْتُبُونَ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي : فَقَوْمٌ مِنْ فُقَهَاءَ الْبَصْرِيِّينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ قَوْلَهُ :
{ فَاقْدُرُوا لَهُ } تَقْدِيرُ حِسَابٍ بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين قَالَ : خَرَجْت فِي الْيَوْمِ الَّذِي شُكَّ فِيهِ فَلَمْ أَدْخُلْ عَلَى أَحَدٍ يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ إلَّا وَجَدْته يَأْكُلُ إلَّا رَجُلًا كَانَ يَحْسُبُ وَيَأْخُذُ بِالْحِسَابِ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الرَّجُلَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير وَهُوَ رَجُلٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ إلَّا أَنَّ هَذَا إنْ صَحَّ عَنْهُ فَهِيَ مِنْ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَيْضًا . وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ كَانَ مَذْهَبُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالنُّجُومِ وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ مِنْ جِهَةِ النُّجُومِ أَنَّ الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ وَغُمَّ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ الصِّيَامَ وَيُبَيِّتَهُ وَيُجْزِئُهُ وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْهُ . بَلْ الْمَحْفُوظُ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ كَمَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ . وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ حَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ نِسْبَةَ ذَلِكَ إلَيْهِ إذْ كَانَ هُوَ الْقَائِمَ بِنَصْرِ مَذْهَبِهِ . وَاحْتِجَاجُ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مَعَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ هُوَ الرَّاوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ } فَكَيْفَ يَكُونُ مُوجَبُ حَدِيثِهِ الْعَمَلَ بِالْحِسَابِ . وَهَؤُلَاءِ يَحْسَبُونَ مَسِيرَهُ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَلَيَالِيُهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ طَرِيقَةٌ مُنْضَبِطَةٌ أَصْلًا بَلْ أَيَّةُ طَرِيقَةٍ سَلَكُوهَا فَإِنَّ الْخَطَأَ وَاقِعٌ فِيهَا أَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لِمَطْلَعِ الْهِلَالِ حِسَابًا مُسْتَقِيمًا بَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إلَى رُؤْيَتِهِ
طَرِيقٌ
مُطَّرِدٌ إلَّا الرُّؤْيَةُ وَقَدْ سَلَكُوا طُرُقًا كَمَا سَلَكَ الْأَوَّلُونَ
مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَضْبُطُوا سَيْرَهُ إلَّا بِالتَّعْدِيلِ الَّذِي يَتَّفِقُ
الْحِسَابُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ . وَإِنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ مِثْلُ
أَنْ يُقَالَ : إنْ رُئِيَ صَبِيحَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ فَهُوَ تَامٌّ وَإِنْ
لَمْ يُرَ صَبِيحَةَ ثَمَانٍ فَهُوَ نَاقِصٌ . وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ
الِاسْتِسْرَارَ لِلَيْلَتَيْنِ وَلَيْسَ بِصَحِيحِ بَلْ قَدْ يُسْتَسَرُّ
لَيْلَةً تَارَةً وَثَلَاثَ لَيَالٍ أُخْرَى . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ إنَّمَا
هُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ لَا يَمْكُثُ فِي الْمَنْزِلَةِ إلَّا
سِتَّةَ أَسْبَاعِ سَاعَةً لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ . فَيَغِيبُ لَيْلَةَ
السَّابِعِ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَطْلُعُ لَيْلَةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَوَّلِ
اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَيْلَةَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ يَطْلُعُ
مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ وَلَيْلَةَ الثَّامِنَ وَالْعِشْرِينَ إنْ اُسْتُسِرَّ
فِيهَا نَقَصَ وَإِلَّا كَمُلَ وَهَذَا غَالِبُ سَيْرِهِ وَإِلَّا فَقَدْ يُسْرِعُ
وَيُبْطِئُ .
وَأَمَّا الْعَقْلُ : فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ
كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ الرُّؤْيَةِ بِحِسَابٍ
بِحَيْثُ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ يُرَى لَا مَحَالَةَ أَوْ لَا يُرَى أَلْبَتَّةَ
عَلَى وَجْهٍ مُطَّرِدٍ وَإِنَّمَا قَدْ يَتَّفِقُ ذَلِكَ أَوْ لَا يُمْكِنُ
بَعْضَ الْأَوْقَاتِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَنُونَ بِهَذَا الْفَنِّ مِنْ
الْأُمَمِ : الرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلُ
بَطْلَيْمُوسَ الَّذِي هُوَ مُقَدَّمُ هَؤُلَاءِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَبْلَ
الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ لَمْ يَنْسُبُوا إلَيْهِ فِي الرُّؤْيَةِ حَرْفًا
وَاحِدًا وَلَا حَدُّوهُ كَمَا حَدُّوا اجْتِمَاعَ الْقُرْصَيْنِ وَإِنَّمَا
تَكَلَّمَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ فِي أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ : مِثْلُ
كوشيار الديلمي وَعَلَيْهِ وَعَلَى مِثْلُهُ يَعْتَمِدُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ . وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حُذَّاقُهُمْ مِثْلُ أَبِي عَلِيٍّ المروذي الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِ وَقَالُوا إنَّهُ تَشَوَّقَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ . وَلَعَلَّ مَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مَرْمُوقًا بِنِفَاقٍ ، فَمَا النِّفَاقُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِبَعِيدِ أَوْ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْجُهَّالِ مِمَّنْ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِالْحِسَابِ مَعَ انْتِسَابِهِ إلَى الْإِسْلَامِ . وَبَيَانُ امْتِنَاعِ ضَبْطِ ذَلِكَ : أَنَّ الْحِسَابَ إنَّمَا يُقَدِّرُهُ عَلَى ضَبْطِ شَبَحِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَجَرْيِهِمَا أَنَّهُمَا يَتَحَاذَيَانِ فِي السَّاعَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي الْبُرْجِ الْفُلَانِيِّ فِي السَّمَاءِ الْمُحَاذِي لِلْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ مِنْ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ الِاجْتِمَاعُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِسْرَارِ وَقَبْلَ الِاسْتِهْلَالِ فَإِنَّ الْقَمَرَ يَجْرِي فِي مَنَازِلِهِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ كَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ ثُمَّ يَقْرُبُ مِنْ الشَّمْسِ فَيَسْتَسِرُّ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ ؛ لِمُحَاذَاتِهِ لَهَا فَإِذَا خَرَجَ مِنْ تَحْتِهَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ النُّورَ ثُمَّ يَزْدَادُ النُّورُ كُلَّمَا بَعُدَ عَنْهَا إلَى أَنْ يُقَابِلَهَا لَيْلَةَ الْإِبْدَارِ ثُمَّ يَنْقُصُ كُلَّمَا قَرُبَ مِنْهَا إلَى أَنْ يُجَامِعَهَا وَلِهَذَا يَقُولُونَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاسْتِقْبَالُ وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقُولُوا : الْهِلَالُ وَقْتَ الْمُفَارَقَةِ عَلَى كَذَا . يَقُولُونَ : الِاجْتِمَاعُ وَقْتَ الِاسْتِسْرَارِ وَالِاسْتِقْبَالُ وَقْتَ الْإِبْدَارِ .
وَمِنْ مَعْرِفَةِ الْحِسَابِ الِاسْتِسْرَارُ وَالْإِبْدَارُ الَّذِي هُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاسْتِقْبَالُ فَالنَّاسُ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ مِنْ الِاسْتِسْرَارِ الْهِلَالِيِّ فِي آخِرِ الشَّهْرِ وَظُهُورِهِ فِي أَوَّلِهِ وَكَمَالِ نُورِهِ فِي وَسَطِهِ والحساب يُعَبِّرُونَ بِالْأَمْرِ الْخَفِيِّ مِنْ اجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ الِاسْتِسْرَارِ وَمِنْ اسْتِقْبَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ الْإِبْدَارِ فَإِنَّ هَذَا يُضْبَطُ بِالْحِسَابِ . وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَلَا لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْحِسَابِ ضَبْطٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُضْبَطُ بِحِسَابٍ يُعْرَفُ كَمَا يُعْرَفُ وَقْتُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ فَإِنَّ الشَّمْسَ لَا تَكْسِفُ فِي سُنَّةِ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَ لَهَا إلَّا عِنْدَ الِاسْتِسْرَارِ إذَا وَقَعَ الْقَمَرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَبْصَارِ النَّاسِ عَلَى مُحَاذَاةٍ مَضْبُوطَةٍ وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ لَا يَخْسِفُ إلَّا فِي لَيَالِي الْإِبْدَارِ عَلَى مُحَاذَاةٍ مَضْبُوطَةٍ لِتَحَوُّلِ الْأَرْضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ فَمَعْرِفَةُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لِمَنْ صَحَّ حِسَابُهُ مِثْلُ مَعْرِفَةِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ لَيْلَةَ الْحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَطْلُعَ الْهِلَالُ وَإِنَّمَا يَقَعُ الشَّكُّ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ . فَنَقُولُ الْحَاسِبُ غَايَةُ مَا يُمْكِنُهُ إذَا صَحَّ حِسَابُهُ أَنْ يَعْرِفَ مَثَلًا أَنَّ الْقُرْصَيْنِ اجْتَمَعَا فِي السَّاعَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَأَنَّهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَكُونُ قَدْ فَارَقَهَا الْقَمَرُ إمَّا بِعَشْرِ دَرَجَاتٍ مَثَلًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ . وَالدَّرَجَةُ هِيَ جُزْءٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا مِنْ الْفَلَكِ .
فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوهُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا سَمَّوْهَا " الدَّاخِلَ " : كُلُّ بُرْجٍ اثْنَا عَشَرَ دَرَجَةً وَهَذَا غَايَةُ مَعْرِفَتِهِ وَهِيَ بِتَحْدِيدِكُمْ بَيْنَهُمَا مِنْ الْبُعْدِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ . هَذَا الَّذِي يَضْبُطُهُ بِالْحِسَابِ . أَمَّا كَوْنُهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى فَهَذَا أَمْرٌ حِسِّيٌّ طَبِيعِيٌّ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا حِسَابِيًّا رِيَاضِيًّا . وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَقُولَ : اسْتَقْرَأْنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى كَذَا وَكَذَا دَرَجَةً يُرَى قَطْعًا أَوْ لَا يُرَى قَطْعًا . فَهَذَا جَهْلٌ وَغَلَطٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجْرِي عَلَى قَانُونٍ وَاحِدٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . بَلْ إذَا كَانَ بُعْدُهُ مَثَلًا عِشْرِينَ دَرَجَةً فَهَذَا يُرَى مَا لَمْ يَحُلْ حَائِلٌ وَإِذَا كَانَ عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا لَا يُرَى وَأَمَّا مَا حَوْلَ الْعَشْرَةِ فَالْأَمْرُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الرُّؤْيَةِ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَخْتَلِفُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ لِحِدَّةِ الْبَصَرِ وكلاله فَمَعَ دِقَّتِهِ يَرَاهُ الْبَصَرُ الْحَدِيدُ دُونَ الْكَلِيلِ وَمَعَ تَوَسُّطِهِ يَرَاهُ غَالِبُ النَّاسِ وَلَيْسَتْ أَبْصَارُ النَّاسِ مَحْصُورَةً بَيْنَ حَاصِرَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَرَاهُ غَالِبُ النَّاسِ وَلَا يَرَاهُ غَالِبُهُمْ : لِأَنَّهُ لَوْ رَآهُ اثْنَانِ عَلَّقَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ لَمْ يَرَوْهُ فَإِذَا قَالَ لَا يُرَى بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَإِنْ قَالَ يُرَى بِمَعْنَى أَنَّهُ يَرَاهُ الْبَصَرُ الْحَدِيدُ . فَقَدْ لَا يَتَّفِقُ فِيمَنْ يَتَرَاءَى لَهُ مَنْ يَكُونُ بَصَرُهُ حَدِيدًا
فَلَا يَلْتَفِتُ إلَى إمْكَانِ رُؤْيَةِ مَنْ لَيْسَ بِحَاضِرِ . السَّبَبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَ بِكَثْرَةِ الْمُتَرَائِينَ وَقِلَّتِهِمْ فَإِنَّهُمْ إذَا كَثُرُوا كَانَ أَقْرَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَرَاهُ لِحِدَّةِ بَصَرِهِ وَخِبْرَتِهِ بِمَوْضِعِ طُلُوعِهِ وَالتَّحْدِيقِ نَحْوَ مَطْلَعِهِ وَإِذَا قَلُّوا : فَقَدْ لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ فَإِذَا ظَنَّ أَنَّهُ يُرَى قَدْ يَكُونُونَ قَلِيلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرَوْهُ وَإِذَا قَالَ : لَا يُرَى فَقَدْ يَكُونُ الْمُتَرَاءُونَ كَثِيرًا فِيهِمْ مَنْ فِيهِ قُوَّةٌ عَلَى إدْرَاكِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ غَيْرُهُ . السَّبَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَكَانِ التَّرَائِي فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَعْلَى مَكَانًا فِي مَنَارَةٍ أَوْ سَطْحٍ عَالٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَكُونُ عَلَى الْقَاعِ الصَّفْصَفِ أَوْ فِي بَطْنِ وَادٍ . كَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ أَمَامَ أَحَدِ الْمُتَرَائِينَ بِنَاءٌ أَوْ جَبَلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَرَاهُ غَالِبًا وَإِنْ مَنْعَهُ أَحْيَانًا وَقَدْ يَكُونُ لَا شَيْءَ أَمَامَهُ . فَإِذَا قِيلَ : يُرَى مُطْلَقًا لَمْ يَرَهُ الْمُنْخَفِضُ وَنَحْوُهُ وَإِذَا قِيلَ لَا يُرَى فَقَدْ يَرَاهُ الْمُرْتَفِعُ وَنَحْوُهُ وَالرُّؤْيَةُ تَخْتَلِفُ بِهَذَا اخْتِلَافًا ظَاهِرًا . السَّبَبُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ وَقْتِ التَّرَائِي وَذَلِكَ أَنَّ عَادَةَ الحساب أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِبُعْدِهِ وَقْتَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَفِي تِلْكَ
السَّاعَةِ
يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الشَّمْسِ فَيَكُونُ نُورُهُ قَلِيلًا وَتَكُونُ حُمْرَةُ
شُعَاعِ الشَّمْسِ مَانِعًا لَهُ بَعْضَ الْمَنْعِ فَكُلَّمَا انْخَفَضَ إلَى
الْأُفُقِ بَعُدَ عَنْ الشَّمْسِ فَيَقْوَى شَرْطُ الرُّؤْيَةِ وَيَبْقَى
مَانِعُهَا فَيَكْثُرُ نُورُهُ وَيَبْعُدُ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ فَإِذَا ظَنَّ
أَنَّهُ لَا يُرَى وَقْتَ الْغُرُوبِ أَوْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُ يُرَى بَعْدَ ذَلِكَ
وَلَوْ عِنْدَ هُوِيِّهِ فِي الْمَغْرِبِ وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ يُضْبَطُ حَالُهُ
مِنْ حِينِ وُجُوبِ الشَّمْسِ إلَى حِينِ وُجُوبِهِ فَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يَضْبُطَ عَدَدَ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُرْتَفِعًا بِقَدْرِ مَا
بَيْنَهُمَا مِنْ الْبُعْدِ أَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الضَّوْءِ
وَمَا يَزُولُ مِنْ الشُّعَاعِ الْمَانِعِ لَهُ فَإِنَّ بِذَلِكَ تَحْصُلُ
الرُّؤْيَةُ بِضَبْطِهِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ - يَصِحُّ مَعَ الرُّؤْيَةِ دَائِمًا
أَوْ يَمْتَنِعُ دَائِمًا - فَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَيْسَ هُوَ
فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مُنْضَبِطًا خُصُوصًا إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ (1) .
السَّبَبُ الْخَامِسُ : صَفَاءُ الْجَوِّ وَكَدَرُهُ . لَسْت أَعْنِي إذَا كَانَ
هُنَاكَ حَائِلٌ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ كَالْغَيْمِ وَالْقَتَرِ الْهَائِجِ مِنْ
الْأَدْخِنَةِ وَالْأَبْخِرَةِ وَإِنَّمَا إذَا كَانَ الْجَوُّ بِحَيْثُ يُمْكِنُ
فِيهِ رُؤْيَتُهُ أَمْكَنَ مِنْ بَعْضٍ إذَا كَانَ الْجَوُّ صَافِيًا مِنْ كُلِّ
كَدَرٍ فِي مِثْلِ مَا يَكُونُ فِي الشِّتَاءِ عَقِبَ الْأَمْطَارِ فِي
الْبَرِّيَّةِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ بُخَارٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي
الْجَوِّ بُخَارٌ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ
فِيهِ رُؤْيَتُهُ كَنَحْوِ مَا يَحْصُلُ فِي الصَّيْفِ بِسَبَبِ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَدْخِنَةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَمَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِ صَفَاءِ الْجَوِّ . وَأَمَّا صِحَّةُ مُقَابَلَتِهِ وَمَعْرِفَةِ مَطْلَعِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُمْكِنُ الْمُتَرَائِي أَنْ يَتَعَلَّمَهَا . أَوْ يَتَحَرَّاهُ . فَقَدْ يُقَالُ : هُوَ شَرْطُ الرُّؤْيَةِ كَالتَّحْدِيقِ نَحْوَ الْمَغْرِبِ خَلْفَ الشَّمْسِ فَلَمْ نَذْكُرْهُ فِي أَسْبَابِ اخْتِلَافِ الرُّؤْيَةِ . وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مَا لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْمُتَرَائِينَ الْإِحَاطَةُ مِنْ صِفَةِ الْأَبْصَارِ وَأَعْدَادِهَا وَمَكَانِ التَّرَائِيِ وَزَمَانِهِ وَصَفَاءِ الْجَوِّ وَكَدَرِهِ . فَإِذَا كَانَتْ الرُّؤْيَةُ حُكْمًا تَشْتَرِكُ فِيهِ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا دَاخِلًا فِي حِسَابِ الْحَاسِبِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ يُخْبِرُ خَبَرًا عَامًّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ حَيْثُ رَآهُ عَلَى سَبْعٍ أَوْ ثَمَانِ دَرَجَاتٍ أَوْ تِسْعٍ أَمْ كَيْفَ يُمْكِنُهُ يُخْبِرُ خَبَرًا جَزْمًا أَنَّهُ يُرَى إذَا كَانَ عَلَى تِسْعَةٍ أَوْ عَشَرَةٍ مَثَلًا . وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي قَوْسِ الرُّؤْيَةِ : كَمْ ارْتِفَاعُهُ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ (1) وَيَحْتَاجُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الصَّيْفِ
وَالشِّتَاءِ : إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ فِي الْبُرُوجِ الشَّمَالِيَّةِ مُرْتَفِعَةً أَوْ فِي الْبُرُوجِ الْجَنُوبِيَّةِ مُنْخَفِضَةً . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ خَبَرَهُمْ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ جِنْسِ خَبَرِهِمْ بِالْأَحْكَامِ وَأَضْعَفَ وَذَلِكَ أَنَّهُ هَبْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةَ سَبَبُ الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ . فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُمْكِنُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَجْزِمَ بِنَفْيِهِ إذْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْيَانَهَا وَصِفَاتِهَا وَحَرَكَاتِهَا سَبَبًا لِبَعْضِ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُحِيلُهُ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ لَكِنْ الْمُسْلِمُونَ قِسْمَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ . وَآخَرُ يَقُولُ : بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بَعْضُهُ بِالتَّجْرِبَةِ وَلِأَنَّ الشَّرِيعَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ لَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ } وَالتَّخْوِيفُ إنَّمَا يَكُونُ بِوُجُودِ سَبَبِ الْخَوْفِ فَعُلِمَ أَنَّ كُسُوفَهُمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِأَمْرٍ مَخُوفٍ وَقَوْلُهُ { لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ } رَدٌّ لِمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ . فَإِنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ يَوْمَ مَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَاعْتَقَدَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا خَسَفَتْ مِنْ أَجْلِ مَوْتِهِ تَعْظِيمًا لِمَوْتِهِ وَأَنَّ مَوْتَهُ سَبَبُ خُسُوفِهَا فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَنْخَسِفُ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَاتَ أَحَدٌ وَلَا لِأَجْلِ أَنَّهُ حَيِيَ أَحَدٌ . وَهَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ : مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالُوا . كُنَّا نَقُولُ : وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ فَقَالَ : إنَّهُ لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْقَضَاءِ سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ } الْحَدِيثَ . فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الشُّهُبَ الَّتِي يُرْجَمُ بِهَا لَا يَكُونُ عَنْ سَبَبِ حَدَثٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّ الرَّمْيَ بِهَا لِطَرْدِ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ . وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ . كَمَا قَالَ اللَّهُ : { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا } فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبَ عَذَابٍ ؛ وَلِهَذَا شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْخَوْفِ مَا يَدْفَعُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَأَمَرَ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ - الصَّلَاةُ الطَّوِيلَةُ - وَأَمَرَ بِالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْبَلَاءَ وَالدُّعَاءَ
لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } فَالدُّعَاءُ وَنَحْوُهُ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ . فَإِنْ قُلْت : مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ - وَإِنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إلَى عِلْمِ - مَنْ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِحُدُوثِ أَمْرٍ أَلْبَتَّةَ وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ وَإِثْبَاتَهُ مِنْ جُمْلَةِ التَّنْجِيمِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا فَهِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ : { لَا يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ } وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْعِلَّةَ هُنَا هِيَ الْعِلَّةُ الغائية : أَيْ لَا يَكْسِفَانِ لِيَحْدُثَ عَنْ ذَلِكَ مَوْتٌ أَوْ حَيَاةٌ ؟ قُلْت : قَوْلُ هَذَا جَهْلٌ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَنْفِيَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ . وَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ هُوَ الشَّيْطَانُ فَقَالَ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ : { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ
وَلَا فِي الْعَقْلِ وَمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ نَفْيُ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا نَفْيُ ذَلِكَ جَزْمًا بِغَيْرِ مِثْلُ نَفْيِ بَعْضِ الْجُهَّالِ أَنْ تَكُونَ الْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةً : فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ جَزْمًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي الْجَزْمَ بِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَكِلَاهُمَا جَهْلٌ . فَمِنْ أَيْنَ لَهُ نَفْيُ ذَلِكَ أَوْ نَفْيُ الْعَامِّ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَا قَدْ يَفْهَمُهُ بِفَهْمِهِ النَّاقِصِ . هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } وَقَالَ : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ وَهَكَذَا هُوَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْفَلَكُ الشَّيْءُ الْمُسْتَدِيرُ . وَمِنْهُ يُقَالُ : تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ . قَالَ تَعَالَى : { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } وَالتَّكْوِيرُ هُوَ التَّدْوِيرُ . وَمِنْهُ قِيلَ : كَارَ الْعِمَامَةَ وَكَوَّرَهَا إذَا أَدَارَهَا . وَمِنْهُ قِيلَ : لِلْكُرَةِ كُرَةٌ وَهِيَ الْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ وَلِهَذَا يُقَالُ : لِلْأَفْلَاكِ كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْكُرَةِ كورة تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا وَكَوَّرْت الْكَارَةَ إذَا دَوَّرْتهَا وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } مِثْلِ حُسْبَانِ الرَّحَا وَقَالَ : { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَسْتَدِيرُ مِنْ أَشْكَالِ الْأَجْسَامِ دُونَ الْمُضَلَّعَاتِ مِنْ الْمُثَلَّثِ أَوْ الْمُرَبَّعِ أَوْ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يَتَفَاوَتُ لِأَنَّ زَوَايَاهُ مُخَالِفَةٌ لِقَوَائِمِهِ وَالْجِسْمِ الْمُسْتَدِيرِ مُتَشَابِهُ الْجَوَانِبِ وَالنَّوَاحِي لَيْسَ بَعْضُهُ مُخَالِفًا لِبَعْضِ . { وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ : إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك . فَقَالَ : وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ . إنَّ شَأْنَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ هَكَذَا وَقَالَ بِيَدِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ : وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ } رَوَاهُ . أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهَا أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْفِرْدَوْسَ هِيَ الْأَعْلَى وَالْأَوْسَطُ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الصُّورَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ فَأَمَّا الْمُرَبَّعُ وَنَحْوُهُ فَلَيْسَ أَوْسَطُهُ أَعْلَاهُ بَلْ هُوَ مُتَسَاوٍ . وَأَمَّا إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ : فَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ - الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ قَاضِي
الْبَصْرَةِ مِنْ التَّابِعِينَ - : السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمُنَادِي مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِمَعْرِفَةِ الْآثَارِ وَالتَّصَانِيفِ الْكِبَارِ فِي فُنُونِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السَّمَاءَ عَلَى مِثَالِ الْكَرَّةِ وَأَنَّهَا تَدُورُ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا مِنْ الْكَوَاكِبِ كَدَوْرَةِ الْكُرَةِ عَلَى قُطْبَيْنِ ثَابِتَيْنِ غَيْرِ مُتَحَرِّكَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي نَاحِيَةِ الشَّمَالِ وَالْآخَرُ فِي نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ . قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ جَمِيعَهَا تَدُورُ مِنْ الْمَشْرِقِ تَقَعُ قَلِيلًا عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ فِي حَرَكَاتِهَا وَمَقَادِيرِ أَجْزَائِهَا إلَى أَنْ تَتَوَسَّطَ السَّمَاءَ ثُمَّ تَنْحَدِرُ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ . كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي كُرَةٍ تُدِيرُهَا جَمِيعَهَا دَوْرًا وَاحِدًا . قَالَ : وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ حَرَكَاتِهَا مِنْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِثْلُ الْكُرَةِ . قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ لَا يُوجَدُ طُلُوعُهَا وَغُرُوبُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ عَلَى الْمَشْرِقِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ . قَالَ : فَكُرَةُ الْأَرْضِ مُثَبَّتَةٌ فِي وَسَطِ كَرَّةِ السَّمَاءِ كَالنُّقْطَةِ فِي الدَّائِرَةِ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ جُرْمَ كُلِّ كَوْكَبٍ يُرَى فِي جَمِيعِ نَوَاحِي السَّمَاءَ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ
الْجِهَاتِ بِقَدْرِ وَاحِدٍ فَاضْطِرَارُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضَ وَسَطَ السَّمَاءِ . وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ النَّبَوِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْعَرْشَ سَقْفُ الْجَنَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ مَعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ مُتَنَاقِضٌ أَوْ مُقْتَضٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَحْتَ بَعْضِ خَلْقِهِ " كَمَا احْتَجَّ بَعْضُ الْجَهْمِيَّة عَلَى إنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ بِاسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزَمٌ كَوْنَ الرَّبِّ أَسْفَلَ . وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ فِي تَصَوُّرِ الْأَمْرِ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ وَأَنَّ الْمُحِيطَ الَّذِي هُوَ السَّقْفُ هُوَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّ الْمَرْكَزَ الَّذِي هُوَ بَاطِنُ ذَلِكَ وَجَوْفُهُ وَهُوَ قَعْرُ الْأَرْضِ هُوَ " سِجِّينٌ " " وَأَسْفَلُ سَافِلِينَ " عَلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ اللَّهِ بَيْنَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَبَيْنَ سِجِّينٍ مَعَ أَنَّ الْمُقَابَلَةَ : إنَّمَا تَكُونُ فِي الظَّاهِرِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ أَوْ بَيْنَ السِّعَةِ وَالضِّيقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُلُوَّ مُسْتَلْزَمٌ لِلسِّعَةِ وَالضِّيقِ مُسْتَلْزِمٌ لِلسُّفُولِ وَعَلِمَ أَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ تَحْتَهَا قَطُّ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً مُحِيطَةً وَكَذَلِكَ كُلَّمَا عَلَا كَانَ أَرْفَعَ وَأَشْمَلَ . وَعَلِمَ أَنَّ الْجِهَةَ قِسْمَانِ : قِسْمٌ ذَاتِيٌّ . وَهُوَ الْعُلُوُّ وَالسُّفُولُ فَقَطْ . وَقِسْمٌ إضَافِيٌّ : وَهُوَ مَا يُنْسَبُ إلَى الْحَيَوَانِ بِحَسَبِ حَرَكَتِهِ : فَمَا أَمَامَهُ
يُقَالُ لَهُ : أَمَامٌ وَمَا خَلْفَهُ يُقَالُ لَهُ خَلْفٌ وَمَا عَنْ يَمِينِهِ يُقَالُ لَهُ الْيَمِينُ وَمَا عَنْ يَسْرَتِهِ يُقَالُ لَهُ الْيَسَارُ وَمَا فَوْقَ رَأْسِهِ يُقَالُ لَهُ فَوْقٌ وَمَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ يُقَالُ لَهُ تَحْتٌ وَذَلِكَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ . أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَلَّقَ رِجْلَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَرَأْسُهُ إلَى الْأَرْضِ أَلَيْسَتْ السَّمَاءُ فَوْقَهُ وَإِنْ قَابَلَهَا بِرِجْلَيْهِ وَكَذَلِكَ النَّمْلَةُ أَوْ غَيْرُهَا لَوْ مَشَى تَحْتَ السَّقْفِ مُقَابِلًا لَهُ بِرِجْلَيْهِ وَظَهْرُهُ إلَى الْأَرْضِ لَكَانَ الْعُلُوُّ مُحَاذِيًا لَرِجْلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ وَأَسْفَلُ سَافِلِينَ يَنْتَهِي إلَى جَوْفِ الْأَرْضِ . وَالْكَوَاكِبُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مُحَاذِيًا لِرُءُوسِنَا وَبَعْضُهَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ الْفَلَكِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا تَحْتَ شَيْءٍ بَلْ كُلُّهَا فَوْقَنَا فِي السَّمَاءِ وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ إذَا تَصَوَّرَ هَذَا يَسْبِقُ إلَى وَهْمِهِ السُّفْلُ الْإِضَافِيُّ كَمَا احْتَجَّ بِهِ الجهمي الَّذِي أَنْكَرَ عُلُوَّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَخَيَّلَ عَلَى مَنْ لَا يَدْرِي أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَقَدْ جَعَلَهُ تَحْتَ نِصْفِ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ جَعَلَهُ فَلَكًا آخَرَ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَاهِلُ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَازِمٌ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِاَللَّهِ وَلَا هِيَ لَازِمَةٌ بَلْ هَذَا يُصَدِّقُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ الْإِدْلَاءِ ؛
فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَدُلُّ عَلَى إحَاطَةِ الْعَرْشِ كَوْنُهُ سَقْفَ الْمَخْلُوقَاتِ . وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى قَوْلِهِ هَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ التِّرْمِذِيُّ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ الْأَمْرُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَمْ يَعْرِفْ صُورَةَ الْمَخْلُوقَاتِ وَخَشِيَ أَنْ يَتَأَوَّلهُ الجهمي أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ قَالَ : هَكَذَا وَإِلَّا فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا . وَمَا عُلِمَ بِالْمَعْقُولِ مِنْ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ يُصَدِّقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَيَشْهَدُ لَهُ . فَنَقُولُ : إذَا تَبَيَّنَ أَنَّا نَعْرِفُ مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ اسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ عُلِمَ أَنَّ الْمُنْكِرَ لَهُ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ لَكِنْ الْمُتَوَقِّفُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَزَلْ يَسْتَفِيدُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ لَا يَثِقُ بِهَا . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ } وَأَنَّ كَوْنَ بَعْضِ الْحَرَكَاتِ الْعَالِيَةِ سَبَبٌ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ مِمَّا لَا يُنْكَرُ بَلْ إمَّا أَنْ يُقْبَلَ أَوْ لَا يُرَدَّ . فَالْقَوْلُ بِالْأَحْكَامِ النُّجُومِيَّةُ بَاطِلٌ عَقْلًا مُحَرَّمٌ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ وَإِنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بَلْ تَأْثِيرُ الْأَرْوَاحِ وَغَيْرِهَا
مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِهِ وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ قُلُوبِ الْآدَمِيِّينَ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُؤَثِّرَاتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَالصَّابِئَةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِأَحْكَامِ النُّجُومِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِر الْأُمَمِ فَهُوَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ جُزْءُ السَّبَبِ وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ أَوْ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَمَامِ السَّبَبِ فَالْعِلْمُ بِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ وَإِنْ فُرِضَ الْعِلْمُ بِهِ فَمَحَلُّ تَأْثِيرِهِ لَا يَنْضَبِطُ ؛ إذْ لَيْسَ تَأْثِيرُ خُسُوفِ الشَّمْسِ فِي الْإِقْلِيمِ الْفُلَانِيِّ بِأَوْلَى مِنْ الْإِقْلِيمِ الْآخَرِ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ قَدْ حُصِّلَ بِشُرُوطِهِ وَعُلِمَ بِهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا يَصْغُرُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ يُعَارِضُ مُقْتَضَى ذَلِكَ السَّبَبِ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ عِنْدَ الْخُسُوفِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ يَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . وَالْمُنَجِّمُونَ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ كَبِيرُهُمْ " بَطْلَيْمُوسُ " ضَجِيجُ الْأَصْوَاتِ فِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ بِفُنُونِ الدَّعَوَاتِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ يُحَلِّلُ مَا عَقَدْته الْأَفْلَاكُ الدَّائِرَاتُ فَصَارَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ إنْ حَدَثَ سَبَبُ خَيْرٍ كَانَ ذَلِكَ : الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ يُقَوِّيهِ وَيُؤَيِّدُهُ وَإِنْ حَدَثَ سَبَبٌ شَرٍّ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ يَدْفَعُهُ وَكَذَلِكَ اسْتِخَارَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ إذَا هَمَّ بِأَمْرِ كَمَا
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ } الْحَدِيثَ فَهَذِهِ الِاسْتِخَارَةُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ خَالِقِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ الطَّالِعَ فِيمَا يُرِيدُ فِعْلَهُ . فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ غَايَتُهُ تَحْصِيلُ سَبَبٍ وَاحِدٍ مِنْ أَسْبَابِ النُّجْحِ إنْ صَحَّ . وَالِاسْتِخَارَةُ أَخْذٌ لِلنُّجْحِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْخِيَرَةَ فَإِمَّا أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَ الْإِنْسَانِ وَيُيَسِّرَ الْأَسْبَابَ أَوْ يُعَسِّرَهَا وَيَصْرِفَهُ عَنْ ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ } الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْعَرَّافُ يَعُمُّ الْمُنَجِّمَ وَغَيْرَهُ إمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَاد مَا زَادَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه فَقَدْ تَبَيَّنَ تَحْرِيمُ الْأَخْذِ بِأَحْكَامِ النُّجُومِ عِلْمًا أَوْ عَمَلًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ . لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحَوَادِثِ وَشُرُوطَهَا وَمَوَانِعَهَا لَا تُضْبَطُ بِضَبْطِ حَرَكَةِ بَعْضِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ الْإِصَابَةُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ بَقِيَّةُ الْأَسْبَابِ مَوْجُودَةً . وَالْمَوَانِعُ مُرْتَفِعَةً . لَا أَنَّ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٍ مُطَّرِدٍ لَازِمًا أَوْ غَالِبًا . وَحُذَّاقُ الْمُنَجِّمِينَ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ . وَيَعْرِفُونَ أَنَّ طَالِعَ الْبِلَادِ لَا
يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ بِهِ غَالِبًا لِمُعَارَضَةِ ؛ طَالِعٍ لِوَقْتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَانِعِ وَيَقُولُونَ : إنَّ الْأَحْكَامَ مَبْنَاهَا عَلَى الْحَدْسِ وَالْوَهْمِ . فَنُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَفِي الْأَحْكَامِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ يُعْلَمُ بِأَدِلَّةِ الْعُقُولِ امْتِنَاعُ ضَبْطِ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ بِأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَمَّا نَظُنُّ مِنْ مَنْفَعَتِهِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ عُلُومٍ صَادِقَةٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مَنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَبَيْنَ ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا وَأَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ . وَلَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْحَاسِبَ إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ فِي حِسَابِ الدَّقَائِقِ وَالثَّوَانِي كَانَ غَايَتُهُ مَا لَا يُفِيدُ . وَإِنَّمَا تَعِبُوا عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْأَحْكَامِ . وَهِيَ ظُنُونٌ كَاذِبَةٌ . أَمَّا الْكَلَامُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَإِنْ كَانَ عِلْمًا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ ظَنًّا مِثْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ الرَّاجِحِ فَهُوَ عَمَلٌ بِعِلْمِ . وَهُوَ ظَنٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ . آخَرُ مَا وُجِدَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ رَأَى بَعْضُهُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ
عِنْدَ حَاكِمِ الْمَدِينَةِ : فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَصُومُوا الْيَوْمَ الَّذِي
فِي الظَّاهِرِ التَّاسِعُ . وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ الْعَاشِرَ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، يَصُومُونَ التَّاسِعَ فِي الظَّاهِرِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ
وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ عَاشِرًا وَلَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُ
تِلْكَ الرُّؤْيَةِ . فَإِنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ
تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ }
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ . وَعَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ
وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَعَلَى هَذَا
الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ . فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ
وَقَفُوا بِعَرَفَةَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ خَطَأً أَجْزَأَهُمْ الْوُقُوفُ
بِالِاتِّفَاقِ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي حَقِّهِمْ . وَلَوْ وَقَفُوا الثَّامِنَ خَطَأً فَفِي الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْوُقُوفِ أَيْضًا وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ وَمَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قَالَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - " إنَّمَا عَرَفَةُ الْيَوْمُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ " وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْهِلَالِ وَالشَّهْرِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وَالْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَهَلُّ بِهِ : أَيْ يُعْلَنُ بِهِ وَيُجْهَرُ بِهِ فَإِذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ وَيَسْتَهِلُّوا لَمْ يَكُنْ هِلَالًا . وَكَذَا الشَّهْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ الشُّهْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ الشَّهْرُ قَدْ دَخَلَ وَإِنَّمَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؟ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ إذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ أَوَّلَ الشَّهْرِ سَوَاءٌ ظَهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَاسْتَهَلُّوا بِهِ أَوْ لَا . وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ ظُهُورُهُ لِلنَّاسِ وَاسْتِهْلَالُهُمْ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْم تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْم تُضَحُّونَ } أَيْ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَعْلَمُونَ أَنَّهُ وَقْتُ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى . فَإِذَا لَمْ تَعْلَمُوهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ . وَصَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ : هَلْ هُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ . أَوْ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ ؟ جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَاشِرِ . كَمَا أَنَّهُمْ لَوْ شَكُّوا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ ؛ هَلْ طَلَعَ الْهِلَالُ ؟ أَمْ لَمْ يَطْلُعْ ؟ فَإِنَّهُمْ يَصُومُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا يَوْمُ الشَّكِّ الَّذِي رُوِيَتْ فِيهِ الْكَرَاهَةُ الشَّكُّ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ شَعْبَانَ . وَإِنَّمَا الَّذِي يَشْتَبِهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا : لَوْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ : هَلْ يُفْطِرُ ؟ أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِيَةُ : لَوْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ أَخْبَرَهُ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ هَلْ يَكُونُ فِي حَقِّهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ هُوَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ بِحَسَبِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي لَمْ تَشْتَهِرْ عِنْدَ النَّاسِ ؟ أَوْ هُوَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ الَّذِي اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ ؟ . فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فَالْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ لَا يُفْطِرُ عَلَانِيَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْفِطْرَ كَمَرَضِ وَسَفَرٍ وَهَلْ يُفْطِرُ سِرًّا عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَصَحُّهُمَا لَا يُفْطِرُ سِرًّا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِمَا . وَفِيهِمَا قَوْلٌ أَنَّهُ يُفْطِرُ سِرًّا كَالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَيَا هِلَالَ شَوَّالٍ فَأَفْطَرَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُفْطِرْ الْآخَرُ . فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ قَالَ : لِلَّذِي أَفْطَرَ لَوْلَا صَاحِبُك لَأَوْجَعْتُك ضَرْبًا . وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ وَاَلَّذِي صَامَهُ الْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ الْعِيدِ الَّذِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِهِ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ . وَقَالَ : { أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صَوْمِكُمْ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيَوْمَ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ } . فَاَلَّذِي نَهَى عَنْ صَوْمِهِ هُوَ الْيَوْمَ الَّذِي يُفْطِرُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَنْسُكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ . وَهَذَا يَظْهَرُ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ ذِي الْحِجَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقِفَ قَبْلَ النَّاسِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ الثَّامِنُ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ رُؤْيَتِهِ هُوَ التَّاسِعَ وَهَذَا لِأَنَّ فِي انْفِرَادِ الرَّجُلِ فِي الْوُقُوفِ وَالذَّبْحِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ مَا فِي إظْهَارِهِ لِلْفِطْرِ . وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ التَّاسِعِ فِي حَقِّ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ أَوْ أَخْبَرَهُ ثِقَتَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ وَهُوَ الْعَاشِرُ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْعَاشِرُ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الْخَفِيَّةِ فَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
فَمَنْ أَمَرَهُ بِالصَّوْمِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ الَّذِي هُوَ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الْخَفِيَّةِ مِنْ شَوَّالٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُ . بِالْفِطْرِ سِرًّا سَوَّغَ لَهُ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ وَاسْتَحَبَّهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ . وَمَنْ أَمَرَهُ بِالْفِطْرِ سِرًّا لِرُؤْيَتِهِ نَهَاهُ عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ كَهِلَالِ شَوَّالٍ الَّذِي انْفَرَدَ بِرُؤْيَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَكُونُ الْإِمَامُ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ إثْبَاتُ الْهِلَالِ مُقَصِّرًا لِرَدِّهِ شَهَادَةَ الْعُدُولِ إمَّا لِتَقْصِيرِهِ . فِي الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَإِمَّا رَدَّ شَهَادَتَهُمْ لِعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَيْسَتْ بِشَرْعِيَّةِ أَوْ لِاعْتِمَادِهِ . عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُرَى . قِيلَ : مَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا كَانَ أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُفَرِّطًا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ الْهِلَالُ وَيَشْتَهِرُ بِحَيْثُ يَتَحَرَّى النَّاسُ فِيهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي الْأَئِمَّةِ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . فَخَطَؤُهُ وَتَفْرِيطُهُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّطُوا وَلَمْ يُخْطِئُوا .
وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِسَابِ النُّجُومِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } . وَالْمُعْتَمِدُ عَلَى الْحِسَابِ فِي الْهِلَالِ كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ فِي الشَّرِيعَةِ مُبْتَدِعٌ فِي الدِّينِ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي الْعَقْلِ وَعِلْمِ الْحِسَابِ . فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ . بِالْهَيْئَةِ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَنْضَبِطُ بِأَمْرٍ حِسَابِيٍّ وَإِنَّمَا غَايَةُ الْحِسَابِ مِنْهُمْ إذَا عَدَلَ أَنْ يَعْرِفَ كَمْ بَيْنَ الْهِلَالِ وَالشَّمْسِ مِنْ دَرَجَةٍ وَقْتَ الْغُرُوبِ مَثَلًا ؛ لَكِنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ مَضْبُوطَةً بِدَرَجَاتٍ مَحْدُودَةٍ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حِدَّةِ النَّظَرِ وكلاله وَارْتِفَاعِ الْمَكَانِ الَّذِي يَتَرَاءَى فِيهِ الْهِلَالُ وَانْخِفَاضِهِ وَبِاخْتِلَافِ صَفَاءِ . الْجَوِّ وَكَدَرِهِ . وَقَدْ يَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ لِثَمَانِ دَرَجَاتٍ وَآخَرُ لَا يَرَاهُ لِثِنْتَيْ عَشْرَ دَرَجَةً ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْحِسَابِ فِي قَوْسِ الرُّؤْيَةِ تَنَازُعًا مُضْطَرِبًا وَأَئِمَّتُهُمْ : كَبَطْلَيْمُوسَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِحَرْفِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ حِسَابِيٌّ . وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ مِثْلُ كوشيار الديلمي وَأَمْثَالِهِ . لَمَّا رَأَوْا الشَّرِيعَةَ عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْهِلَالِ فَرَأَوْا الْحِسَابَ طَرِيقًا تَنْضَبِطُ فِيهِ
الرُّؤْيَةُ وَلَيْسَتْ طَرِيقَةٌ مُسْتَقِيمَةً وَلَا مُعْتَدِلَةً بَلْ خَطَؤُهَا كَثِيرٌ وَقَدْ جُرِّبَ وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ كَثِيرًا : هَلْ يُرَى ؟ أَمْ لَا يُرَى ؟ وَسَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّهُمْ ضَبَطُوا بِالْحِسَابِ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ فَأَخْطَئُوا طَرِيقَ الصَّوَابِ وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنْت أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي يُوَافِقُهُ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ كَمَا تَكَلَّمْت عَلَى حَدِّ الْيَوْمِ أَيْضًا وَبَيَّنْت أَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَظْهَرُ بِسَبَبِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ الْعِشَاءِ مِنْ حِصَّةِ الْفَجْرِ إنَّمَا يَصِحُّ كَلَامُهُ لَوْ كَانَ الْمُوجِبُ لِظُهُورِ النُّورِ وَخَفَائِهِ مُجَرَّدُ مُحَاذَاةِ الْأُفُقِ الَّتِي تُعْلَمُ بِالْحِسَابِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْأَبْخِرَةِ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ وَالْبُخَارُ يَكُونُ فِي الشِّتَاءِ وَالْأَرْضِ الرَّطْبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ فِي الصَّيْفِ وَالْأَرْضِ الْيَابِسَةِ . وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ فَسَدَتْ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ . وَلِهَذَا تُوجَدُ حِصَّةُ الْفَجْرِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ أَطْوَلَ مِنْهَا فِي زَمَانِ الصَّيْفِ . وَالْآخِذُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ يُشْكِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ حِصَّةَ الْفَجْرِ عِنْدَهُ تَتْبَعُ النَّهَارَ وَهَذَا أَيْضًا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ وَمَنْ يَصُومُ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُنْسَبُ
إلَى الْجَهْلِ . وَيُقَالُ لَهُ الْفِطْرُ أَفْضَلُ وَمَا هُوَ مَسَافَةُ
الْقَصْرِ : وَهَلْ إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ مِنْ يَوْمِهِ يُفْطِرُ ؟ ؟ وَهَلْ
يُفْطِرُ السُّفَّارُ مِنْ الْمُكَارِيَةِ وَالتُّجَّارِ وَالْجَمَّالِ
وَالْمَلَّاحِ وَرَاكِبِ الْبَحْرِ ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ
وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
سَوَاءٌ كَانَ سَفَرَ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ
الْأَسْفَارِ الَّتِي لَا يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَتَنَازَعُوا فِي
سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَاَلَّذِي يُسَافِرُ لِيَقْطَعَ الطَّرِيقَ وَنَحْوِ ذَلِكَ
عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ كَمَا تَنَازَعُوا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ .
فَأَمَّا السَّفَرُ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ
الْفِطْرُ مَعَ الْقَضَاءِ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَيَجُوزُ الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الصِّيَامِ أَوْ عَاجِزًا وَسَوَاءٌ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ لَمْ يَشُقَّ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي الظِّلِّ وَالْمَاءِ وَمَعَهُ مَنْ يَخْدِمُهُ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ وَالْقَصْرُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْفِطْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُفْطِرِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمُفْطِرَ عَلَيْهِ إثْمٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَخِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ . وَهَكَذَا السُّنَّةُ لِلْمُسَافِرِ أَنَّهُ يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّرْبِيعِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ : كَمَذْهَبِ مَالِكٌ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ . وَلَمْ تَتَنَازَعْ الْأُمَّةُ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ ؛ بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصِّيَامِ لِلْمُسَافِرِ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الصَّائِمَ فِي
السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ وَإِنَّهُ إذَا صَامَ لَمْ يَجْزِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ } لَكِنْ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يُفْطِرَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَنَسٍ قَالَ : كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ : إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ " { خِيَارُكُمْ الَّذِينَ فِي السَّفَرِ يَقْصُرُونَ وَيُفْطِرُونَ } . وَأَمَّا مِقْدَارُ السَّفَرِ الَّذِي يُقْصَرُ فِيهِ وَيُفْطَرُ : فَمَذْهَبُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَهُوَ سِتَّةُ عَشَرَ فَرْسَخًا كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وعسفان وَمَكَّةَ وَجُدَّةَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَسِيرَةُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : بَلْ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ فِي أَقَلِّ مِنْ يَوْمَيْنِ . وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَخَلْفُهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونِ بِصَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ . وَإِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . أَظْهَرُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ . كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ يُفْطِرُ إذَا خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ إنَّهُ دَعَا بِمَاءِ فَأَفْطَرَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ } . وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي : فَيُفْطِرُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ سَفَرِهِ يَوْمَيْنِ فِي مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ . وَأَمَّا إذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ فَفِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ سَوَاءً أَمْسَكَ أَوْ لَمْ يُمْسِكْ .
وَيُفْطِرُ
مَنْ عَادَتُهُ السَّفَرُ إذَا كَانَ لَهُ بَلَدٌ يَأْوِي إلَيْهِ . كَالتَّاجِرِ
الْجَلَّابِ الَّذِي يَجْلِبُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ مِنْ السِّلَعِ
وَكَالْمُكَارِي الَّذِي يَكْرِي دَوَابَّهُ مِنْ الْجُلَّابِ وَغَيْرِهِمْ .
وَكَالْبَرِيدِ الَّذِي يُسَافِرُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِهِمْ .
وَكَذَلِكَ الْمَلَّاحُ الَّذِي لَهُ مَكَانٌ فِي الْبَرِّ يَسْكُنُهُ . فَأَمَّا
مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ امْرَأَتُهُ وَجَمِيعُ مَصَالِحِهِ وَلَا
يَزَالُ مُسَافِرًا فَهَذَا لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ . وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ
: كَأَعْرَابِ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ
يُشَتُّونَ فِي مَكَانٍ وَيُصَيِّفُونَ فِي مَكَانٍ إذَا كَانُوا فِي حَالِ ظَعْنِهِمْ
مِنْ الْمَشْتَى إلَى الْمَصِيفِ وَمِنْ الْمَصِيفِ إلَى الْمَشْتَى : فَإِنَّهُمْ
يَقْصُرُونَ . وَأَمَّا إذَا نَزَلُوا بِمَشْتَاهُمْ وَمَصِيفِهِمْ لَمْ
يُفْطِرُوا وَلَمْ يَقْصُرُوا . وَإِنْ كَانُوا يَتَتَبَّعُونَ الْمَرَاعِيَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَكُونُ مُسَافِرًا فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يُصِبْهُ جُوعٌ وَلَا عَطَشٌ
وَلَا تَعَبٌ : فَمَا الْأَفْضَلُ لَهُ الصِّيَامُ ؟ أَمْ الْإِفْطَارُ ؟
فَأَجَابَ
: أَمَّا الْمُسَافِرُ فَيُفْطِرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ وَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَلُ . وَإِنْ صَامَ جَازَ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا يُجْزِئُهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إمَامِ جَمَاعَةٍ بِمَسْجِدِ مَذْهَبُهُ حَنَفِيٌّ ذَكَرَ لِجَمَاعَتِهِ
أَنَّ عِنْدَهُ كِتَابًا فِيهِ أَنَّ الصِّيَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ
يَنْوِ بِالصِّيَامِ قَبْلَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ أَوْ بَعْدَهَا أَوْ وَقْتَ
السُّحُورِ وَإِلَّا فَمَالَهُ فِي صِيَامِهِ أَجْرٌ : فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ ؟
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ
عَلَيْهِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ النِّيَّةُ فَإِذَا كَانَ
يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ فَإِنَّ
النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ فَلَا بُدَّ
أَنْ يَنْوِيَهُ . وَالتَّكَلُّمُ بِالنِّيَّةِ لَيْسَ وَاجِبًا بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ فَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَصُومُونَ بِالنِّيَّةِ
وَصَوْمُهُمْ صَحِيحٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا فِي صَائِمِ رَمَضَانَ هَلْ يَفْتَقِرُ كُلَّ يَوْمٍ إلَى
نِيَّةٍ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ صَوْمَهُ فَقَدْ
نَوَى صَوْمَهُ سَوَاءٌ تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ أَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ . وَهَذَا
فِعْلُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ يَنْوِي الصِّيَامَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ : هَلْ يَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يُفْطِرَ بِمُجَرَّدِ
غُرُوبِهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا غَابَ جَمِيعُ الْقُرْصِ أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَلَا عِبْرَةَ بِالْحُمْرَةِ
الشَّدِيدَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْأُفُقِ .
وَإِذَا
غَابَ جَمِيعُ الْقُرْصِ ظَهَرَ السَّوَادُ مِنْ الْمَشْرِقِ كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ
مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ
أَفْطَرَ الصَّائِمُ } .
وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا أَكَلَ بَعْدَ أَذَانِ الصُّبْحِ فِي رَمَضَانَ مَاذَا يَكُونُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ كَمَا كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُونَ
فِي دِمَشْقَ وَغَيْرِهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنِ يَسِيرٍ . وَإِنْ شَكَّ : هَلْ طَلَعَ
الْفَجْرُ ؟ أَوْ لَمْ يَطْلُعْ ؟ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ الطُّلُوعَ وَلَوْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ
طُلُوعِ الْفَجْرِ فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا
قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ الثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ وَقَالَ بِهِ طَائِفَةٌ
مِنْ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْقَضَاءُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ
الْأَرْبَعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَصُومَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَيُزْبِدُ
وَيَخْبِطُ فَيَبْقَى أَيَّامًا لَا يُفِيقُ حَتَّى يُتَّهَمَ أَنَّهُ جُنُونٌ .
وَلَمْ يُتَحَقَّقْ ذَلِكَ مِنْهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الصَّوْمُ يُوجِبُ لَهُ مِثْلَ هَذَا الْمَرَضِ
فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَقْضِي فَإِنْ كَانَ هَذَا يُصِيبُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ
صَامَ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الصِّيَامِ فَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ حَامِلٍ رَأَتْ شَيْئًا شِبْهَ الْحَيْضِ وَالدَّمُ مُوَاظِبُهَا
وَذَكَرَ الْقَوَابِلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُفْطِرُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْجَنِينِ
وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَرْأَةِ أَلَمٌ : فَهَلْ
يَجُوزُ
لَهَا الْفِطْرُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ الْحَامِلُ تَخَافُ عَلَى جَنِينِهَا فَإِنَّهَا تُفْطِرُ وَتَقْضِي
عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يَوْمًا وَتُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا رِطْلًا مِنْ
خُبْزٍ بِأُدْمِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ
يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ .
وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ :
فِيمَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَمَا لَا يُفْطِرُهُ وَهَذَا نَوْعَانِ :
مِنْهُ مَا يُفْطِرُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ
وَالْجِمَاعُ قَالَ تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } فَأَذِنَ فِي الْمُبَاشَرَةِ فَعُقِلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ الصِّيَامُ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَمَّا قَالَ أَوَّلًا : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } كَانَ مَعْقُولًا عِنْدَهُمْ أَنَّ الصِّيَامَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَلَفْظُ " الصِّيَامِ " كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ويستعملونه كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ " . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَمَرَ بِصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَرْسَلَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِصَوْمِهِ فَعُلِمَ أَنَّ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ يُنَافِي الصَّوْمَ فَلَا تَصُومُ الْحَائِضُ لَكِنْ تَقْضِي الصِّيَامَ . وَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ { لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إنْزَالَ الْمَاءِ مِنْ الْأَنْفِ يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ .
وَفِي السُّنَنِ حَدِيثَانِ : أَحَدُهُمَا حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ ذَرَعَهُ قَيْءٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ . وَإِنْ استقاء فَلْيَقْضِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ قَالُوا : هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ : لَيْسَ مِنْ ذَا شَيْءٌ . قَالَ الخطابي : يُرِيدُ أَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ إلَّا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ قَالَ : وَمَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا . قَالَ : وَرَوَى يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ لَا يَرَى الْقَيْءَ يُفْطِرُ الصَّائِمَ . قَالَ الْخَطَّابِيَّ : وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد أَنَّ حَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ رَوَاهُ . عَنْ هِشَامٍ كَمَا رَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ . قَالَ : وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا فِي أَنَّ مَنْ استقاء عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ فَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْقَضَاءِ وَقَالَ عَطَاءٍ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَحُكِيَ عَنْ الأوزاعي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.
قُلْت وَهُوَ مُقْتَضَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فِي إيجَابِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُحْتَجِمِ فَإِنَّهُ إذَا أَوْجَبَهَا عَلَى الْمُحْتَجِمِ فَعَلَى المستقيء أَوْلَى لَكِنْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَاَلَّذِينَ لَمْ يُثْبِتُوا هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنْ وَجْهٍ يَعْتَمِدُونَهُ وَقَدْ أَشَارُوا : إلَى عِلَّتِهِ وَهُوَ انْفِرَادُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ بَلْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَالْحَدِيثُ الْأَخِيرُ يَشْهَدُ لَهُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَد وَأَهْلُ السُّنَنِ كَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَأَفْطَرَ } فَذَكَرْت ذَلِكَ لثوبان فَقَالَ : صَدَقَ أَنَا صَبَبْت لَهُ وَضُوءًا لَكِنَّ لَفْظَ أَحْمَد " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَتَوَضَّأَ } . رَوَاهُ . أَحْمَد عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ . قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَحْمَدَ : قَدْ اضْطَرَبُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ يُجَوِّدُهُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثُ حُسَيْنٍ أَرْجَحُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَهَذَا قَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَيْءِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ بِالْوُضُوءِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَالْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ . فَإِذَا قِيلَ إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ كَانَ فِيهِ عَمَلٌ بِالْحَدِيثِ .
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ الدَّمِ الْخَارِجِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ بَلْ قَدْ رَوَى الدارقطني وَغَيْرُهُ عَنْ حميد عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ } وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " حُجَّةِ الْمُخَالِفِ " وَلَمْ يُضَعِّفْهُ وَعَادَتُهُ الْجَرْحُ بِمَا يُمْكِنُ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى " { ثَلَاثٌ لَا تُفْطِرُ : الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ } وَفِي لَفْظٍ " { لَا يُفْطِرْنَ لَا مَنْ قَاءَ وَلَا مَنْ احْتَلَمَ وَلَا مَنْ احْتَجَمَ } فَهَذَا إسْنَادُهُ الثَّابِتُ مَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . هَكَذَا رَوَاهُ . أَبُو دَاوُد وَهَذَا الرَّجُلُ لَا يُعْرَفُ . وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ . ( قُلْت رِوَايَتُهُ عَنْ زَيْدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ مَرْفُوعًا لَا يُخَالِفُ رِوَايَتَهُ
الْمُرْسَلَةَ بَلْ يُقَوِّيهَا وَالْحَدِيثُ ثَابِتٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ؛ لَكِنْ هَذَا فِيهِ " { إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ } . وَأَمَّا حَدِيثُ الْحِجَامَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ " { أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ } أَيْضًا وَلَعَلَّ فِيهِ الْقَيْءَ إنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلِاسْتِقَاءَةِ هُوَ أَيْضًا مَنْسُوخٌ . وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْحِجَامَةِ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ فَإِنَّهُ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ نَاقِلٌ وَبَاقٍ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ فَالنَّاقِلُ هُوَ الرَّاجِحُ فِي أَنَّهُ النَّاسِخُ وَنَسْخُ أَحَدِهِمَا يُقَوِّي نَسْخَ قَرِينِهِ وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ لَيْسَ بِشَيْءِ وَلَوْ قُدِّرَ صِحَّتُهُ لَكَانَ الْمُرَادُ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ . فَإِنَّهُ قَرَنَهُ بِالِاحْتِلَامِ وَمَنْ احْتَلَمَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالنَّائِمِ لَمْ يُفْطِرْ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَأَمَّا مَنْ اسْتَمْنَى فَأَنْزَلَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَلَفْظُ الِاحْتِلَامِ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَنْ احْتَلَمَ فِي مَنَامِهِ . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُفْطِرُ شَيْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَأَنَّ المستقيء إنَّمَا أَفْطَرَ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ رُجُوعِ بَعْضِ الطَّعَامِ وَقَالُوا إنَّ فِطْرَ الْحَائِضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ . وَقَدْ بَسَطْنَا فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ
شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ عَامِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ فِطْرُهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَكَذَلِكَ مَنْ فَوَّتَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ عَامِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَانَ تَفْوِيتُهُ لَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهَا مَا بَقِيَتْ تُقْبَلُ مِنْهُ عَلَى أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَنْ فَوَّتَ الْجُمْعَةَ وَرَمَى الْجِمَارَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ وَهَذَا قَدْ أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ ؟ قِيلَ هَذَا إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَتَقَيَّأُ لِعُذْرٍ كَالْمَرِيضِ يَتَدَاوَى بِالْقَيْءِ أَوْ يَتَقَيَّأُ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ كَمَا تَقَيَّأَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ كَسْبِ الْمُتَكَهِّنِ . وَإِذَا كَانَ الْمُتَقَيِّئُ مَعْذُورًا كَانَ مَا فَعَلَهُ جَائِزًا وَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَرْضَى الَّذِينَ يَقْضُونَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ أَفْطَرُوا بِغَيْرِ عُذْرٍ . وَأَمَّا أَمْرُهُ لِلْمُجَامِعِ بِالْقَضَاءِ فَضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ . وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَمْرَهُ بِالْقَضَاءِ وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَمَا أَهْمَلَهُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ بَيَانُهُ وَلَمَّا لَمْ
يَأْمُرْهُ بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ لَمْ يَبْقَ مَقْبُولًا مِنْهُ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَعَمِّدًا لِلْفِطْرِ لَمْ يَكُنْ نَاسِيًا وَلَا جَاهِلًا . وَالْمَجَامِعُ النَّاسِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَيُذْكَرُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْهُ : أَحَدُهُمَا : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرِينَ . وَالثَّانِيَةُ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٌ . وَالثَّالِثَةُ : عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ يُؤَاخِذْهُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ إثْمٌ وَمَنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا وَلَا مُرْتَكِبًا لِمَا نُهِيَ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يُبْطِلُ عِبَادَتَهُ إنَّمَا يُبْطِلُ الْعِبَادَاتِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ فَعَلَ مَا حُظِرَ عَلَيْهِ . وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ الْحَجَّ لَا يَبْطُلُ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ لَا نَاسِيًا وَلَا مُخْطِئًا لَا الْجِمَاعُ وَلَا غَيْرُهُ . وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ وَالْفِدْيَةُ فَتِلْكَ وَجَبَتْ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمُتْلَفِ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِمِثْلِهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ نَائِمٌ ضَمِنَهُ بِذَلِكَ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ إذَا وَجَبَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بِمَنْزِلَةِ دِيَةِ الْمَقْتُولِ خَطَأً وَالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ بِقَتْلِهِ خَطَأً بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا سَائِرُ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَالتَّرَفُّهُ الْمُنَافِي لِلتَّفَثِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ . وَلِهَذَا كَانَتْ فِدْيَتُهَا مِنْ جِنْسِ فِدْيَةِ الْمَحْظُورَاتِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ الْمَضْمُونِ بِالْبَدَلِ . فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ إذَا فَعَلَ مَحْظُورًا أَلَّا يَضْمَنَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الصَّيْدَ . وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ هَذَا أَحَدُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ . وَالثَّانِي يَضْمَنُ الْجَمِيعَ مَعَ النِّسْيَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ . وَالثَّالِثُ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا فِيهِ إتْلَافٌ كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ وَالتَّقْلِيمِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ إتْلَافٌ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَاخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَجْوَدُ مِنْ
غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ إزَالَةُ الشِّعْرِ وَالظُّفْرِ مُلْحَقٌ بِاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ لَا بِقَتْلِ الصَّيْدِ هَذَا أَجْوَدُ . وَالرَّابِعُ إنْ قَتَلَ الصَّيْدَ خَطَأً لَا يَضْمَنُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد فَخَرَّجُوا عَلَيْهِ الشَّعَرَ وَالظُّفُرَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَكَذَلِكَ طَرْدُ هَذَا أَنَّ الصَّائِمَ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَلَا قَضَاءَ . عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفْطِرُ النَّاسِيَ وَالْمُخْطِئَ كَمَالِكٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ لَكِنْ خَالَفَهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّاسِي وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُفْطِرُ النَّاسِي وَيُفْطِرُ الْمُخْطِئُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَأَبُو حَنِيفَةَ جَعَلَ النَّاسِيَ مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَقَالُوا النِّسْيَانُ لَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ غُرُوبَ الشَّمْسِ وَأَنْ يُمْسِكَ إذَا شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ . وَهَذَا التَّفْرِيقُ ضَعِيفٌ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ . فَإِنَّ السُّنَّةَ لِلصَّائِمِ أَنْ يُعَجِّلَ الْفِطْرَ وَيُؤَخِّرَ السُّحُورَ وَمَعَ الْغَيْمِ الْمُطْبِقِ لَا يُمْكِنُ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَذْهَبَ وَقْتٌ طَوِيلٌ جِدًّا يَفُوتُ مَعَ الْمَغْرِبِ
وَيَفُوتُ مَعَهُ تَعْجِيلُ الْفُطُورِ وَالْمُصَلِّي مَأْمُورٌ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَتَعْجِيلِهَا فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ غُرُوبُ الشَّمْسِ أُمِرَ بِتَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ إلَى حَدِّ الْيَقِينِ فَرُبَّمَا يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ وَهُوَ لَا يَسْتَيْقِنُ غُرُوبَ الشَّمْسِ وَقَدْ جَاءَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ فِي الْغَيْمِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَتَعْجِيلَ الْعِشَاءِ وَتَأْخِيرَ الظُّهْرِ وَتَقْدِيمَ الْعَصْرِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَقَدْ عَلَّلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِالِاحْتِيَاطِ لِدُخُولِ الْوَقْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الِاحْتِيَاطِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ وَإِنَّمَا سُنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْعُذْرُ وَحَالُ الْغَيْمِ حَالُ عُذْرٍ فَأُخِّرَتْ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ وَقُدِّمَتْ الثَّانِيَةُ لِمَصْلَحَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا التَّخْفِيفُ عَنْ النَّاسِ حَتَّى يُصَلُّوهَا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَجْلِ خَوْفِ الْمَطَرِ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مَعَ الْمَطَرِ . وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَتَيَقَّنَ دُخُولَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَكَذَلِكَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِلْوَحْلِ الشَّدِيدِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٌ وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
الثَّانِي أَنَّ الْخَطَأَ فِي تَقْدِيمِ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ أَوْلَى مِنْ الْخَطَأِ فِي تَقْدِيمِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ فَإِنَّ فِعْلَ هَاتَيْنِ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ بِخِلَافِ تينك فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتٌ لَهُمَا حَالَ الْعُذْرِ وَحَال الِاشْتِبَاهِ حَالُ عُذْرٍ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَعَ الِاشْتِبَاهِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الشَّكِّ . وَهَذَا فِيهِ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَأْخَذِ الْأَوَّلِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ ؛ لَكِنَّهُ احْتِيَاطٌ مَعَ تَيَقُّنِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمُشْتَرَكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا هَذَا الِاسْتِحْبَابَ وَلَا فِي الْعِشَاءِ وَالْعَصْرِ وَلَوْ كَانَ لِعِلْمِ خَوْفِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ لَطُرِدَ هَذَا فِي الْفَجْرِ ثُمَّ يَطَّرِدُ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ . وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّبْكِيرِ بِالْعَصْرِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ فَقَالَ : " { بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ فَإِنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } . فَإِنْ قِيلَ . فَإِذَا كَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ الْمَغْرِبُ مَعَ الْغَيْمِ فَكَذَلِكَ يُؤَخَّرُ الْفُطُورُ قِيلَ : إنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا مَعَ تَقْدِيمِ الْعِشَاءِ بِحَيْثُ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ فَأَمَّا تَأْخِيرُهَا إلَى أَنْ يَخَافَ مَغِيبَ الشَّفَقِ فَلَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْفُطُورِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ . وَلِهَذَا كَانَ الْجَمْعُ الْمَشْرُوعُ مَعَ الْمَطَرِ هُوَ جَمْعَ التَّقْدِيمِ فِي وَقْتِ
الْمَغْرِبِ وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ بِالنَّاسِ الْمَغْرِب إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ بَلْ هَذَا حَرَجٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّاسِ وَإِنَّمَا شُرِعَ الْجَمْعُ لِئَلَّا يُحْرَجَ الْمُسْلِمُونَ . وَأَيْضًا فَلَيْسَ التَّأْخِيرُ وَالتَّقْدِيمُ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَهُمَا مُقْتَرِنَتَيْنِ ؛ بَلْ أَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهْرَ وَيُقَدِّمَ الْعَصْرَ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ فِي الزَّمَانِ . وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِحَيْثُ يُصَلُّونَ الْوَاحِدَةَ وَيَنْتَظِرُونَ الْأُخْرَى لَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذَهَابٍ إلَى الْبُيُوتِ ثُمَّ رُجُوعٍ وَكَذَلِكَ جَوَازُ الْجَمْعِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْمُوَالَاةُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ { أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : أَفْطَرْنَا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ فِي غَيْمٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ : عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ مَعَ الْغَيْمِ التَّأْخِيرُ إلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ الْغُرُوبَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ مَعَ نَبِيِّهِمْ أَعْلَمُ وَأَطْوَعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ . وَالثَّانِي لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَمَرَهُمْ بِالْقَضَاءِ لَشَاعَ ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ فِطْرُهُمْ فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قِيلَ لِهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ : أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ ؟ قَالَ : أو بُدٌّ مِنْ الْقَضَاءِ ؟ .
قِيلَ : هِشَامٌ قَالَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ لَمْ يُرْوَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِذَلِكَ عِلْمٌ : أَنَّ مَعْمَرًا رَوَى عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت هِشَامًا قَالَ : لَا أَدْرِي أَقَضَوْا أَمْ لَا ؟ ذَكَرَ هَذَا وَهَذَا عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ . وَقَدْ نَقَلَ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقَضَاءِ وَعُرْوَةُ أَعْلَمُ مِنْ ابْنِهِ وَهَذَا قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه - وَهُوَ قَرِينُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَيُوَافِقُهُ فِي الْمَذْهَبِ : أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَقَوْلُهُمَا كَثِيرًا مَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ . وَالْكَوْسَجُ سَأَلَ مَسَائِلَهُ لِأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَكَذَلِكَ حَرْبٌ الكرماني سَأَلَ مَسَائِلَهُ لِأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا ؛ وَلِهَذَا يَجْمَعُ التِّرْمِذِيُّ قَوْلَ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ فَإِنَّهُ رَوَى قَوْلَهُمَا مِنْ مَسَائِلِ الْكَوْسَجِ . وَكَذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَكَانُوا يَتَفَقَّهُونَ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ يُقَدِّمُونَ قَوْلَهُمَا عَلَى أَقْوَالِ غَيْرِهِمَا وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِي وَغَيْرِهِمْ هُمْ أَيْضًا مِنْ أَتْبَاعِهِمَا وَمِمَّنْ يَأْخُذُ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ عَنْهُمَا ودَاوُد مِنْ أَصْحَابِ إسْحَاقَ . وَقَدْ كَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ إذَا سُئِلَ عَنْ إسْحَاقَ يَقُولُ : أَنَا أُسْأَلُ
عَنْ
إسْحَاقَ ؟ إسْحَاقَ يُسْأَلُ عَنِّي وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ
وَإِسْحَاقَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ
الْمَرْوَزِي ودَاوُد بْنُ عَلِيٍّ وَنَحْوُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ فُقَهَاءُ
الْحَدِيثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ
قَالَ فِي كِتَابِهِ { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ
الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تُبَيِّنُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَكْلِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْفَجْرُ فَهُوَ
مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِهِ مَأْمُورٌ بِالْأَكْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي
مَوْضِعِهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْكُحْلُ وَالْحُقْنَةُ وَمَا يُقْطَرُ فِي إحْلِيلِهِ وَمُدَاوَاةُ
الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ
فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُفَطِّرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَطَّرَ
بِالْجَمِيعِ لَا بِالْكُحْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَطَّرَ بِالْجَمِيعِ لَا
بِالتَّقْطِيرِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُفَطِّرْ بِالْكُحْلِ وَلَا بِالتَّقْطِيرِ
وَيُفَطِّرُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنَّ الصِّيَامَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الصِّيَامِ وَيَفْسُدُ الصَّوْمُ بِهَا لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُهُ وَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ لَعَلِمَهُ الصَّحَابَةُ وَبَلَّغُوهُ الْأُمَّةَ كَمَا بَلَّغُوا سَائِرَ شَرْعِهِ . فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَا حَدِيثًا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا وَلَا مُسْنَدًا وَلَا مُرْسَلًا - عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي الْكُحْلِ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ . وَلَا هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَد وَلَا سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ . قَالَ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا النفيلي ثنا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النُّعْمَانِ ثنا مَعْبَدُ بْنُ هَوْذَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ . وَقَالَ : لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ } قَالَ أَبُو دَاوُد : وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ . قَالَ [ المنذري ] (*) وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ : قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : ضَعِيفٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي : هُوَ صَدُوقٌ لَكِنْ مَنْ الَّذِي يَعْرِفُ أَبَاهُ . وَعَدَالَتَهُ وَحِفْظَهُ ؟ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مَعْبَدٍ قَدْ عُورِضَ بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ وَهُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اشْتَكَيْت عَيْنِي أَفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ ؟ قَالَ نَعَمْ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ . وَفِيهِ أَبُو عَاتِكَةَ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُفْطِرُ كَالْحُقْنَةِ وَمُدَاوَاةِ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حُجَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ بِمَا رَأَوْهُ مِنْ الْقِيَاسِ وَأَقْوَى مَا احْتَجُّوا بِهِ قَوْلُهُ " { وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا } قَالُوا : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ يُفْطِرُ الصَّائِمَ إذَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَعَلَى الْقِيَاسِ كُلُّ مَا وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ بِفِعْلِهِ مِنْ حُقْنَةٍ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ حَشْوِ جَوْفِهِ . وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا التَّقْطِيرَ قَالُوا : التَّقْطِيرُ لَا يَنْزِلُ إلَى جَوْفِهِ وَإِنَّمَا يَرْشَحُ رَشْحًا فَالدَّاخِلُ إلَى إحْلِيلِهِ كَالدَّاخِلِ إلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ . وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا الْكُحْلَ قَالُوا : الْعَيْنُ لَيْسَتْ كَالْقُبُلِ وَالدُّبُرِ وَلَكِنْ هِيَ تَشْرَبُ الْكُحْلَ كَمَا يَشْرَبُ الْجِسْمُ الدُّهْنَ وَالْمَاءَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا الْكُحْلُ يُفْطِرُ قَالُوا : إنَّهُ يَنْفُذُ إلَى دَاخِلِهِ حَتَّى يتنخمه
الصَّائِمُ لِأَنَّ فِي دَاخِلِ الْعَيْنِ مَنْفَذًا إلَى دَاخِلِ الْحَلْقِ . وَإِذَا كَانَ عُمْدَتُهُمْ هَذِهِ الْأَقْيِسَةَ وَنَحْوَهَا لَمْ يَجُزْ إفْسَادُ الصَّوْمِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا أَنَّ الْقِيَاسَ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً إذَا اُعْتُبِرَتْ شُرُوطُ صِحَّتِهِ فَقَدْ قُلْنَا فِي الْأُصُولِ : إنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا بَيَّنَتْهَا النُّصُوصُ أَيْضًا وَإِنْ دَلَّ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ دِلَالَةً خَفِيَّةً فَإِذَا عَلِمْنَا بِإِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُحَرِّمْ الشَّيْءَ وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا وَاجِبٍ . وَأَنَّ الْقِيَاسَ الْمُثْبِتَ لِوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ فَاسِدٌ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِفْطَارِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مُفْطِرَةً . الثَّانِي أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَحْتَاجُ الْأُمَّةُ إلَى مَعْرِفَتِهَا لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا عَامًّا وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَهَا الْأُمَّةُ فَإِذَا انْتَفَى هَذَا عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ دِينِهِ وَهَذَا كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ رَمَضَانَ وَلَا حَجَّ بَيْتٍ غَيْرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَلَا صَلَاةً مَكْتُوبَةً غَيْرَ الْخَمْسِ وَلَمْ يُوجِبْ الْغُسْلِ فِي مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ بِلَا إنْزَالٍ وَلَا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ الْفَزَعِ الْعَظِيمِ وَإِنْ كَانَ فِي مَظِنَّةِ خُرُوجِ الْخَارِجِ وَلَا سَنَّ
الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا والمروة كَمَا سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَنِيَّ لَيْسَ بِنَجِسِ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ بِإِسْنَادٍ يُحْتَجُّ بِهِ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ مِنْ الْمَنِيِّ مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِذَلِكَ بَلْ أَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَغْسِلَ قَمِيصَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضِ مَعَ قِلَّةِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ مِنْ الْمَنِيِّ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ " { يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالدَّمِ } لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ يُحْتَجُّ بِهِ . وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ وَعَائِشَةَ مِنْ قَوْلِهِمَا . وَغَسْلُ عَائِشَةَ لِلْمَنِيِّ مِنْ ثَوْبِهِ وَفَرْكُهَا إيَّاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فَإِنَّ الثِّيَابَ تُغْسَلُ مِنْ الْوَسَخِ وَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْوُجُوبُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَمْرِهِ لَا سِيَّمَا وَلَمْ يَأْمُرْ هُوَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ ثِيَابِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا نُقِلَ أَنَّهُ أَمَرَ عَائِشَةَ بِذَلِكَ بَلْ أَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ حُسْنِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ .
وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ . وَبِهَذِهِ . الطُّرُقِ يُعْلَمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ الْوُضُوءَ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ وَلَا مِنْ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ يَثْبُتُ مِثْلُهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَحْتَجِمُونَ وَيَتَقَيَّئُونَ وَيُجْرَحُونَ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ قُطِعَ عِرْقُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الدَّمُ وَهُوَ الْفِصَادُ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يَزَالُ أَحَدُهُمْ يَلْمِسُ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ وَبِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ وَالْقُرْآنُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ الْمُرَادُ بِالْمُلَامَسَةِ الْجِمَاعُ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَأَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ إنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إذَا حَرَّكَ الشَّهْوَةَ وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمَسَ النِّسَاءَ فَتَحَرَّكَتْ شَهْوَتُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَكَذَلِكَ مَنْ تَفَكَّرَ فَتَحَرَّكَتْ شَهْوَتُهُ فَانْتَشَرَ وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ الْأَمْرَدَ أَوْ غَيْرَهُ فَانْتَشَرَ . فَالتَّوَضُّؤُ عِنْدَ تَحَرُّكِ الشَّهْوَةِ مِنْ جِنْسِ التَّوَضُّؤِ عِنْدَ الْغَضَبِ وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ
الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ } وَكَذَلِكَ الشَّهْوَةُ الْغَالِبَةُ هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنَّارِ وَالْوُضُوءُ يُطْفِئُهَا فَهُوَ يُطْفِئُ حَرَارَةَ الْغَضَبِ . وَالْوُضُوءُ مِنْ هَذَا مُسْتَحَبٌّ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لِأَنَّ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ يُخَالِطُ الْبَدَنَ فَلْيَتَوَضَّأْ . فَإِنَّ النَّارَ تُطْفَأُ بِالْمَاءِ . وَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ . بَلْ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَاسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ مِنْ أَعْدَلِ الْأَقْوَالِ : مِنْ قَوْلِ مَنْ يُوجِبُهُ وَقَوْلِ مَنْ يَرَاهُ مَنْسُوخًا . وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثَهُ لَيْسَ بِنَجِسِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَالْقَوْمُ كَانُوا أَصْحَابَ إبِلٍ وَغَنَمٍ يَقْعُدُونَ وَيُصَلُّونَ فِي أَمْكِنَتِهَا وَهِيَ مَمْلُوءَةٌ مِنْ أبعارها فَلَوْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَاحِيضِ كَانَتْ تَكُونُ حُشُوشًا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ بِاجْتِنَابِهَا وَأَنْ لَا يُلَوِّثُوا أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ بِهَا وَلَا يُصَلُّونَ فِيهَا . فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَنَهَى
عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِنَجَاسَةِ الأبعار بَلْ كَمَا أَمَرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَقَالَ فِي الْغَنَمِ : إنْ شِئْت فَتَوَضَّأَ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَتَوَضَّأْ " وَقَالَ " { إنَّ الْإِبِلَ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ وَإِنَّ عَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانًا } وَقَالَ " { الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ } . فَلَمَّا كَانَتْ الْإِبِلُ فِيهَا مِنْ الشَّيْطَنَةِ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُوله أَمَرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ لَحْمِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُطْفِئُ تِلْكَ الشَّيْطَنَةَ وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِهَا لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ . فَإِنَّ مَأْوَى الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ أَحَقُّ بِأَنْ تُجْتَنَبَ الصَّلَاةُ فِيهِ وَفِي مَوْضِعِ الْأَجْسَامِ الْخَبِيثَةِ بَلْ الْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ تُحِبُّ الْأَجْسَامَ الْخَبِيثَةَ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْحُشُوشُ مُحْتَضَرَةً تَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ وَالصَّلَاةُ فِيهَا أَوْلَى بِالنَّهْيِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ . وَلَمْ يَرِدْ فِي الْحُشُوشِ نَصٌّ خَاصٌّ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا كَانَ أَظْهَرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْعُدُ فِي الْحُشُوشِ وَلَا يُصَلِّي فِيهَا وَكَانُوا يَنْتَابُونَ الْبَرِّيَّةَ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ
قَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ الْكُنُفُ فِي بُيُوتِهِمْ . وَإِذَا سَمِعُوا نَهْيَهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ أَوْ أَعْطَانِ الْإِبِلِ عَلِمُوا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحُشُوشِ أَوْلَى وَأَحْرَى مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ " { النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ وَالْحُشُوشِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ } . وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ مُتَنَازِعُونَ فِيهِ . وَأَصْحَابُ أَحْمَد فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَرَى هَذِهِ . مِنْ مَوَاضِعِ النَّهْيِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَجِدْ فِي كَلَامِ أَحْمَد فِي ذَلِكَ إذْنًا وَلَا مَنْعًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي مَوَاضِعِ الْعَذَابِ . نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ؛ لِلْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْحُشُوشِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْحَمَّامِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الخرقي وَغَيْرُهُ . وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ قَدْ يُثْبِتُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَوَارِدِ النَّصِّ وَقَدْ يُثْبِتُهُ بِالْحَدِيثِ وَمَنْ فَرَّقَ يَحْتَاجُ إلَى الطَّعْنِ فِي الْحَدِيثِ وَبَيَانِ الْفَارِقِ . وَأَيْضًا الْمَنْعُ قَدْ يَكُونُ مَنْعَ كَرَاهَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَنْعَ تَحْرِيمٍ . وَإِذَا كَانَتْ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا عَامًّا وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَ الْأُمَّةُ ذَلِكَ : فَمَعْلُومٌ
أَنَّ الْكُحْلَ وَنَحْوَهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى كَمَا تَعُمُّ بِالدُّهْنِ وَالِاغْتِسَالِ وَالْبَخُورِ وَالطِّيبِ . فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُفْطِرُ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَيَّنَ الْإِفْطَارَ بِغَيْرِهِ فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الطِّيبِ وَالْبَخُورِ وَالدُّهْنِ وَالْبَخُورُ قَدْ يَتَصَاعَدُ إلَى الْأَنْفِ وَيَدْخُلُ فِي الدِّمَاغِ وَيَنْعَقِدُ أَجْسَامًا وَالدُّهْنُ يَشْرَبُهُ الْبَدَنُ وَيَدْخُلُ إلَى دَاخِلِهِ وَيَتَقَوَّى بِهِ الْإِنْسَانُ وَكَذَلِكَ يَتَقَوَّى بِالطِّيبِ قُوَّةً جَيِّدَةً فَلَمَّا لَمْ يَنْهَ الصَّائِمَ عَنْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى جَوَازِ تَطْيِيبِهِ وَتَبْخِيرِهِ وَادِّهَانِهِ وَكَذَلِكَ اكْتِحَالُهُ . وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْرَحُ أَحَدُهُمْ إمَّا فِي الْجِهَادِ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ مَأْمُومَةً وَجَائِفَةً فَلَوْ كَانَ هَذَا يُفْطِرُ لَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يَنْهَ الصَّائِمَ عَنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مُفْطِرًا . ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ إثْبَاتُ التَّفْطِيرِ بِالْقِيَاسِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا وَذَلِكَ إمَّا قِيَاسُ عِلَّةٍ بِإِثْبَاتِ الْجَامِعِ وَإِمَّا بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ فَيُعَدَّى بِهَا إلَى الْفَرْعِ وَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنْ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ وَهَذَا الْقِيَاسُ هُنَا مُنْتَفٍ . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُفَطِّرَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ مُفَطِّرًا هُوَ مَا كَانَ وَاصِلًا إلَى دِمَاغٍ أَوْ بَدَنٍ أَوْ مَا كَانَ دَاخِلًا مِنْ مَنْفَذٍ أَوْ وَاصِلًا إلَى الْجَوْفِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَجْعَلُهَا أَصْحَابُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ هِيَ مَنَاطَ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا جَعَلَا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُفَطِّرًا لِهَذَا الْمَعْنَى الْمُشْتَرِكَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمِمَّا يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ وَالْجَوْفِ مِنْ دَوَاءِ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ وَمَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الْكُحْلِ وَمِنْ الْحُقْنَةِ وَالتَّقْطِيرِ فِي الْإِحْلِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى تَعْلِيقِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْحُكْمِ بِهَذَا الْوَصْفِ دَلِيلٌ كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا جَعَلَا هَذَا مُفَطِّرًا لِهَذَا قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ وَكَانَ قَوْلُهُ : " إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الصَّائِمِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا " قَوْلًا بِأَنَّ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بِلَا عِلْمٍ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ . وَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الْمُشْتَرَكَ مَنَاطُ الْحُكْمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ مَذْهَبٍ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا أَوْ دَلَالَةَ لَفْظٍ عَلَى مَعْنًى لَمْ يُرِدْهُ الرَّسُولُ وَهَذَا اجْتِهَادٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ اتِّبَاعُهَا .
الْوَجْه الرَّابِع أَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَدُلَّ كَلَامُ الشَّارِعِ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ إذَا سَبَرْنَا أَوْصَافَ الْأَصْلِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَصْلُحُ لِلْعِلَّةِ إلَّا الْوَصْفُ الْمُعَيَّنُ وَحَيْثُ أَثْبَتْنَا عِلَّةَ الْأَصْلِ بِالْمُنَاسَبَةِ أَوْ الدَّوَرَانِ أَوْ الشَّبَهِ الْمُطَّرِدِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ السَّبْرِ فَإِذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ وَصْفَانِ مُنَاسِبَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ الْحُكْمُ بِهَذَا دُونَ هَذَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ أَثْبَتَا الْفِطْرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالْحَيْضِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى الْمُتَوَضِّئَ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إذَا كَانَ صَائِمًا وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ أَقْوَى حُجَجِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ نَشِقَ الْمَاءَ بِمَنْخِرَيْهِ يَنْزِلُ الْمَاءُ إلَى حَلْقِهِ وَإِلَى جَوْفِهِ فَحَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لِلشَّارِبِ بِفَمِهِ وَيُغَذِّي بَدَنَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ وَيَزُولُ الْعَطَشُ وَيُطْبَخُ الطَّعَامُ فِي مَعِدَتِهِ كَمَا يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْمَاءِ فَلَوْ لَمْ يَرِدْ النَّصُّ بِذَلِكَ لَعُلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الشُّرْبِ فَإِنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا فِي دُخُولِ الْمَاءِ مِنْ الْفَمِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ دُخُولُ الْمَاءِ إلَى الْفَمِ وَحْدَهُ لَا يُفْطِرُ فَلَيْسَ هُوَ مُفْطِرًا وَلَا جُزْءًا مِنْ الْمُفْطِرِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ بَلْ هُوَ طَرِيقٌ إلَى الْفِطْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكُحْلُ وَالْحُقْنَةُ وَمُدَاوَاةُ الْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ . فَإِنَّ الْكُحْلَ لَا يُغَذِّي أَلْبَتَّةَ وَلَا يُدْخِلُ أَحَدٌ كُحْلًا إلَى جَوْفِهِ لَا مِنْ أَنْفِهِ وَلَا فَمِهِ
وَكَذَلِكَ الْحُقْنَةُ لَا تُغَذِّي بَلْ تَسْتَفْرِغُ مَا فِي الْبَدَنِ كَمَا لَوْ شَمَّ شَيْئًا مِنْ الْمُسَهِّلَاتِ أَوْ فَزِعَ فَزَعًا أَوْجَبَ اسْتِطْلَاقَ جَوْفِهِ وَهِيَ لَا تَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ وَالدَّوَاءُ الَّذِي يَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ فِي مُدَاوَاةِ الْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ لَا يُشْبِهُ مَا يَصِلُ إلَيْهَا مِنْ غِذَائِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الصَّوْمُ جُنَّةٌ } وَقَالَ : " { إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ بِالصَّوْمِ } . فَالصَّائِمُ نُهِيَ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ التَّقَوِّي . فَتَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الَّذِي يُوَلِّدُ الدَّمَ الْكَثِيرَ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الشَّيْطَانُ إنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْغِذَاءِ لَا عَنْ حُقْنَةٍ وَلَا كُحْلٍ وَلَا مَا يُقْطَرُ فِي الذَّكَرِ وَلَا مَا يُدَاوِي بِهِ الْمَأْمُومَةَ وَالْجَائِفَةَ وَهُوَ مُتَوَلِّدٌ عَمَّا اُسْتُنْشِقَ مِنْ الْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ مِمَّا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الدَّمُ فَكَانَ الْمَنْعُ مِنْهُ مِنْ تَمَامِ الصَّوْمِ . فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ . الْمَعَانِي وَغَيْرُهَا مَوْجُودَةً فِي الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَوْصَافِ
مُعَارَضٌ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالْمُعَارَضَةُ تُبْطِلُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي ادَّعَوْهُ هُوَ الْعِلَّةُ دُونَ هَذَا . الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ مَنْعُ الصَّائِمِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ } وَلَا رَيْبَ أَنَّ الدَّمَ يَتَوَلَّدُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَإِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ اتَّسَعَتْ مَجَارِي الشَّيَاطِينِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : " { فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ } وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُ هَذَا اللَّفْظَ مَرْفُوعًا . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ } فَإِنَّ مَجَارِيَ الشَّيَاطِينِ الَّذِي هُوَ الدَّمُ ضَاقَتْ وَإِذَا ضَاقَتْ انْبَعَثَتْ الْقُلُوبُ إلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَإِلَى تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ فَضَعُفَتْ قُوَّتُهُمْ وَعَمَلُهُمْ بِتَصْفِيدِهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَفْعَلُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُمْ قُتِلُوا وَلَا مَاتُوا بَلْ قَالَ : " صُفِّدَتْ " وَالْمُصَفَّدُ مِنْ الشَّيَاطِينِ قَدْ يُؤْذِي لَكِنَّ هَذَا أَقَلُّ وَأَضْعَفُ مِمَّا يَكُونُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَهُوَ بِحَسَبِ كَمَالِ الصَّوْمِ وَنَقْصِهِ فَمَنْ كَانَ صَوْمُهُ كَامِلًا دَفَعَ الشَّيْطَانَ دَفْعًا لَا يَدْفَعُهُ دَفْعُ الصَّوْمِ النَّاقِصِ فَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ فِي مَنْعِ الصَّائِمِ مِنْ الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ عَلَى وَفْقِهِ وَكَلَامُ الشَّارِعِ قَدْ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ وَتَأْثِيرِهِ وَهَذَا الْمَنْعُ مُنْتَفٍ فِي الْحُقْنَةِ وَالْكُحْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : بَلْ الْكُحْلُ قَدْ يَنْزِلُ إلَى الْجَوْفِ وَيَسْتَحِيلُ دَمًا . قِيلَ : هَذَا كَمَا قَدْ يُقَالُ فِي الْبُخَارِ الَّذِي يَصْعَدُ مِنْ الْأَنْفِ إلَى الدِّمَاغِ فَيَسْتَحِيلُ دَمًا وَكَالدُّهْنِ الَّذِي يَشْرَبُهُ الْجِسْمُ . وَالْمَمْنُوعُ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ مَا يَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ فَيَسْتَحِيلُ دَمًا وَيَتَوَزَّعُ عَلَى الْبَدَنِ . وَنَجْعَلُ هَذَا ( وَجْهًا سَادِسًا فَنَقِيسُ الْكُحْلَ وَالْحُقْنَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلَى الْبَخُورِ وَالدُّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يَتَغَذَّى بِهِ الْبَدَنُ وَيَسْتَحِيلُ فِي الْمَعِدَةِ دَمًا وَهَذَا الْوَصْفُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ مُفْطِرَةً وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ . وَالْفَرْعُ قَدْ يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ فَيَلْحَقُ كُلًّا مِنْهُمَا بِمَا يُشْبِهُهُ مِنْ الصِّفَاتِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا تَطْبُخُهُ الْمَعِدَةُ وَيَسْتَحِيلُ دَمًا يَنْمُو عَنْهُ الْبَدَنُ لَكِنَّهُ غِذَاءٌ نَاقِصٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَكَلَ سُمًّا أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا يَضُرُّهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ
أَكَلَ أَكْلًا كَثِيرًا أَوْرَثَهُ تُخَمَةً وَمَرَضًا فَكَانَ مَنْعُهُ فِي الصَّوْمِ عَنْ هَذَا أَوْكَدَ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ فِي الْإِفْطَارِ وَبَقِيَ الصَّوْمُ أَوْكَدَ وَهَذَا كَمَنْعِهِ مِنْ الزِّنَا فَإِنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ فَالْمَحْظُورُ أَوْلَى . فَإِنْ قِيلَ : فَالْجِمَاعُ مُفْطِرٌ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ ؟ قِيلَ : تِلْكَ أَحْكَامٌ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَلَا يَحْتَاجُ إثْبَاتُهَا إلَى الْقِيَاسِ : بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِلَلُ مُخْتَلِفَةً فَيَكُونُ تَحْرِيمُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْفِطَرُ بِذَلِكَ لِحِكْمَةِ . وَتَحْرِيمُ الْجِمَاعِ وَالْفِطْرُ بِهِ لِحِكْمَةٍ وَالْفِطَرُ بِالْحَيْضِ لِحِكْمَةِ فَإِنَّ الْحَيْضَ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَحْرُمُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُفْطِرَاتِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمَّا انْقَسَمَتْ إلَى أُمُورٍ اخْتِيَارِيَّةٍ تَحْرُمُ عَلَى الْعَبْدِ كَالْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَإِلَى أُمُورٍ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهَا كَدَمِ الْحَيْضِ كَذَلِكَ تَنْقَسِمُ عِلَلُهَا . فَنَقُولُ : أَمَّا الْجِمَاعُ فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُ إنْزَالِ الْمَنِيِّ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِقَاءَةِ وَالْحَيْضُ وَالِاحْتِجَامُ - كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ مِنْ نَوْعِ الِاسْتِفْرَاغِ لَا الِامْتِلَاءِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إحْدَى الشَّهْوَتَيْنِ فَجَرَى مَجْرَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { عن اللَّهِ تَعَالَى : قَالَ : الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي
بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي } فَتَرْكُ الْإِنْسَانِ مَا يَشْتَهِيهِ لِلَّهِ هُوَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا كَمَا يُثَابُ الْمُحْرِمُ عَلَى تَرْكِ مَا اعْتَادَهُ مِنْ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَعِيمِ الْبَدَنِ وَالْجِمَاعُ مِنْ أَعْظَمِ نَعِيمِ الْبَدَنِ وَسُرُورِ النَّفْسِ وَانْبِسَاطِهَا هُوَ يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ وَالدَّمَ وَالْبَدَنَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَكْلِ فَإِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ . وَالْغِذَاءُ يَبْسُطُ الدَّمَ الَّذِي هُوَ مَجَارِيهِ فَإِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ انْبَسَطَتْ نَفْسُهُ إلَى الشَّهَوَاتِ وَضَعُفَتْ إرَادَتُهَا وَمَحَبَّتُهَا لِلْعِبَادَاتِ فَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْجِمَاعِ أَبْلَغُ فَإِنَّهُ يَبْسُطُ إرَادَةَ النَّفْسِ لِلشَّهَوَاتِ وَيُضْعِفُ إرَادَتَهَا عَنْ الْعِبَادَاتِ أَعْظَمَ ؛ بَلْ الْجِمَاعُ هُوَ غَايَةُ الشَّهَوَاتِ وَشَهْوَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُجَامِعِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هَذَا أَغْلَظُ وَدَاعِيَهُ أَقْوَى وَالْمَفْسَدَةَ بِهِ أَشَدُّ . فَهَذَا أَعْظَمُ الْحِكْمَتَيْنِ فِي تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ . وَأَمَّا كَوْنُهُ يُضْعِفُ الْبَدَنَ كَالِاسْتِفْرَاغِ فَذَاكَ حِكْمَةٌ أُخْرَى فَصَارَ فِيهِمَا كَالْأَكْلِ وَالْحَيْضِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْهُمَا فَكَانَ إفْسَادُهُ الصَّوْمَ أَعْظَمَ مِنْ إفْسَادِ الْأَكْلِ وَالْحَيْضِ . فَنَذْكُرُ حِكْمَةَ الْحَيْضِ وَجَرَيَانَ ذَلِكَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ فَنَقُولُ : إنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِالْعَدْلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ . وَالْإِسْرَافُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ الْجَوْرِ
الَّذِي نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ وَأَمَرَ بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعِبَادَاتِ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَنَهَى عَنْ الْوِصَالِ وَقَالَ : " { أَفْضَلُ الصِّيَامِ وَأَعْدَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إذَا لَاقَى } فَالْعَدْلُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } الْآيَةَ . فَجَعَلَ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ مِنْ الِاعْتِدَاءِ الْمُخَالِفِ لِلْعَدْلِ وَقَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } فَلَمَّا كَانُوا ظَالِمِينَ عُوقِبُوا بِأَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الطَّيِّبَاتُ ؛ بِخِلَافِ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ الْعَدْلِ فَإِنَّهُ أَحَلَّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّائِمُ قَدْ نُهِيَ عَنْ أَخْذِ مَا يُقَوِّيهِ وَيُغَذِّيهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَيُنْهَى عَنْ إخْرَاجِ مَا يُضْعِفُهُ وَيُخْرِجُ مَادَّتَهُ الَّتِي بِهَا يَتَغَذَّى وَإِلَّا فَإِذَا مُكِّنَ مِنْ هَذَا ضَرَّهُ وَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي عِبَادَتِهِ لَا عَادِلًا . وَالْخَارِجَاتُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَخْرُجُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ أَوْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّهُ فَهَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ كَالْأَخْبَثَيْنِ فَإِنَّ خُرُوجَهُمَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ أَيْضًا . وَلَوْ اسْتَدْعَى خُرُوجَهُمَا فَإِنَّ خُرُوجَهُمَا لَا يَضُرُّهُ بَلْ يَنْفَعُهُ . وَكَذَلِكَ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ الِاحْتِلَامُ
فِي الْمَنَامِ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَأَمَّا إذَا استقاء فَالْقَيْءُ يُخْرِجُ مَا يَتَغَذَّى بِهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُسْتَحِيلِ فِي الْمَعِدَةِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِمْنَاءُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الشَّهْوَةِ فَهُوَ يُخْرِجُ الْمَنِيَّ الَّذِي هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي الْمَعِدَةِ عَنْ الدَّمِ فَهُوَ يُخْرِجُ الدَّمَ الَّذِي يَتَغَذَّى بِهِ وَلِهَذَا كَانَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ إذَا أَفْرَطَ فِيهِ يَضُرُّ الْإِنْسَانَ وَيَخْرُجُ أَحْمَرَ . وَالدَّمُ الَّذِي يَخْرُجُ بِالْحَيْضِ فِيهِ خُرُوجُ الدَّمِ وَالْحَائِضُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَصُومَ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الدَّمِ فِي حَالٍ لَا يَخْرُجُ فِيهَا دَمُهَا فَكَانَ صَوْمُهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ صَوْمًا مُعْتَدِلًا لَا يَخْرُجُ فِيهِ الدَّمُ الَّذِي يُقَوِّي الْبَدَنَ الَّذِي هُوَ مَادَّتُهُ وَصَوْمُهَا فِي الْحَيْضِ يُوجِبُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ دَمُهَا الَّذِي هُوَ مَادَّتُهَا وَيُوجِبُ نُقْصَانَ بَدَنِهَا وَضِعْفَهَا وَخُرُوجَ صَوْمِهَا عَنْ الِاعْتِدَالِ فَأُمِرَتْ أَنْ تَصُومَ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الْحَيْضِ . بِخِلَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِحَاضَةَ تَعُمُّ أَوْقَاتَ الزَّمَانِ وَلَيْسَ لَهَا وَقْتٌ تُؤْمَرُ فِيهِ بِالصَّوْمِ وَكَانَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ : كَذَرْعِ الْقَيْءِ وَخُرُوجِ الدَّمِ بِالْجِرَاحِ وَالدَّمَامِلِ وَالِاحْتِلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ . فَلَمْ يُجْعَلْ هَذَا مُنَافِيًا لِلصَّوْمِ كَدَمِ الْحَيْضِ .
وَطَرْدُ هَذَا إخْرَاجُ الدَّمِ بِالْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ فِي الْحِجَامَةِ هَلْ تُفْطِرُ الصَّائِمَ أَمْ لَا ؟ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : " { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } كَثِيرَةٌ قَدْ بَيَّنَهَا الْأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ . وَقَدْ كَرِهَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَحْتَجِمُ إلَّا بِاللَّيْلِ . وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَغْلَقُوا حَوَانِيتَ الْحَجَّامِينَ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَابْنِ خُزَيْمَة وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ . وَأَهْلُ الْحَدِيثِ الْفُقَهَاءُ فِيهِ الْعَامِلُونَ بِهِ أَخَصُّ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَلَّذِينَ لَمْ يَرَوْا إفْطَارَ الْمَحْجُومِ احْتَجُّوا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ } وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ طَعَنُوا فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ : " { وَهُوَ صَائِمٌ } وَقَالُوا : الثَّابِتُ أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ أَحْمَد : قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : قَالَ شُعْبَةُ : لَمْ يَسْمَعْ الْحَكَمُ حَدِيثَ مقسم فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ يَعْنِي حَدِيثَ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مقسم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ } .
قَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ } فَقَالَ : لَيْسَ بِصَحِيحِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ . قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ فَضَعَّفَهُ وَقَالَ : كَانَتْ كُتُبُ الْأَنْصَارِيِّ ذَهَبَتْ فِي أَيَّامِ الْمُنْتَصِرِ فَكَانَ بَعْدُ يُحَدِّثُ مَنْ كُتُبِ غُلَامِهِ وَكَانَ هَذَا مِنْ تِلْكَ . ( وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ حَدِيثِ قَبِيصَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَخْ فَقَالَ : هُوَ خَطَأٌ مِنْ قِبَلِ قَبِيصَةَ ) (*) . وَسَأَلْت يَحْيَى عَنْ قَبِيصَةَ فَقَالَ : رَجُلُ صِدْقٍ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعِيدٍ خَطَأٌ مِنْ قِبَلِهِ . قَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ } فَقَالَ لَيْسَ فِيهِ " صَائِمٌ " إنَّمَا هُوَ " مُحْرِمٌ " ذَكَرَهُ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طاوس عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " { احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ } وَعَنْ طاوس وَعَطَاءٍ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ خثيم عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَذْكُرُونَ " صَائِمًا " .
قُلْت : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلِهَذَا أَعْرَضَ مُسْلِمٌ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَ حِجَامَةَ الصَّائِمِ وَلَمْ يُثْبِتْ إلَّا حِجَامَةَ الْمُحْرِمِ . وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ الْحِجَامَةِ بِتَأْوِيلَاتِ ضَعِيفَةٍ كَقَوْلِهِمْ : كَانَا يَغْتَابَانِ وَقَوْلِهِمْ أَفْطَرَ لِسَبَبٍ آخَرَ . وَأَجْوَدُ مَا قِيلَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ فِي رَمَضَانَ وَاحْتِجَامُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَ رَمَضَانَ . وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ بَلْ هُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَحْرَمَ سَنَةَ سِتٍّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِعُمْرَةٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَأَحْرَمَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ بِعُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَأَحْرَمَ مِنْ الْعَامِ الثَّالِثِ سَنَةَ الْفَتْحِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ بِعُمْرَةِ وَأَحْرَمَ سَنَةَ عَشْرٍ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَاحْتِجَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ لَمْ يُبَيَّنْ فِي أَيّ الإحرامات كَانَ . وَاَلَّذِي يُقَوِّي أَنَّ إحْرَامَهُ الَّذِي احْتَجَمَ فِيهِ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ : قَوْلُهُ " { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } فَإِنَّهُ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ بِلَا رَيْبٍ هَكَذَا فِي أَجْوَدِ الْأَحَادِيثِ . وَرَوَى أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوَبَان { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ قَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } .
وَقَالَ أَحْمَد : أَنْبَأَنَا إسْمَاعِيلُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ . أَنَّهُ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْفَتْحِ عَلَى رَجُلٍ مُحْتَجِمٍ بِالْبَقِيعِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ " { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَأَلْت الْبُخَارِيَّ فَقَالَ : لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَحَدِيثِ ثوبان فَقُلْت : وَمَا فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ ؟ فَقَالَ : كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيحٌ لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ رَوَى عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ ثوبان عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادٍ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا . قُلْت : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا أَبُو قلابة - إلَى أَنْ قَالَ - وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ النَّاسِخَ هُوَ الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ أَنَّ ذَلِكَ رَوَاهُ عَنْهُ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا يُبَاشِرُونَهُ حَضَرًا وَسَفَرًا وَيَطَّلِعُونَ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ مِثْلُ بِلَالٍ وَعَائِشَةَ وَمِثْلُ أُسَامَةَ وَثَوَبَان مَوْلَيَاهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ هُمْ بِطَانَتُهُ مِثْلُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَد عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } قَالَ أَحْمَد : أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ رَافِعٍ وَذَكَرَ أَحَادِيثَ " { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا : يُفْطِرُ الْمَحْجُومُ دُونَ الْحَاجِمِ ذَكَرَهُ الخرقي ؛ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ الْإِفْطَارُ بِالْأَمْرَيْنِ وَالنَّصُّ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَرْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُفْطِرُ الْمَحْجُومُ الَّذِي يَحْتَجِمُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ الدَّمُ وَلَا يُفْطِرُ بِالِافْتِصَادِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى احْتِجَامًا وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ فَالتَّشْرِيطُ فِي الْآذَانِ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْحِجَامَةِ ؟ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ . فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : التَّشْرِيطُ كَالْحِجَامَةِ يَقُولُهُ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً فَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّ التَّشْرِيطَ بِذِكْرِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَدْخُلُ فِي الْحِجَامَةِ لَذَكَرُوهُ كَمَا ذَكَرُوا الْفِصَادَ . فَعُلِمَ أَنَّ التَّشْرِيطَ عِنْدَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْحِجَامَةِ وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا هُوَ الصَّوَابُ . إلَى أَنْ قَالَ : وَالرَّابِعُ : وَهُوَ الصَّوَابُ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْعَالِمُ الْعَادِلُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يُفْطِرُ بِالْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَوْجُودَ فِي الْحِجَامَةِ مَوْجُودٌ فِي الْفِصَادِ شَرْعًا وَطَبْعًا وَحَيْثُ حَضَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجَامَةِ وَأَمَرَ بِهَا فَهُوَ حَضٌّ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْفِصَادِ وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنَّ الْأَرْضَ الْحَارَّةَ تَجْتَذِبُ الْحَرَارَةُ فِيهَا دَمَ الْبَدَنِ
فَيَصْعَدُ إلَى سَطْحِ الْجِلْدِ فَيَخْرُجُ بِالْحِجَامَةِ . وَالْأَرْضُ الْبَارِدَةُ يَغُورُ الدَّمُ فِيهَا إلَى الْعُرُوقِ هَرَبًا مِنْ الْبَرْدِ فَإِنَّ شِبْهَ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ كَمَا تَسْخُنُ الْأَجْوَافُ فِي الشِّتَاءِ وَتَبْرُدُ فِي الصَّيْفِ فَأَهْلُ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لَهُمْ الْفِصَادُ وَقَطْعُ الْعُرُوقِ كَمَا لِلْبِلَادِ الْحَارَّةِ الْحِجَامَةُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي شَرْعٍ وَلَا عَقْلٍ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفِطْرَ بِالْحِجَامَةِ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ وَالْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْفِطْرِ بِدَمِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِقَاءَةِ وبالاستمناء . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَرَادَ إخْرَاجَ الدَّمِ أَفْطَرَ كَمَا أَنَّهُ بِأَيِّ وَجْهٍ أَخْرَجَ الْقَيْءَ أَفْطَرَ سَوَاءٌ جَذَبَ الْقَيْءَ بِإِدْخَالِ يَدِهِ أَوْ بِشَمِّ مَا يُقَيِّئُهُ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ بَطْنِهِ وَاسْتَخْرَجَ الْقَيْءَ فَتِلْكَ طُرُقٌ لِإِخْرَاجِ الْقَيْءِ وَهَذِهِ طُرُقٌ لِإِخْرَاجِ الدَّمِ وَلِهَذَا كَانَ خُرُوجُ الدَّمِ بِهَذَا وَهَذَا سَوَاءً فِي ( بَابِ الطَّهَارَةِ ) . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ كَمَالُ الشَّرْعِ وَاعْتِدَالُهُ وَتَنَاسُبُهُ وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا فَإِنَّ بَعْضَهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا وَيُوَافِقُهُ { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } . وَأَمَّا الْحَاجِمُ فَإِنَّهُ يَجْتَذِبُ الْهَوَاءَ الَّذِي فِي الْقَارُورَةِ بِامْتِصَاصِهِ وَالْهَوَاءُ يَجْتَذِبُ مَا فِيهَا مِنْ الدَّمِ فَرُبَّمَا صَعِدَ مَعَ الْهَوَاءِ شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ وَدَخَلَ فِي حَلْقِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً أَوْ مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ
بِالْمَظِنَّةِ كَمَا أَنَّ النَّائِمَ الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ الرِّيحُ وَلَا يَدْرِي يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ فَكَذَلِكَ الْحَاجِمُ يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ مَعَ رِيقِهِ إلَى بَطْنِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي . وَالدَّمُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُفْطِرَاتِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ طُغْيَانِ الشَّهْوَةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْعَدْلِ وَالصَّائِمُ أُمِرَ بِحَسْمِ مَادَّتِهِ فَالدَّمُ يَزِيدُ الدَّمَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْظُورِ . فَيُفْطِرُ الْحَاجِمُ لِهَذَا كَمَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ النَّائِمِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ خُرُوجَ الرِّيحِ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ وَلَا يَدْرِي وَكَذَلِكَ الْحَاجِمُ قَدْ يَدْخُلُ الدَّمُ فِي حَلْقِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي . وَأَمَّا الشَّارِطُ فَلَيْسَ بِحَاجِمِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِيهِ فَلَا يُفْطِرُ الشَّارِطُ وَكَذَلِكَ لَوْ قُدِّرَ حَاجِمٌ لَا يَمُصُّ الْقَارُورَةَ بَلْ يَمْتَصُّ غَيْرَهَا أَوْ يَأْخُذُ الدَّمَ بِطَرِيقٍ أُخْرَى لَمْ يُفْطِرْ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامُهُ خَرَجَ عَلَى الْحَاجِمِ الْمَعْرُوفِ الْمُعْتَادِ . وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ شَخْصًا بِعَيْنِهِ فَيَشْتَرِكُ فِي الْحُكْمِ سَائِرُ النَّوْعِ ؛ لِلْعَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ مِنْ الْأُمَّةِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ فَهَذَا أَبْلَغُ فَلَا يَثْبُتُ بِلَفْظِهِ مَا يَظْهَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ بَاشَرَ زَوْجَتَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ الْمُتَسَحِّرَ يَتَكَلَّمُ فَلَا
يَدْرِي : أَهُوَ يَتَسَحَّرُ ؟ أَمْ يُؤَذِّنُ ؟ ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
أَنَّهُ يَتَسَحَّرُ فَوَطِئَهَا وَبَعْدَ يَسِيرٍ أَضَاءَ الصُّبْحُ فَمَا
الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا :
عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ . هَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَحْمَد . وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا غَيْرُ وَهَذِهِ
الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَغَيْرِهِمَا . وَالثَّالِثُ : لَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ . وَهَذَا
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ
؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْ الْخَطَأِ
وَالنِّسْيَانِ
وَأَبَاحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ . وَالْجِمَاعَ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ . وَالشَّاكُّ فِي
طُلُوعِ الْفَجْرِ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ
بِالِاتِّفَاقِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا اسْتَمَرَّ الشَّكُّ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوَاقِعَ زَوْجَتَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالنَّهَارِ
فَأَفْطَرَ بِالْأَكْلِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ ثُمَّ جَامَعَ فَهَلْ عَلَيْهِ
كَفَّارَةٌ أَمْ لَا ؟ وَمَا عَلَى الَّذِي يُفْطِرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ
مَشْهُورَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ : كَمَالِكٍ
وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنَاهُمَا : عَلَى أَنَّ
الْكَفَّارَةَ سَبَبُهَا الْفِطْرُ مِنْ الصَّوْمِ أَوْ مِنْ الصَّوْمِ الصَّحِيحِ
بِجِمَاعٍ أَوْ بِجِمَاعِ وَغَيْرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ . فَإِنَّ
أَبَا حَنِيفَةَ
يَعْتَبِرُ الْفِطْرَ بِأَعْلَى جِنْسِهِ وَمَالِكٍ يَعْتَبِرُ الْفِطْرَ مُطْلَقًا فَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمَا إذَا أَفْطَرَ بِابْتِلَاعِ حَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْحِجَامَةِ كَفَّرَ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ . بِجِنْسِ الْوَطْءِ فَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُهُمَا فَلَا كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ . ثُمَّ تَنَازَعُوا هَلْ يُشْتَرَطُ الْفِطْرُ مِنْ الصَّوْمِ الصَّحِيحِ ؟ فَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ فَلَوْ أَكَلَ ثُمَّ جَامَعَ أَوْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ جَامَعَ أَوْ جَامَعَ وَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ : لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطَأْ فِي صَوْمٍ صَحِيحٍ . وَ أَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِ يَقُولُ : بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُوَ صَوْمٌ فَاسِدٌ فَأَشْبَهَ الْإِحْرَامَ الْفَاسِدَ . و كَمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ إذَا أَفْسَدَ إحْرَامَهُ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ مَحْظُورَاتِهِ فَإِذَا أَتَى شَيْئًا مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِيهِ وَصَوْمُهُ فَاسِدٌ لِأَكْلٍ أَوْ جِمَاعٍ أَوْ عَدَمِ نِيَّةٍ فَقَدْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ . فَإِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ
الصَّحِيحِ . وَفِي كَلَامِ الْمَوْضِعَيْنِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَذَلِكَ لِأَنَّ هَتْكَ حُرْمَةِ الشَّهْرِ حَاصِلَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ بَلْ هِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَشَدُّ ؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ بِفِطْرِهِ أَوَّلًا فَصَارَ عَاصِيًا مَرَّتَيْنِ فَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ أَوْكَدَ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَصَارَ ذَرِيعَةً إلَى أَلَّا يُكَفِّرَ أَحَدٌ فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ إلَّا أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْكُلَ ثُمَّ يُجَامِعَ بَلْ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ فَيَكُونُ قَبْلَ الْغَدَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَإِذَا تَغَدَّى هُوَ وَامْرَأَتُهُ ثُمَّ جَامَعَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَهَذَا شَنِيعٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَرِدُ بِمِثْلِهِ . فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ أَنَّهُ كُلَّمَا عَظُمَ الذَّنْبُ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ أَبْلَغَ وَكُلَّمَا قَوِيَ الشَّبَهُ قَوِيَتْ وَالْكَفَّارَةُ فِيهَا شَوْبُ الْعِبَادَةِ وَشَوْبُ الْعُقُوبَةِ وَشُرِعَتْ زَاجِرَةً وَمَاحِيَةً فَبِكُلِّ حَالٍ قُوَّةُ السَّبَبِ يَقْتَضِي قُوَّةَ الْمُسَبَّبِ . ثُمَّ الْفِطْرُ بِالْأَكْلِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ . كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فَلَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ مُعِينًا لِلسَّبَبِ الْمُسْتَقِلِّ بَلْ
يَكُونُ
مَانِعًا مِنْ حُكْمِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ . ثُمَّ
الْمُجَامِعُ كَثِيرًا مَا يُفْطِرُ قَبْلَ الْإِيلَاجِ فَتَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ
عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَفْطَرَ نَهَارَ رَمَضَانَ مُتَعَمَّدًا ثُمَّ جَامَعَ : فَهَلْ
يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ؟ أَمْ الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ ؟
فَأَجَابَ :
عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَجِبُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ
وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلَا تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ امْرَأَتَهُ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ
اللَّيْلِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ
: الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِأَهْلِ
الْعِلْمِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ
مَذْهَبِ أَحْمَد .
وَالثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ .
وَالثَّالِثُ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ . وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ
مِنْ السَّلَفِ : كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقَ
ودَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَالْخَلَفِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : مَنْ أَكَلَ
مُعْتَقِدًا طُلُوعَ الْفَجْرِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ .
فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَشْبَهُهَا
بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قِيَاسُ
أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ النَّاسِي
وَالْمُخْطِئِ . وَهَذَا مُخْطِئٌ وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالْوَطْءَ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ
الْفَجْرِ وَاسْتَحَبَّ تَأْخِيرَ السُّحُورِ وَمَنْ فَعَلَ مَا نُدِبَ إلَيْهِ
وَأُبِيحَ لَهُ لَمْ يُفَرِّطْ فَهَذَا أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ النَّاسِي
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّا إذَا قَبَّلَ زَوْجَتَهُ أَوْ ضَمَّهَا فَأَمْذَى . هَلْ يُفْسِدُ ذَلِكَ
صَوْمَهُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ إلَخْ
فَأَجَابَ :
إذَا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ وَهُوَ عَالِمٌ بِتَحْرِيمِهِ
اسْتِحْلَالًا لَهُ وَجَبَ قَتْلُهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا عُوقِبَ عَنْ فِطْرِهِ
فِي رَمَضَانَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ وَأُخِذَ مِنْهُ حَدُّ الزِّنَا
وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُرِّفَ بِذَلِكَ وَأُخِذَ مِنْهُ حَدُّ الزِّنَا
وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالسِّوَاكِ وَذَوْقِ الطَّعَامِ
وَالْقَيْءِ وَخُرُوجِ الدَّمِ وَالِادِّهَانِ وَالِاكْتِحَالِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَمَشْرُوعَانِ لِلصَّائِمِ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالصَّحَابَةُ يَتَمَضْمَضُونَ وَيَسْتَنْشِقُونَ مَعَ الصَّوْمِ . لَكِنْ قَالَ
لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ : " { وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ
تَكُونَ صَائِمًا } فَنَهَاهُ عَنْ الْمُبَالَغَةِ ؛ لَا عَنْ الِاسْتِنْشَاقِ .
وَأَمَّا السِّوَاكُ فَجَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي
كَرَاهِيَتِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا
رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَلَمْ يَقُمْ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ
يَصْلُحُ أَنْ يَخُصَّ عمومات نُصُوصِ السِّوَاكِ وَقِيَاسُهُ عَلَى دَمِ
الشَّهِيدِ وَنَحْوِهِ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ . كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي
مَوْضِعِهِ . وَذَوْقُ الطَّعَامِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ؛ لَكِنْ لَا
يُفْطِرُهُ . وَأَمَّا لِلْحَاجَةِ
فَهُوَ كَالْمَضْمَضَةِ . وَأَمَّا الْقَيْءُ : فَإِذَا استقاء : أَفْطَرَ وَإِنْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ . وَالِادِّهَانُ : لَا يُفْطِرُ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّمِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ كَدَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَالْجُرُوحِ وَاَلَّذِي يَرْعُفُ وَنَحْوُهُ فَلَا يُفْطِرُ وَخُرُوجُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يُفْطِرُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الِاحْتِجَامُ : فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَمَذْهَبُ أَحْمَد وَكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ يُفْطِرُ وَالْفِصَادُ وَنَحْوُهُ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ كَالِاحْتِجَامِ . وَمَذْهَبُهُ فِي الْكُحْلِ الَّذِي يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ أَنَّهُ يُفْطِرُ كَالطِّيبِ وَلِلْحَاجَةِ (1) وَمَذْهَبُ مَالِكٌ نَحْوُ ذَلِكَ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يَرَيَانِ الْفِطْرَ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ افْتَصَدَ بِسَبَبِ وَجَعِ رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ هَلْ يُفْطِرُ
وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إذَا أُعْلِمَ
أَنَّهُ يُفْطِرُ إذَا افْتَصَدَ يَأْثَمُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ الْفِصَادِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ هَلْ يُفْسِدُ الصَّوْمَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ أَمْكَنَهُ تَأْخِيرُ الْفِصَادِ أَخَّرَهُ وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ لِمَرَضٍ
افْتَصَدَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ الْمَيِّتِ فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ أَدْرَكَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ
يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ وَتُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ
وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ مُدَّةَ مَرَضِهِ وَوَالِدَيْهِ بِالْحَيَاةِ . فَهَلْ
تَسْقُطُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ عَنْهُ إذَا صَامَا عَنْهُ وَصَلَّيَا ؟ إذَا
وَصَّى أَوْ لَمْ يُوصِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَرَضُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْقَضَاءُ فَلَيْسَ عَلَى
وَرَثَتِهِ إلَّا الْإِطْعَامُ عَنْهُ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ فَلَا
يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَكِنْ إذَا صَلَّى عَنْ الْمَيِّتِ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا تَطَوُّعًا وَأَهْدَاهُ لَهُ أَوْ صَامَ عَنْهُ تَطَوُّعًا وَأَهْدَاهُ
لَهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الِاقْتِصَادُ
فِي الْأَعْمَالِ
الْمَسْؤُولُ مِنْ إحْسَانِ السَّادَةِ الْعُلَمَاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
حَلُّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الَّتِي دَخَلَ عَلَى الْعِبَادِ بِسَبَبِهَا ضَرَرٌ
بَيِّنٌ : وَهِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَمِعَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " { أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُد وَأَحَبُّ
الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ
ثُلْثَهُ وَيَنَامُ سُدْسَهُ وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا }
فَعَقَدَ مَعَ اللَّهِ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا وَيُفْطِرَ يَوْمًا فَعَلَ ذَلِكَ
سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ وَهُوَ مُتَأَهِّلٌ لَهُ عِيَالٌ وَهُوَ ذُو سَبَبٍ
يَحْتَاجُ إلَى نَفْسِهِ فِي حِفْظِ صِحَّتِهِ فَحَدَثَتْ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ
هِمَّةٌ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ فَصَارَ مَعَ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ يَتَلَقَّنُ
كُلَّ يَوْمٍ وَيُكَرِّرُ . ثُمَّ حَدَثَتْ عِنْدَهُ مَعَ ذَلِكَ هِمَّةٌ إلَى
طَلَبِ الْمَقْصُودِ وَقِيَامِ أَكْثَرِ اللَّيْلِ وَكَثْرَةِ الِاجْتِهَادِ
وَالدَّأْبِ فِي الْعِبَادَةِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ ثِقْلُ يُبْسِ الصِّيَامِ مَعَ
ضَعْفِ الْقُوَّةِ فِي السَّبَبِ مَعَ يُبْسِ التَّكْرَارِ وَكَثْرَتِهِ مَعَ
الْيُبْسِ الْحَادِثِ مِنْ الْهِمَّةِ الْحَادَّةِ وَهُوَ شَابٌّ عِنْدَهُ
حَرَارَةُ الشبوبية فَأَثَّرَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ خَلَلًا فِي ذِهْنِهِ مِنْ ذُهُولٍ
وَصُدَاعٍ يَلْحَقُهُ فِي رَأْسِهِ وَبَلَادَةٍ
فِي فَهْمِهِ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ إذَا سَمِعَهُ وَظَهَرَ أَثَرُ الْيُبْسِ فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى كَادَتَا أَنْ تَغُورَا . وَقَدْ وَجَدَ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ شَيْئًا مِنْ الْأَنْوَارِ وَهُوَ لَا يَتْرُكُ هَذَا الصِّيَامَ لِعَقْدِهِ الَّذِي عَقَدَهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِخَوْفِهِ أَنْ يَذْهَبَ النُّورُ الَّذِي عِنْدَهُ فَإِذَا نَهَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ يَتَعَلَّلُ وَيَقُولُ : أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ نَفْسِي فِي اللَّهِ . فَهَلْ صَوْمُهُ هَذَا يُوَافِقُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى ؟ وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمْ هُوَ مَكْرُوهٌ ؟ لَا يُرْضِي اللَّهَ بِهِ . وَهَلْ يُبَاحُ لَهُ هَذَا الْعَقْدُ ؟ وَعَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ اشْتِغَالُهُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ جِسْمِهِ وَصِيَانَةُ دِمَاغِهِ وَعَقْلِهِ وَذِهْنِهِ لِيَتَوَفَّرَ عَلَى حِفْظِ فَرَائِضِهِ وَمَصْلَحَةِ عِيَالِهِ الَّذِي يَرْضَى اللَّهُ مِنْهُ وَيُرِيدُهُ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إصْرَارُهُ عَلَى ذَلِكَ مُوجِبٌ لِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يُلْقِي نَفْسَهُ إلَى التَّهْلُكَةِ بِشَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ؟ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي السُّنَّةِ : فَهَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ ؟ أَمْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ ؟ يَسْأَلُ كَشْفَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحَلَّهَا . فَقَدْ أَعْيَا هَذَا الشَّخْصُ الْأَطِبَّاءَ وَأَحْزَنَ الْعُقَلَاءَ لِدُخُولِهِ فِي السُّلُوكِ بِالْجَهْلِ غَافِلًا عَنْ مُرَادِ رَبِّهِ وَنَسْأَلُ تَقْيِيدَ الْجَوَابِ وإعضاده بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِيَصِلَ إلَى قَلْبِهِ ذَلِكَ آجَرَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَمَتَّعَ الْمُسْلِمِينَ بِطُولِ بقاكم وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ . وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ .
فَأَجَابَ
: شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ مُفْتِي الْأَنَامِ
تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة بِخَطِّهِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مُوجَبُ الشَّرْعِ . وَالثَّانِي : مُقْتَضَى الْعَهْدِ وَالنُّذُرِ
. أَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ الْمَأْمُورَ بِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الِاقْتِصَادُ فِي
الْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {
عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا } وَقَالَ : " {
إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ
فَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ
وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا } وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ . وَقَالَ أبي
بْنُ كَعْبٍ : " اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ
" . فَمَتَى كانت الْعِبَادَةُ تُوجِبُ لَهُ ضَرَرًا يَمْنَعُهُ عَنْ فِعْلِ
وَاجِبٍ أَنْفَعَ لَهُ مِنْهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً مِثْلُ أَنْ يَصُومَ صَوْمًا
يُضْعِفُهُ عَنْ الْكَسْبِ الْوَاجِبِ أَوْ يَمْنَعُهُ عَنْ الْعَقْلِ أَوْ
الْفَهْمِ الْوَاجِبِ . أَوْ يَمْنَعُهُ عَنْ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ تُوقِعُهُ فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ لَا يُقَاوِمُ مَفْسَدَتَهُ مُصْلِحَتُهَا مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ مَالَهُ كُلَّهُ ثُمَّ يَسْتَشْرِفُ إلَى أَمْوَالِ النَّاسِ وَيَسْأَلُهُمْ . وَأَمَّا إنْ أَضْعَفَتْهُ عَمَّا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهَا وَأَوْقَعَتْهُ فِي مَكْرُوهَاتٍ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ . وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا قَدْ اجْتَمَعُوا وَعَزَمُوا عَلَى التَّبَتُّلِ لِلْعِبَادَةِ : هَذَا يَسْرُدُ الصَّوْمَ وَهَذَا يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ وَهَذَا يَجْتَنِبُ أَكْلَ اللَّحْمِ وَهَذَا يَجْتَنِبُ النِّسَاءَ . فَنَهَاهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ مَنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ وَعَنْ الِاعْتِدَاءِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينِ الْمَشْرُوعِ فِي الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالزِّيَادَةُ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى مَا حُرِّمَ وَالزِّيَادَةُ فِي الْمُبَاحِ عَلَى مَا أُبِيحُ . ثُمَّ إنَّهُ أَمَرَهُمْ بَعْدَ هَذَا بِكَفَّارَةِ مَا عَقَدُوهُ مِنْ الْيَمِينِ عَلَى هَذَا التَّحْرِيمِ وَالْعُدْوَانِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ : وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا
فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ : كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . وَفِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ { عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص أَنَّهُ كَانَ قَدْ جَعَلَ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : لَا تَفْعَلْ فَإِنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ } أَيْ غَارَتْ الْعَيْنُ ؛ وَمَلَّتْ النَّفْسُ وَسَئِمَتْ . وَقَالَ لَهُ : " { إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْرِك عَلَيْك حَقًّا فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ } . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَيْك أُمُورًا وَاجِبَةً مِنْ حَقِّ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالزَّائِرِينَ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَفْعَلَ مَا يَشْغَلُك عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بَلْ آتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . ثُمَّ { أَمَرَهُ . النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَالَ : إنَّهُ يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ وَأَمَرَهُ . أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فَقَالَ : إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَزَلْ يُزَايِدُهُ حَتَّى قَالَ : فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ . قَالَ : إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ
مِنْ ذَلِكَ قَالَ : لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ } . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو لَمَّا كَبِرَ يَقُولُ : يَا لَيْتَنِي قَبِلْت رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رُبَّمَا عَجَزَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَفَطْرِ يَوْمٍ . فَكَانَ يُفْطِرُ أَيَّامًا ثُمَّ يَسْرُدُ الصِّيَامَ أَيَّامًا بِقَدْرِهَا لِئَلَّا يُفَارِقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَالٍ ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهَا . وَهَذَا لِأَنَّ بَدَنَهُ كَانَ يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ . وَإِلَّا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا صَامَ يَوْمًا وَأَفْطَرَ يَوْمًا شَغَلَهُ عَمَّا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ الصَّوْمُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا فَإِنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ صَوْمِ دَاوُد . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يَصُومُ الدَّهْرَ فَقَالَ : مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ } . { وَسُئِلَ عَمَّنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَقَالَ : وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ } . { وَسُئِلَ عَمَّنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ فَقَالَ : وَدِدْت أَنِّي طُوِّقْت ذَلِكَ } { وَسُئِلَ عَمَّنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَقَالَ : ذَلِكَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَدَّ أَنْ يُطِيقَ صَوْمَ ثُلْثِ الدَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ أَوْجَبُ عَلَيْهِ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مَا لَا يُطِيقُ مَعَهُ صَوْمَ ثُلْثِ الدَّهْرِ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مِنْ الْعَدُوِّ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ
فِي رَمَضَانَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْفِطْرِ فَبَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا صَامُوا فَقَالَ : أُولَئِكَ الْعُصَاةُ } { وَصَلَّى عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ مَرَّةً وَأَمَرَ مَنْ مَعَهُ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى ظُهُورِ دَوَابِّهِمْ ؛ فَوَثَبَ رَجُلٌ عَنْ ظَهْرِ دَابَّتِهِ فَصَلَّى عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَالِفٌ خَالَفَ اللَّهُ بِهِ . فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ } . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنِّي إذَا صُمْت ضَعُفْت عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيَّ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا " الْأَصْلُ الثَّانِي " : وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَنَذَرَهُ . فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } فَإِذَا كَانَ الْمَنْذُورُ الَّذِي عَاهَدَ اللَّهَ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا غَيْرَ مُبَاحٍ يُفْضِي إلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ كَانَ هَذَا مَعْصِيَةً : لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بَلْ لَوْ نَذَرَ عِبَادَةً مَكْرُوهَةً مِثْلَ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ وَصِيَامِ النَّهَارِ كُلِّهِ لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ . ثُمَّ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَظْهَرُهُمَا : أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : " { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينٍ } وَقَالَ : " { النَّذْرُ حَلْفَةٌ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ : " { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ . وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَأَنْ يَصُومَ . فَقَالَ : مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ } فَلَمَّا نَذَرَ عِبَادَةً غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ مِنْ الصَّمْتِ وَالْقِيَامِ وَالتَّضْحِيَةِ أَمَرَهُ . بِفِعْلِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ الصَّوْمُ فِي حَقِّهِ وَنَهَاهُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ . وَأَمَّا إذَا عَجَزَ عَنْ فِعْلِ الْمَنْذُورِ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ فَهُنَا يُكَفِّرُ وَيَأْتِي بِبَدَلٍ عَنْ الْمَنْذُورِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ أُخْتَهُ لَمَّا نَذَرْت أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك نَفْسَهَا مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ - وَرُوِيَ وَلْتَصُمْ } فَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي عَقَدَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى صَوْمَ نِصْفِ الدَّهْرِ وَقَدْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِعَقْلِهِ وَبَدَنِهِ عَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ وَيَتَنَاوَلَ مَا يُصْلِحُ عَقْلَهُ وَبَدَنَهُ وَيُكَفِّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَيَكُونُ فِطْرُهُ قَدْرَ مَا يَصْلُحُ بِهِ عَقْلُهُ وَبَدَنُهُ
عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ إمَّا أَنْ يُفْطِرَ ثُلْثَيْ الدَّهْرِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ أَوْ جَمِيعَهُ فَإِذَا أَصْلَحَ حَالَهُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْعَوْدُ إلَى صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ بِلَا مَضَرَّةٍ وَإِلَّا صَامَ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الصَّوْمِ وَلَا يَشْغَلُهُ عَمَّا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْهُ . فَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يُتْرَكَ الْأَحَبُّ إلَيْهِ بِفِعْلِ مَا هُوَ دُونَهُ فَكَيْفَ يُوجِبُ ذَلِكَ . وَأَمَّا النُّورُ الَّذِي وَجَدَهُ بِهَذَا الصَّوْمِ : فَمَعْلُومٌ أَنَّ جِنْسَ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ شَرًّا مَحْضًا بَلْ الْعِبَادَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَنْفَعَةٍ وَمَضَرَّةٍ وَلَكِنْ لَمَّا تَرَجَّحَ ضَرَرُهَا عَلَى نَفْعِهَا نَهَى عَنْهَا الشَّارِعُ كَمَا نَهَى عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ دَائِمًا وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ مَعَ أَنَّ خَلْقًا يَجِدُونَ فِي الْمُوَاصَلَةِ الدَّائِمَةِ نُورًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْجُوعِ وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِدُهُ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْأُمِّيِّينَ . مِثْلُ الرُّهْبَانِ وَعُبَّادِ الْقُبُورِ لَكِنْ يَعُودُ ذَلِكَ الْجُوعُ الْمُفْرِطُ الزَّائِدُ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ يُوجِبُ لَهُمْ ضَرَرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيَكُونُ إثْمُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ . كَمَا قَدْ رَأَيْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ خَلْقًا كَثِيرًا آلَ بِهِمْ الْإِفْرَاطُ فِيمَا يُعَانُونَهُ . مِنْ شَدَائِدِ الْأَعْمَالِ إلَى التَّفْرِيطِ وَالتَّثْبِيطِ وَالْمَلَلِ وَالْبَطَالَةِ وَرُبَّمَا انْقَطَعُوا عَنْ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ بِالْأَعْمَالِ الْمَرْجُوحَةِ عَنْ الرَّاجِحَةِ أَوْ بِذَهَابِ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ بِحُصُولِ خَلَلٍ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ أَعْمَالِهِمْ وَأَسَاسَهَا عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ وَمُتَابَعَةٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ نَفْسِي فِي اللَّهِ . فَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَهَذَا مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ كَاَلَّذِي يَحْمِلُ عَلَى الصَّفِّ وَحْدَهُ حَمْلًا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُقْتَلُ فَهَذَا حَسَنٌ . وَفِي مِثْلِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } وَمِثْلُ مَا كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ يَنْغَمِسُ فِي الْعَدُوِّ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : " أَنَّ رَجُلًا حَمَلَ عَلَى الْعَدُوِّ وَحْدَهُ فَقَالَ النَّاسُ : أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ . فَقَالَ عُمَرَ : لَا وَلَكِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } . وَأَمَّا إذَا فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ حَتَّى أَهْلَكَ نَفْسَهُ فَهَذَا ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ : مِثْلُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ بِمَاءٍ بَارِدٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ أَوْ يَصُومُ فِي رَمَضَانَ صَوْمًا يُفْضِي إلَى هَلَاكِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ . فَكَيْفَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي قِصَّةِ { الرَّجُلِ الَّذِي أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَاسْتَفْتَى مَنْ كَانَ مَعَهُ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ فَقَالُوا : لَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ } . وَكَذَلِكَ رُوِيَ حَدِيثُ { عَمْرِو بْنِ العاص لَمَّا أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَكَانَتْ لَيْلَةً بَارِدَةً فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ وَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا عَمْرُو : أَصَلَّيْت بِأَصْحَابِك وَأَنْتَ جُنُبٌ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } فَضَحِكَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا } فَهَذَا عَمْرُو قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى قَتْلِ النَّفْسِ بِلَا مَصْلَحَةٍ مَأْمُورٌ بِهَا هِيَ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ . وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " { عَبْدِي بَادَأَنِي بِنَفْسِهِ فَحَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبْت لَهُ النَّارَ } . وَحَدِيثُ الْقَاتِلِ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ لَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْجِرَاحُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَعَلَّهُ بِسُوءِ خَاتِمَتِهِ وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ
قَتَلَ نَفْسَهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَمُرَةَ بْن جُنْدَبٍ عَنْ ابْنِهِ لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهُ بُشِمَ فَقَالَ : لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ . فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَصْدِ الْإِنْسَانِ قَتْلَ نَفْسِهِ أَوْ تَسَبُّبِهِ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْعِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ . وَأَمْوَالَهُمْ لَهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } وَقَالَ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } أَيْ يَبِيعُ نَفْسَهُ . وَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَجِدُهُ أَوْ يَرَاهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِجَهْلِ أَفْسَدَ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ رِضَاهُ أَوْ مَحَبَّتُهُ فِي مُجَرَّدِ عَذَابِ النَّفْسِ وَحَمْلِهَا عَلَى الْمَشَاقِّ حَتَّى يَكُونَ الْعَمَلُ كُلَّمَا كَانَ أَشَقَّ كَانَ أَفْضَلَ كَمَا يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا وَلَكِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَمَصْلَحَتِهِ وَفَائِدَتِهِ ،
وَعَلَى قَدْرِ طَاعَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَأَيُّ الْعَمَلَيْنِ كَانَ أَحْسَنَ وَصَاحِبُهُ أَطْوَعَ وَأَتْبَعَ كَانَ أَفْضَلَ . فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِالْكَثْرَةِ . وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ حَالَ الْعَمَلِ . وَلِهَذَا { لَمَّا نَذَرَتْ أُخْتُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً حَافِيَةً قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك نَفْسَهَا مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ } . وَرُوِيَ " أَنَّهُ أَمَرَهَا بِالْهَدْيِ " وَرُوِيَ " بِالصَّوْمِ " . وَكَذَا حَدِيثُ جويرية فِي تَسْبِيحِهَا بِالْحَصَى أَوْ النَّوَى وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا ضُحًى ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا عَشِيَّةً فَوَجَدَهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ . وَقَوْلُهُ لَهَا : " { لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْت مُنْذُ الْيَوْمِ لَرَجَحَتْ } . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا إلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُنَا وَلَمْ يَنْهَنَا إلَّا عَمَّا فِيهِ فَسَادُنَا ؛ وَلِهَذَا يُثْنِي اللَّهُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ وَيَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ . فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَضَرَّةِ وَالْفَسَادِ وَأَمَرَنَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالصَّلَاحِ لَنَا . وَقَدْ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ إلَّا
بِمَشَقَّةِ : كَالْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ فَيَحْتَمِلُ تِلْكَ الْمَشَقَّةَ وَيُثَابُ عَلَيْهَا لِمَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ . كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ لَمَّا اعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيمِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك } . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَائِدَةُ الْعَمَلِ مَنْفَعَةً لَا تُقَاوِمُ مَشَقَّتَهُ فَهَذَا فَسَادٌ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ . وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْ تَحَمَّلَ مَشَقَّةً لِرِبْحِ كَثِيرٍ أَوْ دَفْعِ عَدُوٍّ عَظِيمٍ كَانَ هَذَا مَحْمُودًا . وَأَمَّا مَنْ تَحَمَّلَ كُلَفًا عَظِيمَةً وَمَشَّاقًا شَدِيدَةً لِتَحْصِيلِ يَسِيرٍ مِنْ الْمَالِ أَوْ دَفْعِ يَسِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُعْطِيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَعْتَاضَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ . أَوْ مَشَى مَسِيرَةَ يَوْمٍ لِيَتَغَدَّى غَدْوَةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَغَدَّى خَيْرًا مِنْهَا فِي بَلَدِهِ . فَالْأَمْرُ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ جَمِيعُهُ مَبْنَاهُ عَلَى الْعَدْلِ وَالِاقْتِصَادِ وَالتَّوَسُّطِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ الْأُمُورِ وَأَعْلَاهَا كَالْفِرْدَوْسِ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَصِيرُهُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . هَذَا فِي كُلِّ عِبَادَةٍ لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا مِثْلِ الْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْمَشْيِ . وَأَمَّا مَا يُقْصَدُ لِنَفْسِهِ مِثْلُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ
وَالتَّوَكُّلِ
عَلَيْهِ فَهَذِهِ شُرِعَ فِيهَا الْكَمَالُ لَكِنْ يَقَعُ فِيهَا سَرَفٌ
وَعُدْوَانٌ بِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فِيهَا مِثْلُ أَنْ يُدْخِلَ تَرْكَ
الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي التَّوَكُّلِ أَوْ يُدْخِلَ اسْتِحْلَالَ
الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكَ الْمَشْرُوعَاتِ فِي الْمَحَبَّةِ فَهَذَا هَذَا .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَهُوَ مُعْتَقَلٌ
بِالْقَلْعَةِ قَلْعَةِ الْجَبَلِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ هَكَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : " { هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ } .
وَتَكُونُ فِي الْوِتْرِ مِنْهَا . لَكِنَّ الْوِتْرَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ
الْمَاضِي فَتُطْلَبُ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ
وَلَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ .
وَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى لِسَابِعَةٍ تَبْقَى لِخَامِسَةٍ تَبْقَى لِثَالِثَةٍ تَبْقَى } . فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ يَكُونُ ذَلِكَ لَيَالِيَ الْأَشْفَاعِ . وَتَكُونُ الِاثْنَيْنِ وَالْعِشْرِينَ تَاسِعَةً تَبْقَى وَلَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَابِعَةً تَبْقَى . وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الخدري فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَهَكَذَا أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّهْرِ . وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ كَانَ التَّارِيخُ بِالْبَاقِي . كَالتَّارِيخِ الْمَاضِي . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ جَمِيعِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { تَحَرَّوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ } وَتَكُونُ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ أَكْثَرَ . وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ كَمَا كَانَ أبي بْنُ كَعْبٍ يَحْلِفُ أَنَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ . فَقِيلَ لَهُ : بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْت ذَلِكَ ؟ فَقَالَ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ . " { أَخْبَرَنَا أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ صُبْحَةَ صَبِيحَتِهَا كَالطَّشْتِ لَا شُعَاعَ لَهَا } . فَهَذِهِ الْعَلَامَةُ الَّتِي رَوَاهَا أبي بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ
أَشْهَرِ الْعَلَامَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ رُوِيَ فِي عَلَامَاتِهَا " {
أَنَّهَا لَيْلَةٌ بلجة مُنِيرَةٌ } وَهِيَ سَاكِنَةٌ لَا قَوِيَّةُ الْحَرِّ
وَلَا قَوِيَّةُ الْبَرْدِ وَقَدْ يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي
الْمَنَامِ أَوْ الْيَقَظَةِ . فَيَرَى أَنْوَارَهَا أَوْ يَرَى مَنْ يَقُولُ لَهُ
هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ يُفْتَحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ
مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْأَمْرُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ " لَيْلَةِ الْقَدْرِ " . وَ " لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟
فَأَجَابَ :
بِأَنَّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّةِ
فَحَظُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ
لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْهَا أَكْمَلُ مِنْ حَظِّهِ مِنْ لَيَالِي الْقَدْرِ .
وَحَظُّ الْأُمَّةِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَكْمَلُ مِنْ حَظِّهِمْ مِنْ
لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ . وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا أَعْظَمُ حَظٍّ . لَكِنَّ
الْفَضْلَ وَالشَّرَفَ وَالرُّتْبَةَ الْعُلْيَا إنَّمَا حَصَلَتْ فِيهَا لِمَنْ
أُسْرِيَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسُئِلَ
: (*)
عَنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ . أَيُّهُمَا
أَفْضَلُ ؟
فَأَجَابَ :
أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ
وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي
عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ : وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ اللَّبِيبُ هَذَا
الْجَوَابَ . وَجَدَهُ شَافِيًا كَافِيًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَيَّامٍ
الْعَمَلُ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ
وَفِيهَا : يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ . وَأَمَّا
لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ فَهِيَ لَيَالِي الْإِحْيَاءِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْيِيهَا كُلَّهَا وَفِيهَا لَيْلَةٌ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . فَمَنْ أَجَابَ بِغَيْرِ هَذَا التَّفْصِيلِ لَمْ
يُمْكِنْهُ أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ .
سُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
أَيُّمَا أَفْضَلُ : يَوْمُ عَرَفَةَ أَوْ الْجُمْعَةِ أَوْ الْفِطَرِ أَوْ النَّحْرِ
؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ يَوْمُ الْجُمْعَةِ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ
فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
" { أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ
الْقَرِّ } لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ
يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } . وَفِيهِ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُعْمَلُ فِي
غَيْرِهِ : كَالْوُقُوفِ بمزدلفة وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا
وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّ فِعْلَ هَذِهِ فِيهِ
أَفْضَلُ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
: (*)
عَنْ يَوْمِ الْجُمْعَةِ وَيَوْمِ النَّحْرِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟
فَأَجَابَ :
يَوْمُ الْجُمْعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَيَوْمُ النَّحْرِ أَفْضَلُ
أَيَّامِ الْعَامِ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ : وَغَيْرُ هَذَا الْجَوَابِ لَا
يَسْلَمُ صَاحِبُهُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ الَّذِي لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَفْضَلِ الْأَيَّامِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ يَوْمُ الْجُمْعَةِ ؛ فِيهِ
خُلِقَ آدَمَ . وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا .
وَأَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ : يَوْمُ النَّحْرِ كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ
يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ }.
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنَّهُ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ ثُمَّ بَدَا لَهُ
أَنْ يَصُومَ يَوْمًا ؛ وَيُفْطِرَ يَوْمًا . وَلَمْ يُرَتِّبْ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ
يَصُومَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ . وَيُفْطِرَ ثَلَاثَةً أَوْ يُفْطِرَ أَرْبَعَةً
وَيَصُومَ ثَلَاثَةً : فَأَيُّهَا أَفْضَلُ ؟ أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا انْتَقَلَ مِنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ إلَى
صَوْمِ
يَوْمٍ
وَفِطْرِ يَوْمٍ فَقَدْ انْتَقَلَ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ . وَفِيهِ نِزَاعٌ
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ . كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي
الْمَسْجِدِ الْمَفْضُولِ وَصَلَّى فِي الْأَفْضَلِ مِثْلُ أَنْ يَنْذُرَ
الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَيُصَلِّي فِي مَسْجِدِ أَحَدِ
الْحَرَمَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا وَرَدَ فِي ثَوَابِ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَمَا تَقُولُ فِي
الِاعْتِكَافِ فِيهَا وَالصَّمْتِ . هَلْ هُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ ؟
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا تَخْصِيصُ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ جَمِيعًا بِالصَّوْمِ أَوْ الِاعْتِكَافِ
فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ
وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ . وَلَا أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ . أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَصُومُ إلَى شَعْبَانَ وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا
يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ أَجْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَأَمَّا صَوْمُ رَجَبٍ
بِخُصُوصِهِ فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ لَا يَعْتَمِدُ
أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا وَلَيْسَتْ مِنْ الضَّعِيفِ الَّذِي
يُرْوَى فِي
الْفَضَائِلِ بَلْ عَامَّتُهَا مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ وَأَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا دَخَلَ رَجَبٌ يَقُولُ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ } . وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ رَجَبٍ } وَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ لَكِنْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ يَضْرِبُ أَيْدِيَ النَّاسِ ؛ لِيَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّعَامِ فِي رَجَبٍ . وَيَقُولُ : لَا تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ . وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَرَأَى أَهْلَهُ قَدْ اشْتَرَوْا كِيزَانًا لِلْمَاءِ وَاسْتَعَدُّوا لِلصَّوْمِ فَقَالَ : " مَا هَذَا فَقَالُوا : رَجَبٌ فَقَالَ : أَتُرِيدُونَ أَنْ تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ ؟ وَكَسَرَ تِلْكَ الْكِيزَانَ " . فَمَتَى أَفْطَرَ بَعْضًا لَمْ يُكْرَهْ صَوْمُ الْبَعْضِ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ : حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِصَوْمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ : وَهِيَ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ . فَهَذَا فِي صَوْمِ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعًا لَا مَنْ يُخَصِّصُ رَجَبًا . وَأَمَّا تَخْصِيصُهَا بِالِاعْتِكَافِ فَلَا أَعْلَمَ فِيهِ أَمْرًا بَلْ كُلُّ مَنْ صَامَ صَوْمًا
مَشْرُوعًا وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ مِنْ صِيَامِهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِلَا رَيْبٍ وَإِنْ اعْتَكَفَ بِدُونِ الصِّيَامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَالثَّانِي : يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ بِدُونِ الصَّوْمِ . كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَمَّا الصَّمْتُ عَنْ الْكَلَامِ مُطْلَقًا فِي الصَّوْمِ أَوْ الِاعْتِكَافِ أَوْ غَيْرِهِمَا فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . لَكِنْ هَلْ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَس فَوَجَدَهَا مُصْمِتَةً لَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ : إنَّ هَذَا لَا يَحُلُّ إنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ . فَقَالَ : مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ } . فَأَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ نَذْرِهِ لِلصَّمْتِ أَنْ يَتَكَلَّمَ كَمَا أَمَرَهُ مَعَ
نَذْرِهِ لِلْقِيَامِ أَنْ يَجْلِسَ وَمَعَ نَذْرِهِ أَلَّا يَسْتَظِلَّ أَنْ يَسْتَظِلَّ . وَإِنَّمَا أَمَرَهُ . بِأَنْ يُوفِيَ بِالصَّوْمِ فَقَطْ . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا النَّاذِرُ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . كَذَلِكَ لَا يُؤْمَرُ النَّاذِرُ أَنْ يَفْعَلَهَا فَمَنْ فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ بِهَا وَالتَّقَرُّبِ وَاِتِّخَاذِ ذَلِكَ دِينًا وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا وَنَحْوَ ذَلِكَ إنَّمَا يَفْعَلُهُ تَدَيُّنًا وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّدَيُّنِ حَرَامٌ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ قُرْبَةً وَيَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَهَذَا حَرَامٌ لَكِنْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إلَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِجَهْلِهِ إذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِذَا بَلَغَهُ الْعِلْمُ فَعَلَيْهِ التَّوْبَةُ . وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي الْكَلَامِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } فَقَوْلُ الْخَيْرِ وَهُوَ الْوَاجِبُ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ فَالسُّكُوتُ عَنْهُ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِهِ .
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لِصَاحِبِهِ : السُّكُوتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ : التَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى } وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الصَّمْتِ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ فِي فَضَائِلِ التَّكَلُّمِ بِالْخَيْرِ وَالصَّمْتِ عَمَّا يَجِبُ مِنْ الْكَلَامِ حَرَامٌ سَوَاءٌ اتَّخَذَهُ دِينًا أَوْ لَمْ يَتَّخِذْهُ . كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَجِبُ أَنْ تُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتُبْغِضَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتُبِيحَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتُحَرِّمَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَوْلُ عَائِشَةَ : " { مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ } هَذَا
إشَارَةٌ إلَى مُقَامِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ كَانَ يَعْتَكِفُ أَدَاءً
أَوْ قَضَاءً فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ
يَعْتَكِفَ مَرَّةً فَطَلَبَ نِسَاؤُهُ الِاعْتِكَافَ مَعَهُ فَرَأَى أَنَّ
مَقْصُودَ بَعْضِهِنَّ الْمُبَاهَاةُ فَأَمَرَ بِالْخِيَامِ فَقُوِّضَتْ وَتَرَكَ
الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الْعَامَ حَتَّى قَضَاهُ مِنْ شَوَّالٍ . وَهُوَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصُمْ رَمَضَانَ إلَّا تِسْعَ مَرَّاتٍ
فَإِنَّهُ فُرِضَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنْ الْهِجْرَةِ بَعْدَ أَنْ صَامَ
يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ
قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَاشُورَاءُ فَلَمْ يَأْمُرْ ذَلِكَ الْعَامَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا
أَهَلَّ الْعَامُ الثَّانِي أَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ وَهَلْ كَانَ أَمْرَ
إيجَابٍ أَوْ
اسْتِحْبَابٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ اُبْتُدِئَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ - رَجَبٍ أَوْ غَيْرِهِ - فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَغَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ذَلِكَ الْعَامَ - أَوَّلُ شَهْرٍ فُرِضَ - غَزْوَةَ بَدْرٍ وَكَانَتْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لسبع عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ الشَّهْرِ فَلَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ ثَلَاثًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْعَشْرُ وَهُوَ فِي السَّفَرِ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْعَشْرِ إلَّا أَقَلُّهُ فَلَمْ يَعْتَكِفْ ذَلِكَ الْعَشْرَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي تَمَامِهِ مَشْغُولًا بِأَمْرِ الْأَسْرَى وَالْفِدَاءِ . وَلَمَّا شَاوَرَهُمْ فِي الْفِدَاءِ قَامَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ ثُمَّ خَرَجَ . وَأَحْوَالُهُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَكِفْ تَمَامَ ذَلِكَ الْعَشْرِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنَّهُ قَضَى اعْتِكَافَهُ كَمَا قَضَى صِيَامَهُ وَكَمَا قَضَى اعْتِكَافَ الْعَامِ الَّذِي أَرَادَ نِسَاؤُهُ الِاعْتِكَافَ مَعَهُ فِيهِ فَهَذَا عَامُ بَدْرٍ . وَأَيْضًا فَعَامُ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ كَانَ قَدْ سَافَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَدَخَلَ مَكَّةَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ أَقَلُّهُ وَهُوَ فِي مَكَّةَ مُشْتَغِلٌ بِآثَارِ الْفَتْحِ وَتَسْرِيَةِ السَّرَايَا إلَى مَا حَوْلَ مَكَّةَ وَتَقْرِيرِ أُصُولِ
الْإِسْلَامِ بِأُمِّ الْقُرَى وَالتَّجَهُّزِ لِغَزْوِ هَوَازِنَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا لَهُ مَعَ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النضري . وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ تِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجْمَعَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ غَزْوِ هَوَازِنَ فَكَانَ مُسَافِرًا فِيهَا غَيْرَ مُتَفَرِّغٍ لِلِاعْتِكَافِ بِمَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامِ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ لَمْ يَعْتَكِفْ فِيهَا فِي رَمَضَانَ بَلْ قَضَى الْعَامَ الْوَاحِدَ الَّذِي أَرَادَ اعْتِكَافَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وَأَمَّا الْآخَرَانِ - فَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَقَضَاهُمَا مَعَ الصَّوْمِ أَمْ لَمْ يَقْضِهَا مَعَ شَطْرِ الصَّلَاةِ . فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } أَيْ الصَّوْمَ أَدَاءً وَالشَّطْرَ أَدَاءً وَقَضَاءً فَالِاعْتِكَافُ مُلْحَقٌ بِأَحَدِهِمَا . وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى اعْتِكَافًا فَاتَهُ فِي السَّفَرِ فَلَا يَثْبُتُ الْجَوَازُ إلَّا أَنَّهُ لِعُمُومِ حَدِيثِ عَائِشَةَ يَبْقَى فِيهِ إمْكَانٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ يَعْمَلُ كُلَّ سَنَةٍ خَتْمَةً فِي لَيْلَةِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، جَمْعُ النَّاسِ لِلطَّعَامِ فِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ
التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ وَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الَّتِي سَنَّهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِعَانَةُ
الْفُقَرَاءِ بِالْإِطْعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ هُوَ مِنْ سُنَنِ الْإِسْلَامِ
. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ
فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } وَإِعْطَاءُ فُقَرَاءِ الْقُرَّاءِ مَا
يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَنْ
أَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ شَرِيكَهُمْ فِي الْأَجْرِ . وَأَمَّا اتِّخَاذُ
مَوْسِمٍ غَيْرِ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ كَبَعْضِ لَيَالِي شَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ الَّتِي يُقَالُ : إنَّهَا لَيْلَةُ الْمَوْلِدِ أَوْ بَعْضِ لَيَالِيِ
رَجَبٍ أَوْ ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ أَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ
أَوْ ثَامِنِ شَوَّالٍ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْجُهَّالُ عِيدَ الْأَبْرَارِ
فَإِنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا السَّلَفُ وَلَمْ
يَفْعَلُوهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ الْكُحْلِ
وَالِاغْتِسَالِ وَالْحِنَّاءِ . وَالْمُصَافَحَةِ وَطَبْخِ الْحُبُوبِ وَإِظْهَارِ
السُّرُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ : فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟
وَإِذَا لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ
فِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةً أَمْ لَا ؟ وَمَا تَفْعَلُهُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مِنْ
الْمَأْتَمِ وَالْحُزْنِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّدْبِ
وَالنِّيَاحَةِ وَقِرَاءَةِ الْمَصْرُوعِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ . هَلْ لِذَلِكَ
أَصْلٌ ؟ أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ
أَصْحَابِهِ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . لَا
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . وَلَا رَوَى أَهْلُ الْكُتُبِ
الْمُعْتَمَدَةِ . فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَا صَحِيحًا وَلَا
ضَعِيفًا لَا فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ
وَلَا فِي السُّنَنِ وَلَا الْمَسَانِيدِ وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى عَهْدِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ . وَلَكِنْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مِثْلَ مَا رَوَوْا أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ وَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَمْرَضْ ذَلِكَ الْعَامَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَرَوَوْا فَضَائِلَ فِي صَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَرَوَوْا أَنَّ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ تَوْبَةَ آدَمَ وَاسْتِوَاءَ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ وَرَدَّ يُوسُفُ عَلَى يَعْقُوبَ وَإِنْجَاءَ إبْرَاهِيمَ مِنْ النَّارِ وَفِدَاءَ الذَّبِيح بِالْكَبْشِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَرَوَوْا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ مَكْذُوبٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ السَّنَةِ } . وَرِوَايَةُ هَذَا كُلِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبٌ وَلَكِنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ . قَالَ : { بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ } وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ كَانَ فِيهِمْ طَائِفَتَانِ :
طَائِفَةٌ رَافِضَةٌ يُظْهِرُونَ مُوَالَاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ إمَّا مَلَاحِدَةٌ زَنَادِقَةٌ وَإِمَّا جُهَّالٌ وَأَصْحَابُ هَوًى . وَطَائِفَةٌ نَاصِبَةٌ تُبْغِضُ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ لَمَّا جَرَى مِنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ مَا جَرَى . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَيَكُونُ فِي ثَقِيفَ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ } فَكَانَ الْكَذَّابُ هُوَ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيَّ وَكَانَ يُظْهِرُ مُوَالَاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالِانْتِصَارَ لَهُمْ وَقَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ أَمِيرَ الْعِرَاقِ الَّذِي جَهَّزَ السَّرِيَّةَ الَّتِي قَتَلَتْ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثُمَّ إنَّهُ أَظْهَرَ الْكَذِبَ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ . وَأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ حَتَّى قَالُوا لِابْنِ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ . قَالُوا لِأَحَدِهِمَا : إنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ فَقَالَ صَدَقَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } وَقَالُوا لِلْآخَرِ : إنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقَالَ صَدَقَ : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } . وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ وَكَانَ : مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَكَانَ هَذَا مِنْ النَّوَاصِبِ وَالْأَوَّلُ مِنْ الرَّوَافِضِ وَهَذَا
الرافضي كَانَ : أَعْظَمَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً وَإِلْحَادًا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَذَاكَ كَانَ أَعْظَمَ عُقُوبَةً لِمَنْ خَرَجَ عَلَى سُلْطَانِهِ وَانْتِقَامًا لِمَنْ اتَّهَمَهُ بِمَعْصِيَةِ أَمِيرِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَانَ فِي الْكُوفَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِتَنٌ وَقِتَالٌ فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَتَلَتْهُ الطَّائِفَةُ الظَّالِمَةُ الْبَاغِيَةُ وَأَكْرَمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ بِالشَّهَادَةِ كَمَا أَكْرَمَ بِهَا مَنْ أَكْرَمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ . أَكْرَمَ بِهَا حَمْزَةَ وَجَعْفَرًا وَأَبَاهُ عَلِيًّا وَغَيْرَهُمْ وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ مِمَّا رَفَعَ اللَّهُ بِهَا مَنْزِلَتَهُ وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ فَإِنَّهُ هُوَ وَأَخُوهُ الْحَسَنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ لَا تُنَالُ إلَّا بِالْبَلَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ : أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً فَقَالَ : { الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ . يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ . فَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ قَدْ سَبَقَ لَهُمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَا سَبَقَ مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ لَهُمَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا حَصَلَ لِسَلَفِهِمَا الطَّيِّبِ فَإِنَّهُمَا وُلِدَا فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ وَتَرَبَّيَا فِي عِزٍّ وَكَرَامَةٍ وَالْمُسْلِمُونَ يُعَظِّمُونَهُمَا وَيُكْرِمُونَهُمَا وَمَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْتَكْمِلَا سِنَّ التَّمْيِيزِ
فَكَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا أَنْ ابْتَلَاهُمَا بِمَا يُلْحِقُهُمَا بِأَهْلِ بَيْتِهِمَا كَمَا ابْتَلَى مَنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَقَدْ قُتِلَ شَهِيدًا وَكَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ مِمَّا ثَارَتْ بِهِ الْفِتَنُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا كَانَ مَقْتَلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ الْفِتَنَ بَيْنَ النَّاسِ وَبِسَبَبِهِ تَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ إلَى الْيَوْمِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { ثَلَاثٌ مَنْ نَجَا مِنْهُنَّ فَقَدْ نَجَا : مَوْتِي وَقَتْلُ خَلِيفَةٍ مُضْطَهِدٍ وَالدَّجَّالُ } . فَكَانَ مَوْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي افْتَتَنَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ فَأَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى ثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ الْإِيمَانَ وَأَعَادَ بِهِ الْأَمْرَ إلَى مَا كَانَ فَأَدْخَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ فِي الْبَابِ الَّذِي مِنْهُ خَرَجُوا وَأَقَرَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ عَلَى الدِّينِ الَّذِي وَلَجُوا فِيهِ وَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْجِهَادِ وَالشِّدَّةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَاللِّينِ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ فَقَهَرَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمَجُوسِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ وَفَرَضَ الْعَطَاءَ وَوَضَعَ الدِّيوَانَ وَنَشَرَ الْعَدْلَ وَأَقَامَ السُّنَّةَ وَظَهَرَ الْإِسْلَامُ فِي أَيَّامِهِ ظُهُورًا بَانَ بِهِ تَصْدِيقُ قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } وقَوْله تَعَالَى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ . وَاَلَّذِي . نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا . فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَكَانَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ كُنُوزَهُمَا . فَعُلِمَ أَنَّهُ أَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً رَاشِدًا مَهْدِيًّا ثُمَّ جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى فِي سِتَّةٍ فَاتَّفَقَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانِ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ بَذَلَهَا لَهُمْ وَلَا رَهْبَةٍ أَخَافَهُمْ بِهَا وَبَايَعُوهُ بِأَجْمَعِهِمْ طَائِعِينَ غَيْرَ كَارِهِينَ وَجَرَى فِي آخِرِ أَيَّامِهِ أَسْبَابٌ ظَهَرَ بِالشَّرِّ فِيهَا ( عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ ( أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْعُدْوَانِ وَمَا زَالُوا يَسْعَوْنَ فِي الْفِتَنِ حَتَّى قُتِلَ الْخَلِيفَةُ مَظْلُومًا شَهِيدًا بِغَيْرِ سَبَبٍ يُبِيحُ قَتْلَهُ وَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ لَمْ يُقَاتِلْ مُسْلِمًا . فَلَمَّا قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَفَرَّقَتْ الْقُلُوبُ وَعَظُمَتْ الْكُرُوبُ وَظَهَرَتْ الْأَشْرَارُ وَذَلَّ الْأَخْيَارُ وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا وَعَجَزَ عَنْ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ إقَامَتَهُ فَبَايَعُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَحَقّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ حِينَئِذٍ
وَأَفْضَلُ مَنْ بَقِيَ لَكِنْ كَانَتْ الْقُلُوبُ مُتَفَرِّقَةً وَنَارُ الْفِتْنَةِ مُتَوَقِّدَةً فَلَمْ تَتَّفِقْ الْكَلِمَةُ وَلَمْ تَنْتَظِمْ الْجَمَاعَةُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْخَلِيفَةُ وَخِيَارُ الْأُمَّةِ مِنْ كُلِّ مَا يُرِيدُونَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَدَخَلَ فِي الْفُرْقَةِ وَالْفِتْنَةِ أَقْوَامٌ وَكَانَ مَا كَانَ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الحرورية الْمَارِقَةُ مَعَ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ فَقَاتَلُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ ؛ فَقَتَلَهُمْ بِأَمْرِ اللَّه وَرَسُولِهِ طَاعَةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ : { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَقَوْلِهِ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَكَانَتْ هَذِهِ الحرورية هِيَ الْمَارِقَةَ وَكَانَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فُرْقَةٌ وَالْقِتَالُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ الِاقْتِتَالِ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ
عَلَى بَعْضٍ مُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ . فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ قُوتِلَتْ الْبَاغِيَةُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالِاقْتِتَالِ ابْتِدَاءً . وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَارِقَةَ يَقْتُلُهَا أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ هُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ . فَدَلَّ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُمْ أَدْنَى إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ مَعَ إيمَانِ الطَّائِفَتَيْنِ . ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجَمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَارِقِينَ قَتَلَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا فَصَارَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ شَهِيدًا وَبَايَعَ الصَّحَابَةُ لِلْحَسَنِ ابْنِهِ فَظَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالَ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَنَزَلَ عَنْ الْوِلَايَةِ وَأَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَكَانَ هَذَا مِمَّا مَدَحَهُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَحْمَدُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ وَصَارَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَقَامَتْ طَوَائِفُ كَاتَبُوا الْحُسَيْنَ وَوَعَدُوهُ بِالنَّصْرِ وَالْمُعَاوَنَةِ إذَا قَامَ بِالْأَمْرِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ
ذَلِكَ بَلْ لَمَّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَمِّهِ أَخْلَفُوا وَعْدَهُ . وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَأَعَانُوا عَلَيْهِ مَنْ وَعَدُوهُ أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْهُ وَيُقَاتِلُوهُ مَعَهُ . وَكَانَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَحَبَّةِ لِلْحُسَيْنِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ وَلَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ وَرَأَوْا أَنَّ خُرُوجَهُ إلَيْهِمْ لَيْسَ بِمَصْلَحَةِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَسُرُّ وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا . فَلَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَأَى أَنَّ الْأُمُورَ قَدْ تَغَيَّرَتْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَدَعُوهُ يَرْجِعُ أَوْ يَلْحَقُ بِبَعْضِ الثُّغُورِ أَوْ يَلْحَقُ بِابْنِ عَمِّهِ يَزِيدَ فَمَنَعُوهُ هَذَا وَهَذَا . حَتَّى يُسْتَأْسَرَ وَقَاتِلُوهُ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ . وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ مَظْلُومًا شَهِيدًا شَهَادَةً أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهَا وَأَلْحَقَهُ بِأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ . وَأَهَانَ بِهَا مَنْ ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ ذَلِكَ شَرًّا بَيْنَ النَّاسِ . فَصَارَتْ طَائِفَة جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ : إمَّا مُلْحِدَةً مُنَافِقَةً وَإِمَّا ضَالَّةً غَاوِيَةً تُظْهِرُ مُوَالَاتَهُ وَمُوَالَاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ لَطْمِ الْخُدُودِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّه بِهِ وَرَسُولُهُ فِي الْمُصِيبَةِ - إذَا كَانَتْ جَدِيدَةً - إنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ وَالِاسْتِرْجَاعُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } وَقَالَ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ } وَقَالَ : { النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطْرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ } . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةِ فَيَذْكُرُ مُصِيبَتَهُ وَإِنْ قَدُمَتْ فَيُحْدِثُ لَهَا اسْتِرْجَاعًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِهِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا } . وَهَذَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ مُصِيبَةَ الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِ إذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ طُولِ الْعَهْدِ فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ فِيهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِيُعْطَى مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِ الْمُصَابِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ عِنْدَ حَدَثَانِ الْعَهْدِ
بِالْمُصِيبَةِ فَكَيْفَ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ فَكَانَ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ مِنْ اتِّخَاذِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا وَمَا يَصْنَعُونَ فِيهِ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ وَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ كَثِيرٌ وَالصِّدْقُ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ وَالتَّعَصُّبُ وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سَبِّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَكَثْرَةِ الْكَذِبِ وَالْفِتَنِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَعْرِفْ طَوَائِفُ الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ كَذِبًا وَفِتَنًا وَمُعَاوَنَةً لِلْكُفَّارِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَة الضَّالَّةِ الْغَاوِيَةِ فَإِنَّهُمْ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ . وَأُولَئِكَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ } . وَهَؤُلَاءِ يُعَاوِنُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَعَانُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَالتَّتَارِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا بِأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ وَلَدِ الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ . وَشَرُّ هَؤُلَاءِ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلَامِ . فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ إمَّا مِنْ النَّوَاصِبِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ
بَيْتِهِ وَإِمَّا مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ قَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ وَالْكَذِبَ بِالْكَذِبِ وَالشَّرَّ بِالشَّرِّ وَالْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ فَوَضَعُوا الْآثَارَ فِي شَعَائِرِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَالِاكْتِحَالِ وَالِاخْتِضَابِ وَتَوْسِيعِ النَّفَقَاتِ عَلَى الْعِيَالِ وَطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ يَتَّخِذُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَوْسِمًا كَمَوَاسِمِ الْأَعْيَادِ وَالْأَفْرَاحِ . وَأُولَئِكَ يَتَّخِذُونَهُ مَأْتَمًا يُقِيمُونَ فِيهِ الْأَحْزَانَ وَالْأَتْرَاحَ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ أَسْوَأَ قَصْدًا وَأَعْظَمَ جَهْلًا وَأَظْهَرَ ظُلْمًا لَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ . فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا شَعَائِرِ الْحُزْنِ وَالتَّرَحِ وَلَا شَعَائِرِ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ : { مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى مِنْ الْغَرَقِ فَنَحْنُ نَصُومُهُ فَقَالَ : نَحْنُ أَحَقُّ
بِمُوسَى مِنْكُمْ . فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ } وَكَانَتْ قُرَيْشٌ أَيْضًا تُعَظِّمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . وَالْيَوْمُ الَّذِي أَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ كَانَ يَوْمًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ثُمَّ فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ ذَلِكَ الْعَامَ فَنُسِخَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ كَانَ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاجِبًا ؟ أَوْ مُسْتَحَبًّا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَصُومُهُ مَنْ يَصُومُهُ اسْتِحْبَابًا وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَامَّةَ بِصِيَامِهِ بَلْ كَانَ يَقُولُ : { هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَأَنَا صَائِمٌ فِيهِ فَمَنْ شَاءَ صَامَ } . وَقَالَ : { صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سِنَةً وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ } . وَلَمَّا كَانَ آخِرُ عُمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَهُ أَنَّ الْيَهُودَ يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا قَالَ : { لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَن التَّاسِعَ } لِيُخَالِفَ الْيَهُودَ وَلَا يُشَابِهَهُمْ فِي اتِّخَاذِهِ عِيدًا وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يَصُومُهُ وَلَا يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ ؛ بَلْ يَكْرَهُ إفْرَادَهُ بِالصَّوْمِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَة مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ التَّاسِعَ ؛ لِأَنَّ هَذَا آخَرُ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ : { لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَن التَّاسِعَ مَعَ الْعَاشِرِ } كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فَهَذَا الَّذِي سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا سَائِر الْأُمُورِ : مِثْلُ اتِّخَاذِ طَعَامٍ خَارِجٍ عَنْ الْعَادَةِ إمَّا حُبُوبٍ وَإِمَّا غَيْرِ حُبُوبٍ أَوْ فِي تَجْدِيدِ لِبَاسٍ أَوْ تَوْسِيعِ نَفَقَةٍ أَوْ اشْتِرَاءِ حَوَائِجَ الْعَامِ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوْ فِعْلُ عِبَادَةٍ مُخْتَصَّةٍ . كَصَلَاةِ مُخْتَصَّةٍ بِهِ أَوْ قَصْدُ الذَّبْحِ أَوْ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِيَطْبُخَ بِهَا الْحُبُوبَ أَوْ الِاكْتِحَالُ أَوْ الِاخْتِضَابُ أَوْ الِاغْتِسَالُ أَوْ التَّصَافُحُ أَوْ التَّزَاوُرُ أَوْ زِيَارَةُ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي لَمْ يَسُنُّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ وَلَا اسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مَالِكٌ وَلَا الثَّوْرِيُّ وَلَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا الأوزاعي وَلَا الشَّافِعِيِّ وَلَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَلَا أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ قَدْ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ وَآثَارًا وَيَقُولُونَ : " إنَّ بَعْضَ ذَلِكَ صَحِيحٌ فَهُمْ مُخْطِئُونَ غَالَطُونِ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ أَهْلِ
الْمَعْرِفَةِ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ . وَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الكرماني فِي مَسَائِلِهِ : سُئِلَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ : { مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ } فِلْم يَرَهُ شَيْئًا . وَأَعْلَى مَا عِنْدَهُمْ أَثَرٌ يُرْوَى عَنْ إبْرَاهِيمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : بَلَغَنَا { أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِر سَنَتِهِ } قَالَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة جَرَّبْنَاهُ مُنْذُ سِتِّينَ عَامًا فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحًا وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِمَّنْ سَمِعَ هَذَا وَلَا عَمَّنْ بَلَغَهُ فَلَعَلَّ الَّذِي قَالَ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُقَابِلُوا الرَّافِضَةَ بِالْكَذِبِ : مُقَابَلَةَ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ وَالْبِدْعَةِ بِالْبِدْعَةِ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَة . فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ وَلَيْسَ فِي إنْعَامِ اللَّهِ بِذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كَانَ التَّوْسِيعَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى مَنْ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ أَنْ يُوَسِّعُوا عَلَى أَهْلِيهِمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بِخُصُوصِهِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ كَثِيرً مِنْ النَّاسِ يَنْذُرُونَ نَذْرًا لِحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَيَقْضِي اللَّهُ حَاجَتَهُ فَيَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ كَانَ السَّبَبَ وَقَدْ ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ حَاجَتَهُ إنَّمَا قُضِيَتْ بِالنَّذْرِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتِّبَاعِ دِينِهِ وَسَبِيلِهِ وَاقْتِفَاءِ هُدَاهُ وَدَلِيلِهِ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا عَظُمَتْ بِهِ النِّعْمَةُ حَيْثُ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . { إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ؛ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُتَّبَعْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ رَأَى مِنْ رَجُلٍ مُكَاشَفَةً أَوْ تَأْثِيرًا فَاتَّبَعَهُ فِي خِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ مِنْ جِنْسِ أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ فَإِنَّ الدَّجَّالَ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ : أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ وَيَقُولُ لِلْأَرْضِ : أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ وَيَقُولُ لِلْخَرِبَةِ أَخْرِجِي كُنُوزَك فَيَخْرُجُ مَعَهُ كُنُوزُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيَقْتُلُ رَجُلًا ثُمَّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُومَ فَيَقُومُ وَهُوَ مَعَ هَذَا كَافِرٌ مَلْعُونٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا قَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ : وَأَنَا أُنْذِرُكُمُوهُ إنَّهُ أَعْوَرُ
وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ - ك ف ر - يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ قَارِئٌ وَغَيْرُ قَارِئٍ وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ } . وَهَؤُلَاءِ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتُوحِي إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ ظَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ . وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ : كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ مُحَمَّدِ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّ مُسَيْلِمَةَ كَانَ لَهُ شَيْطَانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَيُوحِي إلَيْهِ .
وَمِنْ عَلَامَاتِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَحْوَالَ إذَا تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ وَقْتَ سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ أَزْبَدُوا وَأَرْعَدُوا - كَالْمَصْرُوعِ - وَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِ لَا يُفْقَهُ مَعْنَاهُ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَمَا تَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ . وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنْ يَعْلَمَ الرَّجُلُ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ نَعَتَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَمْ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا . فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ و لَإِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ . وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ عَلَى أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَأَنْ
نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَ لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ . قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا . وَلِهَذَا كَانَتْ أُصُولُ الْإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئِ مَا نَوَى } وَقَوْلُهُ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } . وَقَوْلُهُ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّا فِي الْخَمِيسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْبِدَعِ
فَأَجَابَ :
أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ سَوَّلَ لِكَثِيرٍ مِمَّنْ
يَدَّعِي الْإِسْلَامَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ فِي أَوَاخِرِ صَوْمِ النَّصَارَى
وَهُوَ الْخَمِيسُ الْحَقِيرُ مِنْ الْهَدَايَا وَالْأَفْرَاحِ وَالنَّفَقَاتِ
وَكُسْوَةِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ مِثْلَ عِيدِ
الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا الْخَمِيسُ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ صَوْمِ
النَّصَارَى : فَجَمِيعُ مَا يُحْدِثُهُ الْإِنْسَانُ فِيهِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ
فَمِنْ ذَلِكَ خُرُوجُ النِّسَاءِ وَتَبْخِيرُ الْقُبُورِ وَوَضْعُ الثِّيَابِ
عَلَى السَّطْحِ وَكِتَابَةُ الْوَرَقِ وَإِلْصَاقُهَا بِالْأَبْوَابِ
وَاِتِّخَاذُهُ مَوْسِمًا لِبَيْعِ الْخُمُورِ وَشِرَائِهَا وَرَقْيُ الْبَخُورِ
مُطْلَقًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَصْدُ شِرَاءِ الْبَخُورِ
الْمَرْقِيِّ فَإِنَّ رَقْيَ الْبَخُورِ وَاِتِّخَاذَهُ قُرْبَانًا هُوَ دِينُ
النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ . وَإِنَّمَا الْبَخُورُ طِيبٌ يُتَطَيَّبُ
بِدُخَانِهِ كَمَا يُتَطَيَّبُ بِسَائِرِ الطِّيبِ وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُهُ
بِطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صَبْغِ الْبِيضِ .
وَأَمَّا الْقِمَارُ بِالْبَيْضِ وَبَيْعُهُ لِمَنْ يُقَامِرُ بِهِ أَوْ شِرَاؤُهُ مِنْ الْمُقَامِرِينَ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ مِنْ أَخْذِ وَرَقِ الزَّيْتُونِ أَوْ الِاغْتِسَالِ بِمَائِهِ فَإِنَّ أَصْلَ ذَلِكَ مَاءُ الْمَعْمُودِيَّةِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَرْكُ الْوَظَائِفِ الرَّاتِبَةِ مِنْ الصَّنَائِعِ وَالتِّجَارَاتِ أَوْ حِلَقِ الْعِلْمِ فِي أَيَّامِ عِيدِهِمْ وَاِتِّخَاذُهُ يَوْمَ رَاحَةٍ وَفَرْحَةٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ عَنْ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانُوا يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الذَّبْحِ بِالْمَكَانِ إذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ فِيهِ وَيَفْعَلُونَ أُمُورًا يَقْشَعِرُّ مِنْهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ - بَلْ يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرُ الْمُنْكَرَ - كَمَا لَا يَتَشَبَّهُ بِهِمْ فَلَا يُعَانُ الْمُسْلِمُ الْمُتَشَبِّهُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ بَلْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ . فَمَنْ صَنَعَ دَعْوَةً مُخَالِفَةً لِلْعَادَةِ فِي أَعْيَادِهِمْ لَمْ تَجِبْ دَعْوَتُهُ وَمَنْ أَهْدَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَدِيَّةً فِي هَذِهِ الْأَعْيَادِ مُخَالِفَةٌ لِلْعَادَةِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ لَمْ تُقْبَلْ هَدِيَّتُهُ خُصُوصًا إنْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ مِثْلَ إهْدَاءِ الشَّمْعِ وَنَحْوِهِ فِي الْمِيلَادِ وَإِهْدَاءِ الْبَيْضِ وَاللَّبَنِ وَالْغَنَمِ فِي الْخَمِيسِ الصَّغِيرِ الَّذِي فِي آخِرِ صَوْمِهِمْ وَهُوَ الْخَمِيسُ الْحَقِيرُ . وَلَا
يُبَايِعُ
الْمُسْلِمُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مُشَابَهَتِهِمْ فِي
الْعِيدِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْبَخُورِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ
إعَانَةً عَلَى الْمُنْكَرِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
وَنَذْكُرُ أَشْيَاءَ مِنْ مُنْكَرَاتِ دِينِ النَّصَارَى لِمَا رَأَيْت طَوَائِفَ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ اُبْتُلِيَ بِبَعْضِهَا وَجَهِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
أَنَّهَا مِنْ دِينِ النَّصَارَى الْمَلْعُونِ هُوَ وَأَهْلُهُ . وَقَدْ بَلَغَنِي
أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي الْخَمِيسِ الْحَقِيرِ . الَّذِي قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ
السَّبْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إلَى الْقُبُورِ . وَكَذَلِكَ يُبَخِّرُونَ فِي
هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي الْبَخُورِ بَرَكَةً وَدَفْعَ
مَضَرَّةٍ وَيَعُدُّونَهُ مِنْ الْقَرَابِينِ مِثْلَ الذَّبَائِحِ وَيَرْقُونَهُ
بِنُحَاسٍ يَضْرِبُونَهُ كَأَنَّهُ نَاقُوسٌ صَغِيرٌ وَبِكَلَامٍ مُصَنَّفٍ
وَيُصَلِّبُونَ عَلَى أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ
الْمُنْكَرَةِ حَتَّى إنَّ الْأَسْوَاقَ تَبْقَى مَمْلُوءَةً أَصْوَاتَ
النَّوَاقِيسِ الصِّغَارِ وَكَلَامَ الرقايين مِنْ الْمُنَجِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ
بِكَلَامِ أَكْثَرُهُ بَاطِلٌ وَفِيهِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ كُفْرٌ . وَقَدْ
أُلْقِيَ إلَى جَمَاهِيرِ الْعَامَّةِ أَوْ جَمِيعِهِمْ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ
وَأَعْنِي
بِالْعَامَّةِ هُنَا : كُلَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى فِقْهٍ وَدِينٍ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ أُلْقِيَ إلَيْهِمْ أَنَّ هَذَا الْبَخُورَ الْمَرْقِيَّ يَنْفَعُ بِبَرَكَتِهِ مِنْ الْعَيْنِ وَالسِّحْرِ وَالْأَدْوَاءِ وَالْهَوَاءِ . وَيُصَوِّرُونَ صُوَرَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ . وَيُلْصِقُونَهَا فِي بُيُوتِهِمْ زَعْمًا أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ الْمَلْعُونَ فَاعِلُهَا الَّتِي لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا هِيَ فِيهِ تَمْنَعُ الْهَوَامَّ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ طَلَاسِمِ الصَّابِئَةِ . ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا بَلَغَنِي يُصَلِّبُ بَابَ الْبَيْتِ . وَيَخْرُجُ خَلْقٌ عَظِيمٌ فِي الْخَمِيسِ الْحَقِيرِ الْمُتَقَدِّمِ وَعَلَى هَذَا يُبَخِّرُونَ الْقُبُورَ وَيُسَمُّونَ هَذَا الْمُتَأَخِّرَ الْخَمِيسَ الْكَبِيرَ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ الْخَمِيسُ الْمَهِينُ الْحَقِيرُ هُوَ وَأَهْلُهُ وَمَنْ يُعَظِّمُهُ فَإِنَّ كُلَّ مَا عُظِّمَ بِالْبَاطِلِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ بَنِيَّةٍ يَجِبُ قَصْدُ إهَانَتِهِ كَمَا تُهَانُ الْأَوْثَانُ الْمَعْبُودَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَوْلَا عِبَادَتُهَا لَكَانَتْ كَسَائِرِ الْأَحْجَارِ . وَمِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ : أَنَّهُمْ يُوَظِّفُونَ عَلَى الْفَلَّاحِينَ وَظَائِفَ أَكْثَرُهُ كَرْهًا ؛ مِنْ الْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ وَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ يَجْتَمِعُ فِيهَا تَحْرِيمَانِ : أَكْلُ مَالِ الْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهِدِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِقَامَةُ شِعَارِ النَّصَارَى وَيَجْعَلُونَهُ مِيقَاتًا لِإِخْرَاجِ الْوُكَلَاءِ عَلَى الْمَزَارِعِ وَيَطْبُخُونَ مِنْهُ وَيَصْطَبِغُونَ فِيهِ الْبَيْضَ وَيُنْفِقُونَ فِيهِ النَّفَقَاتِ الْوَاسِعَةَ وَيُزَيِّنُونَ أَوْلَادَهُمْ
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقْشَعِرُّ مِنْهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ . الَّذِي لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ بَلْ يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرُ الْمُنْكَرَ . وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَضَعُونَ ثِيَابَهُمْ تَحْتَ السَّمَاءِ رَجَاءً لِبَرَكَةِ نُزُولِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا فَهَلْ يَسْتَرِيبُ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَبَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ أَنَّ شَرِيعَةً جَاءَتْ بِمَا قَدَّمْنَا بَعْضَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . لَا يَرْضَى مَنْ شَرَعَهَا بِبَعْضِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ إنَّمَا هُوَ اخْتِصَاصُ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ أَوْ مُشَابَهَتُهُمْ فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ فَيَوْمُ الْخَمِيسِ هُوَ عِنْدَهُمْ يَوْمُ عِيدِ الْمَائِدَةِ وَيَوْمُ الْأَحَدِ يُسَمُّونَهُ عِيدَ الْفِصْحِ وَعِيدَ النُّورِ وَالْعِيدَ الْكَبِيرِ . وَلَمَّا كَانَ عِيدًا صَارُوا يَصْنَعُونَ لِأَوْلَادِهِمْ فِيهِ الْبَيْضَ الْمَصْبُوغَ وَنَحْوَهُ لِأَنَّهُمْ فِيهِ يَأْكُلُونَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْحَيَوَانِ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ وَبَيْضٍ إذْ صَوْمُهُمْ هُوَ عَنْ الْحَيَوَانِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ . وَعَامَّةُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْ النَّصَارَى وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُحْكَ قَدْ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لِكَثِيرِ مِمَّنْ يَرَى الْإِسْلَامَ وَجَعَلَ لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ مَكَانَةً وَحُسْنَ ظَنٍّ وَزَادُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَنَقَصُوا وَقَدَّمُوا وَأَخَّرُوا . وَكُلُّ مَا خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأَيَّامُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِهَا فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَابِهَهُمْ فِي أَصْلِهِ وَلَا فِي وَصْفِهِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَكْسُونَ بِالْحُمْرَةِ دَوَابَّهُمْ وَيَصْبُغُونَ الْأَطْعِمَةَ الَّتِي لَا تَكَادُ تُفْعَلُ فِي عِيدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَتَهَادَوْنَ الْهَدَايَا الَّتِي تَكُونُ فِي مِثْلِ مَوَاسِمِ الْحَجِّ . وَعَامَّتُهُمْ قَدْ نَسُوا أَصْلَ ذَلِكَ
وَبَقِيَ عَادَةً مُطَّرِدَةً . وَهَذَا كُلُّهُ تَصْدِيقُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ } وَإِذَا كَانَتْ الْمُتَابَعَةُ فِي الْقَلِيلِ ذَرِيعَةً وَوَسِيلَةً إلَى بَعْضِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ . كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَكَيْفَ إذَا أَفْضَتْ إلَى مَا هُوَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ مِنْ التَّبَرُّكِ بِالصَّلِيبِ وَالتَّعَمُّدِ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : الْمَعْبُودُ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَتْ الطُّرُقُ مُخْتَلِفَةً وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ : إمَّا كَوْنَ الشَّرِيعَةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ الْيَهُودِيَّةِ الْمُبَدَّلَيْنِ الْمَنْسُوخَيْنِ مُوَصِّلَةً إلَى اللَّهِ وَإِمَّا اسْتِحْسَانَ بَعْضِ مَا فِيهَا مِمَّا يُخَالِفُ دِينَ اللَّهِ أَوْ التَّدَيُّنَ بِذَلِكَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كَفْرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِالْقُرْآنِ وَبِالْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْأُمَّةِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ الْمُشَابَهَةُ وَالْمُشَارَكَةُ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك كَمَالُ مَوْقِعِ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ . وَبَعْضُ حِكَمِ مَا شَرَعَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْكُفَّارِ وَمُخَالَفَتِهِمْ فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ ؛ لِتَكُونَ الْمُخَالَفَةُ أَحْسَمَ لِمَادَّةِ الشَّرِّ وَأَبْعَدَ عَنْ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ . فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إذَا طَلَبَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحِيلَهُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَقْضِيَ لَهُمْ فِي عِيدِ اللَّهِ مِنْ الْحُقُوقِ مَا يَقْطَعُ اسْتِشْرَافَهُمْ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا
بِاَللَّهِ وَمَنْ أَغْضَبَ أَهْلَهُ لِلَّهِ أَرْضَاهُ اللَّهُ وَأَرْضَاهُمْ . فَلْيَحْذَرْ الْعَاقِلُ مِنْ طَاعَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ } . وَأَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الْمُلْكَ وَالدُّوَلَ طَاعَةُ النِّسَاءِ . فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا أَفْلَحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً } . وَرُوِيَ أَيْضًا : { هَلَكَتْ الرِّجَالُ حِينَ أَطَاعَتْ النِّسَاءَ } وَقَدْ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَاجَعْنَهُ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ : إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ } . يُرِيدُ أَنَّ النِّسَاءَ مِنْ شَأْنِهِنَّ مُرَاجَعَةُ ذِي اللُّبِّ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِلُبِّ ذِي اللُّبِّ مِنْ إحْدَاكُنَّ } . { وَلَمَّا أَنْشَدَهُ الْأَعْشَى - أَعْشَى بَاهِلَةَ - أَبْيَاتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا : وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبَ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَدِّدُهَا وَيَقُولُ : وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبَ } وَلِذَلِكَ امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى زَكَرِيَّا حَيْثُ قَالَ : { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ زَوْجَتِهِ .
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } . وَقَدْ رَوَى البيهقي بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ عِيدِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ ؛ وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ يَوْمَ نيروزهم وَمَهْرَجَانِهِمْ - عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : قَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَإِنَّ السُّخْطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ " . فَهَذَا عُمَرَ قَدْ نَهَى عَنْ تَعَلُّمِ لِسَانِهِمْ وَعَنْ مُجَرَّدِ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَكَيْفَ مَنْ يَفْعَلُ بَعْضَ أَفْعَالِهِمْ ؟ أَوْ قَصَدَ مَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ دِينِهِمْ ؟ أَلَيْسَتْ مُوَافَقَتُهُمْ فِي الْعَمَلِ أَعْظَمُ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ فِي اللُّغَةِ ؟ أو لَيْسَ عَمَلُ بَعْضِ أَعْمَالِ عِيدِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ فِي عِيدِهِمْ وَإِذَا كَانَ السُّخْطُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ فَمَنْ يُشْرِكُهُمْ فِي الْعَمَلِ أَوْ بَعْضِهِ أَلَيْسَ قَدْ تَعَرَّضَ لِعُقُوبَةِ ذَلِكَ . ثُمَّ قَوْلُهُ : " اجْتَنِبُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي عِيدِهِمْ " أَلَيْسَ نَهْيًا عَنْ لِقَائِهِمْ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِيهِ ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ عَمِلَ عِيدَهُمْ وَقَالَ ابْنِ عُمَرَ فِي كَلَامٍ لَهُ : مَنْ صَنَعَ نيروزهم وَمَهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ حُشِرَ مَعَهُمْ . وَقَالَ عُمَرَ : اجْتَنِبُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي عِيدِهِمْ . وَنَصَّ الْإِمَامِ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ شُهُودُ أَعْيَادِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قَالَ الشَّعَانِينُ وَأَعْيَادُهُمْ . وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي كَلَامٍ لَهُ قَالَ : فَلَا يُعَاوَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِيدِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ . وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٌ وَغَيْرِهِ : لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ . وَأَكْلُ ذَبَائِحِ أَعْيَادِهِمْ دَاخِلٌ فِي هَذَا الَّذِي اُجْتُمِعَ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ بَلْ هُوَ عِنْدِي أَشَدُّ : وَقَدْ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ الرُّكُوبِ فِي السُّفُنِ الَّتِي رَكِبَ فِيهَا النَّصَارَى إلَى أَعْيَادِهِمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ مَخَافَةَ نُزُولِ السُّخْطِ عَلَيْهِمْ بِشِرْكِهِمْ . الَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ } فَيُوَافِقُهُمْ وَيُعِينُهُمْ { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قُلْت لِعُمَرِ : إنَّ لِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا قَالَ : ما لَك قَاتَلَك اللَّهُ أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أَلَا اتَّخَذْت حَنِيفِيًّا قَالَ : قُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي
كِتَابَتُهُ وَلَهُ دِينُهُ قَالَ : لَا أُكْرِمُهُمْ إذْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ وَلَا أُعِزُّهُمْ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ وَلَا أُدْنِيهِمْ إذْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قَالَ مُجَاهِدٍ : أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى ( مَسْأَلَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ حُضُورِ أَعْيَادِ الْمُشْرِكِينَ وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني بِإِسْنَادِهِ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قَالَ : عِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سِنَانٍ عَنْ الضَّحَّاكِ { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } كَلَامَ الْمُشْرِكِينَ . وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ سلام عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } لَا يماكثون أَهْلَ الشِّرْكِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَلَا يُخَالِطُونَهُمْ . وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ الَّتِي أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا بِمُخَالَفَتِهِمْ وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ . . . (1) إيقَادُ النَّارِ وَالْفَرَحُ بِهَا مِنْ شِعَارِ الْمَجُوسِ عُبَّادِ النِّيرَانِ . وَالْمُسْلِمُ يَجْتَهِدُ فِي إحْيَاءِ السُّنَنِ . وَإِمَاتَةِ الْبِدَعِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ يَفْعَلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : مِثْلَ طَعَامِ النَّصَارَى فِي
النَّيْرُوزِ . وَيَفْعَلُ سَائِرَ الْمَوَاسِمِ مِثْلَ الْغِطَاسِ وَالْمِيلَادِ
وَخَمِيسِ الْعَدَسِ وَسَبْتِ النُّورِ وَمَنْ يَبِيعُهُمْ شَيْئًا يَسْتَعِينُونَ
بِهِ عَلَى أَعْيَادِهِمْ أَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي
شَيْءٍ مِمَّا يَخْتَصُّ بِأَعْيَادِهِمْ لَا مِنْ طَعَامٍ وَلَا لِبَاسٍ وَلَا
اغْتِسَالٍ وَلَا إيقَادِ نِيرَانٍ وَلَا تَبْطِيلِ عَادَةٍ مِنْ مَعِيشَةٍ أَوْ
عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا يَحِلُّ فِعْلُ وَلِيمَةٍ وَلَا
الْإِهْدَاءُ وَلَا الْبَيْعُ بِمَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ
ذَلِكَ . وَلَا تَمْكِينُ الصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ اللَّعِبِ الَّذِي فِي
الْأَعْيَادِ وَلَا إظْهَارُ زِينَةٍ . وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ
يَخُصُّوا أَعْيَادَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ شَعَائِرِهِمْ بَلْ يَكُونُ يَوْمُ
عِيدِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ لَا يَخُصُّهُ
الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِمْ .
وَأَمَّا إذَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ قَصْدًا فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . بَلْ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى كُفْرِ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : مَنْ ذَبَحَ نَطِيحَةً يَوْمَ عِيدِهِمْ فَكَأَنَّمَا ذَبَحَ خِنْزِيرًا . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاص : مَنْ [ تَأَسَّى ] (*) بِبِلَادِ الْأَعَاجِمِ وَصَنَعَ نيروزهم وَمَهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ كَذَلِكَ حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ : { نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْحَرَ إبِلًا ببوانة فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ إبِلًا ببوانة فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ فِيهَا مِنْ وَثَنٍ يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْفِ بِنَذْرِك فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } فَلَمْ يَأْذَنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا الرَّجُلِ أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَفَاءِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا حَتَّى أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ وَقَالَ : { لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي
مَعْصِيَةِ اللَّهِ } . فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ بِمَكَانٍ كَانَ فِيهِ عِيدُهُمْ مَعْصِيَةً . فَكَيْفَ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِي نَفْسِ الْعِيدِ ؟ بَلْ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالصَّحَابَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُظْهِرُوا أَعْيَادَهُمْ فِي دَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَهَا سِرًّا فِي مَسَاكِنِهِمْ . فَكَيْفَ إذَا أَظْهَرَهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسُهُمْ ؟ حَتَّى قَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَا تَتَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَإِنَّ السُّخْطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ " . وَإِذَا كَانَ الدَّاخِلُ لِفُرْجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السُّخْطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ . فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ مَا يَسْخَطُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا هِيَ مِنْ شَعَائِرِ دِينِهِمْ ؟ وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قَالُوا أَعْيَادُ الْكُفَّارِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي شُهُودِهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ فَكَيْفَ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِهَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَفِي لَفْظٍ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا } وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ
مِنْ
الْعَادَاتِ فَكَيْفَ التَّشَبُّهُ بِهِمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ ؟! .
وَقَدْ كَرِهَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ - إمَّا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةَ
تَنْزِيهٍ - أَكْلَ مَا ذَبَحُوهُ لِأَعْيَادِهِمْ وَقَرَابِينِهِمْ إدْخَالًا
لَهُ فِيمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ
وَكَذَلِكَ نُهُوا عَنْ مُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى أَعْيَادِهِمْ بِإِهْدَاءٍ أَوْ
مُبَايَعَةٍ وَقَالُوا : إنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعُوا
لِلنَّصَارَى شَيْئًا مِنْ مَصْلَحَةِ عِيدِهِمْ لَا لَحْمًا وَلَا دَمًا وَلَا
ثَوْبًا وَلَا يُعَارُونَ دَابَّةً وَلَا يَعَاوَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
دِينِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى
كُفْرِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ
. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } . ثُمَّ إنَّ
الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى شُرْبِ الْخُمُورِ
بِعَصْرِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . فَكَيْفَ عَلَى مَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ
الْكُفْرِ . وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعِينَهُمْ هُوَ فَكَيْفَ إذَا
كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَهُ أَحْمَد ابْنُ
تَيْمِيَّة.
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ
الْجُزْءُ
الْسَادِسُ وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ السَادِسُ : الْحَجُّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - :
عَنْ الْعُمْرَةِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ ؟ وَإِنْ كَانَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
فَصْلٌ :
وَالْعُمْرَةُ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا قَوْلَانِ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا وُجُوبُهَا .
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تَجِبُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .
وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ
: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } لَمْ يُوجِبْ الْعُمْرَةَ
وَإِنَّمَا أَوْجَبَ إتْمَامَهُمَا . فَأَوْجَبَ إتْمَامَهُمَا لِمَنْ شَرَعَ
فِيهِمَا وَفِي الِابْتِدَاءِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ . وَهَكَذَا سَائِرُ
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا إيجَابُ الْحَجِّ وَلِأَنَّ
الْعُمْرَةَ لَيْسَ فِيهَا جِنْسُ غَيْرِ مَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهَا إحْرَامٌ
وَإِحْلَالٌ وَطَوَافٌ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ
الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْحَجِّ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَفْعَالُ الْحَجِّ لَمْ يَفْرِضْ اللَّهُ مِنْهَا
شَيْئًا مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يَفْرِضْ وَقْتَيْنِ وَلَا طَوَافَيْنِ وَلَا سعيين
وَلَا فَرَضَ الْحَجَّ مَرَّتَيْنِ . وَطَوَافُ الْوَدَاعِ لَيْسَ بِرُكْنِ بَلْ
هُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ خَرَجَ
مِنْ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَدِّعَ . وَلِهَذَا مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ لَا
يُوَدِّعُ عَلَى الصَّحِيحِ فَوُجُوبُهُ لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِ الْخَارِجِ
بِالْبَيْتِ كَمَا وَجَبَ الدُّخُولُ بِالْإِحْرَامِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ لِسَبَبِ عَارِضٍ لَا كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا بِالْإِسْلَامِ كَوُجُوبِ
الْحَجِّ . وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا
يَعْتَمِرُونَ بِمَكَّةَ . لَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ بَلْ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ عُمْرَةً
بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا
عَائِشَةَ وَحْدَهَا لِسَبَبِ عَارِضٍ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ
فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ حَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ وَتَرَكَهَا إمَّا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا . فَهَلْ
تَسْقُطُ
عَنْهُ
بِالْحَجِّ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ ذَكَرَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ خِلَافًا ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْعُمْرَةُ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ
مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ
أَحْمَد وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِهِمَا وُجُوبُهَا وَلَكِنَّ الْقَوْلَ
بِعَدَمِ وُجُوبِهَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكِلَا
الْقَوْلَيْنِ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ
الْعُمْرَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَأَنَّ مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فَلَا
شَيْءَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَرَكَ الْعُمْرَةَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ إنَّمَا فَرَضَ فِي كِتَابِهِ حَجَّ الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } . وَلَفْظُ الْحَجِّ فِي الْقُرْآنِ لَا
يَتَنَاوَلُ الْعُمْرَةَ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ
ذَكَرَهَا مَعَ الْحَجِّ كَقَوْلِهِ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ أَمَرَ
بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ
نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ ، وَفِيهَا فَرْضُ الْحَجِّ .
وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ مُتَأَخِّرًا
. وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ فُرِضَ سَنَةَ سِتٍّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِآيَةِ
الْإِتْمَامِ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ الْآيَةَ إنَّمَا أَمَرَ فِيهَا بِإِتْمَامِهِمَا
لِمَنْ شَرَعَ فِيهِمَا لَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِابْتِدَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ
الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ
الْآيَةُ وَلَمْ يَكُنْ فُرِضَ عَلَيْهِ لَا حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ ثُمَّ لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . فَأَمَرَ فِيهَا بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُحْصَرِ الَّذِي تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يَلْزَمَانِ بِالْمَشْرُوعِ فَيَجِبُ إتْمَامُهُمَا . وَتَنَازَعُوا فِي الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ فِيهَا جِنْسٌ مِنْ الْعَمَلِ غَيْرَ جِنْسِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا إحْرَامٌ وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ وَإِحْلَالٌ وَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي الْحَجِّ . وَالْحَجُّ إنَّمَا فَرَضَهُ اللَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَفْرِضْهُ مَرَّتَيْنِ وَلَا فَرَضَ شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِهِ مَرَّتَيْنِ لَمْ يَفْرِضْ فِيهِ وقوفين وَلَا طَوَافَيْنِ ؛ بَلْ الْفَرْضُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَأَمَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ فَلَيْسَ مِنْ الْحَجِّ وَإِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ وَلِهَذَا لَا يَطُوفُ مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَلَيْسَ فَرْضًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَلْ يَسْقُطُ عَنْ الْحَائِضِ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَجْزَأَهُ دَمٌ وَلَمْ يَبْطُلْ الْحَجُّ بِتَرْكِهِ بِخِلَافِ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوُقُوفِ . وَكَذَلِكَ السَّعْيُ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَالرَّمْيُ يَوْمَ النَّحْرِ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَرَمْيُ كُلِّ جَمْرَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . فَإِذَا كَانَتْ الْعُمْرَةُ لَيْسَ فِيهَا عَمَلٌ غَيْرَ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَأَعْمَالُ الْحَجِّ إنَّمَا فَرَضَهَا اللَّهُ مَرَّةً لَا مَرَّتَيْنِ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ الْعُمْرَةَ .
وَالْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ فِي { أَنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ } قَدْ احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ الْعُمْرَةَ وَهُوَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَالٌّ عَلَى حجين : أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ . كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ : { يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا لَأَوْجَبْنَا حجين : أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَفْرِضْ حجين وَإِنَّمَا أَوْجَبَ حَجًّا وَاحِدًا وَالْحَجُّ الْمُطْلَقُ إنَّمَا هُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ وَهُوَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَجَعَلَ لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَكُونُ فِي غَيْرِهِ كَمَا قَالَ { يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِوَقْتِ بِعَيْنِهِ بَلْ تُفْعَلُ فِي سَائِرِ شُهُورِ الْعَامِ . وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ مَعَ الْحَجِّ كَالْوُضُوءِ مَعَ الْغُسْلِ وَالْمُغْتَسِلُ لِلْجَنَابَةِ يَكْفِيهِ الْغُسْلُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . فَكَذَلِكَ الْحَجُّ ؛ فَإِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ : صُغْرَى وَكُبْرَى . فَإِذَا فَعَلَ الْكُبْرَى لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُ الصُّغْرَى وَلَكِنَّ فِعْلَ الصُّغْرَى أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ كَمَا أَنَّ الْوُضُوءَ مَعَ الْغُسْلِ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ . وَهَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ؛ لَكِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِأَمْرِ التَّمَتُّعِ وَقَالَ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ حَجَّتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَمَا اعْتَمَرَتْ وَفِي الْعَامِ
الثَّانِي قَصَدَتْ أَنْ تَحُجَّ عَنْ بِنْتِهَا وَكَانَتْ بِالْأَوَّلِ
أَحْرَمَتْ بِحَجِّ وَعُمْرَةٍ فَهَلْ عَلَيْهَا عُمْرَةٌ أُخْرَى ؟
فَأَجَابَ :
لَا عُمْرَةَ عَلَيْهَا لِمَا مَضَى وَأَمَّا إذَا اعْتَمَرَتْ فِي هَذَا الْعَامِ
عَنْ نَفْسِهَا غَيْرَ الْعُمْرَةِ عَنْ بِنْتِهَا جَازَ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَاذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَجُلٍ * * * آتَاهُ ذُو الْعَرْشِ مَالًا
حَجَّ وَاعْتَمَرَا
فَهَزَّهُ الشَّوْقُ نَحْوَ الْمُصْطَفَى طَرَبًا * * * أَتَرَوْنَ الْحَجَّ
أَفْضَلَ أَمْ إيثَارَهُ الفقرا
أَمْ حَجَّةً عَنْ أَبِيهِ ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْ * * * مَاذَا الَّذِي يَا سَادَتِي
ظَهَرَا
فَأَفْتُوا
مُحِبًّا لَكُمْ فديتكمو * * * وَذِكْرُكُمْ دَأَبَهُ إنْ غَابَ أَوْ حَضَرَا
فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
نَقُولُ فِيهِ بِأَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنْ * * * فِعْلِ التَّصَدُّقِ
وَالْإِعْطَاءِ للفقرا
وَالْحَجُّ عَنْ وَالِدَيْهِ فِيهِ بِرُّهُمَا * * * وَالْأُمُّ أَسْبَقُ فِي
الْبِرِّ الَّذِي ذَكَرَا
لَكِنْ إذَا الْفَرْضُ خَصَّ الْأَبَ كَانَ إذًا * * * هُوَ الْمُقَدَّمَ فِيمَا
يَمْنَعُ الضَّرَرَا
كَمَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى صِلَةٍ * * * وَأُمُّهُ قَدْ كَفَاهَا مَنْ
بَرَا الْبَشَرَا
هَذَا جَوَابُك يَا هَذَا مُوَازَنَةً * * * وَلَيْسَ مُفْتِيك مَعْدُودًا مِنْ
الشعرا .
وَسُئِلَ
رَحِمَهُ اللَّهُ :
عَنْ امْرَأَةٍ تَمْلِكُ زِيَادَةً عَنْ نَحْوِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَوَتْ أَنْ
تَهَبَ ثِيَابَهَا لِبِنْتِهَا فَهَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ تُبْقِيَ قُمَاشَهَا
لِبِنْتِهَا ؟ أَوْ تَحُجَّ بِهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَحُجُّ بِهَذَا الْمَالِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ
وَنَحْوُهَا . وَتُزَوِّجُ الْبِنْتَ بِالْبَاقِي إنْ شَاءَتْ فَإِنَّ الْحَجَّ
فَرِيضَةٌ مَفْرُوضَةٌ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ تَسْتَطِيعُ إلَيْهِ سَبِيلًا .
وَمَنْ لَهَا هَذَا الْمَالُ تَسْتَطِيعُ السَّبِيلَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَقَدْ انْحَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ . لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ وَلَا يَتَحَرَّكُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ
يَحُجُّ عَنْهُ الْفَرْضَ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْحَجُّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الرُّكُوبَ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ
يَسْتَنِيبُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ .
وَسُئِلَ
:
هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ بِلَا مَحْرَمٍ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَقَدْ يَئِسَتْ مِنْ
النِّكَاحِ وَلَا مَحْرَمَ لَهَا . فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ أَنْ تَحُجَّ مَعَ مَنْ تَأْمَنُهُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْ أَحْمَد وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
فَصْلٌ :
يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحُجَّ عَنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِنْتَهَا أَوْ غَيْرَ بِنْتِهَا وَكَذَلِكَ يَجُوزُ
أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ عَنْ الرَّجُلِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ الخثعمية أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا لَمَّا قَالَتْ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ
اللَّهِ
فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ .
فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَحُجَّ عَنْ
أَبِيهَا } مَعَ أَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ أَكْمَلُ مِنْ إحْرَامِهَا . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
فَصْلٌ :
فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ أَوْ الْمَعْضُوبِ بِمَالِ يَأْخُذُهُ إمَّا
نَفَقَةً فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ بِالْإِجَارَةِ أَوْ
بِالْجَعَالَةِ عَلَى نِزَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ
الْمَالُ الْمَحْجُوجُ بِهِ مُوصًى بِهِ لِمُعَيَّنِ أَوْ عَيْنًا مُطْلَقًا أَوْ
مَبْذُولًا أَوْ مُخْرَجًا مِنْ صُلْبِ التَّرِكَةِ ؛ فَمِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ مَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ أَطْيَبِ الْمَكَاسِبِ ؛
لِأَنَّهُ يَعْمَلُ صَالِحًا وَيَأْكُلُ طَيِّبًا . وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد
أَنَّهُ قَالَ : لَا أَعْرِفُ فِي السَّلَفِ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ هَذَا وَعَدَّهُ
بِدْعَةً وَكَرِهَهُ . وَلَفْظُ نَصِّهِ مَكْتُوبٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلَمْ يَكْرَهْ إلَّا الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ . قُلْت : حَقِيقَةُ الْأَمْرِ
فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَّ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ
أَحَدَ شَيْئَيْنِ : الْإِحْسَانَ إلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ أَوْ نَفْسَ
الْحَجِّ لِنَفْسِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ فَرْضًا فَذِمَّتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ فَالْحَجُّ عَنْهُ إحْسَانٌ إلَيْهِ بِإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ دَيْنِهِ . كَمَا { قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للخثعمية : أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فقضيتيه أَكَانَ يُجْزِي عَنْهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ } كَذَلِكَ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لِرَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ أَحَقُّ بِأَنْ يَقْبَلَ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَمَّنْ قُضِيَ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الْحَاجِّ قَضَاءَ هَذَا الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَنْ هَذَا فَهَذَا مُحْسِنٌ إلَيْهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَهَذَا غَالِبًا إنَّمَا يَكُونُ لِسَبَبِ يَبْعَثُهُ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ مِثْلَ رَحِمٍ بَيْنَهُمَا أَوْ مَوَدَّةٍ وَصَدَاقَةٍ أَوْ إحْسَانٍ لَهُ عَلَيْهِ يَجْزِيهِ بِهِ وَيَأْخُذُ مِنْ الْمَالِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ عَنْهُ ؛ وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَطْلُبَ مِقْدَارَ كِفَايَةِ حَجِّهِ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا نَفَقَةَ الْحَجِّ بِلَا نِزَاعٍ . وَكَذَلِكَ لَوْ وَصَّى بِحَجَّةِ مُسْتَحَبَّةٍ وَأَحَبَّ إيصَالَ ثَوَابِهَا إلَيْهِ . وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي : إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُؤْثِرًا أَنْ يَحُجَّ مَحَبَّةً لِلْحَجِّ وَشَوْقًا إلَى الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ فَيَسْتَعِينُ بِالْمَالِ الْمَحْجُوجِ بِهِ عَلَى الْحَجِّ وَهَذَا قَدْ يُعْطَى الْمَالَ لِيَحُجَّ بِهِ لَا عَنْ أَحَدٍ كَمَا يُعْطَى الْمُجَاهِدُ الْمَالَ لِيَغْزُوَ بِهِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ فَيَكُونُ لِهَذَا أَجْرُ الْحَجِّ بِبَدَنِهِ وَلِهَذَا أَجْرُ الْحَجِّ بِمَالِهِ كَمَا فِي الْجِهَادِ فَإِنَّهُ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَقَدْ يُعْطَى
الْمَالَ لِيَحُجَّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْمُعْطَى الْحَجَّ عَنْ الْمُعْطَى عَنْهُ وَمَقْصُودُ الْحَاجِّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْحَجِّ لَا بِنَفْسِ الْإِحْسَانِ إلَى الْغَيْرِ . وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ : الْحَجُّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ وَلِلْمُعْطِي أَجْرُ الْإِنْفَاقِ كَالْجِهَادِ . وَعَلَى أَصْلِنَا فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ وَالصَّائِمَ وَالْمُتَصَدِّقَ عَنْ الْغَيْرِ وَالْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ لَهُ قَصْدٌ صَالِحٌ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَقَصْدٌ صَالِحٌ فِي عَمَلِهِ عَنْ الْغَيْرِ . وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ } فَجَعَلَ لِلْوَكِيلِ مِثْلَ الْمُوَكِّلِ فِي الصَّدَقَةِ وَهُوَ نَائِبٌ ؟ وَقَالَ : { إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِلزَّوْجِ أَجْرُهُ بِمَا اكْتَسَبَ وَلِلْخَادِمِ مِثْلُ ذَلِكَ } فَكَذَلِكَ النَّائِبُ فِي الْحَجِّ وَسَائِرُ مَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ مِنْ الْأَعْمَالِ لَهُ أَجْرٌ . وَلِلْمُسْتَنِيبِ أَجْرٌ . وَهَذَا أَيْضًا إنَّمَا يَأْخُذُ مَا يُنْفِقُهُ فِي الْحَجِّ كَمَا لَا يَأْخُذُ إلَّا مَا يُنْفِقُهُ فِي الْغَزْوِ . فَهَاتَانِ صُورَتَانِ مُسْتَحَبَّتَانِ وَهُمَا الْجَائِزَتَانِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ نَفَقَةَ الْحَجِّ وَيَرُدَّ الْفَضْلَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الِاكْتِسَابَ بِذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَسْتَفْضِلَ مَالًا فَهَذَا صُورَةُ الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُسْتَحَبُّ وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَعْمُولَ لِلدُّنْيَا لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ فِي نَفْسِهِ إذَا لَمْ يُقْصَدْ
بِهِ إلَّا الْمَالُ فَيَكُونُ مِنْ نَوْعِ الْمُبَاحَاتِ . وَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَنَحْنُ إذَا جَوَّزْنَا الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ لَمْ نَجْعَلْهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ لَا نَجْعَلُهَا مِنْ " بَابِ الْقُرَبِ " فَإِنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ : إمَّا أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَوْ يُثَابَ أَوْ لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ . وَكَذَلِكَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ : إمَّا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا مُبَاحٌ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . لَكِنْ قَدْ رَجَحَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى . . . (1) إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ الْمَالِ لِلنَّفَقَةِ مُدَّةَ الْحَجِّ وَلِلنَّفَقَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ فَيَقْصِدُ إقَامَةَ النَّفَقَةِ وَقَضَاءَ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَهُنَا تَصِيرُ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً : إمَّا أَنْ يَقْصِدَ الْحَجَّ وَالْإِحْسَانَ فَقَطْ أَوْ يَقْصِدَ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ لَهُ فَقَطْ أَوْ يَقْصِدَ كِلَيْهِمَا فَمَتَى قَصَدَ الْأَوَّلَ فَهُوَ حَسَنٌ وَإِنْ قَصَدَهُمَا مَعًا فَهُوَ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُمَا مَقْصُودَانِ صَالِحَانِ وَأَمَّا إنْ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا الْكَسْبَ لِنَفَقَتِهِ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . وَالْمَسْأَلَةُ مَشْرُوحَةٌ فِي مَوَاضِعَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ حَجَّتْ وَقَصَدَتْ أَنْ تَحُجَّ عَنْ مَيِّتَةٍ بِأُجْرَةِ فَهَلْ
لَهَا أَنْ تَحُجَّ ؟ .
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ أَنْ تَحُجَّ عَنْ الْمَيِّتِ بِمَالِ يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ
بِالِاتِّفَاقِ . وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ
لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا يَجُوزُ وَهُوَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
. ثُمَّ هَذِهِ الْحَاجَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ قَصْدُهَا الْحَجَّ أَوْ
نَفْعَ الْمَيِّتِ كَانَ لَهَا فِي ذَلِكَ أَجْرٌ وَثَوَابٌ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ
مَقْصُودُهَا إلَّا أَخْذَ الْأُجْرَةِ فَمَا لَهَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ حَجَّ عَنْ الْغَيْرِ لِيُوَفِّيَ دَيْنَهُ ؟ .
فَأَجَابَ : أَمَّا الْحَاجُّ عَنْ الْغَيْرِ لِأَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ . وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّرْكُ . فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَحُجُّ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَفْضِلَ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ يَحُجُّ عَنْ أَحَدٍ بِشَيْءِ . وَلَوْ كَانَ هَذَا عَمَلًا صَالِحًا لَكَانُوا إلَيْهِ مُبَادِرِينَ وَالِارْتِزَاقُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الصَّالِحِينَ . أَعْنِي إذَا كَانَ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْعَمَلِ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَهَذَا الْمَدِينُ يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ مَا يُوَفِّي بِهِ دَيْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ دَرَاهِمَ يُوَفِّي بِهَا دَيْنَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا يَحُجُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ : إمَّا رَجُلٌ يُحِبُّ الْحَجَّ وَرُؤْيَةَ الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ . فَيَأْخُذُ مَا يَقْضِي بِهِ وَطَرَهُ الصَّالِحَ وَيُؤَدِّي بِهِ عَنْ أَخِيهِ فَرِيضَةَ الْحَجِّ . أَوْ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يُبَرِّئَ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ عَنْ الْحَجِّ إمَّا لِصِلَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ لِرَحْمَةِ عَامَّةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ مَا يَأْخُذُ لِيُؤَدِّيَ بِهِ ذَلِكَ . وَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ لِيَحُجَّ لَا أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْأَرْزَاقِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ فَمَنْ ارْتَزَقَ لِيَتَعَلَّمَ أَوْ لِيُعَلِّمَ أَوْ لِيُجَاهِدَ فَحَسَنٌ . كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي . وَيَأْخُذُونَ أُجُورَهُمْ . مَثَلُ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ ابْنَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا } شَبَّهَهُمْ بِمَنْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ
لِرَغْبَةِ
فِيهِ كَرَغْبَةِ أُمِّ مُوسَى فِي الْإِرْضَاعِ بِخِلَافِ الظِّئْرِ
الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى الرِّضَاعِ إذَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً . وَأَمَّا مَنْ
اشْتَغَلَ بِصُورَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِأَنْ يَرْتَزِقَ فَهَذَا مِنْ
أَعْمَالِ الدُّنْيَا . فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ الدِّينُ مَقْصُودَهُ
وَالدُّنْيَا وَسِيلَةٌ وَمَنْ تَكُونُ الدُّنْيَا مَقْصُودَهُ وَالدِّينُ
وَسِيلَةٌ . وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ .
كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِشَخْصِ غَائِبٍ بِبَغْدَادَ وَالْمَدْيُونُ مُقِيمٌ
بِمِصْرِ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَقَصَدَ شَخْصٌ أَنْ يَحُجَّ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ .
فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحُجَّ وَعَلَيْهِ الدَّيْنُ ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ الْمَدِينُ الْمُعْسِرُ إذَا حججه غَيْرُهُ وَلَمْ
يَكُنْ فِي ذَلِكَ إضَاعَةٌ لِحَقِّ الدَّيْنِ إمَّا لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ
الْكَسْبِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الْغَرِيمِ غَائِبًا لَا يُمْكِنُ تَوْفِيَتُهُ مِنْ
الْكَسْبِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
رَحِمَهُ اللَّهُ :
عَنْ رَجُلٍ خَرَجَ حَاجًّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ بِالزَّادِ
وَالرَّاحِلَةِ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ
الْفَرْضُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِذَلِكَ ثُمَّ إنْ
كَانَ خَرَجَ إلَى الْحَجِّ حِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مَاتَ
غَيْرَ عَاصٍ وَإِنْ فَرَّطَ بَعْدَ الْوُجُوبِ مَاتَ عَاصِيًا وَيُحَجُّ عَنْهُ
مِنْ حَيْثُ بَلَغَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَّفَ مَالًا فَالنَّفَقَةُ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ
فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ : أَنَّهُ إذَا
اسْتَطَاعَ الْحَجَّ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ
بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ حَجَّ عَقِبَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَاتَ فِي
الطَّرِيقِ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَاتَ وَهُوَ غَيْرُ عَاصٍ وَلَهُ
أَجْرُ نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ . فَإِنْ كَانَ فَرَّطَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ
وَمَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ الْحَجِّ مَاتَ عَاصِيًا آثِمًا وَلَهُ أَجْرُ مَا
فَعَلَهُ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ بِذَلِكَ بَلْ الْحَجُّ بَاقٍ فِي
ذِمَّتِهِ وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْإِحْرَامِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّا حَكَى أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْإِحْرَامِ ، هَلْ هُوَ
رُكْنٌ ؟ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ إنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ
الْإِحْرَامَ عِبَارَةٌ عَنْ نِيَّةِ الْحَجِّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ
فِي النِّيَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْحَجِّ الشَّرْعِيِّ
بِدُونِهَا ، أَبِنْ لَنَا عَنْ هَذَا مُثَابًا مُعَظَّمَ الْأَجْرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْجَوَابُ مِنْ طَرِيقَيْنِ :
إجْمَالِيٍّ وَتَفْصِيلِيٍّ .
أَمَّا الْإِجْمَالِيُّ فَنَقُولُ : أَمَّا النِّيَّةُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَصِحُّ
إلَّا بِهَا إمَّا مِنْ الْحَاجِّ نَفْسِهِ وَإِمَّا مَنْ يَحُجُّ بِهِ كَمَا
يَحُجُّ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَلَوْ عَمِلَ الرَّجُلُ أَعْمَالَ الْحَجِّ مِنْ
غَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَصِحَّ الْحَجُّ كَمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ
بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَسَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ الْحَجَّ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ
النِّيَّةِ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهَا وَبِشَيْءِ آخَرَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ
عَمَلٍ : مِنْ تَلْبِيَةٍ أَوْ تَقْلِيدِ هَدْيٍ عَلَى الْخِلَافِ
الْمَشْهُورِ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ . وَسَوَاءٌ قُلْنَا : إنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ
أَمْ لَيْسَ بِرُكْنِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَقْبَلُ الْخِلَافَ فَإِنَّ
الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعِبَادَاتِ
الْمَأْمُورَ بِهَا بِدُونِ النِّيَّةِ . وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِحْرَامِ
بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَفِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ كَمَا
سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَفَرْقٌ بَيْنَ النِّيَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ لِلْحَجِّ وَالنِّيَّةِ الَّتِي
يَنْعَقِدُ بِهَا الْإِحْرَامُ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْوِيَ
الْحَجَّ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ وَيَقِفَ
وَيَطُوفَ مُسْتَصْحِبًا لِهَذِهِ النِّيَّةِ ؛ ذِكْرًا وَحُكْمًا وَإِنْ لَمْ
يَقْصِدْ الْإِحْرَامَ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ .
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ الْمَعْهُودَةَ فِي الْعِبَادَاتِ تَشْتَمِلُ
عَلَى أَمْرَيْنِ : عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ وَقَصْدِ الْمَعْبُودِ . وَقَصْدُ
الْمَعْبُودِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : {
وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } { وقول
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى
مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } . فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيَّزَ
بَيْنَ مَقْصُودٍ وَمَقْصُودٍ وَهَذَا
الْمَقْصُودُ فِي الْجُمْلَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } فَإِنَّ كُلَّ بَشَرٍ بَلْ كُلَّ حَيَوَانٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هِمَّةٍ وَهُوَ الْإِرَادَةُ وَمِنْ حَرْثٍ وَهُوَ الْعَمَلُ إذْ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَوَانِ أَنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِإِرَادَتِهِ ثُمَّ ذَلِكَ الَّذِي يَقْصِدُهُ هُوَ غَايَتُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَصْدِ قَصْدٌ آخَرُ وَإِنَّمَا تَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ بِوُصُولِهَا إلَى مَقْصُودِهَا . وَأَمَّا قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَقَصْدُ الْعَمَلِ الْخَاصِّ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ بِعَمَلِهِ : فَقَدْ يُرِيدُهُ بِصَلَاةِ وَقَدْ يُرِيدُهُ بِحَجِّ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَصَدَ طَاعَتَهُ بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَدْ أَطَاعَهُ فِي هَذَا الْعَمَلِ . وَقَدْ يَقْصِدُ طَاعَتَهُ فِي هَذَا الْعَمَلِ فَهَذَا الْقَصْدُ الثَّانِي مِثْلُ قَصْدِ الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ ثُمَّ صَلَاةِ الظُّهْرِ دُونَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ وَهَذِهِ النِّيَّةُ الَّتِي تُذْكَرُ غَالِبًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ النِّيَّتَيْنِ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ . أَمَّا الْأُولَى : فَبِهَا يَتَمَيَّزُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الطَّاغُوتَ أَوْ يُشْرِكُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَمَنْ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ مِمَّنْ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا وَهُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ لِلَّهِ الَّذِي تَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الشَّرَائِعِ الَّذِي نُهِيَ الْأَنْبِيَاءُ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } . وَلِهَذَا كَانَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا وَإِنْ كَانَتْ شَرَائِعُهُمْ مُتَنَوِّعَةً . قَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } . وَأَمَّا النِّيَّةُ الثَّانِيَةُ : فَبِهَا تَتَمَيَّزُ أَنْوَاعُ الْعِبَادَاتِ وَأَجْنَاسُ الشَّرَائِعِ فَيَتَمَيَّزُ الْمُصَلِّي مِنْ الْحَاجِّ وَالصَّائِمِ وَيَتَمَيَّزُ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَيَصُومُ قَضَاءَ رَمَضَانَ مِمَّنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَيَصُومُ شَيْئًا مِنْ شَوَّالٍ وَيَتَمَيَّزُ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ مِمَّنْ يَتَصَدَّقُ مِنْ نَذْرٍ عَلَيْهِ أَوْ كَفَّارَةٍ . وَأَصْنَافُ الْعِبَادَاتِ مِمَّا تَتَنَوَّعُ فِيهِ الشَّرَائِعُ إذْ الدِّينُ لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا الشَّرِيعَةُ إذْ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِأَعْمَالِ الْأَبْدَانِ كَمَا أَنَّ الرُّوحَ لَا قِوَامَ لَهَا إلَّا بِالْبَدَنِ . أَعْنِي مَا دَامَتْ فِي الدُّنْيَا . وَكَمَا أَنَّ مَعَانِيَ الْكَلَامِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْأَلْفَاظِ وَبِمَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَصِيرُ الْكَلَامُ كَلَامًا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ ، وَاللَّفْظُ
يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأُمَمِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ لُغَةُ بَعْضِ الْأُمَمِ أَبْلَغَ فِي إكْمَالِ الْمَعْنَى مِنْ بَعْضٍ ، وَبَعْضُ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ أَبْلَغَ تَمَامًا لِلْمَعْنَى مِنْ بَعْضٍ . فَالدِّينُ الْعَامُّ يَتَعَلَّقُ بِقَصْدِ الْقَلْبِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ عَمَلٍ بَدَنِيٍّ يَتِمُّ بِهِ الْقَصْدُ وَيَكْمُلُ فَتَنَوَّعَتْ الْأَعْمَالُ الْبَدَنِيَّةُ كَذَلِكَ وَتَنَوَّعَتْ لِمَا اقْتَضَتْهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ لِعِبَادِهِ وَبِحِكْمَتِهِ فِي أَمْرِهِ وَإِنَّمَا وَجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النِّيَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نُقِيمَ دِينَهُ بِالشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَا يَقْبَلُ مِنَّا أَنْ نَعْبُدَهُ بِشَرِيعَةِ غَيْرِهَا . وَالْأَعْمَالُ الْمَشْرُوعَةُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ قَدْ يُعْتَبَرُ لَهَا أَوْقَاتٌ وَأَمْكِنَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَصِفَاتٌ كُلَّمَا كَانَ فَرْضًا عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَأَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَى وَصْفٍ مُعَيَّنٍ كَانَ فَرْضًا عَلَيْنَا أَنْ نَقْصِدَهُ الْقَصْدَ الَّذِي نَكُونُ بِهِ عَابِدِينَ . وَالْقَصْدَ الَّذِي بِهِ نَكُونُ عَابِدِينَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ النِّيَّاتِ قَدْ تَحْصُلُ جُمْلَةً وَقَدْ تَحْصُلُ تَفْصِيلًا وَقَدْ تَحْصُلُ بِطَرِيقِ التَّلَازُمِ وَقَدْ تَتَنَوَّعُ النِّيَّاتُ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ بِحَيْثُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِأَدْنَاهَا لَكِنَّ الْفَضْلَ لِمَنْ أَتَى بِالْأَعْلَى . وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَقْصُودًا بِالْقَصْدِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَدْ يَحْضُرُ الْإِنْسَانَ الْقَصْدُ الثَّانِي وَيُذْهَلُ عَنْ الْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي
قَصْدِهِ الْعِبَادَةَ قَدْ يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَوْ يُرِيدُ طَاعَتَهُ أَوْ عِبَادَتَهُ أَوْ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ أَوْ يُرِيدُ ثَوَابَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَشْعِرَ ثَوَابًا مُعَيَّنًا أَوْ يَرْجُوَ ثَوَابًا مُعَيَّنًا فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِيهِمَا أَوْ يَخَافُ عِقَابًا إمَّا مُجْمَلًا وَإِمَّا مُفَصَّلًا . وَتَفَاصِيلُ هَذِهِ النِّيَّاتِ بَابٌ وَاسِعٌ . وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي نَوْعٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ دُونَ نَوْعٍ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَقْيِيسِ ذَلِكَ نِيَّةَ نَوْعِ الْعَمَلِ فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ الْحَجَّ قَدْ يَكُونُ قَدْ اسْتَشْعَرَ الْحَجَّ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَهُوَ أَنَّهُ قَصْدُ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَيَقْصِدُ مَا اسْتَشْعَرَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدِ تَفْصِيلِ أَعْمَالِهِ مِنْ وُقُوفٍ وَطَوَافٍ وَتَرْكِ مَحْظُورَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ تَفَاصِيلُ أَعْمَالِ الْحَجِّ مَقْصُودَةً إذَا اسْتَشْعَرَهَا وَقَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِجِنْسِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَأَنَّهَا وُقُوفٌ وَطَوَافٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ لَهُ . وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَيْنَ الْمَكَانِ وَصُورَةَ الطَّوَافِ فَيَنْوِي ذَلِكَ . وَقَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَيَنْوِي مَا قَدْ عَلِمَهُ . وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَقُلْنَا لَهُ : قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْك الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُهَا وَيَنْوِيهَا لِاسْتِشْعَارِهِ لَهَا جُمْلَةً وَلَمْ يَعْلَمْ صِفَتَهَا ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيمَانًا رَاسِخًا فَإِنَّ إيمَانَهُ مُتَضَمِّنٌ لِتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَهُ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنْوَاعَ
الْأَخْبَارِ وَالْأَعْمَالِ ثُمَّ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ : إمَّا أَنْ يُصَدِّقَ وَيُطِيعَ فَيَصِيرَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَوْ يُخَالِفَ ذَلِكَ فَيَصِيرَ إمَّا مُنَافِقًا وَإِمَّا عَاصِيًا فَاسِقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ الْمَأْمُورَ بِهِ : كَرَجُلِ لَهُ أَمْوَالٌ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ مُرِيدًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ لَا زَكَاةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ وَلَا وَضْعُهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ دُونَ بَعْضٍ . فَهَذَا يُثَابُ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَكِنْ بَقِيَ فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ . وَرَجُلٌ قَدْ يَقْصِدُ الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ طَاعَةَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ كَمَنْ يَدْفَعُ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى السُّلْطَانِ ؛ لِئَلَّا يَضْرِبَ عُنُقَهُ أَوْ يَنْقُصَ حُرْمَتَهُ أَوْ يَأْخُذَ مَالَهُ أَوْ قَامَ يُصَلِّي خَوْفًا عَلَى دَمِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ . وَهَذِهِ حَالُ الْمُنَافِقِينَ عُمُومًا وَالْمُرَائِينَ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ خُصُوصًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } وَقَالَ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْصِدَ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ
لِلَّهِ سُبْحَانَهُ . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ نَوْعِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ أَوْ الْحَجَّ أَوْ الصِّيَامَ وَلَهُمْ فِي فُرُوعِ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَاخْتَلَفُوا فِي النِّيَّةِ الْأُولَى : وَهِيَ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : لَا تَجِبُ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ الْمَقْصُودَةِ كَالطَّهَارَةِ وَالتَّيَمُّمِ " وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَعْتَبِرُوا نِيَّةَ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ نِيَّةِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَتَضَمَّنُ الْإِضَافَةَ كَمَا تَتَضَمَّنُ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تُشْرَعُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي الْحَضَرِ لَا تَكُونُ إلَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ . وَأَيْضًا : النِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ تَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ الْمُسْتَحْضَرَةِ وَإِنْ كَانَتْ النِّيَّةُ الْمُسْتَحْضَرَةُ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ فَإِذَا نَوَى الْعَبْدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَجْزَأَهُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ حُكْمًا فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ الَّذِي دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ قَدْ نَوَى نِيَّةً عَامَّةً : أَنَّ عِبَادَاتِهِ هِيَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا . فَإِذَا نَوَى عِبَادَةً مُعَيَّنَةً مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ كَانَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ تِلْكَ
النِّيَّةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ كَمَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ إذَا نَوَى الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ كَانَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ نِيَّةِ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ ثُمَّ إنْ أَتَى بِمَا يَنْقُضُ عِلْمَ تِلْكَ أَفْسَدَهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ فَاسِخًا لَهَا كَمَا لَوْ فَسَخَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا فَإِذَا قَامَ يُصَلِّي لِئَلَّا يُضْرَبَ أَوْ يُؤْخَذَ مَالُهُ أَوْ أَدَّى الزَّكَاةَ لِئَلَّا يُضْرَبَ : كَانَ قَدْ فَسَخَ تِلْكَ النِّيَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ . فَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ فَاسِدَةٌ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَقُلْنَا : إنَّ عِبَادَاتِ الْمُرَائِينَ الْوَاجِبَةَ بَاطِلَةٌ وَإِنَّ السُّلْطَانَ إذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَائِهَا لَمْ يُجْزِهِ فِي الْبَاطِنِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ يُولَدُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ يَصِيرُونَ مُسْلِمِينَ إسْلَامًا حُكْمِيًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ إيمَانٌ بِالْفِعْلِ ثُمَّ إذَا بَلَغُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْزَقُ الْإِيمَانَ الْفِعْلِيَّ فَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ الْمَحْضَةِ وَالْمُتَابَعَةِ لِأَقَارِبِهِ وَأَهْلِ بَلَدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : مِثْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُ الْكُلَفَ وَلَمْ يَسْتَشْعِرْ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا . فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْكُلَفِ الْمُبْتَدَعَةِ وَبَيْنَ الزَّكَاةِ الْمَشْرُوعَةِ أَوْ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كُلَّ سَنَةٍ إلَى عَرَفَاتٍ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْعَارِ أَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ لِلَّهِ . لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا أَوْ يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ
لِأَنَّ قَوْمَهُ قَاتَلُوهُمْ فَقَاتَلَ تَبَعًا لِقَوْمِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَؤُلَاءِ لَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُمْ بِلَا تَرَدُّدٍ بَلْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ نِيَّةَ الْإِضَافَةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً : أَرَادَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِيهَا بِالنِّيَّةِ الْحُكْمِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ . فَفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ لَمْ يُرِدْ اللَّهَ بِعَمَلِهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا وَبَيْنَ مَنْ أَرَادَهُ جُمْلَةً وَذُهِلَ عَنْ إرَادَتِهِ بِالْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ تَفْصِيلًا . فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَا يَقُولُ : إنَّ الْأَوَّلَ عَابِدٌ لِلَّهِ وَلَا مُؤَدٍّ لِمَا أَمَرَ بِهِ أَصْلًا ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اشْتَرَطَ هَذِهِ النِّيَّةَ عِنْدَ الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ فَقَالَ : النِّيَّةُ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَدَاءَ فِعْلِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ . وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ : اتِّبَاعُ أَمْرِهِ وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لَهُ . وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُ أَكْثَرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى النِّيَّةِ الْوَاجِبَةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا بِقَوْلِهِ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } قَالُوا : وَإِخْلَاصُ الدِّينِ هُوَ النِّيَّةُ . وَمَنْ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ أَوْ التَّنَظُّفِ لَمْ يُخْلِصْ الدِّينَ لِلَّهِ وَيَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } قَالُوا : وَمَنْ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ لَمْ يُرِدْ حَرْثَ الْآخِرَةِ
فَيَجِبُ أَنْ لَا يُخْلِصَ لَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ تَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ أَبْلَغَ مِنْ دَلَالَتِهِمَا عَلَى وُجُوبِ نِيَّةِ الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ ؛ لَكِنْ مَنْ نَصَرَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ قَدْ يَقُولُ : نِيَّةُ النَّوْعِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِنِيَّةِ الْجِنْسِ فَإِنَّ مَنْ نَوَى الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ نَوَى الْعَمَلَ لِلَّهِ بِحُكْمِ إيمَانِهِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَمَنْ نَصَرَ الثَّانِيَ يَقُولُ : النِّيَّةُ الْوَاجِبَةُ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْعَمَلِ بِعِشْرِينَ سَنَةً بَلْ إنَّمَا تُقَدَّمُ عَلَيْهِ إمَّا بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَإِمَّا مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْوُجُوبِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ . وَأَيْضًا : فَالدَّلِيلُ الظَّاهِرُ وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ وُجُودَ النِّيَّةِ الْمُحْضَرَةِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْ اسْتِصْحَابِهَا فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلَا مَشَقَّةَ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ عِنْدَ فِعْلِ كُلِّ عِبَادَةٍ . وَأَيْضًا فَغَالِبُ النَّاسِ إسْلَامُهُمْ حُكْمِيٌّ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي قُلُوبِهِمْ فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ إنْ دَخَلَ . فَإِنْ لَمْ تُوجَبْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّيَّةُ لَمْ يَقْصِدُوهَا فَتَخْلُو قُلُوبُهُمْ مِنْهَا فَيَصِيرُونَ مُنَافِقِينَ إنَّمَا يَعْمَلُونَ الْأَعْمَالَ عَادَةً وَمُتَابَعَةً كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - :
عَنْ " التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ " أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا . مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ
فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ : وَنَشْهَدُ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا
. لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ أَحْمَد أَنَّهُ إذَا قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ الْخَاصُّ أَفْضَلُ لَهُ وَهُوَ أَنْ
يَتَمَتَّعَ بِعُمْرَةِ فَيَحِلُّ مِنْهَا إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ . وَأَمَّا إذَا سَاقَ
الْهَدْيَ : فَنَقَلَ المروذي عَنْهُ : أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ . فَمِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ هَذَا رِوَايَةً ثَانِيَةً عَنْ أَحْمَد . وَجَعَلُوا
فِيهَا إذَا سَاقَ الْهَدْيَ : هَلْ الْأَفْضَلُ التَّمَتُّعُ ؟ أَوْ الْقِرَانُ ؟
عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ قَالُوا :
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَجَّ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ وَسَاقَ الْهَدْيَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَلَا يَبْقَى لِاخْتِيَارِ الْقِرَانِ وَجْهٌ . وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ : أَنَّهُ حَجَّ قَارِنًا وَلَكِنْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ - مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ - أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَيَجْعَلَهَا مُتْعَةً . وَقَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَإِنَّ أَحْمَد لَمْ يَنُصَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ . بَلْ إنَّمَا اخْتَارَ التَّمَتُّعَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بِهِ . وَلِقَوْلِهِ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَ بِالتَّحَلُّلِ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَلَا يَحِلُّ مَنْ لَمْ يَخْتَرْ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ أَحْمَد لَمْ يَقُلْ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مُتَمَتِّعًا - التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ - بَلْ نَصَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَارِنًا . وَقَالَ : لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَالتَّمَتُّعُ أَحَبُّ إلَيَّ ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِنَّهُ قَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } . فَكَلَامُهُ إنَّمَا كَانَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ : أَنْ يَسُوقَ وَيَقْرِنَ أَوْ يَتَمَتَّعَ وَلَا يَسُوقَ ؟ . لِأَنَّهُ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ . فَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } هَلْ كَانَ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِعُمْرَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ أَمْ لَا : مُوَافَقَةً لِأَصْحَابِهِ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا مَوْرِدُ اجْتِهَادٍ . وَلَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُ أَحْمَد أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ عِنْدَ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ أَوْ قَارِنًا . وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ عِنْدَ أَحْمَد إلَّا فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَارِنَ يَكُونُ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ . بِأَنَّهُ فِي كِلَيْهِمَا قَارِنٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ : فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ إلَى مَا بَعْدَ
قَضَاءِ الْعُمْرَةِ . وَمَعْلُومٌ حِينَئِذٍ أَنَّ تَقْدِيمَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ فَيَكُونُ الْقِرَانُ أَفْضَلَ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ . الثَّانِي : أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَهُ لَا يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَالْمُفْرِدِ . وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَقَدْ اخْتَارَ لَهُ أَنْ يَسْعَى سَعْيَيْنِ وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ سَعْيٌ وَاحِدٌ كَالْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ . وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ تَمَيَّزَ بِسَعْيٍ زَائِدٍ مُسْتَحَبٍّ لَكِنْ هُوَ أَيْضًا يَسْتَحِبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا بَعْدَ عَرَفَةَ طَوَافَ الْقُدُومِ فَيَكُونُ الْمُتَمَتِّعُ قَدْ طَافَ بَعْدَ عَرَفَةَ مَرَّتَيْنِ وَسَعَى سَعْيًا ثَانِيًا . وَأَمَّا الْقَارِنُ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُهُ الْمُفْرِدُ لَكِنْ كُلُّ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّ السَّعْيَ الثَّانِيَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ . وَقَوْلٌ : إنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سعيين كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَوْلٌ : إنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ طَوَافُ الْقُدُومِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ سَعْيٌ ثَانٍ . فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْعَوْا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَبِهَذَا يَظْهَرُ فَضْلُ الْقَارِنِ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الْغَيْرِ السَّائِقِ . وَأَمَّا إذَا حَصَلَ فِي عَمَلِ الْمُتَمَتِّعِ زِيَادَةُ سَعْيٍ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ
أَوْ زِيَادَةُ طَوَافٍ مُسْتَحَبٍّ فَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ هُوَ خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وأيضا : فَلَوْ سَلِمَ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لَمْ يَسْلَمْ أَنْ كُلَّمَا زَادَ عَمَلًا كَانَ أَفْضَلَ بَلْ الْأَفْضَلُ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْأَيْسَرَ كَمَا أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ وَهُوَ أَيْسَرُ ، وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ وَهُوَ أَيْسَرُ وَكَذَلِكَ الْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنْ التَّرْبِيعِ وَهُوَ أَيْسَرُ . وَقَدْ يُفَضَّلُ الْمُتَمَتِّعُ بِأَنَّ طَوَافَهُ الْأَوَّلَ يَكُونُ وَاجِبًا لِأَنَّهُ طَوَافُ عُمْرَةٍ وَالْقَارِنُ يَكُونُ طَوَافُهُ طَوَافَ قُدُومٍ وَهُوَ لَا يَجِبُ . وَالْوَاجِبُ أَفْضَلُ ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ . فَإِنَّ الْفَضْلَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ مَصْلَحَةِ الْفِعْلِ ، وَالْوُجُوبُ سَبَبُ حُصُولِ مَفْسَدَةٍ فِي التَّرْكِ . وَلَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُ أَحْمَد أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ جَمِيعَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد أَيْضًا أَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ الْحَجَّ بِسَفْرَةِ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةِ فَهَذَا الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّمَتُّعِ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي تَعْلِيقِهِ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ
مَذْهَبُ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ الْكُوفِيَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ مَعَ أَنَّ الْقِرَانَ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ . لَكِنَّ الْقِرَانَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ هُوَ الْقِرَانَ الَّذِي يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطُفْ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَلَمْ يَسْعَ إلَّا سَعْيًا وَاحِدًا . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ أَوَّلًا . وَيَسْعَى لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْحَجِّ وَإِذَا فَعَلَ مَحْظُورًا كَانَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَدْ حُكِيَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَأَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ وسعيان كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . لَكِنَّ مَذْهَبَهُ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْمَعْرُوفَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي عَمَلِ الْقَارِنِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ . بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ هَلْ يُجْزِيهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ الَّذِي مَعَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى سَعْيٍ ثَانٍ عَقِيبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد قُلْت لِأَبِي : الْمُتَمَتِّعُ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . قَالَ :
إنْ طَافَ طَوَافَيْنِ فَهُوَ أَجْوَدُ وَإِنْ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا فَلَا بَأْسَ . قَالَ : وَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ فَهُوَ أَعْجَبُ إلَيَّ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ مَذْهَبُهُ فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ . قَالَ : { لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا } طَوَافَهُ الْأَوَّلَ . وَهَذَا مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَتِّعِينَ . وَرَوَى أَحْمَد قَالَ : ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ : ثَنَا الأوزاعي عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ وَالْمُفْرِدُ يُجْزِيهِ طَوَافٌ بِالْبَيْتِ وَسَعْيٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عن عَائِشَةَ قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فليهل بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا - إلَى أَنْ قَالَتْ - فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنَى لِحَجِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا بِالْبَيْتِ } . قُلْت : فَقَوْلُهَا طَوَافًا آخَرَ إنَّمَا أَرَادَتْ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذِكْرِهَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَعُلِمَ أَنَّهَا إنَّمَا نَفَتْ طَوَافًا مَعَهُ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا الطَّوَافُ الْمُجَرَّدُ بِالْبَيْتِ . وَاَلَّذِي نَفَتْهُ عَنْ الْقَارِنِ أَثْبَتَتْهُ لِلْمُتَمَتِّعِ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يُدْخِلْ عَلَيْهَا الْحَجَّ . وَأَحْمَد فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ فَهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ طَافُوا بِالْبَيْتِ فَقَطْ لِلْقُدُومِ فَاسْتَحَبَّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَوَّلًا إذَا رَجَعَ مِنْ مِنَى أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا لِلْقُدُومِ ثُمَّ يَطُوفَ طَوَافَ الْفَرْضِ . وَمَنْ رَدَّ عَلَى أَحْمَد حُجَّتَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّوَافِ طَوَافُ الْفَرْضِ فَقَدْ غَلِطَ . لِأَنَّ طَوَافَ الْفَرْضِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ وَالْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ . وَعَائِشَةُ أَثْبَتَتْ لِلْمُتَمَتِّعِ مَا نَفَتْهُ عَنْ الْقَارِنِ . وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إنْ لَمْ تَكُنْ أَرَادَتْ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِأَجْلِ حَيْضِهَا . وَهَذَا قَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الصَّحِيحُ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً لَمْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَهَذَا
يُنَاقِضُ مَا فُهِمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، فَإِنَّهُمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا سَعَوْا بَعْدَ طَوَافِ الْفَرْضِ فَأَنْ لَا يَطُوفُوا قَبْلَهُ لِلْقُدُومِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَفِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ . فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هِيَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ فَلَا تُعَارِضُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ حَدِيثِ عَائِشَةَ . وَفِيهِ أَيْضًا عِلَّةٌ . وَالشَّافِعِيِّ اخْتَارَ التَّمَتُّعَ تَارَةً وَاخْتَارَ الْإِفْرَادَ تَارَةً - وَمَنْ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا فَقَدْ غَلِطَ وَاخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِي إحْرَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ . وَمَالِكٍ يَخْتَارُ الْإِفْرَادَ لَكِنْ قَدْ قِيلَ يُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ إلَى الْمُحَرَّمِ فَأَمَّا الْعُمْرَةُ عَقِيبَ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ : فَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ إلَّا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدِمَتْ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَتَدَعَ الْعُمْرَةَ .
فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا صَارَتْ قَارِنَةً وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الْعُمْرَةِ . لَكِنَّ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ جَعَلَ الْقَضَاءَ وَاجِبًا عَلَيْهَا لِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ عِنْدَهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَكَوْنِ عُمْرَةِ الْقَارِنِ وَالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لَا يُسْقِطُ وُجُوبَ الْعُمْرَةِ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي كُلِّ مُتَمَتِّعٍ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الطَّوَافِ قَبْلَ التَّعْرِيفِ فَإِنَّهُمْ يَأْمُرُونَهُ بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَيَصِيرُ قَارِنًا كَالْمُفْرِدِ الَّذِي قَدِمَ وَقَدْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَقِفُ بِعَرَفَةَ أَوَّلًا وَلَا يَطُوفُ قَبْلَ التَّعْرِيفِ . وَهَكَذَا يَصْنَعُ حَاجُّ الْعِرَاقِ إذَا قَدِمُوا مُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُمْ يُوَافُونَ عَرَفَةَ يَوْمَ التَّعْرِيفِ فَيُعَرِّفُونَ وَلَا يَطُوفُونَ قَبْلَ التَّعْرِيفِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَفَضَتْ الْعُمْرَةَ وَأَهَلَّتْ بِالْحَجِّ فَصَارَتْ مُفْرِدَةً . وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَتْهَا وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ : فِي أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سعيين فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقِرَانِ لَهَا فَائِدَةٌ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَبَنَوْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ : فِي أَنَّ عَمَلَ الْقَارِنِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ وَقَالُوا : إنَّ { النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعْمَرَ عَائِشَةَ
تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ : يَذْهَبُ أَصْحَابِي بِحَجَّةِ وَعُمْرَةٍ وَأَذْهَبُ أَنَا بِحَجَّةِ . فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسَعُك طَوَافُك بِحَجِّك وَعُمْرَتِك . وَفِي رِوَايَةِ أَهْلِ السُّنَنِ طَوَافُك بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك } . فَلَمَّا أَلَحَّتْ أَعْمَرَهَا تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا وَأَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَغَيْرِهِ قَالَ : إنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ وَالْعُمْرَةَ الْمَكِّيَّةَ لَا تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ لَمَّا أَعْمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً وَأَعْمَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ . فَجَعَلَ هَذِهِ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةً فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ . كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . لَكِنْ اخْتَلَفَا فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَلَمْ يَعْتَمِرْ مِنْ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةُ خَاصَّةً . لِأَجْلِ هَذَا الْعُذْرِ . وَأَمَّا عُمَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا كَانَتْ وَهُوَ قَاصِدٌ إلَى مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ ذِي الحليفة وَحَلَّ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا أُحْصِرَ وَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ ، وَالْحُدَيْبِيَةُ غَرْبِيُّ جَبَلِ التَّنْعِيمِ حَيْثُ بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَصَالَحَهُ الْمُشْرِكُونَ . وَجَبَلُ التَّنْعِيمِ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي عِنْدَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُسَمَّى مَسَاجِدَ عَائِشَةَ عَنْ يَمِينِك وَأَنْتَ دَاخِلٌ إلَى مَكَّةَ وَتِلْكَ الْمَسَاجِدُ مَبْنِيَّةٌ فِي التَّنْعِيمِ
وَلَمْ
تَكُنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ . . . (1)
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَمِرَ
مِنْ التَّنْعِيمِ ، وَالتَّنْعِيمُ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ
أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ وَالْمُعْتَمِرُ مِنْ مَكَّةَ يَخْرُجُ إلَى
الْحِلِّ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ بِخِلَافِ الْحَاجِّ مِنْ
مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إلَى عَرَفَةَ وَعَرَفَةُ مِنْ الْحِلِّ ثُمَّ
اعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ مِنْ ذِي الحليفة ثُمَّ
لَمَّا لَقِيَ هَوَازِنَ بِوَادِي حنين فَهَزَمَهُمْ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الطَّائِفِ
فَحَاصَرَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْجِعْرَانَةِ فَقَسَمَ غَنَائِمَ حنين
بالجعرانة اعْتَمَرَ دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ وحنين والجعرانة وَالطَّائِفِ كُلُّ ذَلِكَ
مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ شَرْقِيِّ عَرَفَاتٍ فَأَقْرَبُهَا إلَى عَرَفَةَ
الْجِعْرَانَةُ ثُمَّ وَادِي حنين ثُمَّ الطَّائِفُ . وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ هُوَ
وَلَا أَصْحَابُهُ مِنْ مَكَّةَ فَيَعْتَمِرُونَ إلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ فَلِهَذَا نَصَّ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ أَهْلَ
مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ عُمْرَةٌ وَرَوَى أَحْمَد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةٌ إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ
الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ فَمَنْ أَبَى إلَّا أَنْ يَعْتَمِرَ فَلْيَجْعَلْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ مَكَّةَ بَطْنَ وَادٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ الْمُقِيمِينَ
بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ مِنْ مَكَّةَ .
وَالْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد : فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَعَلَ هَذَا رِوَايَةً ثَالِثَةً . فَقَالَ : الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ : رِوَايَةٌ تَجِبُ وَرِوَايَةٌ لَا تَجِبُ وَرِوَايَةٌ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أَهْلُ مَكَّةَ يُسْتَثْنَوْنَ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ عُمْرَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً . وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ . وَهِيَ أَصَحُّ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ : مَنْ اسْتَحَبَّ لِمَنْ اعْتَمَرَ مِنْ مَكَّةَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ الْجِعْرَانَةِ مُحْتَجًّا بِعُمْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ غَلَطٌ . فَإِنَّ الْحُدَيْبِيَةَ كَانَتْ مَوْضِعَ حِلِّهِ لَمَّا أُحْصِرَ لَمْ تَكُنْ مَوْضِعَ إحْرَامِهِ . وَأَمَّا الْجِعْرَانَةُ فَإِنَّهُ أَحْرَمَ مِنْهَا دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ ؛ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ الْعُمْرَةَ مِنْ هُنَاكَ . وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الْعُمْرَةِ لَا مِنْ مَكَّةَ وَلَا غَيْرِهَا بَلْ يَجْعَلُ بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مُدَّةً وَلَوْ أَنَّهُ مِقْدَارُ مَا يَنْبُتُ فِيهِ شَعْرُهُ وَيُمْكِنُهُ الْحِلَاقُ وَهَذَا لِمَنْ يَخْرُجُ إلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَيَعْتَمِرُ . وَأَمَّا الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ فَكَثْرَةُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْعُمْرَةِ الْمَكِّيَّةِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَسْتَكْثِرُونَ مِنْ الطَّوَافِ وَلَا يَعْتَمِرُونَ عُمْرَةً مَكِّيَّةً فَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْإِفْرَادَ
كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا اسْتَحَبُّوا أَنْ يُسَافِرَ سَفَرًا آخَرَ لِلْعُمْرَةِ ؛ لِيَكُونَ لِلْحَجِّ سَفَرٌ عَلَى حِدَةٍ وَلِلْعُمْرَةِ سَفَرٌ عَلَى حِدَةٍ . وَأَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا اتَّبَعُوا الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَاسْتَحَبُّوا هَذَا الْإِفْرَادَ عَلَى التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَأَيُّ الْعُمْرَةِ عِنْدَك أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَفْضَلُ الْعُمْرَةِ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ عُمَرُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَتَمُّ لِحَجِّكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ أَنْ تَجْعَلُوهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَأَنْتَ تَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ وَتَقُولُ الْعُمْرَةُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا سُئِلْت عَنْ أَتَمِّ الْعُمْرَةِ فَقُلْت فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقُلْت : الْمُتْعَةُ تُجْزِيهِ مِنْ عُمْرَتِهِ فَأَتَمُّ الْعُمْرَةِ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَقَالَ عَلِيٌّ : مِنْ تَمَامِ الْعُمْرَةِ أَنْ تَقْدَمَ مِنْ دويرة أَهْلِك وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة يُفَسِّرُهُ أَنْ يُنْشِئَ لَهَا سَفَرًا يَقْصِدُ لَهُ لَيْسَ أَنْ تُحْرِمَ مِنْ أَهْلِك حَتَّى تَقْدَمَ الْمِيقَاتَ . وَقَالَ عُمَرُ : فِي الْعُمْرَةِ مِنْ دويرة أَهْلِك . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَيَجْعَلُ لِلْحَجِّ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ وَلِلْعُمْرَةِ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ قَالَ : نَعَمْ قُلْت لَهُ : فَإِنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ أَيَكُونُ هَذَا قَدْ
جَعَلَ لَهُ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ وَلِلْحَجِّ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا . حَتَّى يَرْجِعَ ثُمَّ يَحُجَّ . فَهَذَا مَدٌّ لِلْعُمْرَةِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَصْدٌ لِلْحَجِّ مِنْ أَهْلِهِ ، هَذَا مَعْنَاهُ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَإِنَّهُمْ يَحْكُونَ عَنْك أَنَّك تَقُولُ : الْمُتْعَةُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا فَقَالَ : أَمَّا أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَحْدَهُ فَلَيْسَ فِيهِ شَكٌّ ثُمَّ قَالَ : أَيُّمَا أَفْضَلُ : أَنْ يَجِيءَ بِعُمْرَةِ وَحَجٍّ ؟ أَوْ أَنْ يَجِيءَ بِحَجِّ وَحْدَهُ ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ إفْرَادِ الْحَجِّ . قُلْت لَهُ : وَأَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ جَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ نَعَمْ وَأَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ ثُمَّ قَالَ : نَحْوَ مَا قُلْت . وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : التَّمَتُّعُ أَحَبُّ إلَيَّ هُوَ { آخر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَصَنَعْت كَمَا صَنَعْتُمْ } وَقَوْلُهُ لِأَصْحَابِهِ : " حُلُّوا " وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنْ الْحَدِيثِ . وَقَالَ أَيْضًا : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَنْتَ تَذْهَبُ إلَى الْمُتْعَةِ . فَقَالَ : هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ وَأَفْضَلُ . وَذَاكَ أَنَّا نَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ . قَالَ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ثُمَّ قَالَ : هَذَا بَيِّنٌ .
وَكَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ يَرَيَانِهَا وَاجِبَةً وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : وَاَللَّهِ إنَّهَا لَقَرِينَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ : الْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ فَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الْحَجِّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَرِيضَةٌ فَإِذَا خَرَجَ مُتَمَتِّعًا فَقَدْ أَجْزَأَهُ مِنْ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ ، جَاءَ بِعُمْرَةِ مُفْرَدَةٍ وَحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ . فَأَمَّا عُمْرَةُ الْمُحَرَّمِ فَلَيْسَ بِمَجْزِيِّ عَنْهُ عِنْدِي . وَلَيْسَتْ بِعُمْرَةِ تَامَّةٍ إنَّمَا هِيَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ . { وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ : إنَّمَا هِيَ عَلَى قَدْرِ نَصَبِك وَنَفَقَتِك } وَمَعْنَى عُمْرَةِ الْمُحَرَّمِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ مَكَّةَ لِيَعْتَمِرُوا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى أَنْ يَعْتَمِرَ فَكَيْفَ مَنْ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ مَكَّةَ عَقِيبَ الْحَجِّ وَهَذَا لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ يَفْعَلُونَهُ . فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ الْمَكِّيَّةَ عَقِبَ الْحَجِّ مَعَ الْحَجِّ لَمْ يَفْعَلْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا عَائِشَةَ وَلَا كَانَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَفْعَلُونَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَفْضَلَ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : الْإِفْرَادُ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ فَهَذَا غالط بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرَجَعَ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ حَجَّ أَوْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ
مِنْ عَامِهِ أَنَّهُ مُفْرِدٌ لِلْحَجِّ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ فِي سَفْرَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ مُفْرِدٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا الْإِفْرَادُ هُوَ الَّذِي اسْتَحَبَّهُ الصَّحَابَةُ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ أَيْضًا عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ الِاعْتِمَارَ فِي رَمَضَانَ وَالْإِقَامَةَ إلَى أَنْ يَحُجَّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ السَّفَرُ لِلْحَجِّ أَفْضَلَ مِنْهَا . وَالتَّمَتُّعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَإِنَّمَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ يَكْرَهُونَهُ . وَقَدْ قِيلَ : إنْ الَّذِينَ كَرِهُوا ذَلِكَ إنَّمَا كَرِهُوا فَسْخَ الْحَجِّ إلَى التَّمَتُّعِ فَإِنَّ النَّاسَ يَقْدَمُونَ مِنْ الْآفَاقِ فَيُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ فَمَنْ جَوَّزَ الْفَسْخَ جَوَّزَ لَهُمْ الْمُتْعَةَ وَمَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَنَعَهُمْ مِنْهُ . وَالْفَسْخُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ : قِيلَ هُوَ وَاجِبٌ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَتْبَاعِهِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةِ . وَقِيلَ : هُوَ مُحَرَّمٌ كَقَوْلِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : هُوَ جَائِزٌ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالْأَمْرُ بِهِ مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرَانِ بِالْمُتْعَةِ . قَالَ أَحْمَد : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَأَمَرَ بِهَا فَقِيلَ لَهُ : إنَّك تُخَالِفُ أَبَاك فَقَالَ : عُمَرُ لَمْ يَقُلْ الَّذِي تَقُولُونَ إنَّمَا قَالَ عُمَرُ : إفْرَادُ الْحَجِّ مِنْ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهَا أَتَمُّ لِلْعُمْرَةِ أَوْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتِمُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَّا أَنْ يُهْدَى . وَأَرَادَ أَنْ يُزَارَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَعَلْتُمُوهَا أَنْتُمْ حَرَامًا وَعَاقَبْتُمْ النَّاسَ عَلَيْهَا وَقَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ وَعَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ : أَفَكِتَابَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا أَمْ عُمَرُ ؟ وَكَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِهَا فَيَقُولُونَ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَفْعَلَاهَا فَيَقُولُ يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ أَقُولُ لَكُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُونَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُنَاظِرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا فَقَالَ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك فَقَالَ : لَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَا عرية سَلْ أُمَّك يَعْنِي أَنَّهَا تُخْبِرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْلَالِ وَكَانَتْ أَسْمَاءُ مِمَّنْ أَحَلَّتْ . وَهَذِهِ الْمُشَاجَرَةُ إنَّمَا وَقَعَتْ ؛ لِأَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يُوجِبُ الْمُتْعَةَ
بَلْ كَانَ يُوجِبُ الْفَسْخَ وَكَانَ يَقُولُ : كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ . وَيَحْتَجُّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بِالتَّحَلُّلِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } . وَإِيجَابُ الْمُتْعَةِ هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالظَّاهِرِيَّةِ : كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَيْضًا لَكِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ ؛ وَالْقِرَانُ لَكِنْ أَهْلُ مَكَّةَ وَبَنُو هَاشِمٍ وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَسْتَحِبُّونَهَا . فَاسْتَحَبَّهَا عُلَمَاءُ سُنَّتِهِ وَأَهْلُ سُنَّتِهِ وَأَهْلُ بَلْدَتِهِ الَّتِي بِقُرْبِهَا الْمَنَاسِكُ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَأَبُو يُوسُفَ يَجْعَلُ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ سَوَاءً . وَإِنَّمَا جَوَّزَ الْجُمْهُورُ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةِ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةِ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ } . وَأَمَّا أَمْرُهُ لِأَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَأَلَّا يَعْتَمِرُوا عُمْرَةً مَكِّيَّةً وَإِنْ سَافَرُوا سَفَرًا
آخَرَ لِلْعُمْرَةِ . وَمَنْ كَانَ هَذِهِ حَالَهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ فَالتَّمَتُّعُ كَانَ مُتَعَيِّنًا فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ . إذَا أَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا الْأَفْضَلَ لَهُمْ وَكَانَ أَوَّلًا قَدْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْفَسْخِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ لَا سِيَّمَا إذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ التَّمَتُّعُ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَافِرْ سَفْرَةً أُخْرَى وَلَمْ يَعْتَمِرْ عَقِبَ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ، وَعُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَضُّؤِ لِلْمُغْتَسِلِ فَالْمُغْتَسِلُ لِلْجَنَابَةِ إذَا تَوَضَّأَ كَانَ وُضُوءُهُ بَعْضَ اغْتِسَالِهِ الْكَامِلِ كَذَلِكَ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ عِنْدَ أَحْمَد بَعْضُ حَجَّةِ الْكَامِلِ وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } فَهُوَ مِنْ حِينِ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ دَخَلَ فِي الْحَجِّ كَمَا أَنَّ الْمُغْتَسِلَ مِنْ حِينِ تَوَضَّأَ دَخَلَ فِي الْغُسْلِ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . يَدْخُلُ فِيهِ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ . وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ حَجَّةَ الْمُتَمَتِّعِ حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ . قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : كَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ زَعَمُوا يَقُولُ بِالْمُتْعَةِ فَقِيلَ لَهُ : يَكُونُ مَجِيئُهُ حِينَئِذٍ لِلْعُمْرَةِ . فَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ
أَنَّ
رَجُلًا خَرَجَ يُرِيدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي جَمَاعَةٍ فَتَطَوَّعَ قَبْلَهَا
بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ . ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ أَزَادَهُ ذَلِكَ خَيْرًا أَمْ
نَقَصَهُ ؟ ثُمَّ قَالَ أَحْمَد : مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ ثُمَّ قَالَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ : يَقُولُ مَجِيئُهُ حِينَئِذٍ لِلظُّهْرِ أَوْ لِلتَّطَوُّعِ :
أَيْ إنَّمَا مَجِيئُهُ لِلظُّهْرِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا قَوْلٌ
مُحْدَثٌ يَعْنِي قَوْلَهُمْ حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ . قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ مَرَّةً أُخْرَى وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : إنَّهُ قَوْلٌ
مُحْدَثٌ يَعْنِي قَوْلَهُمْ حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ :
قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ قَالَ إي وَاَللَّهِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ ،
كَلَامٌ بِغَيْظِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ بِهِ وَيَأْمُرُ بِهِ أَصْحَابَهُ
وَغَلَّظَ الْقَوْلَ فِيهِ . قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَرَّةً
أُخْرَى . قِيلَ لَهُ : مَنْ قَالَ : حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ ؟ قَالَ : هَذَا قَوْلٌ
مُحْدَثٌ قِيلَ لَهُ : عَمَّنْ يُرْوَى ؟ فَقَالَ : عَنْ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ .
فَصْلٌ :
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - لَمَّا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً ؟ إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ . وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ لِأَحْمَدَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : قَوَّيْت قُلُوبَ الرَّافِضَةِ لَمَّا أَفْتَيْت أَهْلَ خُرَاسَانَ بِالْمُتْعَةِ . فَقَالَ : يَا سَلَمَةُ كَانَ يَبْلُغُنِي عَنْك أَنَّك أَحْمَقُ وَكُنْت أُدَافِعُ عَنْك وَالْآنَ فَقَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّك أَحْمَقُ ، عِنْدِي أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا صَحِيحًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَعُهَا لِقَوْلِك فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الْأَحَادِيثَ مُتَوَاتِرَةٌ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّمَتُّعِ لِجَمِيعِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ حَتَّى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْقُلُهُمْ مِنْ الْفَاضِلِ إلَى الْمَفْضُولِ بَلْ إنَّمَا يَأْمُرُهُمْ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُمْ . وَلِهَذَا كَانَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَّا التَّمَتُّعَ مُسْتَحَبًّا عِنْدَ أَحْمَد وَلَمْ يَجْعَلْ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ مُوجِبًا لِلِاحْتِيَاطِ بِتَرْكِ الْفَسْخِ فَإِنَّ الِاحْتِيَاطَ إنَّمَا يُشْرَعُ إذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا تَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ فَاتِّبَاعُهَا أَوْلَى . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَدْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا وَآخَرُونَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَدْ أَوْجَبُوا الْفَسْخَ فَلَيْسَ الِاحْتِيَاطُ بِالْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ أُولَئِكَ بِأَوْلَى مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ هَؤُلَاءِ .
وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا الْفَسْخَ أَوْ الْمُتْعَةَ مُطْلَقًا قَالُوا : كَانَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً . قَالُوا : لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَيَقُولُونَ : إذَا بَرَأَ الدَّبَر وَعَفَا الْأَثَر وَانْسَلَخَ صَفَر فَقَدْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ . قَالُوا : فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِالْعُمْرَةِ ؛ لِيُبَيِّنَ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ اعْتَمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ عُمَرَهُ الثَّلَاثَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَاعْتَمَرَ عُمْرَتَهُ الْأُولَى عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَاعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ عَائِشَةَ قِيلَ لَهَا : إنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ فَقَالَتْ : يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجَبٍ قَطُّ وَمَا اعْتَمَرَ إلَّا وَابْنُ عُمَرَ مَعَهُ } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى مَا قَالَتْ عَائِشَةَ بِأَنَّ عُمَرَهُ كُلَّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَهُوَ أَوْسَطُ أَشْهُرِ الْحَجِّ . فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَعْلَمُوا جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ وَقَدْ فَعَلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عن عَائِشَةَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عِنْدَ الْمِيقَاتِ : مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ وَحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ } . فَبَيَّنَ لَهُمْ جَوَازَ
الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ فَكَيْفَ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ أَنْ يَتَحَلَّلَ وَأَمَرَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يُتِمَّ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَفَرَّقَ بَيْنَ مُحْرِمٍ وَمُحْرِمٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ التَّحَلُّلِ ؛ لَا إِحْرَامُهُ الْأَوَّلُ . وَمَا ذَكَرَهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ السَّائِقُ . . . (1) { أمرنا أَنْ نُفْضِيَ إلَى نِسَائِنَا فَنَأْتِيَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِيَّ قَالَ : فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا فَقَالَ : قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ ؟ وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْت كَمَا تَحِلُّونَ وَلَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ فَحُلُّوا . فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . فَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ سِعَايَتِهِ فَقَالَ : بِمَ أَهْلَلْت ؟ قَالَ : بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا قَالَ : وَأَهْدَى عَلِيٌّ لَهُ هَدْيًا فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ : لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : بَلْ لِلْأَبَدِ } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ : { وَإِنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ وَهُوَ يَرْمِيهَا فَقَالَ جُعْشُمٌ : أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا بَلْ لِلْأَبَدِ } . فَبَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْعُمْرَةَ الَّتِي فَسَخَ مَنْ فَسَخَ مِنْهَا حَجَّهُ إلَيْهَا لِلْأَبَدِ
وَأَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ عُمْرَةَ التَّمَتُّعِ بَعْضُ الْحَجِّ وَلَمْ يُرِدْ السَّائِلُ بِقَوْلِهِ : عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا . أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهَا فِي عَامِنَا هَذَا لِأَنَّ الْعُمْرَةَ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَلَا تَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بَلْ لِلْأَبَدِ فَإِنَّ الْأَبَدَ لَا يَكُونُ فِي حَقِّ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ " وَلَا قَالَ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ } أَرَادَ بِهِ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؟ . قِيلَ : نَعَمْ : وَمِنْ ذَلِكَ عُمْرَةُ الْفَاسِخِ فَإِنَّهَا سَبَبُ هَذَا اللَّفْظِ وَسَبَبُ اللَّفْظِ الْعَامِّ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْهُ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ } يَتَنَاوَلُ عُمْرَةَ الْفَاسِخِ وَأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى التَّمَتُّعِ مُوَافِقٌ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ لَا مُخَالِفٌ لَهُ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ إذَا الْتَزَمَ أَكْثَرَ مِمَا لَزِمَهُ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ جَازَ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُجَوِّزُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَارِنًا وَالْقَارِنُ عِنْدَهُ يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ وسعيان وَهَذَا قِيَاسُ الرِّوَايَةِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْ أَحْمَد فِي الْقَارِنِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الْحَجُّ فَإِذَا صَارَ مُتَمَتِّعًا صَارَ مُلْتَزِمًا لِعُمْرَةِ وَحَجٍّ فَكَانَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْفَسْخِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَجَازَ ذَلِكَ وَهُوَ أَفْضَلُ فَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَشْكُلُ هَذَا عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ فَسَخَ حَجًّا إلَى عُمْرَةٍ مُجَرَّدَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ مُفْرَدَةً لَمْ يَجُزْ بِلَا نِزَاعٍ وَإِنَّمَا الْفَسْخُ جَائِزٌ لِمَنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنْ يَحُجَّ بَعْدَ الْعُمْرَةِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ دَخَلَ فِي الْحَجِّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ } وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا { كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ بَدَأَ بِالْوُضُوءِ وَكَمَا قَالَ لِلنِّسْوَةِ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ : ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا } فَكَانَ غَسْلُ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ توضية وَهُوَ بَعْضُ الْغُسْلِ . فَإِنْ قِيلَ : دَمُ الْمُتَمَتِّعِ دَمُ جبران ، وَنُسُكٌ لَا جُبْرَانَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ نُسُكٍ مَجْبُورٍ . قِيلَ : هَذَا لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ هَدْيِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةِ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا وَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْعَامَّ فَإِنَّ
الْقَارِنَ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمُتَمَتِّعِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ . فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ الْمُتَمَتِّعِ ، وَدَمُ الْجُبْرَانِ لَيْسَ كَذَلِكَ . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعَمَ نِسَاءَهُ مِنْ الْهَدْيِ الَّذِي ذَبَحَهُ عَنْهُنَّ وَكُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ } وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد . الثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ الْجُبْرَانِ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ كَالْإِفْسَادِ بِالْوَطْءِ . وَكَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ أَوْ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْسِدَ حَجَّهُ وَلَا أَنْ يَفْعَلَ الْمَحْظُورَ إلَّا لِعُذْرِ وَلَا يَتْرُكَ الْوَاجِبَ إلَّا لِعُذْرِ ، وَالتَّمَتُّعُ جَائِزٌ مُطْلَقًا فَلَوْ كَانَ دَمُهُ دَمَ جبران لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا فَعَلِمَ أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ وَهَدْيٍ وَأَنَّهُ مِمَّا وَسَّعَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَبَاحَ لَهُمْ التَّحَلُّلَ فِي أَثْنَاءِ الْإِحْرَامِ وَالْهَدْيُ مَكَانَهُ لِمَا فِي اسْتِمْرَارِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمَشَقَّةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ وَبِمَنْزِلَةِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلَابِسِ الْخُفِّ . فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ أَنْ يَخْلَعَ وَيَغْسِلَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ لَابِسُ الْخُفِّ عَلَى طَهَارَةٍ مَسَحَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَخْلَعُ وَيَغْسِلُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَكُنْ رِجْلَاهُ فِي الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ }
وَهَدْيُ مُحَمَّدٍ لِمَنْ كَانَ مَكْشُوفَ الرِّجْلَيْنِ أَنْ يَغْسِلَهُمَا لَا يَقْصِدُ أَنْ يَلْبَسَ لِيَمْسَحَ عَلَيْهِمَا وَلِمَنْ كَانَ لَابِسَ الْخُفَّيْنِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا لَا أَنْ يَخْلَعَهُمَا وَيَغْسِلَ . مَعَ أَنَّ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ بَدَلٌ ؛ فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ . وَإِنْ كَانَ بَدَلًا عَنْ تَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِحَجِّ مُفْرَدٍ يَعْتَمِرُ عَقِبَهُ وَالْبَدَلُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بَدَلًا عَنْ الظُّهْرِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ وَكَالْمُتَيَمِّمِ الْعَاجِزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ؛ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ بَدَلٌ . فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ وَاجِبًا فَكَوْنُهُ مُسْتَحَبًّا أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ وَيَقْضِيَ وَالْقَضَاءُ بَدَلٌ عَنْ الْأَدَاءِ وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ يُفْطِرُ وَيَقْضِي وَالْقَضَاءُ بَدَلٌ . وَتَخَلُّلُ الْإِحْلَالِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ بِمَنْزِلَةِ الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ كَطَوَافِ الْفَرْضِ ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ أَيَّامَ مِنَى مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ . وَإِذَا طَافَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ رَمَى الْجِمَارَ أَيَّامَ مِنَى بَعْدَ الْحِلِّ التَّامِّ وَهُوَ السُّنَّةُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهْرُ رَمَضَانَ يَتَخَلَّلُ صِيَامَ أَيَّامِهِ
الْفِطْرُ
بِاللَّيْلِ وَهُوَ الصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ } . إلَى قَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَهَذَا الصَّوْمُ يَتَخَلَّلُهُ الْفِطْرُ
كُلَّ لَيْلَةٍ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ
يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ لِمَنْ حَجَّ حَجَّةَ تَمَتُّعٍ فِيهَا بِالْعُمْرَةِ
وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَخَلَّلُ هَذَا الْإِحْرَامَ إحْلَالٌ . وَهُوَ مِنْ حِينِ
إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ قَدْ دَخَلَ فِي الْحَجِّ كَمَا أَنَّهُ بِصِيَامِ أَوَّلِ
يَوْمٍ دَخَلَ فِي صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَالْقِيَامُ يَتَخَلَّلُهُ السَّلَامُ مِنْ
كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ الْوِتْرُ بِثَلَاثِ مَفْصُولَةٍ .
فَصْلٌ :
فِي " صِفَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ " لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ
إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ
إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ
الْأَحَادِيثُ ،
وَلَمْ
يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ لَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا عَائِشَةَ
فَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ النَّقْلُ وَلَا
خَالَفَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَلَكِنْ تَنَازَعُوا : هَلْ حَجَّ مُتَمَتِّعًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا ؟
أَوْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا ؟ وَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ وَهِيَ
بِحَمْدِ اللَّهِ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ عِنْدَ مَنْ فَهِمَ مُرَادَ الصَّحَابَةِ
بِهَا . وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامُ أَحْمَد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ حَتَّى قَالَ :
لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا
وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ : كَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِ .
وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ
حَزْمٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُصَنَّفًا جَمَعَ فِيهِ الْآثَارَ وَقَرَّرَ
ذَلِكَ . وَأَحْمَد إنَّمَا اخْتَارَ التَّمَتُّعَ ؛ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بِهِ لَا لِكَوْنِهِ كَانَ مُتَمَتِّعًا
التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ عِنْدَهُ وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ المروذي : إنَّهُ
إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ ؟ وَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ عِنْدَهُ وَسَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَكُنْ
لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَمَتِّعًا عِنْدَهُ لَكَانَ
قَدْ فَعَلَهَا وَأَمَرَ بِهَا فَلَا وَجْهَ حِينَئِذٍ لِاخْتِيَارِ الْقِرَانِ
لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ .
وَلَمْ
يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا
التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ وَأَوَّلُ مَنْ ادَّعَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ
الْخَاصَّ فِيمَا عَلِمْنَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَذَكَرَ فِي تَعْلِيقِهِ
الِاحْتِجَاجَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى فَضِيلَةِ التَّمَتُّعِ وَذَكَرَ أَنَّ
الْأَوْلَى - وَهِيَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِأَمْرِهِ لَا بِفِعْلِهِ "
وَبِقَوْلِهِ : " لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت " -
هِيَ طَرِيقَةُ الْأَصْحَابِ كَمَا كَانَ يَحْتَجُّ بِهَا إمَامُهُمْ أَحْمَد .
ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ نَصَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا مِنْ الْأَصْحَابِ عَلَى قَوْلَيْنِ .
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ مَعَ سَوْقِهِ الْهَدْيَ وَحَمَلَ
هَؤُلَاءِ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ لَهُمْ خَاصَّةً عَلَى
أَنَّهُمْ خُصُّوا بِالتَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ دُونَ
مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَمَنْ
اتَّبَعَهُ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ مُنْكَرٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ
أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي الشَّيْخُ أَبُو
الْبَرَكَاتِ وَغَيْرُهُ . وَقَالُوا : مَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ
الْمُسْتَفِيضَةَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلَّ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ . وَالْقَوْلُ
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِمَعْنَى
أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ لِكَوْنِهِ سَاقَ
الْهَدْيَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ
بَعْدَ أَنْ طَافَ وَسَعَى لِلْعُمْرَةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ . وَهَؤُلَاءِ يُسَمُّونَ هَذَا مُتَمَتِّعًا وَقَدْ يُسَمُّونَهُ قَارِنًا لِكَوْنِهِ أَحْرَمَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ لَكِنَّ الْقِرَانَ الْمَعْرُوفَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ لِيَقَعَ الطَّوَافُ عَنْ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ : يَظْهَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ . وَالثَّانِي : مِنْ السَّعْيِ عَقِبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّ الْقَارِنَ لَيْسَ عَلَيْهِ سَعْيٌ ثَانٍ كَمَا لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْمُفْرِدِ . وأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَهَذَا السَّعْيُ وَاجِبٌ فِي حَقِّهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ عِنْدَ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيِّ فَاخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِي حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَارَةً : إنَّهُ أَفْرَدَ . وَقَالَ تَارَةً : إنَّهُ تَمَتَّعَ . وَقَالَ تَارَةً : إنَّهُ أَحْرَمَ مُطْلَقًا . فَقَالَ فِي " مُخْتَصَرِ الْحَجِّ " : وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُفْرِدَ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ عِنْدَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ . وَقَالَ فِي " اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } . قَالَ : وَمَنْ قَالَ إنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ - الَّذِينَ أَدْرَكَ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ
أَحَدًا لَا يَكُونُ مُقِيمًا عَلَى حَجٍّ إلَّا وَقَدْ ابْتَدَأَ إحْرَامَهُ بِحَجِّ قَالَ : وَأَحْسَبُ عُرْوَةَ حِينَ حَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِحَجِّ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ : يَفْعَلُ فِي حَجِّهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى . فَقَدْ بَيَّنَ الشَّافِعِيِّ هُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا وَأَنَّ مَنْ قَالَ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَلِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ مَنْ اسْتَمَرَّ عَلَى إحْرَامِهِ لَا يَكُونُ إلَّا حَاجًّا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَمَرَّ عَلَى إحْرَامِهِ ظُنَّ أَنَّهُ كَانَ حَاجًّا . وَقَالَ أَيْضًا فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُخْرِجِهِ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الِاخْتِلَافِ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ قَبِيحًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ ثُمَّ السُّنَّةَ ثُمَّ مَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَإِفْرَادَ الْحَجِّ وَالْقِرَانَ وَاسِعٌ كُلُّهُ . قَالَ : وَثَبَتَ أَنَّهُ خَرَجَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَقَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } . قَالَ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمِنْ أَيْنَ أَثْبَتَ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَطَاوُوسٍ دُونَ حَدِيثِ مَنْ قَالَ قَرَنَ .
قِيلَ : لِتَقَدُّمِ صُحْبَةِ جَابِرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُسْنِ سِيَاقِهِ لِابْتِدَاءِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ وَلِرِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلِ حِفْظِهَا عَنْهُ وَقُرْبِ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ . قَالَ : وَلِأَنَّ مَنْ وَصَفَ انْتِظَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَضَاءَ إذْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ الْحَجِّ طَلَبَ الِاخْتِيَارَ فِيمَا وَسَّعَ اللَّهُ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَحْفَظَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُتِيَ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَانْتَظَرَ الْقَضَاءَ فَكَذَلِكَ حُفِظَ فِي الْحَجِّ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ . قَالَ المزني : إنْ ثَبَتَ حَدِيثُ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَنَ حَتَّى يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْأَحَادِيثِ سِوَاهُ فَأَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ أَدَاءِ فَرْضٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَكْثَرَ عَمَلَهُ لِلَّهِ كَانَ أَكْثَرَ فِي ثَوَابِ اللَّهِ . قُلْت : وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ مُتَّفِقَةٌ لَيْسَتْ مُخْتَلِفَةً إلَّا اخْتِلَافًا يَسِيرًا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَالتَّمَتُّعُ عِنْدَهُمْ يَتَنَاوَلُ الْقِرَانَ وَاَلَّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُ أَفْرَدَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُ تَمَتَّعَ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : { اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ فَكَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ أَوْ الْعُمْرَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ : مَا
يُرِيدُ إلَّا أَمْرًا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهُ فَقَالَ عُثْمَانُ : دَعْنَا مِنْك . فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَك فَلَمَّا أَنْ رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا } . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ . وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ دَعْنَا إلَى أَنْ أَدَعَك . وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَحْدَهُ مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ : شَهِدْت عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةِ وَحَجَّةٍ . قَالَ : مَا كُنْت لِأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ مُتَمَتِّعًا عِنْدَهُمْ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي فَعَلَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَوَافَقَهُ عُثْمَانُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ لَكِنْ كَانَ النِّزَاعُ : هَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ فِي حَقِّنَا ؛ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُشْرَعُ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْمُتْعَةِ فِي حَقِّنَا ؟ كَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ : كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَكَانَ عَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيِّ : كَلِمَةً فَقَالَ : لَقَدْ عَلِمْت أَنَّا تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَجَلْ وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ فَقَدْ اتَّفَقَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ تَمَتَّعُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا قَوْلُ عُثْمَانُ كُنَّا خَائِفِينَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ
وَكَانُوا قَدْ اعْتَمَرُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَانَ كُلُّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يُسَمَّى أَيْضًا مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ النَّاهِينَ عَنْ الْمُتْعَةِ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُطْلَقًا . وَشَاهِدُهُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ قَالَ فَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كَافِرٌ بِالْعَرْشِ . يَعْنِي مُعَاوِيَةَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ مُسْلِمًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَلْ وَفِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ عَامَ الْفَتْحِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ كَافِرٌ بِعَرْشِ مَكَّةَ . وَقَدْ سَمَّى سَعْدٌ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ مُتْعَةً . فَلَعَلَّ عُثْمَانُ أَرَادَ الْخَوْفَ عَامَ الْقَضِيَّةِ وَكَانُوا أَيْضًا خَائِفِينَ عَامَ الْفَتْحِ . وَأَمَّا عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكَانُوا آمِنِينَ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَقِيَ مُشْرِكٌ بَلْ نَفَى اللَّهُ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ . وَلِهَذَا قَالُوا : صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آمَنِ مَا كَانَ النَّاسُ رَكْعَتَيْنِ فَلَعَلَّهُ قَدْ اشْتَبَهَ حَالُهُمْ هَذَا الْعَامَ بِحَالِهِمْ هَذَا الْعَامَ . كَمَا اشْتَبَهَ عَلَى مَنْ رَوَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَإِنَّمَا كَانَ النَّهْيُ فِي غَزَاةِ الْفَتْحِ . وَكَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِنَّمَا كَانَ دُخُولُهُ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ دَخَلَهَا فِي حَجَّةٍ وَلَا عُمْرَةٍ ؛ بَلْ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عن إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ : قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ فِي عُمْرَتِهِ ؟ قَالَ : لَا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عن مُطَرِّفِ بْنِ الشخير قَالَ : قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : أُحَدِّثُك حَدِيثًا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَك بِهِ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ } فَهَذَا عِمْرَانُ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عن غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : سَأَلْت سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ الْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ فَقَالَ : فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعَرْشِ . يَعْنِي بُيُوتَ مَكَّةَ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ } وَهَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ سَعْدٌ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إذْ ذَاكَ . وَأَمَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَكَذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ فَسَمَّى سَعْدٌ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُتْعَةً لِأَنَّ بَعْضَ الشَّامِيِّينَ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَصَارَ الصَّحَابَةُ يَرْوُونَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَنْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَالْقَارِنُ عِنْدَهُمْ مُتَمَتِّعٌ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَدَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ { عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْعَقِيقِ : يَقُولُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ : صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ : عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ } فَهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ : عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَغَيْرُ الْخُلَفَاءِ كَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يُرْوَى عَنْهُمْ بِأَصَحِّ الْأَسَانِيدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ تَمَتُّعًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المزني { عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَحَدَّثْت بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ : لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ فَلَقِيت أَنَسًا فَحَدَّثْته فَقَالَ : مَا يَعُدُّونَا إلَّا صِبْيَانًا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } . فَهَذَا أَنَسٌ يُخْبِرُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا وَمَا ذَكَرَهُ بَكْرٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ فَجَوَابُهُ أَنَّ الثِّقَاتِ - الَّذِينَ هُمْ أَثْبَتُ فِي ابْنِ عُمَرَ مِنْ بَكْرٍ مِثْلَ ابْنِهِ سَالِمٍ " رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { : تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ بَكْرٍ . وَغَلَطُ بِكْرٍ عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيطِ سَالِمٍ ابْنِهِ عَنْهُ وَتَغْلِيطِهِ هُوَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُشْبِهُ هَذَا أَنَّ ابْنُ عُمَرَ قَالَ لَهُ : أَفْرَدَ الْحَجَّ فَظَنَّ أَنَّهُ قَالَ : لَبَّى بِالْحَجِّ فَإِنَّ إفْرَادَ الْحَجِّ كَانُوا يُطْلِقُونَهُ وَيُرِيدُونَ بِهِ إفْرَادَ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَذَلِكَ
يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ قَرَنَ فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين وَمَنْ يَقُولُ : إنَّهُ أَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ . فَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ تَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ . يُبَيِّنُ هَذَا : مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ نَافِعٍ { عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ : أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا } وَفِي رِوَايَةٍ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا . فَلَمْ يَذْكُرُوا عَنْ ابْنِ عُمَرَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : أَفْرَدَ الْحَجَّ لَا أَنَّهُ قَالَ : لَبَّى بِالْحَجِّ . وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ { أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيِّ : قَدْ سُقْت الْهَدْيَ وَقَرَنْت } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الحليفة وَقَدْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَتَحَلَّلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ
إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ السَّبْعِ وَمَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ رَجَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ فَصَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ } . قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَحَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَ حَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ . فَهَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ . وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمِ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ الرَّابِعَةَ مَعَ حَجَّتِهِ } وَلَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَقَالَ : هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَتْ أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا . وَأَمَّا الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ : أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَهُمْ ثَلَاثَةٌ : عَائِشَةُ وَابْنُ
عُمَرَ وَجَابِرٌ . وَالثَّلَاثَةُ نُقِلَ عَنْهُمْ التَّمَتُّعُ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِمَا أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَمَا صَحَّ عَنْهُمَا مِنْ ذَلِكَ فَمَعْنَاهُ إفْرَادُ أَعْمَالِ الْحَجِّ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عن حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَتْ حَفْصَةُ : فَمَا يَمْنَعُك أَنْ تَحِلَّ ؟ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي وَفِي رِوَايَةٍ : مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك ؟ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الْهَدْيَ } فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُعْتَمِرًا وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعُمْرَةِ حَاجًّا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عن أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ إلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ . وَعُمْرَةً فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عن مُجَاهِدٍ قَالَ : دَخَلْت أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ . كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : أَرْبَعَ عُمَرٍ : إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ فَقَالَ عُرْوَةُ أَلَا تَسْمَعِينَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إلَى
مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَتْ : وَمَا يَقُولُ ؟ قَالَ : يَقُولُ : اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ فَقَالَتْ : يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ مَعَهُ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ } فَعَائِشَةُ أَنْكَرَتْ كَوْنَهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ وَمَا أَنْكَرَتْ كَوْنَهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ . فَقَدْ اتَّفَقَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ . وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ . وَثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ نَقَلَا عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ الْحَجِّ وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ الْعَامُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْقِرَانُ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْهَدْيِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ الثَّابِتَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ تُوَافِقُ مَا فَعَلَهُ . سَائِرُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْعَامَّ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ أَحْرَمَ مُطْلَقًا فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ مُرْسَلٍ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَالَ : أَفْرَدَ الْحَجَّ فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ فَهَذَا مُخْطِئٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَعَ حَجَّتِهِ بِعُمْرَةِ فَهَذَا قَدْ اعْتَقَدَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ غَلَطٌ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا فَقَوْلُهُ غَلَطٌ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ تَمَتَّعَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ حَتَّى طَافَ وَسَعَى . فَقَوْلُهُ أَيْضًا غَلَطٌ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ تَمَتَّعَ : بِمَعْنَى أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ فَهُوَ أَيْضًا مُخْطِئٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِالْأَحَادِيثِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ قَرَنَ بِمَعْنَى أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين فَقَدْ غَلِطَ أَيْضًا وَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَالْغَلَطُ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَعَ مِمَّنْ دُونَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَفْهَمُوا كَلَامَهُمْ وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَنُقُولُهُمْ مُتَّفِقَةٌ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ طَوَافَيْنِ وَلَا سَعَى سعيين لَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ { عن عَائِشَةَ قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فليهل بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا . وَقَالَتْ فِيهِ : فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنَى لِحَجِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُوسٍ { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةِ فَقَدِمَتْ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَاضَتْ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّفَرِ : يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك فَأَبَتْ فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ } . وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ { عن عَائِشَةَ أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفِ فَطَهُرَتْ بِعَرَفَةَ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْزِي عَنْك طَوَافُك بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَطَاءٍ { عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : طَوَافُك بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ ثُمَّ وَجَدَهَا تَبْكِي وَقَالَتْ قَدْ حِضْت وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحْلِلْ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ فَقَالَ اغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ كُلَّهَا حَتَّى إذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ قَالَ قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك جَمِيعًا . قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حِينَ حَجَجْت فَقَالَ : فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ } . فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الَّذِينَ قَرَنُوا لَمْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا الطَّوَافَ الْأَوَّلَ الَّذِي طَافَهُ
الْمُتَمَتِّعُونَ أَوَّلًا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي قَضِيَّتِهَا أَنَّهَا { لما طَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ لَهَا قَدْ حَلَلْت وَقَالَ لَهَا : يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك } وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الْعُمْرَةِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يُجْزِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا يُجْزِي الْمُفْرِدَ لَا سِيَّمَا وَعَائِشَةُ لَمْ تَطُفْ إلَّا طَوَافَ قُدُومٍ بَلْ لَمْ تَطُفْ إلَّا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَسَعَتْ مَعَ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ يَكْفِي الْقَارِنَ فَلَأَنْ يَكْفِيَهُ طَوَافُ الْقُدُومِ مَعَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ مَعَ أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ نَقَلُوا حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ نَقَلُوا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ الصَّحَابَةُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ : أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحَلُّلِ إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ طَافَ وَسَعَى ثُمَّ طَافَ وَسَعَى وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَثَرٌ يَرْوِيهِ الْكُوفِيُّونَ عَنْ عَلِيٌّ وَأَثَرٌ آخَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ عَنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِلْقَارِنِ طَوَافًا وَاحِدًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ خِلَافَ مَا يَحْفَظُ أَهْلُ
الْعِرَاقِ . وَمَا رَوَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْهُ مَا هُوَ مُنْقَطِعٌ وَمِنْهُ مَا رِجَالُهُ مَجْهُولُونَ أَوْ مَجْرُوحُونَ . وَلِهَذَا طَعَنَ عُلَمَاءُ النَّقْلِ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : كُلُّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا تَصِحُّ مِنْهُ وَلَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ بِلَا رَيْبٍ . وَأَيْضًا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَهُمْ : اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي ثُمَّ انْطَلَقَ يُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَا قَصَّرَ وَلَا أَحَلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَحَلَقَ وَنَحَرَ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . } وَأَيْضًا : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِذَا دَخَلَتْ فِيهِ لَمْ تَحْتَجْ إلَى عَمَلٍ زَائِدٍ عَلَى عَمَلِهِ } . وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كهيل ؛ قَالَ : حَلَفَ لِي طاوس مَا طَافَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا . وَقَدْ ثَبَتَ مِثْلُ هَذَا عَنْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُخَالِفُونَهَا .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَيِّنُ : أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ هُوَ الَّذِي قَالَهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . لَكِنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ فَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ مُفْرِدًا ؟
أَوْ قَارِنًا " أَوْ مُتَمَتِّعًا ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ لِمَنْ يَحُجُّ
فَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْقَوْلَ وَأَطَالُوا وَزَادُوا وَنَقَصُوا ،
وَالْقَصْدُ كَشْفُ الْحَقِّ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ
إنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَتَى بِعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ ، وَالْحَدِيثُ
الَّذِي رَوَوْهُ : { أَنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقُومُ كَذَا وَكَذَا حَجَّةٍ
} . هَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا حَجُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ وَسَاقَ الْهَدْيَ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا حِينَ قَدِمَ . لَكِنَّهُ طَافَ طَوَافَ
الْإِفَاضَةِ مَعَ هَذَيْنِ الطَّوَافَيْنِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ
الصَّوَابُ الْمُحَقَّقُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَحَادِيثِ الَّذِينَ
جَمَعُوا طُرُقَهَا وَعَرَفُوا مَقْصِدَهَا وَقَدْ جَمَعَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
حَزْمٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كِتَابًا جَيِّدًا فِي هَذَا الْبَابِ . وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَد : لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ
قَارِنًا وَالتَّمَتُّعُ أَحَبُّ إلَيَّ لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ . يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ طَافَ وَسَعَى وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَلُّلِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } وَهَذَا إنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا بِدُونِ سَوْقِ الْهَدْيِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ . وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ المروذي : إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ حَجَّ قَارِنًا يَتَبَيَّنُ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْأَحَادِيثَ وَفَهِمَ مَضْمُونَهَا . وَبَسْطُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لَكِنْ نَذْكُرُ نُكَتًا مُخْتَصَرَةً : مِنْهَا : أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَفْظِ تَلْبِيَتِهِ وَلَفْظِهِ فِي خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَفِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ : إنَّمَا ذَكَرُوا الْقِرَانَ : كَقَوْلِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ سَمِعْته يَقُولُ : { لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجَّةً وَكَانَ تَحْتَ نَاقَتِهِ } وَكَحَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالَ : { أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقَالَ : قُلْ : عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ } وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ . . . (*) وَاَلَّذِينَ قَالُوا : تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ لَمْ تَزَلْ قُلُوبُهُمْ عَلَى غَيْرِ
الْقِرَانِ فَإِنَّ الْقِرَانَ كَانَ عِنْدَهُمْ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّ عُثْمَانُ كَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ ؛ وَكَانَ عَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا . وَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْقَارِنِ الْهَدْيُ بِقَوْلِهِ . { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } . وَذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ حَقِيقَةِ التَّمَتُّعِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ فَيَتَرَفَّهَ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ ، قَدْ أَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فَأَتَى بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ بَيْنَهُمَا فَيَتَرَفَّهُ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ . فَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى التَّمَتُّعِ مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَنْقُلُوا لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وكذلك الَّذِينَ قَالُوا : أَفْرَدَ الْحَجَّ مَعَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ : تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَعَلَى مَنْ قَالَ : إنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ . وَسَعَى سعيين فَإِنَّ أَصْحَابَهُ حَلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ فَبَقُوا مُحْرِمِينَ كَمَا يَبْقَى مُفْرِدًا بِحَجِّ وَلَمْ يَأْتُوا بِزِيَادَةِ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ . فَبَيَّنَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ إلَّا أَفْعَالَ الْحَجِّ لَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَلَا زَادَ عَلَيْهَا وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا : إحْدَاهُنَّ عُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ
بَعْدَ الْحَجَّةِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ حَجَّ مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ إلَّا عَائِشَةَ خَاصَّةً فَإِنَّهُ أَعْمَرَهَا مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِأَجْلِ حَيْضِهَا الَّذِي حَاضَتْهُ وَبُنِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مَسَاجِدُ فَسُمِّيَتْ " مَسَاجِدَ عَائِشَةَ " فَإِنَّهَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ مِنْ هُنَاكَ فَإِنَّهُ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ ؛ إذْ ذَاكَ الْجَانِبُ مِنْ الْحَرَمِ أَقْرَبُ جَوَانِبِهِ مِنْ مَكَّةَ . وَكَانَ قَدْ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ وَلَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَهَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ عُمْرَتَهُ كَانَتْ فِيهَا قَبْلَهَا فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ الَّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ : كَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ . رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَالَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ كَمَا زَعَمَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دُونَ مَنْ تَمَتَّعَ وَسَاقَ الْهَدْيَ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ يُظَنُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ عَقِبَ ذَلِكَ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ . وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين كَمَا يَخْتَارُ ذَلِكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَنَّهُ خِلَافُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي
تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : إنَّهُ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ؛ لِأَجْلِ سَوْقِ الْهَدْيِ كَمَا يَخْتَارُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ فَالتَّمَتُّعُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ : السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِلْحَجِّ كَمَا سَعَى أَوَّلًا لِلْعُمْرَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْعَ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ؟ لَكِنْ عَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَعْيٍ ثَانٍ بَلْ يَكْفِيهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ كَمَا يَكْفِي الْمُفْرِدَ وَكَمَا يَكْفِي الْقَارِنَ . وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : " أَنَّهُمْ لَمْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا الطَّوَافَ الْأَوَّلَ " وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : " أَنَّهُمْ طَافُوا بَعْدَ التَّعْرِيفِ " فَإِنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَتَوَجَّهُ هَذَا الْإِلْزَامُ ؛ لَكِنْ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْقَارِنِ وَبَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ - فَلَمْ يَحِلَّ لِأَجْلِهِ - فَرْقٌ إلَّا أَنَّ الْقَارِنَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْمُتَمَتِّعُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ إدْخَالُهُ الْحَجَّ عَلَيْهَا بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ كَإِدْخَالِهِ قَبْلَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ سَعْيًا ثَانِيًا : لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ فَرْقٌ أَصْلًا . وَعَلَى هَذَا فَإِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى أَفْضَلُ مِنْ أَنْ
يُحْرِمَ
بِهِ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَقَدْ صَحَّ { عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا وَقَالَ : لَبَّيْكَ
عُمْرَةً وَحَجًّا } وَمَنْ لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ إلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ
وَالسَّعْيِ لَا يَقُولُ هَذَا . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ مَعَ حَجَّتِهِ
فَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ - الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ
وَأَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ : عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةَ
الْقَضِيَّةِ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ وَالْعُمْرَةَ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ -
تَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ . وَكَذَلِكَ { قول حَفْصَةَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ
عَلَيْهِ : مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا . وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِك ؟ فَقَالَ
: إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : أَيُّمَا أَفْضَلُ ؟ .
فَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ الْحَجَّ
بِسَفْرَةِ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ
وَالتَّمَتُّعِ الْخَاصِّ بِسَفْرَةِ وَاحِدَةٍ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد
وَأَبُو حَنِيفَةَ مَعَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا هُوَ
الْإِفْرَادُ الَّذِي فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَكَانَ عُمَرُ
يَخْتَارُهُ لِلنَّاسِ وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ
عُمَرُ وَعَلِيٌّ فِي قَوْلِهِ " . { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ } قَالَا : إتْمَامُهُمَا أَنْ تُهِلَّ بِهِمَا مِنْ دويرة أَهْلِك .
وَقَدْ { قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي
عُمْرَتِهَا : أَجْرُك عَلَى قَدْرِ
نَصَبِك } . وَإِذَا رَجَعَ الْحَاجُّ إلَى دويرة أَهْلِهِ فَأَنْشَأَ مِنْهَا الْعُمْرَةَ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ أَوْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِهِ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ فَهُنَا قَدْ أَتَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النسكين مِنْ دويرة أَهْلِهِ . وَهَذَا أَتَى بِهِمَا عَلَى الْكَمَالِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا إذَا أَفْرَدَ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فَهَذَا الْإِفْرَادُ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ بَلْ وَلَا غَيْرِهِمْ . كَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْأَفْضَلُ مِمَّا فَعَلُوهُ مَعَهُ بِأَمْرِهِ ؟ بَلْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ أَحَدًا اعْتَمَرَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةَ لَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا ؛ بَلْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ لَا تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا مُتْعَةٌ . وَتُكْرَهُ الْعُمْرَةُ فِي ذِي الْحَجَّةِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إذَا حَجَّتْ صَبَرَتْ حَتَّى يَدْخُلَ الْمُحَرَّمُ ثُمَّ تُحْرِمُ مِنْ الْجُحْفَةِ فَلَمْ تَكُنْ تَعْتَمِرُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ وَلَا فِي ذِي الْحِجَّةِ . وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النسكين بِسَفْرَةِ وَاحِدَةٍ وَقَدِمَ مَكَّةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ . فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْحِلِّ ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ وَلَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ أَمَرَهُمْ جَمِيعَهُمْ أَنْ يَحُجُّوا هَكَذَا : أَمَرَهُمْ إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يُحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا مُتْعَةً فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَمَرَهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَحَجُّوا مَعَهُ كَذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ وَلَا حَجَّةَ تَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ حَجَّةِ أَفْضَلِ الْأُمَّةِ " مَعَ أَفْضَلِ الْخَلْقِ بِأَمْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَجُّ مَنْ حَجَّ مُفْرِدًا وَاعْتَمَرَ عَقِبَ ذَلِكَ أَوْ قَارِنًا وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ أَفْضَلَ مِنْ حَجِّ هَؤُلَاءِ مَعَهُ بِأَمْرِهِ وَكَيْفَ يَنْقُلُهُمْ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْمَفْضُولِ وَأَمْرُهُ أَبْلَغُ مِنْ فِعْلِهِ . وَأَيْضًا ؛ فَإِنَّ مَنْ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ قَدْ نَوَى الْحَجَّ فَإِنَّهُ يَنْوِي التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ كَمَا يَنْوِي الْمُغْتَسِلُ إذَا بَدَأَ بِالتَّوَضُّؤِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ الْوُضُوءَ الَّذِي هُوَ بَعْضُ الْغُسْلِ فَيَكُونُ تَحْرِيمَانِ وَتَحْلِيلَانِ كَمَا لِلْمُفْرِدِ تَحْلِيلَانِ وَتَحْرِيمَانِ فَيَكُونُ لَهُ هَدْيٌ كَمَا لِلْقَارِنِ هَدْيٌ وَالْهَدْيُ هَدْيُ نُسُكٍ لَا هَدْيُ جبران فَإِنَّ هَدْيَ الْجُبْرَانِ - الَّذِي يَكُونُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ - لَا يَحِلُّ سَبَبُهُ إلَّا مَعَ الْعُذْرِ . فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ بِلَا عُذْرٍ أَوْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِهِ بِلَا عُذْرٍ وَيَأْتِي بِدَمِ . وَهَذَا لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِلَا عُذْرٍ وَيَأْتِيَ بِالْهَدْيِ فَعُلِمَ أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُ يَأْكُلُ كَمَا أَكَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَدْيِهِ وَقَدْ كَانَ قَارِنًا وَكَمَا ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَةَ وَأَطْعَمَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ وَكُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ . وَأَيْضًا فَلِمَنْ يَأْتِي بِالْعِبَادَتَيْنِ : إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَبْدَأَ بِالصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى كَمَا يَتَوَضَّأُ الْمُغْتَسِلُ ثُمَّ يُتِمُّ غُسْلَهُ وَكَمَا أَمَرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ فَإِذَا اعْتَمَرَ ثُمَّ أَتَى بِالْحَجِّ كَانَ مُوَافِقًا لِهَذَا ؛ بِخِلَافِ مَنْ حَجَّ فَإِنَّهُ أَتَى بِالْغَايَةِ . فَإِذَا اعْتَمَرَ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي عُمْرَتِهِ عَمَلٌ زَائِدٌ . وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ جَازَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ زِيَادَةَ شَيْءٍ وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ : فِي أَنَّ عَمَلَ الْقَارِنِ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ . وَمَنْ سَافَرَ سَفْرَةً وَاحِدَةً وَاعْتَمَرَ فِيهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ أُخْرَى لِلْحَجِّ فَتَمَتُّعُهُ أَيْضًا أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْحَجِّ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَدْ اعْتَمَرُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهُمْ بِالتَّمَتُّعِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِفْرَادِ وَلِأَنَّ هَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ وَحَجَّةٍ وَهَدْيٍ وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَمَتَّعَ ثُمَّ سَافَرَ مِنْ دويرة أَهْلِهِ لِلْمُتْعَةِ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ سَفْرَةٍ بِعُمْرَةِ وَسَفْرَةٍ بِحَجَّةِ مُفْرَدَةٍ وَهَذَا الْمُفْرِدُ أَفْضَلُ مِنْ سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَمَتَّعُ فِيهَا . وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النسكين بِسَفْرَةِ وَاحِدَةٍ وَيَسُوقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَرَنَ وَسَاقَ الْهَدْيَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ يَكُونُ التَّمَتُّعُ أَفْضَلَ لَهُ . قِيلَ لَهُ : مَعَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ إذَا أَحْرَمَ قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إحْرَامُهُ وَوَقَعَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ عَنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَإِذَا أَحْرَمَ بَعْدَهُمَا لَمْ يَكُنْ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَاقِعًا إلَّا عَنْ الْعُمْرَةِ . وَوُقُوعُ الْأَفْعَالِ عَنْ حَجٍّ مَعَ عُمْرَةٍ خَيْرٌ مِنْ وُقُوعِهَا عَنْ عُمْرَةٍ لَا يَتَحَلَّلُ فِيهَا إلَى أَنْ يَحُجَّ ؛ لَكِنَّهُ قَدْ يَقُولُ : إذَا تَأَخَّرَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ لَزِمَهُ سَعْيٌ ثَانٍ وَهَذَا زِيَادَةُ عَمَلٍ لَكِنْ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ لَتَمَتَّعْت مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ بَلْ قَالَ : " لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً " فَجَعَلَ الْمَطْلُوبَ مُتْعَةً بِلَا سَوْقِ هَدْيٍ وَهَذَا
دَلِيلٌ
ثَانٍ عَلَى أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَتَمَتَّعُ بَلْ يَقْرِنُ . وَإِذَا
كَانَ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ سَوَاءً ارْتَفَعَ
النِّزَاعُ .
فَإِنْ قِيلَ : أَيُّمَا أَفْضَلُ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ وَيَقْرِنَ أَوْ أَنْ
يَتَمَتَّعَ بِلَا سَوْقِ هَدْيٍ وَيَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ؟ . قِيلَ : هَذَا
مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ شَرْعِيَّانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَرَنَ وَسَاقَ الْهَدْيَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ
يَكُنْ اللَّهُ لِيَخْتَارَ لِنَبِيِّهِ الْمَفْضُولَ دُونَ الْأَفْضَلِ فَإِنَّ
خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ
الْحَالُ هُوَ وَقْتَ إحْرَامِهِ لَكَانَ أَحْرَمَ بِعُمْرَةِ وَلَمْ يَسُقْ
الْهَدْيَ بِقَوْلِهِ : " لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت
" فَاَلَّذِي اسْتَدْبَرَهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ وَمَضَى فَصَارَ خَلْفَهُ
. وَاَلَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدُ بَلْ هُوَ
أَمَامَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِمَا اسْتَدْبَرَهُ مِنْ
أَمْرِهِ - وَهُوَ الْإِحْرَامُ - لَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ دُونَ هَدْيٍ وَهُوَ
لَا يَخْتَارُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْمَفْضُولِ بَلْ إنَّمَا
يَخْتَارُ الْأَفْضَلَ . وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ
أَنَّ التَّمَتُّعَ بِلَا هَدْيٍ أَفْضَلُ لَهُ . وَلَكِنْ مَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ
يُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا لِأَجْلِ أَنَّ=ج40=
ج40.
مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
الَّذِي فَعَلَهُ مَفْضُولٌ بَلْ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ شَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ مَعَ بَقَائِهِ مُحْرِمًا فَكَانَ يَخْتَارُ مُوَافَقَتَهُمْ لِيَفْعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ عَنْ انْشِرَاحٍ وَمُوَافَقَةٍ . وَقَدْ يَنْتَقِلُ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْمَفْضُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ وَائْتِلَافِ الْقُلُوبِ كَمَا { قال لِعَائِشَةَ : لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ } فَهُنَا تَرْكُ مَا هُوَ الْأَوْلَى ؛ لِأَجْلِ الْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ الَّذِي هُوَ الْأَدْنَى مِنْ هَذَا الْأَوْلَى فَكَذَلِكَ اخْتَارَ الْمُتْعَةَ بِلَا هَدْيٍ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ أَنْ فَعَلَ الْأَفْضَلَ وَبَيْنَ أَنْ أَعْطَاهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَضْلِ فَاجْتَمَعَ لَهُ الْأَجْرَانِ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِ سَوْقِهِ وَقَدْ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُ ذَلِكَ أَفْضَلَ فِي نَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ التَّحَلُّلِ وَالْإِحْرَامِ ثَانِيًا وَسَوْقُ الْهَدْيِ فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِي تَكَرُّرِ التَّحَلُّلِ وَالتَّحْرِيمِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ مَنْ لَمْ يَسُقْ وَالْقَارِنُ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَارِنَ وَالْمُتَمَتِّعَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي يَسُوقُهُ
مِنْ
الْحِلِّ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَشْتَرِيهِ مِنْ الْحَرَمِ
بَلْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لَا يَكُونُ هَدْيًا إلَّا بِمَا أُهْدِيَ
مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ . وَحِينَئِذٍ فَسَوْقُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ
مِنْ سَوْقِهِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْهَدْيُ الَّذِي لَمْ
يُسَقْ أَفْضَلَ مِمَّا سِيقَ فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ سَوْقَ
الْهَدْيِ مَعَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ أَفْضَلُ مِنْ تَمَتُّعٍ لَا سَوْقَ
فِيهِ . وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ : هَلْ اعْتَمَرَ
مِنْ مَكَّةَ ؟ فَلَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إلَّا عَائِشَةَ خَاصَّةً وَعَائِشَةُ
نَفْسُهَا كَانَتْ إذَا حَجَّتْ تَمْكُثُ إلَى أَنْ يُهِلَّ الْمُحَرَّمُ ثُمَّ
تَخْرُجُ إلَى الْجُحْفَةِ فَتُحْرِمُ مِنْهَا بِعُمْرَةِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ
حَجَّةً وَفِي لَفْظٍ : تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي } وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ :
{ الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ } فَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ اعْتِمَارهَا فِي
رَمَضَانَ تَقُومُ مَقَامَ الْحَجَّةِ الَّتِي تَخَلَّفَتْ عَنْهَا وَالْحَجَّةُ
كَانَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ وَالْعُمْرَةُ كَانَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ
لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَهُوَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ
. وَمَنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْمُتَمَتِّعِ وَالْمُتَمَتِّعُ
لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ
يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ الْإِحْرَامِ
بِالْحَجِّ إلَى الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ تَرَفَّهَ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ فَصَارَ الْهَدْيُ قَائِمًا مَقَامَ هَذَا التَّرَفُّهِ . وَلِهَذَا ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَدْيَ الْمُتَمَتِّعِ هَدْيُ جبران وَمَنَعُوهُ مِنْ الْأَكْلِ مِنْهُ وَجَعَلُوا وُجُوبَ الْهَدْيِ فِي الْمُتَمَتِّعِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَرْجُوحٌ فَإِنَّ النُّسُكَ السَّالِمَ عَنْ جبران أَفْضَلُ مِنْ النُّسُكِ الْمَجْبُورِ . فَقَالَ لَهُمْ الْآخَرُونَ : دَمُ الْجُبْرَانِ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَفْعَلَ سَبَبَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَهُنَا يَجُوزُ التَّمَتُّعُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَمَ جبران . نَعَمْ قَدْ يُقَالُ التَّمَتُّعُ رُخْصَةٌ وَالرُّخْصَةُ قَدْ تَكُونُ أَفْضَلَ كَمَا أَنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ مِنْ التَّرْبِيعِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَكَذَلِكَ " الْفِطْرُ وَالْمَسْحُ " عَلَى أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْفِطْرَ هُوَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ وَفِي إجْزَاءِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الصَّائِمَ فِي السَّفَرِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ فَمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّ حَمْزَةَ
بْنَ عَمْرٍو قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصِّيَامَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ : إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ } فَحَسَّنَ الْفِطْرَ وَرَفَعَ الْبَأْسَ عَنْ الصَّوْمِ . وَهَكَذَا " الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ " فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا لَبِسَ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ ثُمَّ أَحْدَثَ أَنَّهُ يَنْزِعُهُمَا وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ بَلْ كَانَ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا وَهَذَا مَوْرِدُ النِّزَاعِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خُفَّانِ فَفَرْضُهُ الْغَسْلُ وَلَا يُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ لِأَجْلِ الْمَسْحِ بَلْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا لَبِسَهُمَا لِحَاجَتِهِ فَهَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا أَوْ يَخْلَعَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا عَلَى السَّوَاءِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَسْحَ أَفْضَلُ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ . وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يَحُجُّ مُتَمَتِّعًا فَعَلَ مَا يُشْرَعُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَمَتِّعِ فَفِي حَجِّهِ نِزَاعٌ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ التَّمَتُّعَ وَاجِبٌ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ طَافَ وَسَعَى وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ سَوَاءٌ قَصَدَ التَّحَلُّلَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنْ يَحُجَّ إلَّا مُتَمَتِّعًا وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَإِذَا كَانَ التَّمَتُّعُ
مُخْتَلَفًا
فِي وُجُوبِهِ مُتَّفَقًا عَلَى جَوَازِهِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَمْ
يُتَّفَقْ عَلَى جَوَازِهِ كَانَ الْحَجُّ الَّذِي اُتُّفِقَ عَلَى جَوَازِهِ
أَوْلَى . وَلَا يُعَارِضُ هَذَا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ يَنْهَى
عَنْ الْمُتْعَةِ ، وَكَانَ بَعْضُ الْوُلَاةِ يَضْرِبُ عَلَيْهَا فَعُلَمَاءُ
أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ قَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ
الْمُتْعَةَ بَلْ كَانُوا يَخْتَارُونَ أَنْ يَعْتَمِرَ النَّاسُ فِي غَيْرِ
أَشْهُرِ الْحَجِّ كَيْ لَا يَزَالَ الْبَيْتُ مَعْمُورًا بِالْحُجَّاجِ
وَالْعُمَّارِ . وَمَنْ قَدَّرَ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ
فَهَذَا قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ فَلَا
يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
وَأَمَّا تَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ فَسْخِ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ
وَانْتِقَالِهِمَا إلَى التَّمَتُّعِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : إنَّ
ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَخْصُوصًا بِاَلَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ جَوَازَ الْعُمْرَةِ
فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَقَالَ آخَرُونَ : هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
غَيْرَ مَرَّةٍ بَلْ عُمَرُهُ كَانَتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ : عُمْرَةُ
الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ فِي الْعَامِ
الْقَابِلِ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ كَانَتْ فِي
ذِي الْقِعْدَةِ أَمَا كَانَ فِي هَذَا مَا يُبَيِّنُ جَوَازَ الِاعْتِمَارِ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أنهم لَمَّا
كَانُوا بِذِي الحليفة . قَالَ : مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ وَحَجَّةٍ
فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةِ
فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ فَلْيَفْعَلْ } فَقَدْ صَرَّحَ لَهُمْ بِجَوَازِ الثَّلَاثَةِ وَفِي هَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ لِجَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَأَيْضًا : فَاَلَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ مُتَمَتِّعِينَ كَانَ فِي حَجِّهِمْ مَا يُبَيِّنُ الْجَوَازَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ جَمِيعَ مَنْ حَجَّ مَعَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامِهِ وَأَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ تَمَتُّعًا بِمُجَرَّدِ بَيَانِ جَوَازِ ذَلِكَ وَلَا يَنْقُلُهُمْ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْمَفْضُولِ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا نَقَلَهُمْ إلَى الْأَفْضَلِ وَقَدْ ثَبَتَ { عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : بَلْ لِلْأَبَدِ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَأَيْضًا : فَإِذَا كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَكُونُوا يَتَمَتَّعُونَ وَلَا يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَدَ مُخَالَفَةَ الْكُفَّارِ كَانَ هَذَا مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ كَمَا فَعَلَ فِي وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَجِّلُونَ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَيُؤَخِّرُونَ الْإِفَاضَةَ مِنْ جَمْعٍ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ . فَخَالَفَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { خَالَفَ هَدْيُنَا هَدْيَ الْمُشْرِكِينَ } فَأَخَّرَ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى أَنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَعَجَّلَ الْإِفَاضَةَ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَهَكَذَا مَا فَعَلَهُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْفَسْخِ إنْ كَانَ قَصَدَ بِهِ مُخَالَفَةَ الْمُشْرِكِينَ فَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ وَإِنْ فَعَلَهُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ وَهُوَ سُنَّةٌ فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ الْفَسْخُ أَفْضَلَ ؛ اتِّبَاعًا لِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
وَأَمَّا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ فَلَا يُقَبَّلُ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَأَمَّا
سَائِرُ جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَالرُّكْنَانِ الشَّامِيَّانِ وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ
فَلَا تُقَبَّلُ وَلَا يُتَمَسَّحُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
الْمُتَّبِعِينَ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فإذا لَمْ يَكُنْ التَّمَسُّحُ بِذَلِكَ وَتَقْبِيلُهُ
مُسْتَحَبًّا فَأَوْلَى أَلَّا يُقَبَّلَ وَلَا يُتَمَسَّحَ بِمَا هُوَ دُونَ
ذَلِكَ .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَلَّمَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَنْ يُقَبِّلَ
الْحُجْرَةَ وَلَا يَتَمَسَّحَ بِهَا لِئَلَّا يُضَاهِيَ بَيْتُ الْمَخْلُوقِ
بَيْتَ الْخَالِقِ وَلِأَنَّهُ { قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } وَقَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا
قَبْرِي عِيدًا } . وَقَالَ { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ
الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي
أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } فَإِذَا كَانَ هَذَا دِينَ الْمُسْلِمِينَ فِي قَبْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ
فَقَبْرُ غَيْرِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُقَبَّلَ وَلَا يُسْتَلَمَ . وَقَدْ حَكَى
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا خِلَافًا مَرْجُوحًا وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ
الْمُتَّبَعُونَ وَالسَّلَفُ الْمَاضُونَ فَمَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ
خِلَافًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ شِهَابِ الدِّينِ عَبْدِ
الْحَلِيمِ ابْنِ الْإِمَامِ مَجْدِ الدِّينِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا
مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ تَكَرَّرَ السُّؤَالُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
أَنْ أَكْتُبَ فِي بَيَانِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ غَالِبُ
الْحُجَّاجِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فَإِنِّي كُنْت قَدْ كَتَبْت مَنْسَكًا فِي
أَوَائِلِ عُمْرِي فَذَكَرْت فِيهِ أَدْعِيَةً كَثِيرَةً وَقَلَّدْت فِي
الْأَحْكَامِ مَنْ اتَّبَعْته قَبْلِي مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَتَبْت فِي هَذَا مَا
تَبَيَّنَ لِي مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُخْتَصَرًا مُبَيَّنًا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
فَصْلٌ
:
أَوَّلُ مَا يَفْعَلُهُ قَاصِدُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ
فِيهِمَا : أَنْ يُحْرِمَ بِذَلِكَ وَقَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ قَاصِدُ الْحَجِّ أَوْ
الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِمَا بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَخْرُجُ إلَى صَلَاةِ
الْجُمُعَةِ فَلَهُ أَجْرِ السَّعْيِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى
يُحْرِمَ بِهَا . وَعَلَيْهِ إذَا وَصَلَ إلَى الْمِيقَاتِ أَنْ يُحْرِمَ .
وَالْمَوَاقِيتُ خَمْسَةٌ : ذُو الحليفة وَالْجَحْفَةُ وَقَرْنُ الْمَنَازِلِ
ويلملم وَذَاتُ عِرْقٍ { ولما وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَوَاقِيتَ قَالَ : هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِمَنْ مَرَّ عَلَيْهِنَّ
مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ
مَنْزِلُهُ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ
يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ } . فَذُو الحليفة هِيَ أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ مَكَّةَ عَشْرُ مَرَاحِلَ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ بِحَسَبِ
اخْتِلَافِ الطُّرُقِ فَإِنَّ مِنْهَا إلَى مَكَّةَ عِدَّةَ طُرُقٍ وَتُسَمَّى
وَادِيَ الْعَقِيقِ وَمَسْجِدُهَا يُسَمَّى مَسْجِدَ الشَّجَرَةِ وَفِيهَا بِئْرٌ
تُسَمِّيهَا جُهَّالُ الْعَامَّةِ " بِئْرَ عَلِيٍّ " لِظَنِّهِمْ أَنَّ
عَلِيًّا قَاتَلَ الْجِنَّ بِهَا وَهُوَ كَذِبٌ . فَإِنَّ الْجِنَّ لَمْ
يُقَاتِلْهُمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعَلِيٌّ أَرْفَعُ
قَدْرًا مِنْ أَنْ يَثْبُتَ الْجِنُّ لِقِتَالِهِ وَلَا فَضِيلَةَ لِهَذَا الْبِئْرِ وَلَا مَذَمَّةَ وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا حَجَرًا وَلَا غَيْرَهُ . وَأَمَّا الْجَحْفَةُ : فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوُ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَهِيَ قَرْيَةٌ كَانَتْ قَدِيمَةً مَعْمُورَةً وَكَانَتْ تُسَمَّى مهيعة وَهِيَ الْيَوْمَ خَرَابٌ ؛ وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يُحْرِمُونَ قِبَلَهَا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي يُسَمَّى رَابِغًا وَهَذَا مِيقَاتٌ لِمَنْ حَجَّ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ : كَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَسَائِرِ الْمَغْرِبِ لَكِنْ إذَا اجْتَازُوا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ - كَمَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ - أَحْرَمُوا مِنْ مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ لَهُمْ بِالِاتِّفَاقِ . فَإِنْ أَخَّرُوا الْإِحْرَامَ إلَى الْجَحْفَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَأَمَّا الْمَوَاقِيتُ الثَّلَاثَةُ فَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوُ مَرْحَلَتَيْنِ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَّا بِإِحْرَامِ . وَإِنْ قَصَدَ مَكَّةَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ الزِّيَارَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْرِمَ وَفِي الْوُجُوبِ نِزَاعٌ . وَمَنْ وَافَى الْمِيقَاتَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا : التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ إنْ شَاءَ أَهَلَّ بِعُمْرَةِ فَإِذَا حَلَّ مِنْهَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَهُوَ يَخُصُّ بِاسْمِ التَّمَتُّعِ وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْلَ الطَّوَافِ
وَهُوَ
الْقِرَانُ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ التَّمَتُّعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا وَهُوَ
الْإِفْرَادُ .
فَصْلٌ :
فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ : فَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَنَوَّعُ
بِاخْتِلَافِ حَالِ الْحَاجِّ فَإِنْ كَانَ يُسَافِرُ سَفْرَةً لِلْعُمْرَةِ ،
وَلِلْحَجِّ سَفْرَةٌ أُخْرَى أَوْ يُسَافِرُ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ
الْحَجِّ وَيَعْتَمِرُ وَيُقِيمُ بِهَا حَتَّى يَحُجَّ فَهَذَا الْإِفْرَادُ لَهُ
أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَالْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ
قَبْلَ أَشْهُرِهِ لَيْسَ مَسْنُونًا بَلْ مَكْرُوهٌ وَإِذَا فَعَلَهُ فَهَلْ
يَصِيرُ مُحَرَّمًا بِعُمْرَةِ أَوْ بِحَجِّ فِيهِ نِزَاعٌ . وَأَمَّا إذَا فَعَلَ
مَا يَفْعَلُهُ غَالِبُ النَّاسِ وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ
وَالْحَجِّ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَقْدَمُ مَكَّةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ :
وَهُنَّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَهَذَا إنْ
سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ
فَالتَّحَلُّلُ مِنْ إحْرَامِهِ بِعُمْرَةِ أَفْضَلُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ
بِالنُّقُولِ الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِي صِحَّتِهَا أَهْلُ
الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ . هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَمَرَهُمْ جَمِيعَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ { وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَرَنَ هُوَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فَقَالَ لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } - . وَلَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةَ وَحْدَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ فَلَمْ يُمْكِنْهَا الطَّوَافُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } فَأَمَرَهَا أَنْ تُهِلَّ بِالْحَجِّ وَتَدَعَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَمَتِّعَةً ثُمَّ إنَّهَا طَلَبَتْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْمِرَهَا فَأَرْسَلَهَا مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَاعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيمِ وَالتَّنْعِيمُ هُوَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ وَبِهِ الْيَوْمَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُسَمَّى " مَسَاجِدَ عَائِشَةَ " وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا بُنِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَحْرَمَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ ؟ وَلَيْسَ دُخُولُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا - لِمَنْ اجْتَازَ بِهَا مُحْرِمًا - لَا فَرْضًا وَلَا سُنَّةً بَلْ قَصْدُ ذَلِكَ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ لَكِنْ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِيَعْتَمِرَ فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ وَاحِدًا مِنْهَا وَصَلَّى فِيهِ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ
فَلَا
بَأْسَ بِذَلِكَ . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ لِيَعْتَمِرَ
إلَّا لِعُذْرِ لَا فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَاَلَّذِينَ
حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ
اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ إلَّا عَائِشَةَ كَمَا ذُكِرَ . وَلَا
كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَاَلَّذِينَ اسْتَحَبُّوا
الْإِفْرَادَ مِنْ الصَّحَابَةِ إنَّمَا اسْتَحَبُّوا أَنْ يَحُجَّ فِي سَفْرَةٍ
وَيَعْتَمِرَ فِي أُخْرَى وَلَمْ يَسْتَحِبُّوا أَنَّ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ عَقِبَ
ذَلِكَ عُمْرَةً مَكِّيَّةً بَلْ هَذَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ قَطُّ
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا نَادِرًا . وَقَدْ تَنَازَعَ السَّلَفُ فِي
هَذَا : هَلْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَيْهِ دَمٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ تُجْزِئُهُ
هَذِهِ الْعُمْرَةُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
وَقَدْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ
أَرْبَعَ عُمَرٍ : عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَصَلَ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ
وَالْحُدَيْبِيَةُ وَرَاءَ الْجَبَلِ الَّذِي بِالتَّنْعِيمِ عِنْدَ مَسَاجِدِ
عَائِشَةَ عَنْ يَمِينِك وَأَنْتَ دَاخِلٌ إلَى مَكَّةَ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ
عَنْ الْبَيْتِ فَصَالَحَهُمْ وَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَانْصَرَفَ . وَعُمْرَةَ
الْقَضِيَّةِ اعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ . وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ
فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ قَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ بحنين وحنين مِنْ
نَاحِيَةِ
الْمَشْرِقِ مِنْ نَاحِيَةِ الطَّائِفِ ؛ وَأَمَّا بَدْرٌ فَهِيَ بَيْنَ
الْمَدِينَةِ وَبَيْنَ مَكَّةَ وَبَيْنَ الْغَزْوَتَيْنِ سِتُّ سِنِينَ وَلَكِنْ
قُرِنَتَا فِي الذِّكْرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِيهِمَا
الْمَلَائِكَةَ لِنَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِتَالِ ثُمَّ ذَهَبَ فَحَاصَرَ الْمُشْرِكِينَ
بِالطَّائِفِ ثُمَّ رَجَعَ وَقَسَّمَ غَنَائِمَ حنين بالجعرانة فَلَمَّا قَسَّمَ
غَنَائِمَ حنين اعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ لَا خَارِجًا
مِنْهَا لِلْإِحْرَامِ . وَالْعُمْرَةُ الرَّابِعَةُ مَعَ حَجَّتِهِ فَإِنَّهُ
قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ
بِسُنَّتِهِ وَبِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَمَتَّعَ تَمَتُّعًا حَلَّ فِيهِ بَلْ كَانُوا
يُسَمُّونَ الْقِرَانَ تَمَتُّعًا وَلَا نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
أَنَّهُ لَمَّا قَرَنَ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين .
وَعَامَّةُ الْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي صِفَةِ حَجَّتِهِ لَيْسَتْ
بِمُخْتَلِفَةِ . وَإِنَّمَا اشْتَبَهَتْ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مُرَادَهُمْ
وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ :
كَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ . قَالُوا : إنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إلَى الْحَجِّ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ
بِإِسْنَادِ أَصَحَّ مِنْ إسْنَادِ الْإِفْرَادِ وَمُرَادُهُمْ بِالتَّمَتُّعِ
الْقِرَانُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصِّحَاحِ أَيْضًا . فَإِذَا أَرَادَ
الْإِحْرَامَ فَإِنْ كَانَ قَارِنًا قَالَ : لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا . وَإِنْ
كَانَ مُتَمَتِّعًا قَالَ لَبَّيْكَ عُمْرَةً مُتَمَتِّعًا بِهَا إلَى الْحَجِّ .
وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا قَالَ : لَبَّيْكَ حَجَّةً
أَوْ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَوْجَبْت عُمْرَةً وَحَجًّا أَوْ أَوْجَبْت عُمْرَةً أَتَمَتَّعُ بِهَا إلَى الْحَجِّ أَوْ أَوْجَبْت حَجًّا أَوْ أُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ أُرِيدُهُمَا أَوْ أُرِيدُ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَهْمَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ لَيْسَ فِي ذَلِكَ عِبَارَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كَمَا لَا يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ بَلْ مَتَى لَبَّى قَاصِدًا لِلْإِحْرَامِ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ بِشَيْءِ . وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِذَلِكَ ؟ كَمَا تَنَازَعُوا : هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُشَرِّعْ لِلْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا كَانَ يَتَكَلَّمُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِشَيْءِ مِنْ أَلْفَاظِ النِّيَّةِ لَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ بَلْ { لَمَّا أَمَرَ ضباعة بِنْتَ الزُّبَيْرِ بِالِاشْتِرَاطِ قَالَتْ : فَكَيْفَ أَقُولُ ؟ قَالَ : قَوْلِي : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَمَحِلِّي مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُ النَّسَائِي : إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَكَيْفَ أَقُولُ ؟ قَالَ : قَوْلِي : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ : وَمَحِلِّي مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي فَإِنَّ لَك عَلَى رَبِّك مَا اسْتَثْنَيْت } وَحَدِيثُ الِاشْتِرَاطِ فِي الصَّحِيحَيْنِ . لَكِنْ الْمَقْصُودُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِالِاشْتِرَاطِ فِي التَّلْبِيَةِ وَلَمْ
يَأْمُرْهَا أَنْ تَقُولَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ شَيْئًا لَا اشْتِرَاطًا وَلَا غَيْرَهُ { وكان يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } وَكَانَ يَقُولُ لِلْوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِهِ : " بِمَ أَهْلَلْت ؟ " { وقال فِي الْمَوَاقِيتِ : مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الحليفة وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّامِ الْجَحْفَةُ وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يلملم وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْنُ الْمَنَازِلِ وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ وَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ } وَالْإِهْلَالُ هُوَ التَّلْبِيَةُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ التَّكَلُّمَ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تُشْرَعُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَيُشْرَعُ التَّكْبِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ . وَلَوْ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا جَازَ فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْقَصْدِ لِلْحَجِّ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا التَّفْصِيلُ جَازَ . وَلَوْ أَهَلَّ وَلَبَّى كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ قَاصِدًا لِلنُّسُكِ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا بِلَفْظِهِ وَلَا قَصَدَ بِقَلْبِهِ لَا تَمَتُّعًا وَلَا إفْرَادًا وَلَا قِرَانًا صَحَّ حَجُّهُ أَيْضًا وَفَعَلَ وَاحِدًا مِنْ الثَّلَاثَةِ : فَإِنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ كَانَ حَسَنًا وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّهِ خَوْفًا مِنْ الْعَارِضِ فَقَالَ : وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي كَانَ حَسَنًا . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ابْنَةَ عَمِّهِ ضباعة بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ تَشْتَرِطَ عَلَى رَبِّهَا لَمَّا كَانَتْ شَاكِيَةً فَخَافَ أَنْ يَصُدَّهَا الْمَرَضُ عَنْ الْبَيْتِ وَلَمْ
يَكُنْ يَأْمُرُ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ حَجَّ . وَكَذَلِكَ إنْ شَاءَ الْمُحْرِمُ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ فَهُوَ حَسَنٌ وَلَا يُؤْمَرُ الْمُحْرِمُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ النَّاسَ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَحَدًا بِعِبَارَةِ بِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا يُقَالُ : أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَوْ يُقَالُ : لَبَّى بِالْحَجِّ لَبَّى بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ : فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } بِالرَّفْعِ فَالرَّفَثُ اسْمٌ لِلْجِمَاعِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَالْفُسُوقُ اسْمٌ لِلْمَعَاصِي كُلِّهَا وَالْجِدَالُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُوَ الْمِرَاءُ فِي أَمْرِ الْحَجِّ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَهُ وَبَيَّنَهُ وَقَطَعَ الْمِرَاءَ فِيهِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَمَارَوْنَ فِي أَحْكَامِهِ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى قَدْ يُفَسَّرُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا وَقَدْ فَسَّرُوهَا بِأَنْ لَا يُمَارِي الْحَاجُّ أَحَدًا وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْهَ الْمُحْرِمَ وَلَا غَيْرَهُ عَنْ الْجِدَالِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ الْجِدَالُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَقَدْ يَكُونُ الْجِدَالُ مُحَرَّمًا فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ كَالْجِدَالِ بِغَيْرِ عِلْمٍ . وَكَالْجِدَالِ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ .
وَلَفْظُ
( الْفُسُوقِ ) يَتَنَاوَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَخْتَصُّ
بِالسِّبَابِ وَإِنْ كَانَ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فَسُوقًا فَالْفُسُوقُ يَعُمُّ
هَذَا وَغَيْرَهُ . و ( الرَّفَثُ ) هُوَ الْجِمَاعُ وَلَيْسَ فِي الْمَحْظُورَاتِ
مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ إلَّا جِنْسُ الرَّفَثِ فَلِهَذَا مَيَّزَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْفُسُوقِ . وَأَمَّا سَائِرُ الْمَحْظُورَاتِ : كَاللِّبَاسِ
وَالطِّيبِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَأْثَمُ بِهَا فَلَا تُفْسِدُ الْحَجَّ عِنْدَ
أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ . وَيَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ لَا
يَتَكَلَّمَ إلَّا بِمَا يَعْنِيهِ وَكَانَ شريح إذَا أَحْرَمَ كَأَنَّهُ
الْحَيَّةُ الصَّمَّاءُ وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ مَا فِي
قَلْبِهِ مِنْ قَصْدِ الْحَجِّ وَنِيَّتِهِ فَإِنَّ الْقَصْدَ مَا زَالَ فِي
الْقَلْبِ مُنْذُ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ
يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ .
وَالتَّجَرُّدُ مِنْ اللِّبَاسِ وَاجِبٌ فِي الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ شَرْطًا فِيهِ
فَلَوْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ صَحَّ ذَلِكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَ اللِّبَاسَ الْمَحْظُورَ .
فَصْلٌ :
يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ عَقِيبَ صَلَاةٍ : إمَّا فَرْضٍ وَإِمَّا تَطَوُّعٍ إنْ
كَانَ
وَقْتَ تَطَوُّعٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَفِي الْآخَرِ إنْ كَانَ يُصَلِّي فَرْضًا أَحْرَمَ عَقِيبَهُ وَإِلَّا فَلَيْسَ لِلْإِحْرَامِ صَلَاةٌ تَخُصُّهُ وَهَذَا أَرْجَحُ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْإِحْرَامِ وَلَوْ كَانَتْ نُفَسَاءَ أَوْ حَائِضًا وَإِنْ احْتَاجَ إلَى التَّنْظِيفِ : كَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَ ذَلِكَ . وَهَذَا لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذِكْرٌ فِيمَا نَقَلَهُ الصَّحَابَةُ لَكِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَهَكَذَا يُشْرَعُ لِمُصَلِّي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ فِي ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ فَإِنْ كَانَا أَبْيَضَيْنِ فَهُمَا أَفْضَلُ وَيَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ فِي جَمِيعِ أَجْنَاسِ الثِّيَابِ الْمُبَاحَةِ : مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ . وَالسُّنَّةُ أَنْ يُحْرِمَ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ سَوَاءٌ كَانَا مَخِيطَيْنِ أَوْ غَيْرَ مَخِيطَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَوْ أَحْرَمَ فِي غَيْرِهِمَا جَازَ إذَا كَانَ مِمَّا يَجُوزُ لُبْسُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ فِي الْأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْوَانِ الْجَائِزَةِ وَإِنْ كَانَ مُلَوَّنًا . وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ فِي نَعْلَيْنِ إنْ تَيَسَّرَ ، وَالنَّعْلُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا : التاسومة فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ لَبِسَ خُفَّيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَهُمَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا ثُمَّ
رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَرَفَاتٍ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا وَرَخَّصَ فِي لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي الْمَقْطُوعِ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْقَطْعِ كَالنَّعْلَيْنِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ مَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ : مِثْلَ الْخُفِّ الْمُكَعَّبِ وَالْجُمْجُمِ وَالْمَدَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِدًا لِلنَّعْلَيْنِ أَوْ فَاقِدًا لَهُمَا وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَا مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا : مِثْلُ الْجُمْجُمِ وَالْمَدَاسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَلَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّ وَلَا يَقْطَعَهُ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَإِنَّهُ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَلَا يَفْتُقُهُ هَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْبَدَلِ فِي عَرَفَاتٍ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ فَلَهُ أَنْ يَلْتَحِفَ بِالْقَبَاءِ وَالْجُبَّةِ وَالْقَمِيصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَتَغَطَّى بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ عَرْضًا وَيَلْبَسُهُ مَقْلُوبًا يَجْعَلُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَيَتَغَطَّى بِاللِّحَافِ وَغَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ لَا يُغَطِّي رَأْسَهُ إلَّا لِحَاجَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ الْقَمِيصَ وَالْبُرْنُسَ وَالسَّرَاوِيلَ وَالْخُفَّ وَالْعِمَامَةَ وَنَهَاهُمْ أَنْ يُغَطُّوا رَأْسَ الْمُحْرِمِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَمَرَ مَنْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ أَنْ يَنْزِعَهَا عَنْهُ فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْقَمِيصِ
فَهُوَ مِثْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْقَمِيصَ لَا بِكُمِّ وَلَا بِغَيْرِ كُمٍّ وَسَوَاءٌ أَدْخَلَ فِيهِ يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْهُمَا وَسَوَاءٍ كَانَ سَلِيمًا أَوْ مَخْرُوقًا وَكَذَلِكَ لَا يَلْبَسُ الْجُبَّةَ وَلَا الْقَبَاءَ الَّذِي يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِيهِ وَكَذَلِكَ الدِّرْعُ الَّذِي يُسَمَّى : ( عِرْق جين وَأَمْثَالُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا إذَا طَرَحَ الْقَبَاءَ عَلَى كَتِفَيْهِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ يَدَيْهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ : لَا يَلْبَسُ . وَالْمَخِيطُ مَا كَانَ مِنْ اللِّبَاسِ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ وَكَذَلِكَ لَا يَلْبَسُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْخُفِّ : كَالْمُوقِ وَالْجَوْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا يَلْبَسُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى السَّرَاوِيلِ : كَالتَّبَّانِ وَنَحْوِهِ وَلَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَا يَحْتَاجُ إلَى عَقْدِهِ كَالْإِزَارِ وَهِمْيَانِ النَّفَقَةِ وَالرِّدَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَى عَقْدِهِ فَلَا يَعْقِدُهُ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى عَقْدِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَشْبَهُ جَوَازُهُ حِينَئِذٍ . وَهَلْ الْمَنْعُ مِنْ عَقْدِهِ مَنْعُ كَرَاهَةٍ أَوْ تَحْرِيمٍ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَلَيْسَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ دَلِيلٌ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ عَقْدَ الرِّدَاءِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُتَّبِعُونَ لِابْنِ عُمَرَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ . وَأَمَّا الرَّأْسُ فَلَا يُغَطِّيهِ لَا بِمَخِيطِ وَلَا غَيْرِهِ فَلَا يُغَطِّيهِ بِعِمَامَةِ وَلَا قَلَنْسُوَةٍ وَلَا كُوفِيَّةٍ وَلَا ثَوْبٍ يَلْصَقُ بِهِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَلَهُ أَنْ
يَسْتَظِلَّ تَحْتَ السَّقْفِ وَالشَّجَرِ وَيَسْتَظِلَّ فِي الْخَيْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ وَأَمَّا الِاسْتِظْلَالُ بِالْمَحْمَلِ : فِي حَالِ السَّيْرِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَفْضَلُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُضَحِّيَ لِمَنْ أَحْرَمَ لَهُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَحُجُّونَ وَقَدْ رَأَى ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ : أَيُّهَا الْهَرَمُ أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الْقِبَابَ عَلَى الْمَحَامِلِ وَهِيَ الْمَحَامِلُ الَّتِي لَهَا رَأْسٌ وَأَمَّا الْمَحَامِلُ الْمَكْشُوفَةُ فَلَمْ يَكْرَهَا إلَّا بَعْضُ النُّسَّاكِ وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الثِّيَابَ الَّتِي تَسْتَتِرُ بِهَا وَتَسْتَظِلُّ بِالْمَحْمَلِ لَكِنْ نَهَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْتَقِبَ أَوْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ وَالْقُفَّازَانِ : غِلَافٌ يُصْنَعُ لِلْيَدِ كَمَا يَفْعَلُهُ حَمَلَةُ الْبُزَاةِ وَلَوْ غَطَّتْ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا بِشَيْءِ لَا يَمَسُّ الْوَجْهَ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ يَمَسُّهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا . وَلَا تُكَلَّفُ الْمَرْأَةُ أَنْ تُجَافِيَ سُتْرَتَهَا عَنْ الْوَجْهِ لَا بِعُودِ وَلَا بِيَدِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَّى بَيْنَ وَجْهِهَا وَيَدَيْهَا وَكِلَاهُمَا كَبَدَنِ الرَّجُلِ لَا كَرَأْسِهِ . وَأَزْوَاجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يُسْدِلْنَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْمُجَافَاةِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا " وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهَا أَنْ تَنْتَقِبَ أَوْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ .
كَمَا
نَهَى الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ الْقَمِيصَ وَالْخُفَّ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَسْتُرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَالْبُرْقُعُ
أَقْوَى مِنْ النِّقَابِ . فَلِهَذَا يُنْهَى عَنْهُ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلِهَذَا
كَانَتْ الْمُحْرِمَةُ لَا تَلْبَسُ مَا يُصْنَعُ لِسَتْرِ الْوَجْهِ
كَالْبُرْقُعِ وَنَحْوِهِ . فَإِنَّهُ كَالنِّقَابِ . وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ
يَلْبَسَ شَيْئًا مِمَّا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ
إلَّا لِحَاجَةِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يُفْطِرَ إلَّا لِحَاجَةِ
وَالْحَاجَةُ مِثْلُ الْبَرْدِ الَّذِي يُخَافُ أَنْ يُمْرِضَهُ إذَا لَمْ يُغَطِّ
رَأْسَهُ أَوْ مِثْلَ مَرَضٍ نَزَلَ بِهِ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى تَغْطِيَةِ
رَأْسِهِ فَيَلْبَسُ قَدْرَ الْحَاجَةِ فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ نَزَعَ .
وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْتَدِيَ : إمَّا بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَإِمَّا
بِنُسُكِ شَاةٍ أَوْ بِإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ
صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ مُدٍّ مِنْ بُرٍّ وَإِنْ أَطْعَمَهُ خُبْزًا
جَازَ وَيَكُونُ رِطْلَيْنِ بِالْعِرَاقِيِّ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ رِطْلٍ
بِالدِّمَشْقِيِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَأْدُومًا وَإِنْ أَطْعَمَهُ مِمَّا
يُؤْكَلُ : كَالْبُقْسُمَاطِ وَالرُّقَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ وَهُوَ أَفْضَلُ
مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمْحًا أَوْ شَعِيرًا وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ
الْكَفَّارَاتِ إذَا أَعْطَاهُ مِمَّا يَقْتَاتُ بِهِ مَعَ أُدْمِهِ فَهُوَ
أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ حَبًّا مُجَرَّدًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَادَتُهُمْ
أَنْ يَطْحَنُوا بِأَيْدِيهِمْ وَيَخْبِزُوا بِأَيْدِيهِمْ وَالْوَاجِبُ فِي
ذَلِكَ كُلِّهِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
أَوْ
كِسْوَتُهُمْ } الْآيَةَ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ
مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ النَّاسُ أَهْلِيهِمْ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ
فِي ذَلِكَ هَلْ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ أَوْ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ
وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي النَّفَقَةِ : نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالرَّاجِحُ فِي
هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ فَيُطْعِمُ كُلُّ قَوْمٍ مِمَّا
يُطْعِمُونَ أَهْلِيهِمْ وَلَمَّا كَانَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ وَنَحْوُهُ
يَقْتَاتُونَ التَّمْرَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يُطْعِمَ فِرْقًا مِنْ التَّمْرِ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَالْفِرْقُ
سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْبَغْدَادِيِّ . وَهَذِهِ الْفِدْيَةُ يَجُوزُ أَنْ
يُخْرِجَهَا إذَا احْتَاجَ إلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ قَبْلَهُ وَبُعْدَهُ
وَيَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ النُّسُكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى مَكَّةَ وَيَصُومَ
الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ مُتَتَابِعَةً إنْ شَاءَ وَمُتَفَرِّقَةً إنْ شَاءَ .
فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَخَّرَ فِعْلَهَا وَإِلَّا عَجَّلَ فِعْلَهَا . وَإِذَا
لَبِسَ ثُمَّ لَبِسَ مِرَارًا وَلَمْ يَكُنْ أَدَّى الْفِدْيَةَ أَجْزَأَتْهُ
فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
فَصْلٌ :
فَإِذَا أَحْرَمَ لَبَّى بِتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك
لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا
شَرِيكَ لَك } وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ : لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ أَوْ لَبَّيْكَ وسعديك وَنَحْوُ ذَلِكَ " جَازَ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَزِيدُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُهُمْ فَلَمْ يَنْهَهُمْ وَكَانَ هُوَ يُدَاوِمُ عَلَى تَلْبِيَتِهِ وَيُلَبِّي مِنْ حِينِ يُحْرِمُ سَوَاءٌ رَكِبَ دَابَّةً أَوْ لَمْ يَرْكَبْهَا وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ . وَالتَّلْبِيَةُ هِيَ : إجَابَةُ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ حِينَ دَعَاهُمْ إلَى حَجِّ بَيْتِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُلَبِّي هُوَ الْمُسْتَسْلِمُ الْمُنْقَادُ لِغَيْرِهِ كَمَا يَنْقَادُ الَّذِي لَبَّبَ وَأَخَذَ بِلَبَّتِهِ . وَالْمَعْنَى : أَنَّا مُجِيبُوك لِدَعْوَتِك ؛ مُسْتَسْلِمُونَ لِحِكْمَتِك مُطِيعُونَ لِأَمْرِك مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَا نَزَالُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْحَجِّ فَأَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ فَالْعَجُّ : رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالثَّجُّ إرَاقَةُ دِمَاءِ الْهَدْيِ . وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا لِلرَّجُلِ بِحَيْثُ لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ وَالْمَرْأَةُ تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِحَيْثُ تَسْمَعُ رَفِيقَتُهَا وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِثْلَ أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَمِثْلَ مَا إذَا صَعِدَ نَشْزًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا أَوْ سَمِعَ مُلَبِّيًا أَوْ أَقْبَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ أَوْ الْتَقَتْ الرِّفَاقُ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَنْ لَبَّى حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَمْسَى مَغْفُورًا لَهُ . وَإِنْ دَعَا عَقِيبَ التَّلْبِيَةِ ؛ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسَأَلَ
اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ سَخَطِهِ
وَالنَّارِ : فَحَسَنٌ .
فَصْلٌ :
وَمِمَّا يُنْهَى عَنْهُ الْمُحْرِمُ : أَنْ يَتَطَيَّبَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي
بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ أَوْ يَتَعَمَّدَ شَمَّ الطِّيبِ وَأَمَّا الدُّهْنُ فِي
رَأْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ بِالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَنَحْوِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ
فِيهِ طِيبٌ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَتَرْكُهُ أَوْلَى . وَلَا يُقَلِّمُ
أَظْفَارَهُ وَلَا يَقْطَعُ شَعْرَهُ . وَلَهُ أَنْ يَحُكَّ بَدَنَهُ إذَا حَكَّهُ
وَيَحْتَجِمَ فِي رَأْسِهِ وَغَيْرِ رَأْسِهِ وَإِنْ احْتَاجَ أَنْ يَحْلِقَ
شَعْرًا لِذَلِكَ جَازَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ
} وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ حَلْقِ بَعْضِ الشَّعْرِ . وَكَذَلِكَ إذَا
اغْتَسَلَ وَسَقَطَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ بِذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَإِنْ
تَيَقَّنَ أَنَّهُ انْقَطَعَ بِالْغَسْلِ وَيَفْتَصِدُ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ
وَلَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ لِغَيْرِ
الْجَنَابَةِ وَلَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ وَلَا
يَصْطَادُ صَيْدًا بَرِّيًّا وَلَا يَتَمَلَّكُهُ بِشِرَاءِ وَلَا اتِّهَابٍ وَلَا
غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يُعِينُ عَلَى صَيْدٍ وَلَا يَذْبَحُ صَيْدًا . فَأَمَّا
صَيْدُ الْبَحْرِ كَالسَّمَكِ وَنَحْوِهِ فَلَهُ أَنْ يَصْطَادَهُ وَيَأْكُلَهُ .
وَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ الشَّجَرَ لَكِنْ نَفْسُ الْحَرَمِ لَا يَقْطَعُ شَيْئًا
مِنْ
شَجَرِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَلَا مِنْ نَبَاتِهِ الْمُبَاحِ إلَّا الْإِذْخِرَ وَأَمَّا مَا غَرَسَ النَّاسُ أَوْ زَرَعُوهُ فَهُوَ لَهُمْ وَكَذَلِكَ مَا يَبِسَ مِنْ النَّبَاتِ يَجُوزُ أَخْذُهُ وَلَا يَصْطَادُ بِهِ صَيْدًا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَاءِ كَالسَّمَكِ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ بَلْ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ : مِثْلَ أَنْ يُقِيمَهُ لِيَقْعُدَ مَكَانَهُ . وَكَذَلِكَ حَرَمُ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا و " اللَّابَةُ " هِيَ الْحَرَّةُ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا حِجَارَةٌ سُودٌ وَهُوَ بَرِيدٌ فِي بَرِيدٍ وَالْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَهُوَ مِنْ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ وَعَيْرٌ هُوَ جَبَلٌ عِنْدَ الْمِيقَاتِ يُشْبِهُ الْعَيْرَ وَهُوَ الْحِمَارُ وَثَوْرٌ هُوَ جَبَلٌ مِنْ نَاحِيَةِ أُحُدٍ وَهُوَ غَيْرُ جَبَلِ ثَوْرٍ الَّذِي بِمَكَّةَ ؛ فَهَذَا الْحَرَمُ أَيْضًا لَا يُصَادُ صَيْدُهُ وَلَا يُقْطَعُ شَجَرُهُ إلَّا لِحَاجَةِ كَآلَةِ الرُّكُوبِ وَالْحَرْثِ وَيُؤْخَذُ مِنْ حَشِيشِهِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْعَلَفِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ إذْ لَيْسَ حَوْلَهُمْ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ . وَإِذَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ صَيْدٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ . وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَرَمٌ لَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا هَذَانِ الْحَرَمَانِ وَلَا يُسَمَّى غَيْرُهُمَا حَرَمًا كَمَا يُسَمِّي الْجُهَّالُ . فَيَقُولُونَ : حَرَمُ الْمَقْدِسِ وَحَرَمُ الْخَلِيلِ . فَإِنَّ هَذَيْنِ وَغَيْرَهُمَا لَيْسَا بِحَرَمِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَرَمُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ حَرَمُ مَكَّةَ . وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَلَهَا حَرَمٌ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا اسْتَفَاضَتْ
بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْمُسْلِمُونَ فِي حَرَمٍ ثَالِثٍ . إلَّا فِي " وَجٍّ " وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ حَرَمٌ وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِحَرَمِ . وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَ مَا يُؤْذِي بِعَادَتِهِ النَّاسَ : كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْغُرَابِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَا يُؤْذِيه مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ حَتَّى لَوْ صَالَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقِتَالِ قَاتَلَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ . } وَإِذَا قَرَصَتْهُ الْبَرَاغِيثُ وَالْقَمْلُ فَلَهُ إلْقَاؤُهَا عَنْهُ وَلَهُ قَتْلُهَا . وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِلْقَاؤُهَا أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِهَا وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنْ الدَّوَابِّ فَيُنْهَى عَنْ قَتْلِهِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمًا كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ فَإِذَا قَتَلَهُ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا التَّفَلِّي بِدُونِ التَّأَذِّي فَهُوَ مِنْ التَّرَفُّهِ فَلَا يَفْعَلُهُ وَلَوْ فَعَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْوَطْءُ وَمُقَدَّمَاتُهُ وَلَا يَطَأُ شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ امْرَأَةً وَلَا غَيْرَ امْرَأَةٍ وَلَا يَتَمَتَّعُ بِقُبْلَةِ وَلَا مَسٍّ بِيَدِ وَلَا نَظَرٍ بِشَهْوَةِ . فَإِنْ جَامَعَ فَسَدَ حَجُّهُ وَفِي الْإِنْزَالِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ نِزَاعٌ وَلَا يُفْسِدُ
الْحَجَّ
بِشَيْءِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ إلَّا بِهَذَا الْجِنْسِ فَإِنْ قَبَّلَ بِشَهْوَةِ
أَوْ أَمْذَى لِشَهْوَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
فَصْلٌ :
إذَا أَتَى مَكَّةَ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالْمَسْجِدَ مِنْ جَمِيعِ
الْجَوَانِبِ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ وَجْهِ الْكَعْبَةِ
اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ دَخَلَهَا
مِنْ وَجْهِهَا مِنْ النَّاحِيَةِ الْعُلْيَا الَّتِي فِيهَا الْيَوْمَ بَابُ
الْمَعْلَاةِ . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ وَلَا لِلْمَدِينَةِ سُورٌ وَلَا أَبْوَابٌ مَبْنِيَّةٌ
وَلَكِنْ دَخَلَهَا مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ بِالْفَتْحِ
وَالْمَدِّ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْمَقْبَرَةِ . وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ
الْبَابِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : بَابُ بَنِي شَيْبَةَ ثُمَّ ذَهَبَ
إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَإِنَّ هَذَا أَقْرَبُ الطُّرُقِ إلَى الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ لِمَنْ دَخَلَ مِنْ بَابِ الْمَعْلَاةِ . وَلَمْ يَكُنْ قَدِيمًا
بِمَكَّةَ بِنَاءٌ يَعْلُو عَلَى الْبَيْتِ وَلَا كَانَ فَوْقَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِنَاءٌ وَلَا كَانَ بِمِنَى وَلَا
بِعَرَفَاتِ مَسْجِدٌ وَلَا عِنْدَ الْجَمَرَاتِ مَسَاجِدُ بَلْ كُلُّ هَذِهِ
مُحْدَثَةٌ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمِنْهَا مَا أُحْدِثَ بَعْدَ
الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ وَمِنْهَا مَا أُحْدِثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ
الْبَيْتُ يُرَى قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَبِرًّا وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَكَرَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا } فَمَنْ رَأَى الْبَيْتَ قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَدْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ مَنْ اسْتَحَبَّهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ الدُّعَاء وَلَوْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ . لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعْد أَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ وَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَ ذَلِكَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ بَلْ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَمَا يَبِيتُ بِذِي طُوًى وَهُوَ عِنْدَ الْآبَارِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا : آبَارُ الزَّاهِرِ . فَمَنْ تَيَسَّرَ لَهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالِاغْتِسَالُ وَدُخُولُ مَكَّةَ نَهَارًا وَإِلَّا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَدَأَ بِالطَّوَافِ فَيَبْتَدِئُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ يَسْتَقْبِلُهُ اسْتِقْبَالًا وَيَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ إنْ أَمْكَنَ وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا بِالْمُزَاحَمَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَ يَدَهُ وَإِلَّا أَشَارَ إلَيْهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ لِلطَّوَافِ وَيَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَلَا يَمْشِي عَرْضًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ لِلطَّوَافِ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ . وَيَقُولُ إذَا اسْتَلَمَهُ : بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَإِنْ شَاءَ قَالَ :
اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك وَوَفَاءً بِعَهْدِك وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ فَيَطُوفُ سَبْعًا وَلَا يَخْتَرِقُ الْحَجَرَ فِي طَوَافِهِ لِمَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَجَرِ مِنْ الْبَيْتِ وَاَللَّهُ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِهِ لَا بِالطَّوَافِ فِيهِ . وَلَا يَسْتَلِمُ مِنْ الْأَرْكَانِ إلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ دُونَ الشَّامِيَّيْنِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا اسْتَلَمَهُمَا خَاصَّةً لِأَنَّهُمَا عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ وَالْآخَرَانِ هُمَا فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ . فَالرُّكْنُ الْأَسْوَدُ يُسْتَلَمُ وَيُقَبَّلُ وَالْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ وَلَا يُقَبَّلُ وَالْآخَرَانِ لَا يُسْتَلَمَانِ وَلَا يُقَبَّلَانِ وَالِاسْتِلَامُ هُوَ مَسْحُهُ بِالْيَدِ . وَأَمَّا سَائِرُ جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَسَائِرُ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَحِيطَانِهَا وَمَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَحُجْرَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَغَارَةِ إبْرَاهِيمَ وَمَقَامِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَصَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَا تُسْتَلَمُ وَلَا تُقَبَّلُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا الطَّوَافُ بِذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ وَمَنْ اتَّخَذَهُ دِينًا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الشاذروان الَّذِي يُرْبَطُ فِيهِ أَسْتَارُ الْكَعْبَةِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ الشاذروان مِنْ الْبَيْتِ بَلْ جُعِلَ عِمَادًا لِلْبَيْتِ . وَيُسْتَحَبُّ لَهُ فِي الطَّوَافِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْمُلَ مِنْ الْحِجْرِ إلَى الْحِجْرِ
فِي الْأَطْوَافِ الثَّلَاثَةِ وَالرَّمَلُ مِثْلُ الْهَرْوَلَةِ وَهُوَ مُسَارَعَةُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الرَّمَلُ لِلزَّحْمَةِ كَانَ خُرُوجُهُ إلَى حَاشِيَةِ الْمَطَافِ وَالرَّمَلُ أَفْضَلُ مِنْ قُرْبِهِ إلَى الْبَيْتِ بِدُونِ الرَّمَلِ . وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ الْقُرْبُ مِنْ الْبَيْتِ مَعَ إكْمَالِ السُّنَّةِ فَهُوَ أَوْلَى . وَيَجُوزُ أَنْ يَطُوفَ مِنْ وَرَاءِ قُبَّةِ زَمْزَمَ وَمَا وَرَاءَهَا مِنْ السَّقَائِفِ الْمُتَّصِلَةِ بِحِيطَانِ الْمَسْجِدِ . وَلَوْ صَلَّى الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ يَطُوفُونَ أَمَامَهُ لَمْ يُكْرَهْ سَوَاءٌ مَرَّ أَمَامَهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ مَكَّةَ . وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضْطَبِعَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَالِاضْطِبَاعُ : هُوَ أَنْ يُبْدِيَ ضَبْعَهُ الْأَيْمَنَ فَيَضَعَ وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ إبِطِهِ الْأَيْمَنِ وَطَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ وَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَيُسْتَحَبُّ لَهُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُوَهُ بِمَا يُشْرَعُ وَإِنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ سِرًّا فَلَا بَأْسَ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مَحْدُودٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِأَمْرِهِ وَلَا بِقَوْلِهِ وَلَا بِتَعْلِيمِهِ بَلْ يَدْعُو فِيهِ بِسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ دُعَاءٍ مُعَيَّنٍ تَحْتَ الْمِيزَابِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا أَصْلَ لَهُ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتِمُ طَوَافَهُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ بِقَوْلِهِ : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } كَمَا كَانَ يَخْتِمُ سَائِرَ دُعَائِهِ بِذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ذِكْرٌ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ كَالصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرِ . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الطَّائِفُ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَيَكُونَ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ مُجْتَنِبَ النَّجَاسَةِ الَّتِي يَجْتَنِبُهَا الْمُصَلِّي وَالطَّائِفُ طَاهِرًا ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ وَلَا نَهَى الْمُحْدِثَ أَنْ يَطُوفَ وَلَكِنَّهُ طَافَ طَاهِرًا . لَكِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى الْحَائِضَ عَنْ الطَّوَافِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } فَالصَّلَاةُ الَّتِي أَوْجَبَ لَهَا الطَّهَارَةَ مَا كَانَ يُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ وَيُخْتَمُ بِالتَّسْلِيمِ كَالصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَأَمَّا الطَّوَافُ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ فَلَيْسَا مِنْ هَذَا . وَالِاعْتِكَافُ يُشْتَرَطُ لَهُ الْمَسْجِدُ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَالْمُعْتَكِفَةُ الْحَائِضُ تُنْهَى عَنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ وَإِنْ كَانَتْ تَلْبَثُ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ مُحْدِثَةٌ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي " مَنَاسِكِ الْحَجِّ " لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ : حَدَّثَنَا
سَهْلُ
بْنُ يُوسُفَ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ حَمَّادٍ وَمَنْصُورٍ قَالَ : سَأَلْتهمَا
عَنْ الرَّجُلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ فَلَمْ يَرَيَا
بِهِ بَأْسًا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : سَأَلْت أَبِي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ :
أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ لِأَنَّ
الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَد
فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِيهِ وَوُجُوبِهَا كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ
فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . لَكِنْ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ .
وَمَنْ طَافَ فِي جَوْرَبٍ وَنَحْوِهِ ؛ لِئَلَّا يَطَأَ نَجَاسَةً مِنْ ذَرْقِ
الْحَمَامِ أَوْ غَطَّى يَدَيْهِ لِئَلَّا يَمَسَّ امْرَأَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ
فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ وَالتَّابِعِينَ مَا زَالُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَمَا زَالَ
الْحَمَامُ بِمَكَّةَ ؛ لَكِنَّ الِاحْتِيَاطَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُخَالِفْ
السُّنَّةَ الْمَعْلُومَةَ فَإِذَا أَفْضَى إلَى ذَلِكَ كَانَ خَطَأً . وَاعْلَمْ
أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ خَطَأٌ كَمَنْ
يَخْلَعُ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ . أَوْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ فَإِنَّ هَذَا خَطَأٌ مُخَالِفٌ
لِلسُّنَّةِ . فَإِنَّ { النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي
فِي نَعْلَيْهِ وَقَالَ : إنْ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ
فَخَالِفُوهُمْ } وَقَالَ : { إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْظُرْ فِي
نَعْلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا فِي التُّرَابِ
فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } .
وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي نَعْلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَطُوفَ
فِي نَعْلَيْهِ
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ مَاشِيًا فَطَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا أَجْزَأَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ مِثْلَ مَنْ كَانَ بِهِ نَجَاسَةٌ لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهَا كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ فَإِنَّهُ يَطُوفُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ إلَّا عريانا فَطَافَ بِاللَّيْلِ كَمَا لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الصَّلَاةُ إلَّا عريانا . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا لَمْ يُمْكِنْهَا طَوَافُ الْفَرْضِ إلَّا حَائِضًا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا التَّأَخُّرُ بِمَكَّةَ فَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ الطَّهَارَةَ عَلَى الطَّائِفِ : إذَا طَافَتْ الْحَائِضُ أَوْ الْجُنُبُ أَوْ الْمُحْدِثُ أَوْ حَامِلُ النَّجَاسَةِ مُطْلَقًا أَجْزَأَهُ الطَّوَافُ وَعَلَيْهِ دَمٌ : إمَّا شَاةٌ وَإِمَّا بَدَنَةٌ مَعَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ وَشَاةٌ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ . وَمَنْعُ الْحَائِضِ مِنْ الطَّوَافِ قَدْ يُعَلَّلُ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ وَقَدْ يُعَلَّلُ بِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْمَسْجِدِ كَمَا تُمْنَعُ مِنْهُ بِالِاعْتِكَافِ وَكَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِهِ : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فَأَمَرَهُ بِتَطْهِيرِهِ لِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ فَمُنِعَتْ الْحَائِضُ مِنْ دُخُولِهِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلطَّوَافِ مَا يَجِبُ لِلصَّلَاةِ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ وَقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يُبْطِلُهُ مَا يُبْطِلُهَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ مَنْ مَنَعَ الْحَائِضَ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ
لَا يَرَى الطَّهَارَةَ شَرْطًا بَلْ مُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَجُوزُ لَهَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَطْهِيرِهِ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَالْعَاكِفُ فِيهِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ . بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ اُضْطُرَّتْ الْعَاكِفَةُ الْحَائِضُ إلَى لُبْثِهَا فِيهِ لِلْحَاجَةِ جَازَ ذَلِكَ . وَأَمَّا الرُّكَّعُ السُّجُودُ فَهُمْ الْمُصَلُّونَ وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَائِضُ لَا تُصَلِّي لَا قَضَاءً وَلَا أَدَاءً . يَبْقَى الطَّائِفُ : هَلْ يَلْحَقُ بِالْعَاكِفِ أَوْ بِالْمُصَلِّي أَوْ يَكُونُ قِسْمًا ثَالِثًا بَيْنَهُمَا : هَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ . وَقَوْلُهُ : { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ هُوَ ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَنَقَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ جُنُبٌ عَلَيْهِ دَمٌ " وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ . وَهَكَذَا قَوْلُهُ : { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ الْعَبْدَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ وَمَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ وَمَا كَانَ يَعْمِدُ إلَى الصَّلَاةِ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَلَا يَجُوزُ لِحَائِضِ أَنْ تَطُوفَ إلَّا طَاهِرَةً إذَا أَمْكَنَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ وَلَوْ قَدِمَتْ الْمَرْأَةُ حَائِضًا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ لَكِنْ تَقِفُ بِعَرَفَةَ وَتَفْعَلُ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ كُلِّهَا مَعَ الْحَيْضِ إلَّا الطَّوَافَ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ حَتَّى تَطْهُرَ إنْ أَمْكَنَهَا ذَلِكَ ثُمَّ تَطُوفُ وَإِنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الطَّوَافِ فَطَافَتْ أَجَزْأَهَا ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . فَإِذَا قَضَى الطَّوَافَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِلطَّوَافِ وَإِنْ صَلَّاهُمَا عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ فَهُوَ أَحْسَنُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِسُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثُمَّ إذَا صَلَّاهُمَا اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ ثُمَّ يَخْرُجَ إلَى الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . وَلَوْ أَخَّرَ ذَلِكَ إلَى بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ جَازَ . فَإِنَّ الْحَجَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أطوفة : طَوَافٌ عِنْدَ الدُّخُولِ وَهُوَ يُسَمَّى : طَوَافَ الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ وَالْوُرُودِ . وَالطَّوَافُ الثَّانِي : هُوَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَيُقَالُ لَهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالزِّيَارَةِ وَهُوَ طَوَافُ الْفَرْضِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } . وَالطَّوَافُ الثَّالِثُ : هُوَ لِمَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ . وَإِذَا سَعَى عَقِيبَ وَاحِدٍ مِنْهَا أَجْزَأَهُ فَإِذَا خَرَجَ لِلسَّعْيِ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُمَا فِي جَانِبِ
جَبَلَيْ
مَكَّةَ فَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى وَالْيَوْمَ قَدْ
بُنِيَ فَوْقَهُمَا دَكَّتَانِ فَمَنْ وَصَلَ إلَى أَسْفَلِ الْبِنَاءِ أَجْزَأَهُ
السَّعْيُ وَإِنْ لَمْ يَصْعَدْ فَوْقَ الْبِنَاءِ . فَيَطُوفُ بِالصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا يَبْتَدِئُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي : مِنْ الْعَلَمِ إلَى الْعَلَمِ
وَهُمَا مَعْلَمَانِ هُنَاكَ . وَإِنْ لَمْ يَسْعَ فِي بَطْنِ الْوَادِي بَلْ
مَشَى عَلَى هَيْئَتِهِ جَمِيعُ مَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَجْزَأَهُ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَلَا صَلَاةَ عَقِيبَ
الطَّوَافِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنَّمَا الصَّلَاةُ عَقِيبَ الطَّوَافِ
بِالْبَيْتِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . فَإِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ؛ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ لَمَّا طَافُوا بِهِمَا أَنْ يَحِلُّوا إلَّا مَنْ
كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَهُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ
لَا يَحِلَّانِ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ
شَعْرِهِ لِيَدَعَ الْحِلَاقَ لِلْحَجِّ وَكَذَلِكَ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا أَحَلَّ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ
بِالْإِحْرَامِ .
فَصْلٌ :
فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ : أَحْرَمَ وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ فَيَفْعَلُ
كَمَا فَعَلَ عِنْدَ
الْمِيقَاتِ وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ وَإِنْ شَاءَ مِنْ خَارِجِ مَكَّةَ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَحْرَمُوا كَمَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَطْحَاءِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ نَازِلٌ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْمَكِّيُّ يُحْرِمُ مِنْ أَهْلِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ مَكَّةَ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ } . وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبِيتَ الْحَاجُّ بِمِنَى : فَيُصَلُّونَ بِهَا الظُّهْر وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا الْإِيقَادُ فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنَّمَا الْإِيقَادُ بمزدلفة خَاصَّةً بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ عَرَفَةَ وَأَمَّا الْإِيقَادُ بِمِنَى أَوْ عَرَفَةَ فَبِدْعَةٌ أَيْضًا . وَيَسِيرُونَ مِنْهَا إلَى نَمِرَةَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ مِنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ و " نَمِرَةُ " كَانَتْ قَرْيَةً خَارِجَةً عَنْ عَرَفَاتٍ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ فَيُقِيمُونَ بِهَا إلَى الزَّوَالِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَسِيرُونَ مِنْهَا إلَى بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ مَوْضِعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الظُّهْر وَالْعَصْرَ وَخَطَبَ وَهُوَ فِي حُدُودِ عَرَفَةَ بِبَطْنِ عرنة وَهُنَاكَ مَسْجِدٌ يُقَالُ لَهُ : مَسْجِدُ إبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا بُنِيَ فِي أَوَّلِ دَوْلَةِ
بَنِي الْعَبَّاسِ . فَيُصَلِّي هُنَاكَ الظُّهْر وَالْعَصْرَ قَصْرًا كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصَلِّي خَلْفَهُ جَمِيعُ الْحَاجِّ : أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ قَصْرًا وَجَمْعًا يَخْطُبُ بِهِمْ الْإِمَامُ كَمَا خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرِهِ ثُمَّ إذَا قَضَى الْخُطْبَةَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَقَامَ ثُمَّ يُصَلِّي كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَيُصَلِّي بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى قَصْرًا وَيَقْصُرُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةَ . وَكَذَلِكَ يَجْمَعُونَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى كَمَا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَفْعَلُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ وَلَا قَالُوا لَهُمْ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَمَنْ حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَدْ أَخْطَأَ وَلَكِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ بِمَكَّةَ . وَأَمَّا فِي حَجِّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بِمَكَّةَ وَلَكِنْ كَانَ نَازِلًا خَارِجَ مَكَّةَ وَهُنَاكَ كَانَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ إلَى مِنَى وَعَرَفَةَ خَرَجَ مَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ رَجَعُوا مَعَهُ وَلَمَّا صَلَّى بِمِنَى أَيَّامَ مِنَى صَلَّوْا مَعَهُ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَلَمْ يَحُدَّ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّفَرَ لَا بِمَسَافَةِ وَلَا بِزَمَانِ وَلَمْ يَكُنْ بِمِنَى أَحَدٌ سَاكِنًا فِي زَمَنِهِ وَلِهَذَا قَالَ : { مِنَى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ } وَلَكِنْ قِيلَ إنَّهَا سُكِنَتْ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانُ وَأَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَتَمَّ عُثْمَانُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ مَنْ يَحْمِلُ الزَّادَ وَالْمَزَادَ . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْهَبُ إلَى عَرَفَاتٍ . فَهَذِهِ السُّنَّةُ ؛ لَكِنْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَا يَكَادُ يَذْهَبُ أَحَدٌ إلَى نَمِرَةَ . وَلَا إلَى مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَدْخُلُونَ عَرَفَاتٍ بِطَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ وَيَدْخُلُونَهَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُهَا لَيْلًا وَيَبِيتُونَ بِهَا قَبْلَ التَّعْرِيفِ وَهَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ كُلُّهُ يُجْزِي مَعَهُ الْحَجُّ لَكِنْ فِيهِ نَقْصٌ عَنْ السُّنَّةِ فَيَفْعَلُ مَا يُمْكِنُ مِنْ السُّنَّةِ مِثْلَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَيُؤَذِّنُ أَذَانًا وَاحِدًا وَيُقِيمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَالْإِيقَادُ بِعَرَفَةَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَكَذَلِكَ الْإِيقَادُ بِمِنَى بِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيقَادُ بمزدلفة خَاصَّةً فِي الرُّجُوعِ . وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ يَخْرُجُونَ إنْ شَاءُوا بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ وَإِنْ شَاءُوا مِنْ جَانِبَيْهِمَا . وَالْعَلَمَانِ الْأَوَّلَانِ حَدُّ عَرَفَةَ فَلَا يُجَاوِزُوهُمَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَالْمِيلَانِ بَعْدَ ذَلِكَ حَدُّ مُزْدَلِفَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَطْنُ عرنة . وَيَجْتَهِدُ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ هَذِهِ الْعَشِيَّةَ فَإِنَّهُ مَا رُئِيَ إبْلِيسُ فِي
يَوْمٍ هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ وَلَا أَدْحَضُ مِنْ عَشِيَّةِ عَرَفَةَ لِمَا يَرَى مِنْ تَنْزِيلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ . وَيَصِحُّ وُقُوفُ الْحَائِضِ وَغَيْرِ الْحَائِضِ . وَيَجُوزُ الْوُقُوفُ مَاشِيًا وَرَاكِبًا . وَأَمَّا الْأَفْضَلُ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ إذَا رَكِبَ رَآهُ النَّاسُ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ أَوْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ تُرْكُ الرُّكُوبِ وَقَفَ رَاكِبًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ رَاكِبًا . وَهَكَذَا الْحَجُّ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ حَجُّهُ رَاكِبًا أَفْضَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ حَجُّهُ مَاشِيًا أَفْضَلَ وَلَمْ يُعَيِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَرَفَةَ دُعَاءً وَلَا ذِكْرًا بَلْ يَدْعُو الرَّجُلُ بِمَا شَاءَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَذَلِكَ يُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ . وَالِاغْتِسَالُ لِعَرَفَةَ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ فِي الْحَجِّ إلَّا ثَلَاثَةُ أَغْسَالٍ : غُسْلُ الْإِحْرَامِ وَالْغُسْلُ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ وَالْغُسْلُ يَوْمَ عَرَفَةَ . وَمَا سِوَى ذَلِكَ كَالْغُسْلِ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَلِلطَّوَافِ وَالْمَبِيتِ بمزدلفة فَلَا أَصْلَ لَهُ لَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ جُمْهُورُ
الْأَئِمَّةِ : لَا مَالِكٍ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا أَحْمَد وَإِنْ كَانَ
قَدْ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ . بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ
إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ
عَلَيْهِ رَائِحَةٌ يُؤْذِي النَّاسَ بِهَا فَيَغْتَسِلُ لِإِزَالَتِهَا .
وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَلَا يَقِفُ بِبَطْنِ عرنة وَأَمَّا صُعُودُ
الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَيُسَمَّى جَبَلَ
الرَّحْمَةِ وَيُقَالُ لَهُ إلَالٌ عَلَى وَزْنِ هِلَالٍ وَكَذَلِكَ الْقُبَّةُ
الَّتِي فَوْقَهُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا : قُبَّةُ آدَمَ لَا يُسْتَحَبُّ
دُخُولُهَا وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا . وَالطَّوَافُ بِهَا مِنْ الْكَبَائِرِ
وَكَذَلِكَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي عِنْدَ الْجَمَرَاتِ لَا يُسْتَحَبُّ دُخُولُ
شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا . وَأَمَّا الطَّوَافُ بِهَا أَوْ
بِالصَّخْرَةِ أَوْ بِحُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَا كَانَ غَيْرَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ
الْمُحَرَّمَةِ .
فَصْلٌ :
فَإِذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ ذَهَبَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ عَلَى طَرِيقِ
الْمَأْزِمَيْنِ وَهُوَ طَرِيقُ النَّاسِ الْيَوْمَ وَإِنَّمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ
: عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إلَى عَرَفَةَ طَرِيقٌ أُخْرَى
تُسَمَّى طَرِيقَ ضَبٍّ وَمِنْهَا دَخَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَرَفَاتٍ وَخَرَجَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ . وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَاسِكِ وَالْأَعْيَادِ يَذْهَبُ مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعُ مِنْ أُخْرَى فَدَخَلَ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى . وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَخَرَجَ بَعْدَ الْوَدَاعِ مِنْ بَابِ حَزْوَرَةَ الْيَوْمَ . وَدَخَلَ إلَى عَرَفَاتٍ مِنْ طَرِيقِ ضَبٍّ وَخَرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ وَأَتَى إلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ - يَوْمَ الْعِيدِ - مِنْ الطَّرِيقِ الْوُسْطَى الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى خَارِجِ مِنَى ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَى يَسَارِهِ إلَى الْجَمْرَةِ ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ بِمِنَى الَّذِي نَحَرَ فِيهِ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ رَجَعَ مِنْ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي يَسِيرُ مِنْهَا جُمْهُورُ النَّاسِ الْيَوْمَ . فَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ بمزدلفة وَلَا يُزَاحِمُ النَّاسَ بَلْ إنْ وَجَدَ خَلْوَةً أَسْرَعَ فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ تَبْرِيكِ الْجِمَالِ إنْ أَمْكَنَ ثُمَّ إذَا بَرَّكُوهَا صَلَّوْا الْعِشَاءَ وَإِنْ أَخَّرَ الْعِشَاءَ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ وَيَبِيتُ بمزدلفة وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا يُقَالُ لَهَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَهِيَ مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ إلَى بَطْنِ مُحَسِّرٍ . فَإِنَّ بَيْنَ كُلِّ مَشْعَرَيْنِ حَدًّا لَيْسَ مِنْهُمَا : فَإِنَّ بَيْنَ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ بَطْنُ عرنة وَبَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَمِنَى بَطْنُ مُحَسِّرٍ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عرنة وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا
مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ وَمِنَى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا طَرِيقٌ } . وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبِيتَ بمزدلفة إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَيُصَلِّيَ بِهَا الْفَجْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ يَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَام إلَى أَنْ يُسْفِرَ جِدًّا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنْ كَانَ مِنْ الضَّعَفَةِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُ يَتَعَجَّلُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنَى إذَا غَابَ الْقَمَرُ وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْقُوَّةِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مُزْدَلِفَةَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَيُصَلُّوا بِهَا الْفَجْرَ وَيَقِفُوا بِهَا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ لَكِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ قُزَحَ أَفْضَلُ وَهُوَ جَبَلُ الميقدة وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ . وَقَدْ بُنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَخُصُّهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ . فَإِذَا كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَفَاضَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنَى فَإِذَا أَتَى مُحَسِّرًا أَسْرَعَ قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرِ فَإِذَا أَتَى مِنَى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَيَرْفَعُ يَدَهُ فِي الرَّمْيِ وَهِيَ الْجَمْرَةُ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْجَمَرَاتِ مِنْ نَاحِيَةِ مِنَى وَأَقْرَبُهُنَّ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى وَلَا يَرْمِي يَوْمَ النَّحْرِ غَيْرَهَا يَرْمِيهَا مُسْتَقْبِلًا لَهَا يَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنَى عَنْ يَمِينِهِ هَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَإِنْ شَاءَ قَالَ مَعَ ذَلِكَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ
فِي
الرَّمْيِ . وَلَا يَزَالُ يُلَبِّي فِي ذَهَابِهِ مِنْ مَشْعَرٍ إلَى مَشْعَرٍ
مِثْلَ ذَهَابِهِ إلَى عَرَفَاتٍ وَذَهَابِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ إلَى مُزْدَلِفَةَ
حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَإِذَا شَرَعَ فِي الرَّمْيِ قَطَعَ
التَّلْبِيَةَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَشْرَعُ فِي التَّحَلُّلِ . وَالْعُلَمَاءُ
فِي التَّلْبِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَقْطَعُهَا
إذَا وَصَلَ إلَى عَرَفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ يُلَبِّي بِعَرَفَةَ
وَغَيْرِهَا إلَى أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا
أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مُزْدَلِفَةَ لَبَّى وَإِذَا أَفَاضَ مَنَّ مُزْدَلِفَةَ
إلَى مِنَى لَبَّى حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَهَكَذَا صَحَّ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ فَلَمْ يُنْقَلْ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُلَبُّونَ بِعَرَفَةَ
فَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ نَحَرَ هَدْيَهُ إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُنْحَرَ الْإِبِلُ مُسْتَقْبِلَةَ الْقِبْلَةَ قَائِمَةً
مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ يُضْجِعُهَا عَلَى
شِقِّهَا الْأَيْسَرِ مُسْتَقْبِلًا بِهَا الْقِبْلَةَ وَيَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ
وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي كَمَا
تَقَبَّلْت مِنْ
إبْرَاهِيمَ خَلِيلِك . وَكُلُّ مَا ذُبِحَ بِمِنَى وَقَدْ سِيقَ مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ فَإِنَّهُ هَدْيٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ وَيُسَمَّى أَيْضًا أُضْحِيَّةً بِخِلَافِ مَا يُذْبَحُ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْحِلِّ فَإِنَّهُ أُضْحِيَّةٌ وَلَيْسَ بِهَدْيِ . وَلَيْسَ بِمِنَى مَا هُوَ أُضْحِيَّةٌ وَلَيْسَ بِهَدْيِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ . فَإِذَا اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ عَرَفَاتٍ وَسَاقَهُ إلَى مِنَى فَهُوَ هَدْيٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَاهُ مِنْ الْحَرَمِ فَذَهَب بِهِ إلَى التَّنْعِيمِ وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ مِنَى وَذَبَحَهُ فِيهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ : فَذَهَبَ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِهَدْيِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ ابْنُ عُمَرَ وَمَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ هَدْيٌ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عَائِشَةَ . وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَى مِنْ حَيْثُ شَاءَ لَكِنْ لَا يَرْمِي بِحَصَى قَدْ رُمِيَ بِهِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْحِمَّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ وَإِنْ كَسَرَهُ جَازَ . وَالْتِقَاطُ الْحَصَى أَفْضَلُ مِنْ تَكْسِيرِهِ مِنْ الْجَبَلِ . ثُمَّ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَوْ يُقَصِّرُهُ وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ وَإِذَا قَصَّرَهُ جَمَعَ الشَّعْرَ وَقَصَّ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأُنْمُلَةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَالْمَرْأَةُ لَا تَقُصُّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلَهُ أَنْ يُقَصِّرَ مَا شَاءَ . وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَحَلَّلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ فَيُلْبَسُ الثِّيَابَ وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَكَذَلِكَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَنْ يَتَطَيَّبَ وَيَتَزَوَّجَ وَأَنْ
يَصْطَادَ
وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ إلَّا النِّسَاءُ . وَبَعْدَ ذَلِكَ
يَدْخُلُ مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ يَوْمَ
النَّحْرِ وَإِلَّا فَعَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَإِنَّ تَأْخِيرَهُ عَنْ ذَلِكَ فِيهِ نِزَاعٌ ثُمَّ
يَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ سَعْيَ الْحَجِّ وَلَيْسَ عَلَى الْمُفْرِدِ إلَّا سَعْيٌ
وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ الْقَارِنُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ
الْمُتَمَتِّعُ فِي أَصَحِّ أَقْوَالِهِمْ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ
أَحْمَد وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا سَعْيٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ
تَمَتَّعُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطُوفُوا
بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً قَبْلَ التَّعْرِيفِ .
فَإِذَا اكْتَفَى الْمُتَمَتِّعُ بِالسَّعْيِ الْأَوَّلِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ كَمَا
يُجْزِئُ الْمُفْرِدَ وَالْقَارِنَ وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد
بْنِ حَنْبَلٍ قِيلَ لِأَبِي : الْمُتَمَتِّعُ كَمْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ ؟ قَالَ : إنْ طَافَ طَوَافَيْنِ يَعْنِي بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَهُوَ أَجْوَدُ وَإِنْ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا فَلَا
بَأْسَ وَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ فَهُوَ أَعْجَبُ إلَيَّ . وَقَالَ أَحْمَد
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأوزاعي عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الْمُفْرِدُ وَالْمُتَمَتِّعُ يُجْزِئُهُ
طَوَافٌ بِالْبَيْتِ وَسَعْيٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . وَقَدْ اخْتَلَفُوا
فِي الصَّحَابَةِ الْمُتَمَتِّعِينَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ اتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُمْ طَافُوا أَوَّلًا بِالْبَيْتِ
وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ عَرَفَةَ قِيلَ : إنَّهُمْ
سَعَوْا أَيْضًا بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ
وَقِيلَ : لَمْ يَسْعَوْا وَهَذَا هُوَ الَّذِي ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا طَوَافَهُ الْأَوَّلَ . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ طَافُوا مَرَّتَيْنِ لَكِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قِيلَ إنَّهَا مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ لَا مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ وَقَدْ احْتَجَّ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ طَوَافَانِ بِالْبَيْتِ وَهَذَا ضَعِيفٌ . وَالْأَظْهَرُ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ . وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فَالْمُتَمَتِّعُ مِنْ حِينِ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ دَخَلَ بِالْحَجِّ لَكِنَّهُ فَصَلَ بِتَحَلُّلِ لِيَكُونَ أَيْسَرَ عَلَى الْحَاجِّ وَأَحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ . وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَطُوفَ لِلْقُدُومِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ بَلْ هَذَا الطَّوَافُ هُوَ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ النِّسَاءُ وَغَيْرُ النِّسَاءِ . وَلَيْسَ بِمِنَى صَلَاةُ عِيدٍ بَلْ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لَهُمْ كَصَلَاةِ الْعِيدِ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ جُمْعَةً وَلَا عِيدًا فِي السَّفَرِ لَا بِمَكَّةَ وَلَا عَرَفَةَ بَلْ كَانَتْ خُطْبَتُهُ بِعَرَفَةَ خُطْبَةَ نُسُكٍ لَا خُطْبَةَ جُمْعَةٍ وَلَمْ يَجْهَرْ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِعَرَفَةَ .
فَصْلٌ
:
ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مِنَى فَيَبِيتُ بِهَا وَيَرْمِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ
كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ الزَّوَالِ يَبْتَدِئُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ
أَقْرَبُ إلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْشِيَ إلَيْهَا
فَيَرْمِيَهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ . وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ كُلِّ
حَصَاةٍ وَإِنْ شَاءَ قَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَسَعْيًا
مَشْكُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا . وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إذَا رَمَاهَا أَنْ
يَتَقَدَّمَ قَلِيلًا إلَى مَوْضِعٍ لَا يُصِيبُهُ الْحَصَى فَيَدْعُوَ اللَّهَ
تَعَالَى مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ بِقَدْرِ سُورَةِ
الْبَقَرَةِ . ثُمَّ يَذْهَبُ إلَى الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ فَيَرْمِيهَا
كَذَلِكَ فَيَتَقَدَّمُ عَنْ يَسَارِهِ يَدْعُو مِثْلَ مَا فَعَلَ عِنْدَ
الْأُولَى . ثُمَّ يَرْمِي الثَّالِثَةَ وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا
بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ أَيْضًا وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا . ثُمَّ يَرْمِي فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ مِنَى مِثْلَ مَا رَمَى فِي الْأَوَّلِ ثُمَّ إنْ شَاءَ
رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ وَإِنْ شَاءَ تَعَجَّلَ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى
: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } الْآيَةَ . فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ بِمِنَى أَقَامَ حَتَّى يَرْمِيَ مَعَ النَّاسِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَلَا يَنْفِرُ الْإِمَامُ الَّذِي يُقِيمُ لِلنَّاسِ الْمَنَاسِكَ بَلْ السُّنَّةُ أَنْ يُقِيمَ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَالسُّنَّةُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ بِمِنَى وَيُصَلِّيَ خَلْفَهُ أَهْلُ الْمَوْسِمِ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَدَعَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ مِنَى . وَهُوَ مَسْجِدُ الْخَيْفِ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ قَصْرًا بِلَا جَمْعٍ بِمِنَى وَيَقْصُرُ النَّاسُ كُلُّهُمْ خَلْفَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةَ . وَإِنَّمَا رُوِيَ { عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } لَمَّا صَلَّى بِهِمْ بِمَكَّةَ نَفْسِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ إمَامٌ عَامٌّ صَلَّى الرَّجُلُ بِأَصْحَابِهِ ؛ وَالْمَسْجِدُ بُنِيَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ . ثُمَّ إذَا نَفَرَ مِنْ مِنَى فَإِنْ بَاتَ بِالْمُحَصِّبِ - وَهُوَ الْأَبْطَحُ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إلَى الْمَقْبَرَةِ - ثُمَّ نَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَسَنٌ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاتَ بِهِ وَخَرَجَ . وَلَمْ يُقِمْ بِمَكَّةَ بَعْدَ صُدُورِهِ مِنْ مِنَى لَكِنَّهُ وَدَّعَ الْبَيْتَ وَقَالَ : { لَا يَنْفِرَن أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ } فَلَا يَخْرُجُ الْحَاجُّ حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ فَيَطُوفَ طَوَافَ الْوَدَاعِ حَتَّى يَكُونَ
آخِرُ
عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ وَمَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ فَلَا وَدَاعَ عَلَيْهِ . وَهَذَا
الطَّوَافُ يُؤَخِّرُهُ الصَّادِرُ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَكُونَ بَعْدَ جَمِيعِ
أُمُورِهِ فَلَا يَشْتَغِلُ بَعْدَهُ بِتِجَارَةِ وَنَحْوِهَا لَكِنْ إنْ قَضَى
حَاجَتَهُ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فِي طَرِيقِهِ بَعْدَ الْوَدَاعِ أَوْ دَخَلَ
إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لِيَحْمِلَ الْمَتَاعَ عَلَى دَابَّتِهِ
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الرَّحِيلِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ
وَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ الْوَدَاعِ أَعَادَهُ وَهَذَا الطَّوَافُ وَاجِبٌ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْ الْحَائِضِ .
وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ وَالْبَابِ فَيَضَعُ عَلَيْهِ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ
وَكَفَّيْهِ وَيَدْعُوَ وَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى حَاجَتَهُ فَعَلَ ذَلِكَ
وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ طَوَافِ الْوَدَاع فَإِنَّ هَذَا
الِالْتِزَامُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْوَدَاعِ أَوْ غَيْرِهِ
وَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حِينَ يَدْخُلُونَ مَكَّةَ وَإِنْ
شَاءَ قَالَ فِي دُعَائِهِ الدُّعَاءَ الْمَأْثُورَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : "
اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك حَمَلْتنِي عَلَى مَا
سَخَّرْت لِي مِنْ خَلْقِك وَسَيَّرْتنِي فِي بِلَادِك حَتَّى بَلَّغْتنِي
بِنِعْمَتِك إلَى بَيْتِك وَأَعَنْتنِي عَلَى أَدَاءِ نُسُكِي فَإِنْ كُنْت رَضِيت
عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضَا وَإِلَّا فَمِنْ الْآنَ فَارْضَ عَنِّي قَبْلَ أَنْ
تَنْأَى عَنْ بَيْتِك دَارِي فَهَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إنْ أَذِنْت لِي غَيْرَ
مُسْتَبْدِلٍ بِك وَلَا بِبَيْتِك وَلَا رَاغِبٍ عَنْك وَلَا عَنْ بَيْتِك
اللَّهُمَّ فَأَصْحِبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي وَالصِّحَّةَ فِي
جِسْمِي وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي وَارْزُقْنِي طَاعَتَك مَا أَبْقَيْتنِي وَاجْمَعْ لِي بَيْنَ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " وَلَوْ وَقَفَ عِنْدَ الْبَابِ وَدَعَا هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ لِلْبَيْتِ كَانَ حَسَنًا . فَإِذَا وَلَّى لَا يَقِفُ وَلَا يَلْتَفِتُ وَلَا يَمْشِي الْقَهْقَرَى قَالَ الثَّعْلَبِيُّ فِي " فِقْهِ اللُّغَةِ " : الْقَهْقَرَى : مِشْيَةُ الرَّاجِعِ إلَى خَلْفٍ حَتَّى قَدْ قِيلَ إنَّهُ إذَا رَأَى الْبَيْتَ رَجَعَ فَوَدَّعَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ سَلَامِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْصَرِفُ وَلَا يَمْشِي الْقَهْقَرَى بَلْ يَخْرُجُ كَمَا يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ الصَّلَاةِ . وَلَيْسَ فِي عَمَلِ الْقَارِنِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ لَكِنْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُتَمَتِّعِ هَدْيٌ : بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ وَلَهُ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ مِنْ حِينِ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَظْهَرِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ . وَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد : قِيلَ إنَّهُ يَصُومُهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ وَقِيلَ لَا يَصُومُهَا إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَقِيلَ يَصُومُهَا مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ الْأَرْجَحُ . وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يَصُومُهَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ شَرَعَ فِي الْحَجِّ وَلَكِنْ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ كَمَا دَخَلَ الْوُضُوءُ فِي الْغُسْلِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُتَمَتِّعِينَ مَعَهُ وَإِنَّمَا
أَحْرَمُوا
بِالْحَجِّ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَيَتَضَلَّعَ مِنْهُ وَيَدْعُوَ
عِنْدَ شُرْبِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يُسْتَحَبُّ
الِاغْتِسَالُ مِنْهَا .
وَأَمَّا زِيَارَةُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ بِمَكَّةَ غَيْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ ؛ كَالْمَسْجِدِ الَّذِي تَحْتَ الصَّفَا وَمَا فِي سَفْحِ أَبِي قبيس
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى آثَارِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ كَمَسْجِدِ الْمَوْلِدِ
وَغَيْرِهِ فَلَيْسَ قَصْدُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ وَلَا
اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ إتْيَانُ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً وَالْمَشَاعِرُ : عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ
وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَكَذَلِكَ قَصْدُ الْجِبَالِ وَالْبِقَاعِ الَّتِي
حَوْلَ مَكَّةَ غَيْرِ الْمَشَاعِرِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى مِثْلَ
جَبَلِ حِرَاءَ وَالْجَبَلِ الَّذِي عِنْدَ مِنَى الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ كَانَ
فِيهِ قُبَّةُ الْفِدَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَارَةُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَلْ
هُوَ بِدْعَةٌ وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ فِي الطُّرُقَاتِ مِنْ الْمَسَاجِدِ
الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْآثَارِ وَالْبِقَاعِ الَّتِي يُقَالُ إنَّهَا مِنْ
الْآثَارِ لَمْ يَشْرَعْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَارَةَ
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِخُصُوصِهِ وَلَا زِيَارَةَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَدُخُولُ الْكَعْبَةِ لَيْسَ بِفَرْضِ وَلَا سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بَلْ دُخُولُهَا
حَسَنٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُدْخِلْهَا فِي
الْحَجِّ وَلَا فِي الْعُمْرَةِ
لَا
عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ وَلَا عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَإِنَّمَا دَخَلَهَا عَامَ
فَتْحِ مَكَّةَ وَمَنْ دَخَلَهَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا
وَيُكَبِّرَ اللَّهَ وَيَدْعُوَهُ وَيَذْكُرَهُ فَإِذَا دَخَلَ مَعَ الْبَابِ
تَقَدَّمَ حَتَّى يَصِيرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ
وَالْبَابُ خَلْفَهُ فَذَلِكَ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَدْخُلْهَا إلَّا حَافِيًا وَالْحِجْرُ
أَكْثَرُهُ مِنْ الْبَيْتِ مِنْ حَيْثُ يَنْحَنِي حَائِطُهُ فَمَنْ دَخَلَهُ
فَهُوَ كَمَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَلَيْسَ عَلَى دَاخِلِ الْكَعْبَةِ مَا لَيْسَ
عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْحُجَّاجِ بَلْ يَجُوزُ لَهُ مِنْ الْمَشْيِ حَافِيًا
وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ . وَالْإِكْثَارُ مِنْ الطَّوَافِ
بِالْبَيْتِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ
الرَّجُلُ مِنْ الْحَرَمِ وَيَأْتِيَ بِعُمْرَةِ مَكِّيَّةٍ فَإِنَّ هَذَا لَمْ
يَكُنْ مِنْ أَعْمَالِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَلَا رَغِبَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأُمَّتِهِ بَلْ كَرِهَهُ السَّلَفُ .
فَصْلٌ :
وَإِذَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ الْحَجِّ أَوْ بَعْدَهُ : فَإِنَّهُ يَأْتِي
مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصَلِّي فِيهِ
وَالصَّلَاةُ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَيْهِ وَإِلَى الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ
وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ . وَمَسْجِدُهُ كَانَ أَصْغَرَ مِمَّا هُوَ الْيَوْمَ وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لَكِنْ زَادَ فِيهِمَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَحُكْمُ الزِّيَادَةِ حُكْمُ الْمَزِيدِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ . ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ مُسْتَدْبِرِي الْقِبْلَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ يَسْتَدْبِرُ الْحُجْرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلِمُ الْحُجْرَةَ وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَطُوفُ بِهَا وَلَا يُصَلِّي إلَيْهَا وَإِذَا قَالَ فِي سَلَامِهِ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ يَا خِيرَةَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ يَا أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى رَبِّهِ يَا إمَامَ الْمُتَّقِينَ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ صِفَاتِهِ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ مَعَ السَّلَامِ عَلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
وَلَا يَدْعُو هُنَاكَ مُسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةِ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَمَالِكٍ مِنْ أَعْظَمِ الْأَئِمَّةِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ . وَالْحِكَايَةُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الْمَنْصُورَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةَ وَقْتَ الدُّعَاءِ كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ . وَلَا يَقِفُ عِنْدَ الْقَبْرِ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَقِفُ عِنْدَهُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلَكِنْ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُونَ فِي مَسْجِدِهِ { فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } وَقَالَ : { لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } وَقَالَ : { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ . فَقَالُوا : كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك ؟ وَقَدْ أَرِمْت أَيْ بَلِيتَ . قَالَ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْمَعُ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ مِنْ الْقَرِيبِ وَأَنَّهُ يَبْلُغُهُ ذَلِكَ مِنْ الْبَعِيدِ . وَقَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَدَفَنَتْهُ الصَّحَابَةُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مِنْ حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَكَانَتْ هِيَ وَسَائِرُ الْحُجَرِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ قِبْلِيِّهِ وَشَرْقِيِّهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عُمِّرَ هَذَا الْمَسْجِدُ وَغَيْرُهُ وَكَانَ نَائِبُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَأَمَرَ أَنْ تُشْتَرَى الْحُجَرُ وَيُزَادَ
فِي
الْمَسْجِدِ فَدَخَلَتْ الْحُجْرَةُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ
وَبُنِيَتْ مُنْحَرِفَةً عَنْ الْقِبْلَةِ مُسَنَّمَةً ؛ لِئَلَّا يُصَلِّيَ
أَحَدٌ إلَيْهَا فَإِنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا
تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ
أَبِي مَرْثَدٍ الغَنَوي . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ : زِيَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَزِيَارَةٌ
بِدْعِيَّةٌ .
فَالشَّرْعِيَّةُ الْمَقْصُودُ بِهَا السَّلَامُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءُ
لَهُ كَمَا يُقْصَدُ بِالصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ فَزِيَارَتُهُ بَعْدَ
مَوْتِهِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى
الْمَيِّتِ وَيَدْعُوَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ كَمَا {
كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ إذَا
زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ
الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ
بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ
وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا
تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ }
وَهَكَذَا يَقُولُ إذَا زَارَ أَهْلَ الْبَقِيعِ وَمَنْ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ
أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ زَارَ شُهَدَاءَ أُحُدٍ وَغَيْرَهُمْ . وَلَيْسَتْ
الصَّلَاةُ عِنْدَ قُبُورِهِمْ أَوْ قُبُورِ غَيْرِهِمْ مُسْتَحَبَّةً عِنْدَ
أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . بَلْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي
لَيْسَ فِيهَا قَبْرُ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ
أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ
أَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ إمَّا مُحَرَّمَةٌ وَإِمَّا مَكْرُوهَةٌ . وَالزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ : أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الزَّائِرِ أَنْ يَطْلُبَ حَوَائِجَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَيِّتِ أَوْ يَقْصِدَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِهِ . أَوْ يَقْصِدَ الدُّعَاءَ بِهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ بَلْ هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُولُ الْقَائِلُ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا اللَّفْظُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } . وَقَوْلُهُ : { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي وَمَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي } وَنَحْوَ ذَلِكَ كُلُّهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ لَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا نَقَلَهَا إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ ؛ وَلَكِنْ رَوَى بَعْضَهَا الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِي وَنَحْوُهُمَا بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَلِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الدارقطني وَأَمْثَالِهِ يَذْكُرُونَ هَذَا فِي السُّنَنِ لِيُعْرَفَ وَهُوَ وَغَيْرُهُ يُبَيِّنُونَ ضَعْفَ الضَّعِيفِ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ نُهِيَ عَنْهَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
وَيُسْتَحَبُّ
أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ قُبَاء وَيُصَلِّيَ فِيهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ وَأَحْسَنَ
الطُّهُورَ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاء لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ
لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ } . رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَهُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ
قُبَاء كَعُمْرَةِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ .
وَالسَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَالصَّلَاةُ فِيهِ وَالدُّعَاءُ
وَالذِّكْرُ وَالْقِرَاءَةُ وَالِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ
سَوَاءٌ كَانَ عَامَ الْحَجِّ أَوْ بَعْدَهُ . وَلَا يَفْعَلُ فِيهِ وَفِي
مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا يَفْعَلُ فِي
سَائِرِ الْمَسَاجِدِ . وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُتَمَسَّحُ بِهِ وَلَا يُقَبَّلُ
وَلَا يُطَافُ بِهِ هَذَا كُلُّهُ لَيْسَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
خَاصَّةً وَلَا تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ الصَّخْرَةِ بَلْ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ
يُصَلِّيَ فِي قِبْلِيِّ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ لِلْمُسْلِمِينَ . وَلَا يُسَافِرُ أَحَدٌ لِيَقِفَ بِغَيْرِ
عَرَفَاتٍ وَلَا يُسَافِرُ لِلْوُقُوفِ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَلَا
لِلْوُقُوفِ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ لَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الْمَشَايِخِ
وَلَا غَيْرِهِمْ . بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَظْهَرُ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ أَحَدٌ لِزِيَارَةِ قَبْرٍ مِنْ الْقُبُورِ .
وَلَكِنْ تُزَارُ الْقُبُورُ الزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْ كَانَ قَرِيبًا
وَمَنْ اجْتَازَ
بِهَا كَمَا أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاء يُزَارُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُسَافِرَ إلَيْهِ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَشُدَّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ الدِّينَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا يُعْبَدَ إلَّا بِمَا شَرَعَ لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ فِيهِ لِأَحَدِ شَيْئًا . وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قِيلَ : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ . قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } . وَالْمَقْصُودُ بِجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . فَاَللَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَالْمَسْئُولُ الَّذِي يُخَافُ وَيُرْجَى وَيُسْأَلُ وَيُعْبَدُ فَلَهُ الدِّينُ خَالِصًا وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }
{ إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } إلَى قَوْلِهِ : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } الْآيَتَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ } الْآيَتَيْنِ . قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } الْآيَاتِ . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ ؛ بَلْ هَذَا مَقْصُودُ الْقُرْآنِ وَلُبُّهُ وَهُوَ مَقْصُودُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ وَلَهُ خُلِقَ الْخَلْقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } . فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْحَجَّ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُعْبَدُ اللَّهُ بِهَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ وَزِيَارَةَ قُبُورِ الْأَمْوَاتِ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ لَهُمْ وَالدُّعَاءُ لِلْخَلْقِ مِنْ جِنْسِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الزَّكَاةِ . وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا تَوْحِيدٌ وَسُنَّةٌ وَغَيْرُهَا فِيهَا شِرْكٌ
وَبِدْعَةٌ كَعِبَادَاتِ النَّصَارَى وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِثْلَ قَصْدِ الْبُقْعَةِ لِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ يَعُدُّونَ مِنْ جُمْلَةِ الْبِدَعِ الْمُتَكَرِّرَةِ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهَذَا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ حَتَّى صَرَّحَ بَعْضُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَافَرَ هَذَا السَّفَرَ لَا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّهُ سَفَرُ مَعْصِيَةٍ . وَكَذَلِكَ مَنْ يَقْصِدُ بُقْعَةً لِأَجْلِ الطَّلَبِ مِنْ مَخْلُوقٍ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ كَالْقَبْرِ وَالْمَقَامِ أَوْ لِأَجْلِ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ كَمَا تَفْعَلُهُ النَّصَارَى وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ يَجْعَلُونَ الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ مِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَلِهَذَا { قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ كَنِيسَةً بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَذَكَرَ لَهُ عَنْ حُسْنِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ التَّصَاوِيرِ فَقَالَ : أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَلِهَذَا نَهَى الْعُلَمَاءُ عَمَّا فِيهِ عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ وَسُؤَالٌ لِمَنْ مَاتَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ الصَّالِحِينَ : مِثْلَ مَنْ يَكْتُبُ رُقْعَةً وَيُعَلِّقُهَا عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ صَالِحٍ أَوْ يَسْجُدُ لِقَبْرِ أَوْ يَدْعُوهُ أَوْ يَرْغَبُ إلَيْهِ . وَقَالُوا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّ { النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ لَيَالٍ : إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ
الْقُبُورَ
مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ
عَنْ ذَلِكَ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَالَ : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ
أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا } وَهَذِهِ
الْأَحَادِيثُ فِي الصِّحَاحِ وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَكْلِ
التَّمْرِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ تَعْلِيقِ الشَّعْرِ فِي الْقَنَادِيلِ ؛
فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ .
وَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ جَاز فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ
يَحْمِلُونَهُ وَأَمَّا التَّمْرُ الصيحاني فَلَا فَضِيلَةَ فِيهِ بَلْ غَيْرُهُ
مِنْ التَّمْرِ : الْبَرْنِيُّ وَالْعَجْوَةُ خَيْرٌ مِنْهُ وَالْأَحَادِيثُ
إنَّمَا جَاءَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ
ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ { مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ
لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ } . وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ فِي
الصيحاني شَيْءٌ . وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : إنَّهُ صَاحَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْلٌ مِنْهُ بَلْ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ
لِيُبْسِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ : تَصَوَّحَ التَّمْرُ إذَا يَبِسَ . وَهَذَا
كَقَوْلِ بَعْضِ الْجُهَّالِ إنَّ عَيْنَ الزَّرْقَاءِ جَاءَتْ مَعَهُ مِنْ
مَكَّةَ وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنٌ جَارِيَةٌ لَا الزَّرْقَاءُ وَلَا عُيُونُ حَمْزَةَ
وَلَا غَيْرُهُمَا بَلْ كُلُّ هَذَا مُسْتَخْرَجٌ بَعْدَهُ .
وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلَيْنِ يَرْفَعَانِ أَصْوَاتَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبًا إنَّ الْأَصْوَاتَ لَا تُرْفَعُ فِي مَسْجِدِهِ ؛ فَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ جُهَّالِ الْعَامَّةِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِهِمْ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَصْوَاتِ عَالِيَةٍ . مِنْ أَقْبَحِ الْمُنْكَرَاتِ . وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَقِيبَ السَّلَامِ بِأَصْوَاتِ عَالِيَةٍ وَلَا مُنْخَفِضَةٍ بَلْ مَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِ الْمُصَلِّي السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مَشْرُوعَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا } وَفِي الْمُسْنَدِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَجْعَلُ عَلَيْك ثُلُثَ صَلَاتِي قَالَ : إذًا يَكْفِيك اللَّهُ ثُلُثَ أَمْرِك قَالَ : أَجْعَلُ عَلَيْك ثُلُثَيْ صَلَاتِي قَالَ : إذًا يَكْفِيك اللَّهُ ثُلُثَيْ أَمْرِك قَالَ : أَجْعَلُ صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْك قَالَ : إذًا يَكْفِيك اللَّهُ مَا أَهَمَّك مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَأَمْرِ آخِرَتِك } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } وَقَدْ رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ شَيْخُ الحسنيين فِي زَمَنِهِ رَجُلًا يَنْتَابُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلدُّعَاءِ عِنْدَهُ قَالَ : يَا هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ
صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ إلَّا سَوَاءٌ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُكْثِرُونَ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ قَبْرِهِ لَا لِقِرَاءَةِ خَتْمَةٍ وَلَا إيقَادِ شَمْعٍ وَإِطْعَامٍ وَإِسْقَاءٍ وَلَا إنْشَادِ قَصَائِدَ وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ بَلْ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ بَلْ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي مَسْجِدِهِ مَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاعْتِكَافِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَتَعَلُّمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ تَعْمَلُهُ أُمَّتُهُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا } وَهُوَ الَّذِي دَعَا أُمَّتَهُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ فَكُلُّ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُهْدَى إلَيْهِ ثَوَابُ صَلَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ مِنْ أَحَدٍ فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا . وَكُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ أَطْوَعَ وَأَتْبَعَ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } { وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي
بأولياء إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } وَهُوَ أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ وَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ . وَاَللَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الْمَسْئُولُ الْمُسْتَعَانُ بِهِ الَّذِي يُخَافُ وَيُرْجَى وَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَأَضَافَ الْإِيتَاءَ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا مَا أَبَاحَهُ الرَّسُولُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ آتَاهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ فَإِنَّهُ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ وَلِهَذَا { كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَبَعْدَ السَّلَامِ : اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } أَيْ مَنْ آتَيْته جَدًّا وَهُوَ الْبَخْتُ وَالْمَالُ وَالْمُلْكُ فَإِنَّهُ لَا يُنْجِيهِ مِنْك إلَّا الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى . وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فَعَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَالرَّغْبَةُ فَإِلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا : { إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } وَلَمْ يَقُولُوا هُنَا وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ فِي الْإِيتَاءِ بَلْ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قَالَهَا إبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ اللَّهُ وَحْدَهُ حَسْبُك وَحَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوك . وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك فَقَدْ ضَلَّ بَلْ قَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ الْكَفَرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ حَسْبُ كُلِّ مُؤْمِنٍ بِهِ والحسب الْكَافِي كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } . وَلِلَّهِ تَعَالَى حَقٌّ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ . كَالْعِبَادَاتِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ . وَالْخَوْفِ . وَالرَّجَاءِ . وَالْحَجِّ . وَالصَّلَاةِ . وَالزَّكَاةِ . وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ . وَالرَّسُولُ لَهُ حَقٌّ : كَالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَمُوَالَاةِ مَنْ يُوَالِيهِ وَمُعَادَاةِ مَنْ يُعَادِيهِ وَتَقْدِيمِهِ فِي الْمَحَبَّةِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالنَّفْسِ كَمَا { قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } بَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْجِهَادِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ } . وَبَسْطُ مَا فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ وَشَرْحُهُ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَقَالَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْحَجُّ : فَأَخَذُوا فِيهِ بِالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَتِهِ وَأَحْكَامِهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ
الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا : { أنه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ أَحْرَمَ هُوَ
وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ ذِي الحليفة فَقَالَ : مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ
فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةِ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ أَنْ
يُهِلَّ بِعُمْرَةِ وَحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ } فَلَمَّا قَدِمُوا وَطَافُوا
بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَمَرَ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ
الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ أَنْ يُحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا
عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ . فَرَاجَعَهُ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ فَغَضِبَ . وَقَالَ : { اُنْظُرُوا
مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ } وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ .
وَلَمَّا رَأَى كَرَاهَةَ بَعْضِهِمْ لِلْإِحْلَالِ قَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْت } وَقَالَ أَيْضًا : { إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } فَحَلَّ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعُهُمْ إلَّا النَّفَرَ الَّذِينَ سَاقُوا الْهَدْيَ مِنْهُمْ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَطِلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ . فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ الْمُحِلُّونَ بِالْحَجِّ وَهُمْ ذَاهِبُونَ إلَى مِنَى فَبَاتَ بِهِمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِمِنَى وَصَلَّى بِهِمْ فِيهَا الظُّهْر وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ سَارَ بِهِمْ إلَى نَمِرَةَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ " وَنَمِرَةُ " خَارِجَةٌ عَنْ عرنة مِنْ يَمَانِيِّهَا وَغَرْبِيِّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْحَرَمِ وَلَا مِنْ عَرَفَةَ فَنُصِبَتْ لَهُ الْقُبَّةُ بنمرة وَهُنَاكَ كَانَ يَنْزِلُ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَبِهَا الْأَسْوَاقُ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ وَالْأَكْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ رَكِبَ هُوَ وَمَنْ رَكِبَ مَعَهُ وَسَارَ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْمُصَلَّى بِبَطْنِ عرنة حَيْثُ قَدْ بُنِيَ الْمَسْجِدُ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْحَرَمِ وَلَا مِنْ عَرَفَةَ وَإِنَّمَا هُوَ بَرْزَخٌ بَيْنَ الْمَشْعَرَيْنِ : الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ هُنَاكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْقِفِ نَحْوُ مِيلٍ فَخَطَبَ بِهِمْ خُطْبَةَ الْحَجِّ عَلَى رَاحِلَتِهِ . وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بِهِمْ الظُّهْر وَالْعَصْرَ مَقْصُورَتَيْنِ مَجْمُوعَتَيْنِ ثُمَّ سَارَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ إلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ عِنْدَ الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِجَبَلِ الرَّحْمَةِ
وَاسْمُهُ " إلَالٌ " عَلَى وَزْنِ هِلَالٍ . وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ عَرَفَةَ فَلَمْ يَزَلْ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ إلَى أَنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ . فَدَفَعَ بِهِمْ إلَى مُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ قَبْلَ حَطِّ الرِّحَالِ حَيْثُ نَزَلُوا بمزدلفة وَبَاتَ بِهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ الْفَجْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مُغَلِّسًا بِهَا زِيَادَةً عَلَى كُلِّ يَوْمٍ ثُمَّ وَقَفَ عِنْدَ " قُزَحَ " وَهُوَ جَبَلُ مُزْدَلِفَةَ الَّذِي يُسَمَّى : الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ وَإِنْ كَانَتْ مُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا هِيَ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا بِالْمُسْلِمِينَ إلَى أَنْ أَسْفَرَ جِدًّا . ثُمَّ دَفَعَ بِهِمْ حَتَّى قَدِمَ مِنَى فَاسْتَفْتَحَهَا بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ بِمِنَى فَحَلَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً مِنْ الْهَدْيِ الَّذِي سَاقَهُ وَأَمَرَ عَلِيًّا فَنَحَرَ الْبَاقِيَ وَكَانَ مِائَةَ بَدَنَةٍ ثُمَّ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَكَانَ قَدْ عَجَّلَ ضَعَفَةَ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَرَمَوْا الْجَمْرَةَ بِلَيْلِ ثُمَّ أَقَامَ بِالْمُسْلِمِينَ أَيَّامَ مِنَى الثَّلَاثَ يُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مَقْصُورَةً غَيْرَ مَجْمُوعَةٍ يَرْمِي كُلَّ يَوْمٍ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَفْتَتِحُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى - وَهِيَ الصُّغْرَى وَهِيَ الدُّنْيَا إلَى مِنَى وَالْقُصْوَى مِنْ مَكَّةَ - وَيَخْتَتِمُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَيَقِفُ بَيْنَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَبَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وُقُوفًا طَوِيلًا بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ يَذْكُرُ اللَّهَ وَيَدْعُو فَإِنَّ الْمَوَاقِفَ ثَلَاثَةٌ : عَرَفَةُ
وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنَى . ثُمَّ أَفَاضَ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ فَنَزَلَ بِالْمُحَصِّبِ عِنْدَ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ فَبَاتَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ فِيهِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ . وَبَعَثَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَائِشَةَ مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِتَعْتَمِرَ مِنْ التَّنْعِيمِ وَهُوَ أَقْرَبُ أَطْرَافِ الْحَرَمِ إلَى مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَقَدْ بُنِيَ بَعْدَهُ هُنَاكَ مَسْجِدٌ سَمَّاهُ النَّاسُ مَسْجِدَ عَائِشَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدٌ قَطُّ إلَّا عَائِشَةَ لِأَجْلِ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ لَمَّا قَدِمَتْ . وَكَانَتْ مُعْتَمِرَةً فَلَمْ تَطُفْ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . { وقال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ } . ثُمَّ وَدَّعَ الْبَيْتَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ وَرَجَعُوا إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يُقِمْ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلَا اعْتَمَرَ أَحَدٌ قَطُّ عَلَى عَهْدِهِ عُمْرَةً يَخْرُجُ فِيهَا مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ إلَّا عَائِشَةَ وَحْدَهَا . فَأَخَذَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ بِسُنَّتِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مَنْ قَدْ يُخَالِفُ بَعْضَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ تَخْفَى عَلَيْهِ
فِيهِ السُّنَّةُ . فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحُجُّوا كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَلَمَّا اتَّفَقَتْ جَمِيعُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يُحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا مُتْعَةً اسْتَحَبُّوا الْمُتْعَةَ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ النسكين فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَعَلِمُوا أَنَّ مَنْ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ عَقِبَهُ مِنْ الْحِلِّ - وَإِنْ قَالُوا : إنَّهُ جَائِزٌ - فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا رَفَضَتْ الْعُمْرَةَ وَأَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ كَمَا يَقُولُهُ الْكُوفِيُّونَ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّهَا صَارَتْ قَارِنَةً : فَلَا عَائِشَةُ وَلَا غَيْرُهَا فَعَلَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ . وَقَرَنَ بَيْنَ النسكين لَا يَفْعَلُهُ . وَإِنْ قَالَ أَكْثَرُهُمْ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - إنَّهُ جَائِزٌ . فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً . وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ - فُقَهَاءَ وَعُلَمَاءَ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مُفْرِدًا لِلْحَجِّ وَلَا كَانَ مُتَمَتِّعًا تَمَتُّعًا حَلَّ بِهِ مِنْ إحْرَامِهِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : إنَّهُ تَمَتَّعَ
وَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ فَقَدْ غَلِطَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي حَجَّتِهِ فَقَدْ غَلِطَ . وَأَمَّا مَنْ تَوَهَّمَ مِنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّهُ اعْتَمَرَ بَعْدَ حَجَّتِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُخْتَارُونَ لِلْإِفْرَادِ إذَا جَمَعُوا بَيْنَ النسكين : فَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ أَصْلًا مِنْ الْعَالِمِينَ بِحَجَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ إلَّا عَائِشَةَ . وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ مَوْضِعُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ إلَّا بِمَسَاجِدِ عَائِشَةَ حَيْثُ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَيُحْرِمْ بِالْعُمْرَةِ إلَّا هِيَ وَلَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا قَارِنًا قِرَانًا طَافَ فِيهِ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين . فَإِنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ كُلَّهَا تُصَرِّحُ بِأَنَّهُ إنَّمَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَبْلَ التَّعْرِيفِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ . فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فَقَدْ غَلِطَ . وَسَبَبُ غَلَطِهِ : أَلْفَاظٌ مُشْتَرَكَةٌ سَمِعَهَا فِي أَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ النَّاقِلِينَ لَحَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ - مِنْهُمْ : عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا - : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَثَبَتَ أَيْضًا عَنْهُمْ { أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ }
وَعَامَّةُ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ : { أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ } ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : { إنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } . وَثَبَتَ { عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } { وعن عُمَرَ : أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي - يَعْنِي بِوَادِي الْعَقِيقِ - وَقَالَ : قُلْ : عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ } وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ إلَّا عُمَرُ وَأَنَسٌ ؛ فَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا . وَأَمَّا أَلْفَاظُ الصَّحَابَةِ : فَإِنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ سَوَاءٌ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِحْرَامِ وَاحِدٍ أَوْ تَحَلَّلَ مِنْ إحْرَامِهِ . فَهَذَا التَّمَتُّعُ الْعَامُّ يَدْخُلُ فِيهِ الْقِرَانُ . وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ . إدْخَالًا لَهُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } وَإِنْ كَانَ اسْمُ " التَّمَتُّعِ " قَدْ يَخْتَصُّ بِمَنْ اعْتَمَرَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ قَضَاءِ عُمْرَتِهِ . فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ " تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ " لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَلَكِنْ أَرَادَ : أَنَّهُ جَمَعَ فِي حَجَّتِهِ بَيْنَ النسكين مُعْتَمِرًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ : هَلْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَبِالْجَبَلَيْنِ
أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ قَبْلَ الطَّوَافَيْنِ فَهُوَ قَارِنٌ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ بَعْدَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَبِالْجَبَلَيْنِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ : فَهَذَا يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَيُسَمَّى قَارِنًا لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ إحْلَالِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ ؛ وَلِهَذَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا " مُتَمَتِّعًا " وَيُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ " قَارِنًا " وَيُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ بِالِاسْمَيْنِ وَهُوَ الْأَصْوَبُ . وَهَذَا فِي التَّمَتُّعِ الْخَاصِّ . فَأَمَّا التَّمَتُّعُ الْعَامُّ : فَيَشْمَلُهُ بِلَا تَرَدُّدٍ . وَمَعَ هَذَا : فَالصَّوَابُ مَا قَطَعَ بِهِ أَحْمَد مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ ؛ لِقَوْلِهِ : " لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا " وَلَوْ كَانَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ مَعَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } لِأَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ . كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا كَانَتْ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ جُزْءًا مِنْ حَجِّهِ فَالْهَدْيُ الْمَسُوقُ لَا يُنْحَرُ حَتَّى يَقْضِيَ التَّفَثَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْهَدْيِ الْمَسُوقِ فَإِنَّهُ نَذْرٌ ؛ وَلِهَذَا لَوْ عَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ وَجَبَ نَحْرُهُ ؛ لَأَنَّ نَحْرَهُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ وَإِنَّمَا يَبْلُغُ مَحِلَّهُ إذَا بَلَغَ صَاحِبُهُ مَحِلَّهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ وَإِنَّمَا يَبْلُغُ صَاحِبُهُ مَحِلَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ إذْ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِخِلَافِ مَنْ اعْتَمَرَ عُمْرَةً مُفْرَدَةً . فَإِنَّهُ حَلَّ حِلًّا مُطْلَقًا .
وَأَمَّا مَا تَضَمَّنَتْهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُقَامِ بِمِنَى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَالْمَبِيتِ بِهَا اللَّيْلَةَ الَّتِي قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ . ثُمَّ الْمُقَامِ بعرنة - الَّتِي بَيْنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَعَرَفَةَ - إلَى الزَّوَالِ . وَالذَّهَابِ مِنْهَا إلَى عَرَفَةَ وَالْخُطْبَةِ وَالصَّلَاتَيْنِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بِبَطْنِ عرنة : فَهَذَا كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ لَا يُمَيِّزُهُ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُهُ لِغَلَبَةِ الْعَادَاتِ الْمُحْدَثَةِ . وَمِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَمَعَ بِالْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْر وَالْعَصْرِ وبمزدلفة بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . وَكَانَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ مَنْزِلُهُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا . وَلَمْ يَأْمُرْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِتَفْرِيقِ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا وَلَا أَنْ يَعْتَزِلَ الْمَكِّيُّونَ وَنَحْوُهُمْ فَلَمْ يُصَلُّوا مَعَهُ الْعَصْرَ وَأَنْ يَنْفَرِدُوا فَيُصَلُّوهَا فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ لِمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَد . وَإِنَّمَا غَفَلَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَنْ هَذَا فَطَرَدُوا قِيَاسَهُمْ فِي الْجَمْعِ . وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ إنَّمَا جَمَعَ لِأَجْلِ السَّفَرِ وَالْجَمْعُ لِلسَّفَرِ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ سَافَرَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَحَاضِرُوا مَكَّةَ لَيْسُوا عَنْ عرنة بِهَذَا الْبُعْدِ .
وَهَذَا لَيْسَ بِحَقِّ . فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ جَمْعُهُ لِأَجْلِ السَّفَرِ لَجَمَعَ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ وَبَعْدَهُ . وَقَدْ أَقَامَ بِمِنَى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَلَمْ يَجْمَعْ فِيهَا لَا سِيَّمَا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ جَمَعَ فِي السَّفَرِ وَهُوَ نَازِلٌ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَإِنَّمَا جَمَعَ لِنَحْوِ الْوُقُوفِ لِأَجْلِ أَلَّا يَفْصِلَ بَيْنَ الْوُقُوفِ بِصَلَاةِ وَلَا غَيْرِهَا . كَمَا قَالَ أَحْمَد : إنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِأَجْلِ ذَلِكَ مِنْ الشُّغْلِ الْمَانِعِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّلَوَاتِ . وَمَنْ اشْتَرَطَ فِي هَذَا الْجَمْعِ السَّفَرَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ أُصُولِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . فَإِنَّ أَحْمَد يُجَوِّزُ الْجَمْعَ لِأُمُورِ كَثِيرَةٍ غَيْرِ السَّفَرِ حَتَّى قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ - تَفْسِيرًا لِقَوْلِ أَحْمَد : إنَّهُ يَجْمَعُ لِكُلِّ مَا يُبِيحُ تَرْكَ الْجَمَاعَةِ - فَالْجَمْعُ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ السَّفَرِ . وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَصْرِ فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا لِلْمُسَافِرِ . وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : إنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ : لَا يَجُوزُ إلَّا لِلْمُسَافِرِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ عِنْدَهُمْ طَرْدًا لِلْقِيَاسِ وَاعْتِقَادًا أَنَّ الْقَصْرَ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِلسَّفَرِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ حَتَّى أَمَرَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : أَنَّ الْمَوْسِمَ لَا يُقِيمُهُ أَمِيرُ مَكَّةَ ؛ لِأَجْلِ قَصْرِ الصَّلَاةِ . وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ - مِنْهُمْ مَالِكٍ وَطَائِفَةٌ
مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي عِبَادَاتِهِ
الْخَمْسِ - إلَى أَنَّهُ يَقْصُرُ الْمَكِّيُّونَ وَغَيْرُهُمْ وَأَنَّ الْقَصْرَ
هُنَاكَ لِأَجْلِ النُّسُكِ . وَالْحَجَّةُ مَعَ هَؤُلَاءِ : أَنَّهُ لَمْ
يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مَنْ صَلَّى
خَلْفَهُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى مِنْ الْمَكِّيِّينَ أَنْ يُتِمُّوا
الصَّلَاةَ كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يُتِمُّوا لَمَّا كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ
بِمَكَّةَ أَيَّامَ فَتْحِ مَكَّةَ حِينَ قَالَ لَهُمْ : { أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ
فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } . فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَكِّيُّونَ قَدْ قَامُوا
لَمَّا صَلَّوْا خَلْفَهُ الظُّهْر فَأَتَمُّوهَا أَرْبَعًا ثُمَّ لَمَّا صَلَّوْا
الْعَصْرَ قَامُوا فَأَتَمُّوهَا أَرْبَعًا ثُمَّ لَمَّا صَلَّوْا خَلْفَهُ
عِشَاءَ الْآخِرَةِ قَامُوا فَأَتَمُّوهَا أَرْبَعًا ثُمَّ كَانُوا مُدَّةَ
مُقَامِهِ بِمِنَى يُتِمُّونَ خَلْفَهُ - لَمَا أَهْمَلَ الصَّحَابَةُ نَقْلَ
مِثْلِ هَذَا .
وَمِمَّا قَدْ يَغْلَطُ فِيهِ النَّاسُ : اعْتِقَادُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ صَلَاةُ الْعِيدِ بِمِنَى يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى قَدْ يُصَلِّيهَا
بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْفِقْهِ أَخْذًا فِيهَا بالعمومات اللَّفْظِيَّةِ
أَوْ الْقِيَاسِيَّةِ . وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَنْ السُّنَّةِ ظَاهِرَةٌ . فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ لَمْ يُصَلُّوا
بِمُنَى عِيدًا قَطُّ . وَإِنَّمَا صَلَاةُ الْعِيدِ بِمِنَى هِيَ جَمْرَةُ
الْعَقَبَةِ . فَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِأَهْلِ الْمَوْسِمِ بِمَنْزِلَةِ
صَلَاةِ الْعِيدِ لِغَيْرِهِمْ وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ أَحْمَد أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ
أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَقْتَ النَّحْرِ بِمِنَى . وَلِهَذَا خَطَبَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ
بَعْدَ الْجَمْرَةِ كَمَا كَانَ يَخْطُبُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَرَمْيِ الْجَمْرَةِ تَحِيَّةَ مِنَى كَمَا أَنَّ الطَّوَافَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . وَمِثْلُ هَذَا مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ - أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ : أَنْ يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ كَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ . ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ أَوْ نَحْوَهُ . وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ وَجَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : فَعَلَى إنْكَارِ هَذَا . أَمَّا أَوَّلًا : فَلِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ . فَإِنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ لَمْ يَفْتَتِحُوا إلَّا بِالطَّوَافِ ثُمَّ الصَّلَاةِ عَقِبَ الطَّوَافِ . وَأَمَّا ثَانِيًا : فَلِأَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : هِيَ الطَّوَافُ . كَمَا أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسَاجِدِ هِيَ الصَّلَاةُ . وَأَشْنَعُ مِنْ هَذَا : اسْتِحْبَابُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِمَنْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ السَّعْيِ عَلَى الْمَرْوَةِ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ الطَّوَافِ . وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ وَرَأَوْا أَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ ظَاهِرَةُ الْقُبْحِ . فَإِنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ طَافُوا وَصَلَّوْا كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ الطَّوَافَ وَالصَّلَاةَ . ثُمَّ سَعَوْا وَلَمْ يُصَلُّوا عَقِبَ السَّعْيِ فَاسْتِحْبَابُ
الصَّلَاةِ
عَقِبَ السَّعْيِ كَاسْتِحْبَابِهَا عِنْدَ الْجَمَرَاتِ أَوْ بِالْمَوْقِفِ
بِعَرَفَاتِ أَوْ جُعْلُ الْفَجْرِ أَرْبَعًا قِيَاسًا عَلَى الظُّهْر .
وَالتَّرْكُ الرَّاتِبُ : سُنَّةٌ كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ الرَّاتِبَ : سُنَّةٌ
بِخِلَافِ مَا كَانَ تَرْكُهُ لِعَدَمِ مُقْتَضٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ
مَانِعٍ وَحَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ الْمُقْتَضَيَاتِ وَالشُّرُوطِ وَزَوَالِ
الْمَانِعِ مَا دَلَّتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى فِعْلِهِ حِينَئِذٍ كَجَمْعِ
الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ وَجَمْعِ النَّاسِ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى إمَامٍ
وَاحِدٍ . وَتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسْمَاءِ النَّقَلَةِ لِلْعِلْمِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الدِّينِ بِحَيْثُ لَا تَتِمُّ
الْوَاجِبَاتُ أَوْ الْمُسْتَحَبَّاتُ الشَّرْعِيَّةُ إلَّا بِهِ وَإِنَّمَا
تَرَكَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَوْ وُجُودِ
مَانِعٍ . فَأَمَّا مَا تَرَكَهُ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ
كَانَ مَشْرُوعًا لَفَعَلَهُ أَوْ أَذِنَ فِيهِ وَلَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ
وَالصَّحَابَةُ : فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ فِعْلَهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ
وَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ فِي مَثَلِهِ وَإِنْ جَازَ الْقِيَاسُ فِي النَّوْعِ
الْأَوَّلِ . وَهُوَ مِثْلُ قِيَاسِ " صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ
وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ " عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَنْ
يُجْعَلَ لَهَا أَذَانًا وَإِقَامَةً كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ المراونية فِي
الْعِيدَيْنِ . وَقِيَاسِ حُجْرَتِهِ وَنَحْوِهَا مِنْ مَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ
عَلَى بَيْتِ اللَّهِ فِي الِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ
الْأَقْيِسَةِ الَّتِي تُشْبِهُ قِيَاسَ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ
أَنَّهُمْ قَالُوا : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } .
وَأَخَذَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مَعَ
فُقَهَاءِ
الْكُوفَةِ - مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ بِتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ - كَمَالِكِ - إلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ تَنْقَطِعُ بِالْوُصُولِ إلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ ؛ لِأَنَّهَا إجَابَةٌ . فَتَنْقَطِعُ بِالْوُصُولِ إلَى الْمَقْصِدِ . وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الَّتِي يَجِبُ اتِّبَاعُهَا . وَأَمَّا الْمَعْنَى : فَإِنَّ الْوَاصِلَ إلَى عَرَفَةَ - وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَوْقِفِ - فَإِنَّهُ قَدْ دُعِيَ بَعْدَهُ إلَى مَوْقِفٍ آخَرَ وَهُوَ مُزْدَلِفَةُ . فَإِذَا قَضَى الْوُقُوفَ بمزدلفة فَقَدْ دُعِيَ إلَى الْجَمْرَةِ فَإِذَا شَرَعَ فِي الرَّمْيِ فَقَدْ انْقَضَى دُعَاؤُهُ وَلَمْ يَبْقَ مَكَانٌ يُدْعَى إلَيْهِ مُحْرِمًا لِأَنَّ الْحَلْقَ وَالذَّبْحَ يَفْعَلُهُ حَيْثُ أَحَبَّ مِنْ الْحَرَمِ ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ يَكُونُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ . وَلِهَذَا قَالُوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُلَبِّي بِالْعُمْرَةِ إلَى أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ وَإِنْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - كَمَالِكِ - قَالُوا : يُلَبِّي إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْحَرَمِ . فَإِنَّهُ وَإِنْ وَصَلَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْبَيْتِ .
نَعَمْ
يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى : أَنَّهُ إنَّمَا يُلَبِّي حَالَ سَيْرِهِ لَا
حَالَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَحَالَ الْمَبِيتِ بِهَا . وَهَذَا
مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ . فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ حَالَ
السَّيْرِ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مُزْدَلِفَةَ وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنَى :
فَاتَّفَقَ مَنْ جَمَعَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَلَيْهِ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ الَّذِي صَادَهُ
الْحَلَالُ وَذَكَّاهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ
السَّلَفِ : هُوَ حَرَامٌ اتِّبَاعًا لِمَا فَهِمُوهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } . وَلِمَا ثَبَتَ {
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ رَدَّ لَحْمَ
الصَّيْدِ لَمَّا أُهْدِيَ إلَيْهِ } . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ
: بَلْ هُوَ مُبَاحٌ مُطْلَقًا عَمَلًا بِحَدِيثِ { أبي قتادة لَمَّا صَادَ
الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ وَأَهْدَى لَحْمَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَصِدْهُ لَهُ } كَمَا جَاءَ فِي
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . وَقَالَتْ الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي فِيهَا
فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ : بَلْ هُوَ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَصِدْهُ لَهُ
الْمُحْرِمُ وَلَا ذَبَحَهُ مِنْ أَجْلِهِ ؛ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ
كَمَا رَوَى جَابِرٌ { عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ :
لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ } قَالَ الشَّافِعِيِّ : هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا إذَا صِيدَ لِمُحْرِمِ بِعَيْنِهِ . فَهَلْ يُبَاحُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُحْرِمِينَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ طَوَافِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ .
فَأَجَابَ :
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } . {
وقال لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ
غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ } . وَلَمَّا { قِيلَ لَهُ عَنْ صَفِيَّةَ
أَنَّهَا حَاضَتْ . فَقَالَ : أَحَابِسَتُنَا هِيَ فَقِيلَ لَهُ : إنَّهَا قَدْ
أَفَاضَتْ قَالَ : فَلَا إذًا } وَصَحَّ { عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَامَ تِسْعٍ لَمَّا أَمَّرَهُ عَلَى الْمَوْسِمِ
يُنَادِي : أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عريان } وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ
أَنَّهُ أَمَرَ الطَّائِفِينَ بِالْوُضُوءِ وَلَا بِاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ كَمَا
أَمَرَ الْمُصَلِّينَ بِالْوُضُوءِ . فَنَهْيُهُ الْحَائِضَ عَنْ الطَّوَافِ
بِالْبَيْتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ لِكَوْنِهَا مَنْهِيَّةً
عَنْ اللُّبْثِ فِيهِ وَفِي الطَّوَافِ لُبْثٌ أَوْ عَنْ الدُّخُولِ إلَيْهِ
مُطْلَقًا لِمُرُورِ أَوْ لُبْثٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِ الطَّوَافِ
نَفْسِهِ يَحْرُمُ مَعَ الْحَيْضِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ الصَّلَاةُ
وَالصِّيَامُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ؛ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي أَحَدِ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَيْهَا الْقِرَاءَةَ كَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيِّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ تَنَازَعُوا فِي إبَاحَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَهَا وَلِلنُّفَسَاءِ قَبْلَ الْغُسْلِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : إبَاحَتُهَا لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَقَالَ هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَد . وَالثَّانِي : مَنْعُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ . وَالثَّالِثُ : إبَاحَتُهَا لِلنُّفَسَاءِ دُونَ الْحَائِضِ . اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَجْمُوعِهِمَا بِحَيْثُ لَوْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَحْرُمْ فَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ لِلْأَوَّلِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِنَّ لُبْثَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِضَرُورَةِ جَائِزٌ كَمَا لَوْ خَافَتْ مَنْ يَقْتُلُهَا إذَا لَمْ تَدْخُلْ الْمَسْجِدَ أَوْ كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا أَوْ لَيْسَ لَهَا مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { عن عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقُلْت : إنِّي حَائِضٌ
قَالَ : إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك } . { وعن مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ إحْدَانَا يَتْلُو الْقُرْآنَ وَهِيَ حَائِضٌ وَتَقُومُ إحْدَانَا بِخُمْرَتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَتَبْسُطُهَا وَهِيَ حَائِضٌ } رَوَاهُ النَّسَائِي . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبِ وَلَا حَائِضٍ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ . وَلِهَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُرُورِ وَاللُّبْثِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهَا مِنْ اللُّبْثِ وَالْمُرُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ الْمَسْجِدَ عَلَيْهَا وَقَدْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } . وَأَبَاحَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ اللُّبْثَ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ ؛ لِمَا رَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : " رَأَيْت رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إذَا تَوَضَّئُوا وُضُوءَ الصَّلَاةِ " وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُنُبَ أَنْ يَنَامَ حَتَّى
يَتَوَضَّأَ وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبِي { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ : إذَا أَصَابَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ فَلَا يَنَامُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ نَفْسَهُ تُصَابُ فِي نَوْمِهِ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ لَمْ تَشْهَدْ الْمَلَائِكَةُ جِنَازَتَهُ } وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُعَاوَدَةِ وَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ ذَهَبَتْ الْجَنَابَةُ عَنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا تَبْقَى جَنَابَتُهُ تَامَّةً وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدَثِ كَمَا أَنَّ الْمُحْدِثَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ عَلَيْهِ حَدَثٌ دُونَ الْجَنَابَةِ وَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فَوْقَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَهُوَ دُونُ الْجُنُبِ فَلَا تَمْتَنِعُ الْمَلَائِكَةُ عَنْ شُهُودِهِ فَلِهَذَا يَنَامُ وَيَلْبَثُ فِي الْمَسْجِدِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ تَتَبَعَّضُ فَتَزُولُ عَنْ بَعْضِ الْبَدَنِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْحَائِضُ فَحَدَثُهَا دَائِمٌ لَا يُمْكِنُهَا طَهَارَةٌ تَمْنَعُهَا عَنْ الدَّوَامِ فَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي مُكْثِهَا وَنَوْمِهَا وَأَكْلِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا تُمْنَعُ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْجُنُبُ مَعَ حَاجَتِهَا إلَيْهِ وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إذَا احْتَاجَتْ إلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَيَذْكُرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد فَإِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَيْهَا وَلَا يُمْكِنُهَا الطَّهَارَةُ كَمَا يُمْكِنُ الْجُنُبَ وَإِنْ كَانَ حَدَثُهَا أَغْلَظَ مِنْ
حَدَثِ الْجُنُبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا لَا تَصُومُ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ الدَّمُ وَالْجُنُبُ يَصُومُ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الصَّلَاةِ طَهُرَتْ أَوْ لَمْ تَطْهُرْ وَيُمْنَعُ الرَّجُلُ مِنْ وَطْئِهَا أَيْضًا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحَظْرِ فِي حَقِّهَا أَقْوَى لَكِنْ إذَا احْتَاجَتْ إلَى الْفِعْلِ اسْتَبَاحَتْ الْمَحْظُورَ مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الْحَظْرِ ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ . كَمَا يُبَاحُ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ الضَّرُورَةِ : مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَإِنْ كَانَ مَا هُوَ دُونَهَا فِي التَّحْرِيمِ لَا يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ : كَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَمَعَ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهَا وَتُبَاحُ بَلْ تَجِبُ مَعَ الْحَاجَةِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ دُونَهَا فِي التَّحْرِيمِ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لَا تُبَاحُ . وَإِذَا قُدِّرَ جُنُبٌ اسْتَمَرَّتْ بِهِ الْجَنَابَةُ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى غُسْلٍ أَوْ تَيَمُّمٍ فَهَذَا كَالْحَائِضِ فِي الرُّخْصَةِ وَإِنْ كَانَ هَذَا نَادِرًا وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُيَّضَ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدِ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ أَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَشُهُودِهِمَا عَرَفَةَ مَعَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ وَلَا يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا وَالْجُنُبُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَغْتَسِلَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ . فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَوْعِهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى غِلَظِ الْمَفْسَدَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحَظْرِ إلَّا وَيُنْظَرُ مَعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاجَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِذْنِ ؛ بَلْ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْبَابِ أَوْ الْإِيجَابِ . وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ مَعَهُ الصَّلَاةُ يَجِبُ مَعَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إذَا لَمْ تُمْكِنْ الصَّلَاةُ إلَّا كَذَلِكَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَعَ تِلْكَ الْأُمُورِ أَخَفُّ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ فَلَوْ صَلَّى بِتَيَمُّمِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَكَانَتْ الصَّلَاةُ مُحَرَّمَةً وَمَعَ عَجْزِهِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ كَانَتْ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ وَاجِبَةً بِالْوَقْتِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عريانا وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَمَعَ حُصُولِ النَّجَاسَةِ وَبِدُونِ الْقِرَاءَةِ ، وَصَلَاةُ الْفَرْضِ قَاعِدًا أَوْ بِدُونِ إكْمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَيَجِبُ مَعَ الْعَجْزِ . وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ : يَحْرُمُ أَكْلُهَا عِنْدَ الْغِنَى عَنْهَا وَيَجِبُ أَكْلُهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . قَالَ مَسْرُوقٌ : مَنْ اُضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ بِتَرْكِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَكْلِ الْمُبَاحِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِخِلَافِ الْمُجَاهِدِ بِالنَّفْسِ وَمَنْ
تَكَلَّمَ
بِحَقِّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ قُتِلَ مُجَاهِدًا فَفِي قَتْلِهِ
مُصْلِحَةٌ لِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَتَعْلِيلُ مَنْعِ طَوَافِ الْحَائِضِ : بِأَنَّهُ لِأَجْلِ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ
رَأَيْته يُعَلِّلُ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّ الطِّهَارَةَ وَاجِبَةٌ لَهُ لَا فَرْضَ فِيهِ وَلَا شَرْطَ لَهُ وَلَكِنَّ
هَذَا التَّعْلِيلَ يُنَاسِبُ الْقَوْلَ بِأَنَّ طَوَافَ الْمُحْدِثِ غَيْرُ
مُحَرَّمٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ رَوَاهُ أَحْمَد عَنْهُمَا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي مَنَاسِكِهِ :
حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ
حَمَّادٍ وَمَنْصُورٍ قَالَ : سَأَلْتهمَا عَنْ الرَّجُلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ
وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ :
سَأَلْت أَبِي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ
وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ صَلَاةٌ وَأَحْمَد عَنْهُ رِوَايَتَانِ
مَنْصُوصَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ : هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ ؟ أَمْ لَا ؟
وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ كَلَامُهُ فِيهَا يَقْتَضِي
رِوَايَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ : إنَّ الطَّهَارَةَ
لَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي الطَّوَافِ بَلْ سَنَةٌ مَعَ قَوْلِهِ : إنَّ فِي
تَرْكِهَا دَمًا فَمَنْ قَالَ : إنْ الْمُحْدِثَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطُوفَ
بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ - فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَعْلِيلُ الْمَنْعِ
بِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ لَا بِخُصُوصِ الطَّوَافِ لِأَنَّ الطَّوَافَ ؛ يُبَاحُ
فِيهِ الْكَلَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فَلَا يَكُونُ كَالصَّلَاةِ وَلِأَنَّ
الصَّلَاةَ مِفْتَاحُهَا الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا
التَّسْلِيمُ وَالطَّوَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ . وَيَقُولُ : إنَّمَا مُنِعَ
الْعُرَاةُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ نَظَرِ النَّاسِ وَلِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ
أَيْضًا .
وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ : الْمَطَافُ أَشْرَفُ الْمَسَاجِدِ وَلَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ طَائِفٍ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } فَأَمَرَ بِأَخْذِهَا عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَتِرَ لِنَفْسِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ تُفْعَلُ فِي جَمِيعِ الْبِقَاعِ فَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ السَّتْرِ لِلصَّلَاةِ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالِاعْتِكَافُ يُشْتَرَطُ فِيهِ جِنْسُ الْمَسَاجِدِ . وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَلَا يَحْرُمُ طَوَافُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ إذَا اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ كَمَا لَا يَحْرُمُ عِنْدَهُمْ الطَّوَافُ عَلَى الْمُحْدِثِ بِحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ وَهُمَا إذَا كَانَا مُضْطَرَّيْنِ إلَى ذَلِكَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُحْدِثِ الَّذِي يُجَوِّزُونَ لَهُ الطَّوَافَ مَعَ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْدِثَ مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الطِّهَارَةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِلْجُنُبِ مَعَ التَّيَمُّمِ وَإِذَا عَجَزَ عَنْ التَّيَمُّمِ صَلَّى بِلَا غَسْلٍ وَلَا تَيَمُّمٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا مَعَ الْجَنَابَةِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ التَّيَمُّمِ . وَالْحَائِضُ نُهِيَتْ عَنْ الصَّوْمِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُحْتَاجَةً إلَى الصَّوْمِ فِي الْحَيْضِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَصُومَ شَهْرًا آخَرَ غَيْرَ رَمَضَانَ فَإِذَا كَانَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ
مَعَ إمْكَانِ صَوْمِهِمَا جُعِلَ لَهُمَا أَنْ يَصُومَا شَهْرًا آخَرَ فَالْحَائِضُ الْمَمْنُوعَةُ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى أَنْ تَصُومَ شَهْرًا آخَرَ وَإِذَا أُمِرَتْ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ لَمْ تُؤْمَرْ إلَّا بِشَهْرِ وَاحِدٍ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا إلَّا مَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهَا ؛ وَلِهَذَا لَوْ اسْتَحَاضَتْ فَإِنَّهَا تَصُومُ مَعَ الِاسْتِحَاضَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إذْ قَدْ تَسْتَحِيضُ وَقْتَ الْقَضَاءِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا تَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَالْحَيْضُ مِمَّا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فَلَوْ قِيلَ : إنَّهَا تُصَلِّي مَعَ الْحَيْضِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ بِحَالِ وَكَانَ يَكُونُ الصَّوْمُ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مِنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَا تُصَلِّي وَقْتَ الْحَيْضِ إذَا كَانَ لَهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْقَاتَ الطُّهْرِ غنية عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الْحَيْضِ وَإِذَا كَانَتْ إنَّمَا مُنِعَتْ مِنْ الطَّوَافِ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ إبَاحَةَ ذَلِكَ لِلْعُذْرِ أَوْلَى مِنْ إبَاحَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ لِلْعُذْرِ وَلَوْ كَانَ لَهَا مُصْحَفٌ وَلَمْ يُمْكِنْهَا حِفْظُهُ إلَّا بِمَسِّهِ مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَأْخُذَهُ لِصٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ يَنْهَبَهُ أَحَدٌ أَوْ يَتَّهِبَهُ مِنْهَا وَلَمْ يُمْكِنْهَا مَنْعُهُ إلَّا بِمَسِّهِ لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهَا مَعَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ وَيَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ فِي الْمَسْجِدِ . فَعَلِمَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ وَإِذَا أُبِيحَ لَهَا مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْحَاجَةِ فَالْمَسْجِدُ الَّذِي حُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ الْمُصْحَفِ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ الطَّوَافِ لِمَعْنَى فِي نَفْسِ الطَّوَافِ
كَمَا مُنِعَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ كَانَ لِذَلِكَ وَلِلْمَسْجِدِ : كُلٌّ مِنْهُمَا
عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ . فَنَقُولُ : إذَا اُضْطُرَّتْ إلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَمْ
يُمْكِنْهَا الْحَجُّ بِدُونِ طَوَافِهَا وَهِيَ حَائِضٌ لِتَعَذُّرِ الْمُقَامِ
عَلَيْهَا إلَى أَنْ تَطْهُرَ فَهُنَا الْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ تَطُوفَ مَعَ
الْحَيْضِ وَبَيْنَ الضَّرَرِ الَّذِي يُنَافِي الشَّرِيعَةَ فَإِنَّ إلْزَامَهَا
بِالْمُقَامِ إذَا كَانَ فِيهِ خَوْفٌ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا وَفِيهِ
عَجْزُهَا عَنْ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهَا وَإِلْزَامُهَا بِالْمُقَامِ بِمَكَّةَ
مَعَ عَجْزِهَا عَنْ ذَلِكَ وَتَضَرُّرِهَا بِهِ : لَا تَأْتِي بِهِ الشَّرِيعَةُ
فَإِنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ وَلَمْ
يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَفِيهِ
قَوْلٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجِبُ إذَا أَمْكَنَهُ الْمُقَامُ . أَمَّا مَعَ
الضَّرَرِ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ
الْكَسْبِ فَلَا يُوجِبُ أَحَدٌ عَلَيْهِ الْمُقَامَ فَهَذِهِ لَا يَجِبُ
عَلَيْهَا حَجٌّ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى سُكْنَى مَكَّةَ . وَكَثِيرٌ مِنْ
النِّسَاءِ إذَا لَمْ تَرْجِعْ مَعَ مَنْ حَجَّتْ مَعَهُ لَمْ يُمْكِنْهَا بَعْدَ
ذَلِكَ الرُّجُوعُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُمْكِنُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الرُّجُوعُ
فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ
يَبْقَى وَطْؤُهَا مُحَرَّمًا مَعَ رُجُوعِهَا إلَى أَهْلِهَا وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ إلَى أَنْ تَعُودَ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الْحَرَجِ الَّذِي لَا يُوجِبُ اللَّهُ مِثْلَهُ إذْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ إيجَابِ حَجَّتَيْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ إلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً . وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالْمُفْسِدِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِتَفْرِيطِهِ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُحْصَرِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِعَدَمِ التَّفْرِيطِ ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يُوجِبُهُ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ عِنْدَهُ . وَإِذَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَرْأَةِ : بَلْ تَتَحَلَّلُ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْصَرُ فَهَذَا لَا يُفِيدُ سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْهَا فَتَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى حَجَّةٍ ثَانِيَةٍ ثُمَّ هِيَ فِي الثَّانِيَةِ تَخَافُ مَا خَافَتْهُ فِي الْأُولَى مَعَ أَنَّ الْمَحْصَرَ لَا يَحِلُّ إلَّا مَعَ الْعَجْزِ الْحِسِّيِّ إمَّا بِعَدُوِّ أَوْ بِمَرَضِ أَوْ فَقْرٍ أَوْ حَبْسٍ . فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مُحْصَرًا وَكُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ مَحْصَرًا فِي الشَّرْعِ فَهَذِهِ هِيَ التَّقْدِيرَاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُفْعَلَ : إمَّا مُقَامُهَا بِمَكَّةَ وَإِمَّا رُجُوعُهَا مُحْرِمَةً وَإِمَّا تَحَلُّلُهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا مَنَعَهُ الشَّرْعُ فِي حَقِّ مِثْلِهَا . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْحَجَّ يَسْقُطُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ كَمَا يَسْقُطُ عَمَّنْ لَا تَحُجُّ إلَّا مَعَ مَنْ يَفْجُرُ بِهَا لِكَوْنِ الطَّوَافِ مَعَ الْحَيْضِ يَحْرُمُ كَالْفُجُورِ .
قِيلَ
: هَذَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَبْنَاهُ عَلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَعَلَى { قول
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ
فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ
يُمْكِنْهَا فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ
غَيْرِهِمَا إلَّا مَعَ الْفُجُورِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ عِبَادَهُ بِأَمْرِ لَا يُمْكِنُ إلَّا
مَعَ الْفُجُورِ فَإِنَّ الزِّنَا لَا يُبَاحُ بِالضَّرُورَةِ كَمَا يُبَاحُ
أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَكِنْ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ
يُفْعَلَ بِهَا وَلَا تَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ فَهَذِهِ لَا فِعْلَ لَهَا
وَإِنْ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد :
إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ إلَّا الْأَقْوَالُ دُونَ
الْأَفْعَالِ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، أَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا
وَشُرْبِ الْخَمْرِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا . لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ
يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَأَمَّا الرَّجُلُ الزَّانِي : فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ هَلْ يَمْنَعُ الِانْتِشَارَ أَمْ
لَا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ يَقُولَانِ لَا يَكُونُ
الرَّجُلُ مُكْرَهًا عَلَى الزِّنَا . وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ الْعَبْدَ أَنْ
يَفْعَلَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّهُ
يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَمَا عَجَزَ عَنْهُ يَبْقَى سَاقِطًا كَمَا يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ عريانا وَمَعَ النَّجَاسَةِ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ إذَا لَمْ يُطِقْ إلَّا ذَلِكَ وَكَمَا يَجُوزُ الطَّوَافُ رَاكِبًا وَمَحْمُولًا لِلْعُذْرِ بِالنَّصِّ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَبِدُونِ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَكَمَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرْضِ لِلْمَرِيضِ قَاعِدًا أَوْ رَاكِبًا وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ بِدُونِ الْعُذْرِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَالصَّلَاةَ عريانا وَبِدُونِ الِاسْتِنْجَاءِ وَفِي الثَّوْبِ النَّجِسِ : حَرَامٌ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ وَمَعَ هَذَا فَلَأَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَعَ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهَا وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْخَوْفِ مَعَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَمَعَ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ مَعَ مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَمَعَ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ قَبْلَ السَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْعُذْرِ . فَإِنْ قِيلَ : الطَّوَافُ مَعَ الْحَيْضِ كَالصَّلَاةِ مَعَ الْحَيْضِ وَالصَّوْمِ مَعَ الْحَيْضِ وَذَلِكَ لَا يُبَاحُ بِحَالِ . قِيلَ : الصَّوْمُ مَعَ الْحَيْضِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِحَالِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا شَهْرٌ ، وَغَيْرُ رَمَضَانَ يَقُومُ مَقَامَهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُؤَدِّيَ الْفَرْضَ مَعَ الْحَيْضِ فَالنَّفْلُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ لَهَا مَنْدُوحَةً عَنْ ذَلِكَ بِالصِّيَامِ فِي وَقْتِ الطُّهْرِ كَمَا كَانَ لِلْمُصَلِّي الْمُتَطَوِّعِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّطَوُّعِ فِي أَوْقَاتٍ أُخَرَ فَلَمْ تَكُنْ مُحْتَاجَةً إلَى الصَّوْمِ مَعَ الْحَيْضِ بِحَالِ فَلَا تُبَاحُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا . كَمَا لَا تُبَاحُ صَلَاةُ
التَّطَوُّعِ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ بِخِلَافِ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ فَإِنَّ الرَّاجِحَ فِي الدَّلِيلِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : أَنَّهَا تَجُوزُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْهَا تَعَذَّرَ فِعْلُهَا وَفَاتَتْ مَصْلَحَتُهَا ؛ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُ . وَالصَّوْمُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَيْسَ لَهَا صَوْمٌ إلَّا وَيُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي أَيَّامِ الطُّهْرِ وَلِهَذَا جَازَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ : فَإِنَّهَا لَوْ أُبِيحَتْ مَعَ الْحَيْضِ لَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ بِحَالِ فَإِنَّ الْحَيْضَ مِمَّا يَعْتَادُ النِّسَاءَ كَمَا { قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ : إنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ } فَلَوْ أَذِنَ لَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّينَ بِالْحَيْضِ صَارَتْ الصَّلَاةُ مَعَ الْحَيْضِ كَالصَّلَاةِ مَعَ الطُّهْرِ . ثُمَّ إنْ أُبِيحَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ لَمْ يَبْقَ الْحَيْضُ مَانِعًا مَعَ أَنَّ الْجَنَابَةَ وَالْحَدَثَ الْأَصْغَرَ مَانِعٌ وَهَذَا تَنَاقُضٌ عَظِيمٌ وَإِنْ حُرِّمَ مَا دُونَ الصَّلَاةِ وَأُبِيحَتْ الصَّلَاةُ كَانَ أَيْضًا تَنَاقُضًا وَلَمْ تَكُنْ مُحْتَاجَةً إلَى الصَّلَاةِ زَمَنَ الْحَيْضِ فَإِنَّ لَهَا فِي الصَّلَاةِ زَمَنَ الطُّهْرِ - وَهُوَ أَغْلَبُ أَوْقَاتِهَا - مَا يُغْنِيهَا عَنْ الصَّلَاةِ أَيَّامَ الْحَيْضِ وَلَكِنْ رُخِّصَ لَهَا فِيمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ . وَقَدْ أُمِرَتْ مَعَ ذَلِكَ بِالِاغْتِسَالِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءَ أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لَمَّا نُفِسَتْ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ . وَأَمَرَ أَيْضًا بِذَلِكَ النِّسَاءَ مُطْلَقًا وَأَمَرَ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفِ
أَنْ
تَغْتَسِلَ وَتُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهَا بِالِاغْتِسَالِ مَعَ الْحَيْضِ
لِلْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تُلَبِّيَ
وَتَقِفَ بِعَرَفَةَ وَتَدْعُوَ وَتَذْكُرَ اللَّهَ وَلَا تَغْتَسِلَ وَلَا
تَتَوَضَّأَ وَلَا يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ كَمَا يُكْرَهُ لِلْجُنُبِ لَوْ فَعَلَ
ذَلِكَ بِدُونِ طَهَارَةٍ ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ وَغُسْلُهَا
وَوُضُوءُهَا لَا يُؤَثِّرَانِ فِي الْحَدَثِ الْمُسْتَمِرِّ بِخِلَافِ غُسْلِهَا
عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ غُسْلُ نَظَافَةٍ كَمَا يُغْتَسَلُ لِلْجُمُعَةِ .
وَلِهَذَا هَلْ يُتَيَمَّمُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَغْسَالِ إذَا عُدِمَ الْمَاءُ ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ هَلْ يُيَمَّمُ الْمَيِّتُ إذَا
تَعَذَّرَ غَسْلُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَلَيْسَ هَذَا كَغَسْلِ الْجَنَابَةِ
وَالْوُضُوءِ مِنْ الْحَدَثِ . وَمَعَ هَذَا فَلَمْ تُؤْمَرْ بِالْغَسْلِ عِنْدَ
دُخُولِ مَكَّةَ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ . فَلَمَّا نُهِيَتْ عَنْ الصَّلَاةِ
مَعَ الْحَيْضِ دُونَ الْأَذْكَارِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ
مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ وَمَا لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : سَائِرُ الْأَذْكَارِ تُبَاحُ لِلْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ فَلَا
حَظْرَ فِي ذَلِكَ . قِيلَ : الْجُنُبُ مَمْنُوعٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
وَيُكْرَهُ لَهُ الْأَذَانُ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْخُطْبَةُ وَكَذَلِكَ النَّوْمُ
بِلَا وُضُوءٍ وَكَذَلِكَ فِعْلُ الْمَنَاسِكِ بِلَا طَهَارَةٍ مَعَ قُدْرَتِهِ
عَلَيْهَا وَالْمُحْدِثُ أَيْضًا تُسْتَحَبُّ لَهُ الطَّهَارَةُ لِذِكْرِ اللَّهِ
تَعَالَى كَمَا { قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي كَرِهْت
أَنْ أَذْكُرَ
اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ } وَالْحَائِضُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُكْرَهُ الذِّكْرُ بِدُونِهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي ذَلِكَ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي مَنْعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ سُنَّةٌ أَصْلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ : { لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ } حَدِيثٌ ضَعِيفٌ . بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَأَحَادِيثُهُ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ يَغْلَطُ فِيهَا كَثِيرًا وَلَيْسَ لِهَذَا أَصْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَدَّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَا عَنْ نَافِعٍ وَلَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَصْحَابُهُمْ الْمَعْرُوفُونَ بِنَقْلِ السُّنَنِ عَنْهُمْ . وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ يَحِضْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِنَّ كَالصَّلَاةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ وَتَعْلَمُهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقُلُونَهُ إلَى النَّاسِ فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ نَهْيًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْعَلَ حَرَامًا مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الْحَيْضِ فِي زَمَنِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ . وَهَذَا كَمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْمَنِيَّ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَكَانَ يَأْمُرُ الصَّحَابَةَ بِإِزَالَتِهِ مِنْ أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَبْدَانَ النَّاسِ وَثِيَابَهُمْ
فِي الِاحْتِلَامِ فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ لَا بِغَسْلِ وَلَا فَرْكٍ مَعَ كَثْرَةِ إصَابَةِ ذَلِكَ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ عَلَى عَهْدِهِ وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ إزَالَتُهُ وَاجِبَةً وَلَا يَأْمُرُ بِهِ مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِذَلِكَ . كَمَا أَمَرَ بِالِاسْتِنْجَاءِ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْحَائِضِ بِإِزَالَةِ دَمِ الْحَيْضِ مِنْ ثَوْبِهَا . وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ وَمِنْ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ : لَمْ يَأْمُرْ الْمُسْلِمِينَ بِالْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ ابْتِلَائِهِمْ بِهِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ يَجِبُ الْأَمْرُ بِهِ وَكَانَ إذَا أَمَرَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْقُلَهُ الْمُسْلِمُونَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ . وَأَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَمِمَّا مَسَّتْ النَّارُ : أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ فَهَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا مُسْتَحَبًّا وَإِذَا كَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَتْ بِأَنَّهُ يُرَخَّصُ لِلْحَائِضِ فِيمَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْجُنُبِ لِأَجْلِ حَاجَتِهَا إلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ إمْكَانِ تَطَهُّرِهَا وَأَنَّهُ إنَّمَا حَرُمَ عَلَيْهَا مَا لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فَمُنِعَتْ مِنْهُ كَمَا مُنِعَتْ مِنْ الصَّوْمِ ؛ لِأَجْلِ حَدَثِ الْحَيْضِ وَعَدَمِ احْتِيَاجِهَا إلَى الصَّوْمِ وَمُنِعَتْ مِنْ الصَّلَاةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِاعْتِيَاضِهَا عَنْ صَلَاةِ الْحَيْضِ بِالصَّلَاةِ بِالطُّهْرِ فَهِيَ الَّتِي مُنِعَتْ مِنْ الطَّوَافِ إذَا أَمْكَنَهَا أَنْ تَطُوفَ مَعَ الطُّهْرِ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَلَيْسَ كَالصَّلَاةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ .
وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرِ } قَدْ قِيلَ : إنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الصَّلَاةِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ : أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلْقَادِمِ : الصَّلَاةُ ؟ أَوْ الطَّوَافُ ؟ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ . وَالْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مُسَمَّى الصَّلَاةِ وَمُسَمَّى الطَّوَافِ مُتَوَاتِرَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ نَوْعًا مِنْ الصَّلَاةِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الصَّلَاةُ مِفْتَاحُهَا الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } وَالطَّوَافُ لَيْسَ تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرَ وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمَ وَقَدْ تَنَازَعَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ الْحَدَثِ لَهُ وَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَمْ يُنْقَلْ شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ لَهُ ، وَمَنْعُ الْحَائِضِ لَا يَسْتَلْزِمُ
مَنْعَ الْمُحْدِثِ . وَتَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ : هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِيهِ ؟ أَوْ شَرْطٌ فِيهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِيهِ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ أَنَّهَا شَرْطٌ فِيهَا وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } وَالْقِرَاءَةُ فِيهِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بَلْ فِي كَرَاهَتِهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مَنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَمِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } فَنَهَى عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا . وَالطَّوَافُ يَجُوزُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِنَّ لَهَا تَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا وَنَهَى فِيهَا عَنْ الْكَلَامِ وَتُصَلَّى بِإِمَامِ وَصُفُوفٍ وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْقِرَاءَةُ فِيهَا سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا " سُجُودُ التِّلَاوَةِ " : فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ مَعَ أَنَّهُ سُجُودٌ وَهُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْفِعْلِيَّةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي حَالِ سُجُودِهِ بَلْ يُكَبِّرُ إذَا سَجَدَ وَإِذَا رَفَعَ وَيُسَلِّمُ أَيْضًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ هَذَا عِنْدَ مَنْ يُسَلِّمُ أَنَّ السُّجُودَ الْمُجَرَّدَ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ قَالَ : إنَّهُ يَجُوزُ بِدُونِ الْوُضُوءِ وَقَالَ : إنَّ السُّجُودَ الْمُجَرَّدَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا مُسَمَّى الصَّلَاةِ مَا لَهُ تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ . وَهَذَا السُّجُودُ لَمْ يُرْوَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ بَلْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ سَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ . وَسَجَدَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ } وَثَبَتَ عَنْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ الطَّهَارَةَ وَكَذَلِكَ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَلَّمَ فِيهِ وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ فِيهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ فِي التَّسْلِيمِ أَثَرًا . وَمَنْ قَالَ فِيهِ تَسْلِيمٌ فَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ حَيْثُ جَعَلَهُ صَلَاةً وَهُوَ مَوْضِعُ الْمَنْعِ . " وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ " قَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ لَكِنْ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ لَهَا تَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا فَهِيَ صَلَاةٌ وَلَيْسَ الطَّوَافُ مِثْلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا الْحَائِضُ مُحْتَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تُصَلِّ فَرْضَ الْعَيْنِ فَفَرْضُ الْكِفَايَةِ وَالنَّفْلِ أَوْلَى وَدُعَاؤُهَا لِلْمَيِّتِ وَاسْتِغْفَارُهَا لَهُ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا أَنَّ شُهُودَهَا الْعِيدَ وَذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْمُسْلِمِينَ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَالطَّوَافُ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ الْمَنَاسِكِ بِنَفْسِهِ وَلِكَوْنِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَبِأَنَّ الطَّوَافَ شُرِعَ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ وَشُرِعَ فِي الْعُمْرَةِ
وَشُرِعَ
فِي الْحَجِّ . وَأَمَّا الْإِحْرَامُ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَالْحَلْقُ فَلَا يُشْرَعُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَأَمَّا سَائِرُ
الْمَنَاسِكِ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيِ الْجِمَارِ
فَلَا يُشْرَعُ إلَّا فِي الْحَجِّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ يَسَّرَهُ لِلنَّاسِ وَجَعَلَ لَهُمْ التَّقَرُّبَ بِهِ مَعَ الْإِحْلَالِ
وَالْإِحْرَامِ فِي النسكين وَفِي غَيْرِهِمَا فَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ مَا
أَوْجَبَهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا حَرَّمَ فِيهِ مَا حَرَّمَهُ فِي الصَّلَاةِ .
فَعُلِمَ أَنَّ أَمْرَ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ : فَلَا يُجْعَلُ مِثْلَ الصَّلَاةِ .
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ طَوَافَ أَهْلِ الْآفَاقِ أَفْضَلُ مِنْ
الصَّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُمْكِنُهُمْ فِي
سَائِرِ الْأَمْصَارِ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَكَّةَ
، وَالْعَمَلُ الْمَفْضُولُ فِي مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ يُقَدَّمُ عَلَى الْفَاضِلِ
لَا لِأَنَّ جِنْسَهُ أَفْضَلُ كَمَا يُقَدَّمُ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ
عَلَى الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَيُقَدَّمُ الذِّكْرُ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ عَلَى الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ { النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا } وَكَمَا
تُقَدَّمُ الْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَكَمَا
تُقَدَّمُ إجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا
يَفُوتُ وَذَلِكَ لَا يَفُوتُ وَكَمَا إذَا اجْتَمَعَ صَلَاةُ الْكُسُوفِ
وَغَيْرُهَا قُدِّمَ مَا يُخَافُ فَوَاتُهُ فَالطَّوَافُ قُدِّمَ لِأَنَّهُ
يَفُوتُ الْآفَاقِيَّ إذَا خَرَجَ فَقُدِّمَ ذَلِكَ لَا لِأَنَّ جِنْسَهُ أَفْضَلُ
مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ بَلْ وَلَا مِثْلُهَا فَإِنَّ هَذَا لَا
يَقُولُهُ أَحَدٌ ، وَالْحَجُّ كُلُّهُ لَا يُقَاسُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الدِّينِ فَكَيْفَ يُقَاسُ بِهَا بَعْضُ أَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ الْحَجَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ وَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِ مَرَّتَيْنِ بَلْ إنَّمَا فَرَضَ طَوَافًا وَاحِدًا وَوُقُوفًا وَاحِدًا . وَكَذَلِكَ السَّعْيُ عَنْ أَحْمَد فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لَا يُوجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ إلَّا سَعْيًا وَاحِدًا إمَّا قَبْلَ التَّعْرِيفِ وَإِمَّا بَعْدَهُ بَعْدَ الطَّوَافِ وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجِبُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ إلَّا حَجَّ الْبَيْتِ لَمْ يُوجِبْ الْعُمْرَةَ وَلَكِنْ أَوْجَبَ إتْمَامَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى مَنْ يَشْرَعُ فِيهَا لِأَنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ فَيَجِبُ إتْمَامُهَا كَمَا يَجِبُ إتْمَامُ الْحَجِّ التَّطَوُّع وَاَللَّهُ لَمْ يُوجِبْ إلَّا مُسَمَّى الْحَجِّ لَمْ يُوجِبْ حجين أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ وَالْمُسَمَّى يَحْصُلُ بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ اسْمِ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَجِبُ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ فَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ يَجِبْ إلَّا عَمَلٌ وَاحِدٌ مَرَّتَيْنِ وَهَذَا خِلَافُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ فِي الْحَجِّ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْحَجَّ إذَا لَمْ يَجِبْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يُقَاسُ بِمَا يَجِبُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ .
وَهَذَا مِمَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ طَوَافِ الْحَائِضِ وَصَلَاةِ الْحَائِضِ فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهَا مَرَّةً فِي الْعُمْرِ وَقَدْ تَكَلَّفَتْ السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَحَمَلَتْ الْإِبِلُ أَثْقَالَهَا إلَى بَلَدٍ لَمْ يَكُنْ النَّاسُ بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ . فَأَيْنَ حَاجَةُ هَذِهِ إلَى الطَّوَافِ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي تَسْتَغْنِي عَنْهَا زَمَنَ الْحَيْضِ بِمَا تَفْعَلُهُ زَمَنَ الطُّهْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَائِضَ لَمْ تُمْنَعْ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا وَحَاجَتُهَا إلَى هَذَا الطَّوَافِ أَعْظَمُ . وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : الْقُرْآنُ تَقْرَؤُهُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالطَّوَافُ تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ . قِيلَ لَهُ : هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عَنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلَا بُدَّ لَك مِنْ حُجَّةٍ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فِي الطَّوَافِ . وَالِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ : { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يُشَبَّهَ بِالصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ الْمُشَبَّهُ كَالْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ كَالصَّلَاةِ فِي اجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ الَّتِي تَحْرُمُ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَأَمَّا مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَهُوَ الْكَلَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مُبْطِلًا لِلطَّوَافِ وَإِنْ كُرِهَ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَشْغَلُ عَنْ مَقْصُودِهِ كَمَا يُكْرَهُ مِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ . وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ } وَقَوْلُهُ : { إذَا خَرَجَ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ .
وَلِهَذَا قَالَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَكُمْ فِيهِ الْكَلَامَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُبَاحُ فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَهَذِهِ مَحْظُورَاتُ الصَّلَاةِ الَّتِي تُبْطِلُهَا : الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ وَلَا يُبْطِلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الطَّوَافَ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِيهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا يُكْرَهُ الْعَبَثُ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَوْ قَطَعَ الطَّوَافَ لِصَلَاةِ مَكْتُوبَةٍ أَوْ جِنَازَةٍ أُقِيمَتْ بَنَى عَلَى طَوَافِهِ . وَالصَّلَاةُ لَا تُقْطَعُ لِمِثْلِ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ مَحْظُورَاتُ الصَّلَاةِ مَحْظُورَةً فِيهِ وَلَا وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ وَاجِبَاتٌ فِيهِ كَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ مِثْلُ الصَّلَاةِ فِيمَا يَجِبُ لَهَا وَيَحْرُمُ فِيهَا فَمَنْ أَوْجَبَ لَهُ الطَّهَارَة الصُّغْرَى فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَمَا أَعْلَمُ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ . ثُمَّ تَدَبَّرْت وَتَبَيَّنَ لِي أَنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَا تُشْتَرَطُ فِي الطَّوَافِ وَلَا تَجِبُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ فِيهِ الطَّهَارَةُ الصُّغْرَى فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا فِيهِ وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فِيهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ جِنْسَ الطَّوَافِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَلْ جِنْسُ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْأَقْوَالِ ، وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ مَا فِيهَا مِنْ الْأَفْعَالِ وَالطَّوَافُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ . وَإِذَا قِيلَ : الطَّوَافُ قَدْ فُرِضَ بَعْضُهُ قِيلَ لَهُ قَدْ فُرِضَتْ الْقِرَاءَةُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَلَا تَصِحُّ صَلَاةٌ إلَّا بِقِرَاءَةِ فَكَيْفَ يُقَاسُ الطَّوَافُ
بِالصَّلَاةِ . وَإِذَا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ . وَهِيَ تَجُوزُ لِلْحَائِضِ مَعَ حَاجَتِهَا إلَيْهَا فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فَالطَّوَافُ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ مَعَ الْحَاجَةِ . وَإِذَا قِيلَ : أَنْتُمْ تُسَلِّمُونَ أَنَّ الطَّوَافَ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورٌ عَلَى الْحَائِضِ وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ . قِيلَ : مَنْ عَلَّلَ بِالْمَسْجِدِ فَلَا يُسَلِّمُ أَنَّ نَفْسَ فِعْلِهِ مَحْظُورٌ لِنَفَسِهِ وَمَنْ سَلَّمَ ذَلِكَ يَقُولُ : وَكَذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ مَحْظُورٌ عَلَى الْحَائِضِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ يُحَرِّمُهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ فَإِذَا أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ فَالطَّوَافُ أَوْلَى . ثُمَّ مَسُّ الْمُصْحَفِ يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ سَلْمَانَ وَسَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَحُرْمَةُ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسَاجِدِ وَمَعَ هَذَا إذَا اُضْطُرَّ الْجُنُبُ وَالْمُحْدِثُ وَالْحَائِضُ إلَى مَسِّهِ مَسَّهُ فَإِذَا اُضْطُرَّ إلَى الطَّوَافِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ فِيهِ مُطْلَقًا كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . فَإِذَا قِيلَ : الطَّوَافُ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ . قِيلَ : وَمَسُّ الْمُصْحَفِ قَدْ يَجِبُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِصِيَانَتِهِ الْوَاجِبَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ أَوْ الْحَمْلِ الْوَاجِبِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَدَاءُ الْوَاجِبِ إلَّا بِمَسِّهِ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا
إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ } وَقَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ } { وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لَجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ } . بَلْ اشْتِرَاطُ الْوُضُوءِ فِي الصَّلَاةِ وَخِمَارُ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ وَمَنْعُ الصَّلَاةِ بِدُونِ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ مَنْعِ الطَّوَافِ مَعَ الْحَيْضِ وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرُمَ الْمَسْجِدُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ { ورخص لِلْحَائِضِ أَنْ تُنَاوِلَهُ الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَقَالَ لَهَا : إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك } تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَيْضَةَ فِي الْفَرْجِ وَالْفَرْجُ لَا يَنَالُ الْمَسْجِدَ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ لِلْحَائِضِ مُطْلَقًا لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ { قال : لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبِ وَلَا حَائِضٍ } فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ ذَلِكَ وَالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ فَهَذَا عَامٌّ مُجْمَلٌ وَهَذَا خَاصٌّ فِيهِ إبَاحَةُ الْمُرُورِ وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ فَإِبَاحَةُ الطَّوَافِ لِلضَّرُورَةِ لَا تُنَافِي تَحْرِيمَهُ بِذَلِكَ النَّصِّ كَإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ لِلْمَرْأَةِ بِلَا خِمَارٍ لِلضَّرُورَةِ وَإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ لِلضَّرُورَةِ بِالتَّيَمُّمِ ؛ بَلْ وَبِلَا وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ لَمَّا فَقَدُوا الْمَاءَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَكَإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِلَا قِرَاءَةٍ لِلضَّرُورَةِ مَعَ قَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } . وَكَإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ مَعَ النَّجَاسَةِ لِلضَّرُورَةِ مَعَ قَوْلِهِ : " حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ثُمَّ صَلِّي فِيهِ " وَإِبَاحَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَكَانِ النَّجِسِ لِلضَّرُورَةِ مَعَ قَوْلِهِ : { جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا }
بَلْ تَحْرِيمُ الدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَعْظَمُ الْأُمُورِ وَقَدْ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ . وَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَنَاسِكِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ لِنَهْيِ الْحَائِضِ عَنْهُ فَالصَّلَاةُ أَكْمَلُ مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَسْجِدِ فَلِهَاتَيْنِ الْحُرْمَتَيْنِ مُنِعَتْ مِنْهُ الْحَائِضُ وَلَمْ تَأْتِ سُنَّةٌ تَمْنَعُ الْمُحْدِثَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْمُحْدِثِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ مَعَ الضَّرُورَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ حَرُمَ عَلَيْهَا مَعَ الْحَدَثِ فَلَا يَلْزَمُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ مَعَ الضَّرُورَةِ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ . وَمَنْ جَعَلَ حُكْمَ الطَّوَافِ مِثْلَ حُكْمِ الصَّلَاةِ فِيمَا يَجِبُ وَيَحْرُمُ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِ أَحَدٍ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ ، وَدَلِيلٌ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ ذَلِكَ تُقَرَّرُ مُقَدِّمَاتُهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِأَقْوَالِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ يُحْتَجُّ لَهَا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَمَنْ تَرَبَّى عَلَى مَذْهَبٍ قَدْ تَعَوَّدَهُ وَاعْتَقَدَ مَا فِيهِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ وَتَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَاءَ عَنْ الرَّسُولِ وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ بِحَيْثُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَبَيْنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَيَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ
وَإِنَّمَا
هُوَ مِنْ الْمُقَلِّدَةِ النَّاقِلِينَ لِأَقْوَالِ غَيْرِهِمْ مِثْلَ
الْمُحَدِّثِ عَنْ غَيْرِهِ . وَالشَّاهِدُ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ حَاكِمًا
وَالنَّاقِلُ الْمُجَرَّدُ يَكُونُ حَاكِيًا لَا مُفْتِيًا . وَلَا يَحْتَمِلُ
حَالُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ إلَّا تِلْكَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ أَوْ هَذَا
الْقَوْلَ أَوْ أَنْ يُقَالَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الْوُقُوفِ يُجْزِئُ
إذَا تَعَذَّرَ الطَّوَافُ بَعْدَهُ . كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ
مَالِكٍ فِيمَنْ نَسِيَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ حَتَّى عَادَ إلَى بَلَدِهِ أَنَّهُ
يُجْزِئُهُ طَوَافُ الْقُدُومِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِيهِ فَرَجٌ
فَإِنَّهَا قَدْ يَمْتَدُّ بِهَا الْحَيْضُ مِنْ حِينِ تَدْخُلُ مَكَّةَ إلَى أَنْ
يَخْرُجَ الْحَاجُّ .
وَفِيهِ أَيْضًا تَقْدِيمُ الطَّوَافِ قَبْلَ وَقْتِهِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَالْمَنَاسِكُ قَبْلَ وَقْتِهَا لَا تُجْزِئُ .
وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ مَعَ الْحَدَثِ
وَبَيْنَ أَنْ لَا تَطُوفَهُ كَانَ أَنْ تَطُوفَهُ مَعَ الْحَدَثِ أَوْلَى فَإِنَّ
فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ نِزَاعًا مَعْرُوفًا وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَقُولُونَ :
إنَّهَا فِي حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ إذَا طَافَتْ مَعَ الْحَيْضِ
أَجْزَأَهَا وَعَلَيْهَا دَمٌ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهَا تَأْثَمُ بِذَلِكَ وَلَوْ
طَافَتْ قَبْلَ التَّعْرِيفِ لَمْ يُجْزِئْهَا وَهَذَا الْقَوْلُ مَشْهُورٌ
مَعْرُوفٌ . فَتَبَيَّنَ لَك أَنَّ الطَّوَافَ مَعَ الْحَيْضِ أَوْلَى مِنْ
الطَّوَافِ قَبْلَ الْوَقْتِ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُونَ : إنَّ
الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ فِيهَا لَا شَرْطٌ فِيهَا وَالْوَاجِبَاتُ كُلُّهَا
تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ
مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُلَّ مَا يَجِبُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَلَيْسَ بِفَرْضِ وَإِنَّمَا الْفَرْضُ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ . وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ لَمَّا أَسْقَطَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَائِضِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنِ ؛ بَلْ يَجْبُرُهُ دَمٌ . وَكَذَلِكَ الْمَبِيتُ بِمِنَى لَمَّا أَسْقَطَهُ عَنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ ؛ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ يَجْبُرُهُ دَمٌ . وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ لَمَّا جَوَّزَ فِيهِ لِلرُّعَاةِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ التَّأْخِيرَ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِفَرْضِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا رَخَّصَ لِلضَّعَفَةِ أَنْ يُفِيضُوا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بمزدلفة بَعْدَ الْفَجْرِ لَيْسَ بِفَرْضِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ يَجْبُرُهُ الدَّمُ . فَهَذَا حُجَّةٌ لِهَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَهَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ كالطَّحَاوِي وَغَيْرِهِ . فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُمْ إنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا فِي الطَّوَافِ وَشَرْطًا فِيهِ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ تُجْبَرُ بِدَمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ مَا أُوجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ إنَّمَا هُوَ فَرْضٌ عِنْدَهُمْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ لَا يَجْبُرُ بِدَمِ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَتْ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةً فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ سَقَطَتْ مَعَ الْعَجْزِ كَمَا سَقَطَ سَائِرُ الْوَاجِبَاتِ مَعَ الْعَجْزِ كَطَوَافِ الْوَدَاعِ وَكَمَا يُبَاحُ
لِلْمُحْرِمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ حَاجَةٍ عَامَّةٍ كَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ فَلَا فِدْيَةَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ بِخِلَافِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ إلَّا مَعَ الْفِدْيَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ فِي الْجَمِيعِ . وَحِينَئِذٍ فَهَذِهِ الْمُحْتَاجَةُ إلَى الطَّوَافِ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ إنَّهُ يَلْزَمُهَا دَمٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . فَإِنَّ الدَّمَ يَلْزَمُهَا بِدُونِ الْعُذْرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةً وَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ فَهَذَا غَايَةُ مَا يُقَالُ فِيهَا . وَالْأَقْيَسُ أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ . وَأَمَّا أَنْ يُجْعَلَ هَذَا وَاجِبًا يَجْبُرُهُ دَمٌ وَيُقَالَ : أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ لِلضَّرُورَةِ فَهَذَا خِلَافُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُضْطَرَّةَ إلَى الطَّوَافِ مَعَ الْحَيْضِ لَمَّا كَانَ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُفْتِيهَا بِالْإِجْزَاءِ مَعَ الدَّمِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُضْطَرَّةً . لَمْ تَكُنْ الْأُمَّةُ مُجَمَّعَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهَا إلَّا الطَّوَافُ مَعَ الطُّهْرِ مُطْلَقًا وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ مَعَ الْمُنَازِعِ الْقَائِلِ بِذَلِكَ لَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُسْتَلْزِمٌ لِجَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا ؟ وَأَنَّ قَوْلَ الْنُّفَاةِ لِلْوُجُوبِ أَظْهَرُ . فَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ مُطْلَقًا وَلَا عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ الطَّهَارَةِ شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ . وَأَمَّا الَّذِي لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَطُوفَ مَعَ الْحَيْضِ إذَا
كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الطَّوَافِ مَعَ الطُّهْرِ فَمَا أَعْلَمُ مُنَازِعًا أَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا وَتَأْثَمُ بِهِ وَتَنَازَعُوا فِي إجْزَائِهِ : فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْزِئُهَا ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَإِنَّ أَحْمَد نَصَّ فِي رِوَايَةٍ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ إذَا طَافَ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى حَالِ النِّسْيَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا إذْ لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَمَا سَقَطَتْ بِالنِّسْيَانِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ ؛ بِخِلَافِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ إذَا صَلَّى نَاسِيًا لَهَا أَوْ جَاهِلًا بِهَا لَا يُعِيدُ . لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَإِذَا فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ فَيَكُونُ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ . ثُمَّ إنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ لَيْسَتْ عِنْدَهُ رُكْنًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَلْ وَاجِبَةٌ تُجْبَرُ بِدَمِ وَحَكَى هَؤُلَاءِ فِي صِحَّةِ طَوَافِ الْحَائِضِ رِوَايَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : لَا يَصِحُّ وَالثَّانِيَةُ : يَصِحُّ وَتَجْبُرُهُ بِدَمِ . وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا أَبُو الْبَرَكَاتِ وَغَيْرُهُ كَذَلِكَ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَنَّ هَذَا النِّزَاعَ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ .
وَذَكَرَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ : رِوَايَةٌ يُجْزِئُهُ الطَّوَافُ مَعَ الْجَنَابَةِ نَاسِيًا وَلَا دَمَ عَلَيْهِ . وَرِوَايَةٌ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا . وَرِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ النِّزَاعَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد إنَّمَا هُوَ فِي الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ دُونَ الْحَائِضِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . بَلْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الْحَائِضِ وَغَيْرِهَا ، وَكَلَامُ أَحْمَد يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي طَوَافِ الْحَائِضِ وَفِي طَوَافِ الْجُنُبِ وَكَانَ يَذْكُرُ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " الشَّافِي " عَنْ الميموني قَالَ : قُلْت لِأَحْمَدَ : مَنْ سَعَى وَطَافَ طَوَافَ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ ثُمَّ وَاقَعَ أَهْلَهُ فَقَالَ : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ النَّاسُ فِيهَا مُخْتَلِفُونَ وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنُ عُمَرَ وَمَا يَقُولُ عَطَاءٌ وَمَا يُسَهِّلُ فِيهِ وَمَا يَقُولُ الْحَسَنُ { وَأَمْرَ عَائِشَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَاضَتْ : افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ إنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ } فَقَدْ بُلِيَتْ بِهِ نَزَلَ بِهَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِهَا . قَالَ الميموني : قُلْت : فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَقَالَ : نَعَمْ كَذَلِكَ أَكْثَرُ عِلْمِي وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا هِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْتَبِهَةٌ فِيهَا نَظَرٌ دَعْنِي حَتَّى أَنْظُرَ فِيهَا . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ يَرْجِعُ حَتَّى يَطُوفَ . قُلْت : وَالنِّسْيَانُ قَالَ : وَالنِّسْيَانُ أَهْوَنُ حُكْمًا بِكَثِيرِ ؟ يُرِيدُ أَهْوَنُ مِمَّنْ يَطُوفُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُتَعَمِّدًا .
قَالَ أبو بكر عبد العزيز : قَدْ بَيَّنَّا أَمْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فِي أَحْكَامِ الطَّوَافِ عَلَى قَوْلَيْنِ يَعْنِي لِأَحْمَدَ . أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : إذَا طَافَ الرَّجُلُ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ أَنَّ الطَّوَافَ يُجْزِئُ عَنْهُ إذَا كَانَ نَاسِيًا . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَكُونَ طَاهِرًا فَإِنْ وَطِئَ وَقَدْ طَافَ غَيْرَ طَاهِرٍ نَاسِيًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ : مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الطَّوَافِ فَمَنْ أَجَازَ الطَّوَافَ غَيْرَ طَاهِرٍ قَالَ تَمَّ حَجُّهُ وَمَنْ لَمْ يُجِزْهُ إلَّا طَاهِرًا رَدَّهُ مِنْ أَيِّ الْمَوَاضِعِ ذَكَرَ حَتَّى يَطُوفَ . قَالَ : وَبِهَذَا أَقُولُ . فأبو بكر وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يَقُولُونَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُجْزِئُهُ مَعَ الْعُذْرِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَكَلَامُ أَحْمَد بَيِّنٌ فِي هَذَا . وَجَوَابُ أَحْمَد الْمَذْكُورُ يُبَيِّنُ أَنَّ النِّزَاعَ عِنْدَهُ فِي طَوَافِ الْحَائِضِ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا التَّسْهِيلُ فِي هَذَا . وَمِمَّا نُقِلَ عَنْ عَطَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ فَإِنَّهَا تُتِمُّ طَوَافَهَا وَهَذَا صَرِيحٌ عَنْ عَطَاءٌ أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ الْحَيْضِ لَيْسَتْ شَرْطًا وَقَوْلُهُ : مِمَّا اعْتَدَّ بِهِ أَحْمَد وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَأَنَّ { قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ } يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَمْرٌ بَلِيَتْ بِهِ نَزَلَ عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِهَا فَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي ذَلِكَ . وَلِهَذَا تَعَذَّرَ إذَا حَاضَتْ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهَا بَلْ
تُقِيمُ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ أَقَامَتْ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا حَاضَتْ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا تَشْهَدُ الْمَنَاسِكَ بِلَا كَرَاهَةٍ وَتَشْهَدُ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا كَرَاهَةٍ وَتَدْعُو وَتَذْكُرُ اللَّهَ وَالْجُنُبُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّهَارَةِ وَهَذِهِ عَاجِزَةٌ عَنْهَا فَهِيَ مَعْذُورَةٌ كَمَا عَذَرَهَا مِنْ جَوَّزَ لَهَا الْقِرَاءَةَ بِخِلَافِ الْجُنُبِ الَّذِي يُمْكِنُهُ الطَّهَارَةُ فَالْحَائِضُ أَحَقُّ بِأَنْ تُعْذَرَ مِنْ الْجُنُبِ الَّذِي طَافَ مَعَ الْجَنَابَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ الطَّهَارَةُ وَهَذِهِ تَعْجِزُ عَنْ الطِّهَارَةِ وَعُذْرُهَا بِالْعَجُزِ وَالضَّرُورَةِ أَوْلَى مِنْ عُذْرِ الْجُنُبِ بِالنِّسْيَانِ فَإِنَّ النَّاسِيَ لَمَّا أُمِرَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ يُؤْمَرُ بِهَا إذَا ذَكَرَهَا وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيُصَلِّيَ إذَا ذَكَرَ ؛ بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْ الشَّرْطِ : مِثْلَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ كَذَلِكَ الْعَاجِزِ عَنْ سَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ : كَالْعَاجِزِ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِيَامِ وَعَنْ تَكْمِيلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَعَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ هَذَا يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْعِبَادَاتِ . فَهَذِهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهَا الطَّوَافُ عَلَى الطَّهَارَةِ سَقَطَ عَنْهَا مَا تَعْجِزُ عَنْهُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا الطَّوَافُ الَّذِي تَقْدِرُ عَلَيْهِ بِعَجْزِهَا عَمَّا هُوَ رُكْنٌ فِيهِ أَوْ وَاجِبٌ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا
اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا
أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَهَذِهِ لَا
تَسْتَطِيعُ إلَّا هَذَا وَقَدْ اتَّقَتْ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَتْ فَلَيْسَ
عَلَيْهَا غَيْرُ ذَلِكَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي طَافَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُتَعَمِّدًا آثِمٌ
وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَد الْقَوْلَيْنِ : هَلْ عَلَيْهِ دَمٌ ؟ أَمْ يَرْجِعُ
فَيَطُوفُ ؟ وَذِكْرُ النِّزَاعِ فِي ذَلِكَ وَكَلَامُهُ يُبَيِّنُ فِي أَنَّ
تَوَقُّفَهُ فِي الطَّائِفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ يَتَنَاوَلُ الْحَائِضَ
وَالْجُنُبَ مَعَ التَّعَمُّدِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ أَمْرَ النَّاسِي أَهْوَنُ
بِكَثِيرِ وَالْعَاجِزُ عَنْ الطَّهَارَةِ أعذر مِنْ النَّاسِي . وَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " الشَّافِي " : ( بَابٌ فِي الطَّوَافِ
بِالْبَيْتِ غَيْرِ طَاهِرٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي
طَالِبٍ : وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ إلَّا طَاهِرًا وَالتَّطَوُّعُ
أَيْسَرُ وَلَا يَقِفُ مُشَاهِدَ الْحَجِّ إلَّا طَاهِرًا . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : إذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهُوَ نَاسٍ
لِطَهَارَتِهِ حَتَّى رَجَعَ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَاخْتَارَ لَهُ أَنْ يَطُوفَ
وَهُوَ طَاهِرٌ وَإِنْ وَطِئَ فَحَجُّهُ مَاضٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . فَهَذَا
النَّصُّ مِنْ أَحْمَد صَرِيحٌ بِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا وَأَنَّهُ
لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا طَافَ نَاسِيًا لِطَهَارَتِهِ لَا دَمَ وَلَا غَيْرَهُ
وَأَنَّهُ إذَا وَطِئَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَجُّهُ مَاضٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا
أَنَّهُ لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ التَّطَوُّعِ
وَغَيْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ فَأَمَرَ بِالطَّهَارَةِ فِيهِ . وَفِي سَائِرِ الْمَنَاسِكِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا عِنْدَهُ فَقَطَعَ هُنَا بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ النِّسْيَانِ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا : إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ يَتَوَضَّأُ وَيُعِيدُ الطَّوَافَ وَإِذَا طَافَ وَهُوَ جُنُبٌ فَإِنَّهُ يَغْتَسِلُ وَيُعِيدُ الطَّوَافَ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ عَطَاءٌ إذَا طَافَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَلْيُعِدْ طَوَافَهُ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : ( بَابٌ فِي الطَّوَافِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : وَإِذَا طَافَ رَجُلٌ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ فَإِنَّ الْحَسَنُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَا يَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يَطُوفَ إلَّا فِي ثَوْبٍ طَاهِرٍ . وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَحْمَد يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الطَّوَافُ عِنْدَهُ كَالصَّلَاةِ فِي شُرُوطِهَا فَإِنَّ غَايَةَ مَا ذَكَرَ فِي الطَّوَافِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ أَنَّ الْحَسَنُ كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطُوفَ إلَّا فِي ثَوْبٍ طَاهِرٍ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ تُقَالُ فِي الْمُسْتَحَبِّ الْمُؤَكَّدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إذَا طَافَ وَعَلَيْهِ نَجَاسَةٌ صَحَّ طَوَافُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَبِالْجُمْلَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ لِلطَّوَافِ شُرُوطُ الصَّلَاةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا : يُشْتَرَطُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا .
وَالثَّانِي : لَا يُشْتَرَطُ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ الْمُشْتَرِطِينَ فِي الطَّوَافِ كَشُرُوطِ الصَّلَاةِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ إلَّا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الطَّائِفِينَ طَهَارَةً وَلَا اجْتِنَابَ نَجَاسَةٍ بَلْ قَالَ : { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } وَالطَّوَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالطَّوَافُ لَا يَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَحْرُمُ فِيهِ مَا يَحْرُمُ فِي الصَّلَاةِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهَا . وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ الْقِيَاسِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ فَكَانَتْ الطَّهَارَةُ وَغَيْرُهَا شَرْطًا فِيهَا كَالصَّلَاةِ وَهَذَا الْقِيَاسُ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ كَوْنُهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ . وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مَا بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ أَوْ دَلِيلُ الْعِلَّةِ . أَيْضًا فَالطَّهَارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا صَلَاةً سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِالْبَيْتِ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى الصَّخْرَةِ كَانَتْ الطَّهَارَةُ أَيْضًا شَرْطًا فِيهَا وَلَمْ تَكُنْ مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا صَلَّى .
إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَمَا يُصَلِّي الْمُتَطَوِّعُ فِي السَّفَرِ وَكَصَلَاةِ الْخَوْفِ رَاكِبًا فَإِنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ . وَأَيْضًا فَالنَّظَرُ إلَى الْبَيْتِ عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ وَلَا غَيْرُهَا . ثُمَّ هُنَاكَ عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا الْمَسْجِدُ وَلَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهَا كَالِاعْتِكَافِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فَلَيْسَ إلْحَاقُ الطَّائِفِ بِالرَّاكِعِ السَّاجِدِ بِأَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْعَاكِفِ بَلْ بِالْعَاكِفِ أَشْبَهُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ وَالْعُكُوفِ وَلَيْسَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ . فَإِنْ قِيلَ : الطَّائِفُ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِطَهَارَةِ . قِيلَ : وُجُوبُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِيهِ نِزَاعٌ وَإِذَا قُدِّرَ وُجُوبُهُمَا لَمْ تَجِبْ فِيهِمَا الْمُوَالَاةُ وَلَيْسَ اتِّصَالُهُمَا بِالطَّوَافِ بِأَعْظَمَ مِنْ اتِّصَالِ الصَّلَاةِ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ خَطَبَ مُحْدِثًا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ جَازَ فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَطُوفَ مُحْدِثًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَهَذَا كَثِيرٌ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ إذَا نَسِيَ الطَّهَارَةَ فِي الْخُطْبَةِ وَالطَّوَافِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيُصَلِّيَ وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ جَازَ . وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا : يَبْقَى الْأَمْرُ دَائِرًا بَيْنَ أَنْ
تَكُونَ وَاجِبَةً وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً وَهُمَا قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لَكِنْ مَنْ يَقُولُ هِيَ سُنَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ : مَعَ ذَلِكَ عَلَيْهَا دَمٌ . وَأَمَّا أَحْمَد فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهَا لَا دَمَ وَلَا غَيْرَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَنْ طَافَ جُنُبًا وَهُوَ نَاسٍ فَإِذَا طَافَتْ حَائِضًا مَعَ التَّعَمُّدِ تَوَجَّهَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهَا . وَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَهُنَا غَايَةُ مَا يُقَالُ : إنَّ عَلَيْهَا دَمًا وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ تُؤْمَرُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا مَعَ الْعَجْزِ فَإِنَّ لُزُومَ الدَّمِ إنَّمَا يَجِبُ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ وَهِيَ لَمْ تَتْرُكْ مَأْمُورًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَمْ تَفْعَلْ مَحْظُورًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ؛ فَإِنَّ الطَّوَافَ يَفْعَلُهُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فَصَارَ الْحَظْرُ هُنَا مِنْ جِنْسِ حَظْرِ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ وَاعْتِكَافِ الْحَائِضِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ مَسِّ الْمُصْحَفِ أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ بِلَا دَمٍ ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ إنَّمَا يَجُوزُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَهِيَ حِينَئِذٍ يُبَاحُ لَهَا الْمَحْظُورَاتُ إلَّا الْجِمَاعَ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ طَوَافُهَا مَعَ الْحَيْضِ مُمْكِنًا أُمِرَتْ بِطَوَافِ الْقُدُومِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْقَطَ طَوَافَ الْوَدَاعِ عَنْ الْحَائِضِ وَأَمَرَ عَائِشَةَ لَمَّا قَدِمَتْ وَهِيَ مُتَمَتِّعَةٌ فَحَاضَتْ أَنْ تَدَعَ أَفْعَالَ
الْعُمْرَةِ وَتُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهَا الطَّوَافُ . قِيلَ : الطَّوَافُ مَعَ الْحَيْضِ مَحْظُورٌ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ لِلطَّوَافِ أَوْ لَهُمَا . وَالْمَحْظُورَاتُ لَا تُبَاحُ إلَّا حَالَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ بِهَا إلَى طَوَافِ الْوَدَاعِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْحَجِّ . وَلِهَذَا لَا يُوَدِّعُ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا يُوَدِّعُ الْمُسَافِرُ عَنْهَا فَيَكُونُ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ . وَكَذَلِكَ طَوَافُ الْقُدُومِ لَيْسَتْ مُضْطَرَّةً إلَيْهِ بَلْ لَوْ قَدِمَ الْحَاجُّ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَلَيْهِ بَدَأَ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَطُفْ لِلْقُدُومِ فَهُوَ إنْ أَمَرَ بِهِمَا الْقَادِرَ عَلَيْهِمَا إمَّا أَمْرَ إيجَابٍ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ اسْتِحْبَابٍ . فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا . وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا رُكْنًا يَجِبُ عَلَى كُلِّ حَاجٍّ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بِخِلَافِ طَوَافِ الْفَرْضِ فَإِنَّهَا مُضْطَرَّةً إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَجَّ إلَّا بِهِ وَهَذَا كَمَا يُبَاحُ لَهَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا تَدْخُلُهُ لِصَلَاةِ وَلَا اعْتِكَافٍ وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا ؛ بَلْ الْمُعْتَكِفَةُ إذَا حَاضَتْ خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَنَصَبَتْ لَهَا قُبَّةً فِي فِنَائِهِ . وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْعَ الْحَائِضِ مِنْ الطَّوَافِ كَمَنْعِهَا مِنْ الِاعْتِكَافِ فِيهِ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ وَإِلَّا فَالْحَيْضُ لَا يُبْطِلُ اعْتِكَافَهَا ؛ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةً إلَيْهِ بَلْ إنَّمَا تُمْنَعُ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا مِنْ الِاعْتِكَافِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُضْطَرَّةً إلَى أَنْ تُقِيمَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ أُبِيحَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ دَوَامِ الْحَيْضِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إبَاحَةُ الْمَسْجِدِ لِلْحَيْضِ . وَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا يُمْكِنُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِبُقْعَةِ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَ كَالِاعْتِكَافِ فَإِنَّ الْمُعْتَكِفَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ : كَقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي حَالِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ لَيْسَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يُبَاشِرَ النِّسَاءَ وَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } . وَقَوْلُهُ : { فِي الْمَسَاجِدِ } يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ : { عَاكِفُونَ } لَا بِقَوْلِهِ : { تُبَاشِرُوهُنَّ } . فَإِنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَسْجِدِ لَا تَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ . وَلَا لِغَيْرِهِ بَلْ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ إذَا خَرَجَ مِنْهُ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ . فَلَمَّا كَانَ هَذَا يُشْبِهُ الِاعْتِكَافَ وَالْحَائِضُ تَخْرُجُ لِمَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ فَلَمْ يَقْطَعْ الْحَيْضُ اعْتِكَافَهَا وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْعُكُوفِ وَالطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ بَيْتِهِ بِقَوْلِهِ : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فَمَنْعُهُ مِنْ الْحُيَّضِ مِنْ تَمَامِ طَهَارَتِهِ وَالطَّوَافُ كَالْعُكُوفِ لَا كَالصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُبَاحُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ لَا تَخْتَصُّ بِمَسْجِدِ وَيَجِبُ لَهَا وَيَحْرُمُ فِيهَا مَا لَا يَحْرُمُ فِي اعْتِكَافٍ وَلَا طَوَافٍ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ : أَنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ لَا تَخْتَصُّ بِالْإِحْرَامِ وَلِهَذَا كَانَ طَوَافُ الْفَرْضِ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَيَطُوفُ الْحَاجُّ الطَّوَّافَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى
{ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } . فَيَطُوفُ الْحُجَّاجُ وَهُمْ حَلَالٌ قَدْ قَضَوْا حَجَّهُمْ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمْ مُحَرَّمٌ إلَّا النِّسَاءُ وَلِهَذَا لَوْ جَامَعَ أَحَدُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَفْسُدْ نُسُكُهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا كَانَتْ عِبَادَةً مِنْ الْعِبَادَاتِ فَهِيَ عِبَادَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَخْتَصُّ بِجَمِيعِ الْمَسَاجِدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِهِ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَلَيْسَ هُوَ نَوْعًا مِنْ الصَّلَاةِ فَإِذَا تَرَكَ مِنْ وَاجِبِهِ شَيْئًا فَقَدْ يُقَالُ تَرَكَ شَيْئًا وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ . وَإِذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ فِي الطَّوَافِ لِلْعَجْزِ فَهَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ : هَلْ يَلْحَقُ بِمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكِهِ ؟ أَوْ يُقَالُ : هَذَا فِيمَنْ تَرَكَ نُسُكًا مُسْتَقِلًّا أَوْ تَرَكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ بِلَا عُذْرٍ أَوْ تَرْكِ مَا يَخْتَصُّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ . وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْعَاجِزَةَ عَنْ الطَّوَافِ مَعَ الْحَيْضِ تَرْجِعُ مُحْرِمَةً أَوْ تَكُونُ كَالْمُحْصَرِ أَوْ يَسْقُطُ عَنْهَا الْحَجُّ أَوْ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْفَرْضِ فَهَذِهِ أَقْوَالٌ كُلُّهَا مُخَالَفَةٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ مَعَ أَنِّي لَمْ أَعْلَمْ إمَامًا مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرَّحَ بِشَيْءِ مِنْهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ . وَإِنَّمَا كَلَامُ مَنْ قَالَ عَلَيْهَا دَمٌ أَوْ تَرْجِعُ مُحْرِمَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ - مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ - كَلَامٌ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِمْ وَكَانَ زَمَنَهُمْ يُمْكِنُهَا أَنْ تَحْتَبِسَ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ كَانُوا يَأْمُرُونَ الْأُمَرَاءَ أَنْ يَحْتَبِسُوا حَتَّى تَطْهُرَ الْحُيَّضُ
وَيَطُفْنَ ؛ وَلِهَذَا أَلْزَمَ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ الْمُكَارِيَ الَّذِي لَهَا أَنْ يَحْتَبِسَ مَعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ . ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا : لَا يَجِبُ عَلَى مُكَارِيهَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ أَنْ يَحْتَبِسَ مَعَهَا لِمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ . فَعُلِمَ أَنَّ أَجْوِبَةَ الْأَئِمَّةِ بِكَوْنِ الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ شَرْطًا أَوْ وَاجِبًا ؛ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ تَطُوفَ طَاهِرًا لَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاطِ أَوْ الْوُجُوبِ فِي الْحَالَيْنِ فَيَكُونُ النِّزَاعُ مَعَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي فِي الْحَيْضِ الْمُبْتَلَى بِهَا شَطْرُ
النِّسْوَةِ فِي الْحَجِّ وَكَثْرَةِ اخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ فِيهِ : مِنْهُمْ
مَنْ تَكُونُ حَائِضًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَحِيضُ
أَيَّامَ التَّشْرِيقِ . الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : امْرَأَةٌ تَحِيضُ أَوَّلَ
الشَّهْرِ وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَطُوفَ إلَّا حَائِضًا وَعِنْدَ الْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ تَرَى شَيْئًا مِنْ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ الَّتِي تَرَاهَا بَعْدَ
الْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
: فِيمَنْ تَحِيضُ فِي خَامِسٍ إلَى تَاسِعٍ وَيَبْقَى حَيْضُهَا إلَى سَابِعَ
عَشَرَ أَوْ أَكْثَرَ فَوَقَفَتْ وَهِيَ حَائِضٌ وَرَمَتْ وَهِيَ حَائِضٌ
وَطَافَتْ لِلْإِفَاضَةِ وَهِيَ حَائِضٌ وَلَمْ يُمْكِنْهَا عُمْرَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : امْرَأَةٌ وَقَفَتْ وَرَمَتْ الْجِمَارَ وَتُرِيدُ
طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فَحَاضَتْ قَبْلَ الطَّوَافِ فَلَمْ تَطُفْ وَكَتَمَتْ
وَكَانَتْ تُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَلَمْ تَعْتَمِرْ وَرَجَعَتْ وَلَمْ تَفْعَلْ لَا
طَوَافًا وَلَا عُمْرَةً وَلَا دَمًا .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ- :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا " الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
" : فَإِنَّ
الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ تَقْضِي جَمِيعَ الْمَنَاسِكِ . وَهِيَ حَائِضٌ ؛ غَيْرَ الطَّوَافِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ عَنْهُ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } { وَأَمَرَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا نُفِسَتْ بِذِي الحليفة أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُحْرِمَ } { وَأَمَرَ عَائِشَةَ لَمَّا حَاضَتْ بِسَرِفِ أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَلَا تَطُوفَ قَبْلَ التَّعْرِيفِ } . فَهَذِهِ الَّتِي قَدِمَتْ مَكَّةَ وَهِيَ حَائِضٌ قَبْلَ التَّعْرِيفِ لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ لَكِنْ تَقِفُ بِعَرَفَةَ وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ تَرَى شَيْئًا مِنْ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ . و " الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ " لِلْفُقَهَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : هَلْ هِيَ حَيْضٌ مُطْلَقٌ أَوْ لَيْسَتْ حَيْضًا مُطْلَقًا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّهَا إنْ كَانَتْ فِي الْعَادَةِ مَعَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ فَهِيَ حَيْضٌ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُرْسِلْنَ إلَى عَائِشَةَ بِالدِّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فَتَقُولُ لَهُنَّ : لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ . وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا فَكُنَّ يَجْعَلْنَ مَا قَبْلَ الْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ حَيْضًا . وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ : كُنَّا لَا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا . وَلَيْسَ فِي الْمَنَاسِكِ مَا تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ إلَّا الطَّوَافَ فَإِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَا تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . ثُمَّ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الطَّهَارَةِ هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ كَمَا هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ أَمْ هِيَ وَاجِبَةٌ إذَا تَرَكَهَا جَبَرَهَا بِدَمِ كَمَنْ تَرَكَ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ : وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِيهَا فَإِذَا طَافَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا أَوْ حَائِضًا نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ثُمَّ عَلِمَ أَعَادَ الطَّوَافَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَاجِبٌ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ جَبَرَهُ بِدَمِ ؛ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَالْمُحْدِثُ عَلَيْهِ شَاةٌ . وَأَمَّا أَحْمَد فَأَوْجَبَ دَمًا وَلَمْ يُعَيِّنْ بَدَنَةً وَنَصَّ فِي ذَلِكَ عَلَى الْجُنُبِ إذَا طَافَ نَاسِيًا فَقَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ : عَلَيْهِ دَمٌ . فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَعْذُورِ خَاصَّةً كَالنَّاسِي . وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ مُطْلَقًا فِي النَّاسِي وَالْمُتَعَمِّدِ وَنَحْوِهِمَا . وَاَلَّذِينَ جَعَلُوا ذَلِكَ شَرْطًا احْتَجُّوا بِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ كَالصَّلَاةِ
كَمَا فِي النَّسَائِي وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ لَكُمْ فِيهِ الْكَلَامَ فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرِ } وَهَذَا قَدْ قِيلَ إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عريان } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } نَزَلَتْ لَمَّا كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إلَّا الْحُمْسَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ فِي ثِيَابِهِمْ وَغَيْرُهُمْ لَا يَطُوفُ فِي ثِيَابِهِ يَقُولُونَ : ثِيَابٌ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا فَإِنْ وَجَدَ ثَوْبَ أحمسي طَافَ فِيهِ وَإِلَّا طَافَ عريانا فَإِنْ طَافَ فِي ثِيَابِهِ أَلْقَاهَا فَسُمِّيَتْ لِقَاءً . وَكَانَ هَذَا مِمَّا ابْتَدَعَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الطَّوَافِ وَابْتَدَعُوا أَيْضًا تَحْرِيمَ أَشْيَاءَ مِنْ الْمَطَاعِمِ فِي الْإِحْرَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } وَقَوْلَهُ : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } - كَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عُرَاةً - { قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . فَمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ مِنْ إيجَابِ الطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ فِي الطَّوَافِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا مَا ثَبَتَ بِاللُّزُومِ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ كَالصَّلَاةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ .
وَمَنْ
قَالَ : إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطِ قَالَ : إنَّ الْحَجَّ قَدْ وَجَبَ فِيهِ
أَشْيَاءُ تُجْبَرُ بِدَمِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَجِّ فَإِذَا
تَرَكَهَا الْحَاجُّ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا جَبَرَهَا بِدَمِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ
. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَهَلْ يَجِبُ فِيهَا مَا لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِهِ
مُطْلَقًا أَمْ لَا ؟ أَمْ لَا تَبْطُلُ إذَا تَرَكَهُ نِسْيَانًا هَذَا فِيهِ
نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . فَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ فِيهَا مَا لَا تَبْطُلُ
بِتَرْكِهِ مُطْلَقًا كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ كَذَلِكَ أَحْمَد
فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِهِ إذْ أَوْجَبَ الْجَمَاعَةَ وَلَمْ
يَجْعَلْهَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ
يُوجِبُ فِيهَا مَا إذَا تَرَكَهُ سَهْوًا جَبَرَهُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَمَا
لَا يَحْتَاجُ إلَى جَبْرٍ كَاجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ مَالِكٍ يُوجِبُ فِيهَا مِنْ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَنَحْوِهَا مَا
إذَا تَرَكَهُ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ وَلَمْ يُعِدْ بَعْدَهُ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ
فِي مَذَاهِبِهِمْ .
وَأَمَّا " الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ " : فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا
حَاضَتْ وَطَهُرَتْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ سَقَطَ عَنْهَا طَوَافُ الْقُدُومِ
وَطَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَبَعْدَهُ وَهِيَ طَاهِرٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهِيَ طَاهِرٌ ثُمَّ حَاضَتْ
فَلَمْ تَطْهُرْ قَبْلَ الْخُرُوجِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ
؛ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ رَخَّصَ
لِلْمَرْأَةِ إذَا طَافَتْ وَهِيَ طَاهِرٌ ثُمَّ حَاضَتْ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهَا
طَوَافُ الْوَدَاعِ { وَحَاضَتْ امْرَأَتُهُ صَفِيَّةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ : أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ فَقَالُوا : إنَّهَا
قَدْ أَفَاضَتْ قَالَ : فَلَا إذًا } . وَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَحْتَبِسَ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ إذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ وَعَلَى مَنْ مَعَهَا أَنْ يَحْتَبِسَ لِأَجْلِهَا إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ . وَلَمَّا كَانَتْ الطُّرُقَاتُ آمِنَةً فِي زَمَنِ السَّلَفِ وَالنَّاسُ يَرِدُونَ مَكَّةَ وَيَصْدُرُونَ عَنْهَا فِي أَيَّامِ الْعَامِ كَانَتْ الْمَرْأَةُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَحْتَبِسَ هِيَ وَذُو مَحْرَمِهَا وَمُكَارِيهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَطُوفَ فَكَانَ الْعُلَمَاءُ يَأْمُرُونَ بِذَلِكَ . وَرُبَّمَا أَمَرُوا الْأَمِيرَ أَنْ يَحْتَبِسَ لِأَجْلِ الْحُيَّضِ حَتَّى يَطْهُرْنَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ " وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمِيرٌ وَلَيْسَ بِأَمِيرِ : امْرَأَةٌ مَعَ قَوْمٍ حَاضَتْ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ فَيَحْتَبِسُونَ لِأَجْلِهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ أَوْ كَمَا قَالَ . وَأَمَّا هَذِهِ الْأَوْقَاتُ فَكَثِيرٌ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُنَّ لَا يُمْكِنُهَا الِاحْتِبَاسُ بَعْدَ الْوَفْدِ وَالْوَفْدُ يَنْفِرُ بَعْدَ التَّشْرِيقِ بِيَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَتَكُونُ هِيَ قَدْ حَاضَتْ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَلَا تَطْهُرُ إلَى سَبْعَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ وَهِيَ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُقِيمَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَطْهُرَ ؛ إمَّا لِعَدَمِ النَّفَقَةِ أَوْ لِعَدَمِ الرُّفْقَةِ الَّتِي تُقِيمُ مَعَهَا وَتَرْجِعُ مَعَهَا وَلَا يُمْكِنُهَا الْمُقَامُ بِمَكَّةَ لِعَدَمِ هَذَا أَوْ هَذَا أَوْ لِخَوْفِ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَا لَهَا فِي الْمُقَامِ وَفِي الرُّجُوعِ بَعْدَ الْوَفْدِ . وَالرُّفْقَةُ الَّتِي مَعَهَا : تَارَةً لَا يُمْكِنُهُمْ الِاحْتِبَاسُ لِأَجْلِهَا إمَّا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُقَامِ وَالرُّجُوعِ وَحْدَهُمْ وَإِمَّا لِخَوْفِ الضَّرَرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ . وَتَارَةً يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَفْعَلُونَهُ فَتَبْقَى هِيَ مَعْذُورَةً . فَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى . فَهَذِهِ إذَا طَافَتْ وَهِيَ حَائِضٌ وَجَبَرَتْ بِدَمِ أَوْ بَدَنَةٍ أَجْزَأَهَا ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : الطَّهَارَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَوْلَى فَإِنَّ هَذِهِ مَعْذُورَةٌ ؛ لَكِنْ هَلْ يُبَاحُ لَهَا الطَّوَافُ مَعَ الْعُذْرِ هَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مِنْ يَجْعَلُهَا شَرْطًا : هَلْ يَسْقُطُ هَذَا الشَّرْطُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ وَيَصِحُّ الطَّوَافُ ؟ هَذَا هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ النَّاس إلَى مَعْرِفَتِهِ . فَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا تَفْعَلُ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا تَعْجِزُ عَنْهُ فَتَطُوفُ . وَيَنْبَغِي أَنْ تَغْتَسِلَ - وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا - كَمَا تَغْتَسِلُ لِلْإِحْرَامِ وَأَوْلَى . وَتَسْتَثْفِرُ كَمَا تَسْتَثْفِرُ الْمُسْتَحَاضَةُ وَأَوْلَى وَذَلِكَ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذِهِ لَا يُمْكِنُ فِيهَا إلَّا أَحَدُ أُمُورٍ خَمْسَةٍ : إمَّا أَنْ يُقَالَ : تُقِيمُ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا مَكَانَ تَأْوِي إلَيْهِ بِمَكَّةَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الرُّجُوعُ إلَى بَلَدِهَا وَإِنْ حَصَلَ لَهَا بِالْمُقَامِ بِمَكَّةَ مَنْ يَسْتَكْرِهُهَا عَلَى الْفَاحِشَةِ فَيَأْخُذُ مَالَهَا أَنْ كَانَ مَعَهَا مَالٌ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : بَلْ تَرْجِعُ غَيْرَ طَائِفَةٍ بِالْبَيْتِ وَتُقِيمُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ إحْرَامِهَا إلَى أَنْ يُمْكِنَهَا الرُّجُوعُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا بَقِيَتْ مُحْرِمَةً
إلَى أَنْ تَمُوتَ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : بَلْ تَتَحَلَّلُ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْصَرُ وَيَبْقَى تَمَامُ الْحَجِّ فَرْضًا عَلَيْهَا تَعُودُ إلَيْهِ كَالْمُحْصَرِ عَنْ الْبَيْتِ مُطْلَقًا لِعُذْرِ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ إحْرَامِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَسْقُطْ الْفَرْضُ عَنْهُ بَلْ هُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَأُحْصِرَ فَهَلْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ احْتَجَّ بِعُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ هَؤُلَاءِ قَالُوا : قَضَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولَئِكَ قَالُوا : لَمْ يَقْضِهَا المحصرون مَعَهُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَاَلَّذِينَ اعْتَمَرُوا مَعَهُ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ كَانُوا دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرِ وَقَالُوا : سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قَاضَى عَلَيْهَا الْمُشْرِكِينَ لَا لِكَوْنِهِ قَضَاهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ عُمْرَةً قَائِمَةً بِنَفْسِهَا . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : مَنْ تَخَافُ أَنْ تَحِيضَ فَلَا يُمْكِنُهَا الطَّوَافُ طَاهِرًا لَا تُؤْمَرُ بِالْحَجِّ لَا إيجَابًا وَلَا اسْتِحْبَابًا وَنِصْفُ النِّسَاءِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ النِّصْفِ يَحِضْنَ ؛ إمَّا فِي الْعَاشِرِ وَإِمَّا قَبْلَهُ بِأَيَّامِ وَيَسْتَمِرُّ حَيْضُهُنَّ إلَى مَا بَعْدَ التَّشْرِيقِ بِيَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَهَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْوَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا لَا يُمْكِنُهُنَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ مَعَ الطُّهْرِ
فَلَا يَحْجُجْنَ ثُمَّ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ حَجَّتْ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إلَّا أَنْ يُسَوَّغَ لَهَا الطَّوَافُ مَعَ الْحَيْضِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْمَرَ بِهِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا مَا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ اللَّهَ يَنْهَى عَنْهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : كَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا أَنْ يَبْقَى مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَمُوتَ فَالْمُحْصَرُ بِعَدُوِّ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحْصَرُ بِمَرَضِ أَوْ فَقْرٍ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فَمَنْ جَوَّزَ لَهُ التَّحَلُّلَ فَلَا كَلَامَ فِيهِ وَمَنْ مَنَعَهُ التَّحَلُّلَ قَالَ : إنَّ ضَرَرَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ لَا يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ بِخِلَافِ حَبْسِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِالتَّحَلُّلِ الرُّجُوعَ إلَى بَلَدِهِ وَأَبَاحُوا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ ثُمَّ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةِ الْفَوَاتِ فَإِذَا صَحَّ الْمَرِيضُ ذَهَبَ وَالْفَقِيرُ حَاجَتُهُ فِي إتْمَامِ سَفَرِ الْحَجِّ كَحَاجَتِهِ فِي الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ فَهَذَا مَأْخَذُهُمْ فِي أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ . قَالُوا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالتَّحَلُّلِ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَأْخَذُ صَحِيحًا وَإِلَّا كَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ التَّحَلُّلُ وَهَذَا الْمَأْخَذُ يَقْتَضِي اتِّفَاقَ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ دَوَامُ الْإِحْرَامِ يَحْصُلُ بِهِ ضَرَرٌ يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ فَلَهُ التَّحَلُّلُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ إذَا دَامَ إحْرَامُهَا تَبْقَى مَمْنُوعَةً مِنْ الْوَطْءِ دَائِمًا بَلْ وَمَمْنُوعَةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ بَلْ وَمِنْ النِّكَاحِ وَمِنْ الطِّيبِ وَمِنْ الصَّيْدِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ . وَشَرِيعَتُنَا لَا تَأْتِي بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضِ أَوْ نَفَقَةٍ يَقُولُ بِمِثْلِ ذَلِكَ - فَالْمَرِيضُ المأيوس مِنْ بُرْئِهِ وَالْفَقِيرُ الَّذِي يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ دُونَ السَّفَرِ - كَانَ قَوْلُهُ مَرْدُودًا بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ فَقِيهٌ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَرِيضَ الْمَعْضُوبَ المأيوس مِنْ بُرْئِهِ أَنْ يَبْقَى مُحْرِمًا حَتَّى يَمُوتَ بَلْ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ إنَّهُ يُقِيمُ مَقَامَهُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَصْلِ الْحَجِّ . فَأَوْجَبَاهُ عَلَى الْمَعْضُوبِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يَحُجُّ بِهِ غَيْرُهُ عَنْهُ إذْ كَانَ مَنَاطُ الْوُجُوبِ عِنْدَهُمَا هُوَ مِلْكَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَعِنْدَ مَالِكٍ الْقُدْرَةَ بِالْبَدَنِ كَيْفَ مَا كَانَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَجْمُوعَهُمَا وَعِنْدَ أَحْمَد فِي كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مَنَاطٌ لِلْوُجُوبِ فَيَجِبُ عَلَى هَذَا وَهَذَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَعْضُوبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ بِبَدَنِهِ فَكَيْفَ يَبْقَى مُحْرِمًا عَلَيْهِ إتْمَامُ الْحَجِّ إلَى أَنْ يَمُوتَ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ إذَا أَمْكَنَهَا الْعَوْدُ فَعَادَتْ أَصَابَهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ نَظِيرُ مَا أَصَابَهَا فِي الْأُولَى إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهَا الْعَوْدُ إلَّا مَعَ الْوَفْدِ وَالْحَيْضُ قَدْ يُصِيبُهَا مُدَّةَ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا إيجَابُ سَفَرَيْنِ كَامِلَيْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ لِلْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا عُدْوَانٍ وَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى النَّاسِ الْحَجَّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِذَا أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُفْسِدِ فَذَلِكَ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ عَلَى إحْرَامِهِ وَإِذَا أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَذَلِكَ بِسَبَبِ تَفْرِيطِهِ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْهُ فَتَأَخُّرُهُ يَكُونُ لِجَهْلِهِ بِالطَّرِيقِ أَوْ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ أَوْ لِتَرْكِ السَّيْرِ الْمُعْتَادِ وَكُلُّ ذَلِكَ تَفْرِيطٌ مِنْهُ ؛ بِخِلَافِ الْحَائِضِ فَإِنَّهَا لَمْ تُفَرِّطْ وَلِهَذَا أَسْقَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا طَوَافَ الْوَدَاعِ وَطَوَافَ الْقُدُومِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَصْفِيَّةَ . وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا تَتَحَلَّلُ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْصَرُ فَهَذَا أَقْوَى قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ خَوْفَهَا مَنَعَهَا مِنْ الْمُقَامِ حَتَّى تَطُوفَ كَمَا لَوْ كَانَ بِمَكَّةَ عَدُوٌّ مَنَعَهَا مِنْ نَفْسِ الطَّوَافِ دُونَ الْمُقَامِ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُسْقِطُ عَنْهَا فَرْضَ الْإِسْلَامِ وَلَا يُؤْمَرُ الْمُسْلِمُ بِحَجِّ يُحْصَرُ فِيهِ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ إذَا حَجَّ أُحْصِرَ عَنْ الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْحَجُّ بَلْ خُلُوُّ الطَّرِيقِ وَأَمْنُهُ وَسَعَةُ الْوَقْتِ شَرْطٌ فِي لُزُومِ السَّفَرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ بِمَعْنَى أَنَّ مِلْكَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مَعَ خَوْفِ الطَّرِيقِ أَوْ ضِيقِ الْوَقْتِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ فَيُحَجُّ
عَنْهُ إذَا مَاتَ ؟ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِحَالِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ . فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا رُخْصَةً إلَّا رُخْصَةَ الْحَصْرِ يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنَّهَا لَا تُؤْمَرُ بِالْحَجِّ ؛ بَلْ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَبْقَى الْحَجُّ غَيْرَ مَشْرُوعٍ لِكَثِيرِ مِنْ النِّسَاءِ . أَوْ أَكْثَرُهُنَّ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَعَ إمْكَانِ أَفْعَالِهَا كُلِّهَا لِكَوْنِهِنَّ يَعْجِزْنَ عَنْ بَعْضِ الْفُرُوضِ فِي الطَّوَافِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خِلَافُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةَ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا إذَا عَجَزَ عَنْ بَعْضِ مَا يَجِبُ فِيهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْمَقْدُورُ ؛ لِأَجْلِ الْمَعْجُوزِ بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَذَلِكَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ الطَّوَافِ لَا تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا فَكَيْفَ يَسْقُطُ الْحَجُّ بِعَجْزِهِ عَنْ بَعْضِ شُرُوطِ الطَّوَافِ وَأَرْكَانِهِ وَمِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُقَالَ : يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ إذْ الْحَجُّ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالطَّوَافُ أَفْضَلُ الرُّكْنَيْنِ وَأَجَلُّهُمَا ؛ وَلِهَذَا يُشْرَعُ فِي الْحَجِّ وَيُشْرَعُ فِي الْعُمْرَةِ وَيُشْرَعُ مُنْفَرِدًا وَيُشْتَرَطُ لَهُ مِنْ الشُّرُوطِ مَا لَا يُشْتَرَطُ لِلْوُقُوفِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ الْحَجُّ بِوُقُوفِ بِلَا طَوَافٍ .
وَلَكِنْ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : يُجْزِيهَا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الْوُقُوفِ . فَيُقَالُ : إنَّهَا إنْ أَمْكَنَهَا الطَّوَافُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَإِلَّا طَافَتْ قَبْلَهُ ؛ لَكِنَّ هَذَا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ قَالَ بِهِ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ وَلَا قَالَ بِإِجْزَائِهِ ؛ إلَّا مَا نَقَلَهُ الْبَصْرِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ التَّعْرِيفِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَنَّ هَذَا يُجْزِيهِ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ . وَقَدْ قِيلَ : عَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْحَائِضِ مِثْلُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهَا الطَّوَافُ إلَّا قَبْلَ الْوُقُوفِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا أَعْرِفُ بِهِ قَائِلًا . وَالْمَسْأَلَةُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ مَالِكٍ قَدْ يُقَالُ : فِيهَا إنَّ النَّاسِيَ وَالْجَاهِلَ مَعْذُورٌ فَفِي تَكْلِيفِهِ الرُّجُوعَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ فَسَقَطَ التَّرْتِيبُ لِهَذَا الْعُذْرِ وَكَمَا يُقَالُ فِي الطَّهَارَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَنَّهُ إذَا طَافَ مُحْدِثًا نَاسِيًا حَتَّى أَبْعَدَ كَانَ مَعْذُورًا فَيَجْبُرُهُ بِدَمِ . وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَهُ الْإِتْيَانُ بِأَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ فَكَيْفَ يَسْقُطُ بِعَجْزِهِ عَنْ بَعْضِهَا وَطَوَافُ الْحَائِضِ قَدْ قِيلَ إنَّهُ يُجْزِئُ مُطْلَقًا وَعَلَيْهَا دَمٌ . وَأَمَّا تَقْدِيمُ طَوَافِ الْفَرْضِ عَلَى الْوُقُوفِ : فَلَا يُجْزِي مَعَ الْعَمْدِ بِلَا نِزَاعٍ ، وَتَرْتِيبُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَلَا بِضِيقِ الْوَقْتِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ . وَأَيْضًا فَالْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَنَحْوُ هَؤُلَاءِ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَطُوفَ قَبْلَ التَّعْرِيفِ بِطَهَارَةِ وَبَعْدَ التَّعْرِيفِ بِهَذَا الْحَدَثِ لَمْ يَطُفْ إلَّا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَجْلِ الْحَيْضِ فِي رَمَضَانَ وَلَكِنْ تَصُومُ بَعْدَ وُجُوبِ الصَّوْمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأُصُولَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَتَى دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْإِخْلَالِ بِوَقْتِ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَالِ بِبَعْضِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا كَانَ الْإِخْلَالُ بِذَلِكَ أَوْلَى كَالصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الْوَقْتِ بِطَهَارَةِ وَسِتَارَةٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُجْتَنِبَ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُهَا فِي الْوَقْتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُمْكِنِ وَلَا يَفْعَلُهَا قَبْلَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يُؤَخِّرُ الْعِبَادَةَ عَنْ الْوَقْتِ بَلْ يَفْعَلُهَا فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ لِلْمَعْذُورِ فِي الْجَمْعِ لِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتَانِ : وَقْتٌ مُخْتَصٌّ لِأَهْلِ الرَّفَاهِيَةِ وَوَقْتٌ مُشْتَرَكٌ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ . وَالْجَامِعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ صَلَّاهُمَا فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُفَوِّتْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَا قَدَّمَهَا عَلَى الْوَقْتِ الْمُجْزِئِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَكَذَلِكَ الْوُقُوفُ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ أَمْكَنَهُ الْوُقُوفُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ فِي وَقْتِهِ لَمْ يَكُنْ الْوُقُوفُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ مُجْزِيًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَالطَّوَافُ لِلْإِفَاضَةِ هُوَ مَشْرُوعٌ بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَوَقْتُهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ وَهَلْ يُجْزِئُ بَعْدَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ النَّحْرِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . فَإِذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ بَقِيَ ( الْخَامِسُ : وَهُوَ أَنَّهَا تَفْعَلُ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا تَعْجِزُ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِذَلِكَ وَالْأُصُولُ الْمُشَابِهَةُ لَهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةُ الْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مُطْلَقًا . كَقَوْلِهِ : { إذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَتَوَضَّأَ } وَقَوْلِهِ { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَتَوَضَّأَ } وَقَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ } وَقَوْلِهِ : " حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ ثُمَّ صَلِّي فِيهِ " وَقَوْلِهِ : { لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عريان } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ جَمِيعِهِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا أَسْتَطَعْتُمْ } وَهَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ . إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُؤْمَرَ بِالْمُقَامِ مَعَ الْعَجْزِ وَالضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهَا
وَدِينِهَا وَمَالِهَا وَلَا تُؤْمَرُ بِدَوَامِ الْإِحْرَامِ وَبِالْعَوْدِ مَعَ الْعَجْزِ وَتَكْرِيرِ السَّفَرِ وَبَقَاءِ الضَّرَرِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهَا . وَلَا يَكْفِي التَّحَلُّلُ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشُّرُوطِ : كَالسِّتَارَةِ وَاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ أَوْكَدُ . فَإِنَّ غَايَةَ الطَّوَافِ أَنْ يُشَبَّهَ بِالصَّلَاةِ وَلَيْسَ فِي الطَّوَافِ نَصٌّ يَنْفِي قَبُولَ الطَّوَافِ مَعَ عَدَمِ الطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ . وَلَكِنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ ذَلِكَ . وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ ذَلِكَ شَرْطٌ ؟ أَوْ وَاجِبٌ لَيْسَ بِشَرْطِ ؟ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ تُؤْمَرَ بِتَرْكِ الْحَجِّ وَلَا تُؤْمَرَ بِتَرْكِ الْحَجِّ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . الدَّلِيلُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : غَايَةُ مَا فِي الطَّهَارَةِ أَنَّهَا شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَوْنَهَا شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ أَوْكَدُ مِنْهَا فِي الطَّوَافِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّهَارَةَ كَالسِّتَارَةِ وَاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ بَلْ السِّتَارَةُ فِي الطَّوَافِ أَوْكَدُ مِنْ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ يَجِبُ فِي الطَّوَافِ وَخَارِجَ الطَّوَافِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا نَهْيًا عَامًّا ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَنَحْوَهُمَا يَطُوفُ وَيُصَلِّي بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَدَثُ فِي حَقِّهِمْ مِنْ جِنْسِ الْحَدَثِ فِي
حَقِّ غَيْرِهِمْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا إلَّا الْعُذْرُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَشُرُوطُ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ فَسُقُوطُ شُرُوطِ الطَّوَافِ بِالْعَجْزِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَالْمُصَلِّي يُصَلِّي عريانا وَمَعَ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ فِي صُورَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَغَيْرِهَا وَيُصَلِّي مَعَ الْجَنَابَةِ وَحَدَثِ الْحَيْضِ مَعَ التَّيَمُّمِ وَبِدُونِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إذَا عَجَزَ عَنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ؛ لَكِنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُحْتَاجَةً إلَى الصَّلَاةِ مَعَ الْحَيْضِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهَا إلَى غَيْرِ بَدَلٍ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْأَيَّامِ فَكَانَتْ صَلَاتُهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ تُغْنِيهَا عَنْ الْقَضَاءِ ؛ وَلِهَذَا أُمِرَتْ بِقَضَاءِ الصِّيَامِ دُونَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَهْرٌ وَاحِدٌ فِي الْحَوْلِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَصُومَ طَاهِرًا فِي رَمَضَانَ صَامَتْ فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلَمْ يَتَعَدَّدْ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا بَلْ نُقِلَتْ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ الصَّوْمِ عَجْزًا مُسْتَمِرًّا كَعَجْزِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ الْكَبِيرَةِ وَالْمَرِيضِ المأيوس مِنْ بُرْئِهِ سَقَطَ عَنْهَا إمَّا إلَى بَدَلٍ وَهُوَ الْفِدْيَةُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِمَّا إلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَقَوْلِ مَالِكٍ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يُمْكِنُ الْعَجْزُ عَنْ جَمِيعِ أَرْكَانِهَا بَلْ يَفْعَلُ مِنْهَا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ بِرَأْسِهِ وَبَدَنِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ
وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يُومِئُ
بِطَرْفِهِ وَيَسْتَحْضِرُ الْأَفْعَالَ بِقَلْبِهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ
بِالْأَثَرِ وَالنَّظَرِ . وَأَمَّا الْحَجُّ فَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا
يُمْكِنُهَا أَنَّ تَحُجَّ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهَا
ذَلِكَ كَانَ هَذَا غَايَةَ الْمَقْدُورِ كَمَا لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَطُوفَ
إلَّا رَاكِبًا أَوْ حَامِلَ النَّجَاسَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : هُنَا سُؤَالَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ هَلَّا جُعِلَتْ الْحَائِضُ كَالْمَعْضُوبِ فَإِنْ كَانَتْ
تَرْجُو أَنْ تَحُجَّ وَيُمْكِنُهَا الطَّوَافُ وَإِلَّا اسْتَنَابَتْ ؟ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ إذَا لَمْ يُسَوِّغْ لَهَا الشَّارِعُ الصَّلَاةَ زَمَنَ
الْحَيْضِ كَمَا يُسَوِّغُهَا لِلْجُنُبِ بِالتَّيَمُّمِ وللمستحاضة عُلِمَ أَنَّ
الْحَيْضَ لَا تَصِحُّ مَعَهُ الْعِبَادَةُ بِحَالِ . فَيُقَالُ : أَمَّا
الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمَعْضُوبَ هُوَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْ الْوُصُولِ إلَى
مَكَّةَ فَأَمَّا مَنْ أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ وَعَجَزَ عَنْ بَعْضِ
الْوَاجِبَاتِ فَلَيْسَ بِمَعْضُوبِ كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ وَعَجَزَ
عَنْ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ مِثْلَ الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ
الْبَوْلِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ بِالْإِجْمَاعِ
وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ الطَّهَارَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ إلَّا رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا أَوْ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَمْيُ الْجِمَارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْتَنِيبُ فِيهِ وَيَحُجُّ بِبَدَنِهِ . وَأَمَّا صَلَاةُ الْحَائِضِ فَلَيْسَتْ مُحْتَاجَةً إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ فِي صَلَاةِ بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ غِنًى عَنْهَا وَلِهَذَا إذَا اُسْتُحِيضَتْ أُمِرَتْ بِالصَّلَاةِ مَعَ الِاسْتِحَاضَةِ وَمَعَ احْتِمَالِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَيْضِ وَإِنْ كَانَ خُرُوجُ ذَلِكَ الدَّمِ وَتَنْجِيسُهَا بِهِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ لَوْلَا الْعُذْرُ . فَقَدْ فَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ وَلِهَذَا لَوْ أَمْكَنَ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَطْهُرَ وَتُصَلِّيَ حَالَ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَجَبَ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَبَاحَ الصَّلَاةَ مَعَ خُرُوجِهِ لِلضَّرُورَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ كَانَ الْجُنُبُ وَالْمُسْتَحَاضَةُ وَنَحْوُهُمَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ الصَّلَاةِ عَنْهُ كَمَا أُسْقِطَتْ عَنْ الْحَائِضِ وَيَكُونُ صَلَاةُ بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ مُغْنِيَةً فَلَمَّا أَمَرَهَا الشَّارِعُ بِالصَّلَاةِ دُونَ الْحَائِضِ عُلِمَ أَنَّ الْحَيْضَ يُنَافِي الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ يُنَافِي الطَّوَافَ الَّذِي هُوَ كَالصَّلَاةِ . فَيُقَالُ : الْجُنُبُ وَنَحْوُهُ لَا يَدُومُ بِهِ مُوجِبُ الطَّهَارَةِ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِضِ الَّتِي انْقَطَعَ دَمُهَا وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ . وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَلَوْ أَسْقَطَ عَنْهَا الصَّلَاةَ لَلَزِمَ سُقُوطُهَا أَبَدًا ؛ فَلَمَّا كَانَ حَدَثُهَا دَائِمًا لَمْ تُمْكِنْ الصَّلَاةُ إلَّا مَعَهُ فَسَقَطَ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ عَنْهَا . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْعِبَادَةَ
إذَا لَمْ يُمْكِنْ فِعْلُهَا إلَّا مَعَ الْمَحْظُورِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ
تَرْكِهَا وَالْأُصُولُ كُلُّهَا تُوَافِقْ ذَلِكَ وَالْجُنُبُ إذَا عَدِمَ
الْمَاءَ وَالتُّرَابَ صَلَّى أَيْضًا فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ
لِعَجْزِهِ عَنْ الطَّهَارَةِ فَالْحَيْضُ يُنَافِي الصَّلَاةَ مُطْلَقًا لِعَدَمِ
الْحَاجَةِ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ الْحَيْضِ اسْتِغْنَاءً بِتَكَرُّرِ أَمْثَالِهَا
. وَأَمَّا الْحَجُّ وَالطَّوَافُ فِيهِ فَلَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ . فَإِنْ لَمْ
يَصِحَّ مَعَ الْعُذْرِ لَزِمَ أَلَّا يَصِحَّ مُطْلَقًا . وَالْأُصُولُ قَدْ
دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا لَمْ تُمْكِنْ إلَّا مَعَ الْعُذْرِ
كَانَتْ صَحِيحَةً مُجْزِيَةً مَعَهُ بِدُونِ مَا إذَا فُعِلَتْ بِدُونِ الْعُذْرِ
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لِلْحَائِضِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْحَيْضِ
لِاسْتِغْنَائِهَا بِهَا عَنْ ذَلِكَ بِتَكَرُّرِ أَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ
أَيَّامِ الْحَيْضِ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْهَا
فِعْلُهُ إلَّا مَعَ الْحَيْضِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَغْنِيَةً عَنْهُ بِنَظِيرِهِ
فَجَازَ لَهَا ذَلِكَ كَسَائِرِ مَا تَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ شُرُوطِ الْعِبَادَاتِ .
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : هَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ
فَسَقَطَ بِالْعَجْزِ كَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ
مُسْتَحَاضَةً وَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَطُوفَ إلَّا مَعَ الْحَدَثِ الدَّائِمِ
طَافَتْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَفِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَيْهَا خِلَافٌ
مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَفِي هَذَا صَلَاةٌ مَعَ الْحَدَثِ وَمَعَ حَمْلِ
النَّجَاسَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ عَجَزَ الْجُنُبُ أَوْ الْمُحْدِثُ عَنْ الْمَاءِ
وَالتُّرَابِ صَلَّى وَطَافَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . الدَّلِيلُ
الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الطَّوَافِ فَسَقَطَ
بِالْعَجْزِ كَغَيْرِهِ مِنْ الشَّرَائِطِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَطُوفَ إلَّا عريانا لَكَانَ طَوَافُهُ عريانا أَهْوَنَ مِنْ صَلَاتِهِ عريانا وَهَذَا وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ فَالطَّوَافُ مَعَ الْعُرْيِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَإِنَّمَا قَلَّ تَكَلُّمُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا نَادِرٌ فَلَا يَكَادُ بِمَكَّةَ يَعْجِزُ عَنْ سُتْرَةٍ يَطُوفُ بِهَا لَكِنْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سُلِبَ ثِيَابَهُ وَالْقَافِلَةُ خَارِجُونَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِعْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الطَّوَافِ مَعَ الْعُرْيِ كَمَا تَطُوفُ الْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الطَّوَافِ عريانا أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ طَوَافِ الْحَائِضِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ مُقْتَضَى الْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ الْعَامَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِهَذِهِ الصُّورَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَمُقْتَضَى الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي تُشَابِهُهَا ، وَالْمُعَارِضُ لَهَا إنَّمَا لَمْ يَجِدْ لِلْعُلَمَاءِ الْمَتْبُوعِينَ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا لَمْ يَجِدْ لَهُمْ كَلَامًا فِيمَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ إلَّا عريانا وَذَلِكَ لِأَنَّ الصُّوَرَ الَّتِي لَمْ تَقَعْ فِي أَزْمِنَتِهِمْ لَا يَجِبُ أَنْ تَخْطُرَ بِقُلُوبِهِمْ لِيَجِبَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِيهَا . وَوُقُوعُ هَذَا وَهَذَا فِي أَزْمِنَتِهِمْ إمَّا مَعْدُومٌ وَإِمَّا نَادِرٌ جِدًّا وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ مُطْلَقٌ عَامٌّ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ لَوْ لَمْ تَخْتَصَّ الصُّورَةُ الْمُعَيَّنَةُ بِمَعَانٍ تُوجِبُ الْفَرْقَ وَالِاخْتِصَاصَ وَهَذِهِ الصُّورَةُ قَدْ لَا يَسْتَحْضِرُهَا الْمُتَكَلِّمُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ مِنْ
الْأَئِمَّةِ لِعَدَمِ وُجُودِهَا فِي زَمَنِهِمْ وَالْمُقَلِّدُونَ لَهُمْ ذَكَرُوا مَا وَجَدُوهُ مِنْ كَلَامِهِمْ . وَلِهَذَا أَوْجَبَ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ عَلَى مُكَارِيهَا أَنْ يَحْتَبِسَ لِأَجْلِهَا إذَا كَانَتْ الطُّرُقَاتُ آمِنَةً وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي التَّخَلُّفِ مَعَهَا وَكَانُوا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ يَحْتَبِسُ الْأَمِيرُ لِأَجْلِ الْحُيَّضِ والمتأخرون مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَسْقَطُوا عَنْ الْمُكَارِي الْوَدَاعَ وَأُسْقِطَ الْمَبِيتُ عَنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرِّعَايَةِ لِعَجْزِهِمْ . وَعَجْزُهُمْ يُوجِبُ الِاحْتِبَاسَ مَعَهَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ قَالَ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ فِي الطَّوَافِ وَلَيْسَتْ شَرْطًا فَإِنْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الطَّهَارَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا طَافَ مُحْدِثًا وَأَبْعَدَ عَنْ مَكَّةَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْعَوْدُ لِلْمَشَقَّةِ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى هَذِهِ مَا لَا يُمْكِنُهَا إلَّا بِمَشَقَّةِ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ هُنَاكَ مَنْ يَقُولُ عَلَيْهِ دَمٌ وَهُنَا يَتَوَجَّهُ أَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا دَمٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إذَا تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا وَقَدْ يُقَالُ عَلَيْهَا دَمٌ لِنُدُورِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَمْنَعَهُ عَدُوٌّ عَنْ رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَعُودَ إلَى مَكَّةَ أَوْ يَمْنَعَهُ الْعَدُوُّ عَنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إلَى اللَّيْلِ أَوْ يَمْنَعَهُ الْعَدُوُّ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ حَتَّى يُوَدِّعَ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْ الْحَائِضِ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَمَنْ قَالَ : إنْ الطَّهَارَةَ فَرْضٌ فِي الطَّوَافِ وَشَرْطٌ فِيهِ فَلَيْسَ كَوْنُهَا شَرْطًا فِيهِ أَعْظَمَ مِنْ كَوْنِهَا شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُرُوطَ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ فَسُقُوطُ شُرُوطِ الطَّوَافِ بِالْعَجْزِ أَوْلَى وَأَحْرَى . هَذَا هُوَ الَّذِي تَوَجَّهَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ . وَلَوْلَا ضَرُورَةُ النَّاسِ وَاحْتِيَاجُهُمْ إلَيْهَا عِلْمًا وَعَمَلًا لَمَا تَجَشَّمْت الْكَلَامَ حَيْثُ لَمْ أَجِدْ فِيهَا كَلَامًا لِغَيْرِي فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِمَّا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ فَإِنْ يَكُنْ مَا قُلْته صَوَابًا فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . وَإِنْ يَكُنْ مَا قُلْته خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْ الْخَطَأِ وَإِنْ كَانَ الْمُخْطِئُ مَعْفُوًّا عَنْهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى
ارْتَحَلَ الْحَاجُّ وَلَمْ يُمْكِنْهَا الْمُقَامُ بَعْدَهُمْ حَتَّى تَطْهُرَ
فَهَلْ لَهَا أَنْ تَطُوفَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِلضَّرُورَةِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا
جَازَ لَهَا ذَلِكَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا دَمٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ
لَهَا الِاغْتِسَالُ مَعَ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ عَادَتِهَا
أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ حَتَّى يَرْتَحِلَ الْحَاجُّ ؟ وَلَا يُمْكِنُهَا
الْمُقَامُ بَعْدَهُمْ . فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ مَعَ هَذَا . أَمْ لَا
؟ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ . فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَتَقَدَّمَ فَتَطُوفَ أَمْ
لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي الطَّهَارَةِ - هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي
صِحَّةِ الطَّوَافِ ؟ - قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا شَرْطٌ
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَالثَّانِي : لَيْسَتْ بِشَرْطِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي
الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى .
فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ لَوْ طَافَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا أَوْ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ أَجْزَأَهُ الطَّوَافُ وَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لَكِنْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد : هَلْ هَذَا مُطْلَقٌ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ الَّذِي نَسِيَ الْجَنَابَةَ ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُ الدَّمَ بَدَنَةً إذَا كَانَتْ حَائِضًا أَوْ جُنُبًا : فَهَذِهِ الَّتِي لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَطُوفَ إلَّا حَائِضًا أَوْلَى بِالْعُذْرِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَيْهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْحَائِضَ يَسْقُطُ عَنْهَا الْحَجُّ وَلَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ الشَّرِيعَةِ أَنْ تَسْقُطَ الْفَرَائِضُ لِلْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ مَا يَجِبُ فِيهَا كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ . فَلَوْ أَمْكَنَهَا أَنْ تُقِيمَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ وَجَبَ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ فَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الرُّجُوعَ مَرَّةً ثَانِيَةً كَانَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا سَفَرَانِ لِلْحَجِّ بِلَا ذَنْبٍ لَهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّرِيعَةِ . ثُمَّ هِيَ أَيْضًا لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَذْهَبَ إلَّا مَعَ الرَّكْبِ وَحَيْضُهَا فِي الشَّهْرِ كَالْعَادَةِ فَهَذِهِ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَطُوفَ طَاهِرًا أَلْبَتَّةَ . وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ شُرُوطِ الْعِبَادَاتِ يَسْقُطُ عَنْهُ كَمَا لَوْ عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ تَجَنُّبِ النَّجَاسَةِ وَكَمَا لَوْ عَجَزَ الطَّائِفُ أَنْ يَطُوفَ بِنَفْسِهِ رَاكِبًا وَرَاجِلًا فَإِنَّهُ يُحْمَلُ وَيُطَافُ بِهِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُجْزِئُهَا الطَّوَافُ بِلَا طَهَارَةٍ إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَعْذُورَةٍ
مَعَ
الدَّمِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد
. فَقَوْلُهُمْ لِذَلِكَ مَعَ الْعُذْرِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَأَمَّا
الِاغْتِسَالُ فَإِنْ فَعَلَتْهُ فَحَسَنٌ كَمَا تَغْتَسِلُ الْحَائِضُ
وَالنُّفَسَاءُ لِلْإِحْرَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا جَاءَهَا الْحَيْضُ فِي وَقْتِ الطَّوَافِ مَا الَّذِي
تَصْنَعُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ
بِالْبَيْتِ فَإِنَّهَا تَجْتَهِدُ أَنْ لَا تَطُوفَ بِالْبَيْتِ إلَّا طَاهِرَةً
فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْهَا التَّخَلُّفُ عَنْ الرَّكْبِ
حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ فَإِنَّهَا إذَا طَافَتْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهِيَ
حَائِضٌ أَجْزَأَهَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ : يُجْزِئُهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عُذْرٌ لَكِنْ
أَوْجَبَ عَلَيْهَا بَدَنَةً . وَأَمَّا أَحْمَد فَأَوْجَبَ عَلَى مَنْ تَرَكَ
الطَّهَارَةَ نَاسِيًا دَمًا وَهِيَ شَاةٌ . وَأَمَّا هَذِهِ الْعَاجِزَةُ عَنْ
الطَّوَافِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ فَإِنْ أَخْرَجَتْ دَمًا فَهُوَ أَحْوَطُ وَإِلَّا
فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ عَلَيْهَا شَيْئًا . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ
نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا . وَقَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَهَذِهِ تَسْتَطِيعُ إلَّا هَذَا . وَالصَّلَاةُ أَعْظَمُ مِنْ الطَّوَافِ وَلَوْ عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنْ شَرَائِطِهَا : مِنْ الطَّهَارَةِ أَوْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فَالطَّوَافُ أَوْلَى بِذَلِكَ . لَوْ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَطُوفَ إلَّا مَعَ النَّجَاسَةِ نَجَاسَةِ الدَّمِ . فَإِنَّهَا تُصَلِّي وَتَطُوفُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَوَضَّأَتْ وَتَطَهَّرَتْ وَفَعَلَتْ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ . وَيَنْبَغِي لِلْحَائِضِ إذَا طَافَتْ أَنْ تَغْتَسِلَ وَتَسْتَثْفِرَ أَيْ تَسْتَحْفِظَ كَمَا تَفْعَلُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ . وَقَدْ أَسْقَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَائِضِ طَوَافَ الْوَدَاعِ . وَأَسْقَطَ عَنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرُّعَاةِ الْمَبِيتَ بِمِنَى ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ . وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ دَمًا فَإِنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّمْيِ بِنَفْسِهِ لِمَرَضِ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَنِيبُ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ لِلْعَجْزِ كَمَنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ حَجَّتْ وَأَحْرَمَتْ لِعُمْرَةِ وَحَجَّةٍ قَارِنَةً وَدَخَلَتْ
إلَى مَكَّةَ وَطَافَتْ وَسَعَتْ وَتَوَجَّهَتْ إلَى مِنَى ثُمَّ إلَى عَرَفَةَ
وَوَقَفَتْ ثُمَّ عَادَتْ إلَى مِنَى وَنُحِرَ عَنْهَا مَا وَجَبَ عَلَيْهَا مِنْ
دَمٍ وَرَمَتْ الْجِمَارَ يَوْمًا وَاحِدًا وَدَخَلَتْ إلَى مَكَّةَ وَطَافَتْ وَعِنْدَمَا
حَضَرَتْ الْحَرَمَ حَاضَتْ وَرَجَعَتْ إلَى مِنَى وَكَتَمَتْ وَهِيَ مُحَقِّقَةٌ
أَنَّ حَجَّهَا قَدْ كَمُلَ وَعَادَتْ إلَى بَلَدِهَا وَبَعْدَ سَنَتَيْنِ
اعْتَرَفَتْ بِمَا وَقَعَ لَهَا قِيلَ لَهَا : يَلْزَمُك الْعَوْدُ وَلَمْ
يُمَكِّنْهَا زَوْجُهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ قَدْ طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهِيَ حَائِضٌ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ نَاوِيَةً أَجْزَأَهَا الْحَجُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَغَايَةُ مَا
يَجِبُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَدَنَةٌ وَعِنْدَ أَحْمَد دَمٌ وَهِيَ
شَاةٌ . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ لَمْ تَطُفْ تَحَلَّلَتْ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ
وَجَازَ لَهَا الطِّيبُ وَتَغْطِيَةُ الْوَجْهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَكِنْ لَا
يَطَؤُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا
الْعَوْدُ فَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَخَّصَ لَهَا فِيهِ أَنَّهَا
تَكُونُ كَالْمُحْصَرَةِ تحلل مِنْ إحْرَامِهَا بِهَدْيِ وَلَكِنَّ الْأَحْوَطَ أَنْ تَبْعَثَ بِهِ إلَى مَكَّةَ لِيُذْبَحَ مِثْلَ أَنْ يُذْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ فَإِذَا ذُبِحَ هُنَاكَ حَلَّتْ هُنَا وَجَازَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ . فَإِذَا وَاعَدَتْ مَنْ يَذْبَحُهُ هُنَاكَ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ حَلَّتْ إلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ ثُمَّ إذَا أَمْكَنَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ مُهِلَّةً بِعُمْرَةِ وَتَطُوفُ هَذَا الطَّوَافَ الْبَاقِيَ عَلَيْهَا ثُمَّ إنْ شَاءَتْ حَجَّتْ مِنْ هُنَاكَ وَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى تَمُوتَ فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا . وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تَبْعَثَ عَنْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَنْهَا فَعَلَ . وَإِنْ كَانَ وَطْؤُهَا قَبْلَ هَذَا الطَّوَافِ لَمْ يَفْسُدْ الْحَجُّ بِذَلِكَ لَكِنْ يَفْسُدُ مَا بَقِيَ وَعَلَيْهَا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كَمَا ذُكِرَ لَكِنْ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد عَلَيْهَا أَنْ تُحْرِمَ بِعُمْرَةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا يُجْزِئُهَا بِلَا إحْرَامٍ جَدِيدٍ هَذَا إذَا كَانَتْ هُنَاكَ . فَأَمَّا إنْ كَانَتْ رَجَعَتْ إلَى بَلَدِهَا وَوَطِئَهَا زَوْجُهَا فَلَا بُدَّ لَهَا إذَا رَجَعَتْ أَنْ تُحْرِمَ بِعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إلَّا مُحْرِمًا بِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ إمَّا وُجُوبًا أَوْ اسْتِحْبَابًا إلَّا مَنْ لَهُ حَاجَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ
أَبُو الْعَبَّاسِ :
أَيُّمَا أَفْضَلُ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ : الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ؟ أَوْ
الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ لِيَعْتَمِرَ مِنْهُ وَيَعُودَ ؟ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ
لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِهِ
أَوْ الطَّوَافُ بَدَلَ ذَلِكَ ؟ وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ لِغَيْرِ
الْمَكِّيِّ : هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَهَلْ فِي اعْتِمَارِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَفِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ
مُسْتَنَدٌ لِمَنْ يَعْتَمِرُ مِنْ مَكَّةَ كَمَا فِي أَمْرِهِ لِعَائِشَةَ أَنْ
تَعْتَمِرَ مَنْ التَّنْعِيمِ ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } هَلْ هِيَ عُمْرَةُ
الْأُفُقِيِّ ؟ أَوْ تَتَنَاوَلُ الْمَكِّيَّ الَّذِي يَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ
لِيَعْتَمِرَ فِي رَمَضَانَ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ مُسْتَوْطِنٍ وَمُجَاوِرٍ وَقَادِمٍ
وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْعُمْرَةِ
وَسَوَاءٌ خَرَجَ فِي ذَلِكَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ وَهُوَ التَّنْعِيمُ الَّذِي
أُحْدِثَ فِيهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُسَمَّى " مَسَاجِدَ عَائِشَةَ "
أَوْ أَقْصَى الْحِلِّ مِنْ أَيِّ جَوَانِبِ الْحَرَمِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِهَةِ
" الْجِعْرَانَةِ " أَوْ " الْحُدَيْبِيَةِ " أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ وَهَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَمَا أَعْلَمُ
فِيهِ مُخَالِفًا مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الْعُمْرَةِ الْمَكِّيَّةِ .
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ مِنْ الْمِيقَاتِ : بِأَنْ يَذْهَبَ إلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ مِنْهُ أَوْ يَرْجِعَ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ يُنْشِئَ السَّفَرَ مِنْهُ لِلْعُمْرَةِ فَهَذِهِ لَيْسَتْ عُمْرَةً مَكِّيَّةً بَلْ هَذِهِ عُمْرَةٌ تَامَّةٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِيهَا . وَهَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ : هَلْ الْمُقَامُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْهَا ؟ أَمْ الرُّجُوعُ إلَى بَلَدِهِ أَوْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ ؟ وَسَيَأْتِي كَلَامُ بَعْضِ مَنْ رَجَّحَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ لِلطَّوَافِ عَلَى الرُّجُوعِ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ . وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَكْرَهُ لِلْمَكِّيِّ الْخُرُوجُ لِلِاعْتِمَارِ مِنْ الْحِلِّ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ مَنْ تُشْرَعُ لَهُ الْعُمْرَةُ كَالْأُفُقِيِّ فِي الْعَامِ أَكْثَرَ مِنْ عُمْرَةٍ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ أَمْ لَا ؟ . فَأَمَّا كَوْنُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ أَفْضَلَ مِنْ الْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَهَذَا مِمَّا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَذَلِكَ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ عِبَادَةِ أَهْلِ مَكَّةَ أَعْنِي مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مُسْتَوْطِنًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَوْطِنٍ وَمِنْ عِبَادَاتِهِمْ الدَّائِمَةِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَلَى سَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فِي كُلِّ
وَقْتٍ وَيُكْثِرُونَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلَاةَ الْبَيْتِ أَنْ لَا يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى فِيهِ أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } [ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ] (*) ، وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَنِ كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِي وَابْنِ مَاجَةُ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِخَلِيلِهِ إمَامِ الْحُنَفَاءِ الَّذِي أَمَرَهُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ وَدَعَا النَّاسَ إلَى حَجِّهِ : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَالْقَائِمِينَ } فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ : الطَّوَافَ وَالْعُكُوفَ وَالرُّكُوعَ مَعَ السُّجُودِ وَقَدَّمَ الْأَخَصَّ فَالْأَخَصَّ فَإِنَّ الطَّوَافَ لَا يُشْرَعُ إلَّا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَضْلِيلِ مَنْ يَطُوفُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِثْلَ مَنْ يَطُوفُ بِالصَّخْرَةِ أَوْ بِحُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِالْمَسَاجِدِ الْمَبْنِيَّةِ بِعَرَفَةَ أَوْ مِنَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ بِقَبْرِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَوْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الطَّوَافَ بِغَيْرِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ دِينًا وَقُرْبَةً عُرِفَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدِينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اتِّخَاذِهِ دِينًا قُتِلَ .
وَأَمَّا " الِاعْتِكَافُ " فَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي الْمَسَاجِدِ دُونَ غَيْرِهَا وَأَمَّا الرُّكُوعُ مَعَ السُّجُودِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي عُمُومِ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ } وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْبِقَاعِ تُمْنَعُ الصَّلَاةُ فِيهَا لِوَصْفِ عَارِضٍ كَنَجَاسَةِ أَوْ مَقْبَرَةٍ أَوْ حُشٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدَّمَ الْأَخَصَّ بِالْبِقَاعِ فَالْأَخَصَّ فَقَدَّمَ الطَّوَافَ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ الْعُكُوفَ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ وَفِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُصَلِّي الْمُسْلِمُونَ فِيهَا الصَّلَاةَ الْمَشْرُوعَةَ وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ جَمَاعَةً ثُمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّ مَكَانَهَا أَعَمُّ . وَمِنْ خَصَائِصِ الطَّوَافِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي ضِمْنِ الْعُمْرَةِ وَفِي ضِمْنِ الْحَجِّ وَلَيْسَ فِي أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ مَا يُشْرَعُ مُنْفَرِدًا عَنْ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ إلَّا الطَّوَافَ فَإِنَّ أَعْمَالَ الْمَنَاسِكِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ : مِنْهَا مَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَجٍّ : وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعُهُ مِنْ الْمَنَاسِكِ الَّتِي بمزدلفة . وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ : وَهُوَ الْإِحْرَامُ وَالْإِحْلَالُ ،
وَالسَّعْيُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } . وَمِنْهَا مَا يَكُونُ فِي الْحَجِّ وَفِي الْعُمْرَةِ وَيَكُونُ مُنْفَرِدًا : وَهُوَ الطَّوَافُ وَالطَّوَافُ أَيْضًا هُوَ أَكْثَرُ الْمَنَاسِكِ عَمَلًا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ لِلْقَادِمِ طَوَافُ الْقُدُومِ وَيُشْرَعُ لِلْحَاجِّ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَذَلِكَ غَيْرُ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ . وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا الطَّوَافُ فِي أَثْنَاءِ الْمُقَامِ بِمِنَى وَيُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ عُمُومًا . وَأَمَّا الِاعْتِمَارُ لِلْمَكِّيِّ بِخُرُوجِهِ إلَى الْحِلِّ فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ إلَّا عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِهِ بَلْ أَذِنَ فِيهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهَا إيَّاهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَأَمَّا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كُلُّهُمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَا قَبْلَ الْحَجَّةِ وَلَا بَعْدَهَا لَا إلَى التَّنْعِيمِ وَلَا إلَى الْحُدَيْبِيَةِ وَلَا إلَى الْجِعْرَانَةِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَجْلِ الْعُمْرَةِ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ الْمُسْتَوْطِنِينَ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى الْحِلِّ لِعُمْرَةِ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ سُنَّتَهُ وَشَرِيعَتَهُ .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَكَّةَ مِنْ حِينِ فَتْحِهِ مَكَّةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَإِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ مَكَّةَ وَلَمْ يَخْرَجْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى الْحِلِّ وَيُهِلَّ مِنْهُ وَلَمْ يَعْتَمِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ قَطُّ لَا مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَا مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَلَا غَيْرِهِمَا بَلْ قَدْ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ : ثَلَاثٌ مُنْفَرِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ . وَجَمِيعُ عُمَرِهِ كَانَ يَكُونُ فِيهَا قَادِمًا إلَى مَكَّةَ لَا خَارِجًا مِنْهَا إلَى الْحِلِّ . فَأَمَّا عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ اعْتَمَرَ مِنْ ذِي الحليفة - مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - هُوَ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ بَايَعُوهُ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ثُمَّ إنَّهُمْ لَمَّا صَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ وَقَاضَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعُمْرَةِ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ وَصَالَحَهُمْ الصُّلْحَ الْمَشْهُورَ حَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْعُمْرَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ ( سُورَةَ الْفَتْحِ ) وَأَنْزَلَ قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } الْآيَةَ . وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْعَامِ . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ سَنَةَ سَبْعٍ بَعْدَ أَنْ فَتَحَ خَيْبَرَ وَكَانَ فَتْحُ خَيْبَرَ عَقِيبَ انْصِرَافِهِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ اعْتَمَرَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَتُسَمَّى " عُمْرَةَ الْقَضَاءِ " وَكَانَتْ عُمْرَتُهُ هَذِهِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَتْ أَيْضًا فِي ذِي الْقِعْدَةِ
وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَكَانَتْ عُمَرُهُ كُلُّهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَوْسَطِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَبَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ جَوَازَ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمَّا اعْتَمَرَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ أَحْرَمُوا أَيْضًا مِنْ ذِي الحليفة وَدَخَلُوا مَكَّةَ وَأَقَامُوا بِهَا ثَلَاثًا وَتَزَوَّجَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ . ثُمَّ إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ نَقَضُوا الْعَهْدَ سَنَةَ ثَمَانٍ فَغَزَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ الْفَتْحِ فِي نَحْوِ عَشَرَةِ آلَافٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَدَخَلَ مَكَّةَ حَلَالًا عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ وَطَافَ بِالْبَيْتِ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي دُخُولِهِ هَذَا وَبَلَغَهُ أَنَّ هَوَازِنَ قَدْ جَمَعَتْ لَهُ فَغَزَاهُمْ غَزْوَةَ حنين وَحَاصَرَ الطَّائِفَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْتَحْهَا وَقَسَمَ غَنَائِمَ حنين بالجعرانة وَأَنْشَأَ حِينَئِذٍ الْعُمْرَةَ بالجعرانة فَكَانَ قَادِمًا إلَى مَكَّةَ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْجِعْرَانَةِ . وَحُكْمُ كُلِّ مَنْ أَنْشَأَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ مِنْ مَكَانٍ دُونَ الْمَوَاقِيتِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الحليفة وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يلملم هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا } .
فَإِحْرَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ كَانَ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ الْعُمْرَةَ مِنْهَا وَبَعْدَ أَنْ حَصَلَ فِيهَا لِأَجْلِ الْغَزْوِ وَالْغَنَائِمِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ لَمْ يُحْرِمْ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا قَادِمًا إلَى مَكَّةَ وَلَا خَارِجًا مِنْهَا بَلْ كَانَ مَحِلُّهُ مِنْ إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ . وَأَمَّا الْجِعْرَانَةُ فَأَحْرَمَ مِنْهَا لِعُمْرَةِ أَنْشَأَهَا مِنْهَا وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ ؛ لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ اثْنَانِ مِمَّنْ لَهُ أَدْنَى خِبْرَةٍ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ . فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَاعْتَمَرَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ الْجِعْرَانَةِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا مُنْكَرًا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ غَلِطَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ عَلَى الْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ طَوَائِفُ مِنْ أَكَابِرِ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ جَمِيعَهُمْ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَيَاتِهِ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَصِيرِهَا دَارَ إسْلَامٍ إلَّا عَائِشَةَ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ مِنْهَا قَبْلَ الْفَتْحِ حِين كَانَتْ دَارَ كُفْرٍ وَكَانَ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إلَى الْمَدِينَةِ وَقَبْلَ هِجْرَتِهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى الْحِلِّ لِيَعْتَمِرَ مِنْهُ إذْ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ مَا زَالَ مَشْرُوعًا مِنْ أَوَّلِ مَبْعَثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَمْ يَزَلْ مِنْ زَمَنِ إبْرَاهِيمَ بَلْ وَمِنْ قَبْلِ إبْرَاهِيمَ أَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِين كَانُوا بِمَكَّةَ مِنْ حِينِ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ إذَا كَانُوا بِمَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ مِنْ مَكَّةَ بَلْ كَانُوا يَطُوفُونَ وَيَحُجُّونَ مِنْ الْعَامِ إلَى الْعَامِ وَكَانُوا يَطُوفُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَارٍ كَانَ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ إنَّمَا هُوَ الطَّوَافُ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ لَهُمْ مِنْ الْخُرُوجِ لِلْعُمْرَةِ إذْ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَتَّفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ عَلَى عَهْدِهِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْمَفْضُولِ وِتْرِك الْأَفْضَلِ فَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْأَفْضَلَ وَلَا يُرَغِّبُهُمْ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَرُوِيَ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا فَرُوِيَ وُجُوبُهَا عَنْ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا . وَرُوِيَ عَدَمُ الْوُجُوبِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَالْأَوَّلُ : هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالثَّانِي : هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِمَا وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَمَعَ هَذَا فَالْمَنْقُولُ الصَّرِيحُ عَمَّنْ أَوْجَبَ الْعُمْرَةَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يُوجِبْهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : كَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرَى الْعُمْرَةَ وَاجِبَةً وَيَقُولُ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةٌ إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ طَوَافُكُمْ بِالْبَيْتِ وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ - أَعْلَمُ التَّابِعِينَ بِالْمَنَاسِكِ
وَإِمَامُ النَّاسِ فِيهَا - لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلَّا عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجَبَتَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا لِمَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِمَا سَبِيلًا إلَّا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ حَجَّةً وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ عُمْرَةٌ مِنْ أَجْلِ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ وَهُمْ يَفْعَلُونَهُ فَأَجْزَأَ عَنْهُمْ . وَقَالَ طاوس لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عُمْرَةٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ . وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا لَمْ يَسْتَحِبُّوهَا لِأَهْلِ مَكَّةَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبُوهَا كَمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ . فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ " الْمُصَنَّف " ثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ عَطَاءٌ قَالَ : لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عُمْرَةٌ . قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنْتُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا عُمْرَةَ لَكُمْ إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ فَمَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ بَطْنَ وَادٍ فَلَا يَدْخُلُ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامِ قَالَ : فَقُلْت لِعَطَاءِ : أَيُرِيدُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَادٍ مِنْ الْحِلِّ ؟ قَالَ : بَطْنَ وَادٍ مِنْ الْحِلِّ . وَقَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ كيسان سَمِعْت ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ : لَا يَضُرُّكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ لَا تَعْتَمِرُوا فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَاجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَمِ بَطْنَ وَادٍ . وَقَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ خَلَفِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَالِمٍ : قَالَ : لَوْ كُنْت مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَا اعْتَمَرْت وَقَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ عُثْمَانَ عَنْ عَطَاءٌ قَالَ : لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عُمْرَةٌ إنَّمَا يَعْتَمِرُ مَنْ زَارَ الْبَيْتَ لِيَطُوفَ بِهِ وَأَهْلُ مَكَّةَ يَطُوفُونَ مَتَى شَاءُوا
وَهَذَا نَصُّ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا عُمْرَةَ عَلَيْهِمْ مَعَ قَوْلِهِ بِوُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا كَانَ تَحْقِيقُ مَذْهَبِهِ إذَا أَوْجَبَ الْعُمْرَةَ أَنَّهَا تَجِبُ إلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَعَلَ هَذَا التَّفْرِيقَ رِوَايَةً ثَالِثَةً عَنْهُ وَأَنَّ الْقَوْلَ بِالْإِيجَابِ يَعُمُّ مُطْلَقًا . وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا عُمْرَةَ عَلَيْهِمْ مَعَ الْحَجَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ مِنْهُمْ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَجِّ فَهَذَا خِلَافُ نُصُوصِ أَحْمَد الصَّرِيحَةِ عَنْهُ بِالتَّفْرِيقِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ، قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ لَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَلَكَانُوا يَفْعَلُونَهَا وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُونُوا أَهْلُ مَكَّةَ يَعْتَمِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلًا بَلْ وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقُلَ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةَ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ لِلسُّنَنِ إذَا أَرَادُوا ذِكْرَ مَا جَاءَ مِنْ السُّنَّةِ فِي الْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ إلَّا قَضِيَّةُ عَائِشَةَ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَا دُونَ هَذَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَلَوْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ كُلُّهُمْ بَلْ
أَوْ بَعْضُهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُونَ إلَى الْحِلِّ فَيَعْتَمِرُونَ فِيهِ لَنُقِلَ ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ خُرُوجُهُمْ فِي الْحَجِّ إلَى عَرَفَاتٍ وَقَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَخَرَجَ مَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ إلَى عَرَفَاتٍ وَلَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجَّةِ وَلَا قَبْلَهَا أَحَدٌ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لَا أَهْلُ مَكَّةَ وَلَا غَيْرُهُمْ إلَّا عَائِشَةَ ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ زَمَنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . حَتَّى قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُمَا لَمَّا بَعُدَ عَهْدُ النَّاسِ بِالنُّبُوَّةِ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةٌ إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَعْتَمِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُؤْمَرُونَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِثْلُ هَذَا خَافِيًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إمَامِ أَهْلِ مَكَّةَ . وَأَعْلَمِ الْأُمَّةِ فِي زَمَنِهِ بِالْمَنَاسِكِ وَغَيْرِهَا . وَكَذَلِكَ عَطَاءٌ بَعْدَهُ إمَامُ أَهْلِ مَكَّةَ بَلْ إمَامُ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الْمَنَاسِكِ حَتَّى كَانَ يُقَالُ فِي أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ الْأَرْبَعَةِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إمَامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ إمَامُ أَهْلِ مَكَّةَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِي إمَامُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إمَامُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْمَنَاسِكِ عَطَاءٌ وَأَعْلَمُهُمْ بِالصَّلَاةِ إبْرَاهِيمُ وَأَجْمَعُهُمْ الْحَسَنُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَتَضَمَّنُ الْقَصْدَ إلَى بَيْتِ
اللَّهِ الْمُحِيطِ بِهِ حَرَمُ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ فِي نُسُكِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ حَتَّى يَكُونَ قَاصِدًا لِلْحَرَمِ مِنْ الْحِلِّ فَيَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الْقَصْدِ إلَى اللَّهِ وَالتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِهِ وَحَرَمِهِ فَمَنْ كَانَ بَيْتُهُ خَارِجَ الْحَرَمِ فَهُوَ قَاصِدٌ مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ إلَى الْبَيْتِ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ بِالْحَرَمِ كَأَهْلِ مَكَّةَ فَهُمْ فِي الْحَجِّ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَاتٍ وَعَرَفَاتٌ هِيَ مِنْ الْحِلِّ فَإِذَا فَاضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ قَصَدُوا حِينَئِذٍ الْبَيْتَ مِنْ الْحِلِّ . وَلِهَذَا كَانَ الطَّوَافُ الْمَفْرُوضُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَهُوَ الْقَصْدُ مِنْ الْحِلِّ إلَى الْكَعْبَةِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْحَجِّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجُّ عَرَفَةُ } وَلِهَذَا كَانَ الْحَجُّ يُدْرَكُ بِإِدْرَاكِ التَّعْرِيفِ وَيَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ بَعْدَ يَوْمِ التَّعْرِيفِ فَحَقِيقَةُ الْحَجِّ مُمْكِنَةٌ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا هِيَ مُمْكِنَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ إذْ مَا قَبْلَ التَّعْرِيفِ مِنْ الْأَعْمَالِ كَطَوَافِ الْقُدُومِ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ أَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ وَكَانَتْ مُتَمَتِّعَةً أَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْقُضَ رَأْسَهَا وَتَمْتَشِطَ وَتُهِلَّ بِالْحَجِّ وَتَدَعَ الْعُمْرَةَ . فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ جَعَلَهَا قَارِنَةً وَأَسْقَطَ عَنْهَا طَوَافَ الْقُدُومِ
فَسُقُوطُهُ عَنْ الْمُفْرِدِ لِلْحَجِّ أَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ جَعَلَهَا رَافِضَةً لِلْعُمْرَةِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي سُقُوطِهِ عَنْ غَيْرِ الْمَعْذُورِ فَعَلَى الْقَوْلَانِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُفْرِدَةً أَوْ قَارِنَةً كَانَ سُقُوطُ طَوَافِ الْقُدُومِ عَنْهَا إذَا كَانَتْ حَائِضًا أَوْلَى مِنْ الْعُمْرَةِ وَطَوَافِهَا . وَهَذَا بِخِلَافِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا قِيلَ { إنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حيي قَدْ حَاضَتْ : قَالَ عَقْرَى حَلْقَى أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ فَقِيلَ لَهُ : إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ قَالَ : فَلَا إذًا } . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَنْفِرَ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ وَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ الْوَدَاعِ . وَمَا سَقَطَ بِالْعُذْرِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهَا وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ طَوَافُ قُدُومٍ وَلَا طَوَافُ وَدَاعٍ لِانْتِفَاءِ مَعْنَى ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَادِمِينَ إلَيْهَا وَلَا مُوَدِّعِينَ لَهَا مَا دَامُوا فِيهَا . فَظَهَرَ أَنَّ الْحَجَّ الَّذِي أَصْلُهُ التَّعْرِيفُ لِلطَّوَافِ بَعْدَ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ فِيهِمْ . وَأَمَّا الْعُمْرَةُ : فَإِنَّ جِمَاعَهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الْحَرَمِ وَهُوَ فِي الْحَرَمِ دَائِمًا . وَالطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ تَابِعٌ فِي الْعُمْرَةِ وَلِهَذَا لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ وَلَا يَتَكَرَّرُ فِعْلُهُ لَا فِي حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ . فَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ مِنْ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ وَذَلِكَ يُمْكِنُ أَهْلَ مَكَّةَ بِلَا خُرُوجٍ مِنْ الْحَرَمِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ وَلِأَنَّ الطَّوَافَ وَالْعُكُوفَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَادِمِ إلَى مَكَّةَ وَأَهْلُ مَكَّةَ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْمَقْصُودِ بِلَا وَسِيلَةٍ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يَتْرُكَ الْمَقْصُودَ وَيَشْتَغِلَ بِالْوَسِيلَةِ . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَشْيَ الْمَاشِي حَوْلَ الْبَيْتِ طَائِفًا هُوَ الْعِبَادَةُ الْمَقْصُودَةُ وَأَنَّ مَشْيَهُ مِنْ الْحِلِّ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ وَطَرِيقٌ فَمَنْ تَرَكَ الْمَشْيَ مِنْ هَذَا الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْعِبَادَةُ وَاشْتَغَلَ بِالْوَسِيلَةِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ وَهُوَ أَشَرُّ مِنْ جَهْلِ مَنْ كَانَ مُجَاوِرًا لِلْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُمْكِنُهُ التَّبْكِيرُ إلَى الْمَسْجِدِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ فَذَهَبَ إلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ لِيَقْصِدَ الْمَسْجِدَ مِنْهُ وَفَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ مَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الصَّلَاةِ الْمَقْصُودَةِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِمَارَ افْتِعَالٌ : مِنْ عَمَرَ يَعْمُرُ وَالِاسْمُ فِيهِ " الْعُمْرَةُ " قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } . وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ إنَّمَا هِيَ بِالْعِبَادَةِ فِيهَا وَقَصْدِهَا لِذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ } لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ :
{ إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } . وَالْمُقِيمُ بِالْبَيْتِ أَحَقُّ بِمَعْنَى الْعِمَارَةِ مِنْ الْقَاصِدِ لَهُ وَلِهَذَا قِيلَ : الْعُمْرَةُ هِيَ الزِّيَارَةُ لِأَنَّ الْمُعْتَمِرَ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ الْحِلِّ وَذَلِكَ هُوَ الزِّيَارَةُ . وَأَمَّا الْأُولَى فَيُقَالُ لَهَا عِمَارَةٌ وَلَفْظُ عِمَارَةٍ أَحْسَنُ مِنْ لَفْظِ عُمْرَةٍ وَزِيَادَةُ اللَّفْظِ يَكُونُ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى . وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { بعض أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَقَالَ آخَرُ : لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَجِيجَ فَقَالَ عَلِيٌّ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا ذَكَرْتُمْ . فَقَالَ عُمَرُ : لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قُضِيَتْ الْجُمُعَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ دَخَلْت عَلَيْهِ فَسَأَلْته فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } الْآيَةَ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُقِيمُ فِي الْبَيْتِ طَائِفًا فِيهِ وَعَامِرًا لَهُ بِالْعِبَادَةِ قَدْ أَتَى بِمَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْ مَعْنَى الْمُعْتَمِرِ وَأَتَى بِالْمَقْصُودِ بِالْعُمْرَةِ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ عَنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ لِيَصِيرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَامِرًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ .
فَصْلٌ
:
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ
فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَارَ مِنْ مَكَّةَ وَتَرْكَ الطَّوَافِ
لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ ؛ بَلْ الْمُسْتَحَبُّ هُوَ الطَّوَافُ دُونَ الِاعْتِمَارِ
؛ بَلْ الِاعْتِمَارُ فِيهِ حِينَئِذٍ هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهُ السَّلَفُ
وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ
عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَنْهَوْنَ
عَنْ ذَلِكَ فَرَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ طاوس أَجَلِّ أَصْحَابِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ : الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ مِنْ التَّنْعِيمِ مَا أَدْرِي
أَيُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا أَمْ يُعَذَّبُونَ ؟ قِيلَ : فَلِمَ يُعَذَّبُونَ ؟ قَالَ
: لِأَنَّهُ يَدَعُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَيَخْرُجُ إلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ
وَيَجِيءُ . وَإِلَى أَنْ يَجِيءَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ قَدْ طَافَ مِائَتَيْ
طَوَافٍ وَكُلَّمَا طَافَ بِالْبَيْتِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَمْشِيَ فِي
غَيْرِ شَيْءٍ . قَالَ أَبُو طَالِبٍ : قِيلَ : لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . مَا
تَقُولُ فِي عُمْرَةِ الْمُحْرِمِ ؟ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ فِيهَا ؟ الْعُمْرَةُ
عِنْدِي الَّتِي تَعْمِدُ لَهَا مِنْ مَنْزِلِك . قَالَ اللَّهُ :
{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَقَالَتْ عَائِشَةَ : إنَّمَا الْعُمْرَةُ عَلَى قَدْرِهِ ؛ يَعْنِي عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ وَالنَّفَقَةِ . وَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ وَعُمَرَ : إنَّمَا إتْمَامُهَا أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ دويرة أَهْلِك . قَالَ أَبُو طَالِبٍ : قُلْت لِأَحْمَدَ قَالَ طاوس : الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ مَنْ التَّنْعِيمِ لَا أَدْرِي يُؤْجَرُونَ ؟ أَوْ يُعَذَّبُونَ ؟ قِيلَ لَهُ : لِمَ يُعَذَّبُونَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ تَرَكَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَيَخْرُجُ إلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ وَيَخْرُجُ إلَى أَنْ يَجِيءَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ قَدْ طَافَ مِائَتَيْ طَوَافٍ وَكُلَّمَا طَافَ بِالْبَيْتِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَمْشِيَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ . فَقَدْ أَقَرَّ أَحْمَد قَوْلَ طاوس هَذَا الَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ لِقَوْلِهِ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي . وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : سُئِلَ عَلِيٌّ وَعُمَرَ وَعَائِشَةُ عَنْ الْعُمْرَةِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ فَقَالَ عُمَرُ : هِيَ خَيْرٌ مِنْ لَا شَيْءَ وَقَالَ هِيَ خَيْرٌ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ وَقَالَتْ عَائِشَةَ : الْعُمْرَةُ عَلَى قَدْرِ النَّفَقَةِ ؟ وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ : لَأَنْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَتَصَدَّقَ عَلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ الْعُمْرَةَ الَّتِي اعْتَمَرْت مِنْ التَّنْعِيمِ . وَقَالَ طاوس : فَمَنْ اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ مَا أَدْرِي أَيُعَذَّبُونَ عَلَيْهَا أَمْ يُؤْجَرُونَ ؟ وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ : اعْتَمَرْنَا بَعْدَ الْحَجِّ فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَقَدْ أَجَازَهَا آخَرُونَ ؛ لَكِنْ لَمْ يَفْعَلُوهَا وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَأَلَهَا
سَائِلٌ عَنْ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ فَأَمَرَتْهُ بِهَا . وَسُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ فَقَالَ : هِيَ تَامَّةٌ وَمُجْزِئَةٌ . وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : عُمْرَةُ الْمُحْرِمِ تَامَّةٌ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ : قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عَطَاءٌ يَقُولُ : طَوَافُ سَبْعٍ خَيْرٌ لَك مِنْ سَفَرِك إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ : فَآتِي جُدَّةَ قَالَ : لَا إنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالطَّوَافِ قَالَ : قُلْت : فَأَخْرُجُ إلَى الشَّجَرَةِ فَأَعْتَمِرُ مِنْهَا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَا زَالَتْ قَدَمَايَ مُنْذُ قَدِمْت مَكَّةَ قَالَ قُلْت : فَالِاخْتِلَافُ أَحَبُّ إلَيْك مِنْ الْجَوَازِ قَالَ : لَا بَلْ الِاخْتِلَافُ . قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ : قُلْت لِلْمُثَنَّى : إنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِيَ الْمَدِينَةَ قَالَ : لَا تَفْعَلْ سَمِعْت عَطَاءٌ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ : طَوَافُ سَبْعٍ بِالْبَيْتِ خَيْرٌ لَك مِنْ سَفَرِك إلَى الْمَدِينَةِ . وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " الْمُصَنَّفِ " حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَسْلَمَ المنقري قَالَ : قُلْت لِعَطَاءِ : أَخْرُجُ إلَى الْمَدِينَةِ أُهِلُّ بِعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : طَوَافُك بِالْبَيْتِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَفَرِك إلَى الْمَدِينَةِ . وَقَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا عُمَرُ بْنُ زَرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : طَوَافُك بِالْبَيْتِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَفَرِك إلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٌ قَالَ : الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْعُمْرَةِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ فِي رَمَضَانَ لِلْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ فَهُنَا
ثَلَاثُ مَسَائِلَ مُرَتَّبَةٍ : أَحَدُهَا : الِاعْتِمَارُ فِي الْعَامِ أَكْثَرَ
مِنْ مَرَّةٍ ثُمَّ الِاعْتِمَارُ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ ثُمَّ كَثْرَةُ
الِاعْتِمَارِ لِلْمَكِّيِّ . فَأَمَّا " كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ
الْمَشْرُوعِ " : كَاَلَّذِي يَقْدَمُ مِنْ دويرة أَهْلِهِ فَيَحْرِمُ مِنْ
الْمِيقَاتِ بِعُمْرَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ يَفْعَلُونَ وَهَذِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهُمْ
فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ
أَكْثَرَ مِنْ عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ : مِنْهُمْ الْحَسَنُ
وَابْنُ سِيرِين وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي : مَا
كَانُوا يَعْتَمِرُونَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا
يَعْتَمِرُونَ إلَّا عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يَعْتَمِرُوا فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ
فَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا فَعَلُوهُ كَالْإِحْرَامِ مِنْ فَوْقِ الْمِيقَاتِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ { في كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : أَنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ
الْحَجُّ الْأَصْغَرُ } وَقَدْ دَلَّ
الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } وَالْحَجُّ لَا يُشْرَعُ فِي الْعَامِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَذَلِكَ الْعُمْرَةُ . وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ . مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ : عَطَاءٌ وطاوس وَعِكْرِمَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ الصَّحَابَةِ : كَعَلِيِّ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةُ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ اعْتَمَرَتْ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَتَهَا الَّتِي كَانَتْ مَعَ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةَ الَّتِي اعْتَمَرَتْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ الَّتِي تَلِي أَيَّامَ مِنَى وَهِيَ لَيْلَةُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَمْ تَرْفُضْ عُمْرَتَهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ قَارِنَةً . وَأَيْضًا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ } وَهَذَا مَعَ إطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ إذْ لَوْ كَانَتْ الْعُمْرَةُ لَا تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً لَكَانَتْ كَالْحَجِّ فَكَانَ يُقَالُ الْحَجُّ إلَى الْحَجِّ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ : رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ : فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا حَمَّمَ رَأْسُهُ
خَرَجَ
فَاعْتَمَرَ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ سويد بْنِ أَبِي نَاجِيَةَ
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : أَعْتَمِرُ فِي الشَّهْرِ إنْ
أَطَقْت مِرَارًا . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ
أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ بَعْضِ وَلَدِ أَنَسٍ : أَنْ أَنَسًا كَانَ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ
فَحَمَّمَ رَأْسُهُ خَرَجَ إلَى التَّنْعِيمِ وَاعْتَمَرَ . وَهَذِهِ - وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ - هِيَ عُمْرَةُ الْحَرَمِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ بِمَكَّةَ
إلَى الْمُحَرَّمِ ثُمَّ يَعْتَمِرُونَ . وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْعُمْرَةَ مِنْ
مَكَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ
وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ
الْمَشْهُورِ مُرْسَلًا : عَنْ ابْنِ سِيرِين قَالَ : { وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ مَكَّةَ التَّنْعِيمَ } . وَقَالَ
عِكْرِمَةُ : يَعْتَمِرُ إذَا أَمْكَنَ الْمُوسَى مِنْ رَأْسِهِ إنْ شَاءَ
اعْتَمَرَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : اعْتَمَرَ فِي
الشَّهْرِ مِرَارًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ يَفُوتُ
بِهِ كَوَقْتِ الْحَجِّ فَإِذَا كَانَ وَقْتُهَا مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الْعَامِ
لَمْ تُشْبِهْ الْحَجَّ فِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَرَّةً .
فَصْلٌ :
" الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ " : فِي الْإِكْثَارِ مِنْ الِاعْتِمَارِ
وَالْمُوَالَاةِ بَيْنَهَا :
مِثْلَ أَنْ يَعْتَمِرَ مَنْ يَكُونُ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا مِنْ الْحَرَمِ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّ يَوْمَيْنِ أَوْ يَعْتَمِرَ الْقَرِيبُ مِنْ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ يَوْمَانِ : فِي الشَّهْرِ خُمْسَ عُمَرٍ أَوْ سِتَّ عُمَرٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ . أَوْ يَعْتَمِرَ مَنْ يَرَى الْعُمْرَةَ مِنْ مَكَّةَ كُلَّ يَوْمٍ عُمْرَةً أَوْ عُمْرَتَيْنِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ بَلْ اتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهِيَتِهِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَلَيْسَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ أَصْلًا إلَّا مُجَرَّدَ الْقِيَاسِ الْعَامِّ . وَهُوَ أَنَّ هَذَا تَكْثِيرٌ لِلْعِبَادَاتِ أَوْ التَّمَسُّكَ بالعمومات فِي فَضْلِ الْعُمْرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي أَكْثَرَ مِنْ عُمْرَةٍ فِي الْحَوْلِ أَكْثَرُ مَا قَالُوا : يَعْتَمِرُ إذَا أَمْكَنَ الْمُوسَى مِنْ رَأْسِهِ أَوْ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد . قَالَ أَحْمَد : إذَا اعْتَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَفِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ يُمْكِنُ حَلْقُ الرَّأْسِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِعْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ : أَنَّهُ كَانَ إذَا حَمَّمَ رَأْسُهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ . وَهَذَا لِأَنَّ تَمَامَ النُّسُكِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ فِيهِ أَوْ مُسْتَحَبٌّ . وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحْمَد أَوْ نَحْوِهِ أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مُبَاحًا لَا اسْتِحْبَابًا فَقَدْ غَلِطَ . فَمُدَّةُ نَبَاتِ الشَّعْرِ أَقْصَرُ مُدَّةٍ يُمْكِنُ فِيهَا إتْمَامُ النُّسُكِ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِالْعُمْرَةِ
عَقِيبَ الْحَجِّ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لِلْمُفْرِدِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ لِضَرُورَةِ فِعْلِ الْعُمْرَةِ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ السَّلَفُ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الثَّابِتُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ جَمِيعَهُمْ إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَقَالَ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . فَكَانَتْ عُمْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ بِأَمْرِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَاخِلَةً فِي حَجِّهِمْ لَيْسَ بَيْنَهُمْ فَرْقٌ إلَّا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ - وَهُمْ الَّذِينَ لَا هَدْيَ مَعَهُمْ - حَلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَاَلَّذِينَ مَعَهُمْ الْهَدْيُ أَقَامُوا عَلَى إحْرَامِهِمْ وَكُلُّ ذَاكَ كَانُوا يُسَمُّونَهُ تَمَتُّعًا بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّ الْقَارِنَ مُتَمَتِّعٌ كَمَا أَنَّ مَنْ حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ ثُمَّ حَجَّ مُتَمَتِّعٌ . فَمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ فِي لُغَةِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ وَالْقَارِنُ يَكُونُ قَارِنًا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ ابْتِدَاءً وَيَكُونُ قَارِنًا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْلَ الطَّوَافِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ إحْرَامِهِ لِكَوْنِهِ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ وَيُسَمِّيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِمْ قَارِنًا لِعَدَمِ وُجُودِ التَّحَلُّلِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لَا يُسَمَّى قَارِنًا لِأَنَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ سَعْيًا آخَرَ بَعْدَ طَوَافِ الْفَرْضِ بِخِلَافِ الْقَارِنِ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ فَقَدْ اسْتَحَبَّ السَّعْيَ مَرَّةً ثَانِيَةً عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَكْفِيهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا : { أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ تَمَتَّعُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً طَوَافَهُمْ الْأَوَّلَ } . وَلِهَذَا لَمَّا أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى فِيمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَعَلَى مَنْ قَرَنَ الْعُمْرَةَ بِالْحَجِّ مِنْ حِينِ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ أَوْ فِي أَثْنَاءِ إحْرَامِهِ فِي الْحَجِّ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةِ التَّمَتُّعِ وَلَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ إلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قَدْ يُسَمِّيهِ - مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقِرَانِ وَبَيْنَ التَّمَتُّعِ الْخَاصِّ - قَارِنًا لِكَوْنِهِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَقَدْ يُسَمُّونَهُ مُتَمَتِّعًا وَهُوَ أَشْهَرُ لِكَوْنِهِ لَمْ يُحْرِمْ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ الْحُكْمُ بِحَالِ إلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ السَّعْيِ ثَانِيًا وَفِيمَنْ قَدْ يَسْتَحِبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الْقُدُومِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا عَنْ أَحْمَد
وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَهُمَا كَانَ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَوَابًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ : كَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَغَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إفْرَادَ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَوَوْا ذَلِكَ هُمْ الَّذِينَ رَوَوْا أَنَّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجِّ فَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِتَحَلُّلِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَمَتِّعُ إذَا تَحَلَّلَ مِنْ عُمْرَتِهِ وَلَا كَانَ فِي عَمَلِهِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ ؛ بِخِلَافِ الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي تَحَلَّلَ مِنْ إحْرَامِهِ فَإِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ عُمْرَةِ تَمَتُّعِهِ وَحَجِّهِ بِتَحَلُّلِ . وَلَمْ يَعْتَمِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ حَجَّتِهِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ إلَّا عَائِشَةَ . فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ مُتَوَاتِرٌ تَوَاتُرًا يَعْرِفُهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ بِحَجَّتِهِ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ حَجَّتِهِ . لَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ الَّذِي هُوَ التَّنْعِيمُ الَّذِي بُنِيَتْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ " مَسَاجِدَ عَائِشَةَ " وَلَا مِنْ غَيْرِ التَّنْعِيمِ .
وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ : عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ وَالْعُمْرَةَ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ . فَإِنَّمَا مَعْنَاهَا أَنَّهُ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ مُتَمَتِّعٍ سَاقَ الْهَدْيَ . وَهَذَا أَيْضًا قَارِنٌ فَتَسْمِيَتُهُ مُتَمَتِّعًا وَقَارِنًا سَوَاءٌ إذَا كَانَ قَدْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَهَذَا مُتَمَتِّعٌ وَهُوَ قَارِنٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ غَلِطَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَقَالَ : إنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَقَطْ وَلَمْ يَقْرِنْ بِهِ عُمْرَةً لَا قَبْلَهُ وَلَا مَعَهُ أَوْ قَالَ : إنَّهُ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا ثُمَّ عَقَبَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يُنْكِرُ أَنَّ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ وَيَلْزَمُهُ رَدُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُبَيِّنَةِ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ غَيْرَ عَائِشَةَ عَقِبَ الْحَجِّ . وَلِهَذَا كَانَ هَذَا حُجَّةً قَاطِعَةً عَلَى مَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ بِذَلِكَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِهَا أَوْ بِتَوْكِيدِ اسْتِحْبَابِهَا دُونَ وُجُوبِهَا ؛ لِأَنَّ { الصَّحَابَةَ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ هَكَذَا فَعَلُوا وَأَخْبَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَقَالُوا لَهُ : أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا ؟ أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : بَلْ لِلْأَبَدِ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . قَالَ :
وَمَنْ رَوَى مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ أَرَادُوا بِذَلِكَ بَيَانَ أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ لِعُمْرَةِ التَّمَتُّعِ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا سَاقُوا الْهَدْيَ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ حِينَ قَدِمُوا مَكَّةَ فَطَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مِنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ عَمَلًا بِمَعْنَى قَوْلِهِ : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَتْ هَكَذَا . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَصَارَ يَظُنُّ قَوْمٌ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ وَرُوِيَ أَيْضًا مَنْ رَوَى مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ : أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ ؛ لِيُزِيلُوا بِذَلِكَ ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَأَخْبَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ بَلْ فَعَلَ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ أَفْرَدَ الْحَجَّ مِنْ بَقَائِهِ عَلَى إحْرَامِهِ وَعَمَلِ مَا يَعْمَلُهُ الْمُفْرِدُ . فَرِوَايَاتُ الصَّحَابَةِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى هَذَا . وَكُلُّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَوَى الْإِفْرَادَ فَقَدْ رَوَى التَّمَتُّعَ وَفَسَّرُوا التَّمَتُّعَ بِالْقِرَانِ وَرَوَوْا عَنْهُ صَرِيحًا { أنه قَالَ : لَبَّيْكَ
عُمْرَةً وَحَجًّا } وَأَنَّهُ { قال : أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ فَقَالَ : قُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ } . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ لَهُ أَفْضَلُ وَمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ الْخَاصُّ أَفْضَلُ لَهُ وَإِنْ قَدِمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَبْلَهُ بِعُمْرَةِ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَفْرَدَ الْحَجَّ بِسَفْرَةِ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُتْعَةِ الْمُجَرَّدَةِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ أَفْرَدَ الْعُمْرَةَ بِسَفْرَةِ ثُمَّ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُتَمَتِّعًا فَهَذَا لَهُ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ فَهُوَ أَفْضَلُ كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ اعْتَمَرُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ تَمَتَّعُوا مَعَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَهَذَا أَفْضَلُ الْإِتْمَامِ . وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَوَّلًا ثُمَّ قَرَنَ فِي حَجِّهِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ لَمَّا سَاقَ الْهَدْيَ ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ فَلَمْ يَطُفْ لِلْعُمْرَةِ طَوَافًا رَابِعًا وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّهُ أَفْرَدَ بِالْحَجِّ . ثُمَّ إنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمَّا رَأَوْا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّهُولَةِ صَارُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَتْرُكُونَ سَائِرَ الْأَشْهُرِ . لَا يَعْتَمِرُونَ فِيهَا مِنْ أَمْصَارِهِمْ فَصَارَ الْبَيْتُ يَعْرَى عَنْ الْعُمَّارِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي سَائِرِ الْحَوْلِ فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِمَا هُوَ أَكْمَلُ لَهُمْ بِأَنْ يَعْتَمِرُوا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيَصِيرُ الْبَيْتُ مَقْصُودًا مَعْمُورًا فِي
أَشْهُرِ
الْحَجِّ وَغَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ لَهُمْ عُمَرُ
هُوَ الْأَفْضَلُ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنْ
الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَإِنَّ الْإِمَامُ
أَحْمَد يَقُولُ : إنَّهُ إذَا اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ
أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعُمْرَةَ إلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ سَوَاءٌ قَدِمَ
مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاعْتَمَرَ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ
مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ أَوْ اعْتَمَرَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ أَوْ مِيقَاتِ
بَلَدِهِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْقَاصِدَ لِمَكَّةَ
إذَا قَدِمَ مَثَلًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَاعْتَمَرَ فِيهِ حَصَلَ لَهُ مَا
ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { عُمْرَةٌ
فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } . وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ مُعْتَمِرًا
وَأَقَامَ بِمَكَّةَ فَذَلِكَ كُلُّهُ أَفْضَلُ لَهُ فَإِنَّهُ يَطُوفُ بِمَكَّةَ
وَيَعْتَكِفُ بِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ إلَى حِينِ الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَإِنْ
رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ ثُمَّ قَدِمَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَقَدْ أَفْرَدَ
لِلْعُمْرَةِ سَفَرًا وَلِلْحَجِّ سَفَرًا وَذَلِكَ أَتَمُّ لَهُمَا كَمَا قَالَ
عَلِيٌّ فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دويرة أَهْلِك . أَيْ : تُنْشِئُ
السَّفَرَ لَهُمَا مِنْ دويرة أَهْلِك .
وَأَمَّا مَنْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ . ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ
ثُمَّ قَدِمَ ثَانِيًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ بِعُمْرَةِ إلَى
الْحَجِّ فَهَذَا أَفْضَلُ مِمَّنْ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْحَجِّ فِي
سَفْرَتِهِ الثَّانِيَةِ إذَا اعْتَمَرَ مَعَهَا عَقِيبَ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مَعَ الْحَجِّ تَمَتُّعًا
هُوَ قِرَانٌ كَمَا بَيَّنُوا وَلِأَنَّ مَنْ
تَحْصُلُ
لَهُ عُمْرَةٌ مُفْرَدَةٌ وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّةٍ أَفْضَلِ مِمَّنْ لَا يَحْصُلُ
لَهُ إلَّا عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةُ تَمَتُّعٍ أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةٍ
مَكِّيَّةٍ عَقِيبَ الْحَجِّ . فَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ عُمَرُ لِلنَّاسِ هُوَ
الِاخْتِيَارُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ : كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَمَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ . وَلَا يُعْرَفُ فِي اخْتِيَارِ ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ . وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلَ الْأَرْجَحَ وَكَانَ إنْ
لَمْ يُؤْمَرْ النَّاسُ بِهِ زَهِدُوا فِيهِ وَأَعْرَضُوا عَمَّا هُوَ أَنْفَعُ
لَهُمْ فِي دِينِهِمْ كَانَ مِنْ اجْتِهَادِ عُمَرُ وَنَظَرِهِ لِرَعِيَّتِهِ
أَنَّهُ أَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ كَمَا يُلْزِمُ الْأَبُ الشَّفِيقُ وَلَدَهُ مَا
هُوَ أَصْلَحُ لَهُ وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ
وَهَذَا كَانَ مَوْضِعَ اجْتِهَادٍ خَالَفَهُ فِيهِ عَلِيٌّ وَعِمْرَانُ بْنُ
حُصَيْنٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرَوْا أَنْ يُؤْمَرَ النَّاسُ
بِذَلِكَ أَمْرًا بَلْ يُتْرَكُونَ مَنْ أَحَبَّ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ
الْحَجِّ وَمَنْ أَحَبَّ اعْتَمَرَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ .
وَقَوِيَ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ فِي " خِلَافَةِ عُثْمَانُ " حَتَّى
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عُثْمَانُ كَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ
فَلَمَّا رَآهُ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا وَقَالَ : لَمْ أَكُنْ لِأَدَعَ سُنَّةَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ وَنَهْيُ
عُثْمَانُ كَانَ لِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ لَا نَهْيَ كَرَاهَةٍ . فَلَمَّا
حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِمَقْتَلِ عُثْمَانَ
وَمَصِيرِ النَّاسِ
شِيعَتَيْنِ : قَوْمًا يَمِيلُونَ إلَى عُثْمَانَ وَشِيعَتِهِ وَقَوْمًا يَمِيلُونَ إلَى عَلِيٍّ وَشِيعَتِهِ صَارَ قَوْمٌ مِنْ وُلَاةِ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُتْعَةِ وَيُعَاقِبُونَ مَنْ يَتَمَتَّعُ وَلَا يُمَكِّنُونَ أَحَدًا مِنْ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ . فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا جَعَلُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْمُتْعَةِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيُخْبِرُونَ النَّاسَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَمَرَ بِهَا أَصْحَابَهُ فِي " حَجَّةِ الْوَدَاعِ " فَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يُنَاظِرُهُمْ بِمَا تَوَهَّمَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَيَقُولُونَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : إنَّ أَبَاك كَانَ يَنْهَى عَنْهَا فَيَقُولُ : إنَّ أَبِي لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ وَلَا كَانَ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ عُمَرُ قَصَدَ أَمْرَ النَّاسِ بِالْأَفْضَلِ لَا تَحْرِيمَ الْمَفْضُولِ وَعُمَرَ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالِاعْتِمَارِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُمَرُ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ اخْتَارَ لِلنَّاسِ أَنْ يُفْرِدُوا الْحَجَّ فِي أَشْهُرِهِ وَيَعْتَمِرُوا فِيهِ عُمْرَةً مَكِّيَّةً فَهَذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَخْتَرْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَصْلًا وَلَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ . وَقَدْ حَمَلَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ نَهْيَ عُمَرُ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ مُتْعَةِ الْفَسْخِ
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْفَسْخُ إنَّمَا كَانَ جَائِزًا لِمَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبَيِّنٌ أَنَّ السَّلَفَ وَالْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي الْفَسْخِ . فَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ : يَرَوْنَ أَنَّ الْفَسْخَ وَاجِبٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحُجَّ إلَّا مُتَمَتِّعًا . وَمَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُ وَإِنْ جَازَ التَّمَتُّعُ فَلَيْسَ لِمَنْ أَحْرَمَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا أَنْ يَفْسَخَ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَمَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ : كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ الْأَفْضَلُ وَأَنَّهُ إنْ حَجَّ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا وَلَمْ يَفْسَخْ جَازَ . وَأَمَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَا يَفْسَخُ بِلَا نِزَاعٍ وَالْفَسْخُ جَائِزٍ مَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ نَوَى عِنْدَ الطَّوَافِ طَوَافَ الْقُدُومِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ نَوَى عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْقِرَانَ أَوْ الْإِفْرَادَ أَوْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا . فَالْأَفْضَلُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ بِعُمْرَةِ تَمَتُّعٍ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةِ إذَا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا . فَأَمَّا الْفَسْخُ بِعُمْرَةِ مُجَرَّدَةٍ فَلَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَا لِلَّذِي
يَجْمَعُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ يَحُجَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَعْتَمِرَ عَقِيبَ ذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمُسْتَحَبُّ الْمَسْنُونُ . فَهَذَا أَفْضَلُ مِمَّنْ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْحَجِّ فِي سَفْرَتِهِ الثَّانِيَةِ أَوْ اعْتَمَرَ فِيهَا . فَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مَعَ الْحَجِّ عُمْرَةَ تَمَتُّعٍ هُوَ قِرَانٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَلِأَنَّ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ عُمْرَةٌ مُفْرَدَةٌ وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجِّهِ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إلَّا عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ ، وَعُمْرَةُ تَمَتُّعٍ أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةٍ بِمَكَّةَ عَقِيبَ الْحَجِّ إلَى الْحَجِّ وَإِنْ جَوَّزُوهُ . فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا بَيَّنَ لَهُمْ مَعْنَى كَلَامِ عُمَرُ يُنَازِعُونَهُ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ لَهُمْ : فَقَدِّرُوا أَنَّ عُمَرُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ . أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوهُ أَمْ عُمَرُ وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إذَا بَيَّنَ لَهُمْ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَتُّعِهِ يُعَارِضُونَهُ بِمَا تَوَهَّمُوهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَيَقُولُ لَهُمْ : يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ . أَقُولُ لَكُمْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَارِضَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ مَعَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُعَارِضِينَ كَانُوا يُخْطِئُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُمْ سَوَاءٌ كَانُوا عَلِمُوا حَالَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَمْ أَخْطَئُوا عَلَيْهِمَا لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَعْلُومَ مِنْ سُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ فِيهِ أَهْلُ الْجَهَالَةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَالِيَةِ النُّسَّاكِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُ أَحَدُهُمْ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ مَعْصُومٌ أَوْ كَالْمَعْصُومِ وَكَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُبَالِغُ فِي الْمُتْعَةِ حَتَّى يَجْعَلَهَا وَاجِبَةً وَيَجْعَلَ الْفَسْخَ وَاجِبًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةِ وَيَجْعَلُ مَنْ طَافَ وَسَعَى فَقَدْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَصَارَ مُتَمَتِّعًا سَوَاءٌ قَصَدَ التَّمَتُّعَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ . وَصَارَ إلَى إيجَابِ التَّمَتُّعِ طَائِفَةٌ مِنْ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا مُنَاقِضَةٌ لِمَنْ نَهَى عَنْهَا وَعَاقَبَ عَلَيْهَا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ : فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ هَذَا وَهَذَا وَلَكِنَّ النِّزَاعَ بَيْنَهُمْ فِي الْفَسْخِ وَفِي اسْتِحْبَابِهِ فَمَنْ حَجَّ مُتَمَتِّعًا مِنْ الْمِيقَاتِ أَجْزَأَهُ حَجُّهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فِيهِ نِزَاعٌ سَوَاءٌ أَفْرَدَ أَوْ قَرَنَ أَوْ فَسَخَ إذَا قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَّا الْقَارِنَ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّ هَذَا يُجْزِئُهُ أَيْضًا حَجُّهُ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَأَمَّا مَنْ قَدِمَ بِعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ إلَى أَنْ يَحُجَّ فَهَذَا
أَيْضًا مَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا فَالتَّمَتُّعُ الْمُسْتَحَبُّ وَالْقِرَانُ الْمُسْتَحَبُّ وَالْإِفْرَادُ الْمُسْتَحَبُّ هُوَ الَّذِي يُجْزِئُهُ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَبِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ اشْتِرَاكِ الْأَلْفَاظِ فِي الرِّوَايَةِ وَاخْتِلَافِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَغْلَطُونَ فِي مَعْرِفَةِ " صِفَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ " فَيَظُنُّ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِمَعْنَى أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهَذَا غَلَطٌ بِلَا رَيْبٍ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَالْمُتْعَةُ أَحَبُّ إلَيَّ . أَيْ لِمَنْ كَانَ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ : أَنَّ مَنْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ أَنَّ هَذَا التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ لَهُ . بَلْ هُوَ الْمَسْنُونُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ . وَأَمَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ : فَهَلْ الْقِرَانُ أَفْضَلُ لَهُ ؟ أَمْ التَّمَتُّعُ ؟ ذَكَرُوا عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ المروذي أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا حَجَّ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَهَذَا السَّائِقُ لِلْهَدْيِ تَمَتُّعُهُ وَقِرَانُهُ لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي تَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ وَتَأْخِيرِهِ . فَمَتَى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوْ قَرَنَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ أَوْ بِزِيَادَةِ سَعْيٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ وَقَبْلَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُهُ
كَانَ قَارِنًا وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ تَمَتُّعَ قِرَانٍ بِلَا نِزَاعٍ . وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ إلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى إحْرَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ وَبَقَاؤُهُ عَلَى إحْرَامِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد إذَا كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إنَّمَا يَتَحَلَّلُ إنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَمَنْ جَوَّزَ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ أَيْضًا " قَارِنًا " فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ إحْرَامِهِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهَلْ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ سَعْيٌ غَيْرُ السَّعْيِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ عَقِيبَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يُجْزِئهُ سَعْيٌ وَاحِدٌ كَمَا يُجْزِئُ الْقَارِنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَقَدُّمَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ صَحِيحًا صَرِيحًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ { قال أَنَسٌ : سَمِعْته يَقُولُ : لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَتَانِي آتٍ اللَّيْلَةَ مِنْ رَبِّي وَهُوَ بِالْعَقِيقِ فَقَالَ :
صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ } وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسِهِ لَفْظًا يُخَالِفُ هَذَيْنِ أَلْبَتَّةَ ؛ بَلْ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا بِإِحْرَامِهِ إلَّا هَذَا . وَكَذَلِكَ { قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فليهل بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ } . وَأَمَّا { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } فَهَذَا أَيْضًا يُبَيِّنُ أَنَّهُ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَجْعَلُهَا عُمْرَةً إذَا لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِالْإِحْلَالِ وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ كَرِهُوا أَنْ يَحِلُّوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَادُونَ الْحِلَّ فِي وَسَطِ الْإِحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ تَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ يُوَافِقُهُمْ فِي الْفِعْلِ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ . أَيْ : لَوْ كُنْت السَّاعَةَ مُبْتَدِئًا الْإِحْرَامَ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَلَأَحْرَمْت بِعُمْرَةِ أَحِلُّ مِنْهَا . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ بِلَا نِزَاعٍ . وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُخْتَارَ لِمَنْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ أَوْ يَتَمَتَّعَ تَمَتُّعَ قَارِنٍ أَوْ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ وَيَتَمَتَّعُ بِعُمْرَةِ وَيَحِلُّ مِنْهَا .
ثُمَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : إنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ هُوَ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ . وَأَمَّا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ } . فَهُوَ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ فَمَا اسْتَقْبَلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ وَقَدْ اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مَا فَعَلَ وَاخْتَارَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ مَا اسْتَدْبَرَ . وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ أَفْضَلَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مُطْلَقًا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ } فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ أَفْضَلُهُمْ لَوْ لَمْ يُبْعَثْ الرَّسُولُ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مَعَ بَعْثِ الرَّسُولِ ؛ بَلْ أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَكِنَّ هَذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ إذَا كَانَ فِي تَنْوِيعِ الْأَعْمَالِ تَفَرُّقٌ وَتَشَتُّتٌ هُوَ أَوْلَى مِنْ تَنْوِيعِهَا وَتَنْوِيعُهَا اخْتِيَارُ الْقَادِرِ الْمَفْضُولِ لِلْأَفْضَلِ وَالْعَاجِزِ عَنْ الْمَفْضُولِ كَمَا اخْتَارَ مَنْ قَدَرَ عَلَى سَوْقِ الْهَدْيِ الْأَفْضَلَ . وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَوْقِهِ مَعَ السَّلَامَةِ عَنْ التَّفَرُّقِ وَمَعَ تَفَرُّقٍ يَعْقُبُهُ ائْتِلَافٌ هُوَ أَفْضَلُ . وَغَلِطَ أَيْضًا فِي " صِفَةِ حَجِّهِ " طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا : فَظَنُّوا أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ مُفْرِدًا : يَعْنِي أَنَّهُ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ مُفْرَدَةٍ وَلَمْ
يَعْتَمِرْ مَعَهَا أَصْلًا وَهَذَا خِلَافُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ أَيْضًا وَخِلَافُ مَا تَوَاتَرَ فِي سُنَّتِهِ . ثُمَّ قَدْ يَغْلَطُ طَوَائِفُ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ وَلِهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ لَهُ قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ بِالتَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَمْرُهُ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ فِعْلِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِعَدَمِ الْإِحْلَالِ إنَّمَا كَانَ لِسُوَقِ الْهَدْيِ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أن حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ : مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك ؟ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } فَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ كَمَا رَوَى أَنَسٌ وَعُمَرُ وَغَيْرُهُمَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى عُمْرَةً ؛ لِأَنَّهُ وَحْدَهُ عَمَلُ الْمُعْتَمِرِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْحِلِّ وَأَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَشَبَّهَتْهُ بِهِمْ . وَغَلِطَ أَيْضًا فِي " صِفَةِ حَجَّتِهِ " مَنْ غَلِطَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ : فَاعْتَقَدُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا بِمَعْنَى أَنَّهُ طَافَ وَسَعَى أَوَّلًا لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ طَافَ وَسَعَى ثَانِيًا لِلْحَجِّ قَبْلَ التَّعْرِيفِ وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ طَوَافَيْنِ وَلَا سَعَى سعيين وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ سَاقُوا الْهَدْيَ وَأَمَرَهُمْ بِالْبَقَاءِ عَلَى إحْرَامِهِمْ فَضْلًا عَنْ
الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِالْإِحْلَالِ . وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِهِ عَلِيٌّ وَنَحْوُهُ : مِنْ فِعْلِ الطَّوَافَيْنِ والسعيين فَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الرَّأْيِ الَّتِي يَرْوِي أَصْحَابُهَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَتَكُونُ ضَعِيفَةً وَهُمْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْكَذِبَ لَكِنْ سَمِعُوا تِلْكَ الْأَحَادِيثَ مِمَّنْ لَا يَضْبُطُ الْحَدِيثَ . وَهَكَذَا الِاخْتِيَارُ . فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ وَإِنْ جَوَّزُوا الْأَنْسَاكَ الثَّلَاثَةَ فَقَدْ يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الِاخْتِيَارِ فَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ أَتْبَعُهَا لِلسُّنَّةِ وَأَصَحُّهَا فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَنْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُرِيدًا لِلْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ : فَالسُّنَّةُ لَهُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ثُمَّ إنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَحِلّ مِنْ إحْرَامِهِ وَلَكِنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوَّلًا قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ إلَى مَا بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَإِنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ حَلَّ وَهَذَا أَفْضَلُ لَهُ مِنْ أَنْ يَجِيءَ بِعُمْرَةِ عَقِبَ الْحَجِّ . وَأَمَّا مَنْ أَفْرَدَهُمَا فِي سَفْرَةٍ وَاعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ إلَى الْحَجِّ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَهَذَا قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَهُوَ
مَذْهَبُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَاخْتِيَارُ الْمُتْعَةِ هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ مَكَّةَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَوْلُ بَنِي هَاشِمٍ . فَاتَّفَقَ عَلَى اخْتِيَارِهِ عُلَمَاءُ سُنَّتِهِ وَأَهْلُ بَلْدَتِهِ ؛ وَأَهْلُ بَيْتِهِ . وَمَالِكٍ وَإِنْ كَانَ يَخْتَارُ الْإِفْرَادَ فَلَا يَخْتَارُهُ لِمَنْ يَعْتَمِرُ عَقِبَ الْحَجِّ بَلْ يَعْتَمِرُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَالْمُحَرَّمِ . وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ يَخْتَارُ التَّمَتُّعَ وَفِي الْآخَرِ يَخْتَارُ إحْرَامًا مُطْلَقًا وَفِي الْآخَرِ يَخْتَارُ الْإِفْرَادَ وَلَكِنْ لَا أَحْفَظُ قَوْلَهُ فِيمَنْ يَعْتَمِرُ عَقِبَ الْحَجِّ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا هُوَ الْأَفْضَلَ فَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يَظُنُّ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمُتْعَةَ أَفْضَلُ مِنْ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَالْغَلَطُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ عَلَى السُّنَّةِ ؛ وَعَلَى الْأَئِمَّةِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَشُكُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ فِي السُّنَّةِ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَقِيبَ الْحَجِّ وَكَيْفَ يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَفْضَلُ لَهُمْ وَلِمَنْ كَانَ حَالُهُ كَحَالِهِمْ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَإِنْ سَوَّغَ الْعُمْرَةَ مِنْ مَكَّةَ عَقِبَ الْحَجِّ لِمَنْ أَفْرَدَ . فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَمَرَ بِهِ هُوَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ صَحَابَتِهِ
وَالتَّابِعِينَ
وَأَئِمَّتِهِمْ - أَمْرَ اخْتِيَارٍ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُضْعِفُ أَمْرَ
الِاعْتِمَارِ مِنْ مَكَّةَ غَايَةَ الضَّعْفِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَنَقُولُ : فَإِذَا كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ
بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ السُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا
يُسْتَحَبُّ بَلْ تُكْرَهُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ لِمَنْ يُحْرِمُ مِنْ
الْمِيقَاتِ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِي يُوَالِي بَيْنَ الْعُمَرِ مِنْ
مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ أَوْلَى بِالْكَرَاهَةِ فَإِنَّهُ
يَتَّفِقُ فِي ذَلِكَ مَحْذُورَانِ . أَحَدُهُمَا : كَوْنُ الِاعْتِمَارِ مِنْ
مَكَّةَ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ اخْتِيَارِ ذَلِكَ بَدَلَ الطَّوَافِ .
وَالثَّانِي : الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْعُمَرِ وَهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ
اسْتِحْبَابِهِ ؛ بَلْ يَنْبَغِي كَرَاهَتُهُ مُطْلَقًا فِيمَا أَعْلَمُ لِمَنْ
لَمْ يَعْتَضْ عَنْهُ بِالطَّوَافِ وَهُوَ الْأَقْيَسُ فَكَيْفَ بِمَنْ قَدَرَ
عَلَى أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ بِالطَّوَافِ بِخِلَافِ كَثْرَةِ الطَّوَافِ
فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ مَأْمُورٌ بِهِ لَا سِيَّمَا لِلْقَادِمِينَ . فَإِنَّ
جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ طَوَافَهُمْ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ لَهُمْ مِنْ
الصَّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا الِاعْتِمَارُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ : فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ
عَنْ عَطَاءٍ سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُنَا قَالَ : { قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ مِنْ الْأَنْصَارِ -
سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَسِيت اسْمَهَا : مَا مَنَعَك أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا
فَقَالَتْ لَمْ يَكُنْ لَنَا إلَّا نَاضِحَانِ فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا عَلَى
نَاضِحٍ وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ قَالَ : فَإِذَا جَاءَ شَهْرُ
رَمَضَانَ فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُمِّ سِنَانٍ
امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ : عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعِي }
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ تَعْلِيقًا وَعَنْ
أُمِّ مَعْقِلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهُ :
وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ { وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَلَامٍ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ مَعْقِلٍ قَالَتْ لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ
فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَصَابَنَا مَرَضٌ وَهَلَكَ
أَبُو مَعْقِلٍ وَخَرَجَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَجَّته جِئْته فَقَالَ : يَا أُمَّ مَعْقِلٍ مَا مَنَعَك أَنْ تَحُجِّي قَالَتْ لَقَدْ تَهَيَّأْنَا فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ هُوَ الَّذِي نَحُجُّ عَلَيْهِ فَأَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ فَهَلَّا خَرَجْت عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَى أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ { عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ الأسدية أَنَّ زَوْجَهَا جَعَلَ بَكْرًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَّهَا أَرَادَتْ الْعُمْرَةَ فَسَأَلَتْ زَوْجَهَا الْبَكْرَ فَأَبَى فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُبَيِّنُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِذَلِكَ الْعُمْرَةَ الَّتِي كَانَ الْمُخَاطَبُونَ يَعْرِفُونَهَا وَهِيَ قُدُومُ الرَّجُلِ إلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ الْمَكِّيُّ فَيَعْتَمِرَ مِنْ الْحِلِّ فَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يَفْعَلُونَهُ وَلَا يَأْمُرُونَ بِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرَادًا مِنْ الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَعُمْرَتُهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ الْمِيقَاتِ لَيْسَتْ عُمْرَتُهَا مَكِّيَّةً . وَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ رَغَّبَهُمْ فِي عُمْرَةٍ مَكِّيَّةٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ إنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ مَا فِيهِ هَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ مَعَ فَرْطِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَحِرْصِهِمْ عَلَيْهِ وَهَلَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَهْلَ مَكَّةَ الْمُقِيمِينَ بِهَا ؛ لِيَعْتَمِرُوا كُلَّ عَامٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ
بِالْمَدِينَةِ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ مَانِعًا مَنَعَهُ مِنْ السَّفَرِ لِلْحَجِّ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَمِرَ فِي رَمَضَانَ إنْ عَادَ إلَى بَلَدِهِ فَقَدْ أَتَى بِسَفَرِ كَامِلٍ لِلْعُمْرَةِ ذَهَابًا وَإِيَابًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ فَاجْتَمَعَ لَهُ حُرْمَةُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحُرْمَةُ الْعُمْرَةِ وَصَارَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَرَفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يُنَاسِبُ أَنْ يَعْدِلَ بِمَا فِي الْحَجِّ فِي شَرَفِ الزَّمَانِ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَشَرَفِ الْمَكَانِ . وَإِنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ لَيْسَ كَالْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ إلَى أَنْ حَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَقَدْ حَصَّلَ لَهُ نُسُكًا مُكَفِّرًا أَيْضًا بِخِلَافِ مَنْ تَمَتَّعَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنَّ هَذَا هُوَ حَاجٌّ مَحْضٌ وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا وَلِهَذَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْحَجِّ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ بَعْضَ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِلْمَرْأَةِ : { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي } وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ عُمْرَتَك فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي فَإِنَّهَا كَانَتْ قَدْ أَرَادَتْ الْحَجَّ مَعَهُ فَتَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَأَخْبَرَهَا بِمَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ وَهَكَذَا مَنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ مَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ : أَنَّ عُمْرَةَ الْوَاحِدِ مِنَّا مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ مِنْ مَكَّةَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعَهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنْ الْحَجَّ التَّامَّ أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةِ رَمَضَانَ وَالْوَاحِدُ مِنَّا لَوْ حَجَّ الْحَجَّ الْمَفْرُوضَ لَمْ يَكُنْ كَالْحَجِّ مَعَهُ فَكَيْفَ بِعُمْرَةِ وَغَايَةُ مَا يُحَصِّلُهُ الْحَدِيثُ : أَنْ تَكُونَ عُمْرَةُ أَحَدِنَا فِي
رَمَضَانَ مِنْ الْمِيقَاتِ بِمَنْزِلَةِ حَجَّةٍ وَقَدْ يُقَالُ هَذَا لِمَنْ كَانَ أَرَادَ الْحَجَّ فَعَجَزَ عَنْهُ فَيَصِيرُ بِنِيَّةِ الْحَجِّ مَعَ عُمْرَةِ رَمَضَانَ كِلَاهُمَا تَعْدِلُ حَجَّةً لَا أَحَدُهُمَا مُجَرَّدًا . وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إذَا فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ الْكَامِلِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ لِفِعْلِهِ كُلِّهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ مِنْ الْأَجْرِ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مِنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا } وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الضَّلَالَةِ وَشَوَاهِدُ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرٌ . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلَّا الْجَنَّةَ } رَوَاهُ النَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَإِنَّ قَوْلَهُ : { تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ } لَمْ يُرِدْ بِهِ الْعُمْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إذْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَكَانَ الصَّحَابَةُ يَقْبَلُونَ أَمْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ ؛ أَوْ اسْتِحْبَابٍ وَلَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا اتِّبَاعَ سُنَّتِهِ وَمَا رَغِبُوا فِيهِ كُلُّهُمْ حَتَّى حَدَثَ بَعْدَهُمْ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانُوا لَا يَعْتَمِرُونَ مِنْ مَكَّةَ عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ ؛ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعُمْرَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْرِفُونَهَا وَيَفْعَلُونَهَا وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَادِمِ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ عَائِشَةَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ مَعَ أَنَّهَا مُتَابَعَةٌ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَوْ كَانَتْ الْمَكِّيَّةُ مُرَادَةً حِينَ طَلَبَتْ ذَلِكَ مِنْهُ أَمَرَهَا أَنْ تَكْتَفِيَ بِمَا فَعَلَتْهُ وَقَالَ : " طَوَافُك بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك " فَلَمَّا رَاجَعَتْهُ وَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ أَذِنَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهَا ابْتِدَاءً بِتَرْكِ ذَلِكَ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا دُونَهُ وَهِيَ تَطْلُبُ مَا قَدْ رَغِبَ النَّاسُ فِيهِ كُلُّهُمْ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَغَيْرِهِمَا { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فليهل بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ قَدِمْت مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اُنْقُضِي رَأْسَك وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ فَفَعَلَتْ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْت . فَقَالَ :
هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِك قَالَتْ : وَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنَى لِحَجِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَن أَيْضًا { عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ حَتَّى إذَا كُنَّا بِسَرِفِ حِضْت فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ : وَمَا يُبْكِيك ؟ يَا عَائِشَةُ فَقُلْت : حِضْت لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ حَجَجْت فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَقَالَ : اُنْسُكِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ فَلَمَّا دَخَلْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ وَذَبَحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ يَوْمَ النَّحْرِ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْبَطْحَاءِ وَطَهُرَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيَرْجِعُ صَوَاحِبِي بِحَجِّ وَعُمْرَةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا بِالْحَجِّ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ فَأَتَتْ بِالْعُمْرَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي . { عَنْ جَابِرٍ قَالَ : أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ مُهِلَّةً بِعُمْرَةِ حَتَّى إذَا كَانَتْ بِسَرِفِ عَرَكَتْ حَتَّى إذَا
قَدِمْنَا طُفْنَا بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ قَالَ : فَقُلْنَا حِلُّ مَاذَا ؟ قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ . فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ وَتَطَيَّبْنَا بِالطَّيِّبِ وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ فَوَجَدَهَا تَبْكِي فَقَالَ : مَا شَأْنُك ؟ قَالَتْ : شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْت وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحْلِلْ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الْآنَ قَالَ : إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ حَتَّى إذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ قَالَ : قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجَّتِك وَعُمْرَتِك جَمِيعًا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حِينَ حَجَجْت قَالَ : فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلًا إذَا هُوِيَتْ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ فَأَرْسَلَهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَهَلَّتْ مِنْ التَّنْعِيمِ بِعُمْرَةِ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ طاوس { عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةِ فَقَدِمَتْ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حِينَ حَاضَتْ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّفَرِ : يَكْفِيك
طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك فَأَبَتْ فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ } وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفِ فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْزِئُ عَنْك طَوَافُك بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك } . فَهَذِهِ قِصَّةُ عَائِشَةَ . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي عُمْرَتِهَا الَّتِي فَعَلَتْهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْحِجَازِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ " وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ وَهِيَ مُتَمَتِّعَةٌ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَنَعَهَا الْحَيْضُ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الْإِحْرَامِ فَصَارَتْ قَارِنَةً بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ إذْ الْقَارِنُ اسْمٌ لِمَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا ابْتِدَاءً أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْلَ طَوَافِهَا . قَالُوا : وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ لَيْسَ فِي عَمَلِهِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ إلَّا الْهَدْيَ فَلِهَذَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَحَلَّتْ : " قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك جَمِيعًا " . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ أَمَرَهَا أَنْ تَرْفُضَ الْعُمْرَةَ فَتَنْتَقِلَ عَنْهَا إلَى الْحَجِّ لَا تُفَرِّقُ
بَيْنَهُمَا بَلْ تَبْقَى فِي حَجٍّ مُفْرَدٍ قَالُوا : فَلَمَّا حَلَّتْ حَلَّتْ مِنْ الْحَجِّ فَقَطْ وَكَانَ عَلَيْهَا عُمْرَةٌ تَقْضِيهَا مَكَانَ عُمْرَتِهَا الَّتِي رَفَضَتْهَا . وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ كَانَتْ الْعُمْرَةُ الَّتِي فَعَلَتْهَا وَاجِبَةً لِأَنَّهَا قَضَاءٌ عَمَّا تَرَكَتْهَا . وَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً بَلْ جَائِزَةً . وَحُكْمُ كَلِّ امْرَأَةٍ قَدِمَتْ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ قَبْلَ الطَّوَافِ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ : هَلْ تُؤْمَرُ أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَتَصِيرَ قَارِنَةً أَمْ تَرْفُضُ الْعُمْرَةَ فِي الْحَجِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد : أَنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً وَعُمْرَةُ الْقَارِنِ لَا تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُمْرَةِ الْإِسْلَامِ . وَفِيهَا قَوْلٌ رَابِعٌ : ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَامْتَنَعَتْ مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ ؛ لِأَجْلِ الْحَيْضِ وَإِنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ هِيَ عُمْرَةُ الْإِسْلَامِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَيَلِيهِ فِي الضَّعْفِ الَّذِي قَبْلَهُ . وَمِنْ أُصُولِ هَذَا النِّزَاعِ : أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَ الْآخَرِينَ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا وَيَسْعَى لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْحَجِّ وَيَخْتَصُّ عِنْدَهُمْ بِمَنْعِهَا مِنْ عَمَلِ الْقَارِنِ كَمَا كَانَ يَمْنَعُهَا مِنْ عَمَلِ التَّمَتُّعِ . وَالْأَوَّلُونَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْقَارِنِ إلَّا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ كَمَا عَلَى الْمُفْرِدِ فَإِذَا كَانَتْ حَائِضًا سَقَطَ عَنْهَا طَوَافُ الْقُدُومِ وَأَخَّرَتْ السَّعْيَ إلَى أَنْ تَسْعَى
بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا غَيْرُ ذَلِكَ . وَأَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي بَلَغَهُمْ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : " اُرْفُضِي عُمْرَتَك " . وَاعْتَقَدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَمِرَ مِنْ التَّنْعِيمِ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ صَارَ وَاجِبًا لِلْعُمْرَةِ الْمَرْفُوضَةِ وَأَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ هُوَ تَرْكُهَا بِالدُّخُولِ فِي الْحَجِّ الْمُفْرَدِ . وَأَمَّا أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : فَبَلَغَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَبْلُغْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ قِصَّةَ عَائِشَةَ رُوِيَتْ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا كَجَابِرِ وَغَيْرِهِ فَانْظُرْ مَا قَالَتْ وَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ لَهَا : " قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك جَمِيعًا " وَقَالَ لَهَا : " سَعْيُك وَطَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك " وَفِي رِوَايَةٍ " يُجْزِئُ عَنْك طَوَافُك بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك " فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ فِي حَجٍّ وَعُمْرَةٍ ؛ لَا فِي حَجٍّ مُفْرَدٍ وَفِي أَنَّ الطَّوَافَ الْوَاحِدَ أَجْزَأَ عَنْهَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى طَوَافَيْنِ . وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانُوا قَادِمِينَ وَلَمْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حِينَ قَدِمُوا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَأَيْضًا فَإِنَّهَا { قالت لَهُ - لَمَّا قَالَ لَهَا ذَلِكَ : إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حِينَ حَجَجْت قَالَ : فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهَا لَهُ : أَيَرْجِعُ صَوَاحِبِي بِحَجِّ وَعُمْرَةٍ ؟ وَأَرْجِعُ أَنَا بِالْحَجِّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَذَهَبَ بِهَا إلَى التَّنْعِيمِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْعُمْرَةِ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا أَجَابَ سُؤَالَهَا لَمَّا كَرِهَتْ أَنْ تَرْجِعَ إلَّا بِفِعْلِ عُمْرَةٍ فَإِنَّ صَوَاحِبَهَا كُنَّ فِي عُمْرَةِ تَمَتُّعٍ : طُفْنَ أَوَّلًا وَسَعَيْنَ وَهِيَ لَمْ تَطُفْ وَتَسْعَ إلَّا بَعْدَ التَّعْرِيفِ فَصَارَ عَمَلُهُنَّ أَزْيَدَ مِنْ عَمَلِهَا ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ عَنْهَا بِالْحَيْضِ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ .
وَسُئِلَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - :
عَمَّنْ يَقِفُ بِعَرَفَةَ وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَى الْبَيْتِ خَوْفًا
مِنْ الْقَتْلِ أَوْ ذَهَابِ الْمَالِ . هَلْ يُجْزِئُهُ الْحَجُّ ؟ أَمْ لَا ؟
وَفِيمَنْ يَكُونُ بِبَدَنِهِ أَوْ رَأْسِهِ أَذًى فَلَبِسَ وَغَطَّى رَأْسَهُ :
هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ؟ أَمْ لَا ؟ وَمَا هِيَ الْفِدْيَةُ ؟ وَمَنْ
لَمْ يَجِدْ إلَّا بَعِيرًا حَرَامًا هَلْ يُجْزِئُهُ الْحَجُّ عَلَيْهِ وَمَا
هُوَ الْإِفْرَادُ ؟ وَالْقِرَانُ ؟ وَالتَّمَتُّعُ وَمَا الْأَفْضَلُ ؟ وَمَنْ
لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ هَلْ يَصِحُّ حَجُّهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا بُدَّ بَعْدَ الْوُقُوفِ مِنْ
طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَإِنْ لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ لَمْ يَتِمَّ حَجُّهُ
بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَإِنْ أَحْصَرَهُ عَدُوٌّ عَنْ الْبَيْتِ وَخَافَ فَلَمْ
يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ تَحَلَّلَ فَيَذْبَحُ هَدْيًا وَيَحِلُّ وَعَلَيْهِ
الطَّوَافُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ تِلْكَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَيَدْخُلُ
مَكَّةَ بِعُمْرَةِ يَعْتَمِرُهَا تَكُونُ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ
لَهُ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا لُبْسِ الْقَمِيصِ
وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا لِحَاجَةِ . فَإِنْ خَافَ مِنْ شِدَّةِ
الْبَرْدِ أَنْ يَمْرَضَ لَبِسَ وَافْتَدَى أَيْضًا وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ
ذُنُوبِهِ .
وَالْفِدْيَةُ لِلْعُذْرِ أَنْ يَذْبَحَ شَاةً يُقَسِّمُهَا بَيْنَ الْفُقَرَاءِ أَوْ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ يَتَصَدَّقُ عَلَى سِتَّةِ فُقَرَاءَ كُلُّ فَقِيرٍ بِنِصْفِ صَاعِ تَمْرٍ . وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِرِطْلِ خُبْزٍ جَازَ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَلَى بَعِيرٍ مُحَرَّمٍ . وَالْأَفْضَلُ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَقْرِنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ . وَإِنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَأَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ وَإِنْ حَجَّ فِي سَفْرَةٍ وَاعْتَمَرَ فِي سَفْرَةٍ فَالْإِفْرَادُ أَفْضَلُ لَهُ . وَإِذَا أَحْرَمَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ صَحَّ حَجُّهُ إذَا حَجَّ كَمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ
الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَالْأُضْحِيَّةُ وَالْعَقِيقَةُ وَالْهَدْيُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِ
ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ كَانَ
لَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِ وَالْأَكْلُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ
الصَّدَقَةِ وَالْهَدْيُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِهَا وَإِنْ كَانَ
قَدْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً فِي ذِمَّتِهِ فَاشْتَرَاهَا فِي الذِّمَّةِ وَبِيعَتْ
قَبْلَ الذَّبْحِ كَانَ عَلَيْهِ إبْدَالُهَا شَاةً . وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى
أُضْحِيَّةً فَتَعَيَّبَتْ قَبْلَ الذَّبْحِ ذَبَحَهَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ وَإِنْ تَعَيَّبَتْ عِنْدَ الذَّبْحِ أَجْزَأَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
وَالْأُضْحِيَّةُ مِنْ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ فَيُضَحِّي عَنْ الْيَتِيمِ
مِنْ مَالِهِ وَتَأْخُذُ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا مَا تُضَحِّي بِهِ عَنْ
أَهْلِ الْبَيْتِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ وَيُضَحِّي الْمَدِينُ إذَا
لَمْ يُطَالَبْ بِالْوَفَاءِ وَيَتَدَيَّنُ وَيُضَحِّي إذَا كَانَ لَهُ وَفَاءٌ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ . هَلْ يَسْتَدِينُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ كَانَ لَهُ وَفَاءٌ فَاسْتَدَانَ مَا
يُضَحِّي بِهِ فَحَسَنٌ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ كَمَا يَجُوزُ الْحَجُّ عَنْهُ
وَالصَّدَقَةُ عَنْهُ وَيُضَحَّى عَنْهُ فِي الْبَيْتِ وَلَا يُذْبَحُ عِنْدَ
الْقَبْرِ أُضْحِيَّةً وَلَا غَيْرَهَا . فَإِنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْعَقْرِ
عِنْدَ الْقَبْرِ } حَتَّى كَرِهَ أَحْمَد الْأَكْلَ مِمَّا يُذْبَحُ عِنْدَ
الْقَبْرِ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ مَا يَذْبَحُ عَلَى النُّصُبِ . فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ
مَا فَعَلُوا } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا
تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } وَقَالَ : { الْأَرْضُ
كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } فَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ
عِنْدَهَا ؟ لِئَلَّا يُشْبِهَ مَنْ يُصَلِّي لَهَا . وَكَذَلِكَ الذَّبْحُ
عِنْدَهَا يُشْبِهُ مَنْ ذَبَحَ لَهَا . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَذْبَحُونَ
لِلْقُبُورِ وَيُقَرِّبُونَ لَهَا الْقَرَابِينَ وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
إذَا مَاتَ لَهُمْ عَظِيمٌ ذَبَحُوا عِنْدَ قَبْرِهِ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ
وَغَيْرَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ . فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَلَوْ
نَذَرَ ذَلِكَ نَاذِرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَفِّيَ بِهِ . وَلَوْ شَرَطَهُ
وَاقِفٌ لَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا . وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ
كَرِهَهَا الْعُلَمَاءُ ، وَشَرْطُ الْوَاقِفِ ذَلِكَ شَرْطٌ فَاسِدٌ . وَأَنْكَرُ
مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْقَبْرِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لِيَأْخُذَهُ
النَّاسُ فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ مِنْ عَمَلِ كَفَّارٍ التُّرْكِ لَا مِنْ
أَفْعَالِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَالْأُضْحِيَّةُ بِالْحَامِلِ جَائِزَةٌ فَإِذَا خَرَجَ وَلَدُهَا مَيِّتًا
فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .
سَوَاءٌ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ . وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا ذُبِحَ وَمَذْهَبُ
مَالِكٍ إنْ أَشْعَرَ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحِلُّ
حَتَّى يُذَكَّى بَعْدَ خُرُوجِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
و " الْهَتْمَاءُ " الَّتِي سَقَطَ بَعْضُ أَسْنَانِهَا فِيهَا
قَوْلَانِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تُجْزِئ
وَأَمَّا الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَسْنَانٌ فِي أَعْلَاهَا فَهَذِهِ تُجْزِئُ
بِاتِّفَاقِ . وَالْعَفْرَاءُ أَفْضَلُ مِنْ السَّوْدَاءِ وَإِذَا كَانَ
السَّوَادُ حَوْلَ عَيْنَيْهَا وَفَمِهَا وَفِي رِجْلَيْهَا أَشْبَهَتْ
أُضْحِيَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا يُقَالُ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ حَالَ ذَبْحِهَا وَمَا صِفَةُ ذَبْحِهَا
كَيْفَ يُقَسِّمُهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهَا
الْقِبْلَةَ فَيُضْجِعَهَا عَلَى الْأَيْسَرِ وَيَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ
وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي كَمَا
تَقَبَّلْت
مِنْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِك . وَإِذَا ذَبَحَهَا قَالَ : { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ } { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ } { لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ } . وَيَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهَا وَيُهْدِي ثُلُثَهَا وَإِنْ أَكَلَ
أَكْثَرَهَا أَوْ أَهْدَاهُ أَوْ أَكَلَهُ أَوْ طَبَخَهَا وَدَعَا النَّاسَ
إلَيْهَا جَازَ . وَيُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْ عِنْدِهِ وَجِلْدُهَا إنْ
شَاءَ انْتَفَعَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
الذَّبِيحَةُ : الْأُضْحِيَّةُ وَغَيْرُهَا : تُضْجَعُ عَلَى شِقِّهَا الْأَيْسَرِ
وَيَضَعُ الذَّابِحُ رِجْلَهُ الْيَمِينَ عَلَى عُنُقِهَا كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ { عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَمِّي
وَيُكَبِّرُ فَيَقُولُ : بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ مِنْك
وَلَك اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْت مِنْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِك }
.
وَمَنْ
أَضْجَعَهَا عَلَى شِقِّهَا الْأَيْمَنِ وَجَعَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى عَلَى
عُنُقِهَا تَكَلَّفَ مُخَالَفَةَ يَدَيْهِ لِيَذْبَحهَا فَهُوَ جَاهِلٌ
بِالسُّنَّةِ مُعَذِّبٌ لِنَفْسِهِ وَلِلْحَيَوَانِ وَلَكِنْ يَحِلُّ أَكْلُهَا ؛
فَإِنَّ الْإِضْجَاعَ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْسَرِ أَرْوَحُ لِلْحَيَوَانِ .
وَأَيْسَرُ فِي إزْهَاقِ النَّفْسِ وَأَعْوَنُ لِلذَّبْحِ وَهُوَ السُّنَّةُ
الَّتِي فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا
عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَعَمَلُ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ . وَيُشْرَعُ أَنْ
يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ أَيْضًا . وَإِنْ ضَحَّى بِشَاةِ وَاحِدَةٍ عَنْهُ
وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَجْزَأَ ذَلِكَ فِي أَظْهَر قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أن النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِشَاتَيْنِ فَقَالَ فِي إحْدَاهُمَا :
اللَّهُمَّ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اسْمُهُ أَبُو بَكْرٍ صَارَ جُنْدِيًّا وَغَيَّرَ اسْمَهُ وَسَمَّى
رُوحَهُ اسْمَ الْمَمَالِيكِ فَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا سَمَّى اسْمَهُ بَاسِمٍ تُرْكِيٍّ لِمَصْلَحَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا إثْمَ
عَلَيْهِ
وَيَكُونُ
لَهُ اسْمَانِ كَمَا يَكُونُ لَهُ اسْمٌ مَنْ سَمَّاهُ بِهِ أَبَوَاهُ ثُمَّ
يُلَقِّبُهُ النَّاسُ بِبَعْضِ الْأَلْقَابِ كَفُلَانِ الدِّينِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْأَلْقَابِ الْمُتَوَاطَأِ عَلَيْهَا بَيْنَ النَّاسِ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْأَلْقَابُ فَكَانَتْ عَادَةُ السَّلَفِ الْأَسْمَاءَ وَالْكُنَى فَإِذَا
كَنَّوْهُ بِأَبِي فُلَانٍ تَارَةً يُكَنُّونَ الرَّجُلَ بِوَلَدِهِ كَمَا
يُكَنُّونَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ إمَّا بِالْإِضَافَةِ إلَى اسْمِهِ أَوْ اسْمِ
أَبِيهِ أَوْ ابْنِ سَمِيِّهِ أَوْ بِأَمْرِ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ كَمَا كَنَّى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ بِابْنِ أُخْتِهَا عَبْدِ
اللَّهِ وَكَمَا يُكَنُّونَ دَاوُد أَبَا سُلَيْمَانَ لِكَوْنِهِ بَاسِمِ دَاوُد
عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي اسْمُ وَلَدِهِ سُلَيْمَانُ وَكَذَلِكَ كُنْيَةُ
إبْرَاهِيمَ أَبُو إسْحَاقَ وَكَمَا كَنَّوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَبَا
الْعَبَّاسِ وَكَمَا كَنَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا
هُرَيْرَةَ بِاسْمِ هُرَيْرَةٍ كَانَتْ مَعَهُ . وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ
فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فَلَمَّا غَلَبَتْ دَوْلَةُ الْأَعَاجِمِ لِبَنِي
أُمَيَّةَ صَارُوا . . . (1)
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا أَحْدَثُوا الْإِضَافَةَ إلَى الدِّينِ وَتَوَسَّعُوا فِي
هَذَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ الَّذِي يَصْلُحُ مَعَ الْإِمْكَانِ : هُوَ مَا كَانَ
السَّلَفُ يَعْتَادُونَهُ مِنْ
الْمُخَاطِبَاتِ
وَالْكِنَايَاتِ فَمَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إنْ اُضْطُرَّ
إلَى الْمُخَاطَبَةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَهَى عَنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِيهَا
تَزْكِيَةٌ كَمَا غَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَّةَ
فَسَمَّاهَا زَيْنَبَ ؛ لِئَلَّا تُزَكِّيَ نَفْسَهَا وَالْكِنَايَةُ عَنْهُ
بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمُحْدَثَةِ خَوْفًا مِنْ تَوَلُّدِ شَرٍّ إذَا عَدَلَ
عَنْهَا فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ وَلُقِّبُوا بِذَلِكَ
لِأَنَّهُ عَلَمٌ مَحْضٌ لَا تُلْمَحُ فِيهِ الصِّفَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْلَامِ
الْمَنْقُولَةِ مِثْلَ أَسَدٍ وَكَلْبٍ وَثَوْرٍ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ
الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْأَعَاجِمُ وَصَارُوا يَزِيدُونَ فِيهَا
فَيَقُولُونَ : عِزُّ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ وَعِزُّ الْمِلَّةِ وَالْحَقِّ
وَالدِّينِ وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَذِبِ الْمُبِينِ
بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَنْعُوتُ بِذَلِكَ أَحَقَّ بِضِدِّ ذَلِكَ الْوَصْفِ
وَاَلَّذِينَ يَقْصِدُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ فَخْرًا وَخُيَلَاءَ يُعَاقِبُهُمْ
اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ فَيُذِلُّهُمْ وَيُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ .
وَاَلَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ وَيَقُومُونَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ
عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ يُعِزُّهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ وَالِعشْرِينَ
الْجُزْءُ
الْسَابِعُ وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ السَابِعُ : الزِيَارَةُ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ
وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا
مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
.
فَصْلٌ :
فِي " زِيَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تُشَدُّ
الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى وَهُوَ
حَدِيثٌ مُسْتَفِيضٌ
مُتَلَقًّى
بِالْقَبُولِ . أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيه
بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ . وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
اسْتِحْبَابِ السَّفَرِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ
فِيهِ : كَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
وَالِاعْتِكَافِ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ {
أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثًا : مُلْكًا لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ بَعْدِهِ وَسَأَلَهُ حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَهُ
وَسَأَلَهُ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ أَحَدٌ هَذَا الْبَيْتَ لَا يُرِيدُ إلَّا
الصَّلَاةَ فِيهِ إلَّا غُفِرَ لَهُ } وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَأْتِي إلَيْهِ فَيُصَلِّي فِيهِ وَلَا يَشْرَبُ فِيهِ مَاءً
لِتُصِيبَهُ دَعْوَةُ سُلَيْمَانَ لِقَوْلِهِ " لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ
فِيهِ " فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي إخْلَاصَ النِّيَّةِ فِي السَّفَرِ إلَيْهِ
وَلَا يَأْتِيهِ لِغَرَضِ دُنْيَوِيٍّ وَلَا بِدْعَةٍ .
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ
أَوْ الِاعْتِكَافِ فِيهِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ ؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ . أَحَدُهُمَا :
يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : مِثْلِ
مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا . وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ
إلَّا مَا كَانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ فَلِهَذَا يُوجِبُ نَذْرَ
الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ جِنْسَهَا وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ وَلَا يُوجِبُ نَذْرَ الِاعْتِكَافِ فَإِنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ إلَّا بِصَوْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَيَحْتَجُّونَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ لِكُلِّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ مِنْ جِنْسِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ . وَهَكَذَا النِّزَاعُ لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَأَمَّا لَوْ نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ وَيَلِيهِ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَلِيهِ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَى أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَغَيْرُهُمَا
عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ } وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
فَقَدْ رُوِيَ " أَنَّهَا بِخَمْسِينَ صَلَاةٍ " وَقِيلَ "
بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ " وَهُوَ أَشْبَهُ .
وَلَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى " قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
" أَوْ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إلَى
" الطُّورِ " الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَوْ إلَى " جَبَلِ حِرَاءَ " الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ فِيهِ وَجَاءَهُ الْوَحْيُ فِيهِ
أَوْ الْغَارِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَابِرِ
وَالْمَقَامَاتِ وَالْمَشَاهِدِ الْمُضَافَةِ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ
أَوْ إلَى بَعْضِ الْمَغَارَاتِ أَوْ الْجِبَالِ : لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهَذَا
النَّذْرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّ السَّفَرَ إلَى هَذِهِ
الْمَوَاضِعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } فَإِذَا
كَانَتْ الْمَسَاجِدُ الَّتِي هِيَ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا
بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَدْ نَهَى عَنْ السَّفَرِ إلَيْهَا - حَتَّى مَسْجِدِ
قُبَاء الَّذِي يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ أَنْ يَذْهَبَ إلَيْهِ
لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ
سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا } وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ
فَأَحْسَنَ الطُّهُورَ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاء لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ
فِيهِ : كَانَ لَهُ كَعُمْرَةِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا يَنْهَى عَنْ السَّفَرِ إلَيْهِ وَيَنْهَى عَنْ السَّفَرِ إلَى الطُّورِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَكَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ الْمَوَاضِعَ الَّتِي لَمْ تُبْنَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ؛ بَلْ يُنْهَى عَنْ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يُسَافِرُونَ إلَى شَيْءٍ مِنْ مَشَاهِدِ الْأَنْبِيَاءِ لَا مَشْهَدِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا غَيْرِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يُصَلِّ فِي غَيْرِهِ وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ { أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَدِينَةِ وَصَلَّى عِنْدَ قَبْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَلَّى عِنْدَ قَبْرِ الْخَلِيلِ } فَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَكْذُوبَةٌ مَوْضُوعَةٌ . وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي السَّفَرِ إلَى الْمَشَاهِدِ وَلَمْ يَنْقُلُوا ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَا احْتَجُّوا بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ .
فَصْلٌ
:
وَالْعِبَادَاتُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هِيَ مِنْ جِنْسِ
الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
فَإِنَّهُ يُشْرَعُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الطَّوَافُ
بِالْكَعْبَةِ وَاسْتِلَامُ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ وَتَقْبِيلُ
الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَأَمَّا مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى وَسَائِرُ الْمَسَاجِدِ فَلَيْسَ فِيهَا مَا
يُطَافُ بِهِ وَلَا فِيهَا مَا يُتَمَسَّحُ بِهِ وَلَا مَا يُقَبَّلُ . فَلَا
يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَطُوفَ بِحُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ
وَلَا بِصَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَا بِغَيْرِ هَؤُلَاءِ : كَالْقُبَّةِ
الَّتِي فَوْقَ جَبَلِ عَرَفَاتٍ وَأَمْثَالِهَا ؛ بَلْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ
مَكَانٌ يُطَافُ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ . وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ
الطَّوَافَ بِغَيْرِهَا مَشْرُوعٌ فَهُوَ شَرٌّ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ
الصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَانَتْ قِبْلَةُ
الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْمُدَّةَ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ حَوَّلَ الْقِبْلَةَ إلَى
الْكَعْبَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ
كَمَا ذُكِرَ فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ " وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ إلَى الْكَعْبَةِ وَصَارَتْ هِيَ الْقِبْلَةَ وَهِيَ قِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . فَمَنْ اتَّخَذَ الصَّخْرَةَ الْيَوْمَ قِبْلَةً يُصَلِّي إلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ قِبْلَةً لَكِنْ نُسِخَ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَّخِذُهَا مَكَانًا يُطَافُ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ ؟ وَالطَّوَافُ بِغَيْرِ الْكَعْبَةِ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ بِحَالِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَصَدَ أَنْ يَسُوقَ إلَيْهَا غَنَمًا أَوْ بَقَرًا لِيَذْبَحَهَا هُنَاكَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ فِيهَا أَفْضَلُ وَأَنْ يَحْلِقَ فِيهَا شَعْرَهُ فِي الْعِيدِ أَوْ أَنْ يُسَافِرَ إلَيْهَا لِيَعْرِفَ بِهَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يُشَبَّهُ بِهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ فِي الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّ هَذَا قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَمَا لَوْ صَلَّى إلَى الصَّخْرَةِ مُعْتَقِدًا أَنَّ اسْتِقْبَالَهَا فِي الصَّلَاةِ قُرْبَةٌ كَاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ ؛ وَلِهَذَا بَنَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ فِي مُقَدِّمِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى . فَإِنَّ " الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى " اسْمٌ لِجَمِيعِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ صَارَ بَعْضُ النَّاسِ يُسَمِّي الْأَقْصَى الْمُصَلَّى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مُقَدِّمِهِ وَالصَّلَاةُ فِي هَذَا الْمُصَلَّى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسْجِدِ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا
فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَكَانَ عَلَى الصَّخْرَةِ زُبَالَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَقْصِدُونَ إهَانَتَهَا مُقَابَلَةً لِلْيَهُودِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ إلَيْهَا فَأَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْهَا وَقَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ : أَيْنَ تَرَى أَنْ نَبْنِيَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ : خَلْفَ الصَّخْرَةِ فَقَالَ : يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ خَالَطَتْك يَهُودِيَّةٌ بَلْ أَبْنِيهِ أَمَامَهَا . فَإِنَّ لَنَا صُدُورَ الْمَسَاجِدِ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْأُمَّةِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ قَصَدُوا الصَّلَاةَ فِي الْمُصَلَّى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى فِي مِحْرَابِ دَاوُد . وَأَمَّا " الصَّخْرَةُ " فَلَمْ يُصَلِّ عِنْدَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا الصَّحَابَةُ وَلَا كَانَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَيْهَا قُبَّةٌ بَلْ كَانَتْ مَكْشُوفَةً فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ وَمَرْوَانَ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا تَوَلَّى ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ الشَّامَ وَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ الْفِتْنَةُ كَانَ النَّاسُ يَحُجُّونَ فَيَجْتَمِعُونَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَأَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَبَنَى الْقُبَّةَ عَلَى الصَّخْرَةِ وَكَسَاهَا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي " زِيَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " وَيَشْتَغِلُوا بِذَلِكَ عَنْ اجْتِمَاعِهِمْ بِابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ مَنَّ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فَلَمْ يَكُونُوا يُعَظِّمُونَ الصَّخْرَةَ فَإِنَّهَا قِبْلَةٌ مَنْسُوخَةٌ كَمَا أَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ كَانَ عِيدًا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ نُسِخَ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَوْمِ الْجُمْعَةِ فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخُصُّوا يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ بِعِبَادَةِ كَمَا تَفْعَلُ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى
وَكَذَلِكَ الصَّخْرَةُ إنَّمَا يُعَظِّمُهَا الْيَهُودُ وَبَعْضُ النَّصَارَى .
وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ فِيهَا مِنْ أَنَّ هُنَاكَ أَثَرُ قَدَمِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثَرُ عِمَامَتِهِ وَغَيْرُ
ذَلِكَ : فَكُلُّهُ كَذِبٌ . وَأَكْذَبُ مِنْهُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مَوْضِعُ
قَدَمِ الرَّبِّ وَكَذَلِكَ الْمَكَانُ الَّذِي يُذْكَرُ أَنَّهُ مَهْدُ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذِبٌ وَإِنَّمَا كَانَ مَوْضِعَ مَعْمُودِيَّةِ النَّصَارَى
وَكَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ هُنَاكَ الصِّرَاطُ وَالْمِيزَانُ أَوْ أَنَّ السُّورَ
الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ هُوَ ذَلِكَ الْحَائِطُ
الْمَبْنِيُّ شَرْقِيِّ الْمَسْجِدِ وَكَذَلِكَ تَعْظِيمُ السِّلْسِلَةِ أَوْ
مَوْضِعِهَا لَيْسَ مَشْرُوعًا .
فَصْلٌ :
وَلَيْسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَكَانٌ يُقْصَدُ لِلْعِبَادَةِ سِوَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَكِنْ إذَا زَارَ قُبُورَ الْمَوْتَى وَسَلَّمَ
عَلَيْهِمْ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ فَحَسَنٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ { كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ
أَحَدُهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ
اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ
اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا
تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا زِيَارَةُ " مَعَابِدِ الْكُفَّارِ " مِثْلَ الْمَوْضِعِ
الْمُسَمَّى " بِالْقُمَامَةِ " أَوْ " بَيْتِ لَحْمٍ " أَوْ
" صَهْيُون " أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ مِثْلُ " كَنَائِسِ النَّصَارَى
" فَمَنْهِيٌّ عَنْهَا . فَمَنْ زَارَ مَكَانًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ
مُعْتَقِدًا أَنَّ زِيَارَتَهُ مُسْتَحَبَّةٌ وَالْعِبَادَةَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ
الْعِبَادَةِ فِي بَيْتِهِ : فَهُوَ ضَالٌّ خَارِجٌ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ
يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَأَمَّا إذَا دَخَلَهَا الْإِنْسَانُ
لِحَاجَةِ وَعَرَضَتْ لَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ قِيلَ : تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا
مُطْلَقًا وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ . وَقِيلَ :
تُبَاحُ مُطْلَقًا . وَقِيلَ : إنْ كَانَ فِيهَا صُوَرٌ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ
وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا
فِيهِ صُورَةٌ } وَلَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَكَّةَ كَانَ فِي الْكَعْبَة تَمَاثِيلُ فَلَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ حَتَّى
مُحِيَتْ تِلْكَ الصُّوَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَلَيْسَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مَكَانٌ يُسَمَّى " حَرَمًا " وَلَا
بِتُرْبَةِ الْخَلِيلِ وَلَا
بِغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ إلَّا ثَلَاثَةَ أَمَاكِنَ : أَحَدُهَا هُوَ حَرَمٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ حَرَمُ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى . وَالثَّانِي
حَرَمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ حَرَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِيرٍ إلَى ثَوْرٍ بَرِيدٌ فِي بَرِيدٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا
حَرَمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَفِيهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّالِثُ " وَجُّ " وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ
. فَإِنَّ هَذَا رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَلَيْسَ
فِي الصِّحَاحِ وَهَذَا حَرَمٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ
الْحَدِيثِ وَلَيْسَ حَرَمًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَأَحْمَد ضَعَّفَ
الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِيهِ فَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ . وَأَمَّا مَا سِوَى هَذِهِ
الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ حَرَمًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْحَرَمَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ صَيْدَهُ وَنَبَاتَهُ
وَلَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ صَيْدَ مَكَانٍ وَنَبَاتَهُ خَارِجًا عَنْ هَذِهِ
الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " زِيَارَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " فَمَشْرُوعَةٌ فِي جَمِيعِ
الْأَوْقَاتِ ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَى فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي
تَقْصِدُهَا الضُّلَّالُ : مِثْلَ وَقْتِ عِيدِ النَّحْرِ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ
الضُّلَّالِ يُسَافِرُونَ إلَيْهِ لِيَقِفُوا هُنَاكَ وَالسَّفَرُ إلَيْهِ
لِأَجْلِ التَّعْرِيفِ بِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ هَذَا قُرْبَةٌ مُحَرَّمٌ بِلَا
رَيْبٍ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَشَبَّهَ بِهِمْ وَلَا يُكَثَّرُ سَوَادُهُمْ .
وَلَيْسَ السَّفَرُ إلَيْهِ مَعَ الْحَجِّ قُرْبَةً . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : قَدَّسَ اللَّهُ حُجَّتَك . قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ كَمَا يُرْوَى : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ الْجَنَّةَ } فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ بَلْ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ وَلَمْ يَرْوِ أَهْلُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ؛ وَلَكِنَّ الَّذِي فِي السُّنَنِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } فَهُوَ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيُبَلَّغُ سَلَامَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ كَمَا فِي النَّسَائِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمْعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ قَالُوا : وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ تُوصَلُ إلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ . وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَنُسَلِّمَ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا } صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى " عَسْقَلَانَ " فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ
فَلَيْسَ مَشْرُوعًا لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا ؛ وَلَكِنَّ عَسْقَلَانَ
كَانَ لِسُكْنَاهَا وَقَصْدِهَا فَضِيلَةٌ لَمَّا كَانَتْ ثَغْرًا لِلْمُسْلِمِينَ
يُقِيمُ بِهَا الْمُرَابِطُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا
وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ
وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ
الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَكَانَ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالدِّينِ يَقْصِدُونَ ثُغُورَ
الْمُسْلِمِينَ لِلرِّبَاطِ فِيهَا . ثُغُورَ الشَّامَ : كَعَسْقَلَانَ وَعَكَّةَ
وطرسوس وَجَبَلِ لُبْنَانَ وَغَيْرِهَا . وَثُغُورَ مِصْرَ : كالإسكندرية
وَغَيْرِهَا وَثُغُورِ الْعِرَاقِ : كعبادان وَغَيْرِهَا . فَمَا خَرَبَ مِنْ
هَذِهِ الْبِقَاعِ وَلَمْ يَبْقَ بُيُوتًا كَعَسْقَلَانَ لَمْ يَكُنْ ثُغُورًا
وَلَا فِي السَّفَرِ إلَيْهِ فَضِيلَةٌ وَكَذَلِكَ جَبَلُ لُبْنَانَ وَأَمْثَالُهُ
مِنْ الْجِبَالِ لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ
الصَّالِحِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ فِيهِ كَثِيرٌ
مِنْ الْجِنِّ وَهُمْ " رِجَالُ الْغَيْبِ " الَّذِينَ يُرَوْنَ أَحْيَانًا
فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ
الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْخَضِرَ أَحْيَانًا هُوَ جِنِّيٌّ رَآهُ وَقَدْ رَآهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَعْرِفُهُ وَقَالَ إنَّنِي الْخَضِرُ وَكَانَ ذَلِكَ جِنِّيًّا لَبَّسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَأَوْهُ ؛ وَإِلَّا فَالْخَضِرُ الَّذِي كَانَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاتَ وَلَوْ كَانَ حَيًّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُؤْمِنَ بِهِ وَيُجَاهِدَ مَعَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَدْرَكَ مُحَمَّدًا - وَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيُجَاهِدُوا مَعَهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بَعَثَ مُحَمَّدًا وَهْم أَحْيَاءُ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ . وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَأَى الْخَضِرَ وَلَا أَنَّهُ أَتَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَجَلَّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُلَبِّسُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِمْ ؛ وَلَكِنْ لَبَّسَ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ فَصَارَ يَتَمَثَّلُ لِأَحَدِهِمْ فِي صُورَةِ النَّبِيِّ وَيَقُولُ : أَنَا الْخَضِرُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَرَى مَيِّتَهُ خَرَجَ وَجَاءَ إلَيْهِ وَكَلَّمَهُ فِي أُمُورٍ وَقَضَى حَوَائِجَ فَيَظُنُّهُ الْمَيِّتَ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَسْتَغِيثُ بِمَخْلُوقِ إمَّا نَصْرَانِيٍّ كجرجس أَوْ غَيْرِ
نَصْرَانِيٍّ فَيَرَاهُ قَدْ جَاءَهُ وَرُبَّمَا يُكَلِّمُهُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ لَمَّا أَشْرَكَ بِهِ الْمُسْتَغِيثُ تَصَوَّرَ لَهُ كَمَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَدْخُلُ فِي الْأَصْنَامِ وَتُكَلِّمُ النَّاسَ وَمِثْلُ هَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْبِلَادِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَحْمِلُهُ الشَّيَاطِينُ فَتَطِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ تَحْمِلُهُ إلَى عَرَفَةَ فَلَا يَحُجُّ حَجًّا شَرْعِيًّا وَلَا يُحْرِمُ وَلَا يُلَبِّي وَلَا يَطُوفُ وَلَا يَسْعَى ؛ وَلَكِنْ يَقِفُ بِثِيَابِهِ مَعَ النَّاسِ ثُمَّ يَحْمِلُونَهُ إلَى بَلَدِهِ . وَهَذَا مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيَاطِينِ بِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ زِيَارَةِ " الْقُدْسِ " و " قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ " وَمَا فِي أَكْلِ الْخُبْزِ وَالْعَدْسِ مِنْ الْبَرَكَةِ
وَنَقْلِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ لِلْبَرَكَةِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ
السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا السَّفَرُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ
وَالِاعْتِكَافِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الدُّعَاءِ : فَمَشْرُوعٌ
مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا
إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
وَمَسْجِدِي هَذَا } . وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامِ وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا
سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَأَمَّا السَّفَرُ : إلَى مُجَرَّدِ
زِيَارَةِ " قَبْرِ الْخَلِيلِ " أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَمَشَاهِدِهِمْ وَآثَارِهِمْ فَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ
أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ ؛ بَلْ لَوْ نَذَرَ
ذَلِكَ نَاذِرٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا
النَّذْرِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ إذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ لَزِمَهُ السَّفَرُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَإِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِ كُلِّ مَا كَانَ طَاعَةً : مِثْلَ مَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ اعْتِكَافًا أَوْ صَدَقَةً لِلَّهِ أَوْ حَجًّا . وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ السَّفَرُ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَاعَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } فَمَنَعَ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَغَيْرُ الْمَسَاجِدِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ الْبُيُوتِ بِلَا رَيْبٍ وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ } مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } يَتَنَاوَلُ الْمَنْعَ مِنْ السَّفَرِ إلَى كُلِّ بُقْعَةٍ مَقْصُودَةٍ ؛ بِخِلَافِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَإِنَّ السَّفَرَ لِطَلَبِ تِلْكَ الْحَاجَةِ حَيْثُ كَانَتْ وَكَذَلِكَ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ الْأَخِ فِي اللَّهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ حَيْثُ كَانَ . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالسَّفَرِ
إلَى الْمَشَاهِدِ وَاحْتَجُّوا { بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّ قُبَاء لَيْسَتْ مَشْهَدًا ؛ بَلْ مَسْجِدٌ وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَفَرِ مَشْرُوعٍ ؛ بَلْ لَوْ سَافَرَ إلَى قُبَاء مِنْ دويرة أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ وَلَكِنْ لَوْ سَافَرَ إلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ ثُمَّ ذَهَبَ مِنْهُ إلَى قُبَاء فَهَذَا يُسْتَحَبُّ كَمَا يُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ . وَأَمَّا أَكْلُ الْخُبْزِ وَالْعَدْسِ الْمَصْنُوعِ عِنْدَ " قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ لَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَا كَانَ هَذَا مَصْنُوعًا لَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى خَمْسمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْبَعْثَةِ حَتَّى أَخَذَ النَّصَارَى تِلْكَ الْبِلَادَ وَلَمْ تَكُنْ الْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى قَبْرِهِ مَفْتُوحَةً ؛ بَلْ كَانَتْ مَسْدُودَةً وَلَا كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُسَافِرُونَ إلَى قَبْرِهِ وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ لَمَّا أَخَذَ النَّصَارَى تِلْكَ الْبِلَادَ فَسَوَّوْا حُجْرَتَهُ وَاِتَّخَذُوهَا كَنِيسَةً فَلَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ بَعْدَ ذَلِكَ اتَّخَذَ ذَلِكَ مَنْ اتَّخَذَهُ مَسْجِدًا وَذَلِكَ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا
يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . ثُمَّ وَقَفَ بَعْضُ النَّاسِ وَقْفًا لِلْعَدْسِ وَالْخُبْزِ وَلَيْسَ هَذَا وَقْفًا مِنْ الْخَلِيلِ وَلَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ خُلَفَائِهِ ؛ بَلْ قَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَطْلَقَ تِلْكَ الْقَرْيَةَ للدارميين } وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُطْعِمُوا عِنْدَ مَشْهَدِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا خُبْزًا وَلَا عَدْسًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ . فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ وَالْعَدْسِ مُسْتَحَبٌّ شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ بَلْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَدْسَ مُطْلَقًا فِيهِ فَضِيلَةٌ فَهُوَ جَاهِلٌ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى : { كُلُوا الْعَدْسَ فَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ وَقَدْ قُدِّسَ فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا } حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَلَكِنَّ الْعَدْسَ هُوَ مِمَّا اشْتَهَاهُ الْيَهُودُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَى الْجِنِّ بِالْعَدْسِ فَيَطْبُخُونَ عَدْسًا وَيَضَعُونَهُ فِي الْمَرَاحِيضِ أَوْ يُرْسِلُونَهُ وَيَطْلُبُونَ مِنْ الشَّيَاطِينِ بَعْضَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ كَمَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ . و " جِمَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ " : أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيُعْبَدَ
بِمَا
شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات وَالْمَنْدُوبَاتِ . فَمَنْ
تَعَبَّدَ بِعِبَادَةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً فَهُوَ ضَالٌّ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ الْأَفْضَلُ الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ ؟ أَوْ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ؟ أَوْ بِثَغْرِ مِنْ
الثُّغُورِ لِأَجْلِ الْغَزْوِ ؟ وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } . و { مَنْ
زَارَ الْبَيْتَ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } وَهَلْ زِيَارَةُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ أَمْ لَا ؟
أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الْمُرَابَطَةُ بِالثُّغُورِ
أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَمَا نَصَّ عَلَى
ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَامَّةً ؛ بَلْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي
الْمُجَاوَرَةِ : فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَاسْتَحَبَّهَا مَالِكٌ وَأَحْمَد
وَغَيْرُهُمَا ؛ وَلَكِنَّ الْمُرَابَطَةَ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ
الْمُجَاوَرَةِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْن السَّلَف حَتَّى قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ . وَذَلِكَ أَنَّ الرِّبَاطَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ وَجِنْسُ
الْجِهَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى جِنْسِ الْحَجِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ
النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } فَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الدارقطني فِيمَا قِيلَ بِإِسْنَادِ ضَعِيفٍ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا مَنْ كُتُبِ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ قَوْلُهُ : { مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } فَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ؛ بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ جَفَاءَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَبَائِرِ ؛ بَلْ هُوَ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ أَهْلِينَا وَأَمْوَالِنَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } .
وَأَمَّا " زِيَارَتُهُ " فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ لَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ الْمَوْجُودُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ . فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . وَأَكْثَرُ مَا اعْتَمَدَهُ الْعُلَمَاءُ فِي " الزِّيَارَةِ " قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يُقَالَ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ كَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ كَمَا فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ . وَشَدُّ الرَّحْلِ إلَى مَسْجِدِهِ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . فَإِذَا أَتَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالسَّفَرِ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ دُونَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ
مَشْرُوعٍ وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا السَّفَرِ إذَا نَذَرَهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ؛ بِخِلَافِ السَّفَرِ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَا لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَالِاعْتِكَافِ فَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ وُجُوبَ ذَلِكَ فِي بَعْضِهَا - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - وَتَنَازَعُوا فِي الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ . فَالْجُمْهُورُ يُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِهِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ لِكَوْنِ السَّفَرِ إلَى الْفَاضِلِ لَا يُغْنِي عَنْ السَّفَرِ إلَى الْمَفْضُولِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ إنَّمَا يُوجِبُ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُوجِبُ بِالنَّذْرِ مَا كَانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ وَالْجُمْهُورُ يُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِكُلِّ مَا هُوَ طَاعَةٌ ؛ لِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . بَلْ قَدْ صَرَّحَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَغَيْرِهَا لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذَا السَّفَرِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ طَاعَةٌ وَلَيْسَ بِطَاعَةِ وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا لَيْسَ بِطَاعَةِ هُوَ مَعْصِيَةٌ ؛ وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ . وَرَخَّصَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو
حَامِدٍ فِي " الْإِحْيَاءِ " وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ عبدوس وَأَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَقَدْ رَوَى حَدِيثًا رَوَاهُ الطَّبَرَانِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَا تَنْزِعُهُ إلَّا زِيَارَتِي كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لَكِنَّهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بْن عُمَرَ الْعُمَرِيِّ وَهُوَ مُضَعَّفٌ . وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَبِمِثْلِهِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { مَنْ زَارَ قَبْرِي فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي }
وَأَمْثَالُ هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا رُوِيَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْهَا شَيْئًا : لَا أَصْحَابُ
الصَّحِيحِ : كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ . وَلَا أَصْحَابُ السُّنَنِ : كَأَبِي
دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَلَا الْأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ الْمَسَانِيدِ :
كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَأَمْثَالِهِ وَلَا اعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ
أَئِمَّةِ الْفِقْهِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ بْنِ
رَاهَوَيْه وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ وَأَمْثَالِهِمْ ؛ بَلْ عَامَّةُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِمَّا يُعْلَمُ
أَنَّهَا كَذِبٌ مَوْضُوعَةٌ كَقَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي
عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ حَجَّ
وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَنَحْوَهَا
كَذِبٌ . وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ الدارقطني وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ
وَمَدَارُهُ عَلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ وَلَا قَبْرِ الْخَلِيلِ حَدِيثٌ ثَابِتٌ أَصْلًا ؛ بَلْ إنَّمَا اعْتَمَدَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَحَادِيثِ السَّلَامِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ } رَوَاهُ النَّسَائِي وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمْعَةِ : فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ قَالُوا : كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت ؟ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالُوا : لِأَنَّ لَفْظَ الزِّيَارَةِ قَدْ صَارَتْ فِي عُرْفِ النَّاسِ تَتَضَمَّنُ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَإِنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَجْهٌ شَرْعِيٌّ وَوَجْهٌ بِدْعِيٌّ . " فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ " مَقْصُودُهَا السَّلَامُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ إذَا زَارُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ لَهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقِفُ عِنْدَ قَبْرِهِ لِيَدْعُوَ لِنَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ ذَلِكَ وَقَالُوا : إنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إذَا سَلَّمَ الْمُسَلِّمُ عَلَيْهِ
وَأَرَادَ الدُّعَاءَ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ بَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَتَنَازَعُوا وَقْتَ السَّلَامِ عَلَيْهِ : هَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ أَوْ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد : يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ . وَهَذَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَلِهَذَا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلِمُ قَبْرًا مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَتَمَسَّحُ بِهِ وَلَا يُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ وَلَا قَصْدُهُ لِلدُّعَاءِ عِنْدَهُ أَوْ بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كَانَتْ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا هِيَ مِنْ " الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ " وَهِيَ مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الزَّائِرِ أَنْ يُسْتَجَابَ دُعَاؤُهُ عِنْدَ الْقَبْرِ أَوْ أَنْ يَدْعُوَ الْمَيِّتَ وَيَسْتَغِيثَ بِهِ وَيَطْلُبَ مِنْهُ أَوْ
يُقْسِمُ بِهِ عَلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِ وَتَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِ . فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلَهَا أَصْحَابُهُ . وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَقْصِدُ زِيَارَةَ " قَبْرِ الْخَلِيلِ " بَلْ كَانُوا يَأْتُونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَطْ طَاعَةً لِلْحَدِيثِ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } . وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ " قَبْرِ الْخَلِيلِ " و " الطُّورِ " الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ " جَبَلِ حِرَاءَ " وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ وَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَالسَّفَرُ إلَى هَذِهِ الْبِقَاعِ مَعْصِيَةٌ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ حَتَّى صَرَّحَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الصَّلَاةَ لَا تُقْصَرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ بِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا السَّفَرِ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَلَوْ نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالِاتِّفَاقِ . وَلَوْ نَذَرَ إتْيَانَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ : فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ . وَالثَّانِي
لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِكُلِّ نَذْرٍ هُوَ طَاعَةٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ } وَلَمْ يَسْتَثْنِ طَاعَةً مِنْ طَاعَةٍ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِبُّونَ السَّفَرَ لِشَيْءِ مِنْ زِيَارَاتِ الْبِقَاعِ : لَا آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا قُبُورِهِمْ وَلَا مَسَاجِدِهِمْ ؛ إلَّا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ ؛ بَلْ إذَا فَعَلَ بَعْضُ النَّاسِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَمَا أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ زَارَ الطُّورَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى حَتَّى إنَّ " غَارَ حِرَاءَ " الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ فِيهِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ لَمْ يَزُرْهُ هُوَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَذَا الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ فِي الْقُرْآنِ . وَثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ : فَرَأَى قَوْمًا يَتَنَاوَبُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : وَمَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا أَثَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَكُمْ مَسَاجِدَ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ بِهَذَا : مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ . وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشْرَعْ لِلْمُسْلِمِينَ مَكَانًا يَتَنَاوَبُونَهُ لِلْعِبَادَةِ إلَّا الْمَسَاجِدَ خَاصَّةً فَمَا لَيْسَ بِمَسْجِدِ لَمْ يَشْرَعْ قَصْدَهُ
لِلْعِبَادَةِ وَإِنْ كَانَ مَكَانَ نَبِيٍّ أَوْ قَبْرَ نَبِيٍّ . ثُمَّ إنَّ الْمَسَاجِدَ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتَّخَذَ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَهَذَانِ حَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحِ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } بَلْ قَدْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ عُمُومًا ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ ؛ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } وَهَذِهِ الْمَعَانِي قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا أَئِمَّةُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ ؛ بَلْ ذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ أَنَسٍ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْله { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } ؟
فَأَجَابَ :
قَوْلُهُ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } كَذِبٌ ؛ فَإِنَّ
جَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَامٌ وَزِيَارَةَ
قَبْرِهِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ
حَدِيثٌ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ بَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى { مَنْ
زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ
} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَذِبٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ رَوَى الدارقطني
وَغَيْرُهُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَحَادِيثَ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ . وَقَدْ كَرِهَ
مَالِكٌ - وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحُقُوقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالسُّنَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا أَهْلُ مَدِينَتِهِ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ كَرِهَ - أَنْ يُقَالَ : زُرْت
قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَوْ كَانَ هَذَا
اللَّفْظُ ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعْرُوفًا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكْرَهْ مَالِكٌ ذَلِكَ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ : سَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَهَذَا لَا يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ
إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدّ عَلَيْهِ السَّلَامُ } .
وَكَانَ
ابْنُ
عُمَرَ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ : السَّلَامُ عَلَيْك
يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ : { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْم الْجُمْعَةِ
وَلَيْلَةَ الْجُمْعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ . قَالُوا
وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت . قَالَ إنَّ اللَّهَ
حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَكَّةَ هَلْ هِيَ أَفْضَلُ مَنْ الْمَدِينَةِ ؟ أَمْ بِالْعَكْسِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَكَّةُ أَفْضَلُ لِمَا ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ لِمَكَّةَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ : وَاَللَّهِ إنَّك
لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنَّ
قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْك مَا خَرَجْت } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى
اللَّهِ } فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ
إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي فَضْلِهَا . وَأَمَّا
الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى : { أَخْرَجْتنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ
فأسكنى أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك } فَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ كَذِبٌ لَمْ
يَرَوْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ التُّرْبَةِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هَلْ هِيَ أَفْضَلُ مَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا " التُّرْبَةُ " الَّتِي دُفِنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ قَالَ إنَّهَا
أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَوْ
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ؛ إلَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ . فَذَكَرَ ذَلِكَ إجْمَاعًا
وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ . وَلَا حُجَّةَ
عَلَيْهِ بَلْ بَدَنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ
الْمَسَاجِدِ . وَأَمَّا مَا فِيهِ خَلْقٌ أَوْ مَا فِيهِ دَفْنٌ فَلَا يَلْزَمُ
إذَا كَانَ هُوَ أَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ مَا مِنْهُ خُلِقَ أَفْضَلَ . فَإِنَّ
أَحَدًا لَا يَقُولُ إنَّ بَدَنَ عَبْدِ اللَّهِ أَبِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَبْدَانِ
الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتَ
مِنْ الْحَيِّ . وَنُوحٌ نَبِيٌّ كَرِيمٌ وَابْنُهُ الْمُغْرَقُ كَافِرٌ
وَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ وَأَبُوهُ آزَرُ كَافِرٌ . وَالنُّصُوصُ
الدَّالَّةُ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَسَاجِدِ مُطْلَقَةٌ لَمْ يُسْتَثْنَ مِنْهَا
قُبُورُ
الْأَنْبِيَاءِ
وَلَا قُبُورُ الصَّالِحِينَ . وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ حَقًّا لَكَانَ مَدْفِنُ
كُلِّ نَبِيٍّ بَلْ وَكُلُّ صَالِحٍ أَفْضَلَ مِنْ الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ
بُيُوتُ اللَّهِ فَيَكُونُ بُيُوتُ الْمَخْلُوقِينَ أَفْضَلَ مِنْ بُيُوتِ
الْخَالِقِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
وَهَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ فِي الدِّينِ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ .
وَسُئِلَ أَيْضًا :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَجَادَلَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إنَّ تُرْبَةَ مُحَمَّدٍ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَقَالَ الْآخَرُ : الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ . فَمَعَ مَنْ الصَّوَابُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا نَفْسُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَمَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ . وَأَمَّا نَفْسُ
التُّرَابِ فَلَيْسَ هُوَ أَفْضَلَ مِنْ الْكَعْبَةِ البيت الْحَرَامِ بَلْ
الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَضَّلَ
تُرَابَ الْقَبْرِ عَلَى الْكَعْبَةِ إلَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَلَمْ يَسْبِقْهُ
أَحَدٌ إلَيْهِ وَلَا وَافَقَهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ ؟ هَلْ تُفَضَّلُ
الْإِقَامَةُ فِي الشَّامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْبِلَادِ ؟ وَهَلْ جَاءَ فِي
ذَلِكَ نَصٌّ فِي الْقُرْآنِ أَوْ الْأَحَادِيثِ أَمْ لَا ؟ أَجِيبُونَا
مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ نَاصِرُ السُّنَّةِ تَقِيُّ
الدِّينِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْإِقَامَةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَكُونُ الْأَسْبَابُ فِيهِ
أَطْوَعَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَفْعَلَ لِلْحَسَنَاتِ وَالْخَيْرِ بِحَيْثُ
يَكُونُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَأَقْدَرَ عَلَيْهِ وَأَنْشَطَ لَهُ أَفْضَلُ مِنْ
الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ حَالُهُ فِيهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
دُونَ ذَلِكَ . هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ . فَإِنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ . " وَالتَّقْوَى " هِيَ : مَا فَسَّرَهَا
اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } وَجِمَاعُهَا فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
وَرَسُولُهُ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ . وَإِذَا كَانَ هَذَا
هُوَ الْأَصْلَ فَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِ الْإِنْسَانِ . فَقَدْ
يَكُونُ مُقَامُ الرَّجُلِ فِي أَرْضِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ مِنْ أَنْوَاعِ
الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ أَفْضَلَ : إذَا كَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِيَدِهِ أَوْ لِسَانِهِ آمِرًا
بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ بِحَيْثُ لَوْ انْتَقَلَ عَنْهَا إلَى أَرْضِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لَقَلَّتْ حَسَنَاتُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُجَاهِدًا وَإِنْ كَانَ أَرْوَحَ قَلْبًا . وَكَذَلِكَ إذَا عَدِمَ الْخَيْرَ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ فِي أَمَاكِنِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُقَامُ فِي الثُّغُورِ بِنِيَّةِ الْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةُ { وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : حَجٌّ مَبْرُورٌ } . وَهَكَذَا لَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْهِجْرَةِ وَالِانْتِقَالِ إلَى الْمَكَانِ الْأَفْضَلِ الَّتِي لَوْ انْتَقَلَ إلَيْهَا لَكَانَتْ الطَّاعَةُ عَلَيْهِ أَهْوَنَ وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ ؛ لَكِنَّهَا هُنَاكَ أَشَقُّ عَلَيْهِ . فَإِنَّهُ إذَا اسْتَوَتْ الطَّاعَتَانِ فَأَشَقُّهُمَا أَفْضَلُهُمَا ؛ وَبِهَذَا نَاظَرَ مُهَاجِرَةُ الْحَبَشَةِ الْمُقِيمُونَ بَيْنَ الْكُفَّارِ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فَقَالُوا : كُنَّا عِنْدَ الْبَغْضَاءِ الْبُعَدَاءَ وَأَنْتُمْ عِنْدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ جَاهِلَكُمْ وَيُطْعِمُ جَائِعَكُمْ وَذَلِكَ فِي ذَاتِ اللَّهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ دِينُهُ هُنَاكَ أَنْقَصَ فَالِانْتِقَالُ أَفْضَلُ لَهُ وَهَذَا حَالُ غَالِبِ الْخَلْقِ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُدَافِعُونَ ؛ بَلْ يَكُونُونَ عَلَى دِينِ الْجُمْهُورِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَدِينُ الْإِسْلَامِ بِالشَّامِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَشَرَائِعُهُ أَظْهَرُ مِنْهُ بِغَيْرِهِ . هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَهُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى ذَلِكَ : مِثْلُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إبْرَاهِيمَ } وَفِي سُنَنِهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَوْلَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّكُمْ سَتُجَنِّدُونَ أَجْنَادًا : جُنْدًا بِالشَّامِ وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ وَجُنْدًا بِالْعِرَاقِ فَقَالَ ابْنُ خَوْلَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اخْتَرْ لِي فَقَالَ : عَلَيْك بِالشَّامِ ؛ فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مَنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إلَيْهَا خِيرَتُهُ مَنْ خَلْقِهِ فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ وَلْيَتَّقِ مِنْ غَدْرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ } . وَكَانَ الْخَوَالِي يَقُولُ : مَنْ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِهِ فَلَا ضَيْعَةَ عَلَيْهِ . وَهَذَانِ نَصَّانِ فِي تَفْضِيلِ الشَّامِ . وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : أَهْلُ الْمَغْرِبِ هُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَهُوَ كَمَا قَالَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي ذَاكَ
الزَّمَانِ كَانُوا يُسَمُّونَ أَهْلَ نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ أَهْلَ الْمَشْرِقِ وَيُسَمُّونَ أَهْلَ الشَّامِ أَهْلَ الْمَغْرِبِ ؛ لِأَنَّ التَّغْرِيبَ وَالتَّشْرِيقَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ فَكُلُّ مَكَانٍ لَهُ غَرْبٌ وَشَرْقٌ ؛ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَمَا تَغَرَّبَ عَنْهَا فَهُوَ غُرْبَةٌ وَمَا تَشَرَّقَ عَنْهَا فَهُوَ شرقة . وَمَنْ عَلِمَ حِسَابَ الْبِلَادِ - أَطْوَالَهَا وَعُرُوضَهَا - عَلِمَ أَنَّ الْمَعَاقِلَ الَّتِي بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ - كَالْبِيرَةِ وَنَحْوِهَا - هِيَ مُحَاذِيَةٌ لِلْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا أَنَّ مَا شَرَّقَ عَنْهَا بِنَحْوِ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ كَحَرَّانَ وَمَا سَامَتَهَا مِثْلُ الرَّقَّةِ وسميساط فَإِنَّهُ مُحَاذٍ أُمَّ الْقُرَى مَكَّةَ . شَرَّفَهَا اللَّهُ . وَلِهَذَا كَانَتْ قِبْلَتُهُ هُوَ أَعْدَلَ الْقِبَلِ فَمَا شَرَّقَ عَمَّا حَاذَى الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ فَهُوَ شَرْقُهَا وَمَا يَغْرُبُ ذَلِكَ فَهُوَ غَرْبُهَا . وَفِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا مِثْلُ " مُسْنَدِ أَحْمَد " وَغَيْرِهِ عِدَّةُ آثَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْأَصْلِ : مِثْلُ وَصْفِهِ أَهْلَ الشَّامِ " بِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ مُنَافِقُوهُمْ مُؤْمِنِيهِمْ " . وَقَوْلِهِ { رَأَيْت كَأَنَّ عَمُودَ الْكِتَابِ - وَفِي رِوَايَةٍ - عَمُودَ الْإِسْلَامِ أُخِذَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي فَأَتْبَعْته نَظَرِي فَذُهِبَ بِهِ إلَى الشَّامِ } وَعَمُودُ الْكِتَابِ وَالْإِسْلَامِ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَهُمْ حَمَلَتُهُ الْقَائِمُونَ بِهِ . وَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ } وَمِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } . وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : " وَهُمْ بِالشَّامِ " وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ قَالَ : " وَهُمْ بِدِمَشْقَ " وَرُوِيَ : " وَهُمْ بِأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ مُظِلَّةٌ أَجْنِحَتَهَا بِالشَّامِ } . وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مُتَعَاضِدَةٌ وَلَكِنَّ الْجَوَابَ - لَيْسَ عَلَى الْبَدِيهَةِ - عَلَى عَجَلٍ . وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا رُوِيَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعَ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَكُشُوفَاتِ الْعَارِفِينَ : أَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ ابْتَدَآ مِنْ مَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى فَهِيَ أُمُّ الْخَلْقِ وَفِيهَا اُبْتُدِئَتْ الرِّسَالَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الَّتِي طَبَقَ نُورُهَا الْأَرْضَ وَهِيَ جَعَلَهَا اللَّهُ قِيَامًا لِلنَّاسِ : إلَيْهَا يُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ وَيَقُومُ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . فَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ ظُهُورُهُ بِالْحِجَازِ أَعْظَمَ وَدَلَّتْ الدَّلَائِلُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ " مُلْكَ النُّبُوَّةِ " بِالشَّامِ وَالْحَشْرَ إلَيْهَا . فَإِلَى بَيْت الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ يَعُودُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ . وَهُنَاكَ يُحْشَرُ الْخَلْقُ . وَالْإِسْلَامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكُونُ أَظْهَرَ بِالشَّامِ . وَكَمَا أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَوَّلُ الْأُمَّةِ خَيْرٌ مِنْ آخِرِهَا . وَكَمَا أَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى
الشَّامِ كَمَا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى . فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ بِالشَّامِ . فَالْأَمْرُ مِسَاسُهُ كَمَا هُوَ الْمَوْجُودُ وَالْمَعْلُومُ . وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى بَرَكَةِ الشَّامِ فِي خَمْسِ آيَاتٍ : قَوْلُهُ : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْرَثَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَرْضَ الشَّامِ . وَقَوْلُهُ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } وَقَوْلُهُ : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وَقَوْلُهُ : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وقَوْله تَعَالَى { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } الْآيَةُ . فَهَذِهِ خَمْسُ آيَاتٍ نُصُوصٍ . و " الْبَرَكَةُ " تَتَنَاوَلُ الْبَرَكَةَ فِي الدِّينِ وَالْبَرَكَةَ فِي الدُّنْيَا . وَكِلَاهُمَا مَعْلُومٌ لَا رَيْبَ فِيهِ . فَهَذَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَالْغَالِبِ . وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَقَدْ يَكُونُ مُقَامُهُ فِي غَيْرِ الشَّامِ أَفْضَلَ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ لَوْ خَرَجُوا عَنْهَا إلَى مَكَانٍ يَكُونُونَ فِيهِ أَطْوَعَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ لَكَانَ أَفْضَلَ لَهُمْ . وَقَدْ كَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ لَهُ : هَلُمَّ إلَى الْأَرْضِ
الْمُقَدَّسَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ سَلْمَانُ : إنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الرَّجُلَ عَمَلُهُ . وَهُوَ كَمَا قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ ؛ فَإِنَّ مَكَّةَ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى - أَشْرَفُ الْبِقَاعِ وَقَدْ كَانَتْ فِي غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ يَحْرُمُ الْمُقَامُ بِهَا وَحَرَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهَا الْمُهَاجِرُونَ فَيُقِيمُوا بِهَا وَقَدْ كَانَتْ الشَّامُ فِي زَمَنِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبْلَ خُرُوجِهِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ دَارَ الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الْجَبَابِرَةِ الْفَاسِقِينَ وَفِيهَا قَالَ تَعَالَى لِبَنِي إسْرَائِيلَ : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } . فَإِنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ " دَارَ كُفْرٍ " أَوْ " دَارَ إسْلَامٍ أَوْ إيمَانٍ " أَوْ " دَارَ سِلْمٍ " أَوْ " حَرْبٍ " أَوْ " دَارَ طَاعَةٍ " أَوْ مَعْصِيَةٍ " أَوْ " دَارَ الْمُؤْمِنِينَ " أَوْ " الْفَاسِقِينَ " أَوْصَافٌ عَارِضَةٌ ؛ لَا لَازِمَةٌ . فَقَدْ تَنْتَقِلُ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ كَمَا يَنْتَقِلُ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْكُفْرِ إلَى الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ . وَأَمَّا الْفَضِيلَةُ الدَّائِمَةُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَكَانٍ فَفِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } الْآيَةُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } الْآيَةُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } . وَإِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ إخْلَاصُ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ لَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَالَ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . وَمُنْذُ أَقَامَ اللَّهُ حُجَّتَهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِخَاتَمِ رُسُلِهِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ الْإِيمَانُ بِهِ وَطَاعَتُهُ وَاتِّبَاعُ شَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ . فَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَعْلَمُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِمَا جَاءَ بِهِ : عِلْمًا وَحَالًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا وَهُمْ أَتْقَى الْخَلْقِ . وَأَيُّ مَكَانٍ وَعَمَلٍ كَانَ أَعْوَنَ لِلشَّخْصِ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ كَانَ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ شَيْئًا آخَرَ . ثُمَّ إذَا فَعَلَ كُلُّ شَخْصٍ مَا هُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ فَإِنْ تَسَاوَتْ الْحَسَنَاتُ وَالْمَصَالِحُ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ مَعَ مَا حَصَلَ لِلْآخَرِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَإِلَّا فَإِنَّ أَرْجَحَهُمَا فِي ذَلِكَ هُوَ أَفْضَلُهُمَا . وَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ يَظْهَرُ فِيهَا مِنْ النَّقْصِ فِي خَرَابِ " الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ " عِلْمًا وَإِيمَانًا مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ فَضْلُ كَثِيرٍ مِمَّنْ بِأَقْصَى الْمَغْرِبِ عَلَى أَكْثَرِهِمْ . فَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى فَضْلِ الْبُقْعَةِ فِي فَضْلِ أَهْلِهَا مُطْلَقًا ؛ بَلْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِفَضْلِ الْإِنْسَانِ فِي إيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ وَالْكَلِمِ الطَّيِّبِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْبِقَاعِ أَعْوَنَ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ كَإِعَانَةِ مَكَّةَ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ الْمُضَعَّفَةِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ . وَقَدْ يَحْصُلُ فِي الْأَفْضَلِ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ يَجْعَلُهُ مَفْضُولًا : مِثْلُ مَنْ يُجَاوِرُ بِمَكَّةَ مَعَ السُّؤَالِ وَالِاسْتِشْرَافِ وَالْبِطَالَةِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ يَطْلُبُ الْإِقَامَةَ بِالشَّامِ لِأَجْلِ حِفْظِ مَالِهِ وَحُرْمَةِ نَفْسِهِ لَا لِأَجْلِ عَمَلٍ صَالِحٍ . فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ إنَّمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } قَالَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَدْ هَاجَرَ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا : أُمُّ قَيْسٍ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ : مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ . وَإِذَا فَضَّلْت جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ تَفْضِيلَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ كَتَفْضِيلِ الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى الثَّالِثِ وَتَفْضِيلِ الْعَرَبِ عَلَى مَا سِوَاهُمْ وَتَفْضِيلِ قُرَيْشٍ عَلَى مَا سِوَاهُمْ . فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الصَّلَاةِ فِي جَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ هَلْ هِيَ
بِتِسْعِينَ صَلَاةٍ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا ؟ وَقَدْ ذَكَرُوا : " أَنَّ
فِيهِ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ مَدْفُونِينَ " فَهَلْ ذَلِكَ صَحِيحٌ أَمْ لَا
؟ وَقَدْ ذَكَرُوا : " أَنَّ النَّائِمَ بِالشَّامِ كَالْقَائِمِ بِاللَّيْلِ
بِالْعِرَاقِ " وَذَكَرُوا : " أَنَّ الصَّائِمَ الْمُتَطَوِّعَ
بِالْعِرَاقِ كَالْمُفْطِرِ بِالشَّامِ " وَذَكَرُوا : " أَنَّ اللَّهَ
خَلَقَ الْبَرَكَةَ وَاحِدًا وَسَبْعِينَ جُزْءًا . مِنْهَا جُزْءٌ وَاحِدٌ
بِالْعِرَاقِ وَسَبْعُونَ بِالشَّامِ " . فَهَلْ ذَلِكَ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَرِدْ فِي " جَامِعِ دِمَشْقَ حَدِيثٌ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَضْعِيفِ الصَّلَاةِ فِيهِ
وَلَكِنْ هُوَ مِنْ أَكْثَرِ الْمَسَاجِدِ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى . وَلَمْ
يَثْبُتْ أَنَّ فِيهِ عَدَدَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ . وَأَمَّا
الْقَائِمُ بِالشَّامِ أَوْ غَيْرُهُ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . فَإِنْ
أَقَامَ فِيهِ بِنْيَةٍ صَالِحَةٍ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ . وَكُلُّ
مَكَانٍ يَكُونُ فِيهِ الْعَبْدُ أَطْوَعَ لِلَّهِ فَمُقَامُهُ فِيهِ أَفْضَلُ [
وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ الشَّامَ وَأَهْلِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَدَلَّ
الْقُرْآنُ
عَلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ ] (*) وَلَا رَيْبَ أَنَّ ظُهُورَ
الْإِسْلَامِ وَأَعْوَانِهِ فِيهِ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ أَقْوَى مِنْهُ
فِي غَيْرِهِ وَفِيهِ مِنْ ظُهُورِ الْإِيمَانِ وَقَمْعِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ
مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ : مِنْ حَدِيثِ الْفِطْرِ
وَالصِّيَامِ وَأَنَّ الْبَرَكَةَ وَاحِدٌ وَسَبْعُونَ جُزْءًا بِالشَّامِ
وَالْعِرَاقِ عَلَى مَا ذُكِرَ : فَهَذَا لَمْ نَسْمَعْهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ أَيْضًا :
هَلْ دَخَلَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَى دِمَشْقَ وَكَانَتْ تُحَدِّثُ النَّاسَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَدْخُلْ دِمَشْقَ أَحَدٌ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لَا عَائِشَةُ وَلَا غَيْرُهَا . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " جَبَلِ لُبْنَانَ " هَلْ وَرَدَ فِي فَضْلِهِ نَصٌّ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى ؟ أَوْ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؟ وَهَلْ يَحِلُّ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَصْقَعَ النَّاسُ
إلَيْهِ بِرُءُوسِهِمْ إذَا أَبْصَرُوهُ ؟ وَحَتَّى مَنْ أَبْصَرَهُ صَبَاحًا أَوْ
مَسَاءً يَرَى أَنَّ ذَلِكَ بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ ؟ وَهَلْ ثَبَتَ عِنْدَ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنَّ فِيهِ أَرْبَعِينَ مِنْ الْأَبْدَالِ ؟ أَوْ كَانَ فِيهِ رِجَالٌ
عَلَيْهِمْ شَعْرٌ مِثْلُ شَعْرِ الْمَاعِزِ ؟ وَهَلْ هَذِهِ صِفَةُ الصَّالِحِينَ
؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ لَهُ نِيَّةَ الزِّيَارَةِ ؟ أَوْ يَعْتَقِدَ
أَنَّ مَنْ وَطَّأَ أَرْضَهُ فَقَدَ وَطِئَ بَعْضَ الْجَبَلِ الْمَخْصُوصِ
بِالرَّحْمَةِ ؟ وَهَلْ ثَبَتَ أَنَّ فِيهِ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
مَدْفُونٌ أَوْ فِي أَذْيَالِهِ ؟ أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّ
فِيهِ رِجَالُ الْغَيْبِ ؟ وَكَيْفَ صِفَةُ رِجَالِ الْغَيْبِ الَّذِينَ
يَعْتَقِدُ الْعَوَامُّ فِيهِمْ ؟ وَهَلْ يَحِلُّ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ
يَعْتَقِدَ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا مِنْ هَذَا ؟ وَهَلْ يَكُونُ كُلُّ مَنْ كَابَرَ
فِيهِ وَحَسَّنَهُ أَوْ دَاهَنَ فِيهِ مُخْطِئًا آثِمًا ؟ وَهَلْ يَكُونُ
الْمُنْكِرُ لِهَذَا كُلِّهِ مِنْ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنْ
الْمُنْكَرِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ فِي فَضْلِ " جَبَلِ لُبْنَانَ " وَأَمْثَالِهِ نَصٌّ لَا عَنْ
اللَّهِ
وَلَا عَنْ رَسُولِهِ ؛ بَلْ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْجِبَالِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ وَجَعَلَهَا أَوْتَادًا لِلْأَرْضِ وَآيَةً مِنْ آيَاتِهِ وَفِيهَا مِنْ مَنَافِعَ خَلْقِهِ مَا هُوَ نِعَمٌ لِلَّهِ عَلَى عِبَادِهِ . وَسَوْفَ يَفْعَلُ بِهَا مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا } { فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا } { لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا } . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحِكَايَاتِ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِبَعْضِ الْعِبَادِ فِي جَبَلِ لُبْنَانَ وَجَبَلِ اللِّكَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَا يُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَالِ وَالْفِعَالِ . فَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْكِنَةَ كَانَتْ ثُغُورًا يُرَابِطُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ لِجِهَادِ الْعَدُوِّ ؛ لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ فَتَحُوا الشَّامَ كُلَّهُ وَغَيْرَ الشَّامِ فَكَانَتْ غَزَّةُ وَعَسْقَلَانُ وَعَكَّةُ وَبَيْرُوتُ وَجَبَلُ لُبْنَانَ وَطَرَابُلُسُ ومصيصة وسيس وطرسوس وَأُذُنَة وَجَبَلُ اللِّكَامِ وملطية وَآمِدُ وَجَبَلُ ليسون إلَى قَزْوِينَ إلَى الشَّاشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِلَادِ ؛ كَانَتْ ثُغُورًا كَمَا كَانَتْ الإسكندرية وَنَحْوُهَا ثُغُورًا وَكَذَلِكَ عبادان وَنَحْوُهَا مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ . وَكَانَ الصَّالِحُونَ يَتَنَاوَبُونَ الثُّغُورَ لِأَجْلِ الْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُقَامَ بِالثُّغُورِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبَاطَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ وَالْمُجَاوَرَةَ مِنْ جِنْسِ النُّسُكِ وَجِنْسُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مَنْ جِنْسِ النُّسُكِ : بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وَفَضَائِلُ الْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ كَثِيرَةٌ . فَلِذَلِكَ كَانَ صَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ يُرَابِطُونَ فِي الثُّغُورِ : مِثْلُ مَا كَانَ الأوزاعي وَأَبُو إسْحَاقَ الفزاري ومخلد بْنُ الْحُسَيْنِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
أَدْهَمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَحُذَيْفَةُ المرعشي وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطَ وَغَيْرُهُمْ : يُرَابِطُونَ بِالثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجِيءُ مِنْ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمَا لِلرِّبَاطِ فِي الثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّامِ هُمْ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ النَّصَارَى أَهْلَ الْكِتَابِ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ } وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينٍ . وَأَمَّا الْكُفَّارُ التُّرْكُ وَنَحْوُهُمْ فَلَا يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينٍ فَإِذَا غَلَبَ أُولَئِكَ أَفْسَدُوا الدِّينَ وَالْمُلْكَ . وَأَمَّا التُّرْكُ فَيُفْسِدُونَ الْمُلْكَ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ ؛ وَلَا يُقَاتِلُونَ عَلَى الدِّينِ . وَلِهَذَا كَثُرَ ذِكْرُ " طرسوس " فِي كُتُبِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ الْمُصَنَّفَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهَا كَانَتْ ثَغْرَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَانَ يَقْصِدُهَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالسَّرِيُّ السقطي ؛ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ لِلرِّبَاطِ وَتُوُفِّيَ الْمَأْمُونُ قَرِيبًا مِنْهَا . فَعَامَّةُ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ فَضْلِ عَسْقَلَانَ والإسكندرية أَوْ عَكَّةَ أَوْ قَزْوِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَمَا يُوجَدُ مِنْ أَخْبَارِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ بِهَذِهِ الْأَمْكِنَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهُوَ لِأَجْلِ كَوْنِهَا كَانَتْ ثُغُورًا ؛ لَا لِأَجْلِ خَاصِّيَّةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ . وَكَوْنُ الْبُقْعَةِ ثَغْرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ ثَغْرٍ هُوَ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ لَهَا لَا اللَّازِمَةِ لَهَا ؛ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهَا دَارَ إسْلَامٍ أَوْ دَارَ كُفْرٍ أَوْ دَارَ حَرْبٍ أَوْ دَارَ سِلْمٍ أَوْ دَارَ عِلْمٍ وَإِيمَانٍ أَوْ دَارَ
جَهْلٍ
وَنِفَاقٍ . فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سُكَّانِهَا وَصِفَاتِهِمْ ؛
بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّ مَزِيَّتَهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهَا
؛ لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهَا عَنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَاجِدِ فَبَيْنَ
الْعُلَمَاءِ نِزَاعٌ فِي جَوَازِ تَغْيِيرِهَا لِلْمَصْلَحَةِ وَجَعْلِهَا غَيْرَ
مَسْجِدٍ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَسْجِدِ
الْكُوفَةِ لَمَّا بَدَّلَهُ وَجَعَلَ الْمَسْجِدَ مَكَانًا آخَرَ وَصَارَ
الْأَوَّلُ حَوَانِيتَ التَّمَارِينِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ .
فَصْلٌ :
إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَهَذِهِ السَّوَاحِلُ الشَّامِيَّةُ كَانَتْ ثُغُورًا
لِلْإِسْلَامِ إلَى أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ
قَدْ فَتَحُوا " قُبْرُصَ " فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فَتَحَهَا مُعَاوِيَةُ فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ
الرَّابِعَةِ اضْطَرَبَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ وَصَارَ لِلرَّافِضَةِ
وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ دَوْلَةٌ وَمُلْكٌ بِالْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالْمَغْرِبِ وَبِالْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ وَبِأَرْضِ الشَّامِ وَغَلَبَ
هَؤُلَاءِ عَلَى مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ الشَّامِ : سَوَاحِلِهِ وَغَيْرِ
سَوَاحِلِهِ وَهُمْ أُمَّةٌ مَخْذُولَةٌ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا
دِينٌ صَحِيحٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ . فَغَلَبَتْ النَّصَارَى عَلَى عَامَّةِ
سَوَاحِلَ الشَّامِ ؛ بَلْ وَأَكْثَرِ بِلَادِ الشَّامِ وَقَهَرُوا الرَّوَافِضَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرَهُمْ وَأَخَذُوا مِنْهُمْ مَا أَخَذُوا إلَى أَنْ
يَسَّرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِوِلَايَةِ مُلُوكِ السُّنَّةِ مِثْلُ " نُورِ الدِّينِ " " وَصَلَاحِ الدِّينِ " وَغَيْرِهِمَا : فَاسْتَنْقَذُوا عَامَّةَ الشَّامِ مِنْ النَّصَارَى . وَبَقِيَتْ بَقَايَا الرَّوَافِضِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي جَبَلِ لُبْنَانَ وَغَيْرِهِ وَرُبَّمَا غَلَبَهُمْ النَّصَارَى عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ هَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ وَالْمُنَافِقُونَ فَلَّاحِينَ لِلنَّصَارَى . وَصَارَ جَبَلُ لُبْنَانَ وَنَحْوُهُ دَوْلَةً بَيْنَ النَّصَارَى وَالرَّوَافِضِ لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْفَضِيلَةِ شَيْءٌ وَلَا يُشْرَعُ بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْمُقَامُ بَيْنَ نَصَارَى أَوْ رَوَافِضَ يَمْنَعُونَ الْمُسْلِمَ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ . وَلَكِنْ صَارَ طَوَائِفُ مِمَّنْ يُؤْثِرُ التَّخَلِّي عَنْ النَّاسِ - زُهْدًا وَنُسُكًا - يَحْسَبُ أَنَّ فَضْلَ هَذَا الْجَبَلِ وَنَحْوِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَلْوَةِ عَنْ النَّاسِ وَأَكْلِ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الثِّمَارِ الَّتِي فِيهِ . فَيَقْصِدُونَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ غَلَطًا مِنْهُمْ وَخَطَأً فَإِنَّ سُكْنَى الْجِبَالِ وَالْغِيرَانِ وَالْبَوَادِي لَيْسَ مَشْرُوعًا لِلْمُسْلِمِينَ ؛ إلَّا عِنْدَ الْفِتْنَةِ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي تحوج الرَّجُلَ إلَى تَرْكِ دِينِهِ : مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ فَيُهَاجِرُ الْمُسْلِمُ حِينَئِذٍ مَنْ أَرْضٍ يَعْجِزُ عَنْ إقَامَةِ دِينِهِ إلَى أَرْضٍ يُمْكِنُهُ فِيهَا إقَامَةُ دِينِهِ ؛ فَإِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ مِنْ هَؤُلَاءِ النُّسَّاكِ الزُّهَّادِ طَائِفَةٌ إمَّا ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا مُقْتَصِدُونَ مُخْطِئُونَ مَغْفُورٌ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فَأَمَّا السَّابِقُونَ
الْمُقَرَّبُونَ فَهُمْ الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ جِنْسَ النُّسَّاكِ الزُّهَّادِ السَّاكِنِينَ فِي الْأَمْصَارِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ سَاكِنِي الْبَوَادِي وَالْجِبَالِ كَفَضِيلَةِ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدَوِيِّ وَالْمُهَاجِرِ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَرْتَدَّ الرَّجُلُ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ } هَذَا لِمَنْ هُوَ سَاكِنٌ فِي الْبَادِيَةِ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ فَكَيْفَ بِالْمُقِيمِ وَحْدَهُ دَائِمًا فِي جَبَلٍ أَوْ بَادِيَةٍ فَإِنَّ هَذَا يَفُوتُهُ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ نَظِيرُ مَا يَفُوتُهُ مِنْ مَصَالِحَ الدُّنْيَا أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا اعْتِقَادُ بَعْضِ الْجُهَّالِ أَنَّ بِهِ " الْأَرْبَعِينَ
الْأَبْدَالَ " فَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ مَا اجْتَمَعَ بِهِ الْأَبْدَالُ
الْأَرْبَعُونَ قَطُّ وَلَا هَذَا مَشْرُوعٌ لَهُمْ وَلَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ
وَاعْتِقَادُ جُهَّالِ الْجُمْهُورِ هَذَا يُشْبِهُ اعْتِقَادَ الرَّافِضَةِ فِي
الْخَلِيفَةِ الْحُجَّةِ صَاحِبِ الزَّمَانِ عِنْدَهُمْ الَّذِي يَقُولُونَ :
إنَّهُ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ حَاضِرٌ فِي الْأَمْصَارِ . وَيُعَظِّمُونَ
قَدْرَهُ وَيَرْجُونَ بَرَكَتَهُ . وَهُوَ مَعْدُومٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَكُلُّ
مَنْ عَلَّقَ دِينَهُ بِالْمَجْهُولَاتِ وَأَعْرَضَ عَمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ
نَبِيَّهُ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ : فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ
الْخَارِجِ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بَلْ فِيهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ
الْمُتَأَخِّرَةِ أَهْلُ الضَّلَالِ مَنَّ النَّصَارَى وَالْنُصَيْرِيَّة
وَالرَّافِضَةِ : الَّذِينَ غَزَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ كَثِيرٍ
مِنْ الْجُهَّالِ وَأَهْلِ الْإِفْكِ وَالْمُحَالِ : إنَّ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ
" رِجَالُ الْغَيْبِ " . وَتَعْظِيمُهُمْ لِهَؤُلَاءِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ
الضَّلَالِ الَّذِي اسْتَحْوَذُوا بِهِ عَلَى الْجُهَّالِ : مِنْ الْأَتْرَاكِ
وَالْأَعْرَابِ وَالْفَلَّاحِينَ وَالْعَامَّةِ أَضَلُّوهُمْ بِذَلِكَ عَنْ
حَقِيقَةِ الدِّينِ وَأَكَلُوا بِهِ أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } . وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ مَنْ كَانَ غَائِبَ الْجَسَدِ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ ؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ قَدْ تَغِيبُ عَنْ النَّاسِ حَقِيقَةُ قَلْبِهِ وَمَا فِي بَاطِنِهِ مِنْ وِلَايَةِ اللَّه وَعَظِيمِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ : فَيَكُونُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْمَسَاجِدِ وَبَيْنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ حَالَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ : لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } أَيْ قَدْ يَكُونُ فِيمَنْ تَنْبُو عَنْهُ الْأَبْصَارُ لِرَثَاثَةِ حَالِهِ مَنْ يَبَرُّ اللَّهُ قَسَمَهُ وَلَيْسَ هَذَا وَصْفًا لَازِمًا ؛ بَلْ وِلَايَةُ اللَّهِ هِيَ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الْمُبَاحَةِ . وَكَذَلِكَ خَبَرُ الرَّجُلِ الَّذِي نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ كَالْمَاعِزِ بَاطِلٌ وَمُحَالٌ . نَعَمْ يَكُونُ فِي الضُّلَّالِ مِنْ الزُّهَّادِ مَنْ يَتْرُكُ السُّنَّةَ حَتَّى يَنْبُتَ الشَّعْرُ وَيَكْثُرَ عَلَى جَسَدِهِ وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ بِمَا أُمِرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إحْفَاءِ الشَّوَارِبِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ ظَنَّ أَنَّ غَيْرَ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ مِنْ هَدْيِهِ
أَوْ أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَسَعُهُ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا وَسِعَ الْخَضِرَ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهَذَا كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ ؛ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَكُنْ دَعْوَتُهُ عَامَّةً وَلَمْ يَكُنْ يَجِبُ عَلَى الْخَضِرِ اتِّبَاعُ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بَلْ قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى : إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ . فَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ : الْجِنِّ وَالْإِنْسِ : عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ دَانِيهِمْ وَقَاصِيهمْ مُلُوكِهِمْ وَرَعِيَّتِهِمْ زُهَّادِهِمْ وَغَيْرِ زُهَّادِهِمْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً } وَهُوَ خَاتَمُ الرُّسُلِ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ يُنْتَظَرُ وَلَا كِتَابٌ يُرْتَقَبُ ؛ بَلْ هُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنٌ عَلَيْهِ . فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ عُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ خُرُوجًا عَنْ اتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ وَأَخْذَ مَا بُعِثَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي
يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ وَبَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ الضلالية الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } . وَإِنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءِ مِنْهَا بَعْضُ أَكَابِرِ النُّسَّاكِ وَالزُّهَّادِ . فَفِي الصِّحَاحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ . فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . وَالرَّاغِبُ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُرِيدُهُ ؛ بَلْ يُحِبُّ وَيُرِيدُ مَا يُنَافِي الْمَشْرُوعَ الَّذِي أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الَّذِي يَتَعَرَّى دَائِمًا . أَوْ يَصْمُتُ دَائِمًا أَوْ يَسْكُنُ وَحْدَهُ فِي الْبَرِيَّةِ دَائِمًا أَوْ يَتْرُكُ أَكْلَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ دَائِمًا أَوْ يَتَرَهَّبُ دَائِمًا ؛ مُتَعَبِّدًا بِذَلِكَ ظَانًّا أَنَّ هَذَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ دُونَ ضِدِّهِ مِنْ اللِّبَاسِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْكَلَامِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَكُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ الِانْحِنَاءِ لِلْجَبَلِ الْمَذْكُورِ وَنَحْوِهِ أَوْ لِمَنْ فِيهِ أَوْ زِيَارَتِهِ بِلَا قَصْدٍ لِلْجِهَادِ أَوْ لِأَمْرِ مَشْرُوعٍ : فَهُوَ مِنْ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ . وَكَذَلِكَ التَّبَرُّكُ بِمَا يُحْمَلُ مِنْهُ مِنْ الثِّمَارِ هُوَ مِنْ
الْبِدَعِ
الْجَاهِلِيَّةِ الْمُضَاهِيَةِ لِلضَّلَالَاتِ النَّصْرَانِيَّةِ والشركية وَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : أَنَّ بَصْرَةَ بْنَ أَبِي بَصْرَةَ
الْغِفَارِيَّ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سَافَرَ إلَى
الطُّورِ - الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ - فَقَالَ : لَوْ رَأَيْتُك
قَبْلَ أَنْ تَذْهَبَ إلَيْهِ لَمْ أَدَعْك تَذْهَبُ إلَيْهِ ؛ لَأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ
إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } . فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ الطُّورِ -
الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى وَسَمَّاهُ " الْوَادِيَ
الْمُقَدَّسَ " و " الْبُقْعَةَ الْمُبَارَكَةَ " - لَا يُشْرَعُ ؛
فَكَيْفَ بِالسَّفَرِ لِزِيَارَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَطْوَارِ فَإِنَّ "
الطُّورَ " هُوَ الْجَبَلُ وَالْأَطْوَارَ الْجِبَالُ .
وَأَمَّا الْقَبْرُ الْمَشْهُورُ فِي سَفْحِهِ بالكرك الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ
" قَبْرُ نُوحٍ " فَهُوَ بَاطِلٌ مُحَالٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِمَّنْ
لَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ : إنَّ هَذَا قَبْرُ نُوحٍ وَلَا قَبْرُ أَحَدٍ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ أَوْ الصَّالِحِينَ وَلَا كَانَ لِهَذَا الْقَبْرِ ذِكْرٌ وَلَا
خَبَرٌ أَصْلًا ؛ بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ حَاكُورَةً يُزْرَعُ فِيهَا
وَيَكُونُ بِهَا الْحَاكَةُ إلَى مُدَّةِ قَرِيبَةٍ . رَأَوْا هُنَاكَ قَبْرًا
فِيهِ عَظْمٌ كَبِيرٌ وَشَمُّوا فِيهِ رَائِحَةً فَظَنَّ الْجُهَلَاءُ أَنَّهُ
لِأَجْلِ تِلْكَ الرَّائِحَةِ يَكُونُ قَبْرَ نَبِيٍّ . وَقَالُوا مَنْ كَانَ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ كَبِيرًا ؟ فَقَالُوا : نُوحٌ . فَقَالُوا : هُوَ قَبْرُ نُوحٍ
وَبَنَوْا عَلَيْهِ فِي دَوْلَةِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّاصِرِ
صَاحِبِ حَلَبَ ذَلِكَ الْقَبْرَ وَزِيدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي دَوْلَةِ الظَّاهِرِ
فَصَارَ وَثَنًا يُشْرِكُ بِهِ الْجَاهِلُونَ
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } فَلَوْ كَانَ قَبْرَ نَبِيٍّ لَمْ يَتَجَرَّدْ الْعَظْمُ . وَقَدْ حَدَّثَنِي مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْمَكَانِ عَنْ آبَائِهِمْ مَنْ ذَكَرَ : أَنَّهُمْ رَأَوْا تِلْكَ الْعِظَامَ الْكَبِيرَةَ فِيهِ وَشَاهَدُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَكَانًا لِلزَّرْعِ وَالْحِيَاكَةِ . وَحَدَّثَنِي مِنْ الثِّقَاتِ مَنْ شَاهَدَ فِي الْمَقَابِرِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ رُءُوسًا عَظِيمَةً جِدًّا تُنَاسِبُ تِلْكَ الْعِظَامَ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ مِنْ عِظَامِ الْعَمَالِقَةِ : الَّذِينَ كَانُوا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ أَوْ نَحْوِهِمْ . وَلَوْ كَانَ قَبْرَ نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ لَمْ يُشْرَعْ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ مَسْجِدٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ كَمَا قَالَ فِي الصِّحَاحِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَقَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَلَا تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ ؛ لَا الْفَرْضُ وَلَا النَّفْلُ عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يُنْهَى عَنْهُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : هِيَ بَاطِلَةٌ ؛ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَإِنَّمَا الْبِقَاعُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيُحِبُّ الصَّلَاةَ وَالْعِبَادَةَ فِيهَا هِيَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } . { وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْبِقَاعِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : الْمَسَاجِدُ . قِيلَ : فَأَيُّ الْبِقَاعِ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : الْأَسْوَاقُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ } وَقَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا تَطَهَّرَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إحْدَاهُمَا تَرْفَعُ دَرَجَةً وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً } . فَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحْبُوبَاتِ وَاجْتِنَابُ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَنْهِيَّاتِ . فَالْعِبَادَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ : مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَالْجُمُعَاتِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَدُعَائِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِ الْأَبْدَانِ . وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الزَّكَوَاتِ : مِنْ الصَّدَقَاتِ وَسَائِرِ الْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ فَإِنَّ كُلَّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ يَزُورُ الْقُبُورَ وَيَسْتَنْجِدُ بِالْمَقْبُورِ فِي مَرَضٍ بِهِ أَوْ
بِفَرَسِهِ أَوْ بِعِيرِهِ : يَطْلُبُ إزَالَةَ الْمَرَضِ الَّذِي بِهِمْ
وَيَقُولُ : يَا سَيِّدِي أَنَا فِي جِيرَتِك أَنَا فِي حَسْبِك فُلَانٌ ظَلَمَنِي
فُلَانٌ قَصَدَ أَذِيَّتِي وَيَقُولُ : إنَّ الْمَقْبُورَ يَكُونُ وَاسِطَةً
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيمَنْ يَنْذِرُ لِلْمَسَاجِدِ
وَالزَّوَايَا وَالْمَشَايِخِ - حَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ - الدَّرَاهِمَ
وَالْإِبِلَ وَالْغَنَمَ وَالشَّمْعَ وَالزَّيْتَ وَغَيْرَ ذَلِكَ يَقُولُ : إنْ
سَلِمَ وَلَدِي فَلِلشَّيْخِ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .
وَفِيمَنْ يَسْتَغِيثُ بِشَيْخِهِ يَطْلُبُ تَثْبِيتَ قَلْبِهِ مِنْ ذَاكَ
الْوَاقِعِ ؟ وَفِيمَنْ يَجِيءُ إلَى شَيْخِهِ وَيَسْتَلِمُ الْقَبْرَ وَيُمَرِّغُ
وَجْهَهُ عَلَيْهِ وَيَمْسَحُ الْقَبْرَ بِيَدَيْهِ وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ؟ وَفِيمَنْ يَقْصِدُهُ بِحَاجَتِهِ وَيَقُولُ : يَا فُلَانٌ
بِبَرَكَتِك أَوْ يَقُولُ : قُضِيَتْ حَاجَتِي بِبَرَكَةِ اللَّهِ وَبَرَكَةِ
الشَّيْخِ ؟ وَفِيمَنْ يُعْمِلُ السَّمَاعَ وَيَجِيءُ إلَى الْقَبْرِ فَيَكْشِفُ
وَيَحُطُّ وَجْهَهُ بَيْنَ يَدَيْ شَيْخِهِ عَلَى الْأَرْضِ سَاجِدًا . وَفِيمَنْ
قَالَ : إنَّ ثَمَّ قُطْبًا غَوْثًا جَامِعًا فِي الْوُجُودِ ؟ أَفْتُونَا
مَأْجُورِينَ وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الدِّينُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ
رُسُلَهُ
وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَاسْتِعَانَتُهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَدُعَاؤُهُ لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ عِبَادِي كَمَا أَنْتُمْ عِبَادِي وَيَرْجُونَ رَحْمَتِي كَمَا تَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي كَمَا تَخَافُونَ عَذَابِي وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ كَمَا تَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ . فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ مَنْ يَدْعُو الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ ؟ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ دُعِيَ مَنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي مُلْكِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَوْنٌ يُعَاوِنُهُ كَمَا يَكُونُ لِلْمَلِكِ أَعْوَانٌ وظهراء وَأَنَّ الشُّفَعَاءَ عِنْدَهُ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى فَنَفَى بِذَلِكَ وُجُوهَ الشِّرْكِ . وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونُ مَالِكًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ شَرِيكًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَاوِنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلًا طَالِبًا فَالْأَقْسَامُ الْأُوَلُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ : الْمِلْكُ وَالشَّرِكَةُ وَالْمُعَاوَنَةُ مُنْتَفِيَةٌ وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَإِذَا جُعِلَ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كَافِرًا فَكَيْفَ مَنْ اتَّخَذَ مَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ أَرْبَابًا وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ : أَنَّ مَطْلُوبَ الْعَبْدِ إنْ كَانَ مِنْ الْأُمُورُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى : مِثْلُ أَنْ يَطْلُبَ شِفَاءَ مَرِيضِهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ أَوْ وَفَاءَ دَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ عَافِيَةَ أَهْلِهِ وَمَا بِهِ مِنْ بَلَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَانْتِصَارَهُ عَلَى عَدُوِّهِ وَهِدَايَةَ قَلْبِهِ وَغُفْرَانَ ذَنْبِهِ أَوْ دُخُولَهُ الْجَنَّةَ أَوْ نَجَاتَهُ مِنْ النَّارِ أَوْ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَالْقُرْآنَ أَوْ أَنْ يُصْلِحَ قَلْبَهُ وَيُحَسِّنَ خُلُقَهُ وَيُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ : فَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُطْلَبَ إلَّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِمَلِكِ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا شَيْخٍ - سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا - اغْفِرْ ذَنْبِي وَلَا اُنْصُرْنِي عَلَى عَدُوِّي وَلَا اشْفِ مَرِيضِي وَلَا عَافِنِي أَوْ عَافِ أَهْلِي أَوْ دَابَّتِي
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . وَمَنْ سَأَلَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا كَائِنًا مَنْ كَانَ فَهُوَ مُشْرِكٌ بِرَبِّهِ مَنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالتَّمَاثِيلَ الَّتِي يُصَوِّرُونَهَا عَلَى صُوَرِهِمْ وَمِنْ جِنْسِ دُعَاءِ النَّصَارَى لِلْمَسِيحِ وَأُمِّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وَأَمَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ فَيَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ ؛ فَإِنَّ " مَسْأَلَةَ الْمَخْلُوقِ " قَدْ تَكُونُ جَائِزَةً وَقَدْ تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وَأَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عَبَّاسٍ : " { إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ } " وَأَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ : أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا فَكَانَ سَوْطُ أَحَدِهِمْ يَسْقُطُ مِنْ كَفِّهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهُمْ الَّذِينَ لَا يسترقون وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } " وَالِاسْتِرْقَاءُ طَلَبُ الرُّقْيَةِ وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الدُّعَاءِ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَا مِنْ
رَجُلٍ
يَدْعُو لَهُ أَخُوهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ دَعْوَةً إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهَا
مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ دَعْوَةً قَالَ الْمَلَكُ : وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ
} .
وَمِنْ الْمَشْرُوعِ فِي الدُّعَاءِ دُعَاءُ غَائِبٍ لِغَائِبِ وَلِهَذَا أَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ
وَطَلَبِنَا الْوَسِيلَةَ لَهُ وَأَخْبَرَ بِمَا لَنَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ
إذَا دَعَوْنَا بِذَلِكَ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : " { إذَا سَمِعْتُمْ
الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ مَنْ
صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي
الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ
إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ
الْعَبْدَ . فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَيُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ مِمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ
وَمِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فَقَدْ رُوِيَ طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ الْأَعْلَى
وَالْأَدْنَى ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
وَدَّعَ عُمَرَ إلَى الْعُمْرَةِ وَقَالَ : " { لَا تَنْسَنَا مِنْ دُعَائِك
يَا أَخِي } لَكِنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَنَا
بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَطَلَبِ الْوَسِيلَةِ لَهُ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ صَلَّى
عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ عَشْرًا وَأَنَّ مَنْ سَأَلَ لَهُ
الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَانَ طَلَبُهُ
مِنَّا لِمَنْفَعَتِنَا فِي ذَلِكَ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ طَلَبَ مَنْ غَيْرِهِ
شَيْئًا لِمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَمَنْ يَسْأَلُ غَيْرَهُ لِحَاجَتِهِ
إلَيْهِ فَقَطْ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ ذَكَرَ أُوَيْسًا القرني وَقَالَ لِعُمَرِ : " { إنْ اسْتَطَعْت
أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَك فَافْعَلْ }
وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا شَيْءٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرِ اسْتَغْفِرْ لِي لَكِنْ فِي
الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ذَكَرَ أَنَّهُ حَنِقَ عَلَى عُمَرَ وَثَبَتَ أَنَّ
أَقْوَامًا كَانُوا يسترقون وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ يَرْقِيهِمْ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّاسَ لَمَّا
أَجْدَبُوا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ فَدَعَا اللَّهَ لَهُمْ فَسُقُوا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
أَيْضًا : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَسْقَى
بِالْعَبَّاسِ فَدَعَا فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا
نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك
بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . وَفِي السُّنَنِ { أَنَّ أَعْرَابِيًّا
قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَهَدَتْ
الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا
نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَبِك عَلَى اللَّهِ . فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ
أَصْحَابِهِ وَقَالَ : وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ
مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ } . فَأَقَرَّهُ عَلَى
قَوْلِهِ إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ نَسْتَشْفِعُ
بِاَللَّهِ عَلَيْك ؛ لِأَنَّ الشَّافِعَ يَسْأَلُ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ
وَالْعَبْدَ يَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَسْتَشْفِعُ إلَيْهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا
يَسْأَلُ الْعَبْدَ وَلَا يَسْتَشْفِعُ بِهِ .
وَأَمَّا " زِيَارَةُ الْقُبُورِ الْمَشْرُوعَةُ " فَهُوَ أَنْ
يُسَلِّمَ عَلَى الْمَيِّتِ وَيَدْعُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى
جِنَازَتِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُو الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا : " { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَهْلَ دَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ رَجُلٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُ الْحَيَّ إذَا دَعَا لِلْمَيِّتِ الْمُؤْمِنِ كَمَا يُثِيبُهُ إذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ : وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ بِالْمُنَافِقِينَ . فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } فَلَيْسَ فِي الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ حَاجَةُ الْحَيِّ إلَى الْمَيِّتِ وَلَا مَسْأَلَتُهُ وَلَا تَوَسُّلُهُ بِهِ ؛ بَلْ فِيهَا مَنْفَعَةُ الْحَيِّ لِلْمَيِّتِ كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ هَذَا بِدُعَاءِ هَذَا وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ وَيُثِيبُ هَذَا عَلَى عَمَلِهِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا مَنْ يَأْتِي إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ صَالِحٍ أَوْ مَنْ يَعْتَقِدُ
فِيهِ أَنَّهُ قَبْرُ نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَيَسْأَلُهُ
وَيَسْتَنْجِدُهُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ :
إحْدَاهَا : أَنْ يَسْأَلَهُ حَاجَتَهُ مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يُزِيلَ
مَرَضَهُ أَوْ مَرَضَ دَوَابِّهِ أَوْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ أَوْ يَنْتَقِمَ لَهُ مِنْ
عَدُوِّهِ أَوْ يُعَافِيَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَدَوَابَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ
مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : فَهَذَا شِرْكٌ
صَرِيحٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ صَاحِبُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَإِنْ
قَالَ أَنَا أَسْأَلُهُ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى اللَّهِ مِنِّي لِيَشْفَعَ لِي
فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ؛ لِأَنِّي أَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ بِهِ كَمَا
يُتَوَسَّلُ إلَى السُّلْطَانِ بِخَوَاصِّهِ وَأَعْوَانِهِ فَهَذَا مِنْ أَفْعَالِ
الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ شُفَعَاءَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِمْ فِي
مَطَالِبِهِمْ وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا
: { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } وَقَالَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ
أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } { قُلْ لِلَّهِ
الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ . فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنْ يَسْتَشْفِعُوا إلَى الْكَبِيرِ مِنْ كُبَرَائِهِمْ بِمَنْ يُكَرَّمُ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُهُ ذَلِكَ الشَّفِيعُ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ : إمَّا رَغْبَةً وَإِمَّا رَهْبَةً وَإِمَّا حَيَاءً وَإِمَّا مَوَدَّةً وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ حَتَّى يَأْذَنَ هُوَ لِلشَّافِعِ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا شَاءَ وَشَفَاعَةُ الشَّافِعِ مِنْ إذْنِهِ فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ } . فَبَيَّنَ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يُكْرِهُهُ أَحَدٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ كَمَا قَدْ يُكْرِهُ الشَّافِعُ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ وَكَمَا يُكْرِهُ السَّائِلُ الْمَسْئُولَ إذَا أَلَحَّ عَلَيْهِ وَآذَاهُ بِالْمَسْأَلَةِ . فَالرَّغْبَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وَالرَّهْبَةُ تَكُونُ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ إجَابَةِ دُعَائِنَا .
وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الضُّلَّالِ : هَذَا أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنِّي وَأَنَا بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَدْعُوَهُ إلَّا بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : رَبُّنَا قَرِيبٌ فَنُنَاجِيه أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيه ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَفَرٍ وَكَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا بَلْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ } وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَادَ كُلَّهُمْ بِالصَّلَاةِ لَهُ وَمُنَاجَاتِهِ وَأَمَرَ كُلًّا مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } . ثُمَّ يُقَالُ لِهَذَا الْمُشْرِكِ أَنْتَ إذَا دَعَوْت هَذَا فَإِنْ كُنْت تَظُنُّ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِك وَأَقْدَرُ عَلَى عَطَاءِ سُؤَالِك أَوْ أَرْحَمُ بِك فَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ وَكُفْرٌ وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ وَأَقْدَرُ وَأَرْحَمُ فَلِمَ عَدَلْت عَنْ سُؤَالِهِ إلَى سُؤَالِ غَيْرِهِ ؟ أَلَا تَسْمَعُ إلَى مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ : إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِأَمْرِ
فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ : اللَّهُمَّ : إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ : إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ - قَالَ - وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ } أَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يَقُولَ : أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ . وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْك وَأَعْلَى دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْك فَهَذَا حَقٌّ ؛ لَكِنْ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ أَقْرَبَ مِنْك وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنْك فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يُثِيبَهُ وَيُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِيك لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّك إذَا دَعَوْته كَانَ اللَّهُ يَقْضِي حَاجَتَك أَعْظَمَ مِمَّا يَقْضِيهَا إذَا دَعَوْت أَنْتَ اللَّهَ تَعَالَى : فَإِنَّك إنْ كُنْت مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ وَرَدِّ الدُّعَاءِ - مَثَلًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُدْوَانِ - فَالنَّبِيُّ وَالصَّالِحُ لَا يُعِينُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَلَا يَسْعَى فِيمَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَاَللَّهُ أَوْلَى بِالرَّحْمَةِ وَالْقَبُولِ . وَإِنْ قُلْت : هَذَا إذَا دَعَا اللَّهَ أَجَابَ دُعَاءَهُ أَعْظَمَ مِمَّا يُجِيبُهُ إذَا دَعَوْته . فَهَذَا هُوَ " الْقِسْمُ الثَّانِي " وَهُوَ أَلَّا تَطْلُبَ مِنْهُ الْفِعْلَ وَلَا
تَدْعُوَهُ وَلَكِنْ تَطْلُبُ أَنْ يَدْعُوَ لَك . كَمَا تَقُولُ لِلْحَيِّ : اُدْعُ لِي وَكَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَطْلُبُونَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ فَهَذَا مَشْرُوعٌ فِي الْحَيِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا الْمَيِّتُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَمْ يُشْرَعْ لَنَا أَنْ نَقُولَ : اُدْعُ لَنَا وَلَا اسْأَلْ لَنَا رَبَّك وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا أَمَرَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَا وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ بَلْ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَنَّهُمْ لَمَّا أَجْدَبُوا زَمَنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . وَلَمْ يَجِيئُوا إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَائِلِينَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ لَنَا وَاسْتَسْقِ لَنَا وَنَحْنُ نَشْكُو إلَيْك مِمَّا أَصَابَنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَطُّ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كَانُوا إذَا جَاءُوا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فَإِذَا أَرَادُوا الدُّعَاءَ لَمْ يَدْعُوَا اللَّهَ مُسْتَقْبِلِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ بَلْ يَنْحَرِفُونَ وَيَسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا يَدْعُونَهُ فِي سَائِرِ الْبِقَاعِ . وَذَلِكَ أَنَّ فِي " الْمُوَطَّأِ " وَغَيْرِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا
قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبَوَيْهَا : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : " { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورَ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } . وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَقَالُوا : إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْذَرَ لِقَبْرِ وَلَا لِلْمُجَاوِرِينَ عِنْدَ الْقَبْرِ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ لَا مِنْ دِرْهَمٍ وَلَا مَنْ زَيْتٍ وَلَا مَنْ شَمْعٍ وَلَا مِنْ حَيَوَانٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ نَذْرَ مَعْصِيَةٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ عَلَى النَّاذِرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ : إنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْقُبُورِ وَفِي مَشَاهِدِ الْقُبُورِ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ فِيهَا فَضِيلَةٌ وَلَا إنَّ
الصَّلَاةَ هُنَاكَ وَالدُّعَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَالدُّعَاءِ ؛ بَلْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقُبُورِ - قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ - سَوَاءٌ سُمِّيَتْ " مَشَاهِدَ " أَوْ لَمْ تُسَمَّ وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الْمَسَاجِدِ دُونَ الْمَشَاهِدِ أَشْيَاءَ . فَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } وَلَمْ يَقُلْ : الْمَشَاهِدَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَلَمْ يَقُلْ فِي الْمَشَاهِدِ وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } . وَأَمَّا الْقُبُورُ فَقَدْ وَرَدَ نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ وَلَعَنَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ والطَّبَرِي وَغَيْرُهُ فِي تَفَاسِيرِهِمْ وَذَكَرَهُ وَثِيمَةُ وَغَيْرُهُ فِي " قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ " فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا
لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالُوا : هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَاِتَّخَذُوا تَمَاثِيلَهُمْ أَصْنَامًا ؟ وَكَانَ الْعُكُوفُ عَلَى الْقُبُورِ وَالتَّمَسُّحُ بِهَا وَتَقْبِيلُهَا وَالدُّعَاءُ عِنْدَهَا وَفِيهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ هُوَ أَصْلَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ زَارَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَبْرَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ - الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ الْبَيْتِ وَغَيْرُهُمْ - أَنَّهُ لَا يَتَمَسَّحُ بِهِ وَلَا يُقَبِّلُهُ ؛ بَلْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْجَمَادَاتِ مَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُهَا إلَّا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك . وَلِهَذَا لَا يُسَنُّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ أَوْ يَسْتَلِمَ رُكْنَيْ الْبَيْتِ - اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ - وَلَا جُدْرَانَ الْبَيْتِ وَلَا مَقَامَ إبْرَاهِيمَ وَلَا صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَا قَبْرَ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . حَتَّى تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى مِنْبَرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ مَوْجُودًا فَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَذُكِرَ أَنَّ مَالِكًا لَمَّا رَأَى عَطَاءً فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ الْعِلْمَ وَرَخَّصَ
فِيهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَعَلَهُ . وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَتَقْبِيلُهُ فَكُلُّهُمْ كَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا قَصَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَسْمِ مَادَّةِ الشِّرْكِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَهَذَا مَا يُظْهِرُ الْفَرْقَ بَيْنَ سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَالرَّجُلِ الصَّالِحِ فِي حَيَاتِهِ وَبَيْنَ سُؤَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي مَغِيبِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ لَا يَعْبُدُهُ أَحَدٌ بِحُضُورِهِ فَإِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَالصَّالِحُونَ أَحْيَاءً لَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا يُشْرِكُ بِهِمْ بِحُضُورِهِمْ ؛ بَلْ يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيُعَاقِبُونَهُمْ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } { وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت فَقَالَ : أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ } وَقَالَ : " { لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ } وَلَمَّا قَالَتْ الجويرية : { وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَعْلَمُ مَا فِي غَد . قَالَ : دَعِي هَذَا قُولِي بِاَلَّذِي كُنْت تَقُولِينَ } . وَقَالَ لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ؛ إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ " { وَلَمَّا صُفُّوا خَلْفَهُ قِيَامًا قَالَ : لَا تُعَظِّمُونِي كَمَا تُعَظِّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا } وَقَالَ
أَنَسٌ
لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ ؛ لِمَا
يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ . وَلَمَّا سَجَدَ لَهُ مُعَاذٌ نَهَاهُ
وَقَالَ : " { إنَّهُ لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ وَلَوْ كُنْت
آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ
لِزَوْجِهَا - مَنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا } وَلَمَّا أُتِيَ عَلِيٌّ بِالزَّنَادِقَةِ
الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ وَاعْتَقَدُوا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ أَمَرَ
بِتَحْرِيقِهِمْ بِالنَّارِ . فَهَذَا شَأْنُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ
وَإِنَّمَا يُقِرُّ عَلَى الْغُلُوِّ فِيهِ وَتَعْظِيمِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ مَنْ
يُرِيدُ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَفَسَادًا كَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِ وَمَشَايِخِ
الضَّلَالِ الَّذِينَ غَرَضُهُمْ الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادُ
وَالْفِتْنَةُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَاِتِّخَاذُهُمْ أَرْبَابًا
وَالْإِشْرَاكُ بِهِمْ مِمَّا يَحْصُلُ فِي مَغِيبِهِمْ وَفِي مَمَاتِهِمْ كَمَا
أُشْرِكُ بِالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ . فَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ
سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِ فِي
حَيَاتِهِ وَحُضُورِهِ وَبَيْنَ سُؤَالِهِ فِي مَمَاتِهِ وَمَغِيبِهِ وَلَمْ يَكُنْ
أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا
تَابِعِي التَّابِعِينَ يَتَحَرَّوْنَ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ عِنْدَ قُبُورِ
الْأَنْبِيَاءِ وَيَسْأَلُونَهُمْ وَلَا يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ ؛ لَا فِي
مَغِيبِهِمْ وَلَا عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَكَذَلِكَ الْعُكُوفُ .
وَمِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ أَنْ يَسْتَغِيثَ الرَّجُلُ بِمَيِّتِ أَوْ غَائِبٍ
كَمَا ذَكَرَهُ
السَّائِلُ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ يَقُولُ : يَا سَيِّدِي فُلَانٌ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ إزَالَةَ ضُرِّهِ أَوْ جَلْبَ نَفْعِهِ وَهَذَا حَالُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَيْرَ الْخَلْقِ وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِقَدْرِهِ وَحَقِّهِ أَصْحَابُهُ : وَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ لَا فِي مَغِيبِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ . وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَضُمُّونَ إلَى الشِّرْكِ الْكَذِبَ ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ مَقْرُونٌ بِالشِّرْكِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ { عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ . مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } { فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } . فَمِنْ كَذِبِهِمْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ عَنْ شَيْخِهِ إنَّ الْمُرِيدَ إذَا كَانَ بِالْمَغْرِبِ وَشَيْخُهُ بِالْمَشْرِقِ وَانْكَشَفَ غِطَاؤُهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَإِنَّ الشَّيْخَ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ شَيْخًا . وَقَدْ تُغْوِيهِمْ الشَّيَاطِينُ كَمَا تُغْوِي عُبَّادَ الْأَصْنَامِ كَمَا كَانَ يَجْرِي فِي الْعَرَبِ فِي أَصْنَامِهِمْ وَلِعُبَّادِ الْكَوَاكِبِ وَطَلَاسِمِهَا : مِنْ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ كَمَا يَجْرِي لِلتَّتَارِ وَالْهِنْدِ وَالسُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ : مِنْ إغْوَاءِ الشَّيَاطِينِ وَمُخَاطَبَتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ
فَكَثِيرٌ
مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَجْرِي لَهُ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ سَمَاعِ
الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ
وَقَدْ يُصِيبُ أَحَدَهُمْ كَمَا يُصِيبُ الْمَصْرُوعَ : مِنْ الْإِرْغَاءِ
وَالْإِزْبَادِ وَالصِّيَاحِ الْمُنْكَرِ وَيُكَلِّمُهُ بِمَا لَا يَعْقِلُ هُوَ
وَالْحَاضِرُونَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي هَؤُلَاءِ
الضَّالِّينَ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَقُولُ : اللَّهُمَّ بِجَاهِ فُلَانٍ
عِنْدَك أَوْ بِبَرَكَةِ فُلَانٍ أَوْ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ عِنْدَك : افْعَلْ بِي
كَذَا وَكَذَا . فَهَذَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ؛ لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ
عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُمْ
كَانُوا يَدْعُونَ بِمِثْلِ هَذَا الدُّعَاءِ وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مَا أَحْكِيهِ ؛ إلَّا مَا رَأَيْت فِي فَتَاوَى
الْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ . فَإِنَّهُ أَفْتَى : أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ إلَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَى الِاسْتِفْتَاءِ : قَدْ رَوَى النَّسَائِي
وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ عَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ : " {
اللَّهُمَّ : إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك نَبِيِّ
الرَّحْمَةِ . يَا مُحَمَّدُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَسَّلُ بِك إلَى
رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا لِي . اللَّهُمَّ : فَشَفِّعْهُ فِيَّ }
فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ طَائِفَةٌ عَلَى جَوَازِ
التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي
حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ . قَالُوا : وَلَيْسَ فِي التَّوَسُّلِ دُعَاءُ
الْمَخْلُوقِينَ وَلَا اسْتِغَاثَةٌ بِالْمَخْلُوقِ وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ وَاسْتِغَاثَةٌ بِاَللَّهِ ؛ لَكِنْ فِيهِ سُؤَالٌ بِجَاهِهِ كَمَا فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي دُعَاءِ الْخَارِجِ لِلصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً . خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِك وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِك أَسْأَلُك أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } . قَالُوا فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ سَأَلَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ وَبِحَقِّ مَمْشَاهُ إلَى الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَنَحْوَ قَوْلِهِ : { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : " { يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ؟ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ . حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟ فَإِنَّ حَقَّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ } وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ : " { كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ كَذَا وَكَذَا } كَقَوْلِهِ : " { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ - قِيلَ : وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ :
{ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَيْسَ فِي هَذَا جَوَازُ التَّوَسُّلِ بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَفِي مَغِيبِهِ ؛ بَلْ إنَّمَا فِيهِ التَّوَسُّلُ فِي حَيَاتِهِ بِحُضُورِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . وَقَدْ بَيَّنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ فَيُسْقَوْنَ . وَذَلِكَ التَّوَسُّلُ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهُ لَهُمْ فَيَدْعُو لَهُمْ وَيَدْعُونَ مَعَهُ وَيَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - { أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ بِجِوَارِ دَارِ الْقَضَاءِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ . فَادْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا قَالَ : فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ : حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا . اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ قَالَ : وَأَقْلَعَتْ فَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : اُدْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ : إنِّي
لَأَذْكُرُ
قَوْلَ أَبِي طَالِبٍ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ حَيْثُ يَقُولُ :
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ * * * ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ
لِلْأَرَامِلِ
فَهَذَا كَانَ تَوَسُّلَهُمْ بِهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ . وَلَمَّا
مَاتَ تَوَسَّلُوا بِالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا كَانُوا
يَتَوَسَّلُونَ بِهِ وَيَسْتَسْقُونَ . وَمَا كَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِهِ بَعْدَ
مَوْتِهِ وَلَا فِي مَغِيبِهِ وَلَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ اسْتَسْقَى بيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ
الجرشي وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَشْفِعُ إلَيْك بِخِيَارِنَا يَا يَزِيدُ
ارْفَعْ يَدَيْك إلَى اللَّهِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا وَدَعَوْا فَسُقُوا .
فَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَسْقَى بِأَهْلِ
الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ فَإِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحْسَنَ . وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ
الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّوَسُّلُ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنَّبِيِّ
وَالصَّالِحِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا فِي مَغِيبِهِ وَلَا اسْتَحَبُّوا ذَلِكَ فِي
الِاسْتِسْقَاءِ وَلَا فِي الِاسْتِنْصَارِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْأَدْعِيَةِ . وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ . وَالْعِبَادَةُ مَبْنَاهَا
عَلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ لَا عَلَى الْأَهْوَاءِ وَالِابْتِدَاعِ
وَإِنَّمَا يُعْبَدُ اللَّهُ بِمَا شَرَعَ لَا يُعْبَدُ بِالْأَهْوَاءِ
وَالْبِدَعِ قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَقَالَ
النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ
الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَالطَّهُورِ .
وَأَمَّا الرَّجُلُ إذَا أَصَابَتْهُ نَائِبَةٌ أَوْ خَافَ شَيْئًا فَاسْتَغَاثَ
بِشَيْخِهِ يَطْلُبُ تَثْبِيتَ قَلْبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَاقِعِ فَهَذَا مِنْ
الشِّرْكِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ دِين النَّصَارَى فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي
يُصِيبُ بِالرَّحْمَةِ وَيَكْشِفُ الضُّرَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا
رَادَّ لِفَضْلِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ
رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
} وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ
أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } {
بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ
مَا تُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ
دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } {
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
كَانَ مَحْذُورًا } فَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ يُدْعَى مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ
وَغَيْرِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَلَا تَحْوِيلًا .
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : أَنَا أَدْعُو الشَّيْخَ لِيَكُونَ شَفِيعًا لِي فَهُوَ
مِنْ جِنْسِ دُعَاءِ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ وَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ .
وَالْمُؤْمِنُ يَرْجُو رَبَّهُ وَيَخَافُهُ وَيَدْعُوهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ
وَحَقُّ شَيْخِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ وَيَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ
الْخَلْقِ
قَدْرًا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَمْرِهِ وَقَدْرِهِ وَأَطْوَعُ النَّاسِ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ أَحَدًا مِنْهُمْ عِنْدَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ أَنْ يَقُولَ : يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ ؛ بَلْ كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ قَالَهَا إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي وَأَصْحَابُهُ - حِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَّمَ نَحْوَ هَذَا الدُّعَاءِ بَعْضَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَفِي السُّنَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ : يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ } وَرُوِيَ { أَنَّهُ عَلَّمَ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ أَنْ تَقُولَ : يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ
أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِك } . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ البستي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيَّ حُكْمُك عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك : أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي : إلَّا أَذْهَبُ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا : قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَفَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ ؟ قَالَ : يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ } . وَقَالَ لِأُمَّتِهِ : " { إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ } فَأَمَرَهُمْ عِنْدَ الْكُسُوفِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَدْعُوَا مَخْلُوقًا وَلَا مَلَكًا وَلَا نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُمْ " . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي سُنَّتِهِ : لَمْ يُشْرَعْ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْخَوْفِ إلَّا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ : مِنْ دُعَاءِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَكَيْفَ يَعْدِلُ الْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ عَمَّا شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَى بِدْعَةٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ تُضَاهِي دِينَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى ؟ . فَإِنْ زَعَمَ أَحَدٌ أَنَّ حَاجَتَهُ قُضِيَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ وَأَنَّهُ مُثِّلَ لَهُ شَيْخُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَعُبَّادُ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَنَحْوُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يَجْرِي لَهُمْ مِثْلُ هَذَا كَمَا قَدْ تَوَاتَرَ ذَلِكَ عَمَّنْ مَضَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَعَنْ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ . فَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عُبِدَتْ الْأَصْنَامُ وَنَحْوُهَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } { رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } . وَيُقَالُ : إنَّ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ الشِّرْكُ فِي أَرْضِ مَكَّةَ بَعْدَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مِنْ جِهَةِ " عَمْرِو بْنِ لحي الخزاعي " الَّذِي رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ وَغَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ قَالُوا : إنَّهُ وَرَدَ الشَّامَ فَوَجَدَ فِيهَا أَصْنَامًا بِالْبَلْقَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا فِي جَلْبِ مَنَافِعِهِمْ وَدَفْعِ مَضَارِّهِمْ فَنَقَلَهَا إلَى مَكَّةَ وَسَنَّ لِلْعَرَبِ الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ . وَالْأُمُورُ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ : مِنْ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ : قَدْ يَكُونُ لِلنَّفْسِ فِيهَا حَظٌّ مِمَّا تَعُدُّهُ مَنْفَعَةً أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَقْدَمَتْ النُّفُوسُ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا بِحَالِ وَإِنَّمَا يُوقِعُ النُّفُوسَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الْجَهْلُ
أَوْ
الْحَاجَةُ فَأَمَّا الْعَالِمُ بِقُبْحِ الشَّيْءِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ فَكَيْفَ
يَفْعَلُهُ وَاَلَّذِينَ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ جَمِيعَهَا قَدْ يَكُونُ
عِنْدَهُمْ جَهْلٌ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ وَقَدْ تَكُونُ بِهِمْ حَاجَةٌ
إلَيْهَا : مِثْلُ الشَّهْوَةِ إلَيْهَا وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ
أَعْظَمُ مِمَّا فِيهَا مِنْ اللَّذَّةِ وَلَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ
أَوْ تَغْلِبُهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ حَتَّى يَفْعَلُوهَا وَالْهَوَى غَالِبًا
يَجْعَلُ صَاحِبَهُ كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا فَإِنَّ حُبَّك
لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ . وَلِهَذَا كَانَ الْعَالِمُ يَخْشَى اللَّهَ
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } الْآيَةُ فَقَالُوا : كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ
جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ .
وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْبَسْطِ لِبَيَانِ مَا فِي الْمَنْهِيَّاتِ مِنْ
الْمَفَاسِدِ الْغَالِبَةِ وَمَا فِي الْمَأْمُورَاتِ مِنْ الْمَصَالِحِ
الْغَالِبَةِ بَلْ يَكْفِي الْمُؤْمِنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ فَهُوَ لِمَصْلَحَةِ مَحْضَةٍ أَوْ غَالِبَةٍ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ
فَهُوَ مَفْسَدَةٌ مَحْضَةٌ أَوْ غَالِبَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ الْعِبَادَ
بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ وَلَا نَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ
بِخِلَابَةِ عَلَيْهِمْ بَلْ أَمَرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَنَهَاهُمْ
عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ وَلِهَذَا وَصَفَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
} .
وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِالْقَبْرِ - أَيَّ قَبْرٍ كَانَ - وَتَقْبِيلُهُ
وَتَمْرِيغُ الْخَدِّ عَلَيْهِ
فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } { وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَأَنَّهُمْ عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ مُدَّةً ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ . لَا سِيَّمَا إذَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ دُعَاءُ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَبَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ " الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ " الَّتِي تَشَبَّهَ أَهْلُهَا بِالنَّصَارَى و " الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ " . وَأَمَّا وَضْعُ الرَّأْسِ عِنْدَ الْكُبَرَاءِ مِنْ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ أَوْ تَقْبِيلُ الْأَرْضِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ بَلْ مُجَرَّدُ الِانْحِنَاءِ بِالظَّهْرِ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . فَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ " { أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُعَاذُ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ فَقَالَ : كَذَبُوا يَا مُعَاذُ لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مَنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا يَا مُعَاذُ أَرَأَيْت إنْ مَرَرْت بِقَبْرِي أَكُنْت سَاجِدًا ؟ قَالَ لَا - قَالَ : - لَا تَفْعَلْ هَذَا } أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ قَاعِدًا مِنْ مَرَضٍ كَانَ بِهِ فَصَلَّوْا قِيَامًا فَأَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ وَقَالَ : لَا تُعَظِّمُونِي كَمَا تُعَظِّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضَهَا بَعْضًا } وَقَالَ " { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَاهُمْ مَعَ قُعُودِهِ - وَإِنْ كَانُوا قَامُوا فِي الصَّلَاةِ - حَتَّى لَا يَتَشَبَّهُوا بِمَنْ يَقُومُونَ لِعُظَمَائِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ سَرَّهُ الْقِيَامُ لَهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَكَيْفَ بِمَا فِيهِ مِنْ السُّجُودِ لَهُ وَمِنْ وَضْعِ الرَّأْسِ وَتَقْبِيلِ الْأَيَادِي وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ عَلَى الْأَرْضِ - قَدْ وَكَّلَ أَعْوَانًا يَمْنَعُونَ الدَّاخِلَ مِنْ تَقْبِيلِ الْأَرْضِ وَيُؤَدِّبُهُمْ إذَا قَبَّلَ أَحَدٌ الْأَرْضَ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقِيَامُ وَالْقُعُودُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ حَقٌّ لِلْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ : خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا كَانَ حَقًّا خَالِصًا لِلَّهِ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ : مِثْلُ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : " { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ أَيْضًا : " { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } . فَالْعِبَادَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ
اللَّه يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تناصحوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ هُوَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ . وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشِّرْكِ دِقَّهُ وَجُلَّهُ وَحَقِيرَهُ وَكَبِيرَهُ . حَتَّى إنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا بِأَلْفَاظِ مُتَنَوِّعَةٍ : تَارَةً يَقُولُ : " { لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا } . وَتَارَةً يَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَتَارَةً : يَذْكُرُ أَنَّ الشَّمْسَ إذَا طَلَعَتْ طَلَعَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي كَوْنِهِمْ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يُقَارِنُ الشَّمْسَ حِينَئِذٍ لِيَكُونَ السُّجُودُ لَهُ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَظْهَرُ شِرْكًا وَمُشَابَهَةً لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ هَذَا . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُخَاطِبَ بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ اتِّخَاذِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَنَحْنُ مَنْهِيُّونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا ؛ وَمَنْ
عَدَلَ
عَنْ هَدْيِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيِ
أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسُ هَدْيِ
النَّصَارَى فَقَدْ تَرَكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : انْقَضَتْ حَاجَتِي بِبَرَكَةِ اللَّهِ وَبَرَكَتِك
. فَمُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقْرَنُ بِاَللَّهِ فِي مِثْلِ
هَذَا غَيْرُهُ حَتَّى إنَّ قَائِلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت فَقَالَ : " { أَجَعَلْتَنِي
لِلَّهِ نِدًّا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ } وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : "
{ لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ
اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ } وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ
رَأَى قَائِلًا يَقُولُ : نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ
تُنَدِّدُونَ . أَيْ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ نِدًّا . يَعْنِي تَقُولُونَ : مَا شَاءَ
اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ . فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ :
{ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
صَلَاةَ الْفَجْرِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إثْرِ سَمَاءٍ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ :
أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ قَالَ : قَالَ : أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ
بِي كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا
وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ } . وَالْأَسْبَابِ الَّتِي
جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا لَا تُجْعَلُ مَعَ اللَّهِ شُرَكَاءَ وَأَنْدَادًا
وَأَعْوَانًا.
وَقَوْلُ
الْقَائِلِ : بِبَرَكَةِ الشَّيْخِ قَدْ يَعْنِي بِهَا دُعَاءَهُ . وَأَسْرَعُ
الدُّعَاءِ إجَابَةُ دُعَاءِ غَائِبٍ لِغَائِبِ . وَقَدْ يَعْنِي بِهَا بَرَكَةَ
مَا أَمَرَهُ بِهِ وَعَلَّمَهُ مِنْ الْخَيْرِ . وَقَدْ يَعْنِي بِهَا بَرَكَةَ
مُعَاوَنَتِهِ لَهُ عَلَى الْحَقِّ وَمُوَالَاتِهِ فِي الدِّينِ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَانٍ صَحِيحَةٌ . وَقَدْ يَعْنِي بِهَا دُعَاءَهُ
لِلْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ ؛ إذْ اسْتِقْلَالُ الشَّيْخِ بِذَلِكَ التَّأْثِيرِ
أَوْ فِعْلُهُ لِمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ أَوْ
غَيْرُ قَاصِدٍ لَهُ : مُتَابَعَتُهُ أَوْ مُطَاوَعَتُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ
الْبِدَعِ الْمُنْكَرَاتِ وَنَحْوِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْبَاطِلَةِ . وَاَلَّذِي
لَا رَيْبَ فِيهِ : أَنَّ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُعَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ وَنَحْوَ ذَلِكَ : هُوَ نَافِعٌ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ .
وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ عَنْ " الْقُطْبِ الْغَوْثِ الْفَرْدِ
الْجَامِعِ " . فَهَذَا قَدْ يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ وَيُفَسِّرُونَهُ
بِأُمُورِ بَاطِلَةٍ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ : مِثْلُ تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ :
أَنَّ " الْغَوْثَ " هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَدَدُ الْخَلَائِقِ
بِوَاسِطَتِهِ فِي نَصْرِهِمْ وَرِزْقِهِمْ حَتَّى يَقُولَ : إنَّ مَدَدَ
الْمَلَائِكَةِ وَحِيتَانِ الْبَحْرِ بِوَاسِطَتِهِ . فَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ
النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْغَالِيَةِ فِي عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ يُسْتَتَابُ مِنْهُ صَاحِبُهُ
فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَا مَلَكٌ
وَلَا بَشَرٌ يَكُونُ إمْدَادُ الْخَلَائِقِ بِوَاسِطَتِهِ وَلِهَذَا كَانَ مَا
يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ فِي " الْعُقُولِ الْعَشْرَةِ " الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ وَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ
وَنَحْوَ ذَلِكَ كُفْرٌ صَرِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ عَنَى بِالْغَوْثِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ فِي الْأَرْضِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا يُسَمُّونَهُمْ " النُّجَبَاءَ " فَيُنْتَقَى مِنْهُمْ سَبْعُونَ هُمْ " النُّقَبَاءُ " وَمِنْهُمْ أَرْبَعُونَ هُمْ " الْأَبْدَالُ " وَمِنْهُمْ سَبْعَةٌ هُمْ " الْأَقْطَابُ " وَمِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ هُمْ " الْأَوْتَادُ " وَمِنْهُمْ وَاحِدٌ هُوَ " الْغَوْثُ " وَأَنَّهُ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ وَأَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ إذَا نَابَهُمْ نَائِبَةٌ فِي رِزْقِهِمْ وَنَصْرِهِمْ فَزِعُوا إلَى الثَّلَاثِمِائَةِ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَأُولَئِكَ يَفْزَعُونَ إلَى السَّبْعِينَ وَالسَّبْعُونَ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالْأَرْبَعُونَ إلَى السَّبْعَةِ وَالسَّبْعَةُ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَالْأَرْبَعَةُ إلَى الْوَاحِدِ . وَبَعْضُهُمْ قَدْ يَزِيدُ فِي هَذَا وَيُنْقِصُ فِي الْأَعْدَادِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْمَرَاتِبِ ؛ فَإِنَّ لَهُمْ فِيهَا مَقَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةً حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى الْكَعْبَةِ وَرَقَةٌ خَضْرَاءُ بِاسْمِ غَوْثِ الْوَقْتِ وَاسْمِ خَضِرِهِ - عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ : إنَّ الْخَضِرَ هُوَ مَرْتَبَةٌ وَإِنَّ لِكُلِّ زَمَانٍ خَضِرًا فَإِنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ - وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا وَلَا مِنْ الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا خَيْرَ الْخَلْقِ فِي زَمَنِهِمْ وَكَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُونُوا بِمَكَّةَ . وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ حَدِيثًا فِي " هِلَالٍ " غُلَامِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
وَأَنَّهُ أَحَدُ السَّبْعَةِ . وَالْحَدِيثُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى بَعْضَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " حِلْيَة الْأَوْلِيَاءِ " وَالشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ فَلَا تَغْتَرَّ بِذَلِكَ . فَإِنَّ فِيهِ الصَّحِيحَ وَالْحَسَنَ وَالضَّعِيفَ وَالْمَوْضُوعَ وَالْمَكْذُوبَ الَّذِي لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ . وَتَارَةً يَرْوِيهِ عَلَى عَادَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَرْوُونَ مَا سَمِعُوا وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَبَاطِلِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَرْوُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ } . وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ أَنَّ مَا يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ النَّوَازِلِ فِي الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ : مِثْلُ دُعَائِهِمْ عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ لِنُزُولِ الرِّزْقِ وَدُعَائِهِمْ عِنْدَ الْكُسُوفِ وَالِاعْتِدَادِ لِرَفْعِ الْبَلَاءِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ إنَّمَا يَدْعُونَ فِي ذَلِكَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ قَطُّ أَنْ يَرْجِعُوا بِحَوَائِجِهِمْ إلَى غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ بَلْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَدْعُونَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ فَيُجِيبُهُمْ اللَّهُ أَفَتَرَاهُمْ بَعْدَ التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ لَا يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ إلَّا بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ؟ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى :
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } وَقَالَ { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } { فَلَوْلَا إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى لِأَصْحَابِهِ بِصَلَاةِ وَبِغَيْرِ صَلَاةٍ وَصَلَّى بِهِمْ لِلِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ وَكَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاتِهِ فَيَسْتَنْصِرُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَمَشَايِخُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا زَالُوا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ مَا لَهَا مِنْ أَصْلٍ ( بَابُ الْنُصَيْرِيَّة و ( مُنْتَظَرُ الرَّافِضَةِ و ( غَوْثُ الْجُهَّالِ : فَإِنَّ الْنُصَيْرِيَّة تَدَّعِي فِي الْبَابِ الَّذِي لَهُمْ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَنَّهُ الَّذِي يُقِيمُ الْعَالَمَ فَذَاكَ شَخْصُهُ مَوْجُودٌ ؛ وَلَكِنَّ دَعْوَى الْنُصَيْرِيَّة فِيهِ بَاطِلَةٌ . وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُنْتَظَرُ وَالْغَوْثُ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ وَنَحْوُ هَذَا : فَإِنَّهُ بَاطِلٌ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ . وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْقُطْبَ الْغَوْثَ الْجَامِعَ يَمُدُّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيَعْرِفُهُمْ كُلَّهُمْ وَنَحْوَ هَذَا ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ . فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَكُونَا يَعْرِفَانِ جَمِيعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا يَمُدَّانِهِمْ فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الْمُغْتَرِّينَ الْكَذَّابِينَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ إنَّمَا عَرَفَ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ رَآهُمْ مَنْ أُمَّتِهِ بِسِيمَاءِ الْوُضُوءِ وَهُوَ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَنْ لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . وَأَنْبِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ هُوَ إمَامُهُمْ وَخَطِيبُهُمْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَكْثَرَهُمْ ؛ بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } وَمُوسَى لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الْخَضِرَ وَالْخَضِرُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مُوسَى ؛ بَلْ لَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى قَالَ لَهُ الْخَضِرُ : وَأَنَّى بِأَرْضِك السَّلَامُ ؟ فَقَالَ لَهُ : أَنَا مُوسَى قَالَ : مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَقَدْ كَانَ بَلَغَهُ اسْمُهُ وَخَبَرُهُ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ عَيْنَهُ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ نَقِيبُ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ أَنَّهُ يُعَلِّمُهُمْ كُلَّهُمْ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مَيِّتٌ وَأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ الْإِسْلَامَ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيُجَاهِدَ مَعَهُ كَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَلَكَانَ يَكُونُ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَلَكَانَ يَكُونُ حُضُورُهُ مَعَ الصَّحَابَةِ لِلْجِهَادِ مَعَهُمْ وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى الدِّينِ أَوْلَى بِهِ مِنْ حُضُورِهِ عِنْدَ قَوْمٍ كُفَّارٍ لِيُرَقِّعَ لَهُمْ سَفِينَتَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مُخْتَفِيًا عَنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَهُوَ
قَدْ كَانَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَحْتَجِبْ عَنْهُمْ . ثُمَّ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ وَأَمْثَالِهِ حَاجَةٌ لَا فِي دِينِهِمْ وَلَا فِي دُنْيَاهُمْ ؛ فَإِنَّ دِينَهُمْ أَخَذُوهُ عَنْ الرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي عَلَّمَهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ : " { لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ } وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ إنَّمَا يَحْكُمُ فِيهِمْ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيَّهُمْ . فَأَيُّ حَاجَةٍ لَهُمْ مَعَ هَذَا إلَى الْخَضِرِ وَغَيْرِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِنُزُولِ عِيسَى مِنْ السَّمَاءِ وَحُضُورِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ : " { كَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أَنَا فِي أَوَّلِهَا وَعِيسَى فِي آخِرِهَا } . فَإِذَا كَانَ النَّبِيَّانِ الْكَرِيمَانِ اللَّذَانِ هُمَا مَعَ إبْرَاهِيمَ مُوسَى وَنُوحٌ أَفْضَلَ الرُّسُلِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَمْ يَحْتَجِبُوا عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا عَوَامُّهُمْ وَلَا خَوَاصُّهُمْ فَكَيْفَ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُمْ . وَإِذَا كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا دَائِمًا فَكَيْفَ لَمْ يَذْكُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ قَطُّ وَلَا أَخْبَرَ بِهِ أُمَّتَهُ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ نَقِيبُ الْأَوْلِيَاءِ . فَيُقَالُ لَهُ مَنْ وَلَّاهُ النِّقَابَةَ وَأَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ؟ وَلَيْسَ فِيهِمْ الْخَضِرُ . وَعَامَّةُ مَا يُحْكَى فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحِكَايَاتِ بَعْضُهَا كَذِبٌ وَبَعْضُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنِّ رَجُلٍ : مِثْلُ شَخْصٍ رَأَى رَجُلًا ظَنَّ أَنَّهُ الْخَضِرُ
وَقَالَ : إنَّهُ الْخَضِرُ كَمَا أَنَّ الرَّافِضَةَ تَرَى شَخْصًا تَظُنُّ أَنَّهُ الْإِمَامُ الْمُنْتَظَرُ الْمَعْصُومُ أَوْ تَدَّعِي ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ - وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ الْخَضِرُ - مَنْ أَحَالَك عَلَى غَائِبٍ فَمَا أَنْصَفَك . وَمَا أَلْقَى هَذَا عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ إلَّا الشَّيْطَانُ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا إنْ قَصَدَ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ " الْقُطْبُ الْغَوْثُ الْفَرْدُ الْجَامِعُ " أَنَّهُ رَجُلٌ يَكُونُ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ فَهَذَا مُمْكِنٌ لَكِنْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي الزَّمَانِ اثْنَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْفَضْلِ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَلَا يُجْزَمُ بِأَلَا يَكُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَفْضَلُ النَّاسِ إلَّا وَاحِدًا وَقَدْ تَكُونُ جَمَاعَةٌ بَعْضُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَتِلْكَ الْوُجُوهُ إمَّا مُتَقَارِبَةٌ وَإِمَّا مُتَسَاوِيَةٌ . ثُمَّ إذَا كَانَ فِي الزَّمَانِ رَجُلٌ هُوَ أَفْضَلُ أَهْلِ الزَّمَانِ فَتَسْمِيَتُهُ " بِالْقُطْبِ الْغَوْثِ الْجَامِعِ " بِدْعَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَلَا تَكَلَّمَ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَظُنُّونَ فِي بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ أَفْضَلُ أَوْ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَلَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ؛ لَا سِيَّمَا أَنَّ مِنْ الْمُنْتَحِلِينَ لِهَذَا الِاسْمِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ أَوَّلَ الْأَقْطَابِ هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثُمَّ يَتَسَلَّلُ الْأَمْرُ إلَى مَا دُونَهُ إلَى بَعْضِ مَشَايِخِ
الْمُتَأَخِّرِينَ وَهَذَا لَا يَصِحُّ لَا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا عَلَى مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ . فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؟ وَالْحَسَنُ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ قَارَبَ سِنَّ التَّمْيِيزِ وَالِاحْتِلَامِ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الشُّيُوخِ الْمُنْتَحِلِينَ لِهَذَا : أَنَّ " الْقُطْبَ الْفَرْدَ الْغَوْثَ الْجَامِعَ " يَنْطَبِقُ عِلْمُهُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتُهُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَعْلَمُ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَيَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ اللَّهُ . وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَذَلِكَ وَأَنَّ هَذَا انْتَقَلَ عَنْهُ إلَى الْحَسَنِ وَتَسَلْسَلَ إلَى شَيْخِهِ . فَبَيَّنْت أَنَّ هَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ وَجَهْلٌ قَبِيحٌ وَأَنَّ دَعْوَى هَذَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ؛ كُفْرٌ دَعْ مَا سِوَاهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى : { يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ } { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } وَقَالَ
تَعَالَى : { إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نُطِيعَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَهُ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وَأَمَرَنَا أَنْ نُعَزِّرَهُ وَنُوَقِّرَهُ وَنَنْصُرَهُ وَجَعَلَ لَهُ مِنْ الْحُقُوقِ مَا بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولُهُ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا وَأَهْلِينَا فَقَالَ تَعَالَى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ : لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك - قَالَ : فَلَأَنْتَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ : الْآنَ يَا عُمَرُ } وَقَالَ : " { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُجِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ
يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } . وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ حُقُوقَهُ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لَهُ وَحُقُوقَ رُسُلِهِ وَحُقُوقَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَالرَّغْبَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } لِأَنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا الحسب فَهُوَ لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وَلَمْ يَقُلْ : حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ يَكْفِيك اللَّهُ وَيَكْفِي مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ هَؤُلَاءِ " الزَّائِرِينَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ
" كَقَبْرِ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ فَيَأْتُونَ إلَى الضَّرِيحِ
وَيُقَبِّلُونَهُ وَالْقُوَّامُ بِذَلِكَ الْمَكَانِ أَيْ مَنْ جَاءَ يَأْتُونَهُ
وَيَجِيئُونَ بِهِ إلَى الضَّرِيحِ فَيُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ وَيُقِرُّونَهُمْ
عَلَيْهِ . فَهَلْ هَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْ
لَا ؟ وَهَلْ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ وَأَجْرٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ مِنْ الدِّينِ
الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَكَانَ أُنَاسٌ يَعْتَقِدُونَ
أَنَّ هَذَا مِنْ الدِّينِ وَيَفْعَلُونَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهَلْ يَجِبُ
أَنْ يُنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ اسْتَحَبَّ هَذَا أَحَدٌ مِنْ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ
وَالتَّابِعُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ فِي الْقُوَّامِ
أَوْ غَيْرِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوْ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ يُقِرُّ عَلَيْهِ
لِأَجْلِ جُعْلٍ يَأْخُذُهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهَلْ يُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ
عَلَى مَنْعِ هَؤُلَاءِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ
فَهَلْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْ الْوِلَايَةِ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ
مِنْهُمْ أَمْ لَا ؟ وَالْكَسْبُ الَّذِي يَكْسِبُهُ النَّاسُ مِنْ مِثْلِ هَذَا
الْأَمْرِ هَلْ هُوَ كَسْبٌ طَيِّبٌ أَوْ خَبِيثٌ ؟ وَهَلْ يَسْتَحِقُّونَ مِثْلَ
هَذَا الْكَسْبِ . أَمْ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَيُصْرَفُ فِي
مَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَامَ إلَى جَانِبِ " مَسْجِدِ
الْخَلِيلِ " السَّمَاعُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ " النَّوْبَةُ
الْخَلِيلِيَّةُ " وَيُقَامُ عِنْدَ ذَلِكَ سَمَاعٌ يَجْتَمِعُونَ لَهُ -
الْفُقَرَاءُ وَغَيْرُهُمْ وَفِيهِ الشَّبَّابَةُ أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِي يُصَفِّرُ
بِالشَّبَّابَةِ مُؤْذِنًا بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ هَلْ يَفْسُقُ أَمْ لَا ؟
وَهَلْ إذَا لَمْ يَنْتَهِ يَصْرِفُهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَمْ
يَسْتَطِعْ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَنْقُلَ
هَذِهِ النَّوْبَةَ الْمَذْكُورَةَ إلَى مَكَانٍ لَا يُمْكِنُ الرَّقْصُ فِيهِ
لِضِيقِ الْمَكَانِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ وَلَا رَسُولَهُ
وَلَا أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِتَقْبِيلِ شَيْءٍ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَلَا التَّمَسُّحِ بِهِ لَا قَبْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَبْرِ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِمَا ؛ بَلْ وَلَا بِالتَّقْبِيلِ وَالِاسْتِلَامِ لِصَخْرَةِ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَا الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ مِنْ الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ بَلْ إنَّمَا يُسْتَلَمُ الرُّكْنَانِ الْيَمَانِيَّانِ فَقَطْ ؛
اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ
لَمْ يَسْتَلِمْ إلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ " وَلَمْ يُقَبِّلْ إلَّا الْحَجَرَ
الْأَسْوَدَ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشَّامِيَّيْنِ لَا يُسْتَلَمَانِ وَلَا
يُقَبَّلَانِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْيَمَانِيَّيْنِ يُسْتَلَمَانِ .
وَاتَّفَقُوا عَلَى تَقْبِيلِ الْأَسْوَدِ . وَتَنَازَعُوا فِي تَقْبِيلِ
الْيَمَانِيِّ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ . قِيلَ :
يُقَبَّلُ . وَقِيلَ : يُسْتَلَمُ وَتُقَبَّلُ الْيَدُ . وَقِيلَ يُسْتَلَمُ وَلَا تُقَبَّلُ الْيَدُ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الثَّابِتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَلَمَهُ وَلَمْ يُقَبِّلْهُ وَلَمْ يُقَبِّلْ يَدَهُ لَمَّا اسْتَلَمَهُ وَلَا أَجْرَ وَلَا ثَوَابَ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ ؛ فَإِنَّ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ إمَّا وَاجِبَةٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبَّةٌ . فَإِذَا كَانَ الِاسْتِلَامُ وَالتَّقْبِيلُ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ أَجْرٌ وَلَا ثَوَابٌ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ وَيُثَابُ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ مُخْطِئٌ كَاَلَّذِي يَعْتَقِدُ : أَنَّهُ يُؤْجَرُ وَيُثَابُ إذَا سَجَدَ لِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ : وَاَلَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُؤْجَرُ وَيُثَابُ إذَا دَعَاهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَاَلَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُؤْجَرُ وَيُثَابُ إذَا صَوَّرَ صُوَرَهُمْ - كَمَا يَفْعَلُ النَّصَارَى - وَدَعَا تِلْكَ الصُّوَرَ وَسَجَدَ لَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً بَلْ هِيَ إمَّا كُفْرٌ وَإِمَّا جَهْلٌ وَضَلَالٌ . وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مِنْ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا مِنْ الدِّينِ وَفَعَلَهُ وَجَبَ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَمَنْ أَمَرَ النَّاسَ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ رَغَّبَهُمْ فِيهِ أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَيْهِ
مِنْ
الْقُوَّامِ أَوْ غَيْرِ الْقُوَّامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ
وَمَنْعُهُ مِنْهُ . وَيُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى مَنْعِ هَؤُلَاءِ وَمَنْ
لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا يَرْدَعُهُ . وَأَقَلُّ
ذَلِكَ أَنْ يُعْزَلَ عَنْ الْقِيَامَةِ وَلَا يُتْرَكُ مَنْ يَأْمُرُ النَّاسَ
بِمَا لَيْسَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ .
وَالْكَسْبُ الَّذِي يَكْسِبُ بِمِثْلِ ذَلِكَ خَبِيثٌ مِنْ جِنْسِ كَسْبِ
الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَأْخُذُونَ عَلَى ذَلِكَ
جُعْلًا وَمِنْ جِنْسِ كَسْبِ سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالشِّرْكِ وَيَأْخُذُونَ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ
جُمْلَةِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَدَوَاعِيهِ وَأَجْزَائِهِ
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ
قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا
عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ
اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ }
يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ
قَبْرُهُ ؛ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ : قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : " { إنَّ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا
الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي الْمُسْنَدِ
وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: " { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ
تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يُسَافِرُونَ إلَى " قَبْرِ الْخَلِيلِ " وَلَا غَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَلَا سَافَرُوا إلَى زِيَارَةِ " جَبَلِ طُورِ سَيْنَاءَ وَهُوَ الْبُقْعَةُ الْمُبَارَكَةُ وَالْوَادِي الْمُقَدَّسُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَكَلَّمَ عَلَيْهِ كَلِيمَهُ مُوسَى بَلْ وَلَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ يَزُورُونَ " جَبَلَ حِرَاءَ " الَّذِي نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا يَزُورُونَ بِمَكَّةَ غَيْرَ الْمَشَاعِرِ - كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمِنًى وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ - فِي الْحَجِّ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ لَا قَبْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَبْرِ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرِهِمَا . وَلِهَذَا ذَكَرَ الْأَئِمَّةُ كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ " بَلْ كَانُوا إذَا أَتَوْا إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا أَتَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : كَانَ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ - ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَمَنْ اكْتَسَبَ مَالًا خَبِيثًا : مِثْلُ هَذَا الَّذِي يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبِدَعِ
وَيَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّ وُلَاةَ الْأُمُورِ يَأْخُذُونَهُ مِنْ هَذَا الَّذِي أَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَصَدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ؛ وَيَصْرِفُونَهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيُؤْخَذُ الْمَالُ الَّذِي أُنْفِقَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فَيُنْفَقُ فِي طَاعَةِ الرَّحْمَنِ . " وَأَمَّا السَّمَاعُ " الَّذِي يُسَمُّونَهُ : نَوْبَةَ الْخَلِيلِ فَبِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا وَلَمْ يَكُنْ الْخَلِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَلَا الصَّحَابَةُ لَمَّا فَتَحُوا الْبِلَادَ فَعَلُوا عِنْدَ الْخَلِيلِ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَلَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ بَلْ هَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ إحْدَاثِ النَّصَارَى ؛ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ نَقَبُوا حُجْرَةَ الْخَلِيلِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْدُودَةً لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ إلَيْهَا . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ إحْدَاثِ بَعْضِ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَامَ هُنَاكَ رَقْصٌ وَلَا شَبَّابَةٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى حُضُورِ ذَلِكَ مِنْ مُؤَذِّنٍ وَغَيْرِهِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ حُكْمِ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ : إنَّ الدُّعَاءَ
مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ أَرْبَعَةٍ - مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ " قَبْرُ الفندلاوي " مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ و "
قَبْرُ الْبُرْهَانِ البلخي " مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ و "
قَبْرُ الشَّيْخِ نَصْرٍ المقدسي " مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . و "
قَبْرُ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ " مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ ؟ وَمَنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَدَعَا
اُسْتُجِيبَ لَهُ ؟ وَقَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ
يُوصِيهِ : إذَا نَزَلَ بِك حَادِثٌ أَوْ أَمْرٌ تَخَافُهُ اسْتَوْحِنِي
يَنْكَشِفُ عَنْك مَا تَجِدُهُ مِنْ الشِّدَّةِ : حَيًّا كُنْت أَوْ مَيِّتًا ؟
وَمَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَاسْتَقْبَلَ جِهَةَ الشَّيْخِ عَبْدِ
الْقَادِرِ الجيلاني وَسَلَّمَ عَلَيْهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَخْطُو مَعَ كُلِّ
تَسْلِيمَةٍ خَطْوَةً إلَى قَبْرِهِ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ أَوْ كَانَ فِي سَمَاعٍ
فَإِنَّهُ يَطِيبُ وَيَكْثُرُ التَّوَاجُدُ وَقَوْلُ الْفُقَرَاءِ : إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَنْظُرُ إلَى الْفُقَرَاءِ بِتَجَلِّيهِ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثَةِ
مَوَاطِنَ : عِنْدَ مَدِّ السِّمَاطِ وَعِنْدَ قِيَامِهِمْ فِي الِاسْتِغْفَارِ
أَوْ الْمُجَارَاةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَعِنْدَ السَّمَاعِ ؟ وَمَا يَفْعَلُهُ
بَعْضُ الْمُتَعَبِّدِينَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ قَبْرِ زَكَرِيَّا وَقَبْرِ
هُودٍ وَالصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا وَالْمَوْقِفِ بَيْنَ شَرْقِيِّ رِوَاقِ
الْجَامِعِ بِبَابِ الطَّهَارَةِ بِدِمَشْقَ
وَالدُّعَاءِ عِنْدَ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ وَمَنْ أَلْصَقَ ظَهْرَهُ الْمَوْجُوعَ بِالْعَمُودِ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِ قَبْرِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَ الشُّهَدَاءِ بِبَابِ الصَّغِيرِ . فَهَلْ لِلدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةُ قَبُولٍ أَوْ سُرْعَةُ إجَابَةٍ بِوَقْتِ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ : عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَغِيثَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ بِنَبِيِّ مُرْسَلٍ أَوْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ أَوْ بِكَلَامِهِ تَعَالَى أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ بِاحْتِيَاطِ قَافٍ أَوْ بِدُعَاءِ أُمِّ دَاوُد أَوْ الْخَضِرِ ؟ ؟ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّؤَالِ بِحَقِّ فُلَانٍ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ بِجَاهِ الْمُقَرَّبِينَ بِأَقْرَبَ الْخَلْقِ أَوْ يُقْسِمَ بِأَفْعَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ مَكَانٍ فِيهِ خَلُوقٌ وَزَعْفَرَانٌ وَسَرْجٌ ؛ لِكَوْنِهِ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ عِنْدَهُ أَوْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ شَجَرَةٍ يُوجَدُ فِيهَا خِرَقٌ مُعَلَّقَةٌ وَيُقَالُ : هَذِهِ مُبَارَكَةٌ يَجْتَمِعُ إلَيْهَا الرِّجَالُ الْأَوْلِيَاءُ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ جَبَلٍ أَوْ زِيَارَتُهُ أَوْ زِيَارَةُ مَا فِيهِ مِنْ الْمَشَاهِدِ وَالْآثَارِ وَالدُّعَاءُ فِيهَا وَالصَّلَاةُ كَمَغَارَةِ الدَّمِ وَكَهْفِ آدَمَ وَالْآثَارِ . وَمَغَارَةِ الْجُوعِ وَقَبْرِ شيث وَهَابِيلَ وَنُوحٍ وَإِلْيَاسَ وحزقيل وشيبال الرَّاعِي وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ بِجِبِلَّةِ وَعُشِّ الْغُرَابِ بِبَعْلَبَكَّ وَمَغَارَةِ الْأَرْبَعِينَ وَحَمَّامِ طبرية وَزِيَارَةُ عَسْقَلَانَ وَمَسْجِدِ صَالِحٍ بعكا - وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالْحُرُمَاتِ وَالتَّعْظِيمِ وَالزِّيَارَاتِ ؟ .
وَهَلْ يَجُوزُ تَحَرِّي الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقُبُورِ وَأَنْ تُقَبَّلَ أَوْ يُوقَدَ عِنْدَهَا الْقَنَادِيلُ وَالسُّرُجُ ؟ وَهَلْ يَحْصُلُ لِلْأَمْوَاتِ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَحْيَاءِ مَنْفَعَةٌ أَوْ مَضَرَّةٌ ؟ وَهَلْ الدُّعَاءُ عِنْدَ " الْقَدَمِ النَّبَوِيِّ " بِدَارِ الْحَدِيثِ الأشرفية بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهِ وَقَدَمِ مُوسَى وَمَهْدِ عِيسَى " وَمَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَرَأْسِ الْحُسَيْنِ وصهيب الرُّومِيِّ وَبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ وَأُوَيْسٍ القرني وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - كُلَّهُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْقُرَى وَالسَّوَاحِلِ وَالْجِبَالِ وَالْمَشَاهِدِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ ؟ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : الدُّعَاءُ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ بُرْجِ " بَابِ كيسان " بَيْنَ بَابَيْ الصَّغِيرِ وَالشَّرْقِيِّ مُسْتَدْبِرًا لَهُ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ وَالدُّعَاءُ عِنْدَ دَاخِلِ بَابِ الْفَرَّادِينَ ؟ فَهَلْ ثَبَتَ شَيْءٌ فِي إجَابَةِ الْأَدْعِيَةِ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَغَاثَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ : يَا جَاهَ مُحَمَّدٍ أَوْ يَا لَسِتِّ نَفِيسَةَ أَوْ يَا سَيِّدِي أَحْمَد أَوْ إذَا عَثَرَ أَحَدٌ وَتَعَسَّرَ أَوْ قَفَزَ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ يَقُولُ : يال عَلِيٍّ أَوْ يال الشَّيْخِ فُلَانٍ : أَمْ لَا ؟ وَهَلْ تَجُوزُ النُّذُورُ لِلْأَنْبِيَاءِ أَوْ لِلْمَشَايِخِ : مِثْلُ الشَّيْخِ جاكير أَوْ أَبِي الْوَفَاءِ أَوْ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ هَلْ تَجُوزُ النُّذُورُ لِقُبُورِ أَحَدٍ مِنْ آلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمُدْرِكِهِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَالْعَجَمِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْهِنْدِ وَالْمَغْرِبِ وَجَمِيعِ الْأَرْضِ وَجَبَلِ قَانٍ وَغَيْرِهَا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ
الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ الْمَشَايِخِ الْأَرْبَعَةِ
الْمَذْكُورِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غَيْرِهِ
: قَبْرُ فُلَانٍ هُوَ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ وَمِنْ جِنْسِ مَا يَقُولُهُ
أَمْثَالُ هَذَا الْقَائِلِ : مِنْ أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرِ
فُلَانٍ وَفُلَانٍ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا
الْقَوْلِ عِنْدَ بَعْضِ الْقُبُورِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْقَبْرُ قَدْ
عُلِمَ أَنَّهُ قَبْرُ رَجُلٍ صَالِحٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ أَهْلِ الْبَيْتِ
أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَقَدْ يَكُونُ نِسْبَةُ ذَلِكَ الْقَبْرِ
إلَى ذَلِكَ كَذِبًا أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ : مِثْلُ أَكْثَرِ مَا يُذْكَرُ مِنْ
قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا وَالرَّجُلِ لَيْسَ بِصَالِحِ
فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ مَوْجُودَةٌ فِيمَنْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ
أَوْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرٍ بِعَيْنِهِ
وَأَنَّهُ اُسْتُجِيبَ لَهُ الدُّعَاءُ عِنْدَهُ وَالْحَالُ أَنَّ ذَاكَ إمَّا
قَبْرُ مَعْرُوفٍ بِالْفِسْقِ وَالِابْتِدَاعِ وَإِمَّا قَبْرُ كَافِرٍ كَمَا
رَأَيْنَا مَنْ دَعَا فَكُشِفَ لَهُ حَالُ الْقُبُورِ فَبُهِتَ لِذَلِكَ
وَرَأَيْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنْوَاعًا . وَأَصْلُ هَذَا : أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ :
إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ
قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا
قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا
أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي
الدِّينِ ؛ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ
وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ
بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَلَا مَشَايِخِهِمْ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ : كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ ؟ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَأَمْثَالِهِمْ . وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَا مُطْلَقًا وَلَا مُعَيَّنًا . وَلَا فِيهِمْ مَنْ قَالَ : إنَّ دُعَاءَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَفْضَلُ مِنْ دُعَائِهِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَلَا إنَّ الصَّلَاةَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهَا . وَلَا فِيهِمْ مَنْ كَانَ يَتَحَرَّى الدُّعَاءَ وَلَا الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْقُبُورِ ؛ بَلْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَسَيِّدُهُمْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَبْرٌ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ قَبْرُ نَبِيٍّ غَيْرَ قَبْرِهِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي قَبْرِ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ - وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ زِيَارَتِهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ . " { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالدَّارَقُطْنِي عَنْهُ : " { مَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْته وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا أُبْلِغْته } وَفِي إسْنَادِهِ لَيِّنٌ . لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ ؛ فَإِنَّ إبْلَاغَ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ مِنْ الْبُعْدِ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ . كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمْعَةِ
فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ . قَالُوا : كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت ؟ أَيْ بَلِيتَ . فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } وَفِي النَّسَائِي وَغَيْرِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ } . وَمَعَ هَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَحَرَّى الدُّعَاءَ مُتَوَجِّهًا إلَى قَبْرِهِ بَلْ نَصُّوا عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْعُو مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ . وَتَنَازَعُوا فِي السَّلَامِ عَلَيْهِ . فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَظُنُّهُ مَنْقُولًا عَنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : بَلْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ؛ بَلْ نَصَّ أَئِمَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوقَفُ عِنْدَهُ لِلدُّعَاءِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ فِي " كِتَابِ الْمَبْسُوطِ " وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ . قَالَ مَالِكٌ : لَا أَرَى أَنْ يَقِفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُوَ ؛ وَلَكِنْ يُسَلِّمُ وَيَمْضِي . وَقَالَ أَيْضًا فِي " الْمَبْسُوطِ " لَا بَأْسَ لِمَنْ قَدِمَ مَنْ سَفَرٍ أَوْ خَرَجَ إلَى سَفَرٍ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَقِيلَ لَهُ : فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَقْدَمُونَ مِنْ سَفَرٍ وَلَا يُرِيدُونَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ وَرُبَّمَا وَقَفُوا فِي الْجُمْعَة أَوْ فِي الْيَوْمِ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ أَوْ =ج41=
ج41. مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
أَكْثَرَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً فَقَالَ : لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلْدَتِنَا وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؛ إلَّا مَنْ جَاءَ مَنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : رَأَيْت أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا خَرَجُوا مِنْهَا أَوْ دَخَلُوهَا أَتَوْا الْقَبْرَ وَسَلَّمُوا . قَالَ : وَذَلِكَ دَأْبِي . فَهَذَا مَالِكٌ وَهُوَ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ - أَيْ زَمَنِ تَابِعِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ كَانَ أَهْلُهَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَا يُشْرَعُ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ الْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ . وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الدُّعَاءُ لَهُ وَلِصَاحِبَيْهِ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ كُلَّ وَقْتٍ . بَلْ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ سَفَرٍ أَوْ إرَادَتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحِيَّةٌ لَهُ وَالْمُحَيَّا لَا يُقْصَدُ بَيْتُهُ كُلَّ وَقْتٍ لِتَحِيَّتِهِ ؛ بِخِلَافِ الْقَادِمَيْنِ مِنْ السَّفَرِ . وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي وَهْبٍ : إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ وَجْهَهُ إلَى الْقَبْرِ ؛ لَا إلَى الْقِبْلَةِ وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ بِيَدِهِ . وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُقَالَ : زُرْنَا قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : كَرَاهَةُ مَالِكٍ لَهُ لِإِضَافَتِهِ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ : " { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلُ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يَنْهَى عَنْ إضَافَةِ هَذَا اللَّفْظِ إلَى الْقَبْرِ وَالتَّشَبُّهِ بِفِعْلِ ذَلِكَ ؛ قَطْعًا لِلذَّرِيعَةِ وَحَسْمًا لِلْبَابِ . قُلْت : وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ . لَمْ يَرْوِ الْأَئِمَّةُ وَلَا أَهْلُ السُّنَنِ الْمُتَّبَعَةِ - كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَنَحْوِهِمَا فِيهَا شَيْئًا وَلَكِنْ جَاءَ لَفْظُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ : مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ . أَلَّا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ : " { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَة } . وَلَكِنْ صَارَ لَفْظُ " زِيَارَةِ الْقُبُورِ " فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَتَنَاوَلُ " الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَالزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ " وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهَا إلَّا بِالْمَعْنَى الْبِدْعِيِّ ؛ لَا الشَّرْعِيِّ ؛ فَلِهَذَا كُرِهَ هَذَا الْإِطْلَاقُ . فَأَمَّا " الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ " فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ : يُقْصَدُ بِهَا الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ كَمَا يُقْصَدُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } فَلَمَّا نَهَى عَنْ
الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ : دَلَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْخِطَابِ وَعِلَّةِ الْحُكْمِ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ . وَالْقِيَامُ عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ يُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ لَهُ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَاسْتَحَبَّهُ السَّلَفُ عِنْدَ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَأَمَّا " الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ " فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ وَالذَّرِيعَةِ إلَيْهِ كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ : " { لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا } وَقَالَ : " { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَقَالَ : " { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } وَقَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } فَإِذَا كَانَ قَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ تَحَرِّيهَا لِلدُّعَاءِ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ الدُّعَاءُ يُسْتَحَبُّ فِيهِ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عَقِبَ الصَّلَاةِ أجوب . وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَكَانٌ يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَهُ . وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُعَلَّلٌ
بِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِالْقَبْرِ لَا بِمُجَرَّدِ نَجَاسَتِهِ كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَأْمُرُونَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ وَتَعْفِيَةِ مَا يُفْتَتَنُ بِهِ مِنْهَا كَمَا أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِتَعْفِيَةِ قَبْرِ دَانْيَالَ لَمَّا ظَهَرَ بتستر فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى يَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قَبْرُ دَانْيَالَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْفِرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا ثُمَّ يَدْفِنُهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَيُعْفِيهِ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ . وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْد السَّلَفِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الموصلي فِي " مُسْنَدِهِ " وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي فِي " مُخْتَارِهِ " عَنْ { عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَعْرُوفِ بِزَيْنِ الْعَابِدِينَ - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُ فَيَدْعُو فِيهَا فَنَهَاهُ فَقَالَ : أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُمْ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ } وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنِي سُهَيْلُ بْنُ أَبِي سُهَيْلٍ قَالَ : رَآنِي الْحَسَنُ بْنُ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْقَبْرِ فَنَادَانِي وَهُوَ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ يَتَعَشَّى فَقَالَ : هَلُمَّ إلَى الْعَشَاءِ فَقُلْت : لَا أُرِيدُهُ فَقَالَ : مَالِي رَأَيْتُك عِنْدَ الْقَبْرِ فَقُلْت : سَلَّمْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : إذَا دَخَلْت الْمَسْجِدَ فَسَلِّمْ ثُمَّ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ ؛ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالْأَنْدَلُسِ إلَّا سَوَاءٌ } . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعَ فِي قَبْرِ سَيِّدِ وَلَدٍ آدَمَ وَخَيْرِ الْخَلْقِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُقَالُ فِي قَبْرِ غَيْرِهِ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ الشَّدَائِدُ - كَحَالِهِمْ فِي الْجَدْبِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَعِنْدَ الْقِتَالِ وَالِاسْتِنْصَارِ - يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغِيثُونَهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . فَتَوَسَّلُوا بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَكَذَا تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَشَفَاعَتِهِ وَلَمْ يَقْصِدُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ بِشَيْءِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بَلْ تَوَسَّلُوا إلَيْهِ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الْوَسَائِلِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَتَوَسَّلُ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ وَكَمَا يَتَوَسَّلُونَ فِي حَيَاتِهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ كَذَلِكَ يَتَوَسَّلُ الْخَلْقُ فِي الْآخِرَةِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وَيَتَوَسَّلُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ : بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ } . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْقُبُورِ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ غَيْرِهَا وَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وأجوب : لَكَانَ السَّلَفُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْ الْخَلَفِ " وَكَانُوا أَسْرَعَ إلَيْهِ . فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَسْبَقَ إلَى طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ وَلَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُرَغِّبُ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَمَا تَرَكَ شَيْئًا يُقَرِّبُ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَ أُمَّتَهُ بِهِ وَلَا شَيْئًا يُبْعِدُ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنْهُ وَقَدْ تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَنْزَوِي عَنْهَا بَعْدَهُ إلَّا هَالِكٌ . فَكَيْفَ وَقَدْ نَهَى عَنْ هَذَا الْجِنْسِ وَحَسَمَ مَادَّتَهُ بِلَعْنِهِ وَنَهْيِهِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ ؟ فَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ لِلَّهِ مُسْتَقْبِلًا لَهَا وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي لَا يَعْبُدُ الْمَوْتَى وَلَا يَدْعُوهُمْ كَمَا نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّهَا
وَقْتُ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ لِلشَّمْسِ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي لَا يَسْجُدُ إلَّا لِلَّهِ ؛ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . فَكَيْفَ إذَا تَحَقَّقَتْ الْمَفْسَدَةُ بِأَنْ صَارَ الْعَبْدُ يَدْعُو الْمَيِّتَ وَيَدْعُو بِهِ كَمَا إذَا تَحَقَّقَتْ الْمَفْسَدَةُ بِالسُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ . وَقَدْ كَانَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُبُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالَ السَّلَفُ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : كَانَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ . ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ بِمَقَابِرَ " بَابِ الصَّغِيرِ " مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الْأَرْبَعَةِ فَكَيْفَ يُعَيَّنُ هَؤُلَاءِ لِلدُّعَاءِ عِنْدَ قُبُورِهِمْ دُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ ثُمَّ إنَّ لِكُلِّ شَيْخٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الشَّيْخِ الْآخَرِ فَهَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ بِهِمْ ؟ الَّذِينَ ضَاهَوْا الَّذِينَ { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْ قَوْلِهِ : إذَا نَزَلَ بِك
حَادِثٌ أَوْ أَمْرٌ تَخَافُهُ فَاسْتَوْحِنِي فَيُكْشَفُ مَا بِك مِنْ الشِّدَّةِ
حَيًّا كُنْت أَوْ مَيِّتًا . فَهَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ
كَذِبًا مِنْ النَّاقِلِ أَوْ خَطَأً مِنْ الْقَائِلِ ؛ فَإِنَّهُ نَقْلٌ لَا
يُعْرَفُ صِدْقُهُ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ وَمَنْ تَرَكَ النَّقْلَ
الْمُصَدَّقَ عَنْ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ وَاتَّبَعَ نَقْلًا غَيْرَ مُصَدَّقٍ
عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَمِنْ
الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِمِثْلِ هَذَا " وَلَا رُسُلُهُ
أَمَرُوا بِذَلِكَ ؛ بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ
} { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وَلَمْ يَقُلْ : ارْغَبْ إلَى الْأَنْبِيَاءِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ
دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } {
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
كَانَ مَحْذُورًا } قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ
الْعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
. وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ
لِأَحَدِ مِنْ أَصْحَابِهِ : إذَا
نَزَلَ
بِك حَادِثٌ فَاسْتَوْحِنِي ؛ بَلْ قَالَ لِابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ وَهُوَ يُوصِيهِ : " { احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْك احْفَظْ اللَّهَ
تَجِدْهُ أَمَامَك تَعَرَّفَ إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْك فِي
الشِّدَّةِ إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ
بِاَللَّهِ } . وَمَا يَرْوِيهِ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ : " {
إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي ؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ
عَظِيمٌ } . فَهُوَ حَدِيثٌ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَمَدَةِ فِي
الدِّينِ ؛ فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَضِيلَةٌ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِكُلِّ فَضِيلَةٍ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ .
وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةٌ لِلْحَيِّ بِالْمَيِّتِ فَأَصْحَابُهُ أَحَقُّ النَّاسِ
انْتِفَاعًا بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا مِنْ الضَّلَالِ
وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ وَاَللَّهُ
يَغْفِرُ لَهُ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا . وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيِّ يَجِبُ
اتِّبَاعُ قَوْلِهِ وَلَا مَعْصُومٍ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }
.
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : مَنْ قَرَأَ " آيَةَ الْكُرْسِيِّ "
وَاسْتَقْبَلَ جِهَةَ الشَّيْخِ
عَبْدِ
الْقَادِرِ الجيلاني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَخَطَا سَبْعَ
خُطُوَاتٍ يَخْطُو مَعَ كُلِّ تَسْلِيمَةٍ خَطْوَةً إلَى قَبْرِهِ قُضِيَتْ
حَاجَتُهُ أَوْ كَانَ فِي سَمَاعٍ فَإِنَّهُ يَطِيبُ وَيَكْثُرُ تَوَاجُدُهُ .
فَهَذَا أَمْرٌ الْقُرْبَةُ فِيهِ شِرْكٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَا رَيْبَ
أَنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَا أَمَرَ بِهِ وَمَنْ
يَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْهُ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُحْدِثُ مِثْلَ
هَذِهِ الْبِدَعِ أَهْلُ الْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ : الْمُشْبِهُونَ لِلنَّصَارَى
مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الرَّافِضَةِ الْغَالِيَةِ فِي الْأَئِمَّةِ وَمَنْ
أَشْبَهَهُمْ مِنْ الْغُلَاةِ فِي الْمَشَايِخِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا
تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } فَإِذَا نَهَى عَنْ
اسْتِقْبَالِ الْقَبْرِ فِي الصَّلَاةِ لِلَّهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّوَجُّهُ
إلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لِغَيْرِ اللَّهِ مَعَ بُعْدِ الدَّارِ وَهَلْ هَذَا إلَّا
مِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى بِعِيسَى وَأُمِّهِ وَأَحْبَارِهِمْ
وَرُهْبَانِهِمْ فِي اتِّخَاذِهِمْ إيَّاهُمْ أَرْبَابًا وَآلِهَةً يَدْعُونَهُمْ
وَيَسْتَغِيثُونَهُم فِي مَطَالِبِهِمْ وَيَسْأَلُونَهُمْ وَيَسْأَلُونَ بِهِمْ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ : مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إلَى الْفُقَرَاءِ فِي
ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ : عِنْدَ الْأَكْلِ وَالْمُنَاصَحَةِ وَالسَّمَاعِ . فَهَذَا
الْقَوْلُ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ
إلَيْهِمْ عِنْدَ الْأَكْلِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِإِيثَارِ
وَعِنْدَ
الْمُجَارَاةِ فِي الْعِلْمِ . لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْمُنَاصَحَةَ وَعِنْدَ
السَّمَاعِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ لِلَّهِ . أَوْ كَلَامًا يُشْبِهُ هَذَا .
وَالْأَصْلُ الْجَامِعُ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا يُحِبُّهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ - وَهُوَ مَا كَانَ لِلَّهِ بِإِذْنِ اللَّهِ - فَإِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّهُ وَيَنْظُرُ إلَيْهِ فِيهِ نَظَرَ مَحَبَّةٍ . وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
هُوَ الْخَالِصُ الصَّوَابُ . فَالْخَالِصُ مَا كَانَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ مَا
كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَاكَلَةِ
وَالْمُخَاطَبَةِ وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا
لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يَشْتَمِلُ عَلَى خَيْرٍ وَشَرٍّ وَحَقٍّ
وَبَاطِلٍ وَمَصْلَحَةٍ وَمَفْسَدَةٍ وَحُكْمُ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ .
فَصْلٌ :
وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تَحَرِّي الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ
مَا يُقَالُ : إنَّهُ قَبْرُ نَبِيٍّ أَوْ قَبْرُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالْقَرَابَةِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ إلْصَاقُ بَدَنِهِ أَوْ شَيْءٍ
مِنْ بَدَنِهِ بِالْقَبْرِ أَوْ بِمَا يُجَاوِرُ الْقَبْرَ مِنْ عُودٍ وَغَيْرِهِ
. كَمَنْ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ فِي قِبْلِيِّ شَرْقِيِّ جَامِعِ
دِمَشْقَ عِنْدَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ قَبْرُ هُودٍ - وَاَلَّذِي
عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - أَوْ
عِنْدَ الْمِثَالِ الْخَشَبِ الَّذِي يُقَالُ تَحْتَهُ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ
زَكَرِيَّا وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهُوَ مُخْطِئٌ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ ؛
فَإِنَّ
الصَّلَاةَ
وَالدُّعَاءَ بِهَذِهِ الْأَمْكِنَةِ لَيْسَ مَزِيَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ
الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؛ بَلْ كَانُوا
يَنْهَوْنَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ كَمَا نَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ وَدَوَاعِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا دُعَاءَ
الْقَبْرِ وَالدُّعَاءَ بِهِ فَكَيْفَ إذَا قَصَدُوا ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَلْ لِلدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةُ قَبُولٍ أَوْ سُرْعَةُ
إجَابَةٍ : بِوَقْتِ مُعَيَّنٍ أَوْ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ : عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ
أَوْ وَلِيٍّ ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الدُّعَاءَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ
وَالْأَحْوَالِ أجوب مِنْهُ فِي بَعْضٍ . فَالدُّعَاءُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أجوب
الْأَوْقَاتِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ
الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ وَفِي رِوَايَةٍ نِصْفُ
اللَّيْلِ - فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي
فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ }
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : " { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي
جَوْفِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ } وَالدُّعَاءِ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ
وَعِنْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَفِي
أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَفِي حَالِ السُّجُودِ وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ وَدَعْوَةُ
الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَهَذَا كُلُّهُ
مِمَّا جَاءَتْ بِهِ
الْأَحَادِيثُ
الْمَعْرُوفَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالدُّعَاءُ بِالْمَشَاعِرِ
كَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَالْمُلْتَزَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ
مَشَاعِرَ مَكَّةَ وَالدُّعَاءُ بِالْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا . وَكُلَّمَا فُضِّلَ
الْمَسْجِدُ كَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ فِيهِ
أَفْضَلَ . وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِأَجْلِ كَوْنِ الْمَكَانِ فِيهِ قَبْرُ نَبِيٍّ
أَوْ وَلِيٍّ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا : إنَّ
الدُّعَاءَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا ابْتَدَعَهُ
بَعْضُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ . فَأَصْلُهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ ؛ لَا مِنْ دِينِ عِبَادِ
اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ ؛ كَاِتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ
يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَكِنْ ابْتَدَعَهُ
بَعْضُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؛ مُضَاهَاةً لِمَنْ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَغِيثَ إلَى اللَّهِ فِي
الدُّعَاءِ بِنَبِيِّ مُرْسَلٍ أَوْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ أَوْ بِكَلَامِهِ تَعَالَى
أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ بِاحْتِيَاطِ قَافٍ أَوْ
بِدُعَاءِ أُمِّ دَاوُد أَوْ الْخَضِرِ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى اللَّهِ
فِي السُّؤَالِ بِحَقِّ فُلَانٍ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ بِجَاهِ الْمُقَرَّبِينَ
بِأَقْرَبِ الْخَلْقِ أَوْ يُقْسِمَ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ؟ فَيُقَالُ : هَذَا السُّؤَالُ فِيهِ فُصُولٌ مُتَعَدِّدَةٌ . فَأَمَّا الْأَدْعِيَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ فَفِيهَا سُؤَالُ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ بِكَلَامِهِ كَمَا فِي الْأَدْعِيَةِ الَّتِي فِي السُّنَنِ : مِثْلُ قَوْلِهِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ اللَّهُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّك أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدُ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَمِثْلُ الدُّعَاءِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك } . وَأَمَّا الْأَدْعِيَةُ الَّتِي يَدْعُو بِهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ وَيَكْتُبُهَا بَاعَةُ الحروز مِنْ الطرقية الَّتِي فِيهَا : أَسْأَلُك بِاحْتِيَاطِ قَاف وَهُوَ يُوفِ الْمُخَافِ وَالطُّورِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ . فَلَا يُؤْثَرُ مِنْهَا شَيْءٌ ؛ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقْسِمَ بِهَذِهِ بِحَالِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَقَالَ " { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقْسِمَ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَلْبَتَّةَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ : أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الربيع ؟ لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الربيع } وَكَمَا قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ : أَقْسَمْت عَلَيْك أَيْ رَبِّ ؛ إلَّا فَعَلْت كَذَا وَكَذَا " وَكِلَاهُمَا كَانَ مِمَّنْ يَبَرُّ اللَّهُ قَسَمَهُ . وَالْعَبْدُ يَسْأَلُ رَبَّهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي مَطْلُوبَهُ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي وَعَدَ الثَّوَابَ عَلَيْهَا . وَدُعَاءُ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَعَدَ إجَابَتَهُمْ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَوَسَّلُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَبِيِّهِ ثُمَّ بِعَمِّهِ وَغَيْرِ عَمِّهِ مِنْ صَالِحِيهِمْ : يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . فَتَوَسَّلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ وَهُوَ تَوَسُّلُهُمْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ : " { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا اللَّهُمَّ : فَشَفِّعْهُ فِيَّ } فَهَذَا طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ لَهُ فِي تَوَجُّهِهِ بِنَبِيِّهِ إلَى اللَّهِ هُوَ كَتَوَسُّلِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ بِهِ إلَى اللَّهِ فَإِنَّ
هَذَا التَّوَجُّهَ وَالتَّوَسُّلَ هُوَ تَوَجُّهٌ وَتَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : أَسْأَلُك أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْك بِحَقِّ مَلَائِكَتِك أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِك أَوْ بِنَبِيِّك فُلَانٍ أَوْ بِرَسُولِك فُلَانٍ أَوْ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ أَوْ بِزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ أَوْ بِالطُّورِ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الدُّعَاءِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابِهِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بَلْ قَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ - كَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقِ وَلَا يَصِحُّ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَإِنْ سَأَلَهُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ وَوَسِيلَةٌ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ . أَمَّا إذَا سَأَلَ اللَّهَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَبِدُعَاءِ نَبِيِّهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ فَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ سَبَبٌ لِلْإِثَابَةِ وَالدُّعَاءُ سَبَبٌ لِلْإِجَابَةِ فَسُؤَالُهُ بِذَلِكَ سُؤَالٌ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى فِي دُعَاءِ الْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا } وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْغَارِ الَّذِينَ دَعَوْا اللَّهَ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ . فَالتَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِالنَّبِيِّينَ هُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِمْ وَبِطَاعَتِهِمْ كَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ أَوْ بِدُعَائِهِمْ وَشَفَاعَتِهِمْ . وَأَمَّا نَفْسُ ذَوَاتِهِمْ فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي حُصُولَ مَطْلُوبِ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الْجَاهُ الْعَظِيمُ وَالْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ بِسَبَبِ إكْرَامِ اللَّهِ لَهُمْ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ
فِي
ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي إجَابَةَ دُعَاءِ غَيْرِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ
مِنْهُ إلَيْهِمْ كَالْإِيمَانِ بِهِمْ وَالطَّاعَةِ لَهُمْ أَوْ بِسَبَبِ
مِنْهُمْ إلَيْهِ : كَدُعَائِهِمْ لَهُ وَشَفَاعَتِهِمْ فِيهِ . فَهَذَانِ
الشَّيْئَانِ يُتَوَسَّلُ بِهِمَا . وَأَمَّا الْإِقْسَامُ بِالْمَخْلُوقِ فَلَا .
وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ قَوْلِهِ : " { إذَا سَأَلْتُمْ
اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } حَدِيثٌ
كَذِبٌ مَوْضُوعٌ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ مَكَانٍ فِيهِ خَلُوقٌ
وَزَعْفَرَانٌ ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ
عِنْدَهُ . فَيُقَالُ : بَلْ تَعْظِيمُ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ
وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ وَمَزَارَاتٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ
أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيهَا . وَقَدْ
ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ فِي السَّفَرِ فَرَأَى قَوْمًا
يَبْتَدِرُونَ مَكَانًا فَقَالَ : مَا هَذَا فَقَالُوا : مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : وَمَكَانٌ صَلَّى
فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ مَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصَّلَاةُ
فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ وَهَذَا قَالَهُ عُمَرُ بِمَحْضَرِ مِنْ
الصَّحَابَةِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي أَسْفَارِهِ
فِي مَوَاضِعَ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهُ فِي الْمَنَامِ فِي مَوَاضِعَ وَمَا اتَّخَذَ السَّلَفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَسْجِدًا وَلَا مَزَارًا . وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرُهَا مَسَاجِدَ وَمَزَارَاتٍ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يَرَوْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ جَاءَ إلَى بُيُوتِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ مِرَارًا كَثِيرَةً وَتَخْلِيقُ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ بِالزَّعْفَرَانِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ . وَأَمَّا مَا يَزِيدُهُ الْكَذَّابُونَ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُرَى فِي الْمَكَانِ أَثَرُ قَدَمٍ فَيُقَالُ : هَذَا قَدَمُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ وَالْأَقْدَامُ الْحِجَارَةُ الَّتِي يَنْقُلُهَا مَنْ يَنْقُلُهَا وَيَقُولُ : إنَّهَا مَوْضِعُ قَدَمِهِ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَلَوْ كَانَتْ حَقًّا لَسُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ مَسْجِدًا وَمَزَارًا بَلْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ أَنْ يُتَّخَذَ مَقَامُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مُصَلًّى إلَّا مَقَامَ إبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ لِحَجَرِ مِنْ الْحِجَارَةِ إلَّا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَلَا بِالصَّلَاةِ إلَى بَيْتٍ إلَّا الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ غَيْرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ لِلنَّاسِ حَجًّا إلَى غَيْرِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوْ صِيَامَ شَهْرٍ مَفْرُوضٍ غَيْرَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَصَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا يُسَنُّ اسْتِلَامُهَا وَلَا تَقْبِيلُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لَيْسَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةٌ عَلَى سَائِرَ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ . وَالصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْمُسْلِمِينَ
أَفْضَلُ
مِنْ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ
الْبَلَدَ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ : أَيْنَ تَرَى أَنْ أَبْنِي مُصَلَّى
الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ : ابْنِهِ خَلْفَ الصَّخْرَةِ . قَالَ خَالَطَتْك
يَهُودِيَّةٌ يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ بَلْ أَبْنِيهِ أَمَامَهَا ؛ فَإِنَّ
لَنَا صُدُورُ الْمَسَاجِدِ . فَبَنَى هَذَا الْمُصَلَّى الَّذِي تُسَمِّيهِ
الْعَامَّةُ " الْأَقْصَى " . وَلَمْ يَتَمَسَّحْ بِالصَّخْرَةِ وَلَا
قَبَّلَهَا وَلَا صَلَّى عِنْدَهَا كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ
أَنَّهُ لَمَّا قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ قَالَ . وَاَللَّهِ إنِّي
لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُك لَمَا قَبَّلْتُك .
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى يُصَلِّي
فِيهِ وَلَا يَأْتِي الصَّخْرَةَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ . وَكَذَلِكَ
حُجْرَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجْرَةُ الْخَلِيلِ
وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَدَافِنِ الَّتِي فِيهَا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ :
لَا يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُهَا وَلَا التَّمَسُّحُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
؛ بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا السُّجُودُ لِذَلِكَ فَكُفْرٌ وَكَذَلِكَ
خِطَابُهُ بِمِثْلِ مَا يُخَاطَبُ بِهِ الرَّبُّ : مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ :
اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي أَوْ اُنْصُرْنِي عَلَى عَدُوِّي وَنَحْوَ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَشْجَارُ وَالْأَحْجَارُ وَالْعُيُونُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَنْذِرُ
لَهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ
أَوْ
يُعَلِّقُونَ بِهَا خِرَقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ يَأْخُذُونَ وَرَقَهَا
يَتَبَرَّكُونَ بِهِ أَوْ يُصَلُّونَ عِنْدَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا
كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ وَهُوَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ
وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ { كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ
شَجَرَةٌ يُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُسَمُّونَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ
فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ
كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ : كَمَا قَالَ
قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى { اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } إنَّهَا
السُّنَنُ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ : شِبْرًا بِشِبْرِ
وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ
لَدَخَلْتُمْ وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي الطَّرِيقِ
لَفَعَلْتُمُوهُ } . وَقَدْ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ قَوْمًا
يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ " الشَّجَرَةِ " الَّتِي كَانَتْ
تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ الَّتِي بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ تَحْتَهَا فَأَمَرَ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ فَقُطِعَتْ
. وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ عِبَادَةً فِي
بُقْعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْبِقَاعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَذْرًا يَجِبُ الْوَفَاءُ
بِهِ وَلَا مَزِيَّةَ لِلْعِبَادَةِ فِيهَا .
فَصْلٌ :
وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بُقْعَةٌ
تُقْصَدُ لِعِبَادَةِ
اللَّهِ فِيهَا بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَاعِرُ الْحَجِّ . وَأَمَّا الْمَشَاهِدُ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ مَسَاجِدَ أَوْ لَمْ تُجْعَلْ أَوْ الْمَقَامَاتُ الَّتِي تُضَافُ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ الصَّالِحِينَ أَوْ الْمَغَارَاتُ وَالْكُهُوفُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ : مِثْلُ " الطُّورِ " الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى وَمِثْلُ " غَارِ حِرَاءَ " الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَنَّثُ فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ و " الْغَارِ " الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } وَالْغَارِ الَّذِي بِجَبَلِ قاسيون بِدِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ " مَغَارَةُ الدَّمِ " وَالْمَقَامَانِ اللَّذَانِ بِجَانِبَيْهِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ : يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا : " مَقَامُ إبْرَاهِيمَ " وَيُقَالُ لِلْآخَرِ : " مَقَامُ عِيسَى " وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْبِقَاعَ وَالْمَشَاهِدَ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا : فَهَذِهِ لَا يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَيْهَا لِزِيَارَتِهَا وَلَوْ نَذَرَ نَاذِرٌ السَّفَرَ إلَيْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ - وَهُوَ يُرْوَى عَنْ غَيْرِهِمَا - أَنَّهُ قَالَ " { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } . وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحُوا هَذِهِ الْبِلَادَ بِلَادَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا لَا يَقْصِدُونَ هَذِهِ الْبِقَاعَ وَلَا يَزُورُونَهَا وَلَا يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ فِيهَا . بَلْ كَانُوا
مُسْتَمْسِكِينَ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّهِمْ : يَعْمُرُونَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } وَقَالَ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } . وَأَمْثَالَ هَذِهِ النُّصُوصِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُنْهِزُهُ إلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ : كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إحْدَاهُمَا تَرْفَعُ دَرَجَةً وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً . فَإِذَا جَلَسَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَإِذَا قَضَى الصَّلَاةَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِهِمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ : تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ } . وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيمَنْ سَافَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاهِدِ . وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ قَالُوا : إنَّ هَذَا سَفَرُ مَعْصِيَةٍ وَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِيهِ كَمَا لَا يَقْصُرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ : أَنَّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ . بَلْ نَفْسُ قَصْدِ هَذِهِ الْبِقَاعِ لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ هَذِهِ الْبِقَاعَ لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ ؛ بَلْ لَا يَقْصِدُونَ إلَّا مَسَاجِدَ اللَّهِ بَلْ الْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَا يَقْصِدُونَهَا أَيْضًا كَمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } . بَلْ الْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا وَبِنَاؤُهَا مُحَرَّمٌ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ لِمَا اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : " { لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ } وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَكَانَتْ " حُجْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خَارِجَةً عَنْ مَسْجِدِهِ فَلَمَّا كَانَ فِي إمْرَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
عَامِلِهِ
عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ - أَنْ يَزِيدَ فِي الْمَسْجِدِ . فَاشْتَرَى
حُجَرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ
شَرْقِيِّ الْمَسْجِدِ وَقِبْلَتَهُ فَزَادَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَتْ
الْحُجْرَةُ إذْ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ وَبَنَوْهَا مُسَنَّمَةً عَنْ سَمْتِ
الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ إلَيْهَا . وَكَذَلِكَ " قَبْرُ
إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ " لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ كَانَ
عَلَيْهِ السُّورُ السُّلَيْمَانِيُّ وَلَا يَدْخُلُ إلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا
يُصَلِّي أَحَدٌ عِنْدَهُ بَلْ كَانَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ بِقَرْيَةِ
الْخَلِيلِ بِمَسْجِدِ هُنَاكَ وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى أَنْ نُقِبَ ذَلِكَ السُّورُ
ثُمَّ جُعِلَ فِيهِ بَابٌ . وَيُقَالُ : إنَّ النَّصَارَى هُمْ نَقَبُوهُ
وَجَعَلُوهُ كَنِيسَةً ثُمَّ لَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ الْبِلَادَ
جُعِلَ ذَلِكَ مَسْجِدًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ الصَّالِحُونَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ لَا يُصَلُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ . هَذَا إذَا كَانَ
الْقَبْرُ صَحِيحًا فَكَيْفَ وَعَامَّةُ الْقُبُورِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى
الْأَنْبِيَاءِ كَذِبٌ مِثْلُ الْقَبْرِ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ " قَبْرُ
نُوحٍ " فَإِنَّهُ كَذِبٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَإِنَّمَا أَظْهَرَهُ
الْجُهَّالُ مِنْ مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ وَكَذَلِكَ قَبْرُ غَيْرِهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " عَسْقَلَانُ " فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَغْرًا مِنْ ثُغُورِ
الْمُسْلِمِينَ كَانَ صَالِحُو
الْمُسْلِمِينَ يُقِيمُونَ بِهَا لِأَجْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَكَذَا سَائِرُ الْبِقَاعِ الَّتِي مِثْلُ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلُ " جَبَلِ لُبْنَانَ " و " الإسكندرية " وَمِثْلُ " عبادان " وَنَحْوِهَا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ وَمِثْلُ " قَزْوِينَ " وَنَحْوِهَا مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتْ ثُغُورًا . فَهَذِهِ كَانَ الصَّالِحُونَ يَقْصِدُونَهَا ؛ لِأَجْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ الرِّبَاطَ بِالثُّغُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَطَةَ مَنْ جِنْسِ الْجِهَادِ وَالْمُجَاوَرَةَ مَنْ جِنْسِ الْحَجِّ . وَجِنْسُ الْجِهَادِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَعْظِيمِ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ . ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ مَا سَكَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ . وَمِنْهَا مَا خَرَبَ وَصَارَ ثَغْرًا غَيْرَ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ . وَالْبِقَاعُ تَتَغَيَّرُ أَحْكَامُهَا بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ أَهْلِهَا . فَقَدْ تَكُونُ الْبُقْعَةُ دَارَ كُفْرٍ إذَا كَانَ أَهْلُهَا كُفَّارًا ثُمَّ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ إذَا أَسْلَمَ أَهْلُهَا كَمَا كَانَتْ مَكَّةُ - شَرَّفَهَا اللَّهُ - فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ وَقَالَ اللَّهُ فِيهَا : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } ثُمَّ لَمَّا فَتَحَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا أُمُّ الْقُرَى وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إلَى اللَّهِ . وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ كَانَ فِيهَا الْجَبَّارُونَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } { قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } الْآيَاتُ وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا أَنْجَى مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ الْغَرَقِ : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } وَكَانَتْ تِلْكَ الدِّيَارُ دِيَارَ
الْفَاسِقِينَ لَمَّا كَانَ يَسْكُنُهَا إذْ ذَاكَ الْفَاسِقُونَ ثُمَّ لَمَّا سَكَنَهَا الصَّالِحُونَ صَارَتْ دَارَ الصَّالِحِينَ . وَهَذَا أَصْلٌ يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ . فَإِنَّ الْبَلَدَ قَدْ تُحْمَدُ أَوْ تُذَمُّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِحَالِ أَهْلِهِ ثُمَّ يَتَغَيَّرُ حَالُ أَهْلِهِ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِمْ ؛ إذْ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إلَّا بِالتَّقْوَى . النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } . وَكَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا لَمَّا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِالشَّامِ وَسَلْمَانُ بِالْعِرَاقِ نَائِبًا لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ - أَنْ هَلُمَّ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ . فَكَتَبَ إلَيْهِ سَلْمَانُ : إنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الرَّجُلَ عَمَلُهُ .
فَصْلٌ
:
وَقَدْ تَبَيَّنَ الْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ
قَصْدَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَمَا يُقَالُ إنَّهُ قَدَمُ نَبِيٍّ أَوْ
أَثَرُ نَبِيٍّ أَوْ قَبْرُ نَبِيٍّ أَوْ قَبْرُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِ
الشُّيُوخِ أَوْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ الْأَبْرَاجِ أَوْ الْغِيرَان :
مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الْمُنْكَرَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَشْرَعْ
ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كَانَ
السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ يَفْعَلُونَهُ
وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُوَ مِنْ
أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَذَرَائِعِ الْإِفْكِ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ
فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إذَا عَثَرَ يَا جَاهَ مُحَمَّدٍ يَا لَلسِّتِّ نفيسة
أَوْ يَا سَيِّدِي الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ
اسْتِغَاثَتُهُ وَسُؤَالُهُ : فَهُوَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ
الشِّرْكِ ؛ فَإِنَّ الْمَيِّتَ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ لَا
يُدْعَى وَلَا يُسْأَلُ وَلَا يُسْتَغَاثُ بِهِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا مَعَ
الْبُعْدِ مَنْ قَبْرِهِ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ {
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا
لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَمِنْ جِنْسِ الَّذِينَ
قَالَ فِيهِمْ :
{
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ
الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا
الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ
أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ النَّذْرُ لِلْقُبُورِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ :
كَالنَّذْرِ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ أَوْ لِلشَّيْخِ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ أَوْ
لِبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِمْ : نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَا يَجِبُ
الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ
بِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ
فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَفِي
السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " {
لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ
وَالسُّرُجَ } فَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنْ يَبْنِي عَلَى الْقُبُورِ الْمَسَاجِدَ وَيُسْرِجُ فِيهَا السُّرُجَ :
كَالْقَنَادِيلِ وَالشَّمْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ هَذَا مَلْعُونًا فَاَلَّذِي يَضَعُ فِيهَا قَنَادِيلَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَشَمْعُدَانَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيَضَعُهَا عِنْدَ الْقُبُورِ أَوْلَى بِاللَّعْنَةِ . فَمَنْ نَذَرَ زَيْتًا أَوْ شَمْعًا أَوْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ سِتْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِيُجْعَلَ عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ الْقَرَابَةِ أَوْ الْمَشَايِخِ : فَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ وَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَا نَذَرَهُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ الصَّالِحِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنْفَعَ لَهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا عَمَلٌ صَالِحٌ يُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ وَلَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَالْمُتَصَدِّقُ يَتَصَدَّقُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلَا يَطْلُبُ أَجْرَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بَلْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } الْآيَةُ وَقَالَ عَنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ : { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } . وَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ بِغَيْرِ اللَّهِ : مِثْلُ الَّذِي يَقُولُ : كَرَامَةً لِأَبِي بَكْرٍ وَلِعَلِيِّ أَوْ لِلشَّيْخِ فُلَانٍ ؛ أَوْ الشَّيْخِ فُلَانٍ ؛ بَلْ لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ سَأَلَ
لِلَّهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ إخْلَاصَ الدِّينِ لِلَّهِ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ : كَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ فَلَا يَصْلُحُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا الصِّيَامُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا الْحَجُّ إلَّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَا الدُّعَاءُ إلَّا لِلَّهِ : قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } . وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ . هَذَا كُلُّهُ لِأَنَّ دِينَ اللَّهِ بَلَّغَهُ عَنْهُ رَسُولُهُ . فَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ شَرَعُوا
فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَحَرَّمُوا أَشْيَاءَ لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ : كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ والحام . وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ وَعِبَادَتِهِ والرهبانية الَّتِي ابْتَدَعَهَا النَّصَارَى . وَالْإِسْلَامُ دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَكُلُّهُمْ بُعِثُوا بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ } { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } فَدِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ دِينٌ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ
كَمَا قَالَ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ } وَإِنَّمَا يَتَنَوَّعُ فِي هَذَا الدِّينِ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ كَمَا قَالَ : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } كَمَا تَتَنَوَّعُ شَرِيعَةُ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ . فَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ أَمَرَهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَهَذَا فِي وَقْتِهِ كَانَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ فِي وَقْتِهَا كَانَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَشَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ فِي وَقْتِهِ كَانَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ آمَنَ بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَذَّبَ بِالْإِنْجِيلِ خَرَجَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ كَافِرًا وَكَذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالْكِتَابَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ كَانَ كَافِرًا خَارِجًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَجَمِيعِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } الْآيَةُ .
مَا
قَوْلُ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ :
فِي مَنْ يَنْزِلُ بِهِ حَاجَةٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا أَوْ الْآخِرَةِ ثُمَّ
يَأْتِي قَبْرَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الصُّلَحَاءِ ثُمَّ
يَدْعُو عِنْدَهُ فِي كَشْفِ كُرْبَتِهِ . فَهَلْ ذَلِكَ سُنَّةٌ أَمْ بِدْعَةٌ ؟
وَهَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فَقَدْ تُقْضَى
حَوَائِجُهُمْ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ فَهَلْ يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ
؟ وَمَا الْعِلَّةُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ ؟ أَفْتُونَا .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ ذَلِكَ سُنَّةً ؛ بَلْ هُوَ
بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ الَّذِينَ يَقْتَدِي
بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ :
لَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَلَا أَئِمَّةُ الدِّينِ ؛ بَلْ لَا يُعْرَفُ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ الَّتِي أَثْنَى
عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ : مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ لَا
مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا مِنْ الْيَمَنِ وَلَا الشَّامِ وَلَا الْعِرَاقِ
وَلَا مِصْرَ وَلَا الْمَغْرِبِ وَلَا خُرَاسَانَ ؛ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ بَعْدَ
ذَلِكَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَسُنَّهُ وَلَا اسْتَحَبَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقْتَدِي بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ ؛ إذَا الْبِدْعَةُ الْحَسَنَةُ - عِنْدَ مَنْ يُقَسِّمُ الْبِدَعَ إلَى حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ - لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ وَيَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : الْبِدْعَةُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا مَذْمُومَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَيَقُولُ قَوْلُ عُمَرَ فِي التَّرَاوِيحِ : " نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ " إنَّمَا أَسْمَاهَا بِدْعَةً : بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللُّغَةِ . فَالْبِدْعَةُ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ . وَمَآلُ الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ ؛ إذْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُسْتَحَبَّ أَوْ يَجِبُ مِنْ الشَّرْعِ فَلَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ ؛ فَمَنْ اتَّخَذَ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ عِبَادَةً وَدِينًا وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا فَهُوَ ضَالٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَصْدُ الْقُبُورِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا رَجَاءَ الْإِجَابَةِ : هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّرِيعَةِ : لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا ؛ فَلَا يَكُونُ دِينًا وَلَا حَسَنًا وَلَا طَاعَةً لِلَّهِ وَلَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَلَا يَكُونُ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا قُرْبَةً وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَهُوَ ضَالٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَلِهَذَا
: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا
نَزَلَتْ بِهِمْ الشَّدَائِدُ وَأَرَادُوا دُعَاءَ اللَّهِ لِكَشْفِ الضُّرِّ أَوْ
طَلَبِ الرَّحْمَةِ : لَا يَقْصِدُونَ شَيْئًا مِنْ الْقُبُورِ لَا قُبُورِ
الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا
يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَنَسٍ
: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ
بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك
بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا
فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
دِينَارٍ قَالَ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ :
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ * * * ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ
لِلْأَرَامِلِ
وَفِيهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :
رُبَّمَا ذَكَرْت قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى وَجْهِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فِيمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ
لَهُ مِيزَابٌ : وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ
الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ وَكَذَلِكَ
مُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ اسْتَسْقَوْا بيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ الجرشي . وَكَانُوا
فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَأْتُونَ
إلَيْهِ وَيَطْلُبُونَ
مِنْهُ الدُّعَاءَ يَتَوَسَّلُونَ بِهِ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ ؛ كَمَا أَنَّ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتُونَ إلَيْهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إلَى اللَّهِ ثُمَّ لَمَّا مَاتَ وَأَصَابَهُمْ الْجَدْبُ عَامَ الرَّمَادَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَكَانَتْ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ أَخَذُوا الْعَبَّاسَ فَتَوَسَّلُوا بِهِ وَاسْتَسْقَوْا بِهِ بَدَلًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْتُوا إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَ عِنْدَهُ وَلَا اسْتَسْقَوْا بِهِ وَلَا تَوَسَّلُوا بِهِ . وَكَذَلِكَ فِي الشَّامِ لَمْ يَذْهَبُوا إلَى مَا فِيهَا مِنْ الْقُبُورِ ؛ بَلْ اسْتَسْقَوْا بِمَنْ فِيهِمْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الدُّعَاءُ عِنْدَ الْقُبُورِ وَالتَّوَسُّلُ بِالْأَمْوَاتِ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لَهُمْ لَكَانَ التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِنْ التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ كَانُوا يَسْتَسْقُونَ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ " تَارَةً : يَدْعُونَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ . وَتَارَةً : يَخْرُجُونَ إلَى الْمُصَلَّى فَيَدْعُونَ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ وَتَارَةً يُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ . وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ مَشْرُوعَانِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَلَمْ يَعْرِفْهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَدْ أُمِرُوا فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِأَنْ يَسْتَسْقُوا بِأَهْلِ الصَّلَاحِ ؛ لَا سِيَّمَا بِأَقَارِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ . وَأُمِرُوا بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ . وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الِاسْتِعَانَةِ
بِمَيِّتِ
وَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ دِينًا
وَقُرْبَةً . وَهَذَا فِيهِ دِلَالَةٌ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ
مُحْدَثَاتٌ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمَعْرُوفِ بَلْ مِنْ
الْمُنْكَرِ .
فَصْلٌ :
وَهَذَا كَافٍ لَوْ لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ النَّهْيِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ
؛ كَيْفَ وَسُنَّتُهُ الْمُتَوَاتِرَةُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ .
مِثْلَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : {
لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ } وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ ؛ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ
خُشِيَ - أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَهَذَا بَعْضُ أَلْفَاظِ الْبُخَارِيِّ
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { لَمَّا كَانَ مَرَضُ
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً
رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ وَذَكَرْنَ مِنْ
حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَأْسَهُ وَقَالَ : إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ
الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ
الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ } .
وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفِيضٌ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ - أَوْ قَالَ - قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِيهِ : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ } وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ وَفِيهِ : { لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ ؛ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ } . بَيْنَ هَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ تَوَاتَرَا عَنْهُ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ : مِنْ ذِكْرِ فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ وَمِنْ نَهْيِهِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ فَبِهِمَا حَسْمُ مَادَّةِ الشِّرْكِ الَّتِي أُفْسِدَ بِهَا الدِّينُ وَظَهَرَ بِهَا دِينُ الْمُشْرِكِينَ . فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَارَتْ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ تُعْبَدُ ؛ أَمَّا ( وَدٌّ : فَكَانَتْ لِكَلْبِ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا ( سُوَاعٌ : فَكَانَتْ لهذيل وَأَمَّا ( يَغُوثُ : فَكَانَتْ لِمُرَادِ ثُمَّ لِبَنِي غطيف بِالْجَرْفِ عِنْدَ سَبَأٍ وَأَمَّا ( يَعُوقُ : فَكَانَتْ لهمدان وَأَمَّا ( نَسْرٌ : فَكَانَتْ لَحِمْيَرَ لِآلِ ذِي
الْكَلَامِ ؛ وَكَانَتْ أَسْمَاءَ رِجَالٍ صَالِحِينَ مَنَّ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا : أَوْحَى الشَّيْطَانُ إلَى قَوْمِهِمْ : أَنْ انْصِبُوا إلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ . وَقَدْ ذَكَرَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى طَوَائِفُ مَنْ السَّلَفِ فِي " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " . و " قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ " وَغَيْرِهَا : أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْكُفُونَ عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصْحَبُونَ تَمَاثِيلَهُمْ مَعَهُمْ فِي السَّفَرِ يَدْعُونَ عِنْدَهَا وَلَا يَعْبُدُونَهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ : عُبِدَتْ الْأَوْثَانُ . وَلِهَذَا : جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْقُبُورِ وَالصُّوَرِ ؛ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { أَبِي الهياج الأسدي قَالَ : قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَمَرَنِي أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته وَلَا تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته } . فَأَمَرَهُ بِمَحْوِ الصُّوَرِ وَتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ : { إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخُلُقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَالْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ
الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَالصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ : كَثِيرَةٌ جِدًّا مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ . وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ . وَرَوَى أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الغنوي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا } . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ : الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُصَلَّى بَيْنَ الْقُبُورِ } وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{
الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } رَوَاهُ أَحْمَد
وَأَهْلُ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ . وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ : فِيهِ اضْطِرَابٌ ؛ لِأَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَرْسَلَهُ ؛
لَكِنَّ غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ جَزَمَ بِصِحَّتِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ
الثِّقَاتِ أَسْنَدُوهُ وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا . وَفِي سُنَنِ
أَبِي دَاوُد { عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : إنَّ خَلِيلِي نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي
الْمَقْبَرَةِ وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ بَابِلَ } . وَالْآثَارُ فِي
ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا .
وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ
نُهِيَ عَنْهَا مِنْ أَجْلِ النَّجَاسَةِ ؛ لِاخْتِلَاطِ تُرْبَتِهَا بِصَدِيدِ
الْمَوْتَى وَلُحُومِهِمْ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَقْبَرَةِ
الْجَدِيدَةِ . وَالْقَدِيمَةُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَائِلٌ أَوْ لَا
يَكُونَ . وَالتَّعْلِيلُ بِهَذَا لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ
يَدُلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا وَإِنَّمَا هِيَ عِلَّةٌ
ظَنُّوهَا وَالْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي زَمَنِ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : إنَّمَا هُوَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ
التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَنْ تَصِيرَ ذَرِيعَةً إلَى الشِّرْكِ ؛
وَلِهَذَا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ . وَقَالَ : {
إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ
مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ } . وَقَالَ : { إنَّ مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا
تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ . فَمَقَابِرُ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُنْتِنُ بَلْ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَبْلُونَ وَتُرَابُ قُبُورِهِمْ طَاهِرٌ وَالنَّجَاسَةُ أَمَامَ الْمُصَلِّي لَا تُبْطِلُ صَلَاتَهُ وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ كَانُوا يَفْرِشُونَ عِنْدَ الْقُبُورِ الْمَفَارِشَ الطَّاهِرَةَ فَلَا يُلَاقُونَ النَّجَاسَةَ وَمَعَ أَنَّ الَّذِينَ يُعَلِّلُونَ بِالنَّجَاسَةِ لَا يَنْفُونَ هَذِهِ الْعِلَّةَ ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ النَّهْيَ عَنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِخَشْيَةِ التَّشَبُّهِ بِذَلِكَ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ ؛ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمِنْ فُقَهَاءَ الْكُوفَةِ أَيْضًا وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ بَعْدَ لَعْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُبَالَغَتِهِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ . وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدُ يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ : أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا مَسْجِدًا أَوْ يُصَلِّيَ عِنْدَهَا مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ وَهُوَ الَّذِي خَافَهُ هُوَ وَخَافَتْهُ الصَّحَابَةُ إذَا دَفَنُوهُ بَارِزًا : خَافُوا أَنْ يُصَلَّى عِنْدَهُ فَيُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا . وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } رُوِيَ ذَلِكَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا . وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . وَمَا يَرْوِيهِ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِمَسْجِدِ الْخَلِيلِ أَوْ صَلَّى عِنْدَ قَبْرِ الْخَلِيلِ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ
أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ تُوصَفُ بِالصَّلَاحِ ؛ بَلْ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الدُّعَاءُ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ غَيْرِهَا لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَحَبَّ الصَّلَاةُ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَقْرُونَةٌ بِالدُّعَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ كَأَعْطَانِ الْإِبِلِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ وَالْمَوَاضِعِ النَّجِسَةِ يَكُونُ الدُّعَاءُ فِيهِ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ فِي غَيْرِهِ ؛ بَلْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ : فَقَدْ رَاغَمَ الرَّسُولَ وَجَعَلَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الشِّرْكِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ مُمَاثِلًا أَوْ مُفَضَّلًا عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ . وَمِنْ هُنَا أَدْخَلَ أَهْلُ النِّفَاقِ فِي الْإِسْلَامِ مَا أَدْخَلُوهُ فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ دِينَ الرَّافِضَةِ كَانَ زِنْدِيقًا يَهُودِيًّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ لِيَحْتَالَ فِي إفْسَادِ دِينِ الْمُسْلِمِينَ - كَمَا احْتَالَ بُولِصَ " فِي إفْسَادِ دِينِ النَّصَارَى - سَعَى فِي الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَسْتَجِيبُ لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا تَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ ابْتَدَعَ مَا ادَّعَاهُ فِي الْإِمَامَةِ مِنْ النَّصِّ وَالْعِصْمَةِ وَأَظْهَرَ التَّكَلُّمَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَصَادَفَ ذَلِكَ قُلُوبًا فِيهَا جَهْلٌ وَظُلْمٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَافِرَةً ؛ فَظَهَرَتْ بِدْعَةُ التَّشَيُّعِ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحُ بَابِ الشِّرْكِ
ثُمَّ لَمَّا تَمَكَّنَتْ الزَّنَادِقَةُ أَمَرُوا بِبِنَاءِ الْمَشَاهِدِ وَتَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُ لَا تُصَلَّى الْجُمْعَةُ وَالْجَمَاعَةُ إلَّا خَلْفَ الْمَعْصُومِ . وَرَوَوْا فِي إنَارَةِ الْمَشَاهِدِ وَتَعْظِيمِهَا وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا مِنْ الْأَكَاذِيبِ مَا لَمْ أَجِدْ مِثْلَهُ فِيمَا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْ أَكَاذِيبِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ حَتَّى صَنَّفَ كَبِيرُهُمْ ابْنُ النُّعْمَانِ كِتَابًا فِي " مَنَاسِكَ حَجِّ الْمَشَاهِدِ " وَكَذَبُوا فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَكَاذِيبَ بَدَّلُوا بِهَا دِينَهُ وَغَيَّرُوا مِلَّتَهُ . وَابْتَدَعُوا الشِّرْكَ الْمُنَافِيَ لِلتَّوْحِيدِ فَصَارُوا جَامِعِينَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ كَمَا قَرَنَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } { وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } } . وَهَذَا الْحَقُّ لِلَّهِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : حَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا
حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟ قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُفْتَرُونَ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ : يَصِفُ أَهْلَ الشِّرْكِ بِالْفِرْيَةِ ؟ وَلِهَذَا طَالَبَهُمْ بِالْبُرْهَانِ وَالسُّلْطَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَالَ : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } . وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } لِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ
لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تناصحوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } . وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ لَمَّا كَانَ فِيهِمْ مِنْ الشِّرْكِ مَا فِيهِمْ قَدْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا . فَتَجِدُ كُلَّ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ مَتْبُوعَهُمْ أَوْ نَبِيَّهُمْ وَيَقُولُونَ : الدُّعَاءُ عِنْدَ قَبْرِهِ يُسْتَجَابُ وَقُلُوبُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ كَمَا أَنَّ عُبَّادَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ فَهُوَ يَعْبُدُ مَا يَأْلَهُهُ ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ . ثُمَّ إنَّهُمْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ " زِيَارَةً " وَهُوَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ وَضَعُوهُ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ " الزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ " الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ : تَتَضَمَّنُ السَّلَامَ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءَ لَهُ ؛ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ فَالْمُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ قَصْدُهُ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ الْمَيِّتَ بِدُعَائِهِ وَيُثِيبُهُ هُوَ عَلَى صَلَاتِهِ كَذَلِكَ الَّذِي يَزُورُ الْقُبُورَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ يُرْحَمُونَ بِدُعَائِهِ
وَيُثَابُ
هُوَ عَلَى إحْسَانِهِ إلَيْهِمْ وَأَيْنَ قَصْدُ النَّفْعِ لِلْمَيِّتِ مَنْ
قَصْدِ الشِّرْكِ بِهِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة قَالَ : { كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا
لِلْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ
مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ
لَاحِقُونَ أَنْتُمْ لَنَا فَرْطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا
وَلَكُمْ الْعَافِيَة } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ عَائِشَةَ : قُلْت كَيْفَ
أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : قُولِي : السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ
الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِين وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ
لَاحِقُونَ } .
وَتَجُوزُ : زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ ؛ دُونَ
الِاسْتِغْفَارِ لَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : {
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى
. وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ وَقَالَ : اسْتَأْذَنْت رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا
فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَزُورَهَا فَأَذِنَ لِي .
فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي
الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ
الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } .
وَأَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا أَوْ التَّوَسُّلِ
بِهَا أَوْ الِاسْتِشْفَاعِ بِهَا ؛ فَهَذَا لَمْ تَأْتِ بِهِ الشَّرِيعَةُ
أَصْلًا ؛ وَكُلُّ مَا يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ
زَارَنِي وَزَارَ قَبْرَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ
الْجَنَّةَ } وَ { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } و { مَنْ
زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } . فَهِيَ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ ؛ بَلْ مَوْضُوعَةٌ لَمْ يَرْوِ أَهْلُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْهَا شَيْئًا . وَغَايَةُ مَا يُعْزَى مِثْلُ ذَلِكَ إلَى كِتَابِ الدارقطني وَهُوَ قَصَدَ بِهِ غَرَائِبَ السُّنَنِ ؛ وَلِهَذَا يَرْوِي فِيهِ مِنْ الضَّعِيفِ وَالْمَوْضُوعِ مَا لَا يَرْوِيهِ غَيْرُهُ وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْوِ إلَيْهِ لَا يُبِيحُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ وَمَنْ كَتَبَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فِيمَا يُرْوَى فِي ذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ . بَلْ قَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يُقَالَ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَالِكٌ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذَا الْبَابِ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ بِذَلِكَ وَمَالِكٌ إمَامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . فَلَوْ كَانَ فِي هَذَا سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا لَفْظُ " زِيَارَةِ قَبْرِهِ " لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى عُلَمَاءِ أَهْلِ مَدِينَتِهِ وَجِيرَانِ قَبْرِهِ - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي . وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ عِنْد الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذَا سَلَّمَ الْعَبْدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَصَاحِبَيْهِ : أَنْ يَدْعُوَ اللَّهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَلَا يَدْعُوَ مُسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةِ وَالْحِكَايَةُ الَّتِي تُرْوَى فِي خِلَافِ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ مَعَ الْمَنْصُورِ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا . وَلَمْ أَعْلَمْ الْأَئِمَّةَ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ السُّنَّةَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَقْتَ الدُّعَاءِ ؛ لَا اسْتِقْبَالُ الْقَبْرِ النَّبَوِيِّ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا وَقْتَ السَّلَامِ عَلَيْهِ . فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ
الْقَبْرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُسْتَدْبِرَ الْقَبْرِ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . فَإِذَا كَانَ الدُّعَاء فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْأَئِمَّةُ فِيهِ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَة وَكَرِهُوا اسْتِقْبَالَ الْقَبْرِ فَمَا الظَّنُّ بِقَبْرِ غَيْرِهِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ قَصْدَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقُبُورِ : لَيْسَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ ذَكَرَ شَيْئًا يُخَالِفُ هَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْمَنَاسِكِ أَوْ غَيْرِهَا فَلَا حُجَّةَ مَعَهُ بِذَلِكَ وَلَا مَعَهُ نَقْلٌ عَنْ إمَامٍ مَتْبُوعٍ . وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَخَذَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ ؛ لِأَحَادِيثَ ظَنُّوهَا صَحِيحَةً وَهِيَ بَاطِلَةٌ أَوْ لِعَادَاتِ مُبْتَدَعَةٍ ظَنُّوهَا سُنَّةً بِلَا أَصْلٍ شَرْعِيٍّ . وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعُصُورِ الْمُفَضَّلَةِ " مَشَاهِدُ " عَلَى الْقُبُورِ وَإِنَّمَا ظَهَرَ ذَلِكَ وَكَثُرَ فِي دَوْلَةِ بَنِي بويه ؛ لَمَّا ظَهَرَتْ الْقَرَامِطَةُ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَانَ بِهَا زَنَادِقَةٌ كُفَّارٌ مَقْصُودُهُمْ تَبْدِيلُ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ فِي بَنِي بويه مِنْ الْمُوَافِقَةِ لَهُمْ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ وَمِنْ بِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فَبَنَوْا الْمَشَاهِدَ الْمَكْذُوبَةَ " كَمَشْهَدِ عَلِيٍّ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمْثَالِهِ . وَصَنَّفَ أَهْلُ الْفِرْيَةِ الْأَحَادِيثَ فِي زِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ وَالصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ . فَصَارَ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ الْمُتَّبِعُونَ لَهُمْ يُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ وَيُهِينُونَ الْمَسَاجِدَ
وَذَلِكَ : ضِدُّ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَتِرُونَ بِالتَّشَيُّعِ . فَفِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ مِنْ تَعْظِيمِ الصِّدِّيقِ وَمِنْ النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ مَا فِيهِ رَدٌّ لِهَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَصْلُ الشِّرْكِ وَتَبْدِيلِ الْإِسْلَامِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ " الْمَشَاهِدَ " وَلَا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْمَسَاجِدِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } وَلَمْ يَقُلْ : مَشَاهِدَ اللَّهِ ؛ بَلْ قَدْ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ لَا يَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّاهُ وَلَا تِمْثَالًا إلَّا طَمَسَهُ } . وَنَهَى عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهَذَا أَمْرٌ بِتَخْرِيبِ الْمَشَاهِدِ لَا بِعِمَارَتِهَا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْعِمَارَةُ الصُّورِيَّةُ أَوْ الْمَعْنَوِيَّةُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَلَمْ يَقُلْ فِي الْمَشَاهِدِ وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَلَمْ يَقُلْ عِنْدَ كُلِّ مَشْهَدٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } وَلَمْ يَقُلْ مَشَاهِدَ اللَّهِ ؛ إذْ عُمَّارُ الْمَشَاهِدِ هُمْ مُشْرِكُونَ أَوْ مُتَشَبِّهُونَ بِالْمُشْرِكِينَ . إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } وَلَمْ يَقُلْ إنَّمَا يَعْمُرُ مَشَاهِدَ اللَّهِ . بَلْ عُمَّارُ الْمَشَاهِدِ يَخْشَوْنَ غَيْرَ اللَّهِ ؛ فَيَخْشَوْنَ الْمَوْتَى وَلَا يَخْشَوْنَ
اللَّهَ ؛ إذْ عَبَدُوهُ عِبَادَةً لَمْ يُنَزِّلْ بِهَا سُلْطَانًا وَلَا جَاءَ بِهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُنَاظَرَتِهِ لِلْمُشْرِكِينَ لَمَّا حَاجُّوهُ وَخَوَّفُوهُ آلِهَتَهُمْ : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } ؟ قَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ . بِالْعِلْمِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَلَمْ يَقُلْ وَأَنَّ الْمَشَاهِدَ لِلَّهِ بَلْ أَهْلُ الْمَشَاهِدِ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ . وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ الَّتِي تُسَمَّى " الْمَشَاهِدَ " وَتَعْظِيمُهَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ ؛ لَمْ يَحْفَظْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَنَا : أَنْ يَحْفَظَ الذِّكْرَ الَّذِي أَنْزَلَهُ كَمَا قَالَ : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ
وَالْحِكْمَةِ مَحْفُوظٌ وَأَمَّا أَمْرُ الْمَشَاهِدِ فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ بَلْ عَامَّةُ الْقُبُورِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدُ إمَّا مَشْكُوكٌ فِيهَا وَإِمَّا مُتَيَقَّنٌ كَذِبُهَا مِثْلُ الْقَبْرِ الَّذِي بِكْرك الَّذِي يُقَالُ : إنَّ بِهِ نُوحٌ وَاَلَّذِي بِظَاهِرِ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ قَبْرُ أبي بْنِ كَعْبٍ وَاَلَّذِي مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى الَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ قَبْرُ أُوَيْسٍ القرني وَالْقُبُورُ الَّتِي هُنَاكَ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا قَبْرُ عَائِشَةَ أَوْ أُمِّ سَلَمَةَ - زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَوْ قَبْرُ عَلِيٍّ الَّذِي بِبَاطِنَةِ النَّجَفِ أَوْ الْمَشْهَدُ الَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ عَلَى الْحُسَيْنِ بِالْقَاهِرَةِ وَالْمَشْهَدُ الَّذِي بِحَلَبِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ ؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَأَمَّا الْقَبْرُ الَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ " قَبْرُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ " بحمص وَاَلَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ قَبْرُ أَبِي مُسْلِمٍ الخولاني بداريا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ : فَهَذِهِ مَشْكُوكٌ فِيهَا وَقَدْ نَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ : قَدْ تُوُفِّيَ بِأَرْضِ وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ مَكَانُ قَبْرِهِ : كَقَبْرِ بِلَالٍ وَنَحْوِهِ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ وَكَقَبْرِ فَاطِمَةَ بِالْمَدِينَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَعَامَّةُ مَنْ يُصَدِّقُ بِذَلِكَ يَكُونُ عَلِمَ بِهِ : إمَّا مَنَامًا وَإِمَّا نَقْلًا لَا يُوثَقُ بِهِ وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ . وَمِنْ هَذِهِ الْقُبُورِ مَا قَدْ يُتَيَقَّنُ ؛ لَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُبْتَدَعَةِ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَسِدُّونَ هَذَا الْبَابَ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا فَتَحُوا تُسْتَرَ وَجَدُوا هُنَاكَ سَرِيرَ مَيِّتٍ بَاقٍ . ذَكَرُوا أَنَّهُ " دَانْيَالَ "
وَوَجَدُوا عِنْدَهُ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُ الْحَوَادِثِ وَكَانَ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ يَسْتَسْقُونَ بِهِ . فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إلَى عُمَرَ . فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يُحْفَرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا ثُمَّ يُدْفَنَ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَيُعْفَى قَبْرُهُ ؛ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ النَّاسُ بِهِ . وَهَذَا كَمَا نَقَلُوا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَلَغَهُ : أَنَّ أَقْوَامًا يَزُورُونَ الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَيُصَلُّونَ هُنَاكَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ الشَّجَرَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا يَنْتَابُونَ بُقْعَةً يُصَلُّونَ فِيهَا فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذَا مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : وَمَكَانٌ صَلَّى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ بِهَذَا . مَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا يُعَارِضُ بِهِ ذَلِكَ ؛ إلَّا حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَتْ لَكُمْ إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ ؛ فَادْعُوهُ عِنْدَ قَبْرِي أَوْ قَالَ : قَبْرُ فُلَانٍ هُوَ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ صِدْقًا وَقَدْ تَكُونُ كَذِبًا وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا : فَإِنَّ قَائِلَهَا غَيْرُ مَعْصُومٍ . وَمَا يُعَارِضُ النَّقْلَ الثَّابِتَ عَنْ الْمَعْصُومِ بِنَقْلِ غَيْرِ ثَابِتٍ عَنْ غَيْرِ مَعْصُومٍ إلَّا مَنْ يَكُونُ مِنْ الضَّالِّينَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ . وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَتَغْيِيرِ الدِّينِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْحَوَائِجَ تُقْضَى لَهُمْ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ فَهَلْ يُسَوِّغُ ذَلِكَ لَهُمْ قَصْدَهَا ؟ فَيُقَالُ : لَيْسَ ذَلِكَ مُسَوِّغُ قَصْدِهَا لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ يُقْضَى كَثِيرٌ مِنْ حَوَائِجِهِمْ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ الْأَصْنَامِ وَعِنْدَ تَمَاثِيلِ الْقِدِّيسِينَ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا ؛ وَتَعْظِيمُهَا حَرَامٌ فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ . فَهَلْ يَقُولُ مُسْلِمٌ : إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَّغَ لَهُمْ هَذَا الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا تَجِدُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مِنْ الْأَسْبَابِ - الَّتِي بِهَا ابْتَدَعُوا مَا ابْتَدَعُوهُ - إلَّا تَجِدُ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ مَا أَوْقَعَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَأَشَدُّ وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا : وَجَدَهُ فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ وَكَمَالُ الْإِيمَانِ : هُوَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَإِذَا تَرَكَ بَعْضَ الْمَأْمُورِ وَعَوَّضَ عَنْهُ بِبَعْضِ الْمَحْظُورِ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْصِ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَالْبِدْعَةُ لَا تَكُونُ حَقًّا مَحْضًا ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَتْ مَشْرُوعَةً وَلَا تَكُونُ مَصْلَحَتُهَا رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَتِهَا ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَتْ مَشْرُوعَةً وَلَا تَكُونُ بَاطِلًا مَحْضًا لَا حَقَّ فِيهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا اشْتَبَهَتْ عَلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهَا بَعْضُ الْحَقِّ وَبَعْضُ الْبَاطِلِ . وَكَذَلِكَ دِينُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كُلَّ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ كَذِبًا وَكُلُّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ فَسَادًا ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي خَبَرِهِمْ صِدْقٌ
وَفِي أَمْرِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَمَعَ هَذَا فَهُمْ كُفَّارٌ بِمَا تَرَكُوهُ مِنْ الْحَقِّ وَأَتَوْهُ مِنْ الْبَاطِلِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَكْثُرُ فِيهِ الْكَذِبُ جِدًّا ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكَذِبُ مَقْرُونًا بِالشِّرْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالصِّدْقُ مَقْرُونًا بِالْإِخْلَاصِ فَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَالْكُفَّارُ أَهْلُ كَذِبٍ وَشِرْكٍ وَكَانَ فِي هَذِهِ الْمَشَاهِدِ مِنْ الشِّرْكِ مَا فِيهَا : اقْتَرَنَ بِهَا الْكَذِبُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ . مِنْهَا : دَعْوَى أَنَّ هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ الْمُعَظَّمِ أَوْ رَأْسُهُ ؛ فَفِي ذَلِكَ كَذِبٌ كَثِيرٌ . وَالثَّانِي : الْإِخْبَارُ عَنْ أَحْوَالِهِ بِأُمُورِ يَكْثُرُ فِيهَا الْكَذِبُ . وَالثَّالِثُ : الْإِخْبَارُ بِمَا يُقْضَى عِنْدَهُ مِنْ الْحَاجَاتِ فَمَا أَكْثَرَ مَا يَحْتَالُ الْمُعَظِّمُونَ لِلْقَبْرِ بِحِيَلِ يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ حَصَلَ بِهِ خَرْقُ عَادَةٍ أَوْ قَضَاءُ حَاجَةٍ وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُخْبِرُ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ ذَلِكَ أُمُورًا كَثِيرَةً جِدًّا . الرَّابِعُ : الْإِخْبَارُ بِنِسَبِ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي الِانْتِسَابَ إلَى قَبْرِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ إمَّا بِبُنُوَّةِ . وَإِمَّا بِغَيْرِ بُنُوَّةٍ حَتَّى رَأَيْت مَنْ يَدَّعِي
أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ مَعَ كَذِبِهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِيَكُونَ سَادِنَ قَبْرِهِ وَأَمَّا الْكَذِبُ عَلَى الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ . فَبَنُو عُبَيْدٍ - الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ القداح - الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّهُمْ فَاطِمِيُّونَ وَبَنُو الْقَاهِرَةِ وَبَقُوا مُلُوكًا : يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَوِيُّونَ : نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَغَلَبُوا عَلَى نِصْفِ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى غَلَبُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى بَغْدَادَ وَكَانُوا كَمَا قَالَ فِيهِمْ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَقَدْ صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ " كَشْفُ الْأَسْرَارِ وَهَتْكُ الْأَسْتَارِ " فِي كَشْفِ أَحْوَالِهِمْ . وَكَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّهْرَستَانِي . وَأَهْلُ الْعِلْمِ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ ؛ بَلْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ الْمَجُوسِ وَقِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ يَهُودِيٍّ وَكَانُوا مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ وَدِينِهِ : بَاطِنُ دِينِهِمْ مُرَكَّبٌ مِنْ دِينِ الْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ . وَمَا يُظْهِرُونَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ : هُوَ دِينُ الرَّافِضَةِ . فَخِيَارُ الْمُتَدَيِّنِينَ مِنْهُمْ هُمْ الرَّافِضَةُ . وَهُمْ جُهَّالُهُمْ وَعَوَامُّهُمْ وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ . وَأَمَّا خَوَاصُّهُمْ : مِنْ مُلُوكِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ خَارِجُونَ مِنْ دِينِ الْمِلَلِ كُلُّهُمْ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَقْرَبُ النَّاسِ
إلَيْهِمْ الْفَلَاسِفَةُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَيْضًا عَلَى قَاعِدَةِ فَيْلَسُوفٍ مُعَيَّنٍ . وَلِهَذَا انْتَسَبَ إلَيْهِمْ طَوَائِفُ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَابْنُ سِينَا وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَابْنُ الْهَيْثَمِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَمُبَشِّرُ بْنُ فَاتِكٍ وَنَحْوُهُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَأَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " صَنَّفُوا الرَّسَائِلَ عَلَى نَحْوٍ مَنْ طَرِيقَتِهِمْ وَمِنْهُمْ . الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَأَهْلُ دَارِ الدَّعْوَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ . وَوَصْفُ حَالِهِمْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ وَأَعْظَمِهِمْ شِرْكًا وَأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِ النَّسَبِ ؛ وَلِذَلِكَ تَجِدُ أَكْثَرَ المشهدية الَّذِينَ يَدَّعُونَ النَّسَبَ الْعَلَوِيَّ كَذَّابِينَ ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ مَوْلًى لِبَنِي هَاشِمٍ أَوْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَا نَسَبٌ وَلَا وَلَاءٌ وَلَكِنْ يَقُولُ أَنَا عَلَوِيٌّ وَيَنْوِي عَلَوِيَّ الْمَذْهَبِ وَيَجْعَلُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ - كَانَ دِينُهُ دِينَ الرَّافِضَةِ فَلَا يَكْفِيهِ هَذَا الطَّعْنُ فِي عَلِيٍّ حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَيْضًا فَالْكَذِبُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُبُورِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ سَطْرُهُ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى . الْخَامِسُ : أَنَّ الرَّافِضَةَ أَكْذَبُ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُمْ أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ الْمُدَّعِيَةِ لِلْإِسْلَامِ غُلُوًّا وَشِرْكًا وَمِنْهُمْ كَانَ أَوَّلُ مَنْ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ فِي الْقُرَّاءِ وَادَّعَى نُبُوَّةَ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَمَنْ ادَّعَى نُبُوَّةَ عَلِيٍّ وَكَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَلِيهِمْ الْجُهَّالُ كَغُلَاةِ ضُلَّالِ الْعُبَّادِ وَأَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ ؛ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلْقُبُورِ بَعْدَ الرَّافِضَةِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ غُلُوًّا بَعْدَهُمْ وَأَكْثَرُ الطَّوَائِفِ كَذِبًا وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى . وَكَذِبُ النَّصَارَى وَشِرْكُهُمْ وَغُلُوُّهُمْ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَعِنْدَ هَذِهِ الطَّوَائِفِ مِنْ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا قُضِيَتْ حَاجَةُ مُسْلِمٍ وَكَانَ قَدْ دَعَا دَعْوَةً عِنْدَ قَبْرِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ لِذَلِكَ الْقَبْرِ تَأْثِيرًا فِي تِلْكَ الْحَاجَةِ ؟ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَنْذِرُونَهُ عِنْدَ الْقُبُورِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ النُّذُورِ : إذَا قُضِيَتْ حَاجَاتُهُمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ : نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } . وَفِي لَفْظٍ { إنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ بِشَيْءِ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ ؛ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إلَى الْقَدَرِ قَدَّرْته } فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : أَنَّ النَّذْرَ لَيْسَ سَبَبًا فِي دَفْعِ مَا عَلِقَ بِهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ مَعَ أَنَّ النَّذْرَ جَزَاءُ تِلْكَ الْحَاجَةِ وَيَعْلَقُ بِهَا وَمَعَ كَثْرَةِ مَنْ تُقْضَى حَوَائِجُهُمْ الَّتِي عَلَّقُوا بِهَا النُّذُورَ ؛ كَانَتْ الْقُبُورُ أَبْعَدَ عَنْ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا فِي ذَلِكَ . ثُمَّ تِلْكَ الْحَاجَةُ : إمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ قُضِيَتْ بِغَيْرِ دُعَائِهِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قُضِيَتْ بِدُعَائِهِ . فَإِنْ كَانَ : الْأَوَّلَ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ
كَانَ
الثَّانِيَ : فَيَكُونُ قَدْ اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ اجْتِهَادًا لَوْ اجتهده
فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ أَوْ عِنْدَ الصَّلِيبِ لَقُضِيَتْ حَاجَتُهُ ؛
فَالسَّبَبُ هُوَ اجْتِهَادُهُ فِي الدُّعَاءِ ؛ لَا خُصُوصُ الْقَبْرِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ لِلْقُبُورِ نَوْعَ تَأْثِيرٍ
فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ بِهَا كَمَا يَذْكُرُهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ سَلَكَ
سَبِيلَهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الرُّوحَ الْمُفَارِقَةَ : تَتَّصِلُ بِرُوحِ
الدَّاعِي فَيَقْوَى بِذَلِكَ كَمَا يَزْعُمُهُ ابْنُ سِينَا وَأَبُو حَامِدٍ
وَأَمْثَالُهُمَا فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَوْ كَانَ بِسَبَبِ آخَرَ . فَيُقَالُ
: لَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ نَالَ بِهِ الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ يَكُونُ مَشْرُوعًا بَلْ
وَلَا مُبَاحًا وَإِنَّمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا إذَا غَلَبَتْ مَصْلَحَتُهُ عَلَى
مَفْسَدَتِهِ . أَمَّا إذَا غَلَبَتْ مَفْسَدَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ
مَشْرُوعًا ؛ بَلْ مَحْظُورًا وَإِنْ حَصَلَ بِهِ بَعْضُ الْفَائِدَةِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَحْرِيمُ السِّحْرِ مَعَ مَا لَهُ مِنْ التَّأْثِيرِ
وَقَضَاءِ بَعْضِ الْحَاجَاتِ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ عِبَادَةِ
الْكَوَاكِبِ وَدُعَائِهَا وَاسْتِحْضَارِ الْجِنِّ . وَكَذَلِكَ الْكِهَانَةُ
وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ ؛ وَأَنْوَاعُ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ فِي
الشَّرِيعَةِ مَعَ تَضَمُّنِهَا أَحْيَانًا نَوْعَ كَشْفٍ أَوْ نَوْعَ تَأْثِيرٍ .
وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقْضَى بِهَا حَوَائِجُهُمْ
. وَأَمَّا
تَفْصِيلُ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ كَمَا يَحْتَاجُ تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ السِّحْرِ وَسَبَبُ تَأْثِيرِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ السِّيمَيَا وَتَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ وَمَا دَعَا الْمُشْرِكِينَ إلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ؛ فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ أَنَّ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ لَمْ تُجْمِعْ عَلَى أَمْرٍ بِلَا سَبَبٍ وَالْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } { رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } وَمَنْ ظَنَّ فِي عُبَّادِ الْأَصْنَامِ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَخْلُقُ الْعَالَمَ أَوْ أَنَّهَا تُنَزِّلُ الْمَطَرَ أَوْ تُنْبِتُ النَّبَاتَ أَوْ تَخْلُقُ الْحَيَوَانَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ فَهُوَ جَاهِلٌ بِهِمْ ؛ بَلْ كَانَ قَصْدُ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ لِأَوْثَانِهِمْ مِنْ جِنْسِ قَصْدِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقُبُورِ لِلْقُبُورِ الْمُعَظَّمَةِ عِنْدَهُمْ وَقَصْدِ النَّصَارَى لِقُبُورِ الْقِدِّيسِينَ يَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ وَوَسَائِلَ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ مِنْ مساجدي الْقُبُورِ مَنْ يَفْعَلُ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ . وَيَكْفِي الْمُسْلِمَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إلَّا وَمَفْسَدَتُهُ مَحْضَةٌ أَوْ غَالِبَةٌ . وَأَمَّا مَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ مَحْضَةً أَوْ رَاجِحَةً : فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ ؛ إذْ الرُّسُلُ بُعِثَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا . وَالشِّرْكُ كَمَا قُرِنَ بِالْكَذِبِ قُرِنَ بِالسِّحْرِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } { أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } وَالْجِبْتُ السِّحْرُ وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ وَالْوَثَنُ . وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَّةِ يُعَظِّمُونَ السِّحْرَ وَالشِّرْكَ وَيُرَجِّحُونَ الْكُفَّارَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالشَّرِيعَةِ . وَالْوَرَقَةُ لَا تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقَبْرِ مِثْلُ الصَّالِحِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ . هَلْ
هُوَ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ مُسْتَجَابٌ أَكْثَرَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ
غَيْرِهِمْ أَمْ لَا ؟ وَأَيُّ أَمَاكِنَ الدُّعَاءُ فِيهَا أَفْضَلُ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ الدُّعَاءُ عِنْدَ الْقُبُورِ بِأَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ
وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَاكِنِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ
: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ أَنْ يَقْصِدَ الْقُبُورَ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا ؛
لَا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ - عَمِّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا
كُنَّا نَسْتَسْقِي إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ
إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . فَاسْتَسْقَوْا
بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَا
كَانُوا يَسْتَسْقُونَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا يَدْعُونَ عِنْدَهُ ؛ بَلْ قَدْ
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ
قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا وَقَالَ قَبْلَ أَنْ
يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجِ } . فَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ اتِّخَاذَهَا مَسَاجِدَ وَالْإِيقَادُ عَلَيْهَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا مَحَلًّا لِلْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالدُّعَاءِ . وَإِنَّمَا سَنَّ لِمَنْ زَارَ الْقُبُورَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَيِّتِ وَيَدْعُوَ لَهُ كَمَا سَنَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ قَبْلَ دَفْنِهِ وَيَدْعُوَ لَهُ . فَالْمَقْصُودُ بِمَا سَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ لَا دُعَاؤُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي : (*)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا بَعْدُ فَهَذِهِ فُتْيَا أَفْتَى
بِهَا الشِّيحُ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ
تَيْمِيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ نَحْوَ سَبْعَ عَشْرَةَ
سَنَةً أَنْكَرَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَشَنَّعَ بِهَا جَمَاعَةٌ عِنْدَ بَعْضِ
وُلَاةِ الْأُمُورِ وَذُكِرَتْ بِعِبَارَاتِ شَنِيعَةٍ : فَفَهِمَ مِنْهَا
جَمَاعَةٌ غَيْرَ مَا هِيَ عَلَيْهِ وَانْضَمَّ إلَى الْإِنْكَارِ وَالشَّنَاعَةِ
وَتَغَيُّرِ الْأَلْفَاظِ أُمُورٌ أَوْجَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُكَاتَبَةَ السُّلْطَانِ
- سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ بِمِصْرِ - أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَمَعَ قُضَاةَ
بَلَدِهِ ثُمَّ اقْتَضَى الرَّأْيُ حَبْسَهُ فَحُبِسَ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ
الْمَحْرُوسَةِ بِكِتَابِ وَرَدَ سَابِعَ شَعْبَانَ الْمُبَارَكِ سَنَةَ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ . وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَحْضُرْ الشَّيْخُ
الْمَذْكُورُ بِمَجْلِسِ حُكْمٍ وَلَا وَقَفَ عَلَى خَطِّهِ الَّذِي أَنْكَرَ
وَلَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِشَيْءِ . فَكَتَبَ بَعْضُ الْغُرَبَاءِ مِنْ بَلَدِهِ
هَذِهِ الْفُتْيَا وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا بَعْضَ عُلَمَاءِ بَغْدَادَ فَكَتَبُوا
عَلَيْهَا بَعْدَ تَأَمُّلِهَا وَقِرَاءَةِ أَلْفَاظِهَا .
وَسُئِلَ بَعْضُ مَالِكِيَّةِ دِمَشْقَ عَنْهَا فَكَتَبُوا كَذَلِكَ . وَبَلَغَنَا أَنَّ بِمِصْرِ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا فَوَافَقَ . وَنَبْدَأُ الْآنَ بِذِكْرِ السُّؤَالِ الَّذِي كَتَبَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَغْدَادَ وَبِذِكْرِ الْفُتْيَا وَجَوَابِ الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا وَجَوَابِ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُ . وَهَذِهِ صُورَةُ السُّؤَالِ وَالْأَجْوِبَةِ . الْمَسْئُولُ مِنْ إنْعَامِ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْهُدَاةِ الْفُضَلَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَهُدَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِمَرْضَاتِهِ وَأَدَامَ بِهِمْ الْهِدَايَةَ : أَنْ يَنْعَمُوا وَيَتَأَمَّلُوا الْفَتْوَى وَجَوَابَهَا الْمُتَّصِلَ بِهَذَا السُّؤَالِ الْمَنْسُوخِ عَقِبَهُ وَصُورَةُ ذَلِكَ : مَا يَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ نَفَعَ اللَّهُ بِهِمْ الْمُسْلِمِينَ : فِي رَجُلٍ نَوَى السَّفَرَ إلَى " زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ " مِثْلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ فِي سَفَرِهِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الزِّيَارَةُ شَرْعِيَّةٌ أَمْ لَا ؟ ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } { وَمَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي }
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { لَا
تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } . أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ
رَحِمَكُمْ اللَّهُ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا مَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ
زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَصْرُ
الصَّلَاةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِي
الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ
كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَطَوَائِفَ
كَثِيرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ
فِي مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَمَذْهَبُ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّ السَّفَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي
الشَّرِيعَةِ لَا يُقْصَرُ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْصَرُ
وَهَذَا يَقُولُهُ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ كَأَبِي
حَنِيفَةَ . وَيَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد مِمَّنْ يُجَوِّزُ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ عبدوس الْحَرَّانِي وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قدامة المقدسي . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ . لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زُورُوا الْقُبُورَ } . وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَقَوْلِهِ { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } رَوَاهُ الدارقطني وَابْنُ مَاجَه . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } فَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } . فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَحْتَجَّ بِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ الدارقطني وَنَحْوِهِ . وَقَدْ احْتَجَّ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ مَسْجِدَ قُبَاء . وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ . فَلَوْ نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَشُدَّ الرَّحْلَ لِيُصَلِّيَ بِمَسْجِدِ أَوْ مَشْهَدٍ أَوْ يَعْتَكِفَ فِيهِ أَوْ يُسَافِرَ إلَيْهِ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ . لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ وَيَأْتِيَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ . وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لِصَلَاةِ أَوْ اعْتِكَافٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ عِنْد مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ . أَمَّا الْجُمْهُورُ فَيُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِكُلِّ طَاعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ . وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَالسَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ طَاعَةٌ فَلِهَذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ.
وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ غَيْرَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّفَرَ إلَيْهِ إذَا نَذَرَهُ حَتَّى نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاء يُسْتَحَبُّ زِيَارَتُهُ لِمَنْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَدِّ رَحْلٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاء لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ كَعُمْرَةِ } . قَالُوا : وَلِأَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَفَعَلَهُ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ . وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ الصُّغْرَى " مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ حُجَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي ؛ لِأَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِ قُبَاء لَمْ تَكُنْ بِشَدِّ رَحْلٍ وَهُوَ يُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ . وَقَوْلُهُ : بِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي مَضْمُونُهُ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ . يُجَابُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا تَسْلِيمٌ مِنْهُ أَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ الْحَسَنَاتِ . فَإِذًا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ . وَإِذَا سَافَرَ لِاعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يُسَافِرُ إلَيْهَا إلَّا لِذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ إلَيْهَا لِغَرَضِ مُبَاحٍ فَكَذَا جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَقْتَضِي النَّهْيَ وَالنَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَحَادِيثَ ؛ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ الْمُعْتَمَدَةِ شَيْئًا مِنْهَا وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِشَيْءِ مِنْهَا بَلْ مَالِكٌ - إمَامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - كَرِهَ أَنْ يَقُولُ الرَّجُلُ : زُرْت قَبْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَشْرُوعًا أَوْ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْرَهْهُ عَالِمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَالْإِمَامُ أَحْمَد أَعْلَمُ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ : لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ إلَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ . وَكَذَلِكَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ } . وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَأَى رَجُلًا يَخْتَلِفُ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو عِنْدَهُ فَقَالَ : يَا هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا . وَصَلُّوا عَلَيَّ . فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ حَيْثُمَا كُنْتُمْ تَبْلُغُنِي } فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ مِنْهُ إلَّا سَوَاءٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ
أَنْ
يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَهُمْ دَفَنُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خِلَافَ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ
الدَّفْنِ فِي الصَّحْرَاءِ ؛ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ عِنْدَ قَبْرِهِ
وَيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَيُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا . وَكَانَ الصَّحَابَةُ
وَالتَّابِعُونَ - لَمَّا كَانَتْ الْحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ مُنْفَصِلَةً عَنْ
الْمَسْجِدِ إلَى زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ - لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ
إلَيْهِ لَا لِصَلَاةِ هُنَاكَ وَلَا تَمَسُّحٍ بِالْقَبْرِ وَلَا دُعَاءٍ هُنَاكَ
. بَلْ هَذَا جَمِيعُهُ إنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ . وَكَانَ
السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادُوا الدُّعَاءَ دَعَوْا مُسْتَقْبَلِي
الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقَبْرَ .
وَأَمَّا الْوُقُوفُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ أَيْضًا وَلَا يَسْتَقْبِلُ
الْقَبْرَ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ : بَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ
السَّلَامِ خَاصَّةً وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ يَسْتَقْبِلُ
الْقَبْرَ عِنْدَ الدُّعَاءِ . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا حِكَايَةٌ مَكْذُوبَةٌ
تُرْوَى عَنْ مَالِكٍ وَمَذْهَبُهُ بِخِلَافِهَا .
وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَسَّحُ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُقَبِّلُهُ . وَهَذَا كُلُّهُ مُحَافَظَةً عَلَى التَّوْحِيدِ . فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ : اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالُوا : " هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا عَلَى صُوَرِهِمْ تَمَاثِيلَ ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَعَبَدُوهَا " وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَذَكَرَهُ وَثِيمَةُ " وَغَيْرُهُ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ . وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى أُصُولِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ : أَهْلُ الْبِدَعِ مَنَّ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ الْمَسَاجِدَ وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ يَدْعُونَ بُيُوتَ اللَّهِ الَّتِي أَمَرَ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَيُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ الَّتِي يُشْرَكُ فِيهَا وَيُكَذَّبُ وَيُبْتَدَعُ فِيهَا دِينٌ لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا فِيهِمَا ذِكْرُ الْمَسَاجِدِ ؛ دُونَ الْمَشَاهِدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى :
{ إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
} وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ
مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ
مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ
عَنْ ذَلِكَ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
هَذَا آخِرُ مَا أَجَابَ بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَلَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ كَمَا
أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ . وَلَمَّا ظَفَرُوا فِي دِمَشْقَ بِهَذَا
الْجَوَابِ كَتَبُوهُ وَبَعَثُوا بِهِ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَكَتَبَ
عَلَيْهِ قَاضِي الشَّافِعِيَّةِ : قَابَلْت الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ
الْمَكْتُوبِ عَلَى خَطِّ ابْنِ تَيْمِيَّة . فَصَحَّ - إلَى أَنْ قَالَ :
وَإِنَّمَا الْمُحَرَّفُ جَعْلُهُ : زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مَعْصِيَةً بِالْإِجْمَاعِ مَقْطُوعٌ بِهَا هَذَا
كَلَامُهُ . فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّحْرِيفِ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ
وَالْجَوَابُ لَيْسَ فِيهِ الْمَنْعُ مِنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَيْنِ : فِي شَدِّ الرَّحْلِ
وَالسَّفَرِ إلَى مُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ .
وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ مِنْ غَيْرِ شَدِّ رَحْلٍ إلَيْهَا مَسْأَلَةٌ . وَشَدُّ الرَّحْلِ لِمُجَرَّدِ الزِّيَارَةِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى . وَالشَّيْخُ لَا يَمْنَعُ الزِّيَارَةَ الْخَالِيَةَ عَنْ شَدِّ رَحْلٍ بَلْ يَسْتَحِبُّهَا وَيَنْدُبُ إلَيْهَا . وَكُتُبُهُ وَمَنَاسِكُهُ تَشْهَدُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الشَّيْخُ إلَى هَذِهِ الزِّيَارَةِ فِي الْفُتْيَا وَلَا قَالَ : إنَّهَا مَعْصِيَةٌ وَلَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ . وَلَمَّا وَصَلَ خَطُّ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ كَثُرَ الْكَلَامُ وَعَظُمَتْ الْفِتْنَةُ وَطَلَبَ الْقُضَاةُ بِهَا فَاجْتَمَعُوا وَتَكَلَّمُوا وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِحَبْسِ الشَّيْخِ . فَرَسَمَ السُّلْطَانُ بِهِ . وَجَرَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ثُمَّ جَرَى بَعْدَ ذَلِكَ أُمُورٌ عَلَى الْقَائِمَيْنِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ وَصَلَ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى عُلَمَاءِ بَغْدَادَ فَقَامُوا فِي الِانْتِصَارِ لَهُ وَكَتَبُوا بِمُوَافَقَتِهِ وَرَأَيْت خُطُوطَهُمْ بِذَلِكَ . وَهَذَا صُورَةُ مَا كَتَبُوا :
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى : - بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ
السَّابِغَةِ نِعَمُهُ السَّابِقَةِ مِنَنُهُ . وَالصَّلَاةُ عَلَى أَشْرَفِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ : مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى
آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ . إنَّهُ حَيْثُ قَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
عِبَادِهِ وَتَفَضَّلَ بِرَحْمَتِهِ عَلَى بِلَادِهِ بِأَنْ وَسَّدَ أُمُورَ
الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَأَسْنَدَ أَزِمَّةَ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ
إلَى مَنْ خَصَّصَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَفْضَلِ الكمالات النَّفْسَانِيَّةِ
وَخَصَّصَهُ بِأَكْمَلِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ مُحْيِي سُنَنِ الْعَدْلِ
وَمُبْدِي سُنَنِ الْفَضْلِ الْمُعْتَصِمِ بِحَبْلِ اللَّهِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى
اللَّهِ الْمُكْتَفِي بِنِعَمِ اللَّهِ الْقَائِمِ بِأَوَامِرِ اللَّهِ
الْمُسْتَظْهِرِ بِقُوَّةِ اللَّهِ الْمُسْتَضِيءِ بِنُورِ اللَّهِ أَعَزَّ
اللَّهُ سُلْطَانَهُ وَأَعْلَى عَلَى سَائِرِ الْمُلُوكِ شَانَهُ وَلَا زَالَتْ
رِقَابُ الْأُمَمِ خَاضِعَةً لِأَوَامِرِهِ وَأَعْنَاقُ الْعِبَادِ طَائِعَةً
لِمَرَاسِمِهِ وَلَا زَالَ مُوَالِي دَوْلَتِهِ بِطَاعَتِهِ مَجْبُورًا وَمُعَادِي
صَوْلَتِهِ بِخِزْيِهِ مَذْمُومًا مَدْحُورًا . فَالْمَرْجُوُّ مِنْ أَلْطَافِ
الْحَضْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ - زَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى عُلُوًّا وَشَرَفًا -
أَنْ يَكُونَ لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَصَفْوَةُ
الْأَصْفِيَاءِ
وَعِمَادُ الدِّينِ وَمَدَارُ أَهْلِ الْيَقِينِ : حَظٌّ مِنْ الْعِنَايَةِ السُّلْطَانِيَّةِ وَافِرٌ وَنَصِيبٌ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ فَإِنَّهَا مَنْقَبَةٌ لَا يُعَادِلُهَا فَضِيلَةٌ وَحَسَنَةٌ لَا يُحِيطُهَا سَيِّئَةٌ لِأَنَّهَا حَقِيقَةُ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَخُلَاصَةُ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ وَقَفَ عَلَى مَا سُئِلَ عَنْهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ وَحِيدُ دَهْرِهِ وَفَرِيدُ عَصْرِهِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة وَمَا أَجَابَ بِهِ . فَوَجَدْته خُلَاصَةَ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ حَسْبَ مَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ : مِنْ نَقْلِهِ الصَّحِيحِ وَمَا أَدَّى إلَيْهِ الْبَحْثُ مِنْ الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ لَا يُدَاخِلُهُ تَحَامُلٌ وَلَا يَعْتَرِيهِ تَجَاهُلٌ . وَلَيْسَ فِيهِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - مَا يَقْتَضِي الْإِزْرَاءَ وَالتَّنْقِيصَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ تَحْمِلَهُمْ الْعَصَبِيَّةُ : أَنْ يَتَفَوَّهُوا بِالْإِزْرَاءِ وَالتَّنْقِيصِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَوَّرَ مُتَصَوِّرٌ : أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزِيدُ فِي قَدْرِهِ وَهَلْ تَرْكُهَا مِمَّا يُنْقِصُ مِنْ تَعْظِيمِهِ ؟ حَاشَا لِلرَّسُولِ مِنْ ذَلِكَ . نَعَمْ لَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ ذَاكِرٌ ابْتِدَاءً وَكَانَ هُنَاكَ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى الْإِزْرَاءِ وَالتَّنْقِيصِ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ . مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ كِنَايَةً لَا صَرِيحًا
فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَهُ فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَطَرِيقِ الْبَحْثِ وَالْجَدَلِ ؟ . مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَنْظَارِ الْعُقَلَاءِ : أَنَّ الزِّيَارَةَ لَيْسَتْ عِبَادَةً وَطَاعَةً لِمُجَرَّدِهَا حَتَّى لَوْ حَلَفَ : أَنَّهُ يَأْتِي بِعِبَادَةِ أَوْ طَاعَةٍ لَمْ يَبَرَّ بِهَا ؛ لَكِنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ - مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا - ذَكَرَ أَنَّ نَذْرَ هَذِهِ الزِّيَارَةِ عِنْدَهُ قُرْبَةٌ تَلْزَمُ نَاذِرَهَا . وَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِهِ لَا يُسَاعِدُهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ صَرِيحٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ . وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } - إلَى آخِرِهِ " أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَدُّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِ مَا ذَكَرَ أَوْ وُجُوبُهُ أَوْ ندبيته . فَإِنْ فَعَلَهُ كَانَ مُخَالِفًا لِصَرِيحِ النَّهْيِ وَمُخَالَفَةُ النَّهْيِ مَعْصِيَةٌ - إمَّا كُفْرٌ أَوْ غَيْرُهُ - عَلَى قَدْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَصِفَةِ النَّهْيِ وَالزِّيَارَةُ أَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ . فَالزِّيَارَةُ بِغَيْرِ شَدٍّ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهَا وَمَعَ الشَّدِّ مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ عِقَابًا وَلَا يُوجِبْ عِتَابًا . وَالْمَرَاحِمُ السُّلْطَانِيَّةُ أَحْرَى بِالتَّوْسِعَةِ وَالنَّظَرِ بِعَيْنِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ إلَيْهِ وَلِلْآرَاءِ الْمَلَكِيَّةِ عُلُوُّ الْمَزِيدِ . حَرَّرَهُ ابْنُ الْكُتُبِيِّ الشَّافِعِيُّ . حَامِدًا لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ . ا هـ
جَوَابٌ
آخَرُ :
اللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ الْأَوْحَدُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ
وَقُدْوَةُ الْخَلَفِ رَئِيسُ الْمُحَقِّقِينَ وَخُلَاصَةُ الْمُدَقِّقِينَ ؛
تَقِيُّ الْمِلَّةِ وَالْحَقِّ وَالدِّينِ : مِنْ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ : صَحِيحٌ مَنْقُولٌ فِي غَيْرِ مَا كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ
الْعِلْمِ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ ثَلْبٌ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَضٌّ مِنْ قَدْرِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ نَصَّ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ
الجُوَيْنِي فِي كُتُبِهِ عَلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ عِيَاضِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضٍ فِي
إكْمَالِهِ . وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا . وَمِنْ
الْمُدَوِّنَةِ : وَمَنْ قَالَ : عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ فَلَا يَأْتِيهِمَا أَصْلًا إلَّا أَنْ يُرِيدَ الصَّلَاةَ فِي
مَسْجِدَيْهِمَا فَلْيَأْتِهِمَا . فَلَمْ يَجْعَلْ نَذْرَ زِيَارَةِ قَبْرِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةً يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا ؛ إذْ مِنْ
أَصْلِنَا : أَنَّ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهَا
كَانَ مَنْ جِنْسِهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ لَمْ يَكُنْ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو إسْحَاقَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ عقيب هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : وَلَوْلَا الصَّلَاةُ فِيهِمَا لَمَا لَزِمَهُ إتْيَانُهُمَا وَلَوْ كَانَ نَذَرَ زِيَارَةَ طَاعَةٍ لَمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَيْرَوَانِيُّ فِي تَقْرِيبِهِ وَالشَّيْخُ ابْنُ سِيرِين فِي تَنْبِيهِهِ . وَفِي الْمَبْسُوطِ : قَالَ مَالِكٌ : وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ لِيُصَلِّيَ فِيهِ . قَالَ : فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ لَهُ . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدِي هَذَا } . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ فِي الموازية : إلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَدِّ رَحْلٍ . وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ " التَّمْهِيدُ " : يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ . وَحَيْثُ تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ مَنْ أَجَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَى الْكُفْرِ فَمَنْ كَفَّرَهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ فَإِنْ كَانَ مُسْتَبِيحًا ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ وَإِلَّا فَهُوَ فَاسِقٌ . قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ المازري فِي كِتَابِ " الْمُعَلِّمِ " :
مَنْ
كَفَّرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَبِيحًا ذَلِكَ فَقَدْ
كَفَرَ وَإِلَّا فَهُوَ فَاسِقٌ . يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إذَا رُفِعَ أَمْرُهُ
إلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّبَهُ وَيُعَزِّرَهُ بِمَا يَكُونُ رَادِعًا لِأَمْثَالِهِ
فَإِنْ تُرِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ آثِمٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ . كَتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَغْدَادِيُّ
الْخَادِمُ لِلطَّائِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ الشَّرِيفَةِ
المستنصرية . رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُنْشِئِهَا .
وَأَجَابَ غَيْرُهُ فَقَالَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ
. وَعَلَى آلِهِ الطَّاهِرِينَ . مَا ذَكَرَهُ مَوْلَانَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ
الْعَامِلُ جَامِعُ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَائِدِ بَحْرُ الْعُلُومِ وَمَنْشَأُ
الْفَضْلِ جَمَالُ الدِّينِ كَاتِبُ خَطِّهِ إمَامُ خَطِّي هَذَا جَمَّلَ اللَّهُ
بِهِ الْإِسْلَامَ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ سَوَابِغَ الْإِنْعَامِ أَتَى فِيهِ
بِالْحَقِّ الْجَلِيِّ الْوَاضِحِ وَأَعْرَضَ فِيهِ عَنْ إغْضَاءِ الْمَشَايِخِ
إذْ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ اللَّذَانِ تَقَدَّمَاهُ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي
فِطْنَة وَعَقْلٍ أَنَّهُ أَتَى فِي الْجَوَابِ الْمُطَابِقِ لِلسُّؤَالِ
بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُ وَلَمْ يَبْقَ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَعْتَرِضَهُ مُعْتَرِضٌ فِي نَقْلِهِ
فَيُبْرِزَهُ
لَهُ
مِنْ كُتُبِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ حَكَى أَقْوَالَهُمْ . وَالْمُعْتَرِضُ لَهُ
بِالتَّشْنِيعِ إمَّا جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ أَوْ مُتَجَاهِلٌ يَحْمِلُهُ
حَسَدُهُ وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى رَدِّ مَا هُوَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ
مَقْبُولٌ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَوَائِلِ الْحَسَدِ وَعَصَمَنَا مِنْ
مخائل النَّكَدِ بِمُحَمَّدِ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ ؛ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . كَتَبَهُ الْفَقِيرُ إلَى عَفْوِ رَبِّهِ
وَرِضْوَانِهِ . عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ الْخَطِيبُ . غَفَرَ
اللَّهُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ .
وَأَجَابَ غَيْرُهُ فَقَالَ :
بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فَاتِحُ كُلِّ كَلَامٍ وَالصَّلَاةِ
وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْأَنَامِ وَعَلَى آلِهِ
وَأَصْحَابِهِ الْبَرَرَةِ الْكِرَامِ أَعْلَامِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الظَّلَامِ
. يَقُولُ أَفْقَرُ عِبَادِ اللَّهِ وَأَحْوَجُهُمْ إلَى عَفْوِهِ : مَا حَكَاهُ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الْبَارِعُ الْهُمَامُ افْتِخَارُ الْأَنَامِ جَمَالُ الْإِسْلَامِ
رُكْنُ الشَّرِيعَةِ نَاصِرُ السُّنَّةِ قَامِعُ الْبِدْعَةِ جَامِعُ أَشْتَاتِ
الْفَضَائِلِ قُدْوَةُ الْعُلَمَاءِ الْأَمَاثِلِ فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ
أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ النُّبَلَاءِ - رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ
أَجْمَعِينَ - بَيِّنٌ لَا يُدْفَعُ . وَمَكْشُوفٌ لَا يَتَقَنَّعُ . بَلْ أَوْضَحُ مِنْ النَّيِّرَيْنِ وَأَظْهَرُ مِنْ فَرَقِ الصُّبْحِ لِذِي عَيْنَيْنِ . وَالْعُمْدَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ . وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ احْتِمَالَيْ صِيغَتِهِ . وَذَلِكَ : أَنَّ صِيغَةَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } ذَاتُ وَجْهَيْنِ نَفْيٍ وَنَهْيٍ . لِاحْتِمَالِهِمَا . فَإِنْ لُحِظَ مَعْنَى النَّفْيِ فَمُقْتَضَاهُ : نَفْيُ فَضِيلَةِ وَاسْتِحْبَابِ شَدِّ الرِّحَالِ وَإِعْمَالِ الْمَطِيِّ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ؛ إذْ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُمَا لَامْتَنَعَ رَفْعُهُمَا . فَتَعَيَّنَ تَوَجُّهُ النَّفْيِ إلَى فَضِيلَتِهِمَا واستحبابهما دُونَ ذَاتِهِمَا وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُعْتَقَدُ أَنَّ إعْمَالَ الْمَطِيِّ وَشَدَّ الرِّحَالِ إلَيْهِ قُرْبَةٌ وَفَضِيلَةٌ : مِنْ الْمَسَاجِدِ وَزِيَارَةُ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى بَلْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ . وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ ذَلِكَ الْمَنْفِيِّ الْمُقَدَّرِ فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ لِمَا بَعْدَ " إلَّا " . وَإِلَّا لَمَا افْتَرَقَ الْحُكْمُ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَهُوَ مُفْتَرِقٌ حِينَئِذٍ : لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ نَفْيُ الْإِبَاحَةِ . فَهَذَا وَجْهُ مُتَمَسَّكِ مَنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ هَذَا السَّفَرِ بِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ نَفْيٌ وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ الْقَصْرِ . وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ مَلْحُوظًا . فَالْمَعْنَى نَهْيُهُ عَنْ إعْمَالِ الْمَطِيِّ وَشَدِّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ؛ إذْ الْمُقَرَّرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ قَاضٍ بِتَحْرِيمِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ .
فَهَذَا وَجْهُ مُتَمَسَّكِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ جَوَازِ الْقَصْرِ فِي هَذَا السَّفَرِ لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ . وَمِمَّنْ قَالَ بِحُرْمَتِهِ : الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالشَّيْخُ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى اخْتِيَارِهِ . وَمَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَدُّ رَحْلٍ وَإِعْمَالُ مَطِيٍّ جَمْعًا بَيْنَهُمَا . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ حَدِيثِ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } مُعَارِضًا لَهُ لِعَدَمِ مُسَاوَاتِهِ إيَّاهُ فِي الدَّرَجَةِ . لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْلَى أَقْسَامِ الصَّحِيحِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ رَزِئَ وَضَيَّقَ عَلَى الْمُجِيبِ . وَهَذَا أَمْرٌ يَحَارُ فِيهِ اللَّبِيبُ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ الْأَرِيبُ ؛ وَيَقَعُ بِهِ فِي شَكٍّ مُرِيبٍ . فَإِنَّ جَوَابَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَاضٍ بِذِكْرِ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ . وَلَيْسَ حَاكِمًا بِالْغَضِّ مِنْ الصَّالِحِينَ وَالْأَنْبِيَاءَ . فَإِنَّ الْأَخْذَ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّةِ رَفْعِهِ إلَيْهِ : هُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي تَتَبُّعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَالْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ مَحْذُورٌ وَذَلِكَ مِمَّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ حَرَجٍ عَلَى مَنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَذَكَرَ فِيهَا
خِلَافَ
الْفُقَهَاءِ وَمَالَ فِيهَا إلَى بَعْضِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ ؟ فَإِنَّ
الْأَمْرَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ وَتَعَاقُبِ الدُّهُورِ .
وَهَلْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْ الْقَادِحِ إلَّا عَلَى امْتِطَاءِ نِضْوِ الْهَوَى
الْمُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى التَّوَى فَإِنَّ مَنْ يَقْتَبِسُ مِنْ فَوَائِدِهِ
وَيَلْتَقِطُ مِنْ فَرَائِدِهِ لَحَقِيقٌ بِالتَّعْظِيمِ وَخَلِيقٌ بِالتَّكْرِيمِ
: مِمَّنْ لَهُ الْفَهْمُ السَّلِيمُ وَالذِّهْنُ الْمُسْتَقِيمُ . وَهَلْ حُكْمُ
الْمُظَاهِرِ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ إلَّا كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ السَّائِرِ
: الشَّعِيرُ يُؤْكَلُ وَيُذَمُّ . وَقَوْلِ الشَّاعِرِ :
جَزَى بَنُوهُ أَبَا الْغَيْلَانِ عَنْ كِبَرٍ * * * وَحُسْنِ فِعْلٍ كَمَا
يُجْزَى سِنِمَّارُ
وَقَوْلِ غَيْرِهِ : وَحَدِيثٌ أَلَذُّهُ وَهُوَ مِمَّا * * * يُنْعِتُ
النَّاعِتُونَ يُوزَنُ وَزْنًا
مَنْطِقٌ رَائِعٌ وَيُلْحِنُ أَحْيَانًا * * * وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ
لَحْنًا
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } . وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْمَلَالَةِ لَمَا نَكَبْت عَنْ الْإِطَالَةِ . نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ يَسْلُكَ بِنَا وَبِكُمْ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ وَأَنْ يُجَنِّبَنَا وَإِيَّاكُمْ مَسْلَكَ الْغَوَايَةِ . إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ . وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَنِعْمَ النَّصِيرُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ الْمُنْتَخَبِينَ . هَذَا جَوَابُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمَحْمُودِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ الْبَتِّيِّ الْحَنْبَلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ الْمُؤَلِّفُ : وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْت .
جَوَابٌ
آخَرُ :
لِبَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الشَّامِ الْمَالِكِيَّةِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُوَ حَسْبِي .
السَّفَرُ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ . وَأَمَّا
مَنْ سَافَرَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيُصَلِّيَ فِيهِ وَيُسَلِّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمَشْرُوعٌ كَمَا ذُكِرَ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا لَوْ قَصَدَ إعْمَالَ الْمَطِيِّ
لِزِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ
فَهَذَا السَّفَرُ إذَا ذَكَرَ رَجُلٌ فِيهِ خِلَافًا لِلْعُلَمَاءِ : وَأَنَّ
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ : وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ
مُبَاحٌ . وَأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ بِطَاعَةِ وَلَا قُرْبَةٍ فَمَنْ
جَعَلَهُ طَاعَةً وَقُرْبَةً عَلَى مُقْتَضَى هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ كَانَ
حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ وَذَكَرَ حُجَّةَ كُلِّ قَوْلٍ مِنْهُمَا أَوْ رَجَّحَ
أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ . لَمْ يَلْزَمْهُ مَا يَلْزَمُ مَنْ تَنَقَّصَ إذْ لَا
تَنَقُّصَ وَلَا إزْرَاءَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِسَائِلِ سَأَلَهُ : أَنَّهُ نَذَرَ أَنْ
يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : إنْ
كَانَ أَرَادَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَلْيَأْتِهِ وَلْيُصَلِّ فِيهِ . وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْقَبْرَ فَلَا يَفْعَلْ
لِلْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ
مَسَاجِدَ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كَتَبَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ الْمَالِكِيُّ .
كَذَلِكَ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ الْمَالِكِيُّ .
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ نَقَلْت هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ كُلَّهَا مِنْ
خَطِّ الْمُفْتِينَ بِهَا .
قَالَ : وَوَقَفْت عَلَى كِتَابٍ وَرَدَ مَعَ أَجْوِبَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ
وَصُورَتُهُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَاصِرِ
الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمُعِزِّ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِدَوَامِ
أَيَّامِ الدَّوْلَةِ الْمُبَارَكَةِ السُّلْطَانِيَّةِ . الْمَالِكِيَّةِ
النَّاصِرِيَّةِ ؛ أَلْبَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِبَاسَ الْعِزِّ الْمَقْرُونِ
بِالدَّوَامِ وَحَلَّاهَا بِحِلْيَةِ النَّصْرِ الْمُسْتَمِرِّ بِمُرُورِ
اللَّيَالِي وَالْأَيَّامَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ
الْمَبْعُوثِ إلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
الْبَرَرَةِ الْكِرَامِ .
اللَّهُمَّ إنَّ بَابَك لَمْ يَزَلْ مَفْتُوحًا لِلسَّائِلِينَ وَرِفْدَك مَا بَرِحَ مَبْذُولًا لِلْوَافِدِينَ مَنْ عَوَّدْته مَسْأَلَتَك وَحْدَك لَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا سِوَاك وَمَنْ مَنَحْته منائح رِفْدِك لَمْ يَفِدْ عَلَى غَيْرِك وَلَمْ يَحْتَمِ إلَّا بِحِمَاك . أَنْتَ الرَّبُّ الْعَظِيمُ الْكَرِيمُ الْأَكْرَمُ قَصْدُ بَابِ غَيْرِك عَلَى عِبَادِك مُحَرَّمٌ . أَنْتَ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُك وَلَا مَعْبُودَ سِوَاك عَزَّ جَارُك وَجَلَّ ثَنَاؤُك وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُك وَعَظُمَ بَلَاؤُك وَلَا إلَهَ غَيْرُك . وَلَمْ تَزَلْ سُنَّتُك فِي خَلْقِك جَارِيَةً بِامْتِحَانِ أَوْلِيَائِك وَأَحْبَابِك تَفَضُّلًا مِنْك عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانًا مِنْ لَدُنْك إلَيْهِمْ . لِيَزْدَادُوا لَك فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ ذِكْرًا وَلِإِنْعَامِك فِي جَمِيعِ التَّقَلُّبَاتِ شُكْرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ } . اللَّهُمَّ وَأَنْتَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا تُعْلَمُ وَأَنْتَ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا تَبْخَلُ قَدْ عَلِمْت يَا عَالِمَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ أَنَّ قُلُوبَنَا لَمْ تَزَلْ تَرْفَعُ إخْلَاصَ الدُّعَاءِ صَادِقَةً وَأَلْسِنَتَنَا فِي حَالَتَيْ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ نَاطِقَةٌ . أَنْ تُسْعِفَنَا بِإِمْدَادِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ الْمُبَارَكَةِ الْمَيْمُونَةِ السُّلْطَانِيَّةِ النَّاصِرِيَّةِ . بِمَزِيدِ الْعُلَا وَالرِّفْعَةِ وَالتَّمْكِينِ وَأَنْ تُحَقِّقَ آمَالَنَا فِيهَا بِإِعْلَاءِ الْكَلِمَةِ فِي ذَلِكَ بِرَفْعِ قَوَاعِدِ دَعَائِمِ الدِّينِ وَقَمْعِ مَكَايِدِ الْمُلْحِدِينَ . لِأَنَّهَا الدَّوْلَةُ الَّتِي بَرِئَتْ مِنْ غَشَيَانِ الْجَنَفِ وَالْحَيْفِ وَسَلِمَتْ مِنْ طُغْيَانِ الْقَلَمِ وَالسَّيْفِ . وَاَلَّذِي يَنْطَوِي عَلَيْهِ ضَمَائِرُ الْمُسْلِمِينَ وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سَرَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ :
أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ النَّاصِرَ لِلدِّينِ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ : الَّذِي بِتَمْكِينِهِ فِي أَرْضِهِ حَصَلَ التَّمْكِينُ لِمُلُوكِ الْأَرْضِ وَعُظَمَاءِ السَّلَاطِينِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الَّذِي يُتْلَى فَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَدَبَّرْ : { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } وَهُوَ مِمَّنْ مَكَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ تَمْكِينًا يَقِينًا لَا ظَنًّا وَهُوَ مِمَّنْ يُعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } . وَاَلَّذِي عَهِدَهُ الْمُسْلِمُونَ وَتَعَوَّدَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْمَرَاحِمِ الْكَرِيمَةِ وَالْعَوَاطِفِ الرَّحِيمَةِ : إكْرَامُ أَهْلِ الدِّينِ وَإِعْظَامُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِي حَمَلَ عَلَى رَفْعِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ الصَّرِيحَةِ إلَى الْحَضْرَةِ الشَّرِيفَةِ - وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَزَلْ مَرْفُوعَةً إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالنِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدِّينُ النَّصِيحَةُ قِيلَ : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مَشْهُورَانِ بِالصِّحَّةِ وَمُسْتَفِيضَانِ فِي الْأُمَّةِ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا الشَّيْخَ الْمُعَظَّمَ الْجَلِيلَ وَالْإِمَامَ الْمُكَرَّمَ النَّبِيلَ : أَوْحَدُ الدَّهْرِ وَفَرِيدُ الْعَصْرِ ؛ طِرَازُ الْمَمْلَكَةِ الْمَلَكِيَّةِ وَعَلَمُ الدَّوْلَةِ السُّلْطَانِيَّةِ لَوْ أَقْسَمَ مُقْسِمٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ الْقَدِيرِ : أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الْكَبِيرَ لَيْسَ لَهُ فِي عَصْرِهِ مُمَاثِلَ وَلَا نَظِيرٌ لَكَانَتْ يَمِينُهُ بَرَّةً غَنِيَّةً عَنْ التَّكْفِيرِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ وُجُودِ مِثْلِهِ السَّبْعُ الْأَقَالِيمُ إلَّا هَذَا الْإِقْلِيمَ يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ كُلُّ مُنْصِفٍ جُبِلَ عَلَى الطَّبْعِ السَّلِيمِ . وَلَسْت بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أُطْرِيهِ بَلْ لَوْ أَطْنَبَ مُطْنِبٌ فِي مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لَمَا أَتَى عَلَى بَعْضِ الْفَضَائِلِ الَّتِي هِيَ فِيهِ : أَحْمَد ابْن تَيْمِيَّة دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ يُتَنَافَسُ فِيهَا تُشْتَرَى وَلَا تُبَاعُ لَيْسَ فِي خَزَائِنِ الْمُلُوكِ دُرَّةٌ تُمَاثِلُهَا وَتُؤَاخِيهَا انْقَطَعَتْ عَنْ وُجُودِ مِثْلِهِ الْأَطْمَاعُ . وَلَقَدْ أَصَمَّ الْأَسْمَاعَ وَأَوْهَى قُوَى الْمَتْبُوعِينَ وَالْأَتْبَاعِ : سَمَّاعُ رَفْعِ أَبِي الْعَبَّاسِ - أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة - إلَى الْقِلَاعِ . وَلَيْسَ يَقَعُ مِنْ مِثْلِهِ أَمْرٌ يُنْقَمُ مِنْهُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا قَدْ لُبِّسَ عَلَيْهِ وَنُسِبَ إلَى مَا يُنْسَبُ مِثْلُهُ إلَيْهِ . وَالتَّطْوِيلُ عَلَى الْحَضْرَةِ الْعَالِيَةِ لَا يَلِيقُ إنْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا قُطْبٌ فَهُوَ الْقُطْبُ عَلَى التَّحْقِيقِ قَدْ نَصَّبَ اللَّهُ السُّلْطَانَ أَعْلَى اللَّهُ شَأْنَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْصِبَ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ لَمَّا صَرَفَ اللَّهُ وُجُوهَ أَهْلِ الْبِلَادِ إلَيْهِ حِينَ أَمْحَلَتْ الْبِلَادُ وَاحْتَاجَ أَهْلُهَا إلَى الْقُوتِ الْمُدَّخَرِ لَدَيْهِ . وَالْحَاجَةُ بِالنَّاسِ الْآنَ إلَى قُوتِ الْأَرْوَاحِ الْمُشَارِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إلَيْهَا لَا خَفَاءَ
الزَّمَانِ إلَيْهَا لَا خَفَاءَ أَنَّهَا لِلْعُلُومِ الشَّرِيفَةِ وَالْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ . وَقَدْ كَانَتْ فِي بِلَادِ الْمَمْلَكَةِ السُّلْطَانِيَّةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى - تُكَالُ إلَيْنَا جُزَافًا بِغَيْرِ أَثْمَانٍ مِنْحَةً عَظِيمَةً مِنْ اللَّهِ لِلسُّلْطَانِ وَنِعْمَةً جَسِيمَةً إذْ خَصَّ بِلَادَ مَمْلَكَتِهِ وَإِقْلِيمَ دَوْلَتِهِ بِمَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ وَكَانَ قَدْ وَفَدَ الْوَافِدُونَ مِنْ سَائِر الْأَمْصَارِ إلَى تِلْكَ الدِّيَارِ ؛ فَوَجَدُوا صَاحِبَ صُوَاعِ الْمَلِكِ قَدْ رُفِعَ إلَى الْقِلَاعِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمِيزَةِ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبِلَادِ لِتُشْتَرَى أَوْ تُبَاعَ فَصَادَفَ ذَلِكَ جَدْبُ الْأَرْضِ وَنَوَاحِيهَا جَدْبًا أَعْطَبَ أَهَالِيهَا حَتَّى صَارُوا مِنْ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَى الْأَقْوَاتِ كَالْأَمْوَاتِ وَاَلَّذِي عَرَضَ لِلْمَلِكِ بِالتَّضْيِيقِ عَلَى صَاحِبِ صُوَاعِهِ مَعَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى غِذَاءِ الْأَرْوَاحِ لَعَلَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ مِنْ أَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَعْيَانِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَهَذِهِ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا } . وَأَمَّا إزْرَاءُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي فَتْوَاهُ وَجَوَابِهِ عَنْ مَسْأَلَةِ شَدِّ الرِّحَالِ إلَى الْقُبُورِ . فَقَدْ حَمَلَ جَوَابَ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْبِلَادِ إلَى نُظَرَائِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقُرَنَائِهِمْ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَكُلُّهُمْ أَفْتَى : أَنَّ الصَّوَابَ فِي الَّذِي بِهِ أَجَابَ .
وَالظَّاهِرُ
بَيْنَ الْأَنَامِ أَنَّ إكْرَامَ هَذَا الْإِمَامِ وَمُعَامَلَتَهُ
بِالتَّبْجِيلِ وَالِاحْتِرَامِ فِيهِ قِوَامُ الْمُلْكِ وَنِظَامُ الدَّوْلَةِ
وَإِعْزَازُ الْمِلَّةِ ؛ وَاسْتِجْلَابُ الدُّعَاءِ وَكَبْتُ الْأَعْدَاءِ
وَإِذْلَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ ؛ وَإِحْيَاءُ الْأُمَّةِ وَكَشْفُ
الْغُمَّةِ وَوُفُورُ الْأَجْرِ وَعُلُوُّ الذِّكْرِ وَرَفْعُ الْبَأْسِ وَنَفْعُ
النَّاسِ وَلِسَانُ حَالِ الْمُسْلِمِينَ تَالٍ قَوْلَ الْكَبِيرِ المتعال : {
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا
الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ
عَلَيْنَا إنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } . وَالْبِضَاعَةُ
الْمُزْجَاةُ : هِيَ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ الْمَرْقُومَةُ بِالْأَقْلَامِ
وَالْمِيزَةُ الْمَطْلُوبَةُ : هِيَ الْإِفْرَاجُ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ
وَاَلَّذِي حَمَلَ عَلَى هَذَا الْإِقْدَامِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {
الدِّينُ النَّصِيحَةُ } وَالسَّلَامُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الْكِرَامِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . هَذَا آخِرُ
هَذَا الْكِتَابِ .
قَالَ الْمُؤَلِّفُ : وَوَقَفْت عَلَى " كِتَابٍ آخَرَ " مِنْ بَغْدَادَ
أَيْضًا . صُورَتُهُ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى
أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ
وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ . اللَّهُمَّ فَكَمَا أَيَّدْت مُلُوكَ الْإِسْلَامِ وَوُلَاةَ الْأُمُورِ بِالْقُوَّةِ وَالْأَيْدِ وَشَيَّدْت لَهُمْ ذِكْرًا وَجَعَلْتهمْ لِلْمَقْهُورِ اللَّائِذِ بِجَنَابِهِمْ ذُخْرًا وَلِلْمَكْسُورِ الْعَائِذِ بِأَكْنَافِ بَابِهِمْ جَبْرًا فَاشْدُدْ اللَّهُمَّ مِنْهُمْ بِحُسْنِ مَعُونَتِك لَهُمْ أَزْرًا وَأَعْلِ لَهُمْ جَدًّا وَارْفَعْ قَدْرًا وَزِدْهُمْ عِزًّا وَزَوِّدْهُمْ عَلَى أَعْدَائِك نَصْرًا وَامْنَحْهُمْ تَوْفِيقًا مُسَدَّدًا وَتَمْكِينًا مُسْتَمِرًّا . وَبَعْدُ فَإِنَّهُ لَمَّا قَرَعَ أَسْمَاعَ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَشْرِقِيَّةِ وَالنَّوَاحِي الْعِرَاقِيَّةِ . التَّضْيِيقُ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ " أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة " سَلَّمَهُ اللَّهُ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَشَقَّ عَلَى ذَوِي الدِّينِ وَارْتَفَعَتْ رُءُوسُ الْمُلْحِدِينَ وَطَابَتْ نُفُوسُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْمُبْتَدِعِينَ وَلَمَّا رَأَى عُلَمَاءُ أَهْلِ هَذِهِ النَّاحِيَةِ عِظَمَ هَذِهِ النَّازِلَةِ مِنْ شَمَاتَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ بِأَكَابِرِ الْأَفَاضِلِ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ : أَنْهَوْا حَالَ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ وَالْأَمْرِ الشَّنِيعِ إلَى الْحَضْرَةِ الشَّرِيفَةِ السُّلْطَانِيَّةِ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا وَكَتَبُوا أَجْوِبَتَهُمْ فِي تَصْوِيبِ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ . سَلَّمَهُ اللَّهُ فِي فَتَاوَاهُ وَذَكَرُوا مَنْ عِلْمِهِ وَفَضَائِلِهِ بَعْضَ مَا هُوَ فِيهِ وَحَمَلُوا ذَلِكَ إلَى بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَانَا مَلِكِ الْأُمَرَاءِ . أَعَزَّ اللَّهُ أَنْصَارَهُ وَضَاعَفَ اقْتِدَاءَهُ غَيْرَةً مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَنَصِيحَةً لِلْإِسْلَامِ وَأُمَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ .
وَالْآرَاءُ الْمَوْلَوِيَّةِ الْعَالِيَةِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّهَا مَمْنُوحَةٌ بِالْهِدَايَةِ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَشْرَفُ التَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبَهُ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
مُخْتَصَرٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ
مَعَ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ .
وَقَبْلَ ذَلِكَ نَذْكُرُ " لَفْظَ الْجَوَابِ " لِيَتَبَيَّنَ مَا فِي
مُعَارَضَتِهِ مَا الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ وَلَفْظُ الْجَوَابِ بَعْدَ لَفْظِ
السُّؤَالِ.
وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ مُسْتَرْشِدٍ : يَسْأَلُ عَنْ السَّفَرِ إلَى قُبُورِ
الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ
وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ . وَقَدْ سَمِعَ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ
وَالْأَحَادِيثَ الْمُتَعَارِضَةَ وَلَمْ يَعْرِفْ صَحِيحَهَا مِنْ ضَعِيفِهَا .
فَقَالَ : مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ : فِي رَجُلٍ نَوَى "
زِيَارَةَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ " مِثْلِ نَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ فِي
سَفَرِهِ
أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الزِّيَارَةُ شَرْعِيَّةٌ أَمْ لَا ؟
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } و { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ
مَوْتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : {
لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } .
وَلَفْظُ الْجَوَابِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَصْرُ الصَّلَاةِ . عَلَى
قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ . أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِي
الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ
وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا سَفَرُ مَعْصِيَةٍ ؛ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بَطَّةَ وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ . وَطَوَائِفَ كَثِيرِينَ مِنْ
الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي مِثْلِ هَذَا
السَّفَرِ ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ السَّفَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ
لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ تُقْصَرُ
الصَّلَاةُ فِيهِ . وَهَذَا يَقُولُهُ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ
الْمُحَرَّمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ . وَيَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مِمَّنْ يُجَوِّزُ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ
قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي
مُحَمَّدٍ المقدسي وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ عبدوس
الْحَرَّانِي . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : { فَزُورُوا الْقُبُورَ } . وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } رَوَاهُ الدارقطني . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } فَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحْمَد وَلَمْ يَحْتَجَّ بِهِ أَحَدٌ ؛ وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ الدارقطني - وَقَدْ زَادَ فِيهَا الْمُجِيبُ حَاشِيَةً بَعْدَ ذَلِكَ - وَلَكِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي " كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ " لَا مُحْتَجًّا وَلَا مُعْتَضِدًا بِهِ وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو أَحْمَد بْنُ عَدِيٍّ فِي " كِتَابِ الضُّعَفَاءِ " لِيُبَيِّنَ ضَعْفَ رِوَايَتِهِ . فَذَكَرَهُ بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ شِبْلٍ الْبَاهِلِيِّ الْمِصْرِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : لَمْ يَرْوِهِ عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ هَذَا . يَعْنِي وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْآفَةَ مِنْ جِهَتِهِ . قَالَ يُونُسُ بْنُ هَارُونَ : كَانَ النُّعْمَانُ هَذَا مُتَّهَمًا . وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ : يَأْتِي
مِنْ الثِّقَاتِ بِالطَّامَّاتِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ - وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَدِّي عَنْ مَالِكٍ . ثُمَّ قَالَ : أَبُو الْفَرَجِ : قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : النُّعْمَانُ يَأْتِي عَنْ الثِّقَاتِ بِالطَّامَّاتِ . وَقَالَ الدارقطني الطَّعْنُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ ؛ لَا مِنْ نُعْمَانَ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } فَهَذَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ لَا بِإِسْنَادِ مَوْضُوعٍ وَلَا غَيْرِ مَوْضُوعٍ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ هَذَا لَمْ يُسْمَعْ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي زَمَنِ صَلَاحِ الدِّينِ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا لَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِضَادِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِمَادِ ؛ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ وَرَوَوْهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ الغاضري صَاحِبِ عَاصِمٍ - عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ فَزَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى الطَّعْنِ فِي حَدِيثِ حَفْصٍ هَذَا دُونَ قِرَاءَتِهِ . قَالَ البيهقي فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " رَوَى حَفْصُ بْنُ أَبِي دَاوُد - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ فَزَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي } . قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ حَفْصٍ : هَذَا لَيْسَ بِثِقَةِ وَهُوَ أَصَحُّ قِرَاءَةً مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَأَبُو بَكْرٍ أَوْثَقُ مِنْهُ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : كَانَ حَفْصٌ أَقْرَأَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ صَدُوقًا وَكَانَ حَفْصٌ كَذَّابًا . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : تَرَكُوهُ . وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ : مَتْرُوكٌ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ : ضَعِيفُ الْحَدِيثِ تَرَكْته عَلَى عَمْدٍ . وَقَالَ النَّسَائِي : لَيْسَ بِثِقَةِ وَلَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَقَالَ مَرَّةً : مَتْرُوكٌ وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ : لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا مَنَاكِيرُ . وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : ضَعِيفُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي : لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ لَا يُصَدَّقُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خِرَاشٍ : هُوَ كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ . وَقَالَ الْحَاكِمُ : أَبُو أَحْمَد ذَاهِبُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : عَامَّةُ أَحَادِيثِهِ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ . وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ آخَرُ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِي وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ هِلَالٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } قَالَ البيهقي : وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ قِيلَ عَنْ مُوسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ . قَالَ : وَسَوَاءٌ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عُبَيْدُ اللَّهِ
فَهُوَ مُنْكَرٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ؛ لَمْ يَأْتِ بِهِ غَيْرُهُ . وَقَالَ العقيلي فِي مُوسَى بْنِ هِلَالٍ : هَذَا لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي : هُوَ مَجْهُولٌ . وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النواوي فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي إسْحَاقَ : وَتُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } . قَالَ النواوي : أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِي وَالدَّارَقُطْنِي وَالْبَيْهَقِي بِإِسْنَادَيْنِ ضَعِيفَيْنِ جِدًّا . قَالَ الْمُجِيبُ فِي تَمَامِ الْجَوَابِ : وَقَدْ احْتَجَّ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْمَسَاجِدِ بِأَنَّهُ كَانَ يَزُورُ قُبَاء وَأَنَّهُ كَانَ يَزُورُ الْقُبُورَ وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْي الِاسْتِحْبَابِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } وَهَذَا الْحَدِيثُ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ . فَلَوْ نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَسْجِدِ أَوْ بِمَشْهَدِ أَوْ يَعْتَكِفَ فِيهِ أَوْ يُسَافِرَ إلَيْهِ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ أَوْ يَأْتِيَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لِصَلَاةِ أَوْ اعْتِكَافٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِكُلِّ طَاعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَالسَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ طَاعَةٌ ؛ فَلِهَذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ . وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّفَرَ إلَيْهَا إذَا نَذَرَهُ . حَتَّى نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَافَرُ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاء تُسْتَحَبُّ زِيَارَتُهُ لِمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَدِّ رَحْلٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاء لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ كَعُمْرَةِ } - وَفِي الْحَاشِيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كالنَّسَائِي وَابْنِ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ . قَالَ : وَقَالُوا : وَلِأَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةَ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . فَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَفَعَلَهَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ . وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ الصُّغْرَى " مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ .
وَبِهَذَا يَظْهَرُ ضَعْفُ حُجَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي ؛ لِأَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِ قُبَاء لَمْ تَكُنْ بِشَدِّ رَحْلٍ وَالسَّفَرَ إلَيْهِ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ . وَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ عَنْهُ جَوَابَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا تَسْلِيمٌ مِنْهُ أَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ الْحَسَنَاتِ . فَإِذًا مَنْ اعْتَقَدَ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَإِذَا سَافَرَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا طَاعَةٌ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يُسَافِرُ إلَيْهَا إلَّا لِذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ سَافَرَ إلَيْهَا لِغَرَضِ مُبَاحٍ فَهَذَا جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَقْتَضِي النَّهْيَ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ . وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ . لَمْ يُخَرِّجْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ الْمُعْتَمَدَةِ شَيْئًا مِنْهَا وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِشَيْءِ مِنْهَا بَلْ مَالِكٌ إمَامُ أَهِلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَشْرُوعًا أَوْ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْرَهْهُ عَالِمُ الْمَدِينَةِ . وَالْإِمَامُ أَحْمَد أَعْلَمُ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ : لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ إلَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ . وَكَذَلِكَ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ رَأَى رَجُلًا يَخْتَلِفُ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالْأَنْدَلُسِ مِنْهُ إلَّا سَوَاءٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ ؛ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا وَهُمْ دَفَنُوهُ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ خِلَافَ مَا
اعْتَادُوهُ
مِنْ الدَّفْنِ فِي الصَّحْرَاءِ ؛ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عِنْدَ قَبْرِهِ
وَيَتَّخِذُهُ مَسْجِدًا فَيُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا . وَكَانَ الصَّحَابَةُ
وَالتَّابِعُونَ لَمَّا كَانَتْ " الْحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ "
مُنْفَصِلَةً عَنْ الْمَسْجِدِ إلَى زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا
يَدْخُلُ عِنْدَهُ أَحَدٌ لَا لِصَلَاةِ هُنَاكَ وَلَا لِتَمَسُّحِ بِالْقَبْرِ
وَلَا دُعَاءٍ هُنَاكَ بَلْ هَذَا جَمِيعُهُ إنَّمَا يَفْعَلُونَهُ فِي
الْمَسْجِدِ كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا سَلَّمُوا
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادُوا الدُّعَاءَ
دَعَوْا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ لَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقَبْرَ .
وَأَمَّا وُقُوفُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْتَقْبِلُ
الْقِبْلَةَ أَيْضًا لَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ
: بَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ خَاصَّةً . وَلَمْ
يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ الدُّعَاءِ - أَيْ
الدُّعَاءِ الَّذِي يَقْصِدُهُ لِنَفْسِهِ - إلَّا فِي حِكَايَةٍ مَكْذُوبَةٍ
تُرْوَى عَنْ مَالِكٍ وَمَذْهَبُهُ بِخِلَافِهَا . وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ
لَا يَمَسُّ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا
يُقَبِّلُهُ . وَهَذَا كُلُّهُ مُحَافَظَةً عَلَى التَّوْحِيدِ . فَإِنَّ مِنْ
أُصُولِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ اتِّخَاذَ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ كَمَا قَالَ
طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ
آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْرًا } قَالُوا : هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ
فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَعَبَدُوهُمْ . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْمَعْنَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ كَمَا ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ هَذِهِ الْأَوْثَانَ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ وَذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ فِي " قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ " مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ . وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ - مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ - الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ الْمَسَاجِدَ وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ : الَّتِي يُشْرَكُ فِيهَا وَيُكَذَّبُ فِيهَا " وَيُبْتَدَعُ فِيهَا دِينٌ لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ الْمَسَاجِدِ دُونَ الْمَشَاهِدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ
فَإِنِّي
أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَهَذِهِ أَلْفَاظُ الْمُجِيبِ .
فَلْيَتَدَبَّرْ الْإِنْسَانُ مَا تَضَمَّنَتْهُ وَمَا عَارَضَ بِهِ هَؤُلَاءِ
الْمُعَارِضُونَ مِمَّا نَقَلُوهُ عَنْ الْجَوَابِ وَمَا ادَّعَوْا أَنَّهُ
بَاطِلٌ : هَلْ هُمْ صَادِقُونَ مُصِيبُونَ فِي هَذَا ؟ أَوْ هَذَا ؟ أَوْ هُمْ
بِالْعَكْسِ ؟ وَالْمُجِيبُ أَجَابَ بِهَذَا مِنْ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً :
بِحَسَبِ حَالِ هَذَا السَّائِلِ وَاسْتِرْشَادِهِ وَلَمْ يَبْسُطْ الْقَوْلَ
فِيهَا وَلَا سَمَّى كُلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا
الْقَوْلِ بِحَسَبِ مَا تَيَسَّرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ . وَإِلَّا فَهَذَانِ
الْقَوْلَانِ مَوْجُودَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي شُرُوحِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ
الثَّلَاثَةِ - وَإِنْ كَانَ قَبْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ
أَصْحَابِ أَحْمَد . الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَعْنَاهُ بِتَحْرِيمِ السَّفَرِ إلَى
غَيْرِ الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : قَبْرُ نَبِيِّنَا لَمْ
يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ . ثُمَّ لِهَذَا الْقَوْلِ مَأْخَذَانِ . أَحَدُهُمَا :
أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ سَفَرٌ إلَى مَسْجِدِهِ . وَهَذَا الْمَأْخَذُ هُوَ
الصَّحِيحُ . وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ .
وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي : أَنَّ نَبِيَّنَا لَا يُشَبَّهُ بِغَيْرِهِ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ
طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّهُ يُحْلَفُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ : حُكْمُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَحُكْمِهِ : قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْحَلِفِ بِهِمْ وَقَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ . وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ . وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد قَالُوا : الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَنَفْيُ الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ ؛ لَا نَفْيُ الْجَوَازِ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي الْمَعَالِي وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَمَنْ وَافَقَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . فَهَذَانِ هُمَا الْقَوْلَانِ الْمَوْجُودَانِ فِي كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ : ذَكَرَهُمَا الْمُجِيبُ وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا مَعْرُوفًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْكُتُبِ قَالَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلًا ثَالِثًا لَحَكَاهُ ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَإِلَى الْآنَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَطْلَقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ الْقَوْلَ بِاسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمُجِيبُ نِزَاعًا فِي الْجَوَابِ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَالْمُسَافِرُ إلَى قَبْرِهِ لَا بُدَّ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالشَّرِيعَةِ أَنْ يَقْصِدَ السَّفَرَ إلَى
مَسْجِدِهِ فَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ ؛ فَإِنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا كَانَ عَمَّنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ وَالْعَالِمُ بِالشَّرِيعَةِ لَا يَقَعُ فِي هَذَا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ اسْتَحَبَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ وَهُوَ يُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِهِ . فَكَيْفَ لَا يَقْصِدُ السَّفَرَ إلَيْهِ فَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَهُ وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْقَصْدُ مَعَ الْجَهْلِ . إمَّا مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ مُسْتَحَبٌّ كَوْنُهُ مَسْجِدَهُ لَا لِأَجْلِ الْقَبْرِ وَإِمَّا مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إنَّمَا يَصِلُ إلَى مَسْجِدِهِ . فَأَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْأَمْرَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ . وَلِهَذَا كَانَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ حُكْمٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْقُبُورِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأَهْلُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ يَجْعَلُونَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَتِهِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ لَهُمْ مِنْ السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ . يُسَافِرُونَ إلَيْهِ لِيَدْعُوهُ وَيَدْعُوا عِنْدَهُ وَيَدْخُلُوا إلَى قَبْرِهِ وَيَقْعُدُوا عِنْدَهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ مَسْجِدٌ بُنِيَ لِأَجْلِ الْقَبْرِ فَيُصَلُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ تَعْظِيمًا لِصَاحِبِ الْقَبْرِ وَهَذَا مِمَّا لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى فِعْلِهِ وَنَهَى أُمَّتَهُ عَنْ فِعْلِهِ فَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ
عَنْ ذَلِكَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمْ يَعْرِفْ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ . وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ الَّذِي صَنَّفَهُ هَذَا الْمُعْتَرِضُ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَبَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالِافْتِرَاءِ . فَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَوَابِ : إنَّهُ ظَهَرَ لِي مِنْ صَرِيحِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَفَحْوَاهُ وَمَقْصِدِهِ إلَيَّ وَمَغْزَاهُ : وَهُوَ تَحْرِيمُ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرِ الْقُبُورِ وَالسَّفَرِ إلَيْهَا وَدَعْوَاهُ أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا . فَيُقَالُ : مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ رَأَى الْجَوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ ؛ لَا قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ بِسَفَرِ ؛ وَلَا فِيهِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ ؛ بَلْ قَدْ صَرَّحَ بِالْخِلَافِ فِي ذَلِكَ . فَكَيْفَ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ نَفْسَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ مُطْلَقًا مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا فَهَذَا افْتِرَاءٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَابِ ؛ ثُمَّ إنَّهُ تَنَاقَضَ فِي ذَلِكَ فَحَكَى بَعْدَ هَذَا عَنْ الْمُجِيبِ أَنَّهُ حَكَى الْخِلَافَ فِي جَوَازِ السَّفَرِ . ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ : إنَّ مَا ادَّعَاهُ مُجْمَعٌ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ وَأَنَّهُ يُنَاقِضُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي يُنَاقِضُ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ . وَأَمَّا الْمُجِيبُ
فَحَكَى
قَوْلَهُمْ فِي جَوَازِ السَّفَرِ وَأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
بِقُرْبَةِ وَلَا طَاعَةٍ . فَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ
وَإِذَا فَعَلَهُ لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ طَاعَةٌ كَانَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ
فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً . هَذَا لَفْظُ الْجَوَابِ
.
وَمَعْلُومٌ فِي كُلِّ عَمَلٍ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ
أَوْ مُبَاحٌ لَيْسَ بِقُرْبَةِ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ قُرْبَةً فَقَدْ خَالَفَ
الْإِجْمَاعَ وَإِذَا فَعَلَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا
بِالْإِجْمَاعِ كَمَا لَوْ تَقَرَّبَ بِلَعِبِ النَّرْدِ وَالشَّطْرَنْجِ وَبَيْعِ
الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْحُشُوشِ
وَاسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْمَعَازِفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لِلنَّاسِ فِيهِ
قَوْلَانِ التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا قُرْبَةٌ .
فَاَلَّذِي يَجْعَلُهُ عِبَادَةً يَتَقَرَّبُ بِهِ كَمَا يَتَقَرَّبُ
بِالْعِبَادَاتِ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ . وَهَذَا يُشْبِهُ
التَّقَرُّبَ بِالْمَلَاهِي وَالْمَعَازِفِ ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَبَعْضُهُمْ أَبَاحَهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا
قُرْبَةٌ . فَقَائِلُ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ ؛ وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ
زِنْدِيقٌ : مِثْلُ مَا حَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي عَنْ ابْنِ
الراوندي أَنَّهُ قَالَ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْغِنَاءِ هَلْ هُوَ
حَرَامٌ أَوْ حَلَالٌ وَأَنَا أَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا
لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ
بِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَالتَّغْبِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُمْ مُخْطِئُونَ عِنْدَ
عَامَّةِ الْأَئِمَّةِ ؛ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ
الْغِنَاءَ قُرْبَةٌ
مُطْلَقًا وَلَكِنْ يَقُولُهُ فِي صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِينَ يُحَرِّكُونَ قُلُوبَهُمْ بِهَذَا السَّمَاعِ إلَى الطَّاعَاتِ فَيُحَرِّكُونَ بِهِ وَجْدَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ وَوَجْدَ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَالتَّرْهِيبِ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ إنَّهُ قُرْبَةٌ مَعَ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لَوْ جُعِلَ هَذَا قُرْبَةً ؛ لِكَوْنِهِ بِدْعَةً لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةَ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَفَاسِدَ رَاجِحَةٍ عَلَى مَا ظَنُّوهُ مِنْ الْمَصَالِحِ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا مَنَافِعُ لِلنَّاسِ فَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا . وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الْقَتْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } وَنَهَى عَنْ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَعَنْ : " الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُبِيحُهَا قَطُّ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلَا فِي شِرْعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ . وَتَحْرِيمُ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَهَذَا الضَّرْبُ تُبِيحُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِهِ . وَالْفُقَهَاءُ إنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْخَمْرِ هَلْ تُشْرَبُ لِلْعَطَشِ . لِتَنَازُعِهِمْ فِي
كَوْنِهَا تُذْهِبُ الْعَطَشَ وَالنَّاهِي قَالَ : لَا تَزِيدُ الشَّارِبَ إلَّا عَطَشًا فَلَا يَحْصُلُ بِهِ بَقَاءُ الْمُهْجَةِ . وَالْمُبِيحُ يَقُولُ بَلْ قَدْ تُرَطِّبُ رُطُوبَةً تَبْقَى مَعَهَا الْمُهْجَةُ وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ الْمَأْخَذَيْنِ كَانَ هُوَ الْوَاقِعَ كَانَ قَوْلُ صَاحِبِهِ أَصْوَبَ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ كَانَ مَنْ جَعَلَهُ قُرْبَةً مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَمَنْ أَحْدَثَ قَوْلًا ثَالِثًا فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَهُمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اسْتِمَاعَ الْغِنَاءِ قُرْبَةٌ مُطْلَقًا وَإِنْ قَالَ إنَّ سَمَاعَ الْقَوْلِ الَّذِي شُرِطَ لَهُ الْمَكَانُ وَالْإِمْكَانُ وَالْإِخْوَانُ - وَهُوَ تَرْغِيبٌ فِي الطَّاعَاتِ وَتَرْهِيبٌ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ - قُرْبَةٌ فَلَا يَقُولُ قَطُّ إنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ الْمَلَاهِيَ فَهُوَ مُتَقَرِّبٌ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : إنَّ السَّفَرَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُرْبَةٌ وَإِنَّهُ إذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَنَّهُ يَفِي بِهَذَا النَّذْرِ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْبَةٌ أَوْ قَالُوا هُوَ قُرْبَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا : فَهَذَا حَقٌّ إذَا عُرِفَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا : فَمُرَادُهُمْ السَّفَرُ الْمَشْرُوعُ إلَى مَسْجِدِهِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي تُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَكْرَهُونَ أَنْ تُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ . فَهَذَا الْإِجْمَاعُ
عَلَى هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ . وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِالنَّهْيِ عَنْهُ أَوْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ وَلَا طَاعَةٍ . وَالسَّفَرُ لِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ قَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : كَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمَا : أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ لَا يَفْعَلُهُ لَا نَاذِرٌ وَلَا مُتَطَوِّعٌ وَصَرَّحُوا بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ هُوَ مِنْ السَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَإِنْ نَذَرَهُ سَوَاءٌ سَافَرَ لِزِيَارَةِ أَيِّ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ قَبْرٍ مِنْ قُبُورِهِمْ أَوْ قُبُورِ غَيْرِهِمْ أَوْ مَسْجِدٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ : فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ السَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؛ فَكَيْفَ يَقُولُونَ : إنَّهُ قُرْبَةٌ ؛ وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً لَا يُنَاقِضُ النِّزَاعَ فِي الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ . وَهَذَا الْإِجْمَاعُ الْمَحْكِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَا يَقْدَحُ فِيهِ خِلَافُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إنْ وُجِدَ ؛ وَلَكِنْ إنْ وُجِدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصُّلَحَاءِ الْمَعْرُوفِينَ مِنْ السَّلَفِ قَالَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَوْ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَانَ هَذَا قَادِحًا فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ وَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ؛ وَلَكِنَّ الَّذِي يَحْكِي الْإِجْمَاعَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ كَثِيرًا لِكَثِيرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ يُرَدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ إلْزَامُ النَّاسِ بِهِ بِلَا حُجَّةٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ
:
وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ الزِّيَارَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي قَبْرِ غَيْرِهِ حَتَّى
يَحْتَجَّ عَلَيْهَا بِزِيَارَةِ الْبَقِيعِ وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ وَزِيَارَةِ قَبْرِ
أُمِّهِ . وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَ مَنْ حَرَّمَ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ
وَسَائِرِ الْقُبُورِ مُجَاهِرًا بِالْعَدَاوَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ مُظْهِرًا لَهُمْ
الْعِنَادَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ :
كَمَالِكِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ والجُوَيْنِي أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِ أَحْمَد .
فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ
مُجَاهِرِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْعَدَاوَةِ مُعَانِدِينَ لَهُمْ : وَهَذَا لَوْ
قَالَهُ فِيمَا أَخْطَئُوا فِيهِ لَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ ؛
فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِيمَا اتَّبَعُوا فِيهِ الرَّسُولَ وَاتَّبَعُوا فِيهِ
سُنَّتَهُ الصَّحِيحَةَ فَحَرَّمُوا مَا حَرَّمَ . فَقَدْ جَعَلَ الْمُطِيعَ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ الَّذِي رَضِيَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ عَمَلَهُ
مُجَاهِرًا لَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ مُعَانِدًا لَهُمْ . فِي كُفْرِ مَنْ حَكَمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِيمَانِهِ . وَمِثْلُ هَذَا يُبَيِّنُ لَهُ الصَّوَابَ
وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
الرَّسُولُ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ثُمَّ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ بِكُفْرِ بَلْ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ سَائِغٌ وَقَائِلُهُ مُجْتَهِدٌ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَبَيَّنَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ : فَأَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَمَنْ جَعَلَ اعْتِقَادَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ مُعَادَاةً لِلْمَسِيحِ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ مَنْ قَالَ : لَا تَحْلِفْ بِالْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ عَادَاهُمْ وَكَفَرَ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يُسْتَتَابُ . وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا مَالِكٌ إمَامُهُ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي كُتُبِهِمْ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَهُوَ لَمْ يُعْرَفْ مِمَّا قَالُوا بَلْ يَكْفُرُ وَيُلْعَنُ وَيُشْتَمُ مَنْ قَالَ بِنَفْسِ الْقَوْلِ الَّذِي قَالُوهُ فَيَلْزَمُهُ تَكْفِيرُهُمْ وَسَبُّهُمْ وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ . وَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : وَرَدَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَغَيْرُهَا مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ ؛ لَكِنَّهَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ
الشَّرْعِيَّةِ
. وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا مَا
قَالَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرافضي الَّذِي
يَقُولُ : قَدْ رُوِيَ فِي النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ الْإِمَامُ بَعْدَ
رَسُولِ اللَّهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَأُخَرُ دُونَهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ زِيَارَةِ قَبْرِهِ لَمْ يُخَرِّجْ شَيْئًا
مِنْهَا أَهْلُ الصَّحِيحِ وَلَا السُّنَنِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا : كَسُنَنِ
أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ ؛ وَلَا الْمَسَانِيدِ الَّتِي هِيَ مِنْ هَذَا
الْجِنْسِ : كَمُسْنَدِ أَحْمَد . وَلَا اسْتَدَلَّ بِشَيْءِ مِنْهَا إمَامٌ ؛
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا حَدِيثًا وَاحِدًا فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَعْزُوَهُ إلَى كِتَابٍ . وَقَوْلُهُ : إنَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ
الصَّحِيحِ مِنْهَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا . إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ
حَسَنَةً عِنْدَ مَنْ قَسَّمَ الْحَدِيثَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ وَهَذَا
مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِحُسْنِهَا وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ لَمْ يَحْكُمُوا
بِذَلِكَ وَهُوَ وَأَمْثَالُهُ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ . فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ
مِنْ أَعْظَمِ الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ فِي الدِّينِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى سُنَّةِ
رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ : بِأَنْ يُدْخِلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا بِالْجَهْلِ
وَالضَّلَالِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا
ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ ؛ بَلْ حَكَمُوا بِأَنَّهُ كَذِبٌ
مَوْضُوعٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي
غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ " الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ
" الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهَا
وَمَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ ؛ كَالصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ
وَبَيْنَ
مَا ابْتَدَعَهُ الضَّالُّونَ مِنْ الْإِشْرَاكِ بِالْمَيِّتِ وَالْحَجِّ إلَى
قَبْرِهِ وَدُعَائِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَقْصُودُهُ بِزِيَارَتِهِ وَالسَّفَرِ
إلَيْهِ أَنَّهُ يَدْعُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؛ لَا أَنَّهُ يَدْعُو لَهُ .
وَهَذِهِ الزِّيَارَةُ لَمْ يَفْعَلْهَا الرَّسُولُ وَلَا أَذِنَ فِيهَا قَطُّ ؛
فَكَيْفَ بِالسَّفَرِ إلَيْهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ إلَى الطَّوَاغِيتِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَ زِيَارَةَ الْمَيِّتِ كَزِيَارَتِهِ حَيًّا وَاسْتَدَلَّ
بِحَدِيثِ { الَّذِي زَارَ أَخًا لَهُ فِي الْحَيَاةِ } عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
زِيَارَةُ الْمَيِّتِ وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ وَالْقِيَاسُ مَا عُرِفَتْ عَنْ
أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ
الصَّحَابَةَ الَّذِينَ سَافَرُوا إلَى الرَّسُولِ فَسَاعَدُوهُ وَسَمِعُوا
كَلَامَهُ وَخَاطَبُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَجَابَهُمْ وَعَلَّمَهُمْ وَأَدَّبَهُمْ
وَحَمَّلَهُمْ رَسَائِلَ إلَى قَوْمِهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ :
لَا يَكُونُ مِثْلَهُمْ أَحَدٌ بِالْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ : كَالْجِهَادِ
وَالْحَجِّ . فَكَيْفَ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ ظَاهِرِ حُجْرَتِهِ
مِثْلَهُمْ أَوْ تُقَاسُ هَذِهِ الزِّيَارَةُ بِهَذِهِ الزِّيَارَةِ فَقَدْ ثَبَتَ
بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا يُفْعَلُ مِنْ الْأَعْمَالِ
الصَّالِحَةِ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ حُجْرَتِهِ مِنْ صَلَاةٍ عَلَيْهِ وَسَلَامٍ
وَثَنَاءٍ وَإِكْرَامٍ وَذِكْرِ مَحَاسِنَ وَفَضَائِلَ : مُمْكِنٌ فِعْلُهُ فِي
سَائِرِ الْأَمَاكِنِ وَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ
كَمَا قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ
صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ } . وَلَوْ كَانَ لِلْأَعْمَالِ عِنْدَ
الْقَبْرِ فَضِيلَةٌ لَفَتَحَ لِلْمُسْلِمِينَ بَابَ الْحُجْرَةِ ؛ فَلَمَّا
مُنِعُوا مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْقَبْرِ
وَأُمِرُوا بِالْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ : عُلِمَ أَنَّ فَضِيلَةَ الْعَمَلِ فِيهِ لِكَوْنِهِ فِي مَسْجِدِهِ كَمَا أَنَّ صَلَاةً فِي مَسْجِدِهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ وَلَمْ يَأْمُرْ قَطُّ بِأَنْ يُقْصَدَ بِعَمَلِ صَالِحٍ أَنْ يُفْعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْهَا افْتِرَاؤُهُ عَلَى الْمُجِيبِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ افْتِرَاءً ظَاهِرًا وَسَبَبُ افْتِرَائِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَرَجَّحَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ لِكَوْنِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ تُوَافِقُهُمْ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ مُعَادَاةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ إذْ كُلُّ مَنْ عَادَى سُنَّتَهُ وَشَرِيعَتَهُ وَدِينَهُ فَقَدْ عَادَاهُ وَمَنْ عَادَى شَخْصًا لِأَجْلِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا عَادَى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ . فَكَيْفَ يَجُوزُ الْكَذِبُ وَالِافْتِرَاءُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَهُوَ كَذِبٌ ظَاهِرٌ . وَلَوْ كَانَ الْمُجِيبُ مُخْطِئًا لَمَا جَازَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ وَالِافْتِرَاءَ حَرَامٌ مُطْلَقًا . وَاَللَّهُ أَوْجَبَ الصِّدْقَ وَالْعَدْلَ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ مِنْ الْأَقْوَالِ هِيَ أَقْوَالُ الْمُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُعْتَرِضُ الْقَادِحُ فِيهِمْ وَفِيمَا قَالُوهُ الشَّاتِمُ الْمُكَفِّرُ لِمَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَطَاعَهُ وَاتَّبَعَهُ عَلَى نَفْسِ مَا هُوَ مُتَابَعَةٌ لِلرَّسُولِ وَإِيمَانٌ بِهِ : قَوْلُهُ هَذَا الْمُتَضَمِّنُ عَدَاوَةَ الرَّسُولِ وَعَدَاوَةَ مَا جَاءَ بِهِ وَعَدَاوَةَ مَنْ اتَّبَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ . فَقَوْلُهُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ مِنْ جِنْسِ أَقْوَالِ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمُوَالِينَ لِأَهْلِ
الْإِفْكِ وَالشِّرْكِ الْمُضَاهِينَ لِلنَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُمْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ ؛ لِقِلَّةِ الْعِلْمِ وَسُوءِ الْفَهْمِ وَالْبُعْدِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ . بَلْ هُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ يَتَكَلَّمُونَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْكَلَامِ صَاحِبُهَا إلَى الِاسْتِتَابَةِ وَالتَّعْزِيرِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّفْهِيمِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ وَالْمُنَاظَرَةِ لَهُ كَمَا يُوجَدُ فِي جُهَّالِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُسَارِعُ إلَى تَكْفِيرِ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ مَنْ السَّلَفِ ؛ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَسُوءِ فَهْمِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ بِدْعَةً بِجَهْلِهِمْ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَتَّبِعُونَ سُنَّةَ الرَّسُولِ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ وَيَعْدِلُونَ فِيهِمْ وَيَعْذُرُونَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ ؛ إنَّمَا يَذُمُّونَ مَنْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ وَالْمُعْتَدِي الْمُتَّبِعُ لِهَوَاهُ بِلَا عِلْمٍ لِفِعْلِهِ الْمُحَرَّمَ . فَيَذُمُّونَ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ أَوْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ ؛ وَلَا يُعَاقِبُونَهُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } لَا سِيَّمَا فِي مَسَائِلَ تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ وَخَفِيَ الْعِلْمُ فِيهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ وَمَنْ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ بِطَرِيقَةِ أَهْلِ
الْعِلْمِ بَلْ جَازَفَ فِي الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ . فَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَصْلُحُ لِلْمُنَاظَرَةِ ؛ إلَّا كَمَا يُنَاظَرُ جُهَّالُ الْعَوَامِّ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُضَاهِينَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَنْ قَالَ الْحَقَّ فِي الْمَخْلُوقِ سَابًّا لَهُ شَاتِمًا وَهُمْ يَسُبُّونَ اللَّهَ وَيَشْتُمُونَهُ وَيُؤْذُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ مَنْ سَبِّ الْخَالِقِ وَشَتْمِهِ وَالشِّرْكِ بِهِ مَا يَخَافُونَهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ لَهُمْ : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ : { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } فَلَا يَغْضَبُونَ مَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ بِالْبَاطِلِ كَمَا يَغْضَبُونَ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِالْحَقِّ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ . } وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : { أَنَّ النَّصَارَى - نَصَارَى نَجْرَانَ -
لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَذْكُرْ صَاحِبَنَا ؟ قَالَ : وَمَنْ صَاحِبُكُمْ ؟ قَالُوا : عِيسَى قَالَ : وَأَيُّ شَيْءٍ أَقُولُ لَهُ ؟ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ . قَالُوا : بَلْ هُوَ اللَّهُ فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِعَارِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ . فَقَالُوا : بَلَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنْ اللَّهِ ؛ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ : شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَكَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ . فَأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ إنِّي اتَّخَذْت وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ . وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ : لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَن عَلَيَّ مِنْ إعَادَتِهِ } وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ عَنْ النَّصَارَى : لَا تَرْحَمُوهُمْ فَلَقَدْ سَبُّوا اللَّهَ مسبة مَا سَبَّهُ إيَّاهَا أَحَدٌ مِنْ الْبَشَرِ . فَهَؤُلَاءِ يَنْتَقِصُونَ الْخَالِقَ وَيَأْنَفُونَ أَنْ يُذْكَرَ الْمَخْلُوقُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَنْقِيصًا لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ إعْطَاؤُهُ حَقَّهُ وَخَفْضٌ لَهُ عَنْ دَرَجَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ قُرْبَةً جَازَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ
وَهَذَا
مِنْ أَظْهَرِ الْخَطَأِ .
وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ السَّفَرِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ بَلْ إنَّمَا نَقَلَهُ الْمُجِيبُ إنْ صَحَّ نَقْلُهُ
عَمَّنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ . وَهُوَ نَصُّ
مَالِكٍ الصَّرِيحِ فِي خُصُوصِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ
أَصْحَابِهِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ . وَمِنْهَا زَعْمُهُ أَنَّ
الَّذِينَ حَكَى الْمُجِيبُ قَوْلَهُمْ - وَهُمْ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ عبدوس
وَأَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي - لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ سِوَاهُمْ وَلَا
يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لِمَنْ عَدَاهُمْ ؛ وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُقَالُ
فِي أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ
مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ ؛ إلَّا صَاحِبَ الشَّرْعِ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ
يُقَالَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ
أَنَّ النَّبِيَّ يَسْمَعُ مِنْ الْقُرْبِ وَيُبَلَّغُ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ
مِنْ الْبُعْدِ : لَمْ يَذْكُرْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْحِسَانِ
الَّتِي فِي السُّنَنِ ؛ بَلْ إنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ { مَنْ
صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْته وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا بُلِّغْته
} وَهَذَا إنَّمَا يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السدي عَنْ الْأَعْمَشِ .
وَهُوَ كَذَّابٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْأَعْمَشِ
بِإِجْمَاعِهِمْ . ثُمَّ قَدْ غَيَّرَ لَفْظَهُ . فَفِي النُّسْخَةِ الَّتِي
رَأَيْتهَا مُصَحَّحًا : { وَمَنْ
صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا سَمِعْته } وَإِنَّمَا لَفْظُهُ { بُلِّغْته } وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مُسْنَدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ نَقْلٌ مِنْهُ . وَمَنْ يَحْتَجُّ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ وَيُعْرِضُ عَنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ السُّنَنِ الْحِسَانِ فَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ . وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّفَ لَفْظَهُ فَهُوَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمَلَاحِدَةِ فِي قَوْلِهِ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ } الْحَدِيثُ فَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ . وَمَعَ هَذَا فَحَرَّفُوا لَفْظَهُ فَقَالُوا : أَوَّلُ بِالضَّمِّ وَلَفْظُهُ { أَوَّلَ مَا خَلَقَ } بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ كَمَا رُوِيَ " لَمَّا خَلَقَ " . وَمِنْهَا أَنَّهُ احْتَجَّ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ ؛ وَظَنَّ أَنَّ الْجَوَابَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْجَوَابِ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ طَاعَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا يُسَمَّى بِزِيَارَةِ لِقَبْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَحَبَّةِ : مِثْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ بِالْوَسِيلَةِ وَغَيْرِهَا وَالشَّهَادَةِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَتَعْزِيرِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الزِّيَارَةِ : فَهَذَا كُلُّهُ مُسْتَحَبٌّ . وَالْمُجِيبُ يُصَرِّحُ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسَمَّى هَذَا زِيَارَةً ؟ وَذَكَرَ تَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . فَذَكَرَ جَوَازَ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَزِيَارَةِ قَبْرِهِ وَذَكَرَ بَعْضَ مَا
تُنُوزِعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ . وَهَذَا ظَنَّ أَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ نَبِيِّنَا كَالسَّفَرِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ مَسْجِدَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ وَالسَّفَرَ إلَيْهِ مَشْرُوعٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ زِيَارَتَهُ كَمَا يُزَارُ غَيْرُهُ مُمْتَنِعَةٌ وَإِنَّمَا يَصِلُ الْإِنْسَانُ إلَى مَسْجِدِهِ وَفِيهِ يَفْعَلُ مَا شُرِعَ لَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْرُ نَبِيِّنَا يُزَارُ كَمَا تُزَارُ الْقُبُورُ لَكَانَ أَهْلُ مَدِينَتِهِ أَحَقَّ النَّاسِ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَدِينَةٍ أَحَقُّ بِزِيَارَةِ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَدِينَتِهِ لَا يَزُورُونَ قَبْرَهُ بَلْ وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَهُ لِلسَّلَامِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَخَرَجُوا . وَإِنْ لَمْ يُسَمَّى هَذَا زِيَارَةً بَلْ يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ السَّفَرِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَفْعَلُونَهُ : عُلِمَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ زِيَارَةَ قَبْرِهِ مَشْرُوعَةً كَزِيَارَةِ قَبْرِ غَيْرِهِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ قَبْرُهُ عِيدًا وَأَمَرَ الْأُمَّةَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَتُسَلِّمَ حَيْثُ مَا كَانَتْ وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يَبْلُغُهُ . فَلَمْ يَكُنْ تَخْصِيصُ الْبُقْعَةِ بِالدُّعَاءِ لَهُ مَشْرُوعًا ؛ بَلْ يُدْعَى لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ وَعِنْدَ كُلِّ
أَذَانٍ
وَفِي كُلِّ صَلَاةٍ وَعِنْدَ دُخُولِ كُلِّ مَسْجِدٍ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ
بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَهَذَا لِعُلُوِّ قَدْرِهِ وَارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ .
فَقَدْ خَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الْفَضِيلَةِ . بِمَا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ
؛ لِئَلَّا يُجْعَلَ قَبْرُهُ مِثْلَ سَائِرِ الْقُبُورِ ؛ بَلْ يُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَيُبَيَّنُ فَضْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ
وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى أُمَّتِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَلْزَمْ مِنْ دَعْوَاهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ
عَلَى تَحْرِيمِهِ أَنْ يَكُونَ السَّادَةُ الصَّحَابَةُ مَعَ التَّابِعِينَ
وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ لِلْإِجْمَاعِ خَارِقِينَ
مُصِرِّينَ عَلَى تَقْرِيرِ الْحَرَامِ مُرْتَكِبِينَ بِأَنْفُسِهِمْ
وَفَتَاوِيهِمْ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْإِقْدَامُ مُجْمِعِينَ عَلَى
الضَّلَالَةِ سَالِكِينَ طَرِيقَ العماية وَالْجَهَالَةِ . وَفِي هَذَا الْكَلَامِ
مِنْ الْجَهْلِ بِالشَّرِيعَةِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ
وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ - الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا
أَهْلُ الْإِيمَانِ - وَبَيْنَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ - الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَى
تَحْرِيمِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ : مِمَّا يُبَيِّنُ اشْتِمَالَ هَذَا الْكَلَامِ
عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ مُخَالَفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُهُ
مِمَّنْ يَفْهَمُ مَا قَالَ وَلَوَازِمَهُ لَكَانَ مُرْتَدًّا يَجِبُ قَتْلُهُ
لَكِنَّهُ جَاهِلٌ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَتَصَوَّرُهُ وَيَتَصَوَّرُ
لَوَازِمَهُ . فَيُقَالُ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ - مِمَّنْ ظَنَّ أَنَّ فِي
الْجَوَابِ مَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ -
الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ سَلَفًا وَخَلَفًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ هُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فِيهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْقِيَامِ بِحَقِّ رَسُولِهِ : مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ كَشَهَادَتِنَا لَهُ وَثَنَائِنَا عَلَيْهِ . وَصَلَاتِنَا وَسَلَامِنَا عَلَيْهِ مِنْ أَفْضَلِ مَا عَبَدْنَا اللَّهَ بِهِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي مَسْجِدِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ زِيَارَةً لِقَبْرِهِ أَوْ لَمْ يُسَمَّ . فَإِنَّ لَفْظَ الزِّيَارَةِ لِقَبْرِهِ وَاسْتِحْبَابَ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَنْ وَافَقَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ وَالصَّلَاةُ . وَهُمْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا زِيَارَةً لِقَبْرِهِ . فَكَيْفَ بالذين لَمْ يَكُونُوا يَقِفُونَ عِنْدَ الْقَبْرِ بِحَالِ وَهُمْ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَسَمَّى ذَلِكَ " زِيَارَةً لِقَبْرِهِ " فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ الَّتِي تُفْعَلُ عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَمَّا مَا يَدْخُلُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ بِسُنَّتِهِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ وَبِإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ . ثُمَّ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ مَنْ لَا يُسَمِّي هَذَا " زِيَارَةً لِقَبْرِهِ " بَلْ يَكْرَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ : إنَّ ذَلِكَ سَفَرٌ إلَى قَبْرِهِ . وَقَدْ صَرَّحَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِثْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إلَى هُنَاكَ إذَا
كَانَ مَقْصُودُهُ الْقَبْرَ أَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } وَأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ أَنْ يُقْصَدَ السَّفَرُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى الْمَدِينَةِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ : لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ مَعْرُوفًا فِي الْكُتُبِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ السَّفَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ الْعُلَمَاءِ يُسَمُّونَ هَذَا زِيَارَةً لِقَبْرِهِ . وَيَقُولُونَ : تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِهِ أَوْ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ وَمَقْصُودُهُمْ بِالزِّيَارَةِ هُوَ مَقْصُودُ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَأَنْ يُفْعَلَ فِي مَسْجِدِهِ مَا يُشْرَعُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَهُمْ يُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَزُورُ قَبْرَهُ الزِّيَارَةَ الْمَعْرُوفَةَ فِي سَائِر الْقُبُورِ فَإِنَّ تِلْكَ قُبُورٌ بَارِزَةٌ يُوصَلُ إلَيْهَا وَيُقْعَدُ عِنْدَهَا . أَوْ يُقَامُ عِنْدَهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُفْعَلَ عِنْدَهَا مَا يُشْرَعُ : كَالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ : كَدُعَائِهِ وَالشِّرْكِ بِهِ وَالنِّيَاحَةِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَالنَّدْبِ . فَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ " زِيَارَةِ الْقُبُورِ " . وَالرَّسُولُ دُفِنَ فِي بَيْتِهِ فِي حُجْرَتِهِ وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ إلَى هُنَاكَ وَالْوُصُولِ إلَى قَبْرِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَزُورَ قَبْرَهُ كَمَا يَزُورُ قَبْرَ غَيْرِهِ ؛ لَا زِيَارَةً شَرْعِيَّةً وَلَا بِدْعِيَّةً ؛ بَلْ إنَّمَا يَصِلُ جَمِيعُ الْخَلْقِ
إلَى مَسْجِدِهِ وَفِيهِ يَفْعَلُونَ مَا يُشْرَعُ لَهُمْ أَوْ مَا يُكْرَهُ لَهُمْ . وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ - لَمَّا شُرِعَ - سَفَرُ طَاعَةٍ وَقُرْبَةٍ بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَهُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . وَالْمُجِيبُ قَدْ ذَكَرَ اسْتِحْبَابَ هَذَا السَّفَرِ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْجَوَابِ وَبَيَّنَ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَزِيَارَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَّنَ مَا لَمْ يُشْرَعْ مِنْ السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ غَيْرِهِ مِمَّا فِي قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ فَإِنَّ السَّفَرَ إلَى هُنَاكَ لَيْسَ هُوَ سَفَرٌ إلَى مَسْجِدٍ شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهِ بَلْ الْمَسَاجِدُ الَّتِي هُنَاكَ إنْ كَانَتْ مِمَّا يُشْرَعُ بِنَاؤُهُ وَالصَّلَاةُ فِيهِ - كَجَوَامِعِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ - فَهَذِهِ لَيْسَ السَّفَرُ إلَيْهَا قُرْبَةً وَلَا طَاعَةً ؛ لَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالسَّفَرُ إلَيْهَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . فَإِنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفْرَغٌ . وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } إلَى مَسْجِدٍ { إلَّا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ } فَيَكُونُ نَهْيًا عَنْهَا بِاللَّفْظِ وَنَهْيًا عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْتَقَدُ فَضِيلَتُهَا بِالتَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى وَطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ وَالْعِبَادَةَ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْعِبَادَةِ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ إلَى الْبِقَاعِ الْفَاضِلَةِ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فَالسَّفَرُ إلَى المفضولة
أَوْلَى وَأَحْرَى . وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ : لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَّا إلَى الثَّلَاثَةِ . إنْ جَعَلَ مَعْنَاهُ لَا يَجِبُ إلَّا إلَى الثَّلَاثَةِ وَأَرَادَ بِهِ الْوُجُوبَ بِالنَّذْرِ - كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ - فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : مَا سِوَى الثَّلَاثَةِ لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ وَلَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ . وَمَنْ حَمَلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ نَفْيِ الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ فَقَوْلُهُمَا وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى فَإِذَا لَمْ يَجِبْ بِالنَّذْرِ إلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فَقَدْ وَجَبَ بِالنَّذْرِ السَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ وَلَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ . فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوبَهُ لِكَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا بِالشَّرْعِ . فَإِذَا لَمْ يَجِبْ إلَّا هَذَانِ مِمَّا لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا إلَّا هَذَانِ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : التَّقْدِيرُ لَا تُسَافِرُوا إلَى بُقْعَةٍ وَمَكَانٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ . أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى لَا يُسْتَحَبُّ إلَى مَكَانٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مَعْنَى كُلِّ مَنْ قَالَ : لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ . أَيْ لَا تُسَافِرُوا لِقَصْدِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْبُقْعَةِ بِعَيْنِهِ ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَقْصُودُ وَالْعِبَادَةُ فِي نَفْسِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ كَالسَّفَرِ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ؛ بِخِلَافِ السَّفَرِ إلَى الثُّغُورِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ السَّفَرُ إلَى مَكَانِ الرِّبَاطِ . و " الثَّغْرُ " قَدْ يَكُونُ مَكَانًا ثُمَّ يَفْتَحُ الْمُسْلِمُونَ مَا جَاوَرَهُمْ فَيَنْتَقِلُ
الثَّغْرُ إلَى حَدِّ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ الْمَكَانُ تَارَةً ثَغْرًا وَتَارَةً لَيْسَ بِثَغْرِ ؛ كَمَا يَكُونُ تَارَةً دَارَ إسْلَامٍ وَبِرٍّ وَتَارَةً دَارَ كُفْرٍ وَفِسْقٍ ؛ كَمَا كَانَتْ مَكَّةُ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ وَكَانَتْ الْمَدِينَةُ دَارَ إيمَانٍ وَهِجْرَةٍ وَمَكَانًا لِلرِّبَاطِ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ وَلَمْ تَبْقَ الْمَدِينَةُ دَارَ هِجْرَةٍ وَرِبَاطٍ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ؛ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } وَصَارَتْ الثُّغُورُ أَطْرَافُ أَرْضِ الْحِجَازِ الْمُجَاوِرَةِ لِأَرْضِ الْحَرْبِ : أَرْضَ الشَّامِ وَأَرْضَ الْعِرَاقِ . ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ صَارَتْ الثُّغُورُ بِالشَّامِ سَوَاحِلَ الْبَحْرِ ؛ كَعَسْقَلَانَ وَعَكَّةَ وَمَا جَاوَرَ ذَلِكَ . وَبِالْعِرَاقِ عبادان وَنَحْوُهَا ؛ وَلِهَذَا يَكْثُرُ ذِكْرُ " عَسْقَلَانَ " و " عبادان " فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ ؛ لِكَوْنِهِمَا كَانَا ثَغْرَيْنِ وَكَانَتْ أَيْضًا " طرطوش " ثَغْرًا لَمَّا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمَّا أَخَذَهَا الْكُفَّارُ صَارَ الثَّغْرُ مَا يُجَاوِرُ أَرْضَ الْعَدُوِّ مِنْ الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ . فَالْمُسَافِرُ إلَى الثُّغُورِ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوْ التِّجَارَةِ أَوْ زِيَارَةِ قَرِيبِهِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ مَكَانًا مُعَيَّنًا إلَّا بِالْعَرْضِ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَقْصُودَهُ فِيهِ وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ فِي غَيْرِهِ لَذَهَبَ إلَيْهِ . فَالسَّفَرُ إلَى مِثْلِ هَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ مَنْ يُسَافِرُ لِمَكَانِ مُعَيَّنٍ لِفَضِيلَةِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ كَاَلَّذِي يُسَافِرُ إلَى الْمَسَاجِدِ وَآثَارِ الْأَنْبِيَاءِ : كَالطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
مُوسَى وَغَارِ حِرَاءَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْوَحْيُ ابْتِدَاءً عَلَى الرَّسُولِ وَغَارِ ثَوْرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : { إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } وَمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمَغَارَاتِ وَالْجِبَالِ : كَالسَّفَرِ إلَى جَبَلِ لُبْنَانَ وَمَغَارَةِ الدَّمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُسَافِرُ إلَى مَا يَعْتَقِدُ فَضْلَهُ مِنْ الْجِبَالِ وَالْغِيرَانِ . فَإِذَا كَانَ الطُّورُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى وَسَمَّاهُ الْبُقْعَةَ الْمُبَارَكَةَ وَالْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ فَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْجِبَالِ أَوْلَى أَنْ لَا يُسَافَرَ إلَيْهِ . وَقَوْلِي بِالْإِجْمَاعِ . أَعْنِي بِهِ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي بَصْرَةَ وَغَيْرِهِمْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } أَنَّ الطُّورَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى وَسَمَّاهُ بالواد الْمُقَدَّسِ وَالْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ وَنَهَوْا النَّاسَ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهِ وَلَمْ يَخُصُّوا النَّهْيَ بِالْمَسَاجِدِ . وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ ذَلِكَ بِالنَّذْرِ وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا قَدِيمًا وَلَا رَأَيْت أَحَدًا صَرَّحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ؛ إلَّا ابْنَ حَزْمٍ الظَّاهِرِيَّ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ إذَا نَذَرَهُ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَإِذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَتَنْبِيهِهِ وَهَذَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ دَاوُد فَلَا يَجْعَلُ قَوْلَهُ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } دَلِيلًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ السَّبِّ وَالشَّتْمِ
وَالضَّرْبِ
وَلَا نَهْيَهُ عَنْ أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يُغْتَسَلَ فِيهِ
نَهْيًا عَنْ صَبِّ الْبَوْلِ ثُمَّ الِاغْتِسَالُ فِيهِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
يَرَوْنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ نَقْصِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَأَنَّهُ مِنْ
" بَابِ السَّفْسَطَةِ " فِي جَحْدِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا هُوَ
مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَإِذَا كَانَ غَارُ حِرَاءَ الَّذِي كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَصْعَدُونَ إلَيْهِ
لِلتَّعَبُّدِ فِيهِ وَيُقَالُ : إنَّ عَبْدَ الْمُطَلِّبِ سَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ
يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَفِيهِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَوَّلًا ؛ لَكِنْ مِنْ
حِينِ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ مَا صَعِدَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا قَرِبَهُ
؛ لَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ
بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَزُرْهُ وَلَمْ يَصْعَدْ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ
الْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ بِمَكَّةَ . وَبَعْدَ الْهِجْرَةِ أَتَى مَكَّةَ مِرَارًا
فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَعَامِ الْفَتْحِ وَأَقَامَ بِهَا قَرِيبًا مِنْ
عِشْرِينَ يَوْمًا وَفِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ وَلَمْ يَأْتِ غَارَ حِرَاءَ
وَلَا زَارَهُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا الْغَارُ لَا يُسَافَرُ إلَيْهِ وَلَا
يُزَارُ فَغَيْرُهُ مِنْ الْمَغَارَاتِ كَمَغَارَةِ الدَّمِ وَنَحْوِهَا أَوْلَى
أَنْ لَا تُزَارَ . فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مَشْرُوعَةٌ
فِي كُلِّ مَكَانٍ جُعِلَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مَسْجِدًا
وَطَهُورًا " .
وَالْأَمَاكِنُ الْمُفَضَّلَةُ هِيَ الْمَسَاجِدُ وَهِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى
اللَّهِ ؛ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِيهَا الِاعْتِكَافُ
فَلَا
يَكُونُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
} لَا يَكُونُ الِاعْتِكَافُ لَا بِخَلْوَةِ وَلَا غَيْرِ خَلْوَةٍ ؛ لَا فِي
غَارٍ وَلَا عِنْدَ قَبْرٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُ الضَّالُّونَ
السَّفَرَ إلَيْهِ وَالْعُكُوفَ عِنْدَهُ كَعُكُوفِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى
أَوْثَانِهِمْ . قَالَ الْخَلِيلُ : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ
لَهَا عَاكِفُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ
الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا
مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
} { إنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَقَدْ صَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ نَذَرَ أَنْ
يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ إيليا فَاعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ
يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَاعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
أَجْزَأَ عَنْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ فَإِنَّهُ
لَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ لِيَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ . وَهَذَا الَّذِي
نَهَى عَنْهُ سَعِيدٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ
قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمِّي ذَلِكَ اعْتِكَافًا فَمَنْ فَعَلَ مَا
يَفْعَلُ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ
وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ
مِنْ قَبْرِ وَأَثَرِ
نَبِيٍّ وَمَسْجِدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ : لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِ نَبِيِّنَا مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ مُرَادُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ قَالُوا : تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِهِ بِالْإِجْمَاعِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَالْمُجِيبُ قَدْ ذَكَرَ اسْتِحْبَابَ هَذَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَكَلَامُ الْمُجِيبِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَنَّهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ تَقْرِيرِ الْحَرَامِ أَوْ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ مُنَزَّهُونَ أَنْ يُجْمَعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ أَوْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ العماية وَالْجَهَالَةِ . وَهَذَا الْمُعْتَرِضُ وَأَشْبَاهُهُ مِنْ الْجُهَّالِ سَوَّوْا بَيْنَ هَذَا السَّفَرِ الَّذِي ثَبَتَ اسْتِحْبَابُهُ بِنَصِّ الرَّسُولِ وَإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ وَبَيْنَ السَّفَرِ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا بِنَصِّ الرَّسُولِ وَإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ . وَقَاسَوْا هَذَا بِهَذَا وَالْمُجِيبُ إنَّمَا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي : فِي الَّذِي لَا يُسَافِرُ إلَّا لِقَصْدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِي يُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ وَزِيَارَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَحَكَوْا عَنْ الْمُجِيبِ أَنَّهُ يَنْهَى عَنْ زِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَالسَّفَرِ إلَيْهِ وَيُحَرِّمُ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِحَيْثُ جَعَلُوهُ يَنْهَى عَمَّا يَفْعَلُهُ الْحُجَّاجُ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَأَنَّ مَنْ سَافَرَ إلَى هُنَاكَ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . وَهَذَا كُلُّهُ افْتِرَاءٌ وَبُهْتَانٌ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَى السَّفَر إلَى سَائِرِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا السَّفَرَ إلَى نَبِيِّنَا . فَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ قَاسُوا عَلَيْهِ السَّفَرَ إلَى سَائِرِ الْقُبُورِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَخَالَفُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَضَلُّوا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . مِنْهَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَبْرُ نَبِيٍّ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ إلَّا قَبْرُ نَبِيِّنَا وَمَا سِوَاهُ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَمِنْهَا : أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيِّنَا مُرَادُهُمْ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ قَصَدَ الْمُسَافِرُ إلَيْهِ فَهُوَ إنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ مُنْتَهَى سَفَرِهِ ؛ لَا يَصِلُ إلَى الْقَبْرِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَصِلُ إلَى الْقَبْرِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَغِّلًا فِي الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ فَيَظُنُّ أَنَّ مَسْجِدَهُ إنَّمَا شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْقَبْرِ وَأَنَّهُ لِذَلِكَ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَأَنَّهُ لَوْلَا الْقَبْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ أَوْ جُعِلَ تَبَعًا لِلْقَبْرِ كَمَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيَظُنُّ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ تَبَعٌ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْقَبْرُ كَمَا يَظُنُّ الْمُسَافِرُونَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ غَيْرَ قَبْرِ نَبِيِّنَا وَكَمَا أَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ إلَى الْجُمْعَةِ يُصَلِّي إذَا دَخَلَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ ؛ وَلَكِنْ هُوَ إنَّمَا جَاءَ لِأَجْلِ الْجُمْعَةِ لَا لِأَجْلِ رَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ . فَمَنْ ظَنَّ هَذَا فِي مَسْجِدِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ بِدِينِ
الْإِسْلَامِ وَأَجْهَلِهِمْ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَهَذَا مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا جَهِلَهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يَأْخُذُ بَعْضَ الْإِسْلَامِ وَيَتْرُكُ بَعْضَهُ ؛ فَإِنَّ مَسْجِدَهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ الْهِجْرَةِ وَهُوَ أَفْضَلُ مَسْجِدٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ . وَقِيلَ : هُوَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ - مَسَاجِدُ الْجَوَامِعِ الَّتِي يُصَلَّى فِيهَا الْجُمْعَةُ وَغَيْرُهَا - فَضِيلَتُهَا وَاسْتِحْبَابُ قَصْدِهَا لِلصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ قَبْرٍ عِنْدَهَا . فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ فَكَيْفَ يُقَالُ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا كُلِّهَا وَأَفْضَلُ . و " الْمَسْجِدُ " الْحَرَامُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّ فَضِيلَتَهُ لِقَبْرِ هُنَاكَ . و " الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى " أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَبِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ فَضِيلَتَهُ لِأَجْلِ الْقُبُورِ نَعَمْ هَذَا اعْتِقَادُ النَّصَارَى : يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فَضِيلَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَجْلِ " الْكَنِيسَةِ " الَّتِي يُقَالُ إنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى قَبْرِ الْمَصْلُوبِ وَيُفَضِّلُونَهَا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ
وَهَذَا يُضَاهِي مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمَّا كَانَتْ فِيهِ الْأَوْثَانُ وَكَانُوا يَقْصِدُونَهُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَوْثَانِ الَّتِي فِيهِ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ فِيهِ ؛ بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } لَكِنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ نَفْسَ الْبَيْتِ وَيَطُوفُونَ بِهِ كَمَا كَانُوا يَحُجُّونَ كُلَّ عَامٍ مَعَ مَا كَانُوا غَيَّرُوهُ مِنْ شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَأَظْهَرَهَا وَدَعَا إلَيْهَا وَأَقَامَ الْحَجَّ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَنَفَى الشِّرْكَ عَنْ الْبَيْتِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } . فَبَيَّنَ أَنَّ عُمَّارَ الْمَسَاجِدِ هُمْ الَّذِينَ لَا يَخْشَوْنَ إلَّا اللَّهَ وَمَنْ لَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَلَا يَرْجُو وَيَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ فَإِنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ مُتَلَازِمَانِ . وَاَلَّذِينَ يَحُجُّونَ إلَى الْقُبُورِ يَدْعُونَ أَهْلَهَا وَيَتَضَرَّعُونَ لَهُمْ وَيَعْبُدُونَهُمْ وَيَخْشَوْنَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَرْجُونَ غَيْرَ اللَّهِ كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ آلِهَتَهُمْ وَيَرْجُونَهَا ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِهُودِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنْ نَقُولُ إلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ } { مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } { إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَلَمَّا حَاجُّوا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ : { أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَلَمَّا خَوَّفُوا مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَنْ دُونَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ } { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ } { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } .
فَصْلٌ
:
و " الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى " صَلَّتْ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ عَهْدِ
الْخَلِيلِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : { قُلْت يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلًا ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ
قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْت : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟
قَالَ : أَرْبَعُونَ سَنَةً ثُمَّ حَيْثُ مَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ
فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ وَصَلَّى فِيهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَا لَا يُحْصِيهِ
إلَّا اللَّهُ وَسُلَيْمَانُ بَنَاهُ هَذَا الْبِنَاءَ وَسَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثًا
: سَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ بَعْدِهِ وَسَأَلَهُ حُكْمًا
يُوَافِقُ حُكْمَهُ وَسَأَلَهُ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا
يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إلَّا غَفَرَ لَهُ } . وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَأْتِي مِنْ الْحِجَازِ فَيَدْخُلُ فَيُصَلِّي فِيهِ ثُمَّ يَخْرُجُ وَلَا
يَشْرَبُ فِيهِ مَاءً لِتُصِيبَهُ دَعْوَةُ سُلَيْمَانَ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ
ثُمَّ التَّابِعُونَ يَأْتُونَ وَلَا يَقْصِدُونَ شَيْئًا مِمَّا حَوْلَهُ مِنْ
الْبِقَاعِ وَلَا يُسَافِرُونَ إلَى قَرْيَةِ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرِهَا .
وَكَذَلِكَ " مَسْجِدُ نَبِيِّنَا " بَنَاهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ
وَمَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ أُذِّنَ فِيهِ فِي الْإِسْلَامِ وَفِيهِ كَانَ الرَّسُولُ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَفِيهِ كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ الْمَغَازِي وَغَيْرِ الْمَغَازِي . وَفِيهِ سُنَّتْ السُّنَّةُ وَالْإِسْلَامُ مِنْهُ خَرَجَ وَكَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلِفِ وَالسَّفَرُ إلَيْهِ مَشْرُوعًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ قَبْرٌ ؛ لَا قَبْرُهُ وَلَا قَبْرُ غَيْرِهِ ثُمَّ لَمَّا دُفِنَ الرَّسُولُ دُفِنَ فِي حُجْرَتِهِ وَبَيْتِهِ لَمْ يُدْفَنْ فِي الْمَسْجِدِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُعْتَكَفُ فِيهِ وَالْبَيْتَ لَا يُعْتَكَفُ فِيهِ وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَالْمَسْجِدُ لَا يَمْكُثُ فِيهِ جُنُبٌ وَلَا حَائِضٌ وَبَيْتُهُ كَانَتْ عَائِشَةُ تَمْكُثُ فِيهِ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ بَيْتٍ مَرْسُومٍ تَمْكُثُ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَانَتْ تُصِيبُهُ فِيهِ الْجَنَابَةُ فَيَمْكُثُ فِيهِ جُنُبًا حَتَّى يَغْتَسِلَ وَفِيهِ ثِيَابُهُ وَطَعَامُهُ وَسَكَنُهُ وَرَاحَتُهُ ؛ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْبُيُوتَ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ " بُيُوتَ النَّبِيِّ " فِي كِتَابِهِ وَأَضَافَهَا تَارَةً إلَى الرَّسُولِ وَتَارَةً إلَى أَزْوَاجِهِ ؛ وَلَيْسَ لِتِلْكَ الْبُيُوتِ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ وَفَضِيلَتُهُ وَفَضِيلَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَيْهَا وَلَا الصَّلَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِأَلْفِ صَلَاةٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالِ
حَيَاتِهِ كَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ . أَفْضَلَ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَهُمْ لَمَّا مَاتُوا لَمْ تَكُنْ قُبُورُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بُيُوتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَسْكُنُونَهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَا أَبْدَانُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَكْثَرَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً مِمَّا كَانَتْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا . تَكْفِتُ النَّاسَ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا وَلَيْسَ كَفْتُهُمْ أَمْوَاتًا بِأَفْضَلَ مِنْ كَفْتِهِمْ أَحْيَاءً ؛ وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَأُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فَيُدْعَى لَهُمْ وَيُسْتَغْفَرُ لَهُمْ وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ تُقْصَدَ قُبُورُهُمْ لِمَا تُقْصَدُ لَهُ الْمَسَاجِدُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ } فَلَيْسَ فِي الْبِقَاعِ أَفْضَلُ مِنْهَا وَلَيْسَتْ مَسَاكِنُ الْأَنْبِيَاءِ لَا أَحْيَاءً وَلَا أَمْوَاتًا بِأَفْضَلَ مِنْ الْمَسَاجِدِ . هَذَا هُوَ الثَّابِتُ بِنَصِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَأَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَهَا أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ . فَقَوْلٌ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعْلَمُ إجْمَاعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ إجْمَاعًا ضَرُورِيًّا كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ عِنْدَ الْقُبُورِ . وَالْمَقْصُودُ
بِالِاعْتِكَافِ : الْعِبَادَةُ وَالصَّلَاةُ وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَفْضِيلِ قَبْرٍ مِنْ الْقُبُورِ عَلَى الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا . فَقَوْلٌ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَخَذَهُ عَنْهُ آخَرُ وَظَنَّهُ إجْمَاعًا ؛ لِكَوْنِ أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْفُسِهَا أَفْضَلَ مِنْ الْمَسَاجِدِ . فَقَوْلُهُمْ يَعُمُّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ فَأَبْدَانُهُمْ أَفْضَلُ مَنْ كُلِّ تُرَابٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَلْزَمُ مَنْ كَوْنِ أَبْدَانِهِمْ أَفْضَلَ أَنْ تَكُونَ مَسَاكِنُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا أَفْضَلَ ؛ بَلْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِهِمْ أَنَّ مَسَاجِدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ . وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ مِنْ : { أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُذَرُّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ } فَيَكُونُ قَدْ خُلِقَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ . وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا لَا يَثْبُتُ وَمَا رُوِيَ فِيهِ كُلُّهُ ضَعِيفٌ وَالْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يُذَرَّ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَلَكِنَّ آدَمَ نَفْسَهُ هُوَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ خُلِقَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ التُّرَابَ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ لِشَخْصِ وَبَعْضُهُ لِشَخْصِ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحَالَ وَصَارَ بَدَنًا حَيًّا لَمَا نُفِخَ فِي آدَمَ الرُّوحُ فَلَمْ يَبْقَ تُرَابًا . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الإجماعات الَّتِي يَذْكُرُهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيَبْنُونَ عَلَيْهَا مَا يُخَالِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ : الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَيِّتَ خُلِقَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ مَنِيِّ أَبَوَيْهِ أَقْرَبُ مَنْ خَلْقِهِ مِنْ التُّرَابِ وَمَعَ هَذَا فَاَللَّهُ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ : يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنْ الْمُؤْمِنِ فَيَخْلُقُ مِنْ الشَّخْصِ الْكَافِرِ مُؤْمِنًا نَبِيًّا وَغَيْرَ نَبِيٍّ كَمَا خَلَقَ الْخَلِيلَ مِنْ آزَرَ وَإِبْرَاهِيمُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ هُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآزَرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَلْقَى إبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ إبْرَاهِيمُ : أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَعْصِنِي فَيَقُولُ لَهُ : فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيك . فَيَقُولُ إبْرَاهِيمُ : يَا رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ فَيُقَالُ لَهُ : الْتَفِتْ فَيَلْتَفِتُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخِ عَظِيمٍ وَالذِّيخُ ذَكَرُ الضِّبَاعِ فَيُمْسَخُ آزَرُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ } . وَكَمَا خُلِقَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبَوَيْهِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ : أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَ : إنَّ أَبَاك فِي النَّارِ فَلَمَّا أَدْبَرَ دَعَاهُ فَقَالَ : إنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّارِ } وَقَدْ أَخْرَجَ مِنْ نُوحٍ وَهُوَ
رَسُولٌ كَرِيمٌ ابْنَهُ الْكَافِرَ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَأَغْرَقَهُ وَنَهَى نُوحًا عَنْ الشَّفَاعَةِ فِيهِ . وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مَخْلُوقُونَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ الْكُفَّارِ . فَإِذَا كَانَتْ الْمَادَّةُ الْقَرِيبَةُ الَّتِي يُخْلَقُ مِنْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِأَبْدَانِهِمْ فِي الْفَضِيلَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ فَأَخْرَجَ الْبَدَنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ مَنِيِّ كَافِرٍ فَالْمَادَّةُ الْبَعِيدَةُ وَهِيَ التُّرَابُ أَوْلَى أَنْ لَا تُسَاوِيَ أَبْدَانَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهَذِهِ الْأَبْدَانُ عَبَدَتْ اللَّهَ وَجَاهَدَتْ فِيهِ وَمُسْتَقَرُّهَا الْجَنَّةُ . وَأَمَّا الْمَوَادُّ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا هَذِهِ الْأَبْدَانُ فَمَا اسْتَحَالَ مِنْهَا وَصَارَ هُوَ الْبَدَنَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَدَنِ وَأَمَّا مَا فَضَلَ مِنْهَا فَذَاكَ بِمَنْزِلَةِ أَمْثَالِهِ . وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا اسْتَحَالَ مِنْ الْمَوَادِّ فَصَارَ بَدَنًا وَبَيْنَ مَا لَمْ يَسْتَحِلْ ؛ بَلْ بَقِيَ تُرَابًا أَوْ مَيِّتًا . فَتُرَابُ الْقُبُورِ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمَيِّتَ خُلِقَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ فَاسْتَحَالَ مِنْهُ وَصَارَ بَدَنَ الْمَيِّتِ : فَهُوَ بَدَنُهُ وَفَضْلُهُ مَعْلُومٌ . وَأَمَّا مَا بَقِيَ فِي الْقَبْرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ بَلْ تُرَابٌ كَانَ يُلَاقِي جِبَاهَهُمْ عِنْدَ السُّجُودِ - وَهُوَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ الْمَعْبُودِ - أَفْضَلُ مِنْ تُرَابِ الْقُبُورِ وَاللُّحُودِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ
هُنَا : أَنَّ مَسْجِدَ الرَّسُولِ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ فَضِيلَتُهَا
بِكَوْنِهَا بُيُوتَ اللَّهِ الَّتِي بُنِيَتْ لِعِبَادَتِهِ قَالَ تَعَالَى : {
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ
تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ
كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا
مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } - إلَى قَوْلِهِ -
{ إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى
أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا
بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ
مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
وَالْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ لَهَا فَضْلٌ عَلَى مَا سِوَاهَا فَإِنَّهَا بَنَاهَا
أَنْبِيَاءُ وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهَا . فَالْخَلِيلُ دَعَا
إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسُلَيْمَانُ دَعَا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَنَبِيُّنَا دَعَا إلَى الثَّلَاثَةِ : إلَى مَسْجِدِهِ . وَالْمَسْجِدَيْنِ
وَلَكِنْ جَعَلَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَرْضًا وَالْآخَرَيْنِ
تَطَوُّعًا . وَإِبْرَاهِيمُ وَسُلَيْمَانُ لَمْ يُوجِبَا شَيْئًا وَلَا أَوْجَبَ
الْخَلِيلُ الْحَجَّ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ بَنُو إسْرَائِيلَ يَحُجُّونَ
وَلَكِنْ حَجَّ مُوسَى وَيُونُسُ وَغَيْرُهُمَا : وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ
الْحَجُّ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَإِنَّمَا وَجَبَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } هَذَا هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ : أَنَّهُ يُفِيدُ إيجَابَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَقِيلَ : إنَّهُ يُفِيدُ إيجَابَهُمَا ابْتِدَاءً وَإِتْمَامَهُمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ . وَقِيلَ : إنَّمَا يُفِيدُ وُجُوبَ إتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ لَا إيجَابَهُمَا ابْتِدَاءً . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِإِجْمَاعِ النَّاسِ بَعْدَ شُرُوعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ - عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ - لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَأُبِيحُ فِيهَا التَّحَلُّلُ لِلْمُحْصَرِ فَحَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ لَمَّا صَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَرَجَعُوا . وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ يَجِبُ عَلَى الشَّارِعِ فِيهِمَا إتْمَامُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَتَنَازَعُوا فِي الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِتْمَامُ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَسْجِدَ الرَّسُولِ . فَضِيلَةُ السَّفَرِ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ ؛ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَبْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا مِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ قَبْرِهِ وَغَيْرِهِ . فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ وُجُوهٍ .
وَهَذَا
الْمُعْتَرِضُ وَأَمْثَالُهُ جَعَلُوا السَّفَرَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ
نَوْعًا . ثُمَّ لَمَّا رَأَوْا مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ اسْتِحْبَابِ
زِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيِّنَا ظَنُّوا أَنَّ سَائِرَ الْقُبُورِ يُسَافَرُ إلَيْهَا
كَمَا يُسَافَرُ إلَيْهِ . فَضَلُّوا مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ إنَّمَا هُوَ سَفَرٌ إلَى مَسْجِدِهِ وَهُوَ
مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا السَّفَرَ هُوَ لِلْمَسْجِدِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ
وَبَعْدَ دَفْنِهِ وَقَبْلَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ وَبَعْدَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ
فِيهِ . فَهُوَ سَفَرٌ إلَى الْمَسَاجِدِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَبْرُ هُنَاكَ أَوْ
لَمْ يَكُنْ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَبَّهَ بِهِ السَّفَرُ إلَى قَبْرٍ مُجَرَّدٍ
.
الثَّالِثُ : أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يُسَمِّيَ هَذَا
زِيَارَةً لِقَبْرِهِ .
وَاَلَّذِينَ لَمْ يَكْرَهُوهُ يُسَلِّمُونَ لِأُولَئِكَ الْحُكْمَ ؛ وَإِنَّمَا
النِّزَاعُ فِي الِاسْمِ . وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ زِيَارَةٌ لِقَبْرِهِ بِلَا
نِزَاعٍ . فَلِلْمَانِعِ أَنْ يَقُولَ : لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ
يُسَافَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَصْلًا وَكُلُّ مَا سُمِّيَ زِيَارَةَ قَبْرٍ
فَإِنَّهُ لَا يُسَافَرُ إلَيْهِ وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِ نَبِيِّنَا لَيْسَ
سَفَرًا إلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ بَلْ هُوَ سَفَرٌ لِعِبَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا السَّفَرَ مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ
وَالسَّفَرَ إلَى قُبُورِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَيْسَ
مُسْتَحَبًّا لَا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ ؛ بَلْ
هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ . الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدُهُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَهُوَ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَالْمَسَاجِدُ الَّتِي عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ نُهِيَ عَنْ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ وَالصَّلَاةُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ . فَكَيْفَ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهَا . السَّادِسُ : أَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ - الَّذِي يُسَمَّى السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ - هُوَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى سَائِرِ الْقُبُورِ فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بَلْ وَلَا عَنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا ؟ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِهِ وَإِلَى هَذَا الْوَقْتِ يُسَافِرُونَ إلَى مَسْجِدِهِ ؛ إمَّا مَعَ الْحَجِّ وَإِمَّا بِدُونِ الْحَجِّ . فَعَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُونُوا يَأْتُونَهُ مَعَ الْحَجِّ - كَمَا يُسَافِرُونَ إلَى مَكَّةَ - فَإِنَّ الطُّرُقَاتِ كَانَتْ آمِنَةً وَكَانَ إنْشَاءُ السَّفَرِ إلَيْهِ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِسَفَرِ الْحَجِّ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ يُفْرِدُوا لِلْعُمْرَةِ سَفَرًا وَلِلْحَجِّ سَفَرًا وَهَذَا أَفْضَلُ - بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ - مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ فَضَّلُوا التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ كَمَا فَضَّلَ أَحْمَد التَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَالْقِرَانَ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ - فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَصَرَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا -
هُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ : إنَّ إفْرَادَ الْعُمْرَةِ بِسَفَرِ وَالْحَجِّ بِسَفَرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - أَنَّ عُمْرَةً كُوفِيَّةً أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالُوا يُسَافِرُونَ إلَى مَسْجِدِهِ وَلَا يُسَافِرُونَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ : كَقَبْرِ مُوسَى وَقَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهُ سَافَرَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ مَعَ كَثْرَةِ مَجِيئِهِمْ إلَى الشَّامِ وَالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ . فَكَيْفَ يُجْعَلُ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ زِيَارَةً لِقَبْرِهِ مِثْلَ السَّفَرِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِعُ : أَنَّ السَّفَرَ الْمَشْرُوعَ إلَى مَسْجِدِهِ يَتَضَمَّنُ أَنْ يُفْعَلَ فِي مَسْجِدِهِ مَا كَانَ يُفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ : مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَسَائِرِ الْبِقَاعِ . وَإِنْ كَانَ مَسْجِدُهُ أَفْضَلَ . فَالْمَشْرُوعُ فِيهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمَّا الَّذِي يَفْعَلُهُ مَنْ سَافَرَ إلَى قَبْرِ غَيْرِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَوْعِ الشِّرْكِ كَدُعَائِهِمْ وَطَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْهُمْ وَاِتِّخَاذِ قُبُورِهِمْ مَسَاجِدَ وَأَعْيَادًا وَأَوْثَانًا . وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ عِنْدَ قَبْرِهِ مِثْلَ هَذَا .
قُلْت لَك : أَمَّا عِنْدُ الْقَبْرِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَجَابَ دَعْوَتَهُ حَيْثُ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ . } . وَأَمَّا فِي مَسْجِدِهِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ الْجُهَّالِ وَأَمَّا مَنْ يَعْلَمُ شَرْعَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُ مَا شُرِعَ وَهَؤُلَاءِ يَنْهَوْنَ أُولَئِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَلَا يَجْتَمِعُ الزُّوَّارُ عَلَى الضَّلَالِ وَأَمَّا قَبْرُ غَيْرِهِ فَالْمُسَافِرُونَ إلَيْهِ كُلُّهُمْ جُهَّالٌ ضَالُّونَ مُشْرِكُونَ وَيَصِيرُونَ عِنْدَ نَفْسِ الْقَبْرِ ؛ وَلَا أَحَدَ هُنَاكَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنْ يُقَالَ قَبْرُهُ مَعْلُومٌ مُتَوَاتِرٌ ؛ بِخِلَافِ قَبْرِ غَيْرِهِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَفِظَ عَامَّةَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ بِبَرَكَةِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ النَّاسُ مَعَ ظُهُورِ دِينِهِ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ كَمَا أَظْهَرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ : مِنْ إعْلَانِ ذِكْرِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ وَالتَّصْدِيقِ لِأَقْوَالِهِمْ وَالِاتِّبَاعِ لِأَعْمَالِهِمْ : مَا لَمْ يَكُنْ هَذَا لِأُمَّةِ أُخْرَى . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ تَصْدِيقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيمَا فَعَلُوا وَحُبُّ مَا كَانُوا يُحِبُّونَهُ وَبُغْضُ مَا كَانُوا يُبْغِضُونَهُ وَمُوَالَاةُ مَنْ يُوَالُونَهُ وَمُعَادَاةُ مَنْ يُعَادُونَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَخْبَارِهِمْ . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ . وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي الْقُلُوبِ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسِنَةِ ؛ وَأَمَّا نَفْسُ الْقَبْرِ فَلَيْسَ
فِي رُؤْيَتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ أَهْلُ الضَّلَالِ يَتَّخِذُونَهَا أَوْثَانًا كَمَا كَانَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَتَّخِذُونَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ . فَبِبَرَكَةِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِهِمْ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَنْتَفِعُ بِهِ الْعِبَادُ . وَأَبْطَلَ مَا يَضُرُّ الْخَلْقَ مِنْ الشِّرْكِ بِهِمْ وَاِتِّخَاذِ قُبُورِهِمْ مَسَاجِدَ كَمَا كَانُوا يَتَّخِذُونَهَا فِي زَمَنِ مَنْ قَبْلَنَا . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ قَبْرُ نَبِيٍّ ظَاهِرٌ يُزَارُ ؛ لَا بِسَفَرِ وَلَا بِغَيْرِ سَفَرٍ . لَا قَبْرُ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرُهُ . وَلَمَّا ظَهَرَ بتستر " قَبْرُ دَانْيَالَ " وَكَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِهِ كَتَبَ فِيهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛ فَكَتَبَ إلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْفِرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا وَيَدْفِنُهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَيُعْفِي الْقُبُورَ كُلَّهَا لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ . وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَمِمَّنْ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بَكْرٍ فِي " زِيَادَاتِ مَغَازِي ابْنِ إسْحَقَ " عَنْ أَبِي خلدة خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ . حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ : لَمَّا فَتَحْنَا " تُسْتَرَ " وَجَدْنَا فِي بَيْتِ مَالِ الْهُرْمُزَانِ سَرِيرًا عَلَيْهِ رَجُلٌ مَيِّتٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مُصْحَفٌ لَهُ فَأَخَذْنَا الْمُصْحَفَ فَحَمَلْنَاهُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَدَعَا لَهُ كَعْبًا فَنَسَخَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَأَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ قَرَأَهُ : قَرَأْته مِثْلَمَا أَقْرَأُ الْقُرْآنَ هَذَا . فَقُلْت : لِأَبِي الْعَالِيَةِ : مَا كَانَ فِيهِ ؟ قَالَ : سِيرَتُكُمْ وَأُمُورُكُمْ وَلُحُونُ كَلَامِكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدُ
قُلْت : فَمَا صَنَعْتُمْ بِالرَّجُلِ ؟ قَالَ : حَفَرْنَا بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا مُتَفَرِّقَةً فَلَمَّا كَانَ بِاللَّيْلِ دَفَنَّاهُ وَسَوَّيْنَا الْقُبُورَ كُلَّهَا لِنُعَمِّيَهُ عَلَى النَّاسِ لَا يَنْبُشُونَهُ . قُلْت : وَمَا يَرْجُونَ فِيهِ ؟ قَالَ : كَانَتْ السَّمَاءُ إذَا حُبِسَتْ عَنْهُمْ بَرَزُوا بِسَرِيرِهِ فَيُمْطَرُونَ . فَقُلْت : مَنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ الرَّجُلَ ؟ قَالَ : رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ " دَانْيَالُ " فَقُلْت : مُنْذُ كَمْ وَجَدْتُمُوهُ مَاتَ ؟ قَالَ : مُنْذُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ . قُلْت مَا كَانَ تَغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ قَالَ : لَا ؛ إلَّا شُعَيْرَاتٌ مِنْ قَفَاهُ ؛ إنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُبْلِيهَا الْأَرْضُ وَلَا تَأْكُلُهَا السِّبَاعُ . وَلَمْ تَدَعْ الصَّحَابَةُ فِي الْإِسْلَامِ قَبْرًا ظَاهِرًا مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ يَفْتَتِنُ بِهِ النَّاسُ ؛ وَلَا يُسَافِرُونَ إلَيْهِ وَلَا يَدْعُونَهُ وَلَا يَتَّخِذُونَهُ مَسْجِدًا . بَلْ قَبْرُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَبُوهُ فِي الْحُجْرَةِ وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْقُبُورِ عَفْوُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ؛ إنْ كَانَ النَّاسُ يَفْتَتِنُونَ بِهِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْتَتِنُونَ بِهِ فَلَا يَضُرُّ مَعْرِفَةُ قَبْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ أَتَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ : أَجِبْ رَبَّك فَلَطَمَهُ مُوسَى فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَرَجَعَ الْمَلَكُ إلَى اللَّهِ فَقَالَ : أَرْسَلْتنِي إلَى عَبْدٍ لَك لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي قَالَ : فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ : ارْجِعْ إلَى مُوسَى فَقُلْ لَهُ : الْحَيَاةَ تُرِيدُ ؟ فَإِنْ كُنْت تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَك عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَمَا وَارَتْ يَدَك مِنْ شَعْرِهِ فَإِنَّك تَعِيشُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةً . قَالَ ثُمَّ مَاذَا ؟
قَالَ : الْمَوْتُ قَالَ : فَمِنْ الْآنَ يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَدْنِنِي مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كُنْت ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ } . وَقَدْ مَرَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَرَآهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُسَافِرُ إلَيْهِ وَلَا ذَهَبُوا إلَيْهِ لَمَّا دَخَلُوا الشَّامَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا لَمْ يَكُونُوا يُسَافِرُونَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ وَهَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . فَقَبْرُ " دَانْيَالَ " - كَمَا قِيلَ - كَانُوا يَجِدُونَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْمِسْكِ فَعَفَوْهُ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ . و " قَبْرُ الْخَلِيلِ " عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ . قِيلَ : إنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَنَاهُ فَلَا يَصِلُ أَحَدٌ إلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا نُقِبَ الْبِنَاءُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّمَا نَقَبَهُ النَّصَارَى لَمَّا اسْتَوْلَوْا عَلَى مُلْكِ الْبِلَادِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ الْوُصُولِ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - فَكَانَ السَّفَرُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مُمْتَنِعًا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ . فَالْأَنْبِيَاءُ كَثِيرُونَ جِدًّا وَمَا يُضَافُ إلَيْهِمْ مِنْ الْقُبُورِ قَلِيلٌ جِدًّا ؛ وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ ثَابِتٌ عُرْفًا . فَالْقُبُورُ الْمُضَافَةُ إلَيْهِمْ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ : مِثْلُ " قَبْرِ نُوحٍ " الَّذِي فِي أَسْفَلِ جَبَلِ لُبْنَانَ . وَمِنْهَا
مَا لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ بِالْإِجْمَاعِ - إلَّا قَبْرَ نَبِيِّنَا وَالْخَلِيلِ وَمُوسَى - فَإِنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ صَانَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَسَاجِدَ صِيَانَةً لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهَا فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَأُمَّتَهُ أَظْهَرُوا التَّوْحِيدَ إظْهَارًا لَمْ يُظْهِرْهُ غَيْرُهُمْ . فَقَهَرُوا عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَعُبَّادَ الصُّلْبَانِ وَعُبَّادَ النِّيرَانِ . وَكَمَا أَخْفَى اللَّهُ بِهِمْ الشِّرْكَ فَأَظْهَرَ اللَّهُ بِمُحَمَّدِ وَأُمَّتِهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَعْظِيمِ مَا جَاءُوا بِهِ وَإِعْلَانِ ذِكْرِهِمْ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِثْلُهُ فِي أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ وَفِي الْقُرْآنِ يَأْمُرُ بِذِكْرِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا } { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } الْآيَاتُ . وَقَوْلُهُ : { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ } وَذَكَرَ بَعْدَهُ سُلَيْمَانَ إلَى قَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } إلَى قَوْلِهِ { وَاذْكُرْ إسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ } . فَأَمَرَ بِذِكْرِ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا مُوسَى وَقَبْلَهُ نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ } { إنْ كُلٌّ إلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } . وَقَدْ أَمَرَ بِذِكْرِ مُوسَى وَغَيْرِهِ أَيْضًا فِي سُورَةٍ
أُخْرَى
كَمَا تَقَدَّمَ . فَاَلَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّهُ بِمُحَمَّدِ وَأُمَّتِهِ مِنْ
ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَفْضَلِ الذِّكْرِ وَأَخْبَارِهِمْ وَمَدْحِهِمْ
وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءُوا بِهِ وَالْحُكْمِ
بِالْكُفْرِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِوَاحِدِ مِنْهُمْ وَقَتْلِهِ وَقَتْلِ مَنْ سَبَّ
أَحَدًا مِنْهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ أَقْدَارِهِمْ : مَا لَمْ
يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ .
و " أَصْلُ الْإِيمَانِ " تَوْحِيدُ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَوَرَبِّكَ
لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ : خِلَّتَانِ تُسْأَلُ الْعِبَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْهُمَا : عَمَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ وَعَمَّا أَجَابُوا الرُّسُلَ . وَلِهَذَا يُقَرِّرُ اللَّهُ
هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ بَلْ يُقَدِّمُهُمَا
عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الْأُصُولِ : مِثْلَمَا ذَكَرَ
فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ " فَإِنَّهُ افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ أَصْنَافِ
الْخَلْقِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ : مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَمُنَافِقٌ . وَهَذَا
التَّقْسِيمُ كَانَ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَى الْمَدِينَةِ . فَإِنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ بِهَا نِفَاقٌ ؛ بَلْ إمَّا
مُؤْمِنٌ ؛ وَإِمَّا كَافِرٌ . و " الْبَقَرَةُ " مَدَنِيَّةٌ مِنْ
أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي
ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي ذِكْرِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ
آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ . وَافْتَتَحَهَا بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ
الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَوَسَّطَهَا بِذَلِكَ وَخَتَمَهَا
بِذَلِكَ . قَالَ فِي أَوَّلِهَا : { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَالصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } أَنَّهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَالْعَطْفُ لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وَقَوْلِهِ : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } وَقَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . وَمَنْ قَالَ : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } أَرَادَ بِهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ : فَقَدْ غَلِطَ ؛ فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ فَلَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ . وَأَهْلُ الْكِتَابِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ لَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ .
وَقَالَ فِي وَسَطِ السُّورَةِ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ وَقَدْ قَالَ فِي أَثْنَائِهَا : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ تَقْسِيمِ الْخَلْقِ قَرَّرَ أُصُولَ الدِّينِ . فَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ أَوَّلًا ثُمَّ النُّبُوَّةَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ثُمَّ قَرَّرَ النُّبُوَّةَ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } . ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ . فَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ وَالْمَعَادَ . وَهَذِهِ أُصُولُ الْإِيمَانِ .
وَفِي آلِ عِمْرَانَ قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } . فَذَكَرَ التَّوْحِيدَ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ثَانِيًا وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ كَمَا قَالَ : { وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ } . وَلَفْظُ " الْفُرْقَانَ " يَتَنَاوَلُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِثْلَ الْآيَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ : كَالْحَيَّةِ وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ . وَالْقُرْآنُ فُرْقَانٌ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِلْمٌ عَظِيمٌ . وَهُوَ أَيْضًا فُرْقَانٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فَرَّقَ بِبَيَانِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } وَلِهَذَا فَسَّرَ جَمَاعَةٌ الْفُرْقَانَ هُنَا بِهِ . وَلَفْظُ " الْفُرْقَانِ " أَيْضًا يَتَنَاوَلُ نَصْرَ اللَّهِ لِأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهْلَاكَ أَعْدَائِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَعْلَامِ قَالَ تَعَالَى : { إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } . وَالْآيَاتُ الَّتِي يَجْعَلُهَا اللَّهُ دِلَالَةً عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ مِمَّا يُنَزِّلُهُ كَمَا قَالَ : { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً } وَقَالَ : { إنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ . وَكَذَلِكَ فِي " سُورَةِ يُونُسَ " قَالَ تَعَالَى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } ثُمَّ قَالَ : { إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } وَفِي سُورَةِ " الم السَّجْدَةُ " قَالَ تَعَالَى : { الم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } وَقَالَ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } . وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } وَقَوْلُهُ : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَوْلُهُ : { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ } وَقَوْلُهُ : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } ثُمَّ قَالَ :
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِسُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ تَارَةً وَتَارَةً قَوْله تَعَالَى { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ } الْآيَاتُ . وَفِي الثَّانِيَةِ { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إلَى هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ فَلَا يَنْجُونَ مِنْ الْعَذَابِ وَلَا يَسْعَدُونَ إلَّا بِهِمَا . فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ وَأَصْلُ مَا جَاءُوا بِهِ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } . وَالْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - هُمْ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ كَلَامِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَأَنْبَائِهِ الَّتِي أَنْبَأَ بِهَا عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَعَرْشِهِ وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَلَيْسُوا وَسَائِطَ فِي خَلْقِهِ لِعِبَادِهِ وَلَا فِي رِزْقِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ وَإِمَاتَتِهِمْ وَلَا
جَزَائِهِمْ بِالْأَعْمَالِ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ وَلَا فِي إجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ وَإِعْطَاءِ سُؤَالِهِمْ ؛ بَلْ هُوَ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَهُوَ الَّذِي يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } . فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَلَا لِأَحَدِ مِنْهُمْ شِرْكٌ مَعَهُ وَلَا لَهُ ظَهِيرٌ مِنْهُمْ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فَالْأَمْرُ فِي الشَّفَاعَةِ إلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } وَقَالَ : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } . وَقَوْلُهُ { إلَّا مَنْ
شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ فِي أَصَحِّ
الْقَوْلَيْنِ .
فَانْقَسَمَ النَّاسُ فِيهِمْ " ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ " : قَوْمٌ
أَنْكَرُوا تَوَسُّطَهُمْ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَكَذَّبُوا بِالْكُتُبِ
وَالرُّسُلِ : مِثْلُ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَقَوْمِ
فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُخْبِرُ اللَّهُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا
الْمُرْسَلِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا جِنْسَ الرُّسُلِ ؛ يُؤْمِنُوا
بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُنْكِرُو النُّبُوَّاتِ مِنْ
البراهمة وَفَلَاسِفَةِ الْهِنْدِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ وَكُلُّ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ لَا يَكُونُ إلَّا مُشْرِكًا
وَكَذَلِكَ مَنْ كَذَّبَ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ حَقًّا } . فَكُلُّ مَنْ كَذَّبَ مُحَمَّدًا أَوْ الْمَسِيحَ أَوْ
دَاوُد أَوْ سُلَيْمَانَ أَوْ غَيْرَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بُعِثُوا
بَعْدَ مُوسَى : فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } وَقَالَ تَعَالَى : {
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا
مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَالْفَلَاسِفَةُ وَالْمَلَاحِدَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ النُّبُوَّاتِ مَنْ جِنْسِ الْمَنَامَاتِ وَيَجْعَلُ مَقْصُودَهَا التَّخْيِيلَ فَقَطْ . قَالَ تَعَالَى : { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } فَهَؤُلَاءِ مُكَذِّبُونَ بِالنُّبُوَّاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُمْ مَخْصُوصِينَ بِعِلْمِ يَنَالُونَهُ بِقُوَّةِ قُدْسِيَّةٍ بِلَا تَعَلُّمٍ ؛ وَلَا يُثْبِتُ مَلَائِكَةً تَنْزِلُ بِالْوَحْيِ . وَلَا كَلَامًا لِلَّهِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بَلْ يَقُولُونَ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ فَلَا يَعْلَمُ لَا مُوسَى وَلَا مُحَمَّدًا وَلَا غَيْرَهُمَا مِنْ الرُّسُلِ وَيَقُولُونَ : خَاصِّيَّةُ النَّبِيِّ - هَذِهِ الْقُوَّةُ الْعِلْمِيَّةُ الْقُدْسِيَّةُ - قُوَّةٌ يُؤَثِّرُ بِهَا فِي الْعَالَمِ وَعَنْهَا تَكُونُ الْخَوَارِقُ وَقُوَّةٌ تَخَيُّلِيَّةٌ وَهُوَ أَنْ تُمَثَّلَ لَهُ الْحَقَائِقُ فِي صُوَرٍ خَيَالِيَّةٍ فِي نَفْسِهِ فَيَرَى فِي نَفْسِهِ أَشْكَالًا نُورَانِيَّةً وَيَسْمَعُ فِي نَفْسِهِ كَلَامًا . فَهَذَا هُوَ النَّبِيُّ عِنْدَهُمْ . وَهَذِهِ الثَّلَاثُ تُوجَدُ لِكَثِيرِ مِنْ آحَادِ الْعَامَّةِ الَّذِينَ غَيْرُهُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ . وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ مِنْ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ فَهُمْ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ يُقِرُّ بِمَا جَاءُوا بِهِ إلَّا فِي أَشْيَاءَ تُخَالِفُ رَأْيَهُ فَيُقَدِّمُ رَأْيَهُ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ وَيُعْرِضُ عَمَّا جَاءُوا بِهِ فَيَقُولُ : إنَّهُ لَا يَدْرِي مَا أَرَادُوا بِهِ أَوْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ . وَهَؤُلَاءِ مَوْجُودُونَ فِي أَهْل الْكِتَابِ وَفِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ ؛ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِيهِمْ .
وَقِسْمٌ ثَانٍ غَلَوْا فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَفِي الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا : فَجَعَلُوهُمْ وَسَائِطَ فِي الْعِبَادَةِ فَعَبَدُوهُمْ لِيُقَرِّبُوهُمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى وَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَعَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي النَّصَارَى وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ ضُلَّالِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الصِّنْفَ فِي الْقُرْآنِ فِي " آلِ عِمْرَانَ " وَفِي " بَرَاءَةٌ " فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ عَلَى النَّصَارَى وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . وَهَذَا الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ هُوَ الَّذِي كَتَبَ إلَى هِرَقْلَ مِلْكِ الرُّومِ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إذَا اسْتَشْفَعُوا بِهِمْ شَفَعُوا لَهُمْ وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ مُعَظَّمًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَاسْتَشْفَعَ بِهِ شَفَعَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا يَشْفَعُ خَوَاصُّ الْمُلُوكِ عِنْدَهُمْ . وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يَشْفَعُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَيَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ لِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ أَوْ مَحَبَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَكُونُ الشَّفِيعُ شَرِيكًا لِلْمَشْفُوعِ إلَيْهِ . وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } . وَهَؤُلَاءِ يَحُجُّونَ إلَى قُبُورِهِمْ وَيَدْعُونَهُمْ ؛ وَقَدْ يَسْجُدُونَ لَهُمْ وَيَنْذِرُونَ لَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ . وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا مُشْرِكُونَ . وَأَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّكْذِيبِ بِبَعْضِ مَا جَاءُوا بِهِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ فَيَكُونُ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ بِالْخَالِقِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ . فَيُعَطِّلُ الْخَالِقَ أَوْ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . فَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَيْسُوا مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ بَلْ يُثْبِتُونَ أَنَّهُمْ وَسَائِطُ فِي التَّبْلِيغِ عَنْ اللَّهِ وَيُؤْمِنُونَ بِهِمْ وَيُحِبُّونَهُمْ وَلَا يَحُجُّونَ إلَى قُبُورِهِمْ وَلَا يَتَّخِذُونَ قُبُورَهُمْ مَسَاجِدَ . وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " . فَإِظْهَارُ ذِكْرِهِمْ وَمَا جَاءُوا بِهِ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِمْ وَإِخْفَاءُ قُبُورِهِمْ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهَا النَّاسُ هُوَ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ . وَالصَّحَابَةُ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ قَامُوا بِهَذَا .
وَلِهَذَا تَجِدُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ : مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . مِنْ مَشَايِخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْعَدْلِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ : مَا يُوجِبُ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءَ لَهُ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ وَمَا يَنْتَفِعُ بِهِ : إمَّا كَلَامٌ لَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ وَإِمَّا عَمَلٌ صَالِحٌ يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ . فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَنْبِيَاءُ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - يُقْصَدُ الِانْتِفَاعُ بِمَا قَالُوهُ وَأَخْبَرُوا بِهِ وَأَمَرُوا بِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيمَا فَعَلُوهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . وَأَمَّا أَهْلُ الضَّلَالِ - كَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الْبِدَعِ - فَهُمْ مَعَ غُلُوِّهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ لِقُبُورِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِمْ لَا تَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ ؛ بَلْ قَدْ الْتَبَسَ هَذَا بِهَذَا وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ يُمَيِّزُ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ بَيْنَ مَا جَاءَ عَنْ الْمَسِيحِ وَمَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ : إمَّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . وَإِمَّا مِنْ شُيُوخِهِمْ بَلْ قَدْ لَبَسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ : تَجِدُهُمْ يُعَظِّمُونَ شَيْخًا أَوْ إمَامًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَيُشْرِكُونَ بِهِ وَيَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِ وَيَنْذِرُونَ لَهُ وَيَحُجُّونَ إلَى قَبْرِهِ . وَقَدْ يَسْجُدُونَ لَهُ وَقَدْ يَعْبُدُونَهُ أَعْظَمَ مِمَّا يَعْبُدُونَ اللَّهَ كَمَا يَفْعَلُ النَّصَارَى وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأَحْوَالِهِ : يَنْقُلُونَ عَنْهُ أَخْبَارًا مُسَيَّبَةً لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ
وَلَا يُعْرَفُ صِدْقُهَا مَنْ كَذِبِهَا ؛ بَلْ عَامَّةُ مَا يَحْفَظُونَهُ مَا فِيهِ غُلُوٌّ وَشَطْحٌ لِلْإِشْرَاكِ بِهِ . فَأَهْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَشُوبُونَهُ بِغَيْرِهِ يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ وَيَعْرِفُونَ أَنْبِيَاءَهُ فَيُقِرُّونَ بِمَا جَاءُوا بِهِ وَيَقْتَدُونَ بِهِ وَيَعْرِفُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَيَنْتَفِعُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ . وَأَهْلُ الضَّلَالِ فِي ظُلْمَةٍ لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا أَنْبِيَاءَهُ . وَلَا أَوْلِيَاءَهُ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ مَنْ يُشْبِهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي بَعْضِ الْأُمُورِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى . قَالَ : فَمَنْ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا : شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسُ وَالرُّومُ ؟ قَالَ : فَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ ؟ . وَمُشَابَهَتُهُمْ فِي الشِّرْكِ بِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ هُوَ مِنْ مُشَابَهَتِهِمْ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا أُمَّتَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ فِي صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ : } إنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِد فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ { . وَأَمَّا لَعْنُهُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ : فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا : لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : } لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ { يَحْذَرُ مَا صَنَعُوا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ ؛ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا وَفِي لَفْظٍ : غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَوْ خُشِيَ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَهُ وَلِلْبُخَارِيِّ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ
الرَّجُلُ
الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ
أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي الْمُسْنَدِ
وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ
تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ
مَسَاجِدَ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَقَدْ بُسِطَ
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا
وَبُيِّنَ مَا خَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ فِي هَذَا
الْبَابِ وَفِي غَيْرِهِ . وَلَمَّا كَانَ أُولَئِكَ أَعْلَمَ وَأَفْضَلَ كَانَ
الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِهِمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
صُورَةُ خُطُوطِ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى ظَهْرِ فُتْيَا الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّة فِي " السَّفَرِ لِمُجَرَّدِ
زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ " :
هَذَا الْمَنْقُولُ بَاطِنُهَا جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ أَنَّ زِيَارَةَ
الْأَنْبِيَاءِ بِدْعَةٌ أَوْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا
يَتَرَخَّصُ فِي السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ . هَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ
مَرْدُودٌ عَلَيْهِ . وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ
الْكِبَارِ أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَضِيلَةٌ وَسُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَهَذَا الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ
يَنْبَغِي أَنْ يُزْجَرَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ عِنْد
الْعُلَمَاء
وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ وَيُمْنَعَ مِنْ الْفَتَاوَى الْغَرِيبَةِ
الْمَرْدُودَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَيُحْبَسَ إذَا لَمْ
يَمْتَنِعْ مِنْ ذَلِكَ وَيُشْهَرَ أَمْرُهُ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ
بِهِ . كَتَبَهُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ
بْنِ سَعْدِ بْنِ جَمَاعَةَ . وَتَحْتَهُ : يَقُولُ أَحْمَد بْنُ عُمَرَ المقدسي
الْحَنْبَلِيُّ . وَتَحْتَهُ : كَذَلِكَ يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ الجريري
الْحَنَفِيِّ . لَكِنْ يُحْبَسُ الْآنَ جَزْمًا مُطْلَقًا . وَتَحْتَهُ : كَذَلِكَ
يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
الْمَالِكِيُّ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيُبَالَغُ فِي زَجْرِهِ بِحَسَبِ مَا
تَنْدَفِعُ بِهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ . فَهَذِهِ
صُورَةُ خُطُوطِهِمْ بِمِصْرِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى
اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ سَيِّدِنَا وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ آمِينَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ
يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ
:
فِي الْجَوَابِ عَمَّا كُتِبَ عَلَى نُسْخَةِ جَوَابِ الْفُتْيَا وَبَيَانِ
بُطْلَانِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ : قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهِيَ
خَمْسُونَ وَجْهًا : تُبَيِّنُ بُطْلَانَ مَا كُتِبَ بِهِ وَبُطْلَانَ الْحُكْمِ
بِهِ . الْأَوَّلُ : أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ الْجَوَابِ مَا لَيْسَ فِيهِ وَرَتَّبَ
الْحُكْمَ عَلَى ذَلِكَ النَّقْلِ الْبَاطِلِ . وَمِثْلُ هَذَا بَاطِلٌ
بِالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّهُ نَقَلَ أَنَّ الْمُجِيبَ قَالَ : إنَّ زِيَارَةَ الْأَنْبِيَاءِ
بِدْعَةٌ أَوْ أَنَّهُ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ وَالْمُجِيبُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ
وَلَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِنَّمَا فِي الْجَوَابِ
ذِكْرُ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . هَلْ يَحْرُمُ هَذَا السَّفَرُ أَوْ يَجُوزُ
وَأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ .
وَالطَّائِفَتَانِ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ فِي الزِّيَارَةِ الْمُطْلَقَةِ بَلْ
جُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ مُسْتَحَبَّةٌ وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ ؛ وَلَكِنْ لَا
يَقُولُونَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهَا كَمَا اتَّفَقَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ إتْيَانُ الْمَسَاجِدِ غَيْرَ الْمَسَاجِدِ
الثَّلَاثَةِ وَأَنَّ إتْيَانَهَا
قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَقَدْ يَكُونُ سُنَّةً : مِثْلَ إتْيَانِهَا لِلْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِفَرْضِ وَلَا سُنَّةٍ فَهَكَذَا زِيَارَةُ الْقُبُورِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ مُسْتَحَبَّةٌ وَهِيَ سُنَّةٌ وَالسَّفَرُ إلَى ذَلِكَ لَيْسَ بِفَرْضِ وَلَا سُنَّةٍ عِنْدَ الطَّائِفَتَيْنِ . وَالْمُجِيبُ لَمْ يَذْكُرْ لِنَفْسِهِ فِي الْجَوَابِ قَوْلًا ؛ بَلْ حَكَى أَقْوَالَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَدِلَّتَهُمْ وَهَؤُلَاءِ نَقَلُوا عَنْهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا لَا يُنَازَعُ فِيهِ وَأَخْطَئُوا فِيمَا نَقَلُوهُ وَفَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِ مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ وَفِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا وَلَكِنَّ مَقْصُودَ هَذَا الْوَجْهِ : أَنَّ الَّذِي كَتَبَ عَلَى الْجَوَابِ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ وَأَنَّهُ قَالَ : إنَّ زِيَارَةَ الْأَنْبِيَاءِ بِدْعَةٌ وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْهُ . وَالْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى النَّقْلِ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّفَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لَيْسَ بِفَرْضِ وَلَا سُنَّةٍ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ سُنَّةً سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّ لِأُمَّتِهِ السَّفَرَ لِذَلِكَ وَلَا قَالَ عُلَمَاءُ شَرِيعَتِهِ إنَّ السَّفَرَ إلَيْهَا سُنَّةٌ . فَقَدْ حَكَمُوا بِمَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَهَذَا الْحُكْمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُجِيبَ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ - فِيمَنْ لَمْ يُسَافِرْ إلَّا إلَى الْقُبُورِ وَلَمْ يَقْصِدْ مَعَ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ - قَوْلَ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ
وَقَوْلَ مَنْ حَرَّمَهُ . وَهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى رَدِّ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ بَلْ قَالُوا : وَهَذَا الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ يَنْبَغِي أَنْ يُزْجَرَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَمَتَى مَا بَطَلَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ بِالْقَوْلَيْنِ تَعَيَّنَ جَعْلُ السَّفَرِ سُنَّةً مُسْتَحَبَّةً . وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِنَقْلِ مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّفَرِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ الْقَوْلَيْنِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِنَقْلِ مَنْ نَقَلَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا وَسُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا . وَهَؤُلَاءِ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى الزِّيَارَةِ لَا عَلَى السَّفَرِ لِمُجَرَّدِ الْقَبْرِ . وَلَوْ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى السَّفَرِ لِلزِّيَارَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُونَ الْمَسْجِدَ وَالْقَبْرَ لَا يَقْصِدُ الْقَبْرَ دُونَ الْمَسْجِدِ إلَّا جَاهِلٌ وَإِذَا قَصَدَ الزَّائِرُ الْمَسْجِدَ وَالْقَبْرَ جَمِيعًا فَالْمُجِيبُ لَمْ يَذْكُرْ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا فِيمَنْ لَمْ يُسَافِرْ إلَّا لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْجَوَابُ لَمْ يَكُنْ فِي خُصُوصِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانَ فِي جِنْسِ الْقُبُورِ . وَجَعَلُوا ذَلِكَ إجْمَاعًا عَلَى السَّفَرِ إلَى سَائِرِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ الْمُجِيبَ فَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَارَةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَبَيْنَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَمَا نَقَلُوهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهِ وَهُمْ جَعَلُوهُ حُجَّةً
عَلَى بُطْلَانِ الْجَوَابِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قِيلَ بِاسْتِحْبَابِ السَّفَرِ مُطْلَقًا فَغَلِطُوا عَلَى مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فَلَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَهُ وَحَكَمُوا بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَمِثْلُ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا النَّقْلَ مُخَالِفًا لِلْجَوَابِ وَلَيْسَ مُخَالِفًا لَهُ ؛ بَلْ الْمُفْتِي قَدْ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ اسْتِحْبَابَ الْعُلَمَاءِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ قَالَ : زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرَّمَةٌ وَالْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى النَّقْلِ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . الْخَامِسُ : أَنَّ هَؤُلَاءِ جَعَلُوا جِنْسَ الزِّيَارَةِ مُسْتَحَبًّا بِالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ الْمَشْرُوعِ وَالْمُحَرَّمِ . وَالزِّيَارَةُ بَعْضُهَا مَشْرُوعٌ وَبَعْضُهَا مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا وَهُمْ أَنْكَرُوا هَذَا التَّفْصِيلَ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَالْحُكْمُ بِهِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . فَإِنَّ الْمُجِيبَ لَمْ يُنْكِرْ السَّفَرَ لِلزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ بَيَّنَ فِي الْجَوَابِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ السَّفَرِ وَمِنْ الزِّيَارَةِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كَلَامِهِ مَشْهُورٌ عَنْهُ . وَذَكَرَ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَمَا اتَّفَقُوا عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ . فَلَوْ وَافَقُوا عَلَى التَّفْصِيلِ لَمْ يُنْكِرُوا الْجَوَابَ فَلَمَّا جَعَلُوا الْجَوَابَ بَاطِلًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْصِلُوا .
السَّادِسُ : أَنَّ الزِّيَارَةَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ . وَنَوْعٌ اتَّفَقُوا عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ . وَنَوْعٌ تَنَازَعُوا فِيهِ . وَفِي الْجَوَابِ ذِكْرُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ . وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَلَا ذَكَرُوا أَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ يُرَدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ بَلْ جَعَلُوهُ مَرْدُودًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَالْحُكْمُ بِذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَالْمُجِيبُ إنَّمَا ذَكَرَ اتِّفَاقَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ إذَا سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قَبْرِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي الْغَالِبِ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مَنْ هُوَ عَارِفٌ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ الْمَسْجِدَ مَعَ الْقَبْرِ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَلِهَذَا احْتَجَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَهَذِهِ الزِّيَارَةُ الَّتِي يَفْعَلُهَا مَنْ يَعْلَمُ الشَّرِيعَةَ لَمْ يَذْكُرْ الْمُجِيبُ أَنَّهَا لَا تُسْتَحَبُّ بِالْإِجْمَاعِ . وَكَيْفَ يَقُولُ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابُهَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ السَّابِعُ : أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الزِّيَارَةَ سُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ لَيْسَ هُوَ إجْمَاعًا عَلَى كُلِّ مَا يُسَمَّى زِيَارَةً وَلَا عَلَى هَذَا اللَّفْظِ ؛ بَلْ هُوَ إجْمَاعٌ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِهِ فِي مَسْجِدِهِ . وَهَلْ يُكْرَهُ أَنْ يُسَمَّى ذَلِكَ زِيَارَةً لِقَبْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَكَثِيرٌ مِمَّا يُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ فِيهِ نِزَاعٌ أَوْ هُوَ مَنْهِيٌّ
عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْإِجْمَاعَ مُتَنَاوِلًا لِمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَاحْتَجُّوا بِالْإِجْمَاعِ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَهَذَا خَطَأٌ . الثَّامِنُ : أَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَلَا إلَى الرَّسُولِ ؛ بَلْ قَالُوا إنَّهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ بِلَا حُجَّةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . التَّاسِعُ : أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا الْإِجْمَاعَ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّفَرِ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقَبْرِ بَلْ الْإِجْمَاعُ إنَّمَا هُوَ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ . وَأَمَّا السَّفَرُ لِمُجَرَّدِ الْقَبْرِ فَهَذَا فِيهِ النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ . وَمَا فِيهِ نِزَاعٌ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ بَلْ ادَّعَوْا فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَغَلِطُوا عَلَى مَنْ حَكَوْا عَنْهُ الْإِجْمَاعَ وَمَنْ زُجِرَ عَنْ قَوْلٍ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ كَانَ هُوَ الْمُخْطِئَ بِالْإِجْمَاعِ . الْعَاشِرُ : أَنَّ مَا لَا إجْمَاعَ فِيهِ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ احْتَجَّ فِيهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ هُوَ الْمُصِيبَ وَالْجَوَابُ فِيهِ ذِكْرُ النِّزَاعِ وَالِاحْتِجَاجِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا ذَلِكَ مَرْدُودًا وَلَمْ يَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ بَلْ رَدُّوا عَلَى مَنْ احْتَجَّ
بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ وَحَكَمُوا بِهَذَا الرَّدِّ الْمُخَالِفِ
لِلْإِجْمَاعِ . وَالْحُكْمُ بِمِثْلِ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . الْحَادِيَ
عَشَرَ : أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْفُتْيَا مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ كَالزِّيَارَةِ
الْمُسْتَحَبَّةِ وَمَا أَجْمَعُوا عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَمَا تَنَازَعُوا
فِيهِ وَهَذَا أَقْصَى مَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُفْتِينَ . وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا
ذَلِكَ مِنْ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ
لَيْسَ بَاطِلًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ جَعَلُوهُ
بَاطِلًا وَحَكَمُوا بِذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ
الْقُضَاةِ أَنْ يَفْصِلَ النِّزَاعَ فِيهِ بِحُكْمِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ
مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يَقُولَ : حَكَمْت بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ
وَأَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ ؛ بَلْ الْحَاكِمُ فِيمَا
تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ : قَوْلُهُ
فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ آحَادِ الْعُلَمَاءِ إنْ كَانَ عَالِمًا وَإِنْ كَانَ
مُقَلِّدًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ وَالْمَنْصِبُ
وَالْوِلَايَةُ لَا يَجْعَلُ مَنْ لَيْسَ عَالِمًا مُجْتَهِدًا عَالِمًا
مُجْتَهِدًا وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِالْوِلَايَةِ
وَالْمَنْصِبِ لَكَانَ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ أَحَقَّ بِالْكَلَامِ فِي
الْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَبِأَنْ يَسْتَفْتِيَهُ النَّاسُ وَيَرْجِعُوا إلَيْهِ
فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ . فَإِذَا كَانَ
الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلَا يُلْزِمُ
الرَّعِيَّةَ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ دُونَ قَوْلٍ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ : فَمَنْ هُوَ دُونَ السُّلْطَانِ فِي الْوِلَايَةِ أَوْلَى
بِأَنْ لَا يَتَعَدَّى
طُورَهُ
وَلَا يُقِيمَ نَفْسَهُ فِي مَنْصِبٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْقِيَامَ فِيهِ أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - وَهُمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ -
فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّمَا
كَانُوا يُلْزِمُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ
نَبِيِّهِمْ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : إنَّمَا بَعَثْت
عُمَّالِي - أَيْ نُوَّابِي - إلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ كِتَابَ رَبِّكُمْ
وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَيَقْسِمُوا بَيْنَكُمْ فَيْأَكُمْ ؛ بَلْ هَذِهِ
يَتَكَلَّمُ فِيهَا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْلَمُ مَا دَلَّتْ
عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَكُلُّ مَنْ
كَانَ أَعْلَمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْكَلَامِ فِيهَا
مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَالْحَاكِمُ لَيْسَ لَهُ فِيهَا
كَلَامٌ لِكَوْنِهِ حَاكِمًا ؛ بَلْ إنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ فِيهَا
كَآحَادِ الْعُلَمَاءِ . فَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ
الْحُكْمُ بِالْإِجْمَاعِ . وَهَذَا مِنْ الْحُكْمِ الْبَاطِلِ بِالْإِجْمَاعِ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّ الْأَحْكَامَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا
الْمُسْلِمُونَ - سَوَاءٌ كَانَتْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا أَوْ مُتَنَازَعًا فِيهَا -
لَيْسَ لِلْقُضَاةِ الْحُكْمُ فِيهَا ؛ بَلْ الْحَاكِمُ الْعَالِمُ كَآحَادِ
الْعُلَمَاءِ يَذْكُرُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ الْقَاضِي
فِي أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ . وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْعَمَلِ وَاجِبًا أَوْ
مُسْتَحَبًّا أَوْ مُحَرَّمًا فَهَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَيْسَ
لِأَحَدِ فِيهَا حُكْمٌ إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ
يَسْتَدِلُّونَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَدِلَّةِ ذَلِكَ .
وَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ وَحُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ
بَاطِلٌ
بِالْإِجْمَاعِ .
الرَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْكُلِّيَّةِ
إنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِأَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
فِيهَا وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ عَالِمًا بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَوَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا . وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ يَتَضَمَّنُ
أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ
الْمَسَائِلِ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ
وَتَنَازَعُوا فِيهِ وَلَا يَعْرِفُونَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا
رَغَّبَ فِيهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يَسُنَّهُ وَلَا يَعْرِفُونَ
الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَالضَّعِيفَةَ فِي هَذَا الْبَابِ بَلْ وَلَا
يَعْرِفُونَ مَذْهَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا عِنْدَهُمْ نَقْلٌ عَنْ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ
أَتْبَاعِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ وَحَكَمُوا بِهِ ؛ بَلْ هُمْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ
آحَادِ الْمُتَفَقِّهَةِ الطَّلَبَةِ الَّذِينَ يَنْبَغِي لَهُمْ طَلَبُ عِلْمِ
هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا وَلَا
يُنَاظِرَ وَلَا يُصَنِّفَ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْكُمَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ
كَانَ كَذَلِكَ وَحَكَمَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ الْحُكْمُ فِيهِ كَانَ حُكْمُهُ مُحَرَّمًا
بِالْإِجْمَاعِ ؛ فَكَيْفَ إذَا حَكَمَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ الْحُكْمُ
وَحَكَمَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ بِغَيْرِ
اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ كَانَ حُكْمُهُ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّ الْقَاضِيَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا عِنْدَ
بَعْضِ
الْعُلَمَاءِ
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ لِلْعُلَمَاءِ : وَهَؤُلَاءِ لَوْ
كَانَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مِمَّا لَهُمْ فِيهِ الْحُكْمُ فَهُمْ لَمْ
يُقَلِّدُوا فِيمَا قَالُوهُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا أَنْ
يَكُونُوا فِيهِ مُجْتَهِدِينَ ؛ بَلْ حَكَمُوا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا
تَقْلِيدٍ وَهَذَا الْحُكْمُ الْبَاطِلُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ عَلَى
يَهُودِيٍّ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٌ . فَكَيْفَ إذَا حَكَمُوا عَلَى عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا حُكْمَ لَهُمْ فِيهَا
بِإِجْمَاعِ .
السَّادِسَ عَشَرَ : لَوْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا الْحُكْمُ وَقَدْ حَكَمُوا
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْحُكْمُ حَتَّى
يَسْمَعُوا كَلَامَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَحُجَّتَهُ وَيَعْذُرُوا إلَيْهِ
وَهَلْ لَهُ جَوَابٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي الْحُقُوقِ
كَالْأَمْوَالِ هَلْ يُحْكَمُ فِيهَا عَلَى غَائِبٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَمَنْ
جَوَّزَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ قَالَ : هُوَ بَاقٍ عَلَى حُجَّتِهِ تُسْمَعُ إذَا
حَضَرَ . فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ وَالْحُدُودُ فَلَا يُحْكَمُ فِيهَا عَلَى
غَائِبٍ وَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا عَلَى غَائِبٍ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ
سَمَاعِ كَلَامِهِ وَالْإِدْلَاءِ بِحُجَّتِهِ وَهَذَا لَوْ كَانَ عَلَى
يَهُودِيٍّ كَانَ حُكْمًا بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ . وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ
النَّاسِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْعَقْلِ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا
الْحُكْمَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ حَقٍّ .
السَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَاكِمُ خَصْمًا لِشَخْصِ فِي حَقٍّ
مِنْ الْحُقُوقِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ عَلَى خَصْمِهِ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ " الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ " إذَا
تَنَازَعَ حَاكِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ أَوْ
حَدِيثٍ
أَوْ بَعْضِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ
بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُمَا خَصْمَانِ فِيمَا تَنَازَعَا فِيهِ . وَالْحَاكِمُ
لَا يَحْكُمُ عَلَى خَصْمِهِ بِالْإِجْمَاعِ . الثَّامِنَ عَشَرَ : أَنَّ هَذِهِ
الْمَسَائِلَ مَنْقُولَةٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا فِيهَا بِخِلَافِ
مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَذَاهِبَ أَئِمَّتِهِمْ
وَلَا مَذَاهِبَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَلَا مَا دَلَّتْ
عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْآثَارُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ
بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمَنْ ادَّعَى مِنْهُمْ أَنَّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ هُوَ
قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِذَلِكَ وَلْيَذْكُرْ مَا ذَكَرَهُ
الْعُلَمَاءُ فِيهَا مِنْ إجْمَاعٍ وَنِزَاعٍ وَأَدِلَّةِ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ
أَنَّ الَّذِي يَقُولُ بِخِلَافِ جَوَابِ الْمُفْتِي قَوْلٌ بَاطِلٌ ؛ وَإِلَّا
فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ حَكَمُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهَذَا بَاطِلٌ
بِالْإِجْمَاعِ .
التَّاسِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ عَارِفًا بِمَذْهَبِهِ لَمْ
يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِمَذْهَبِهِ وَلَا يَقُولَ :
يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ تُفْتُونَ بِمَذْهَبِيِّ وَأَنَّهُ أَيُّ مَذْهَبٍ
خَالَفَ مَذْهَبِي كَانَ بَاطِلًا ؛ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَى مَذْهَبِهِ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلَوْ قَالَ : مَنْ خَالَفَ مَذْهَبِي فَقَوْلُهُ
مَرْدُودٌ وَيَجِبُ مَنْعُ الْمُفْتِي بِهِ وَحَبْسُهُ لَكَانَ مَرْدُودًا
عَلَيْهِ وَكَانَ مُسْتَحِقًّا الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ
إذَا كَانَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَيْسَ هُوَ مَذْهَبَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ بَلْ الَّذِي أَفْتَى بِهِ الْمُفْتِي هُوَ مُوَافِقٌ لِلْإِجْمَاعِ
؛ دُونَ مَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُ وَخَالَفَ الْإِجْمَاعَ .
الْوَجْهُ
الْعِشْرُونَ : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَالِمَ الْكَثِيرَ الْفَتَاوَى
أَخْطَأَ فِي مِائَةِ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا وَكُلُّ مَنْ سِوَى
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ . وَمَنْ مَنَعَ
عَالِمًا مِنْ الْإِفْتَاءِ مُطْلَقًا وَحَكَمَ بِحَبْسِهِ لِكَوْنِهِ أَخْطَأَ
فِي مَسَائِلَ : كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ . فَالْحُكْمُ بِالْمَنْعِ
وَالْحَبْسِ حُكْمٌ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمُفْتِي قَدْ
أَجَابَ بِمَا هُوَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَوْلُ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ ؟ .
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : أَنْ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى فِي الْمَسَائِلِ
الشَّرْعِيَّةِ " مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ " بِمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ ؛ دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ : فِي أَيِّ بَابٍ كَانَ ذَلِكَ : مِنْ
مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ وَالزِّيَارَةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ : لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ
بِلَا حُجَّةٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ؛ وَلَا أَنْ يَحْكُمَ بِلُزُومِهِ وَلَا
مَنْعِهِ مِنْ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ . فَكَيْفَ إذَا مَنَعَهُ
مَنْعًا عَامًّا وَحَكَمَ بِحَبْسِهِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْأَحْكَامِ
بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ ظَنَّ الْإِجْمَاعَ فِيمَا
لَيْسَ فِيهِ إجْمَاعٌ وَأَلْزَمَ النَّاسَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ
مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِكِتَابِ أَوْ سُنَّةٍ
وَكَانَ فِيهِ نِزَاعٌ لَمْ يَعْلَمْهُ لَكَانَ مُخْطِئًا فِي إلْزَامِ النَّاسِ
بِذَلِكَ
بِالْإِجْمَاعِ ؛ إلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ .
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الْحَاكِمَ متى خَالَفَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا
نُقِضَ حُكْمُهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَحُكْمُ هَؤُلَاءِ خَالَفَ النَّصَّ
وَالْإِجْمَاعَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّقْضِ
بِالْإِجْمَاعِ . الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ
وَأَمْثَالَهُ هُوَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحُكْمِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ
فِي بَعْضِ مَا هُوَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ
الْأَحْكَامِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ : فَكَذَلِكَ هَذَا .
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مَعَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ
بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهَا مُثِيرَةٌ لِلْفِتَنِ مُفَرِّقَةٌ بَيْنَ قُلُوبِ
الْأُمَّةِ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْعُدْوَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى وُلَاةِ
أُمُورِهِمْ مُؤْذِيَةٌ لَهُمْ جَالِبَةٌ لِلْفِتَنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَالْحُكْمُ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ صَلَاحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْحُكْمُ
بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ فَسَادُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَيَجِبُ
نَقْضُهُ بِالْإِجْمَاعِ .
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ أَذًى لِلْمُسْلِمِينَ إذَا
كَانَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَانُوا مُطِيعِينَ فِي ذَلِكَ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَجْرُهُمْ فِيهِ عَلَى اللَّهِ كَالْجِهَادِ . أَمَّا إذَا
كَانَ الَّذِي يُؤْذِيهِمْ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ
وَجَبَ رَدُّهُ بِالْإِجْمَاعِ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُؤْذِيَةِ
لِلْمُسْلِمِينَ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ
وَهِيَ
مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ : فَيَجِبُ رَدُّهَا بِالْإِجْمَاعِ .
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ هَذَا الْمُفْتِي يَنْبَغِي
أَنْ يُزْجَرَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ
وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ . وَقَوْلُهُمْ هُوَ الْبَاطِلُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ
وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ . وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ
وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ هُوَ الْبَاطِلُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ
الْكِبَارِ كَانَ قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ بِهِ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ . فَإِنَّ
هَذِهِ الْفُتْيَا هِيَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ : فِيهَا
قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ
لَيْسَ الْعُلَمَاءُ وَالْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ قَوْلٌ إلَّا مَا ذُكِرَ فِيهَا
وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ
الْكِبَارِ .
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُمْ قَالُوا يُمْنَعُ مِنْ الْفَتَاوَى
الْغَرِيبَةِ الْمَرْدُودَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ
أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْحُكْمُ بِهِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ
الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُنْقَضُ حُكْمُ
الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا أَوْ مَعْنَى
ذَلِكَ . فَأَمَّا مَا وَافَقَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي "
مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ " فَإِنَّهُ لَا يُنْقَضُ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهِ
قَوْلَ الْأَرْبَعَةِ وَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ يَجُوزُ أَنْ
يُفْتِيَ بِهِ الْمُفْتِي بِالْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ الْفُتْيَا أَيْسَرُ ؛ فَإِنَّ
الْحَاكِمَ يُلْزِمُ وَالْمُفْتِيَ لَا يُلْزِمُ . فَمَا سَوَّغَ الْأَئِمَّةُ
الْأَرْبَعَةُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ فَهُوَ يُسَوِّغُونَ لِلْمُفْتِي أَنْ
يُفْتِيَ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَمَنْ حَكَمَ بِمَنْعِ
الْإِفْتَاءِ بِذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَسَائِرَ
أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . فَمَا قَالُوهُ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْأَرْبَعَةِ
وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
فَهُوَ
بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ فِيهَا أَقْوَالٌ
قَالَهَا بَعْضُ أَهْلِهَا لَيْسَتْ قَوْلًا لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَفِيهَا
جَمِيعِهَا مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ يَحْكُونَ ذَلِكَ قَوْلًا
فِي الْمَذْهَبِ وَلَا يَحْكُمُونَ بِبُطْلَانِهِ إلَّا بِالْحُجَّةِ ؛ لَا
سِيَّمَا إذَا خَرَجَ عَلَى أُصُولِ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَبَيَّنَ مِنْ
نُصُوصِهِمْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ أَتْبَاعُهُمْ فِي كَثِيرٍ
مِنْ الْمَسَائِلِ . وَالْمُجِيبُ قَدْ ذَكَرَ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ - مِمَّنْ يُعَظِّمُونَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ -
وَكَلَامِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مَا يُعْرَفُ بِهِ أَقْوَالُ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ . فَإِبْطَالُ الْقَوْلِ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَرْبَعَةِ
هُوَ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ وَلِأَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ : فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
الْوَجْهُ الْمُوفِي ثَلَاثِينَ : أَنَّ مَا أَنْكَرُوهُ فِي مَسَائِلِ
الزِّيَارَةِ وَمَسَائِلِ الطَّلَاقِ مِنْ فَتَاوَى الْمُفْتِي الْمَدْلُولِ
لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ
يَكُونَ مَا أَفْتَى بِهِ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ -
كَاَلَّذِي أَفْتَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " مَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ
" فَإِنَّ الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ
الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ وَقَوْلُ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ذَكَرُوا
مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ - وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا
أَفْتَى بِهِ فِيهَا قَوْلُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ بَعْضِ
الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ " كَمَسَائِلِ الطَّلَاقِ " فَإِنَّ
مَسَائِلَ النِّزَاعِ فِيهَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْمَذَاهِبِ
الْأَرْبَعَةِ وَالْمُفْتِي
الْمَذْكُورُ
لَمْ يُفْتِ فِيهَا إلَّا بِمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَمَا يُمْكِنُ الْإِفْتَاءُ
فِيهَا إلَّا بِذَلِكَ . وَمَنْ أَنْكَرَ مَا لَا يَعْلَمُهُ وَحَكَمَ بِلَا
عِلْمٍ وَخَالَفَ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ كَانَ حُكْمُهُ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ
.
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ قَوْلَهُمْ : يُحْبَسُ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ
مِنْ ذَلِكَ وَيُشْهَرُ أَمْرُهُ ؛ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ
بِهِ . وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مَنْ أَظْهَرَ الْبِدْعَةَ فِي دِينِ
الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَحَبَّهَا وَدَعَا إلَيْهَا النَّاسَ وَحَكَمَ بِعُقُوبَةِ
مَنْ أَمَرَ بِالسُّنَّةِ وَدَعَا إلَيْهَا وَالسَّفَرُ إلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ
هِيَ الْبِدْعَةُ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ جَعْلُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ جِنْسًا وَاحِدًا لَا
يُفَرَّقُ بَيْنَ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ
خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ "
الزِّيَارَةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ " الَّتِي يُسَافِرُ فِيهَا
الْمُسْلِمُونَ إلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبَيْنَ السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ غَيْرِهِ : كُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ
لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِجْمَاعِ
أُمَّتِهِ . فَمَنْ أَمَرَ بِذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ بِالْمَنْعِ وَيُشْهَرُ
خَطَؤُهُ ؛ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ : أَوْلَى مِمَّنْ
أَفْتَى بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ
الْفَاعِلُ لِذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُ خَطَأَ هَؤُلَاءِ فِي مَشَارِقِ
الْأَرْضِ وَمَغَارِبهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَزْمِنَةِ
كَمَا فَعَلَهُ فِي سَائِرِ مَنْ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ وَخَالَفَ شَرِيعَةَ
سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ . فَإِنَّ الْمُفْتِيَ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ مَا اتَّفَقَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ
وَمَا
اتَّفَقُوا عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ . وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَلَمْ يُنْهَ عَنْ
الزِّيَارَةِ مُطْلَقًا ؛ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي
ذَكَرُوهُ هُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ لَا مُخَالِفٌ لَهُ . فَالزِّيَارَةُ
الَّتِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَائِلِينَ
بِاسْتِحْبَابِهَا لَا يُجْعَلُ الْمُسْتَحِبُّ مُسَمَّى الزِّيَارَةِ وَيُسَوَّى
بَيْنَ دِينِ الرَّحْمَنِ وَدِينِ الشَّيْطَانِ كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ
وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ دِينِ الرَّحْمَنِ وَدِينِ الشَّيْطَانِ .
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ بِلَا
حُجَّةٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ
وَإِنَّمَا هُوَ دِينُ النَّصَارَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا
أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ : فَأَطَاعُوهُمْ
فَكَانَتْ تِلْكَ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ } . وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ
عَلَى أَنَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ ؛ بَلْ حَكَمُوا بِرَدِّهِ بِقَوْلِهِمْ وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْضًا فَحَكَمُوا بِقَوْلِ ثَالِثِ خِلَافِ قَوْلَيْ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَخَرَجُوا وَحُكْمُهُمْ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ
وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّالِثُ
وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ كَلَامَهُمْ تَضَمَّنَ الِاعْتِرَافَ بِأَنَّ مَا أَفْتَى
بِهِ الْمُفْتِي هُوَ قَوْلُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَحِينَئِذٍ فَمَا
تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَلَا
يَحْكُمُ فِيهِ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ سُنَّةُ نَبِيِّهِ وَهَؤُلَاءِ
حَكَمُوا فِيمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا
سُنَّةِ رَسُولِهِ . وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ
. وَهَذَا لَوْ كَانَ مَا أَفْتَى بِهِ قَوْلَ بَعْضِهِمْ فَكَيْفَ وَهُوَ ذَكَرَ
الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمَا . وَالْقَوْلُ
الَّذِي أَنْكَرُوهُ هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ وَقَوْلُهُمْ لَمْ
يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ وَلَا الصِّغَارِ .
الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُفْتِيَ أَفْتَى
بِالْخَطَإِ فَالْعُقُوبَةُ لَا تَجُوزُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ
فَالْوَاجِبُ أَنْ تُبَيِّنَ دِلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى خَطَئِهِ
وَيُجَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الدَّلِيلِ وَالْجَوَابِ
عَنْ الْمُعَارِضِ ؛ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ مَعَ هَذَا حُجَّةٌ وَمَعَ هَذَا
حُجَّةٌ لَمْ يَجُزْ تَعْيِينُ الصَّوَابِ مَعَ أَحَدِهِمَا إلَّا بِمُرَجِّحِ
وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ الْمُفْتِي
مُخْطِئًا لَمْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ هُوَ الْمُصِيبَ وَهُمْ
الْمُخْطِئُونَ فَحُكْمُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْحُكَّامِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا تَبَيَّنَتْ لَهُ
الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ وَإِلَّا كَانَ
لَهُ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ قَوْلًا
مَرْجُوحًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ
وَالْحَبْسَ وَالْمَنْعَ عَنْ
الْفُتْيَا
مُطْلَقًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْحُكْمُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ .
السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ إلْزَامَ النَّاسِ بِمَا لَمْ يُلْزِمْهُمْ
بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْعَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا جَاءَ بِهِ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحُكْمُ بِهِ
بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى مَا
قَالُوهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا أَجَابُوا عَنْ حُجَّةِ
مَنْ احْتَجَّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِثْلُ هَذَا الْإِلْزَامِ وَالْحُكْمُ
بِهِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَنَازَعُوا
فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ
ثَالِثٍ بَلْ الْقَوْلُ الثَّالِثُ يَكُونُ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ . وَالْمُسْلِمُونَ
تَنَازَعُوا فِي السَّفَرِ لِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ جَائِزٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ . فَاسْتِحْبَابُ ذَلِكَ
قَوْلٌ ثَالِثٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
مَنْ قَالَ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَلَا يُسْتَحَبُّ إلَى
الْمَسَاجِدِ بَلْ السَّفَرُ إلَى الْمَسَاجِدِ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ
أَنَّهُ قَالَ مُسْتَحَبٌّ يَجِبُ بِالنَّذْرِ وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى الْقُبُورِ
لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَا أَنَّهُ يَجِبُ بِالنَّذْرِ
وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الذَّهَابَ إلَى الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ مِنْ
الذَّهَابِ إلَى الْقُبُورِ ؛ فَإِنَّ زِيَارَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ
حَيْثُ كَانَتْ مَشْرُوعَةً فَلَا تُشْرَعُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ
مَرَّاتٍ وَالْمَسْجِدُ مَشْرُوعٌ إتْيَانُهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ
مَرَّاتٍ فَإِتْيَانُهُ أَوْلَى مِنْ إتْيَانِهَا بِالْإِجْمَاعِ .
الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ إتْيَانَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصْدَ ذَلِكَ وَالسَّفَرَ لِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إتْيَانِ قَبْرِهِ لَوْ كَانَتْ الْحُجْرَةُ مَفْتُوحَةً وَالسَّفَرِ إلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَأْتُونَ مَسْجِدَهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَالْحُجْرَةُ إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَدْخُلْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ وَأَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ عِيدًا أَوْ وَثَنًا . وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : { صَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ } . وَكَذَلِكَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ صَلَاتَهُمْ وَسَلَامَهُمْ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى مِنْ عِنْدِ قَبْرِهِ . وَكُلُّ مَنْ يُسَافِرُ لِلزِّيَارَةِ فَسَفَرُهُ إنَّمَا يَكُونُ إلَى الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ قَصَدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَالسَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدِ مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَالْمُجِيبُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ الزِّيَارَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا وَالْمُتَنَازَعَ فِيهَا وَهَؤُلَاءِ أَعْرَضُوا عَنْ الْأَمْرِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَعُلَمَاءُ أُمَّتِهِ وَعَنْ اسْتِحْبَابِ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَمِيعُ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ وَفَهِمُوا مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ مَا لَمْ يَقْصِدُوهُ ؛ فَإِنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا الَّذِي حَكَى أَلْفَاظَهُ قَدْ صَرَّحَ بِمَا صَرَّحَ بِهِ إمَامُهُ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّفَرُ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ اسْتِحْبَابَ قَصْدِ الْقَبْرِ ؛ دُونَ الْمَسْجِدِ ؛ بَلْ ذَكَرَ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ فِي فَضْلِ زِيَارَةِ الرَّسُولِ مَا بَيَّنَ بِهِ مُرَادَهُ وَذَكَرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقِفَ بَعْدَ السَّلَامِ وَهَذَا كَرَاهَتُهُ لِزِيَارَةِ أَكْثَرِ الْعَامَّةِ . وَهَؤُلَاءِ
جَعَلُوا مُسَمَّى الزِّيَارَةِ مُسْتَحَبًّا وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْبِدْعِيَّةِ . وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يُكْرَهُ لَهُمْ الْوُقُوفُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَإِنْ قَصَدُوا مُجَرَّدَ السَّلَامِ ؛ إلَّا عِنْدَ السَّفَرِ . وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَصْدُ الْمَسْجِدِ . وَأَنَّ هَذَا لَمْ يَزَلْ الْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَهُ فَقَالَ " فَصْلٌ فِي حُكْمِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ " : وَزِيَارَةُ قَبْرِهِ سُنَّةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَفَضِيلَةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا . قَالَ : وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُقَالَ : زُرْنَا قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ قَالَ : " وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْفَقِيهُ : وَمِمَّا لَمْ يَزَلْ مِنْ شَأْنِ مَنْ حَجَّ الْمُرُورُ بِالْمَدِينَةِ وَالْقَصْدُ إلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّبَرُّكِ بِرُؤْيَةِ رَوْضَتِهِ وَمِنْبَرِهِ وَقَبْرِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَلَامِسِ يَدَيْهِ وَمَوَاطِئِ قَدَمَيْهِ وَالْعَمُودِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ جبرائيل بِالْوَحْيِ فِيهِ عَلَيْهِ وَبِمَنْ عَمَّرَهُ وَقَصَدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالِاعْتِبَارُ بِذَلِكَ كُلِّهِ . فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي حَكَوْهُ يَتَضَمَّنُ قَصْدَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ وَأَنَّ الْقَبْرَ مِنْ جُمْلَةِ آثَارِهِ . وَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّهُ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى السَّفَرِ إلَى مُجَرَّدِ الْقَبْرِ ؛ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ ذَكَرَ خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . وَهَؤُلَاءِ أَخْطَئُوا عَلَيْهِ فِيمَا نَقَلَهُ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَذَا الْحُكْمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَالِمَ الْكَثِيرَ الْفَتَاوَى أَفْتَى فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ بِخِلَافِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ عَنْهُ . وَخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ : لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِنْ الْفُتْيَا مُطْلَقًا ؛ بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ خَطَؤُهُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ . فَمَا زَالَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَعْصَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ . فَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ فِي " الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ " بِخِلَافِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْفُتْيَا مُطْلَقًا بَلْ بَيَّنُوا لَهُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَالِفَةَ لِقَوْلِهِ فَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى لَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ رَوَوْا لَهُ تَحْرِيمَهُ لِرِبَا الْفَضْلِ وَلَمْ يَرُدُّوا فُتْيَاهُ لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَيَمْنَعُوهُ مِنْ الْفُتْيَا مُطْلَقًا وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . فَالْمَنْعُ الْعَامُّ حُكْمٌ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . لَوْ كَانَ مَا نَازَعُوهُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مَعَهُ ؛ بَلْ وَمَعَهُ إجْمَاعُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا أَنْكَرُوهُ مِنْ مَسَائِلِ الزِّيَارَةِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْ أَبْطَلْ حُكْمٍ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ أَعْظَمِ التَّغْيِيرِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . الْوَجْهُ الْمُوفِي أَرْبَعِينَ : أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ يَعْرِفُهَا عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى هَذَا الْوَقْتِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ
يَحْتَاجُونَ
إلَيْهَا فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَعْرِفَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا الْحَقَّ دُونَ
السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَالْمُجِيبُ قَدْ صَنَّفَ فِيهَا مُجَلَّدَاتٍ :
بَيَّنَ فِيهَا أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَأَفْعَالَهُمْ ؛ وَأَقْوَالَ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ : مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَبَيَّنَ
الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ صَحِيحَهَا وَضَعِيفَهَا وَكَلَامَ الْعُلَمَاءِ
فِيهَا وَبَيَّنَ خَطَأَ مَنْ نَازَعَهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ وَبَسَطَ
الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ لَوْ كَانُوا قَدْ قَالُوا بِبَعْضِ
أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ فَلَمْ يَأْتُوا عَلَيْهِ بِحُجَّةِ ؛ فَكَيْفَ وَقَدْ
قَالُوا مَا يُخَالِفُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِجْمَاعَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ
الَّذِي قَدْ بَيَّنَهُ الرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ وَعَرَفَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ
أُمَّتِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إلَى هَذَا الزَّمَانِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ
هَذَا الْحُكْمِ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا بِبَعْضِ
أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فَظَنُّوا أَنَّهُ لَا تَنَازُعَ فِيهِ كَانُوا عَدَدًا
مِثْلَ مَنْ يَظُنُّ : أَنَّ السُّنَّةَ لِلزَّائِرِ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الْقَبْرِ
وَيَسْتَقْبِلَهُ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَقَدْ يَظُنُّ ذَلِكَ إجْمَاعًا وَهُوَ
غالط ؛ فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَسْتَحِبَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَحِبَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا قَدْ بَيَّنَ
النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي مَوَاضِعِهِ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَحَكَمُوا بِقَوْلِ
لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ
بِالْإِجْمَاعِ . الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّ مَا قَالُوهُ لَوْ قَالَهُ
مُفْتٍ لَوَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ
وَمَنْعُهُ وَحَبْسُهُ إنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ الْإِفْتَاءِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ حَاكِمٌ يُلْزِمُ النَّاسَ بِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَى ذَلِكَ كَأَهْلِ الْبِدَعِ : مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَلَّذِينَ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً يُلْزِمُونَ بِهَا النَّاسَ وَيُعَادُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا وَيَسْتَحِلُّونَ عُقُوبَتَهُ وَالْبِدَعُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلشِّرْكِ وَاِتِّخَاذِ الْقُبُورِ أَوْثَانًا وَالْحَجِّ إلَيْهَا وَدُعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ : مِنْ بِدَعِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ
سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
أَمَّا بَعْدُ يَقُولُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة : إنَّنِي لَمَّا عَلِمْت
مَقْصُودَ وَلِيِّ الْأَمْرِ السُّلْطَانِ - أَيَّدَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ فِيمَا
رَسَمَ بِهِ - كَتَبْت إذْ ذَاكَ كَلَامًا مُخْتَصَرًا لِأَنَّ الْحَاضِرَ
اسْتَعْجَلَ بِالْجَوَابِ وَهَذَا فِيهِ شَرْحُ الْحَالِ أَيْضًا مُخْتَصَرًا
وَإِنَّ رَسْمَ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ أَحْضَرْت لَهُ
كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ - قَدِيمًا وَحَدِيثًا - مِمَّا
فِيهِ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَلَامُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ وَأَتْبَاعِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّا يُوَافِقُ مَا كَتَبْته فِي الْفُتْيَا ؛ فَإِنَّ الْفُتْيَا مُخْتَصَرَةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ . وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَذْكُرَ خِلَافَ ذَلِكَ ؛ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : لَا الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . وَإِنَّمَا خَالَفَ ذَلِكَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ وَلَيْسَ مَعَهُ بِمَا يَقُولُهُ نَقْلٌ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحْضِرَ كِتَابًا مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَقُولُهُ ؛ وَلَا يَعْرِفُ كَيْفَ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ يَفْعَلُونَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ . وَأَنَا خَطِّي مَوْجُودٌ بِمَا أَفْتَيْت بِهِ وَعِنْدِي مِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ كَتَبْته بِخَطِّي وَيُعْرَضُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ شَرْقًا وَغَرْبًا فَمَنْ قَالَ إنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِجَوَابِ مَبْسُوطٍ يُعَرِّفُ فِيهِ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ وَمَا حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ ؟ وَبَعْدَ ذَلِكَ فَوَلِيُّ الْأَمْرِ السُّلْطَانُ أَيَّدَهُ اللَّهُ إذَا رَأَى مَا كَتَبْته وَمَا كَتَبَهُ غَيْرِي فَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ ظَاهِرٌ مِثْلَ الشَّمْسِ : يَعْرِفُهُ أَقَلُّ غِلْمَانِ السُّلْطَانِ الَّذِي مَا رُئِيَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ سُلْطَانٌ مِثْلُهُ زَادَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَتَسْدِيدًا وَتَأْيِيدًا . فَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَإِنَّ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ لَا يَشْتَبِهُ بِغَيْرِهِ
عَلَى الْعَارِفِ كَمَا لَا يَشْتَبِهُ الذَّهَبُ الْخَالِصُ بِالْمَغْشُوشِ عَلَى النَّاقِدِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْضَحَ الْحُجَّةَ وَأَبَانَ الْمَحَجَّةَ بِمُحَمَّدِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ . وَأَفْضَلِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ . فَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ بَيَانُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَرَدُّ مَا يُخَالِفُهُ . فَيَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ " أَوَّلًا " مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَكْذُوبَةَ كَثِيرَةٌ وَبَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ قَدْ صَنَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا يُشْبِهُهَا مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الصَّحَابَةِ أَلْوَانًا يَغْتَرُّ بِهَا الْجَاهِلُونَ . وَهُوَ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ ؛ بَلْ هُوَ مُحِبٌّ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَظِّمٌ لَهُ لَكِنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِذَا وَجَدَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي فَضَائِلِ الْبِقَاعِ وَغَيْرِهَا قَدْ نَسَبَ حَدِيثًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إلَى الصَّحَابَةِ اعْتَقَدَهُ صَحِيحًا وَبَنَى عَلَيْهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا بَلْ كَذِبًا عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ إذَا مَيَّزَ الْعَالِمُ بَيْنَ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَمْ يَقُلْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَفْهَمَ مُرَادَهُ وَيَفْقَهَ مَا قَالَهُ وَيَجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَيَضُمَّ كُلَّ شَكْلٍ إلَى شَكْلِهِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ . فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَجِبُ تَلَقِّيهِ وَقَبُولُهُ وَبِهِ سَادَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ
رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَوَلِيُّ الْأَمْرِ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ أَيَّدَهُ
اللَّهُ وَسَدَّدَهُ هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِنَصْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا
جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَزَجْرِ مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ
وَيَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ وَيَأْمُرُ بِمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَسْعَى فِي إطْفَاءِ دِينِهِ
إمَّا جَهْلًا وَإِمَّا هَوًى .
وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا
ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } { إنْ هُوَ
إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَهُ : { إنْ
يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ
رَبِّهِمُ الْهُدَى } وَيُخَالِفُونَ شَرِيعَتَهُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ
الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ
سُنَّتَهُ وَمَقَاصِدَهُ وَيَتَحَرَّوْنَ مُتَابَعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِحَسَبِ جَهْدِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
فَوَلِيُّ الْأَمْرِ السُّلْطَانُ أَعَزَّهُ اللَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْأَمْرُ فَهُوَ صَاحِبُ السَّيْفِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِوُجُوبِ
الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْيَدِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَيَبِينَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ
أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتَظْهَرُ
حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ وَرِسَالَةُ الرَّسُولِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ أَفْضَلَ
الرُّسُلِ وَخَاتَمَهُمْ وَيَظْهَرُ الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ الَّذِي بُعِثَ
بِهِ وَالنُّورُ الَّذِي أَوْحَى إلَيْهِ وَيُصَانُ ذَلِكَ
عَنْ مَا يَخْلِطُهُ بِهِ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَجْهَلُونَ دِينَهُ وَيُحْدِثُونَ فِي دِينِهِ مِنْ الْبِدَعِ مَا يُضَاهِي بِدَعَ الْمُشْرِكِينَ وَيَنْتَقِصُونَ شَرِيعَتَهُ وَسُنَّتَهُ وَمَا بُعِثَ بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ فَفِي تَنْقِيصِ دِينِهِ وَسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ مِنْ التَّنَقُّصِ لَهُ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ عُقُوبَةً مِثْلَهُ . فَوُلَاةُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَحَقُّ بِنَصْرِ اللَّه وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَإِعْلَاءِ دِينِ اللَّهِ وَإِظْهَارِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا خَاتَمَ الْمُرْسَلِينَ وَأَفْضَلَ النَّبِيِّينَ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ وَشَرَعَ لَا يُعْبَدَ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ . وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ وَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَرْجُونَهُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ إنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصْرِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ . وَقَدْ طَلَبَ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ الْمَقْصُودَ بِمَا كَتَبْته . وَالْمَقْصُودُ طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا . وَلَا تَكُونَ الْعِبَادَةُ إلَّا بِشَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ ؛ أَوْ نَدَبَ إلَيْهِ كَقِيَامِ اللَّيْلِ
وَالسَّفَرِ إلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ فِيهِمَا وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَفِي الصَّلَاةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الْمَسَاجِدِ وَفِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الدِّينَ هُوَ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيمَا سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ . فَلَا تُتَجَاوَزُ سُنَّتُهُ فِيمَا فَعَلَهُ فِي عِبَادَتِهِ : مِثْلَ الذَّهَابِ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَزِيَارَةِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَقُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ . فَأَمَّا مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : كَعِبَادَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ ؛ فَإِنَّ لَهُمْ عِبَادَاتٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا كِتَابًا وَلَا بَعَثَ بِهَا رَسُولًا ؛ مِثْلَ عِبَادَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَعِبَادَاتِ الْكَوَاكِبِ أَوْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي صُوِّرَتْ عَلَى صُوَرِهِمْ كَمَا تَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ يَقُولُونَ إنَّهُمْ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِمْ . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } أَيْ مَا كَانَ بِدْعَةً فِي الشَّرْعِ وَقَدْ يَكُونُ مَشْرُوعًا لَكِنَّهُ إذَا فُعِلَ بَعْدَهُ سُمِّيَ بِدْعَةً كَقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَمَّا جَمَعَهُمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فَقَالَ : نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ . وَقِيَامُ رَمَضَانَ قَدْ سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ وَسَنَنْت لَكُمْ قِيَامَهُ } . وَكَانُوا عَلَى عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ يُصَلِّي الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ جَمَاعَةٌ . وَقَدْ صَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ . وَقَالَ : { إنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ } . لَكِنْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا مَاتَ أَمِنُوا زِيَادَةَ الْفَرْضِ فَجَمَعَهُمْ عُمَرُ عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُ حَتَّى يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا وَآبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَأَهْلِنَا وَأَمْوَالِنَا وَنُعَظِّمَهُ وَنُوَقِّرَهُ وَنُطِيعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَنُوَالِيَ مَنْ يُوَالِيهِ وَنُعَادِيَ مَنْ يُعَادِيهِ . وَنَعْلَمَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ بَلْ وَلَا مُؤْمِنًا وَلَا سَعِيدًا نَاجِيًا مِنْ الْعَذَابِ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَلَا وَسِيلَةَ يُتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا إلَّا الْإِيمَانُ بِهِ وَطَاعَتُهُ . وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمَخْصُوصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى الَّتِي مَيَّزَهُ اللَّهُ بِهَا عَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَاللِّوَاءِ الْمَعْقُودِ لِوَاءِ الْحَمْدِ آدَمَ فَمَنْ
دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ . وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ { فَيَقُولُ الْخَازِنُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُولُ : أَنَا مُحَمَّدٌ . فَيَقُولُ بِك أُمِرْت أَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدِ قَبْلَك } . وَقَدْ فَرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ فَرَائِضَ وَسَنَّ لَهُمْ سُنَنًا مُسْتَحَبَّةً فَالْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَرْضٌ وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ فِيهِمَا وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاعْتِكَافِ مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا أُتِيَ مَسْجِدُهُ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . وَيُسَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ فِيهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا . وَطَلَبَ الْوَسِيلَةَ لَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ : حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ . وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ
قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ جَائِزٌ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَحَيْثُ صَلَّى الرَّجُلُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُوصِلُ صَلَاتَهُ وَسَلَامَهُ إلَيْهِ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمْعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ . قَالُوا : كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت ؟ - أَيْ صِرْت رَمِيمًا - قَالَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } . وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . فَالصَّلَاةُ تَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ كَمَا تَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْقَرِيبِ . وَفِي النَّسَائِي عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ } . وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَشَرَعَ ذَلِكَ لَنَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ نُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ بِالتَّحِيَّاتِ ثُمَّ نَقُولَ : { السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ } . وَهَذَا السَّلَامُ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا . وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ . وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } . وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِهِ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ يُصَلُّونَ
فِي مَسْجِدِهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَإِذَا خَرَجُوا مِنْهُ وَلَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ وَلَا أَنْ يَتَوَجَّهُوا نَحْوَ الْقَبْرِ وَيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالسَّلَامِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْحُجَّاجِ - بَلْ هَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ كَرِهُوا رَفْعَ الصَّوْتِ فِي مَسْجِدِهِ وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلَيْنِ يَرْفَعَانِ أَصْوَاتَهُمَا فِي مَسْجِدِهِ وَرَآهُمَا غَرِيبَيْنِ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتُمَا أَنَّ الْأَصْوَاتَ لَا تُرْفَعُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ لَوْ أَنَّكُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبًا . وَعَذَرَهُمَا بِالْجَهْلِ فَلَمْ يُعَاقِبْهُمَا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ دُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَتْ هِيَ وَحَجَرُ نِسَائِهِ فِي شَرْقِيِّ الْمَسْجِدِ وَقِبْلِيِّهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْمَسْجِدِ وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ انْقَرَضَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِنَحْوِ مِنْ سَنَةٍ مِنْ بَيْعَتِهِ وُسِّعَ الْمَسْجِدُ وَأُدْخِلَتْ فِيهِ الْحُجْرَةُ لِلضَّرُورَةِ : فَإِنَّ الْوَلِيدَ كَتَبَ إلَى نَائِبِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ مِنْ مُلَّاكِهَا وَرَثَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُنَّ كُنَّ قَدْ تُوُفِّينَ كُلُّهُنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ وَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ . فَهَدَمَهَا وَأَدْخَلَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَبَقِيَتْ حُجْرَةُ عَائِشَةَ عَلَى حَالِهَا وَكَانَتْ مُغْلَقَةً لَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ الدُّخُولِ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِصَلَاةِ عِنْدِهِ وَلَا لِدُعَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ إلَى حِينِ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي الْحَيَاةِ وَهِيَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ إدْخَالِ الْحُجْرَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَإِنَّهَا تُوُفِّيَتْ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ وَلِيَ ابْنُهُ يَزِيدُ ثُمَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي الْفِتْنَةِ ثُمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ثُمَّ ابْنُهُ الْوَلِيدُ وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بَعْدَ ثَمَانِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَقَدْ مَاتَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِالْمَدِينَةِ إلَّا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ قَبْلَ إدْخَالِ الْحُجْرَةِ بِعَشْرِ سِنِينَ . فَفِي حَيَاةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهَا لِسَمَاعِ الْحَدِيثِ ولاستفتائها وَزِيَارَتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ إذَا دَخَلَ أَحَدٌ يَذْهَبُ إلَى الْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ لَا لِصَلَاةِ وَلَا لِدُعَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ - بَلْ رُبَّمَا طَلَبَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْهَا أَنْ تُرِيَهُ الْقُبُورَ فَتُرِيَهُ إيَّاهُنَّ وَهِيَ قُبُورٌ لَا لَاطِئَةٌ وَلَا مُشْرِفَةٌ مَبْطُوحَةٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ كَانَتْ مُسَنَّمَةً أَوْ مُسَطَّحَةً وَاَلَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ . قَالَ سُفْيَانُ التَّمَّارُ إنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا - وَلَكِنْ كَانَ الدَّاخِلُ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَهَذَا السَّلَامُ مَشْرُوعٌ لِمَنْ كَانَ يَدْخُلُ الْحُجْرَةَ . وَهَذَا السَّلَامُ هُوَ الْقَرِيبُ الَّذِي يَرُدُّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ . وَأَمَّا السَّلَامُ الْمُطْلَقُ
الَّذِي يُفْعَلُ خَارِجَ الْحُجْرَةِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ فَهُوَ مِثْلُ السَّلَامِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ مَرَّةً عَشْرًا وَيُسَلِّمُ عَلَى مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مَرَّةً عَشْرًا . فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ خُصُوصًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ كَمَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالصَّلَاةُ عَلَى التَّعْيِينِ فَهَذَا إنَّمَا أَمَرَ بِهِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . فَحُجَرُ نِسَائِهِ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ الْمَسْجِدِ شَرْقِيِّهِ وَقِبْلِيِّهِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ } هَذَا لَفْظُ الصَّحِيحَيْنِ وَلَفْظُ " قَبْرِي " لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ قَبْرٌ . وَمَسْجِدُهُ إنَّمَا فُضِّلَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ وَأَسَّسَهُ عَلَى التَّقْوَى . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ . عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ هَكَذَا رَوَى أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَغَيْرُهُمَا
بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ . وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ فُضِّلَ بِهِ وَبِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ بَنَى الْبَيْتَ وَدَعَا النَّاسَ إلَى حَجِّهِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَى النَّاسِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْحَجُّ فَرْضًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا فُرِضَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ نَزَلَتْ آلُ عِمْرَانَ لَمَّا وَفَدَ أَهْلُ نَجْرَانَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ . وَمَنْ قَالَ : فِي سَنَةِ سِتٍّ فَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَإِنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَيْسَ فِيهَا إيجَابُ ابْتِدَاءٍ بِهِ فَالْبَيْتُ الْحَرَامُ كَانَ لَهُ فَضِيلَةُ بِنَاءِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَدُعَاءِ النَّاسِ إلَى حَجِّهِ وَصَارَتْ لَهُ فَضِيلَةٌ ثَانِيَةٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ وَمَنَعَهُ مِنْهُمْ . وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ حَجَّهُ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ . وَقَدْ حَجَّهُ النَّاسُ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فَعَبَدَ اللَّهَ فِيهِ بِسَبَبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْعَافُ مَا كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ مِمَّا كَانَ يُعْبَدُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ . وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } . فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَعَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا وَلَعَنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لِكَوْنِهِمْ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لِأَنَّ هَذَا كَانَ هُوَ أَوَّلَ أَسْبَابِ الشِّرْكِ فِي قَوْمِ نُوحٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ : هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَمَالِ نُصْحِهِ لِأُمَّتِهِ حَذَّرَهُمْ أَنْ يَقَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَنَهَاهُمْ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَعَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِالْكُفَّارِ كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِالْكُفَّارِ . وَلِهَذَا لَمَّا أُدْخِلَتْ الْحُجْرَةُ فِي مَسْجِدِهِ الْمُفَضَّلِ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ - كَمَا تَقَدَّمَ - بَنَوْا عَلَيْهَا حَائِطًا وسنموه وَحَرَّفُوهُ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ إلَى قَبْرِهِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَقَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ فَلَمْ يُتَّخَذْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَثَنًا كَمَا اُتُّخِذَ قَبْرُ غَيْرِهِ بَلْ وَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ الدُّخُولِ إلَى حُجْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ بُنِيَتْ الْحُجْرَةُ . وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا كَانُوا يُمَكِّنُونَ أَحَدًا مِنْ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِ لِيَدْعُوَ عِنْدَهُ وَلَا يُصَلِّيَ عِنْدَهُ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ . لَكِنْ مِنْ الْجُهَّالِ مَنْ يُصَلِّي إلَى حُجْرَتِهِ أَوْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ أَوْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَهَذَا إنَّمَا يُفْعَلُ خَارِجًا عِنْدَ حُجْرَتِهِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ . وَإِلَّا فَهُوَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ فَلَمْ يُمَكَّنْ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَدْخُلَ إلَى قَبْرِهِ فَيُصَلِّيَ عِنْدَهُ أَوْ يَدْعُوَ أَوْ يُشْرِكَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِغَيْرِهِ اُتُّخِذَ قَبْرُهُ وَثَنًا فَإِنَّهُ فِي حَيَاةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا كَانَ أَحَدٌ يَدْخُلُ إلَّا لِأَجْلِهَا وَلَمْ تَكُنْ تُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ شَيْئًا مِمَّا نَهَى عَنْهُ وَبَعْدَهَا كَانَتْ مُغْلَقَةً إلَى أَنْ أُدْخِلَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدَّ بَابُهَا وَبُنِيَ عَلَيْهَا حَائِطٌ آخَرُ . كُلُّ ذَلِكَ صِيَانَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَّخَذَ بَيْتُهُ عِيدًا وَقَبْرُهُ وَثَنًا وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَلَا يَأْتِي إلَى هُنَاكَ إلَّا مُسْلِمٌ وَكُلُّهُمْ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُبُورُ آحَادِ أُمَّتِهِ فِي الْبِلَادِ مُعَظَّمَةٌ . فَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُسْتَهَانَ بِالْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ بَلْ فَعَلَوْهُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ وَثَنًا يُعْبَدُ وَلَا يُتَّخَذُ بَيْتُهُ عِيدًا . وَلِئَلَّا يُفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ . وَالْقَبْرُ الْمُكَرَّمُ فِي الْحُجْرَةِ إنَّمَا عَلَيْهِ بَطْحَاءُ - وَهُوَ الرَّمْلُ الْغَلِيظُ - لَيْسَ عَلَيْهِ حِجَارَةٌ وَلَا خَشَبٌ وَلَا هُوَ مُطَيَّنٌ كَمَا فُعِلَ بِقُبُورِ غَيْرِهِ .
وَهُوَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ سَدًّا
لِلذَّرِيعَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ
غُرُوبِهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى الشِّرْكِ . وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ أَنْ لَا يُتَّخَذَ قَبْرَهُ وَثَنًا يُعْبَدُ ؛ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ
دُعَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ مِثْلَ الَّذِينَ
اُتُّخِذَتْ قُبُورُهُمْ مَسَاجِدَ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُ عِنْدَ قَبْرِهِ
أَلْبَتَّةَ فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إذَا ابْتَدَعَ
أُمَمُهُمْ بِدْعَةً بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا يَنْهَى عَنْهَا . وَهُوَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَعَصَمَ
اللَّهُ أُمَّتَهُ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ وَعَصَمَ قَبْرَهُ
الْمُكَرَّمَ أَنْ يُتَّخَذَ وَثَنًا فَإِنَّ ذَلِكَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوْ
فُعِلَ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ نَبِيٌّ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ الَّذِينَ
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قَدْ غَلَبُوا الْأُمَّةَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ ظَاهِرِينَ
عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْبِدَعِ سَبِيلٌ أَنْ يَفْعَلُوا
بِقَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ كَمَا فُعِلَ بِقُبُورِ غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
فَصْلٌ :
قَدْ ذَكَرْت فِيمَا كَتَبْته مِنْ الْمَنَاسِكِ أَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ
وَزِيَارَةَ قَبْرِهِ - كَمَا يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَاسِكِ
الْحَجِّ - عَمَلٌ صَالِحٌ
مُسْتَحَبٌّ . وَقَدْ ذَكَرْت فِي عُدَّةِ " مَنَاسِكِ الْحَجِّ " السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ وَكَيْفَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهَلْ يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ أَمْ الْقِبْلَةَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ : يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَجْعَلُ الْحُجْرَةَ عَنْ يَسَارِهِ فِي قَوْلٍ وَخَلْفَهُ فِي قَوْلٍ لِأَنَّ الْحُجْرَةَ الْمُكَرَّمَةَ لَمَّا كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ الْمَسْجِدِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ وَجْهَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ كَمَا صَارَ ذَلِكَ مُمْكِنًا بَعْدَ دُخُولِهَا فِي الْمَسْجِدِ . بَلْ كَانَ إنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ صَارَتْ عَنْ يَسَارِهِ وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَهُ وَيَسْتَدْبِرُونَ الْغَرْبَ فَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَرْجَحُ وَإِنْ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ حِينَئِذٍ وَيَجْعَلُونَ الْحُجْرَةَ عَنْ يَسَارِهِمْ فَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْجَحُ . وَالصَّلَاةُ تُقْصَرُ فِي هَذَا السَّفَرِ الْمُسْتَحَبِّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إنَّ هَذَا السَّفَرَ لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ . وَلَا نَهَى أَحَدٌ عَنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِهِ يَزُورُ قَبْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِي وَكَلَامِ غَيْرِي نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا نَهْيٌ عَنْ الْمَشْرُوعِ فِي زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَا عَنْ الْمَشْرُوعِ فِي زِيَارَةِ سَائِرِ الْقُبُورِ ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ اسْتِحْبَابَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُ أَهْلَ الْبَقِيعِ وَشُهَدَاءَ أُحُدٍ وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ
إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ . اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } . وَإِذَا كَانَتْ زِيَارَةُ قُبُورِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ مَشْرُوعَةً فَزِيَارَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْلَى ؛ لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ أَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَأَنْ نُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ وَأَنْ نُصَلِّيَ وَنُسَلِّمَ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ - مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ - وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ . وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ مَشْرُوعٌ لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ حَتَّى كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُقَالَ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءُ لَهُمْ وَذَلِكَ السَّلَامُ وَالدُّعَاءُ قَدْ حَصَلَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فِي الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ وَعِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ . وَعِنْد كُلِّ دُعَاءٍ . فَتُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ دُعَاءٍ فَإِنَّهُ { أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } . وَلِهَذَا يُسَلِّمُ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَيَقُولُ : { السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ
السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ } . وَيُصَلِّي
عَلَيْهِ فَيَدْعُو لَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ . وَأَمَّا غَيْرُهُ
فَلَيْسَ عِنْدَهُ مَسْجِدٌ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ كَمَا يُسْتَحَبُّ
السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَإِنَّمَا يُشْرَعُ أَنْ يُزَارَ قَبْرُهُ كَمَا
شُرِعَتْ زِيَارَةُ الْقُبُورِ . وَأَمَّا هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَشَرَعَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ وَنَهَى عَمَّا يُوهِمُ أَنَّهُ سَفَرٌ إلَى
غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ .
وَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ
الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا بَلْ نَهَى عَنْهَا مِثْلَ اتِّخَاذِ قُبُورِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ وَالصَّلَاةِ إلَى الْقَبْرِ
وَاِتِّخَاذِهِ وَثَنًا . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ
: { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } . حَتَّى إنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ سَافَرَ إلَى الطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ
عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ بَصْرَةُ بْنُ أَبِي بَصْرَةَ
الْغِفَارِيُّ : لَوْ أَدْرَكْتُك قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ لَمَا خَرَجْت سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا تُعْمَلُ
الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي
هَذَا وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ } . فَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ شُرِعَ السَّفَرُ
إلَيْهَا لِعِبَادَةِ اللَّهِ فِيهَا بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ
وَالدُّعَاءِ وَالِاعْتِكَافِ ؛ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مُخْتَصٌّ بِالطَّوَافِ
لَا يُطَافُ بِغَيْرِهِ . وَمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إذَا أَتَاهَا
الْإِنْسَانُ وَصَلَّى فِيهَا مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ
كَانَ
ذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَطَهَّرَ فِي
بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ كَانَتْ خُطُوَاتُهُ إحْدَاهُمَا تَحُطُّ
خَطِيئَةً وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً ؛ وَالْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ
يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ ؛ وَالْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ
فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ
ارْحَمْهُ . مَا لَمْ يُحْدِثْ } . وَلَوْ سَافَرَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ مِثْلُ
أَنْ سَافَرَ إلَى دِمَشْقَ مِنْ مِصْرَ لِأَجْلِ مَسْجِدِهَا أَوْ بِالْعَكْسِ
أَوْ سَافَرَ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا
مَشْرُوعًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَوْ نَذَرَ
ذَلِكَ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ
؛ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي الْمَسَاجِدِ وَقَالَهُ
ابْنُ مسلمة مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي مَسْجِدِ قُبَاء خَاصَّةً . وَلَكِنْ إذَا
أَتَى الْمَدِينَةَ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ قُبَاء وَيُصَلِّيَ
فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَفَرِ وَلَا بِشَدِّ رَحْلٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاء رَاكِبًا
وَمَاشِيًا كُلَّ سَبْتٍ وَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ { مَنْ تَطَهَّرَ
فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاء كَانَ لَهُ كَعُمْرَةِ } رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَقَالَ سَعْدُ بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ
عُمَرَ : صَلَاةٌ فِيهِ كَعُمْرَةِ .
وَلَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَزِمَهُ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَذْهَبَ إلَى مَسْجِدِ
الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَيْسَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِهِ مَا يَجِبُ بِالشَّرْعِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْوَفَاءُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا طَاعَةٌ لِلَّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَلَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ أَوْ السَّفَرَ إلَى مُجَرَّدِ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ صَالِحٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَإِنَّ هَذَا السَّفَرَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . بَلْ قَدْ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } . وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ مَا كَانَ طَاعَةً وَقَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَّى بِنَذْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مُجَرَّدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ . لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } . وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ فِي " الْمَبْسُوطِ " وَمَعْنَاهَا فِي " الْمُدَوَّنَةِ " و " الْخِلَافِ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ مَالِكٍ . يَقُولُ : إنَّ مَنْ نَذَرَ إتْيَانَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يُؤْتَى إلَّا
لِلصَّلَاةِ وَمَنْ نَذَرَ إتْيَانَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ وَفَّى بِنَذْرِهِ وَإِنْ قَصَدَ شَيْئًا آخَرَ مِثْلَ زِيَارَةِ مَنْ بِالْبَقِيعِ أَوْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ لِأَنَّ السَّفَرَ إنَّمَا يُشْرَعُ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ بِخِلَافِهِ بَلْ كَلَامُهُمْ يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ قَوْلَيْنِ : التَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ . وَقُدَمَاؤُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ قَالُوا : إنَّهُ مُحَرَّمٌ . وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ . وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } . صِيغَةُ خَبَرٍ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ فَيَكُونُ حَرَامًا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ بِنَهْيٍ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ بَلْ مُبَاحٌ كَالسَّفَرِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا . فَيُقَالُ لَهُ : تِلْكَ الْأَسْفَارُ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْعِبَادَةُ بَلْ يُقْصَدُ بِهَا مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مُبَاحَةٌ وَالسَّفَرُ إلَى الْقُبُورِ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْعِبَادَةُ وَالْعِبَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِوَاجِبِ أَوْ مُسْتَحَبٍّ فَإِذَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ إلَى الْقُبُورِ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ كَانَ مَنْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ مُبْتَدِعًا مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَالتَّعَبُّدُ بِالْبِدْعَةِ لَيْسَ بِمُبَاحِ لَكِنْ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْذَرُ فَإِذَا بُيِّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا التَّعَبُّدُ بِمَا نَهَى عَنْهُ كَمَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا وَكَمَا لَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ ؛ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ إنْسَانٌ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ . فَالطَّوَائِفُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ إنَّ السَّفَرَ إلَيْهَا مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ بَعْضُ الْأَتْبَاعِ فَهُوَ مُمْكِنٌ وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ فَمَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا . وَإِذَا قِيلَ هَذَا كَانَ قَوْلًا ثَالِثًا فِي الْمَسْأَلَةِ وَحِينَئِذٍ فَيُبَيَّنُ لِصَاحِبِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ - لَمْ يُسَافِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا رَجُلٍ صَالِحٍ . و " قَبْرُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " بِالشَّامِ لَمْ يُسَافِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَكَانُوا يَأْتُونَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ فَيُصَلُّونَ فِيهِ وَلَا يَذْهَبُونَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا بَلْ كَانَ فِي الْبِنَاءِ الَّذِي بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَلَا كَانَ : " قَبْرُ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ " يُعْرَفُ وَلَكِنْ أُظْهِرَ ذَلِكَ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَلِهَذَا وَقَعَ فِيهِ نِزَاعٌ فَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُنْكِرُهُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَزُورُونَهُ فَيُعْرَفُ . وَلَمَّا اسْتَوْلَى
النَّصَارَى عَلَى الشَّامِ نَقَبُوا الْبِنَاءَ الَّذِي كَانَ عَلَى الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاِتَّخَذُوا الْمَكَانَ كَنِيسَةً . ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ بَقِيَ مَفْتُوحًا . وَأَمَّا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ قَبْرُ الْخَلِيلِ مِثْلَ قَبْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يُسَافِرُ إلَى الْمَدِينَةِ لِأَجْلِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانُوا يَأْتُونَ فَيُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَيُسَلِّمُ مَنْ يُسَلِّمُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدْفُونٌ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا يَدْخُلُونَ الْحُجْرَةَ وَلَا يَقِفُونَ خَارِجًا عَنْهَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ السُّورِ . وَكَانَ يَقْدَمُ فِي خِلَافِهِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمْدَادُ الْيَمَنِ الَّذِينَ فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَيُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْهَبُ إلَى الْقَبْرِ وَلَا يَدْخُلُ الْحُجْرَةَ وَلَا يَقُومُ خَارِجَهَا فِي الْمَسْجِدِ بَلْ السَّلَامُ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجِ الْحُجْرَةِ . وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِيهِ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا الْقَوْلُ لَوْ قَالَهُ نِصْفُ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ . فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ هُوَ الدِّينَ الْحَقَّ وَتُسْتَحَلَّ عُقُوبَةُ مَنْ خَالَفَهُ أَوْ يُقَالَ بِكُفْرِهِ فَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَخِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَإِنْ كَانَ الْمُخَالِفُ لِلرَّسُولِ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَكْفُرُ فَاَلَّذِي خَالَفَ سُنَّتَهُ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءَ أُمَّتِهِ فَهُوَ الْكَافِرُ . وَنَحْنُ لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَطَأِ لَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا فِي غَيْرِهَا . وَلَكِنْ إنْ قُدِّرَ تَكْفِيرُ الْمُخْطِئِ فَمَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ - إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ - أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالصَّحَابَةَ وَسَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا فَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ فَمَا أَمَرَ بِهِ هُوَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ وَمَا نَهَى عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ شِرْكًا كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الضَّلَالِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ حَيْثُ يَتَّخِذُونَ الْمَسَاجِدَ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيُصَلُّونَ إلَيْهَا وَيَنْذِرُونَ لَهَا وَيَحُجُّونَ إلَيْهَا . بَلْ قَدْ يَجْعَلُونَ الْحَجَّ إلَى بَيْتِ الْمَخْلُوقِ أَفْضَلَ مِنْ الْحَجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ . وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " الْحَجَّ الْأَكْبَرَ " وَصَنَّفَ لَهُمْ شُيُوخُهُمْ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ كَمَا صَنَّفَ الْمُفِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ كِتَابًا فِي مَنَاسِكَ الْمَشَاهِدِ سَمَّاهُ " مَنَاسِكُ حَجِّ الْمَشَاهِدِ " وَشَبَّهَ بَيْتَ الْمَخْلُوقِ بِبَيْتِ الْخَالِقِ . وَأَصْلُ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا نَجْعَلَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ نِدًّا وَلَا كُفُوًا وَلَا سَمِيًّا . قَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ
تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ
تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ :
أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ رَسُولِهِ {
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
يَلْقَ أَثَامًا } الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } .
فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي الْحُبِّ لَهُ أَوْ الْخَوْفِ
مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أُمَّتَهُ عَنْ دَقِيقِ
الشِّرْكِ وَجَلِيلِهِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ
حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } رَوَاهُ . أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . {
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت ؛ فَقَالَ : أَجَعَلْتَنِي
لِلَّهِ نِدًّا ؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ } وَقَالَ : { لَا تَقُولُوا
مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ ؛ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ
شَاءَ مُحَمَّدٌ } و { جَاءَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مَرَّةً فَسَجَدَ لَهُ فَقَالَ :
مَا هَذَا يَا مُعَاذُ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ
يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ . فَقَالَ : يَا مُعَاذُ ؟ إنَّهُ لَا يَصْلُحُ
السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ وَلَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ
لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا }
. فَلِهَذَا فَرَّقَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ زِيَارَةِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَبَيْنَ زِيَارَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَزِيَارَةُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ لِقُبُورِ الْمُسْلِمِينَ تَتَضَمَّنُ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءَ لَهُمْ وَهِيَ مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ ؛ وَزِيَارَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ يُشَبِّهُونَ الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ يَنْذِرُونَ لَهُ وَيَسْجُدُونَ لَهُ وَيَدْعُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ مِثْلَ مَا يُحِبُّونَ الْخَالِقَ فَيَكُونُونَ قَدْ جَعَلُوهُ لِلَّهِ نِدًّا وَسَوَّوْهُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَقَدْ نَهَى اللَّهُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ فَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْأَنْبِيَاءَ كَالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ وَيَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ فَأَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ عَبِيدُهُ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ . وَنَهَى سُبْحَانَهُ أَنْ يُضْرَبَ لَهُ مَثَلٌ بِالْمَخْلُوقِ فَلَا يُشَبَّهُ بِالْمَخْلُوقِ الَّذِي
يَحْتَاجُ
إلَى الْأَعْوَانِ وَالْحُجَّابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى . { وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا
دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا
يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا
لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ
الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } .
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ لَدَيْهِ
وَشَفَاعَتُهُ أَعْظَمُ الشَّفَاعَاتِ وَجَاهُهُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ الجاهات
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا طَلَبَ الْخَلْقُ الشَّفَاعَةَ مِنْ آدَمَ ثُمَّ مِنْ
نُوحٍ ثُمَّ مِنْ إبْرَاهِيمَ ثُمَّ مِنْ مُوسَى ثُمَّ مِنْ عِيسَى كُلُّ وَاحِدٍ
يُحِيلُهُمْ عَلَى الْآخَرِ فَإِذَا جَاءُوا إلَى الْمَسِيحِ يَقُولُ : اذْهَبُوا
إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا
تَأَخَّرَ ؛ قَالَ : { فَأَذْهَبُ فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا
وَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيُقَالُ
: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ
تُشَفَّعْ . قَالَ : فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ } الْحَدِيثَ
.
فَمَنْ أَنْكَرَ شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ كَمَا يُنْكِرُهَا الْخَوَارِجُ
وَالْمُعْتَزِلَةُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ مَخْلُوقًا يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ
بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَنُصُوصَ الْقُرْآنِ ؛
قَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا
يَشْفَعُونَ
إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي
السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ
اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ
لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا } { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ
الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } وَقَالَ
تَعَالَى : { مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : {
مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } وَمِثْلُ هَذَا فِي
الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . فَالدِّينُ هُوَ مُتَابَعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُؤْمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَيُنْهَى عَمَّا نَهَى
عَنْهُ وَيُحَبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ
وَالْأَشْخَاصِ وَيُبْغَضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ
وَالْأَشْخَاصِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفُرْقَانِ فَفَرَّقَ بَيْنَ
هَذَا وَهَذَا ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ
بَيْنَهُ .
فَمَنْ سَافَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَوْ
مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى فِي مَسْجِدِهِ ؛
وَصَلَّى فِي مَسْجِدِ قُبَاء وَزَارَ الْقُبُورَ كَمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي عَمِلَ
الْعَمَلَ الصَّالِحَ . وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا السَّفَرَ فَهُوَ كَافِرٌ
يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَأَمَّا مَنْ قَصَدَ السَّفَرَ
لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقَبْرِ وَلَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ
وَسَافَرَ إلَى مَدِينَتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ بَلْ أَتَى الْقَبْرَ
ثُمَّ رَجَعَ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ
ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِجْمَاعِ أَصْحَابِهِ وَلِعُلَمَاءِ أُمَّتِهِ . وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الْقَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ . وَاَلَّذِي يَفْعَلُهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ : يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الدُّخُولِ لِلْمَسْجِدِ وَفِي الصَّلَاةِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ ذَكَرْت هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ وَفِي الْفُتْيَا وَذَكَرْت أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ أَذْكُرْ فِيهِ نِزَاعًا فِي الْفُتْيَا مَعَ أَنَّ فِيهِ نِزَاعًا ؛ إذْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يَسْتَحِبُّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُهَا مُطْلَقًا كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَالشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجِلَّةِ التَّابِعِينَ . وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ . وَعَنْهُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً . وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ : أَنَّ الزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ مُسْتَحَبَّةٌ . وَهُوَ أَنْ يَزُورَ قُبُورَ الْمُؤْمِنِينَ لِلدُّعَاءِ لَهُمْ فَيُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُوَ لَهُمْ . وَتُزَارُ قُبُورُ الْكُفَّارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُذَكِّرُ الْآخِرَةَ . وَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ خَاصَّةٌ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ هُوَ مَأْمُورٌ [ بِهِ ] (1) فِي حَقِّ الرَّسُولِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَعِنْد كُلِّ دُعَاءٍ . وَهُوَ قَدْ نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ
وَنَهَى أَنْ يُتَّخَذَ قَبْرُهُ عِيدًا وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ لَا يَجْعَلُهُ وَثَنًا يُعْبَدُ . فَمُنِعَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ إلَى قَبْرِهِ فَيَزُورَهُ كَمَا يَدْخُلُ إلَى قَبْرِ غَيْرِهِ . وَكُلُّ مَا يُفْعَلُ فِي مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ أَمْرٌ خَصَّهُ اللَّهُ وَفَضَّلَهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَأَغْنَاهُ بِذَلِكَ عَمَّا يُفْعَلُ عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ - وَإِنْ كَانَ جَائِزًا . وَأَمَّا " اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ " فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ عِنْدَ كُلِّ قَبْرٍ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إنَّمَا يُصَلِّي لِلَّهِ وَلَا يَدْعُو إلَّا اللَّهَ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ يَدْعُو الْمَخْلُوقَ أَوْ يَسْجُدَ لَهُ وَيَنْذِرَ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ مَنْ أَتَى الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ ؛ وَلَكِنْ أَتَى الْقَبْرَ ثُمَّ رَجَعَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ هَذَا مُسْتَحَبًّا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ ؟ وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ اسْتَحَبَّ مِثْلَ هَذَا بَلْ أَنْكَرُوا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ بِالسَّفَرِ مُجَرَّدَ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ السَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يَفْعَلُ هَذَا بَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ إذَا سَافَرُوا إلَى مَسْجِدِهِ صَلَّوْا فِيهِ وَاجْتَمَعُوا بِخُلَفَائِهِ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَيَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْهُمْ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ . وَلَمْ
يَكُونُوا يَذْهَبُونَ إلَى الْقَبْرِ . وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى خَلْفَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ غَيْرِهِ يَقِفُ عِنْدَ الْحُجْرَةِ خَارِجًا مِنْهَا . وَأَمَّا دُخُولُ الْحُجْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ . فَإِذَا كَانُوا بَعْدَ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ يَفْعَلُونَ مَا سَنَّهُ لَهُمْ فِي الصَّلَاة وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَلَا يَذْهَبُونَ إلَى قَبْرِهِ فَكَيْفَ يَقْصِدُونَ أَنْ يُسَافِرُوا إلَيْهِ ؟ أَوْ يَقْصِدُونَ بِالسَّفَرِ إلَيْهِ دُونَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ ؟ وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ فَلْيَنْقُلْ ذَلِكَ عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ إذَا نَقَلَهُ يَكُونُ قَائِلُهُ قَدْ خَالَفَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ كَمَا خَالَفَ فَاعِلُهُ فِعْلَ الْأُمَّةِ وَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعَ أَصْحَابِهِ وَعُلَمَاءَ أُمَّتِهِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . و { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . } . وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ذَكَرُوا فِي مَنَاسِكِهِمْ اسْتِحْبَابَ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَذَكَرُوا زِيَارَةَ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ إنَّهُ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا زِيَارَةَ الْقَبْرِ يَكُونُ سَفَرُهُ مُسْتَحَبًّا . وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ فِي قَبْرِ غَيْرِهِ . لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَقْصِدْهُ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِالشَّرِيعَةِ وَبِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَى عَنْهُ وَغَايَتُهُ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلِهِ
وَيَعْفُوَ
اللَّهُ عَنْهُ . وَأَمَّا مَنْ يَعْرِفُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ
وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَيْسَ فِيهِمْ
مَنْ أَمَرَ بِالسَّفَرِ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قَبْرِ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِ
نَبِيٍّ بَلْ صَرَّحَ أَكَابِرُهُمْ بِتَحْرِيمِ مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ .
وَإِنَّمَا قَالَ إنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَتَنَازَعُوا حِينَئِذٍ فِيمَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ هَلْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
كَمَا ذَكَرَ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا . وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ بَيْنَ قُبُورِ
الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ : إنَّ السَّفَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ
الْقُبُورِ مُحَرَّمٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَقَوْلُ
الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . فَهَؤُلَاءِ
عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . فَعَلَى
قَوْلِهِمْ لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ ؛ لَكِنَّ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ لَا
يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لَمْ
يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ لَا غَرَضَ لِمُسْلِمِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ
بِالْمُحَرَّمِ . وَحِينَئِذٍ فَسَفَرُهُمْ الَّذِي لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ
مُحَرَّمٌ إذَا قَصَرُوا فِيهِ الصَّلَاةَ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَلَا إعَادَةَ
عَلَيْهِمْ كَمَا لَوْ سَافَرَ الرَّجُلُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ أَوْ سَمَاعِ
الْحَدِيثِ مِنْ شَخْصٍ فَوَجَدَهُ كَذَّابًا أَوْ جَاهِلًا فَإِنَّ قَصْرَ
الصَّلَاةِ فِي مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ جَائِزٌ . وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ أَحْمَد
فِي السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ هَلْ
تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ ؟ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ : قِيلَ : لَا يَقْصُرُ
مُطْلَقًا .
وَقِيلَ : يَقْصُرُ مُطْلَقًا وَقِيلَ : لَا يَقْصُرُ إلَّا إلَى قَبْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : لَا يَقْصُرُ إلَّا إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ دُونَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا قَبْرَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ السَّفَرَ الْمَشْرُوعَ إلَيْهِ هُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَهَذَا السَّفَرُ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَؤُلَاءِ رَأَوْا مُطْلَقَ السَّفَرِ وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ قَصْدٍ وَقَصْدٍ ؛ إذْ كَانَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلُّوا فِي مَسْجِدِهِ فَكُلُّ مَنْ سَافَرَ إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ فَقَدْ سَافَرَ إلَى مَسْجِدِهِ الْمُفَضَّلِ . وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : فَمَنْ نَذَرَ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُوفِي بِنَذْرِهِ وَإِنْ نَذَرَ قَبْرَ غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يُطْلِقُ السَّفَرَ إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ . وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ ؛ إذْ كَانَ كُلُّ مُسْلِمٍ لَا بُدَّ إذَا أَتَى الْحُجْرَةَ الْمُكَرَّمَةَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِ ؛ فَهُمَا عِنْدَهُمْ مُتَلَازِمَانِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : الْمُسْلِمُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ فِي ابْتِدَاءِ السَّفَرِ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ فَالسَّفَرُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَازِمٌ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُسَافِرُوا لِمُجَرَّدِ الْقَبْرِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ السَّفَرُ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ الْقَبْرِ جَائِزٌ وَظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ لِخُصُوصِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ نَبِيًّا فَقَالَ : تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ : أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا السَّفَرِ
فَكُلُّ مَنْ سَافَرَ إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ لَا بُدَّ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ . وَأَمَّا نَفْسُ الْقَصْدِ فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَقْصِدُونَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ وَإِنْ قَصَدَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَدَ السَّفَرَ إلَى الْقَبْرِ أَيْضًا - إذَا لَمْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا فَقَدْ لَا يَقْصِدُ إلَّا السَّفَرَ إلَى الْقَبْرِ ثُمَّ إنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِ فَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ . وَمَا فَعَلَهُ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرٌ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؛ بِخِلَافِ السَّفَرِ إلَى قَبْرِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَيْهِ ؛ لَكِنْ قَدْ يَفْعَلُ هَذَا طَاعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا وَيُغْفَرُ لَهُ مَا جَهِلَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ . وَالصَّلَاةُ فِي الْمَسَاجِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا مُطْلَقًا ؛ بِخِلَافِ مَسْجِدِهِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ فَإِنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَكَانَ حُرْمَتُهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ قَبْلَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهِ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَالْعِبَادَةُ فِيهِ إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ إدْخَالِ الْحُجْرَةِ فِيهِ فَإِنَّهَا إنَّمَا أُدْخِلَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ تَوَلَّى سَنَةَ بِضْعٍ وَثَمَانِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَوْنُهُ نَبِيًّا فَعَدَّى ذَلِكَ فَقَالُوا : يُسَافِرُ
إلَى
سَائِرِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ كَذَلِكَ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ يُحْلَفُ . بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يُحْلَفُ بِشَيْءِ مِنْ
الْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْكَعْبَةِ
وَالْمَلَائِكَةِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّهُ لَا يُحْلَفُ
بِالنَّبِيِّ وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ كَمَا لَا يُحْلَفُ بِشَيْءِ مِنْ
الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِشَيْءِ مِنْ
ذَلِكَ وَحَنِثَ . فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ
عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ } .
وَقَالَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } .
وَفِي السُّنَنِ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } .وَعَنْ
أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُحْلَفُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ خُصُوصًا
وَيَجِبُ ذِكْرُهُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَالْأَذَانِ . فَلِلْإِيمَانِ بِهِ
اخْتِصَاصٌ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : بَلْ هَذَا
لِكَوْنِهِ نَبِيًّا . وَطُرِدَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أَنَّ
الصَّوَابَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَلَفُهُمْ
وَخَلَفُهُمْ أَنَّهُ لَا يُحْلَفُ بِمَخْلُوقِ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِ نَبِيٍّ
وَلَا مَلَكٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ وَلَا شَيْخٍ مِنْ
الشُّيُوخِ .
وَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ كَمَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد كَمَا
تَقَدَّمَ حَتَّى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمَا يَقُولُ أَحَدَهُمْ
: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ
أَحْلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا . وَفِي لَفْظٍ : لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَاهِيَ . فَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ . وَغَايَةُ الْكَذِبِ أَنْ يُشَبَّهَ بِالشِّرْكِ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ } قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا . وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } وَهَذَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بَلْ الْمُحَرَّمُ - الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ ؛ لَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاة عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَعَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَاِتِّخَاذِ قَبْرِهِ عِيدًا . وَنَهَى عَنْ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ . وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . فَهَذَا كُلُّهُ مُحَافَظَةً
عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَلَا يُعْبَدُ غَيْرُهُ وَلَا يُتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُدْعَى إلَّا هُوَ وَلَا يُتَّقَى إلَّا هُوَ وَلَا يُصَلَّى وَلَا يُصَامُ إلَّا لَهُ وَلَا يُنْذَرُ إلَّا لَهُ وَلَا يُحْلَفُ إلَّا بِهِ وَلَا يُحَجُّ إلَّا إلَى بَيْتِهِ . فَالْحَجُّ الْوَاجِبُ لَيْسَ إلَّا إلَى أَفْضَلِ بُيُوتِهِ وَأَقْدَمِهَا وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ . وَالسَّفَرُ الْمُسْتَحَبُّ لَيْسَ إلَّا إلَى مَسْجِدَيْنِ لِكَوْنِهِمَا بَنَاهُمَا نَبِيَّانِ . فَالْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ أَسَّسَهُ عَلَى التَّقْوَى خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ وَمَسْجِدُ إيليا قَدْ كَانَ مَسْجِدًا قَبْلَ سُلَيْمَانَ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلًا ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ . قَالَ قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى . قُلْت : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ سَنَةً ثُمَّ حَيْثُ مَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَإِنَّهُ لَك مَسْجِدٌ } . وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ : { فَإِنَّ فِيهِ الْفَضْلَ } وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ . فَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى كَانَ مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَنَاهُ بِنَاءً عَظِيمًا . فَكُلٌّ مِنْ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بَنَاهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ لِيُصَلِّيَ فِيهِ هُوَ وَالنَّاسُ . فَلَمَّا كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - تَقْصِدُ الصَّلَاةَ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهِمَا لِلصَّلَاةِ فِيهِمَا وَالْعِبَادَةِ اقْتِدَاءً بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَتَأَسِّيًا بِهِمْ . كَمَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِحَجِّهِ فَكَانُوا يُسَافِرُونَ إلَيْهِ مِنْ زَمَنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَى النَّاسِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ . كَمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَفْرُوضًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا نَزَلَتْ " سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ " . وَفِي الْبَقَرَةِ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِمَنْ شَرَعَ فِيهِمَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّطَوُّعُ بِهِمَا يُوجِبُ إتْمَامَهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . وَقِيلَ إنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْمَامِ إيجَابٌ لَهُمَا ابْتِدَاءً وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ . فَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى كُلًّا مِنْهُمَا رَسُولٌ كَرِيمٌ وَدَعَا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهِمَا لِلْعِبَادَةِ فِيهِمَا . وَلَمْ يَبْنِ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَسْجِدًا وَدَعَا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ لِلْعِبَادَةِ فِيهِ إلَّا هَذِهِ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ . وَلَكِنْ كَانَ لَهُمْ مَسَاجِدُ يُصَلُّونَ فِيهَا وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهَا كَمَا كَانَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلِّي فِي مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا دَعَا النَّاسُ إلَى حَجَّ الْبَيْتِ . وَلَا دَعَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى السَّفَرِ إلَى قَبْرِهِ وَلَا بَيْتِهِ وَلَا مَقَامِهِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آثَارِهِ بَلْ هُمْ دَعَوْا إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَهُمْ { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } .
وَلِهَذَا
لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ عَنْ
مَوْضِعِهِ . وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَاجِدِ فَفَضِيلَتُهَا مِنْ أَنَّهَا
مَسْجِدٌ لِلَّهِ وَبَيْتٌ يُصَلَّى فِيهِ وَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ
الْمَسَاجِدِ ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا تَكْثُرُ الْعِبَادَةُ فِيهِ أَوْ
لِكَوْنِهِ أَعْتَقَ مِنْ غَيْرِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ
مَوْجُودَةٌ فِي عَامَّةِ الْمَسَاجِدِ بَعْضُهَا أَكْثَرُ عِبَادَةً مِنْ بَعْضٍ
وَبَعْضُهَا أعتق مِنْ بَعْضٍ . فَلَوْ شُرِعَ السَّفَرُ لِذَلِكَ لَسُوفِرَ إلَى
عَامَّةِ الْمَسَاجِدِ .
وَالسَّفَرُ إلَى الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ حَجٌّ فَالْمُشْرِكُونَ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يَحُجُّونَ إلَى اللَّاتِ
وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْثَانِ
وَلِهَذَا لَمَّا { قَالَ الْحَبْرُ الَّذِي بَشَّرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ : إنَّهُ قَدْ أَظَلَّ
زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ وَهُوَ مِنْ بَيْتٍ يَحُجُّهُ الْعَرَبُ . فَقَالَ
أُمَيَّةُ : نَحْنُ مَعْشَرَ ثَقِيفٍ فِينَا بَيْتٌ يَحُجُّهُ الْعَرَبُ ؛ فَقَالَ
الْحَبْرُ : إنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ إنَّهُ مِنْ إخْوَانِكُمْ مِنْ قُرَيْشٍ } .
فَأَخْبَرَ أُمَيَّةَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحُجُّ إلَى اللَّاتِ . وَقَدْ
ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا كَانَ رَجُلًا يَلُتُّ السَّوِيقَ
لِلْحَاجِّ وَيُطْعِمُهُمْ إيَّاهُ فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ
وَصَارَ وَثَنًا يُحَجُّ إلَيْهِ وَيُصَلَّى لَهُ وَيُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ } بِتَشْدِيدِ التَّاءِ
وَكَانَتْ اللَّاتُ لِأَهْلِ الطَّائِفِ وَالْعُزَّى لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنَاةُ
لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَلِهَذَا { قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا
جَعَلَ يَرْتَجِزُ فَقَالَ : اُعْلُ هُبَلَ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ قَالُوا : وَمَا نَقُولُ ؟ قَالَ : قُولُوا : اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : إنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ قَالُوا : وَمَا نَقُولُ ؟ قَالَ قُولُوا : اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ } . فَالسَّفَرُ إلَى الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ يَحُجُّونَ إلَى آلِهَتِهِمْ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجُّ إلَى اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَحُجُّونَ إلَى الْبَيْتِ وَيَطُوفُونَ بِهِ وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتِ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا تَارَةً يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَتَارَةً يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ . وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ : لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا ملك . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } يَقُولُ تَعَالَى : إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكًا لَهُ مِثْلَ نَفْسِهِ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ مَمْلُوكِي شَرِيكًا لِي ؟ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَلِهَذَا جُعِلَ الشِّرْكُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ كُفْرًا فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَذَمَّ النَّصَارَى عَلَى شِرْكِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى :
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وَالْمُشْرِكُونَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ يَحُجُّونَ إلَى آلِهَتِهِمْ كَمَا يَحُجُّونَ إلَى سمناة وَغَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ . وَكَذَلِكَ النَّصَارَى يَحُجُّونَ إلَى قُمَامَةَ وَبَيْتِ لَحْمٍ وَيَحُجُّونَ إلَى الْقَوْنَة الَّتِي بصيدنايا وَالْقَوْنَة الصُّورَةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَنَائِسِهِمْ الَّتِي بِهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا وَيَدْعُونَهَا وَيَسْتَشْفِعُونَ بِهَا . وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ أبرهة مَلِكَ الْحَبَشَةِ الَّذِي سَاقَ الْفِيلَ إلَى مَكَّةَ لِيَهْدِمَهَا حِينَ اسْتَوْلَتْ الْحَبَشَةُ عَلَى الْيَمَنِ وَقَهَرُوا الْعَرَبَ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا وَفَدَ سَيْفُ بْنُ ذِي يزن فَاسْتَنْجَدَ كِسْرَى مَلِكَ الْفُرْسِ فَأَنْجَدَهُ بِجَيْشِ حَتَّى أَخْرَجَ الْحَبَشَةَ عَنْهَا - وَهُوَ مِمَّنْ بَشَّرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَتْ آيَةُ الْفِيلِ الَّتِي أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا حُرْمَةَ الْكَعْبَةِ لَمَّا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ الطَّيْرَ الْأَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلِ أَيْ جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَالْحِجَارَةُ مِنْ سِجِّيلٍ طِينٌ قَدْ اسْتَحْجَرَ وَكَانَ عَامَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ مِنْ دَلَائِلَ نُبُوَّتِهِ وَأَعْلَامِ رِسَالَتِهِ وَدَلَائِلَ شَرِيعَتِهِ . وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يَحُجُّ وَلَا يُصَلِّي إلَيْهِ إلَّا هُوَ وَأُمَّتُهُ . قَالُوا : كَانَ أبرهة قَدْ بَنَى كَنِيسَةً بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إلَيْهَا فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ فَأَحْدَثَ فِي الْكَنِيسَةِ فَغَضِبَ
لِذَلِك أبرهة وَسَافَرَ إلَى الْكَعْبَةِ لِيَهْدِمَهَا حَتَّى جَرَى مَا جَرَى . قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ } { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ } { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ بَنَى كَنِيسَةً أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إلَيْهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا مَا يَفْعَلُهُ فِي كَنَائِسِ النَّصَارَى . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ إلَى الْكَنَائِسِ عِنْدَهُمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُ يُسَمَّى حَجًّا وَيُضَاهَى بِهِ الْبَيْتُ الْحَرَامُ وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَ بُقْعَةً لِلْعِبَادَةِ فِيهَا كَمَا يُسَافِرُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ قَصَدَ مَا هُوَ عِبَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ أَوْ يُسَافِرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَالْحَجُّ الْوَاجِبُ الَّذِي يُسَمَّى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَجًّا إنَّمَا هُوَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً . وَالسَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ لِلْعِبَادَةِ فِيهَا هُوَ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَسْفَارِ إلَى مَكَانٍ مُعَظَّمٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ إلَيْهِ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ { أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا اجْتَمَعَ بِأُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ وَذَكَرَ عَنْ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِقُرْبِ نَبِيٍّ يُبْعَثُ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ أُمَيَّةُ : قُلْت نَحْنُ مِنْ الْعَرَبِ . قَالَ : إنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَحُجُّهُ الْعَرَبُ قَالَ فَقُلْت : نَحْنُ مَعْشَرَ ثَقِيفٍ فِينَا بَيْتٌ يَحُجُّهُ الْعَرَبُ
قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ إنَّهُ مِنْ إخْوَانِكُمْ قُرَيْشٍ } . كَمَا تَقَدَّمَ . وَثَقِيفٌ كَانَ فِيهِمْ اللَّاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } { وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهَا مَكَانُ رَجُلٍ كَانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ وَيَسْقِيهِ لِلْحُجَّاجِ فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ وَصَارَ ذَلِكَ وَثَنًا عَظِيمًا يُعْبَدُ وَالسَّفَرُ إلَيْهِ كَانُوا يُسَمُّونَهُ حَجًّا كَمَا تَقَدَّمَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ إلَى الْمَشَاهِدِ حَجٌّ إلَيْهَا كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْعَامَّةِ : وَحَقُّ النَّبِيِّ الَّذِي تَحُجُّ الْمَطَايَا إلَيْهِ . قَالَ عَبْدُ بْنُ حميد فِي تَفْسِيرِهِ : حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } قَالَ : كَانَ رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ فَمَاتَ فَاُتُّخِذَ قَبْرُهُ مُصَلًّى . وَقَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " اللَّاتُ " رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحُجَّاجِ . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ عَلَى الْحَجَرِ فَلَا يَشْرَبُ مِنْهُ أَحَدٌ إلَّا سَمِنَ فَعَبَدُوهُ . وَرُوِيَ عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ : كَانَ مُجَاهِدٌ يَقْرَأُ " اللَّاتَّ " مُثَقَّلَةً وَيَقُولُ : كَانَ رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ عَلَى صَخْرَةٍ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ وَيُطْعِمُهُ النَّاسَ فَمَاتَ فَقُبِرَ فَعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ . وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ قَالَ : " اللَّاتُ " حَجَرٌ كَانَ يُلَتُّ السَّوِيقُ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ " اللَّاتَ " . وَقَالَ :
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ السدي عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ : " اللَّاتُ " الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَى آلِهَتِهِمْ وَكَانَ يَلُتُّ لَهُمْ السَّوِيقَ " وَالْعُزَّى " نَخْلَةٌ كَانُوا يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا السُّتُورَ وَالْعِهْنَ " وَمَنَاةُ " حَجَرٌ بِقَدِيدِ . وَقَدْ قَرَأَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ اللَّاتَّ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ . وَقِيلَ إنَّهَا اسْمٌ مَعْدُولٌ عَنْ عَنْ اسْمِ اللَّهِ . قَالَ الخطابي : الْمُشْرِكُونَ يَتَعَاطَوْنَ اللَّهَ اسْمًا لِبَعْضِ أَصْنَامِهِمْ فَصَرَفَهُ اللَّهُ إلَى اللَّاتِ صِيَانَةً لِهَذَا الِاسْمِ وَذَبًّا عَنْهُ . قُلْت : وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَالْقِرَاءَتَيْنِ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ عَلَى حَجَرٍ وَعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ وَسَمُّوهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَخَفَّفُوهُ وَقَصَدُوا أَنْ يَقُولُوا هُوَ الْإِلَهُ كَمَا كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً فَاجْتَمَعَ فِي الِاسْمِ هَذَا وَهَذَا . وَكَانَتْ " اللَّاتُ " لِأَهْلِ الطَّائِفِ وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا " الرَّبَّةَ " " وَالْعُزَّى " لِأَهْلِ مَكَّةَ . وَلِهَذَا { قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ : إنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ فَقَالُوا : مَا نَقُولُ ؟ قَالَ قُولُوا : اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ } الْحَدِيثُ وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَكَانَتْ مَنَاةُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ . فَكُلُّ مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْحِجَازِ كَانَ لَهَا طَاغُوتٌ تَحُجُّ إلَيْهِ وَتَتَّخِذُهُ شَفِيعًا وَتَعْبُدُهُ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ " الْعُزَّى " كَانَتْ لغطفان فَذَلِكَ لِأَنَّ غطفان كَانَتْ تَعْبُدُهَا وَهِيَ فِي جِهَتِهَا . وَأَهْلُ مَكَّةَ يَحُجُّونَ إلَيْهَا
فَإِنَّ الْعُزَّى كَانَتْ بِبَطْنِ نَخْلَةَ مِنْ نَاحِيَةِ عَرَفَاتٍ . وَمَعْلُومٌ بِالنُّقُولِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْعُزَّى . كَمَا عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ كَانَ لَهُمْ اللَّاتَ وَمَنَاةُ كَانَتْ حَذْوَ قَدِيدٍ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُهِلُّونَ لَهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى مِنْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ كَانَتْ أَصْنَامًا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مِنْ حِجَارَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْكَعْبَة " هُبَلُ " الَّذِي ارْتَجَزَ لَهُ { أَبُو سُفْيَانُ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ : اُعْلُ هُبَلَ اُعْلُ هُبَلَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ قَالُوا : وَمَا نَقُولُ ؟ قَالَ قُولُوا : اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ } . كَمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ . هَذَا وَكَانَ إساف وَنَائِلَةُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا . وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ مُؤَنَّثَةٌ : اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَقَدْ قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْت : فِينَا بَيْتٌ يَحُجُّهُ الْعَرَبُ وَأَبُو سُفْيَانَ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِقَاعَ الَّتِي يُسَافَرُ إلَيْهَا فَالسَّفَرُ إلَيْهَا حَجٌّ وَالْحَجُّ نُسُكٌ وَهُوَ حَجٌّ إلَى غَيْرِ بَيْتِ اللَّهِ وَنُسُكٌ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الدُّعَاءَ لَهَا صَلَاةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } فَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ وَنُسُكُهُ لِلَّهِ فَمَنْ سَافَرَ إلَى بُقْعَةٍ غَيْرِ بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَيْهَا وَدَعَا غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ جَعَلَ نُسُكَهُ وَصَلَاتَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ ؛ إذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ خَاصِّيَّةٌ تَسْتَحِقُّ السَّفَرَ إلَيْهِ وَلَا شَرَعَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ السَّفَرَ إلَيْهِ بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ مِنْهَا بَنَاهُ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَدَعَا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهِ فَلَهَا خَصَائِصُ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا . فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ إلَى بُيُوتِ اللَّهِ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ بِالسَّفَرِ إلَى بُيُوتِ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ تُتَّخَذُ قُبُورُهُمْ مَسَاجِدُ وَأَوْثَانًا وَأَعْيَادًا وَيُشْرَكُ بِهَا وَتُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنْ مُعَظِّمِيهَا يُفَضِّلُ الْحَجَّ إلَيْهَا عَلَى الْحَجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَيَجْعَلُ الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ أَفْضَلَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا إنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا } { لَعَنَهُ اللَّهُ } وَكَانَتْ لَهَا شَيَاطِينُ تُكَلِّمُهُمْ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي كُلِّ
صَنَمٍ شَيْطَانٌ يَتَرَاءَى لِلسَّدَنَةِ وَيُكَلِّمُهُمْ . وَقَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ : مَعَ كُلِّ صَنَمٍ جِنِّيَّةٌ . وَقَدْ قِيلَ : الْإِنَاثُ هِيَ الْمَوَاتُ . وَعَنْ الْحَسَنِ : كُلُّ شَيْءٍ لَا رُوحَ فِيهِ كَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ فَهُوَ إنَاثٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَالْمَوَاتُ كُلُّهَا يُخْبَرُ عَنْهَا كَمَا يُخْبَرُ مِنْ الْمُؤَنَّثِ . فَتَقُولُ فِي ذَلِكَ : الْأَحْجَارُ تُعْجِبُنِي وَالدَّرَاهِمُ تَنْفَعُك . وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْمَوَاتِ بَلْ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ . تَعَالَى يُجْمَعُ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ فَيُقَالُ : الْمَلَائِكَةُ وَيُقَالُ لِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ : آلِهَةٌ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } { إنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } هِيَ أَوْثَانٌ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ قَالَ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ . } فَالْآلِهَةُ الْمَعْبُودَةُ مَنْ دُونِ اللَّهِ كُلُّهَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَهِيَ
الْأَوْثَانُ الَّتِي تُتَّخَذُ مَنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ أَسْمَاءً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ . وَأَيْضًا فَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَرَوْنَهُمْ وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ تَمَاثِيلَ صَوَّرُوهَا عَلَى مِثَالِ صُوَرِهِمْ وَهِيَ مِنْ تُرَابٍ وَحَجَرٍ وَخَشَبٍ فَهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَوَاتَ . وَفِي الصَّحِيحِ - صَحِيحِ مُسْلِمٍ - عَنْ أَبِي الهياج الأسدي قَالَ : قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعَثَنِي أَنْ لَا أَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } وَجَمِيعُ الْأَمْوَاتِ لَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ . فَلَا يَعْلَمُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ أَبُو بَكْرٍ
الصَّدِيقُ فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ . وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } وَكَأَنَّ النَّاسَ مَا سَمِعُوهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ } فَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا وَهُوَ يَتْلُوهَا . وَالنَّاسُ تَغِيبُ عَنْهُمْ مَعَانِي الْقُرْآنِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ فَإِذَا ذُكِّرُوا بِهَا عَرَفُوهَا . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } { تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } أَيْ قِسْمَةٌ جَائِرَةٌ عَوْجَاءُ إذْ تَجْعَلُونَ لَكُمْ مَا تُحِبُّونَ وَهُمْ الذُّكُورُ وَتَجْعَلُونَ لِي الْإِنَاثَ وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ حَيْثُ جَعَلُوا لَهُ أَوْلَادًا إنَاثًا وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ أَحَدِهِمْ أُنْثَى . كَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ وَلَدًا وَيُجِلُّونَ الرَّاهِبَ الْكَبِيرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ . وَأَمَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } فَسَّرَهَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْكَلْبِيُّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : هَذِهِ الْأَصْنَامُ بَنَاتُ اللَّهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ إنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى . بَعْدَ هَذَا : { إنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى } وَقَالَ : { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } فَإِنَّ الْوَلَدَ يُمَاثِلُ أَبَاهُ وَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ يُمَاثِلُ شَرِيكَهُ فَهُمْ ضَرَبُوا الْإِنَاثَ مَثَلًا وَهُمْ جَعَلُوا هَذِهِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَكَانُوا يَجْعَلُونَهَا أَنْدَادًا لِلَّهِ وَالشَّرِيكُ كَالْأَخِ فَجَعَلُوا لَهُ أَوْلَادًا إنَاثًا وَشُرَكَاءَ إنَاثًا فَجَعَلُوا لَهُ بَنَاتٍ وَأَخَوَاتٍ وَهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ لِأَحَدِهِمْ أُنْثَى لَا بِنْتٌ وَلَا أُخْتٌ ؛ بَلْ إذَا كَانَ الْأَبُ يَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ بِنْتٌ فَالْأُخْتُ أَشَدُّ كَرَاهَةً لَهُ مِنْهَا . وَلَمْ يَكُونُوا يُورِثُونَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ . فَتَبَيَّنَ فَرْطُ جَهْلِهِمْ وَظُلْمِهِمْ إذْ جَعَلُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ فَكَانَتْ أَنْفُسُهُمْ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَهَذَا كَمَا ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فَقَالَ تَعَالَى : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ
فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . فَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُ أَحَدِهِمْ شَرِيكَهُ وَقَدْ جَعَلُوا مَمْلُوكِي الرَّبِّ شُرَكَاءَ لَهُ فَجَعَلُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَمِنْ الْأَوْلَادِ : لَا يَرْضَوْنَ مَمْلُوكِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ وَقَدْ جَعَلُوهُمْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَلَا يَرْضَوْنَ مِنْ الْأَوْلَادِ بِالْإِنَاثِ فَلَا يَرْضَوْنَهَا وَلَدًا وَلَا نَظِيرًا وَهُمْ جَعَلُوا الْإِنَاثَ لِلَّهِ أَوْلَادًا وَنُظَرَاءَ . وَالنُّكْتَةُ أَنَّ اللَّهَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَعْلَى وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِصِفَةِ يُنَزَّهُ عَنْهَا الْمَخْلُوقُ كَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ فَقِيرٌ وَإِنَّهُ بَخِيلٌ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ لَا يُوصَفُ إلَّا بِالسُّلُوبِ أَوْ لَا يُوصَفُ لَا بِسَلْبِ وَلَا إثْبَاتٍ . وَاَلَّذِينَ جَعَلُوا بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مُمَاثِلَةً لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فِي عِبَادَةٍ لَهُ أَوْ دُعَاءٍ لَهُ أَوْ تَوَكُّلٍ عَلَيْهِ أَوْ حُبِّهَا مِثْلَ حُبِّهِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ ؛ بَلْ عَبَثًا . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضَعَ الْأَشْيَاءُ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فَيُعَاقِبُ خِيَارَ النَّاسِ وَيُكْرِمُ شِرَارَهُمْ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُحَبَّ غَيْرُهُ كَمَا يُحَبُّ هُوَ وَيُدْعَى وَيَسْأَلُ فَجَعَلُوا مَمْلُوكَهُ نِدًّا لَهُ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَالْقُرْآنُ مَلْآنُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . فَلَا يُمَثَّلُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالطَّاعَةِ وَالدُّعَاءِ وَسَائِرِ حُقُوقِهِ . قَالَ تَعَالَى : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } فَلَا أَحَدَ يُسَامِيهِ . وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُسَاوِيهِ فِي مَعْنَى شَيْءٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ لَا فِي مَعْنَى الْحَيِّ وَلَا الْعَلِيمِ وَلَا الْقَدِيرِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَلَا فِي مَعْنَى الذَّاتِ وَالْمَوْجُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ وَلَا يَكُونُ إلَهًا وَلَا رَبًّا وَلَا خَالِقًا . فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يكافيه فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ : فَلَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ وَلَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ . قَالَ تَعَالَى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } { وَجُنُودُ إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ } { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ السَّفَرَ إلَى الْأَمَاكِنِ الْمُعَظَّمَةِ - الْقُبُورِ وَغَيْرِهَا - عِنْدَ أَصْحَابِهِ كَالْحَجِّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين لَفْظًا وَمَعْنًى فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ مِنْ دُعَاءِ الْمَخْلُوقِ وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ نَظِيرَ مَا يَقْصِدُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ ؛ لَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَهُمْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ حَجًّا إلَيْهَا وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ يَحُجُّونَ إلَى الْمَشَاهِدِ وَقُبُورِ شُيُوخِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ حَجًّا . وَيَقُولُ دَاعِيَتُهُمْ : السَّفَرُ إلَى الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَيُظْهِرُونَ عَلَمًا لِلْحَجِّ إلَيْهِ وَمَعَهُ مُنَادٍ يُنَادِي إلَيْهِ كَمَا يَرْفَعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَمًا لِلْحَجِّ لَكِنَّ دَاعِيَ أَهْلِ الْبِدَعِ يُنَادِي : السَّفَرُ إلَى الْحَجِّ الْأَكْبَرِ عَلَانِيَةً فِي مِثْلِ بَغْدَادَ يَعْنِي السَّفَرَ إلَى مَشْهَدٍ مِنْ الْمَشَاهِدِ فَيَجْعَلُونَ السَّفَرَ إلَى قَبْرِ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ هُوَ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ وَالْحَجَّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ الْأَصْغَرُ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّتُهُمْ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ . وَمِنْ جُهَّالِ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : وَحَقُّ النَّبِيِّ الَّذِي تَحُجُّ الْمَطَايَا إلَيْهِ . فَلَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ الْمَخْلُوقَ وَيَحُجُّونَ إلَى قَبْرِهِ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
الْعَالَمِينَ } { لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } . وقَوْله تَعَالَى { وَنُسُكِي } قَدْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ : الذَّبْحَ لِلَّهِ وَالْحَجَّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ . وَذَكَرُوا أَنَّ لَفْظَ النُّسُكِ يَتَنَاوَلُ الْعِبَادَةَ مُطْلَقًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الذَّبْحَ وَالْحَجَّ كِلَاهُمَا مَنْسَكٌ : قَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ شَاةُ لَحْمٍ عَجَّلَهَا لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ } . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } فَأَرَى اللَّهُ إبْرَاهِيمَ وَابْنَهُ إسْمَاعِيلَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي تُقْصَدُ فِي الْحَجِّ وَالْأَفْعَالَ الَّتِي تُفْعَلُ هُنَاكَ : كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَالصَّلَاةُ تَتَنَاوَلُ الدُّعَاءَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ وَاَلَّذِي هُوَ بِمَعْنَى السُّؤَالِ . فَالصَّلَاةُ تَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } فَقَدْ فُسِّرَ دُعَاؤُهُ بِسُؤَالِهِ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ : { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ لِلَّهِ وَلَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ إلَّا لِلَّهِ ؛ لَا تُبْنَى عَلَى قَبْرِ مَخْلُوقٍ وَلَا مِنْ أَجْلِهِ وَلَا يُسَافَرُ إلَى بُيُوتِ الْمَخْلُوقِينَ . وَقَدْ نَهَى أَنْ يُحَجَّ وَيُسَافَرَ إلَى بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا تِلْكَ الْخَصَائِصُ . وَهَذَا وَنَحْوُهُ يُعْرَفُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ . وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَسْتَحِبُّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ . وَمَنْ نَقَلَ ذَلِكَ فَلْيُخَرِّجْ نَقْلَهُ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْفُتْيَا إلَّا مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ فَالْمُخَالِفُ لِذَلِكَ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَشَرْعِهِمْ وَلِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ؛ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَلِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا يُعْبَدُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ لَا يُعْبَدُ بِمَا نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يَشْرَعْهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا . فَبَعَثَهُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين .
وَجَمِيعُ
الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا مَعَاشِرُ
الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ الْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعَلَّاتِ } . وَقَدْ
أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ
وَأَتْبَاعِ مُوسَى وَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ
مُتَّفِقِينَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ يُعْبَدَ
بِمَا أَمَرَ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يُعْبَدُ غَيْرُهُ وَلَا يُعْبَدُ
هُوَ بِدِينِ لَمْ يَشْرَعْهُ . فَلَمَّا أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ
الْإِسْلَامِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ .
ثُمَّ لَمَّا نُسِخَ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ كَانَ
هَذَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَذَلِكَ الْمَنْسُوخُ لَيْسَ مِنْ دِينِ
الْإِسْلَامِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا } فَلِلتَّوْرَاةِ شِرْعَةٌ وَلِلْإِنْجِيلِ شِرْعَةٌ وَلِلْقُرْآنِ
شِرْعَةٌ . فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِشَرْعِ التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ
الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ وَلَمْ يُنْسَخْ فَهُوَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ
كَاَلَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ بِلَا تَبْدِيلٍ قَبْلَ
مَبْعَثِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاَلَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ
الْإِنْجِيلِ بِلَا تَبْدِيلٍ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا مَنْ اتَّبَعَ دِينًا مُبَدِّلًا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ أَوْ دِينًا
مَنْسُوخًا فَهَذَا قَدْ خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَالْيَهُودِ الَّذِينَ
بَدَّلُوا التَّوْرَاةَ كَذَّبُوا الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ كَذَّبُوا
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالنَّصَارَى الَّذِينَ
بَدَّلُوا الْإِنْجِيلَ وَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
. فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا عَلَى
دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ بَلْ هُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِيمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ الْحَقِّ وَابْتَدَعُوهُ مِنْ الْبَاطِلِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مُبْتَدِعٍ خَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ وَابْتَدَعَ مِنْ الْبَاطِلِ مَا لَمْ تَشْرَعْهُ الرُّسُلُ . فَالرَّسُولُ بَرِيءٌ مِمَّا ابْتَدَعَهُ وَخَالَفَهُ فِيهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّهُمْ حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَالسُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الدِّينِ الْعَامَ الَّذِي بُعِثَ بِهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . وَأُمَّتُهُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . وَقَدْ بَعَثَهُ اللَّهُ بِأَفْضَلِ الْكُتُبِ وَأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ . وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ . وَأَتَمَّ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ . وَرَضِيَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا . وَهُوَ قَدْ دَعَا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَتَّبِعَ
هَذَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَلَا نَعْدِلَ عَنْهُ إلَى السُّبُلِ الْمُبْتَدَعَةِ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ . ثُمَّ قَرَأَ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } } وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى بَيَّنَ الدِّينَ وَأَوْضَحَ السَّبِيلَ وَقَالَ : { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ النَّقِيَّةِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَرَكْت مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَلَا مِنْ شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ } . وَقَالَ { إنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الدِّينِ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ . وَمَا دَلَّا عَلَيْهِ . وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ حَقٌّ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ؛ فَإِنَّ أُمَّتَهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ كَمَا أَخْبَرَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَجَارَكُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ أَنْ تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ } . وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ رَدُّوهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَفْعَلُونَ فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ هَذَا حَدِيثٌ سَمِعَهُ أَوْ مَعْنًى فَهِمَهُ خَفِيَ عَلَى الْآخَرِ وَالْآخَرُ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ أَيْضًا . وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَلَوْ صَلَّى أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ إذَا أَغْيَمَتْ السَّمَاءُ كُلٌّ بِاجْتِهَادِهِ فَكُلُّهُمْ مُطِيعٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَصَابَ جِهَةَ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فَأَثْنَى تَعَالَى عَلَى
النَّبِيِّينَ جَمِيعًا مَعَ أَنَّهُ خَصَّ أَحَدَهُمَا بِفَهْمِ تِلْكَ الْحُكُومَةِ . وَالدِّينُ كُلُّهُ مَأْخُوذٌ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لِأَحَدِ بَعْدَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مِنْ دِينِهِ شَيْئًا . هَذَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ . بِخِلَافِ النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ لِعُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ أَنْ يَشْرَعُوا شَرْعًا يُخَالِفُ شَرْعَ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ } . وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي شَيْءٍ أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَاتِّبَاعٍ لِمَنْ قَبْلُهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى . بِخِلَافِ غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } .
وَتَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمْ يُنْسَخْ فَإِنَّ أَحَادِيثَ النَّسْخِ لَمْ يَرْوِهَا الْبُخَارِيُّ وَلَمْ تَشْتَهِرْ . وَلَمَّا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ . احْتَجَّ بِحَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي بَكَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ . وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لَزُرْت قَبْرَ ابْنِي . وَقَالَ النَّخَعِي : كَانُوا يَكْرَهُونَ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَعَنْ ابْنِ سِيرِين مِثْلُهُ . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَقَالَ ؛ قَدْ كَانَ نَهَى عَنْهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ أَذِنَ فِيهَا فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ إنْسَانٌ وَلَمْ يَقُلْ إلَّا خَيْرًا لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُضَعِّفُ زِيَارَتَهَا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى أَوَّلًا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَقِيلَ : لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ . وَقِيلَ لِأَجْلِ النِّيَاحَةِ عِنْدَهَا . وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِهَا . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَاثَرُونَ بِقُبُورِ الْمَوْتَى . وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ : وَهَذَا تَأْنِيبٌ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَيْ حَتَّى جَعَلْتُمْ أَشْغَالَكُمْ الْقَاطِعَةَ لَكُمْ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ زِيَارَةَ الْقُبُورِ تَكَثُّرًا بِمَنْ سَلَفَ وَإِشَادَةً بِذِكْرِهِ . ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ
الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا } فَكَانَ نَهْيُهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ . ثُمَّ أَبَاحَ الزِّيَارَةَ بَعْدُ لِمَعْنَى الِاتِّعَاظِ لَا لِمَعْنَى الْمُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ وَتَسْنِيمِهَا بِالْحِجَارَةِ الرُّخَامِ وَتَلْوِينِهَا سَرَفًا وَبُنْيَانِ النَّوَاوِيسِ عَلَيْهَا هَذَا لَفْظُ ابْنِ عَطِيَّةَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ . وَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْمُقَيَّرِ . وَاخْتَلَفُوا هَلْ نُسِخَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَمْ يُنْسَخْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّسْخِ لَيْسَتْ مَشْهُورَةً . وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ مَا فِيهِ نَسْخٌ عَامٌّ . وَقَالَ الْآخَرُونَ : بَلْ نُسِخَ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : إنَّمَا نُسِخَ إلَى الْإِبَاحَةِ فَزِيَارَةُ الْقُبُورِ مُبَاحَةٌ لَا مُسْتَحَبَّةٌ . وَهَذَا قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . قَالُوا : لِأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ بَعْدَ الْحَظْرِ إنَّمَا تُفِيدُ الْإِبَاحَةَ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَكُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } وَرُوِيَ { فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ لِمَا كَانَ يُقَالُ عِنْدَهَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُنْكَرَةِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ كَالنَّهْيِ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ أَوَّلًا لِأَنَّ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ تَدِبُّ فِيهَا وَلَا يُدْرَى بِذَلِكَ فَيَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرَ وَهُوَ لَا يَدْرِي .
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَحَبَّةٌ لِلدُّعَاءِ لِلْمَوْتَى مَعَ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ { كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إلَى الْبَقِيعِ فَيَدْعُو لَهُمْ } . وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ خَرَجَ إلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ فَصَلَّى عَلَيْهِمْ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَوْتَى كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ } . وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ . اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } . وَهَذَا فِي زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ . وَأَمَّا زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ فَرُخِّصَ فِيهَا لِأَجْلِ تِذْكَارِ الْآخِرَةِ وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ . وَقَالَ : اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } . وَالْعُلَمَاءُ الْمُتَنَازِعُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَحْتَجُّ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَيَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ - فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ - وَقَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .
وَالْأَقْوَالُ
الثَّلَاثَةُ صَحِيحَةٌ بِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ الزِّيَارَةَ إذَا تَضَمَّنَتْ
أَمْرًا مُحَرَّمًا : مِنْ شِرْكٍ أَوْ كَذِبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ نِيَاحَةٍ
وَقَوْلِ هُجْرٍ : فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَزِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ
بِاَللَّهِ وَالسَّاخِطِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ زِيَارَتُهُمْ
مُحَرَّمَةٌ . فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ دِينٌ إلَّا دِينُ الْإِسْلَامِ . وَهُوَ
الِاسْتِسْلَامِ لِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ . فَيُسَلِّمُ لِمَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ
وَيُسَلِّمُ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُحِبُّهُ . وَهَذَا نَفْعَلُهُ وَنَدْعُو
إلَيْهِ وَذَاكَ نُسَلِّمُهُ وَنَتَوَكَّلُ فِيهِ عَلَيْهِ . فَنَرْضَى بِاَللَّهِ
رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا . وَنَقُولُ فِي
صَلَاتِنَا : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مِثْلَ قَوْله تَعَالَى
{ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وقَوْله تَعَالَى {
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } {
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي : زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِمُجَرَّدِ الْحُزْنِ عَلَى
الْمَيِّتِ لِقَرَابَتِهِ أَوْ صَدَاقَتِهِ فَهَذِهِ مُبَاحَةٌ كَمَا يُبَاحُ
الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نِيَاحَةٍ . كَمَا { زَارَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى
مَنْ حَوْلَهُ وَقَالَ : زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ
} . فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ كَانَ نَهَى عَنْهَا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ
الْمُنْكَرِ فَلَمَّا عَرَفُوا الْإِسْلَامَ أَذِنَ فِيهَا لِأَنَّ فِيهَا
مَصْلَحَةٌ وَهُوَ تَذَكُّرُ الْمَوْتِ . فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إذَا رَأَى
قَرِيبَهُ وَهُوَ
مَقْبُورٌ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَاسْتَعَدَّ لِلْآخِرَةِ وَقَدْ يَحْصُلُ مِنْهُ جَزَعٌ فَيَتَعَارَضُ الْأَمْرَانِ . وَنَفْسُ الْحُزْنِ مُبَاحٌ إنْ قَصَدَ بِهِ طَاعَةً كَانَ طَاعَةً وَإِنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً كَانَ مَعْصِيَةً . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ : فَهُوَ زِيَارَتُهَا لِلدُّعَاءِ لَهَا كَالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ . فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ الَّذِي دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ مَا يَقُولُونَ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ . وَأَمَّا زِيَارَةُ قُبَاء فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى الْمَدِينَةَ أَنْ يَأْتِيَ قُبَاء فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهَا . وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَأْتِيَ الْبَقِيعَ وَشُهَدَاءَ أُحُدٍ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فَزِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ يُقْصَدُ فِيهَا الدُّعَاءُ لَهُمْ لَا يُقْصَدُ فِيهَا أَنْ يَدْعُوَ مَخْلُوقًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ تُتَّخَذَ مَسَاجِدَ وَلَا تُقْصَدُ لِكَوْنِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا أَوْ بِهَا أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ . وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمَوْتَى عِنْدَ قُبُورِهِمْ . وَهَذَا مَشْرُوعٌ بَلْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مُتَوَاتِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ جَاءَ إنْسَانٌ إلَى سَرِيرِ الْمَيِّتِ يَدْعُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ كَانَ هَذَا شِرْكًا مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ نَدَبَهُ وَنَاحَ لَكَانَ أَيْضًا مُحَرَّمًا وَهُوَ دُونُ الْأَوَّلِ . فَمَنْ احْتَجَّ بِزِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ وَلِأَهْلِ
أُحُدٍ عَلَى الزِّيَارَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَأَهْلُ النِّيَاحَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ ضَلَالًا مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِصَلَاتِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ بِالْمَيِّتِ وَيُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيُنْدَبَ وَيُنَاحَ عَلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ لَهُ يُثَابُ عَلَيْهِ الْفَاعِلُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ الْمَدْعُوُّ لَهُ وَيَرْضَى بِهِ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ مَا هُوَ شِرْكٌ بِاَللَّهِ وَإِيذَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَظُلْمٌ مِنْ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ كَزِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْجَزَعِ الَّذِينَ لَا يُخْلِصُونَ لِلَّهِ الدِّينَ وَلَا يُسَلِّمُونَ لِمَا حَكَمَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَكُلُّ زِيَارَةٍ تَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا نَهَى عَنْهُ وَتَرْكَ مَا أَمَرَ بِهِ - كَاَلَّتِي تَتَضَمَّنُ الْجَزَعَ وَقَوْلَ الْهُجْرِ وَتَرْكَ الصَّبْرِ أَوْ تَتَضَمَّنُ الشِّرْكَ وَدُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ وَتَرْكَ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ - فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ الْأُولَى . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى إلَيْهَا بَلْ وَلَا عِنْدَهَا بَلْ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . فَزِيَارَةُ الْقُبُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَجْهٌ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهُوَ أَنْ نَتَّخِذَهَا مَسَاجِدَ وَنَتَّخِذَهَا وَثَنًا وَنَتَّخِذَهَا عِيدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقْصَدَ لِلصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا أَنْ تُعْبَدَ كَمَا تُعْبَدُ الْأَوْثَانُ وَلَا أَنْ تُتَّخَذَ عِيدًا يُجْتَمَعُ إلَيْهَا فِي وَقْتٍ
مُعَيَّنٍ كَمَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ فِي عَرَفَةَ وَمِنًى . وَأَمَّا " الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ " فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ . وَقِيلَ : مُبَاحَةٌ . وَقِيلَ : كُلُّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ نَحْمِلَ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَنُفَصِّلَ الزِّيَارَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَمُبَاحٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَهُوَ الصَّوَابُ . قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : لَا نَأْتِي إلَّا هَذِهِ الْآثَارَ : مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدَ قُبَاء وَأَهْلَ الْبَقِيعِ وَأُحُدٍ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ إلَّا هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ وَهَاتَيْنِ الْمَقْبَرَتَيْنِ كَانَ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمْعَةِ فِي مَسْجِدِهِ وَيَوْمَ السَّبْتِ يَذْهَبُ إلَى قُبَاء كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ } . وَأَمَّا أَحَادِيثُ النَّهْيِ فَكَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا : { لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَفِي لَفْظٍ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُولَئِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ صَاحِبَةُ الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ قَدْ رَوَتْ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجُنْدُبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ
غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - أَحَدُ الْأَشْرَافِ الحسنيين بَلْ أَجَلُّهُمْ قَدْرًا فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ فِي خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ وَغَيْرِهِ - رَأَى رَجُلًا يُكْثِرُ الِاخْتِلَافَ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ إلَّا سَوَاءٌ . فَلَمَّا أَرَادَ الْأَئِمَّةُ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ طَلَبُوا مَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ سُنَّتِهِ . فَاعْتَمَدَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَعَنْ أَحْمَد أَخَذَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُد فَلَمْ يَذْكُرْ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ " بَابَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ " مَعَ أَنَّ دِلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى الْمَقْصُودِ فِيهَا نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى كُلِّ مَا تُسَمِّيهِ النَّاسُ " زِيَارَةً " بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَيَبْقَى الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ فِيهِ : هَلْ هُوَ السَّلَامُ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا كَانَ مَنْ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ ؟ أَوْ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجِ الْحُجْرَةِ . فَاَلَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهِ جَعَلُوهُ مُتَنَاوِلًا لِهَذَا وَهَذَا
وَهُوَ غَايَةُ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ السَّلَامَ مِنْ الْقَرِيبِ وَتُبَلِّغُهُ الْمَلَائِكَةُ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ كَمَا فِي النَّسَائِي عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ . قَالُوا : وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَذَكَرَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْتِي فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ . رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ . وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا يُفْعَلُ عِنْدَ الْحُجْرَةِ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ الْوُقُوفِ لِلدُّعَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ وَقَالَ : هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا السَّلَفُ . وَلَنْ يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ مَالِكٍ وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ . قَرْنِ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ . فَأَمَّا هَذِهِ الْقُرُونُ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا ظَاهِرًا فِيهَا وَلَكِنْ بَعْدَهَا ظَهَرَ الْإِفْكُ وَالشِّرْكُ . وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ سَائِلٌ لِمَالِكِ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : إنْ كَانَ أَرَادَ الْمَسْجِدَ فَلْيَأْتِهِ وَلْيُصَلِّ فِيهِ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْقَبْرَ فَلَا يَفْعَلْ لِلْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } . وَكَذَلِكَ مَنْ يَزُورُ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِيَدْعُوَهُمْ أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ الدُّعَاءَ أَوْ يَقْصِدَ الدُّعَاءَ عِنْدَهُمْ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إجَابَةً فِي ظَنِّهِ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ عَلَى عَهْدِ مَالِكٍ لَا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يُطِيلَ الرَّجُلُ الْوُقُوفَ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلدُّعَاءِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَقْصِدُ لَا السَّلَامَ عَلَيْهِ وَلَا الدُّعَاءَ لَهُ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دُعَاءَهُ وَطَلَبَ حَوَائِجِهِ مِنْهُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ عِنْدَهُ فَيُؤْذِي الرَّسُولَ وَيُشْرِكُ بِاَللَّهِ وَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَلَمْ يَعْتَمِدْ الْأَئِمَّةُ ؛ لَا الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ . مِثْلَ مَا يَرْوُونَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ زَارَنِي فِي مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } وَمِنْ قَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَعْتَمِدْ
عَلَيْهَا . وَلَمْ يَرْوِهَا لَا أَهْلُ الصِّحَاحِ وَلَا أَهْلُ السُّنَنِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا كَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي . لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ كَمَا قَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا . وَمَنْ زَارَهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِ وَالْوَاحِدُ بَعْدَهُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ . وَهُوَ إذَا أَتَى بِالْفَرَائِضِ لَا يَكُونُ مِثْلَ الصَّحَابَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلَهُمْ بِالنَّوَافِلِ أَوْ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَوْ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَكَرِهَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ هَذَا اللَّفْظَ . لِأَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تَأْتِ بِهِ فِي قَبْرِهِ . وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ وُجُوهًا . وَرَخَّصَ غَيْرُهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ لِلْأَحَادِيثِ الْعَامَّةِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ . وَمَالِكٌ يَسْتَحِبُّ مَا يَسْتَحِبُّهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّفَرِ إلَى الْمَدِينَةِ وَالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ وَكَذَلِكَ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ عِنْدَ قُبُورِهِمْ اتِّبَاعًا لِابْنِ عُمَرَ . وَمَالِكٌ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى التَّابِعِينَ الَّذِينَ رَأَوْا الصَّحَابَةَ بِالْمَدِينَةِ . وَلِهَذَا كَانَ يَسْتَحِبُّ اتِّبَاعَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ . وَيَكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِعَ أَحَدٌ هُنَاكَ بِدْعَةً . فَكَرِهَ أَنْ يُطِيلَ الرَّجُلُ الْقِيَامَ وَالدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ : وَكَرِهَ مَالِكٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَة كُلَّمَا دَخَلَ إنْسَانٌ الْمَسْجِدَ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ . قَالَ مَالِكٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ : وَلَنْ
يُصْلِحَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . بَلْ كَانُوا يَأْتُونَ إلَى مَسْجِدِهِ فَيُصَلُّونَ فِيهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ صَلَّوْا أَئِمَّةً فِي مَسْجِدِهِ وَالْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ خَلْفَهُمْ كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ وَهُمْ يَقُولُونَ فِي الصَّلَاةِ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ . ثُمَّ إذَا قَضَوْا الصَّلَاةَ قَعَدُوا أَوْ خَرَجُوا . وَلَمْ يَكُونُوا يَأْتُونَ الْقَبْرَ لِلسَّلَامِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَهِيَ الْمَشْرُوعَةُ . وَأَمَّا دُخُولُهُمْ عِنْدَ قَبْرِهِ لِلصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ أَوْ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ بَلْ نَهَاهُمْ وَقَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } فَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ وَكَذَلِكَ السَّلَامُ . وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا . وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مَرَّةً سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا . كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ . وَتَخْصِيصُ الْحُجْرَةِ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ جَعَلَ لَهَا عِيدًا وَهُوَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ أَوْ قَبْرَ غَيْرِهِ مَسْجِدًا . وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَحْذَرُوا أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنْ اللَّعْنَةِ . وَكَانَ أَصْحَابُهُ خَيْرُ الْقُرُونِ وَهُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِسُنَّتِهِ وَأَطْوَعُ الْأُمَّةِ لِأَمْرِهِ . وَكَانُوا إذَا دَخَلُوا إلَى مَسْجِدِهِ لَا يَذْهَبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى قَبْرِهِ
لَا مِنْ دَاخِلِ الْحُجْرَةِ وَلَا مِنْ خَارِجِهَا . وَكَانَتْ الْحُجْرَةُ فِي زَمَانِهِمْ يُدْخَلُ إلَيْهَا مِنْ الْبَابِ إذْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهَا . وَبَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَنْ بُنِيَ الْحَائِطُ الْآخَرُ . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى قَبْرِهِ لَا يَدْخُلُونَ إلَيْهِ ؛ لَا لِسَلَامِ وَلَا لِصَلَاةِ عَلَيْهِ وَلَا لِدُعَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِسُؤَالِ عَنْ حَدِيثٍ أَوْ عِلْمٍ وَلَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَطْمَعُ فِيهِمْ حَتَّى يُسْمِعَهُمْ كَلَامًا أَوْ سَلَامًا فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ هُوَ كَلَّمَهُمْ وَأَفْتَاهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ الْأَحَادِيثَ أَوْ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ السَّلَامَ بِصَوْتِ يُسْمَعُ مِنْ خَارِجٍ كَمَا طَمِعَ الشَّيْطَانُ فِي غَيْرِهِمْ فَأَضَلَّهُمْ عِنْدَ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ : حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ صَاحِبَ الْقَبْرِ يُحَدِّثُهُمْ وَيُفْتِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْقَبْرِ وَيَرَوْنَهُ خَارِجًا مِنْ الْقَبْرِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ نَفْسَ أَبْدَانِ الْمَوْتَى خَرَجَتْ مِنْ الْقَبْرِ تُكَلِّمُهُمْ وَأَنَّ رُوحَ الْمَيِّتِ تَجَسَّدَتْ لَهُمْ فَرَأَوْهَا كَمَا رَآهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا . فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . وَهُمْ تَلَقَّوْا الدِّينَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا وَاسِطَةٍ . فَفَهِمُوا مِنْ مَقَاصِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَايَنُوا مِنْ أَفْعَالِهِ وَسَمِعُوا مِنْهُ شِفَاهًا مَا لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَفِيدُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَهُمْ قَدْ فَارَقُوا جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَعَادَوْهُمْ وَهَجَرُوا جَمِيعَ الطَّوَائِفِ وَأَدْيَانَهُمْ وَجَاهَدُوهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } . وَهَذَا قَالَهُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَمَّا تَشَاجَرَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ كَانَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا وَهُوَ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَخَالِدُ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ العاص وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ أَسْلَمُوا فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فَكَانُوا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ التَّابِعِينَ لَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ . وَأَمَّا الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ فَلَيْسُوا بِمُهَاجِرِينَ فَإِنَّهُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ بَلْ كَانَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُقَالُ لَهُمْ الطُّلَقَاءُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَهُمْ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً كَمَا يُطْلَقُ الْأَسِيرُ . وَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ هُمْ وَمَنْ كَانَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ هَمّ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَفِي الصَّحِيحِ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ : أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ } . وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُمْ مَنْ الْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ مَا نَالَهُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَعْمَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ قَدْ تُنْكَرُ عَلَيْهِ . وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْبِدَعِ الْمَشْهُورَةِ : كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة . بَلْ كُلُّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا حَدَثُوا فِيمَنْ بَعْدَهُمْ . وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَتَرَاءَى لَهُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ وَيَقُولَ : أَنَا الْخَضِرُ أَوْ أَنَا إبْرَاهِيمُ أَوْ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَوْ الْمَسِيحُ أَوْ أَنْ يُكَلِّمَهُ عِنْدَ قَبْرٍ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ صَاحِبَ الْقَبْرِ كَلَّمَهُ ؛ بَلْ هَذَا إنَّمَا نَالَهُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ . وَنَالَهُ أَيْضًا مِنْ النَّصَارَى حَيْثُ أَتَاهُمْ بَعْدَ الصَّلْبِ وَقَالَ : أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَهَذِهِ مَوَاضِعُ الْمَسَامِيرِ - وَلَا يَقُولُ : أَنَا شَيْطَانٌ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَكُونُ جَسَدًا - أَوْ كَمَا قَالَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ النَّصَارَى فِي أَنَّهُ صُلِبَ ؛ لَا فِي مُشَاهَدَتِهِ ؛ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُشَاهِدْ الصَّلْبَ وَإِنَّمَا حَضَرَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ وَعَلِمُوا الْمَصْلُوبَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ الْمَسِيحُ . وَلِهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَلَبُوهُ . لَكِنَّهُمْ قَصَدُوا هَذَا الْفِعْلَ وَفَرِحُوا بِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا } { وَقَوْلِهِمْ إنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ كَمَا أَضَلَّ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَوْ جَهِلُوا السُّنَّةَ أَوْ رَأَوْا وَسَمِعُوا أُمُورًا مِنْ الْخَوَارِقِ فَظَنُّوهَا مِنْ جِنْسِ آيَاتِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَكَانَتْ مِنْ أَفْعَالِ الشَّيَاطِينِ . كَمَا أَضَلَّ النَّصَارَى وَأَهْلَ الْبِدَعِ بِمِثْلِ ذَلِكَ . فَهُمْ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَدَعُونَ الْمُحْكَمَ . وَكَذَلِكَ يَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ فَيَسْمَعُ وَيَرَى أُمُورًا فَيَظُنُّ أَنَّهُ رَحْمَانِيٌّ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانِيٌّ وَيَدَعُونَ الْبَيِّنَ الْحَقَّ الَّذِي لَا إجْمَالَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَطْمَعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ وَيُغِيثَ مَنْ اسْتَغَاثَ بِهِ . أَوْ أَنْ يَحْمِلَ إلَيْهِمْ صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَهُ . لِأَنَّ الَّذِينَ رَأَوْهُ عَلِمُوا أَنَّ هَذَا شِرْكٌ لَا يَحِلُّ . وَلِهَذَا أَيْضًا لَمْ يَطْمَعْ فِيهِمْ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِأَصْحَابِهِ : إذَا كَانَتْ لَكُمْ حَاجَةٌ فَتَعَالَوْا إلَى قَبْرِي وَاسْتُغِيثُوا بِي لَا فِي مَحْيَاهُ وَلَا فِي مَمَاتِهِ كَمَا جَرَى مِثْلُ هَذَا لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَلَا طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَهُمْ وَيَقُولَ : أَنَا مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ أَوْ مِنْ الْأَوْتَادِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ السَّبْعَةِ أَوْ الْأَرْبَعِينَ . أَوْ يَقُولَ لَهُ : أَنْتَ مِنْهُمْ . إذْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَلَا طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَهُمْ فَيَقُولَ : أَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ يُخَاطِبَهُ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ عِنْدَ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ وَعِنْدَ غَيْرِ الْقُبُورِ . كَمَا يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ يَرَوْنَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ شُيُوخِهِمْ . فَأَهْلُ الْهِنْدِ يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ شُيُوخِهِمْ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ . وَالنَّصَارَى يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَوَارِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ . وَالضُّلَّالُ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ : إمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَقَظَةً وَيُخَاطِبُهُمْ وَيُخَاطِبُونَهُ . وَقَدْ يَسْتَفْتُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْ أَحَادِيثَ فَيُجِيبُهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّ الْحُجْرَةَ قَدْ انْشَقَّتْ وَخَرَجَ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَانَقَهُ هُوَ وَصَاحِبَاهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلَامِ حَتَّى وَصَلَ مَسِيرَةَ أَيَّامٍ وَإِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ أَعْرِفُ مِمَّنْ وَقَعَ لَهُ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ عَدَدًا كَثِيرًا . وَقَدْ حَدَّثَنِي بِمَا وَقَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الصَّادِقِينَ مَنْ يَطُولُ هَذَا الْمَوْضِعُ بِذِكْرِهِمْ . وَهَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَ خَلْقٍ كَثِيرٍ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُكَذِّبُ بِهَذَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إذَا صَدَّقَ بِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّ الَّذِي رَأَى ذَلِكَ رَآهُ لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ . وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ بِحَسَبِ قِلَّةِ عِلْمِ الرَّجُلِ يُضِلُّهُ الشَّيْطَانُ . وَمَنْ كَانَ أَقَلَّ عِلْمًا قَالَ لَهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ خِلَافًا ظَاهِرًا . وَمَنْ عِنْدِهِ عِلْمٌ مِنْهَا لَا يَقُولُ لَهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ وَلَا مُفِيدًا فَائِدَةً فِي دِينِهِ ؛ بَلْ يُضِلُّهُ عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ الشَّيَاطِينِ وَهُوَ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَفَادَ شَيْئًا فَاَلَّذِي خَسِرَهُ مِنْ دِينِهِ أَكْثَرُ . وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ : إنَّ الْخَضِرَ أَتَاهُ وَلَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا أَنَّهُ سَمِعَ رَدَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ . وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ إنَّهُ يَسْمَعُ الرَّدَّ . وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ . وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَأْتِيهِ فَيَسْأَلُهُ عِنْدَ الْقَبْرِ عَنْ بَعْضِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعِلْمِ لَا خُلَفَاؤُهُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ . مَعَ أَنَّهُمْ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ أَنْ يَقُولَ لَهَا : اذْهَبِي إلَى قَبْرِهِ فَسَلِيهِ هَلْ يُورَثُ أَمْ لَا يُورَثُ . كَمَا أَنَّهُمْ أَيْضًا لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ : اُطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَكُمْ بِالْمَطَرِ لَمَّا أَجْدَبُوا . وَلَا قَالَ : اُطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْتَنْصِرَ لَكُمْ . وَلَا أَنْ يَسْتَغْفِرَ كَمَا كَانُوا فِي حَيَاتِهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ وَأَنْ يَسْتَنْصِرَ لَهُمْ فَلَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ ذَلِكَ . وَلَا طَمِعَ بِذَلِكَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ . وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الضَّلَالَاتُ مِمَّنْ قَلَّ عِلْمُهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ فَأَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَضَلَّ النَّصَارَى فِي أُمُورٍ لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ أَنْ يَطِيرَ بِأَحَدِهِمْ فِي الْهَوَاءِ وَلَا أَنْ يَقْطَعَ بِهِ الْأَرْضَ الْبَعِيدَةَ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ . كَمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ لِأَنَّ الْأَسْفَارَ الَّتِي كَانُوا يسافرونها كَانَتْ طَاعَاتٍ كَسَفَرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ وَهَذِهِ يُثَابُونَ عَلَى كُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُونَهَا فِيهِ وَكُلَّمَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ كَانَ الْأَجْرُ أَعْظَمَ : كَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَخُطُوَاتُهُ إحْدَاهَا
تَرْفَعُ دَرَجَةً وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً . فَلَمْ يُمْكِنْ الشَّيْطَانَ أَنْ يُفَوِّتَهُمْ ذَلِكَ الْأَجْرَ بِأَنْ يَحْمِلَهُمْ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَؤُزَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أَزًّا حَتَّى يَقْطَعُوا الْمَسَافَةَ الْبَعِيدَةَ بِسُرْعَةِ . وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَسْرَى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى . وَكَانَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ . فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِثْلُ هَذَا الْمِعْرَاجِ وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يُخَيِّلُ إلَيْهِ مَعَارِيجَ شَيْطَانِيَّةً كَمَا خَيَّلَهَا لِجَمَاعَةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَأَمَّا قَطْعُ النَّهْرِ الْكَبِيرِ بِالسَّيْرِ عَلَى الْمَاءِ فَهَذَا قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَحْيَانًا مِثْلُ أَنْ لَا يُمْكِنَهُمْ الْعُبُورُ إلَى الْعَدُوِّ وَتَكْمِيلُ الْجِهَادِ إلَّا بِذَلِكَ . فَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ يُكْرِمُ مَنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا أَكْرَمَ بِهِ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَأَصْحَابَهُ وَأَبَا مُسْلِمٍ الخولاني وَأَصْحَابَهُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا الْكِتَابِ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الصَّحَابَةَ خَيْرُ الْقُرُونِ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ . فَمَا ظَهَرَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهَا فَضِيلَةٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ فَإِنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَهِيَ نَقِيصَةٌ لَا فَضِيلَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْ جِنْسِ الْعُلُومِ أَوْ مَنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْخَوَارِقِ وَالْآيَاتِ أَوْ مِنْ جِنْسِ السِّيَاسَةِ وَالْمُلْكِ . بَلْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَهُمْ أَتْبَعُهُمْ لَهُمْ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا
فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا . قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَرَكُوا الْبِدَعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْقُبُورِ كَقَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْثَانًا . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَأْتِي مِنْ خَارِجٍ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ . بَلْ كَانُوا فِي حَيَاتِهِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يَأْتُونَ إلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ . وَإِذَا جَاءَ أَحَدُهُمْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ . وَكَذَلِكَ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَكَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى عَائِشَةَ فَكَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ كَمَا كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . وَقَدْ جَاءَ هَذَا عَامًّا فِي جَمِيعِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ رُوحَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ . فَإِذَا كَانَ رَدُّ السَّلَامِ مَوْجُودًا فِي عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ فِي أَفْضَلِ الْخَلْقِ أَوْلَى . وَإِذَا سَلَّمَ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ لَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ عَشْرًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ مَرَّةً سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
عَشْرًا } . فَاَللَّهُ يَجْزِيهِ عَلَى هَذَا السَّلَامِ أَفْضَلَ مِمَّا يَحْصُلُ بِالرَّدِّ كَمَا أَنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . لَا يَقِفُ لَا لِدُعَاءِ لَهُ وَلَا لِنَفْسِهِ . وَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ مَا زَادَ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وُقُوفٍ لَهُ أَوْ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ بِدْعَةً مَحْضَةً . قَالَ مَالِكٌ : لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . مَعَ أَنَّ فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ لِلتَّسْوِيغِ كَأَمْثَالِ ذَلِكَ فِيمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ مُبَاحٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ فَالْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مَرْجِعُهَا كُلُّهَا إلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ . فَالْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي بَلَّغَهُ . وَالسُّنَّةُ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهَا . وَالْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ عُرِفَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ . وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْفَرْعَ مِثْلَ الْأَصْلِ وَأَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ . وَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَاقَضُ فَلَا يَحْكُمُ فِي الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ وَلَا يَحْكُمُ بِالْحُكْمِ لِعِلَّةِ تَارَةً وَيَمْنَعُهُ أُخْرَى مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ إلَّا لِاخْتِصَاصِ إحْدَى الصُّورَتَيْنِ بِمَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ . فَشَرْعُهُ هُوَ مَا شَرَعَهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتُهُ مَا سَنَّهَا هُوَ لَا يُضَافُ إلَيْهِ قَوْلُ غَيْرِهِ
وَفِعْلُهُ - وَإِنْ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ - إذَا وَرَدَتْ سُنَّتُهُ . بَلْ وَلَا يُضَافُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى الْإِضَافَةِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَيَكُونُونَ مُصِيبِينَ مُوَافِقِينَ لِسُنَّتِهِ لَكِنْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَقُولُ فِي هَذَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . فَإِنَّ كُلَّ مَا خَالَفَ سُنَّتَهُ فَهُوَ شَرْعٌ مَنْسُوخٌ أَوْ مُبَدَّلٌ لَكِنْ الْمُجْتَهِدُونَ وَإِنْ قَالُوا بِآرَائِهِمْ وَأَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَخَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا فِي مَسْجِدِهِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي حَيَاتِهِ . لَا يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْحُجْرَةِ وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمْ إلَى الْقَبْرِ . وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ قَدْ شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَشُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمْ الْمَسْجِدَ أَيَّ مَسْجِدٍ كَانَ . فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ كُلُّ صَلَاةٍ يَقُولُ الْمُصَلِّي : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ثُمَّ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } . وَقَدْ شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ عُمُومًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نَقُولُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ : السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا
قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ التَّشَهُّدُ بِأَلْفَاظِ أُخَرَ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى لَكِنْ هُوَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَلَكِنْ لَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ إلَّا تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَالتَّشَهُّدُ أَوْلَى . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَصَالِحِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : السَّلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ : بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك . وَإِذَا خَرَجَ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ .
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِك } . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ الدُّعَاءَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِأَنْ يَفْتَحَ لَهُ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ يَسْأَلُ اللَّهَ مَنْ فَضْلِهِ . وَهَذَا الدُّعَاءُ مُؤَكَّدٌ فِي دُخُولِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ الْمَنَاسِكِ لِمَنْ أَتَى إلَى مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ . فَكَانَ السَّلَامُ عَلَيْهِ مَشْرُوعًا عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَفِي نَفْسِ كُلِّ صَلَاةٍ . وَهَذَا أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ مِنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَأَدْوَمُ . وَهَذَا مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا تُخْشَى فَبِهَا يَرْضَى اللَّهُ وَيُوصِلُ نَفْعَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِهِ وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ . وَهَذَا مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ ؛ بِخِلَافِ السَّلَامِ عِنْدَ الْقَبْرِ . مَعَ أَنَّ قَبْرَهُ مِنْ حِينِ دُفِنَ لَمْ يُمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهِ لَا لِزِيَارَةِ وَلَا لِصَلَاةِ وَلَا لِدُعَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَلَكِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ بَيْتُهَا . وَكَانَتْ نَاحِيَةً عَنْ الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّ الْقُبُورَ فِي مُقَدِّمِ الْحُجْرَةِ وَكَانَتْ هِيَ فِي مُؤَخِّرِ الْحُجْرَةِ . وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَدْخُلُونَ إلَى هُنَاكَ . وَكَانَتْ الْحُجْرَةُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ خَارِجَةً عَنْ الْمَسْجِدِ مُتَّصِلَةً بِهِ وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ فِيهِ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بَعْدَ مَوْتِ الْعَبَادِلَةِ : ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَمْرٍو بَلْ بَعْدَ مَوْتِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّ آخِرَ مَنْ مَاتَ بِهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي بِضْعٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً . وَوُسِّعَ الْمَسْجِدُ فِي بِضْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً . وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَدْخُلُونَ إلَى عِنْدِ الْقَبْرِ وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَهُ خَارِجًا مَعَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ إلَى مَسْجِدِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وَكَانُوا يَقْدَمُونَ مِنْ الْأَسْفَارِ لِلِاجْتِمَاعِ بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ . وَلَا يَأْتُونَ الْقَبْرَ إذْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ وَلَمْ يَسُنَّهُ لَهُمْ . وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ وَسَنَّ لَهُمْ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ الْمَسَاجِدَ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَكِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْتِيهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ السَّفَرِ . وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ غَيْرَ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا . فَلِهَذَا رَأَى مَنْ رَأَى مِنْ الْعُلَمَاءِ هَذَا جَائِزًا اقْتِدَاءً بِالصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَلَمْ يَكُنْ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُونَ كَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ بَلْ كَانَ الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُهُمْ يُسَافِرُونَ لِلْحَجِّ وَغَيْرِهِ وَيَرْجِعُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إذْ لَمْ يَكُنْ هَذَا
عِنْدَهُمْ سُنَّةً سَنَّهَا لَهُمْ . وَكَذَلِكَ أَزْوَاجُهُ كُنَّ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ وَبَعْدَهُمْ يُسَافِرُونَ إلَى الْحَجِّ ثُمَّ تَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إلَى بَيْتِهَا كَمَا وَصَّاهُنَّ بِذَلِكَ . وَكَانَتْ أَمْدَادُ الْيَمَنِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ يَأْتُونَ أَفْوَاجًا مِنْ الْيَمَن لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُصَلُّونَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي مَسْجِدِهِ وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى دَاخِلِ الْحُجْرَةِ وَلَا يَقِفُ فِي الْمَسْجِدِ خَارِجًا لَا لِدُعَاءِ وَلَا لِصَلَاةِ وَلَا سَلَامٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَكَانُوا عَالِمِينَ بِسُنَّتِهِ كَمَا عَلَّمَتْهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَنَّ حُقُوقَهُ لَازِمَةٌ لِحُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ مِنْ حُقُوقِهِ وَحُقُوقِ رَسُولِهِ فَإِنَّ صَاحِبَهَا يُؤْمَرُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ وَالْبِقَاعِ . فَلَيْسَتْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ بِأَوْكَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ . بَلْ صَاحِبُهَا مَأْمُورٌ بِهَا حَيْثُ كَانَ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَكِّدَةِ لَهَا كَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْأَذَانِ . وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ هُوَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ . بَلْ نَفْسُ مَسْجِدِهِ لَهُ فَضِيلَةٌ لِكَوْنِهِ مَسْجِدَهُ . وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْرِ لَمْ تَكُنْ لَهُ فَضِيلَةٌ إذْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهِ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ لَهُ الْفَضِيلَةُ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا أَدْخَلَ الْحُجْرَةَ فِي مَسْجِدِهِ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ
إلَّا
جَاهِلٌ مُفْرِطٌ فِي الْجَهْلِ أَوْ كَافِرٌ فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِمَا جَاءَ بِهِ
مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَدْعُونَ فِي مَسْجِدِهِ كَمَا
كَانُوا يَدْعُونَ فِي حَيَاتِهِ . لَمْ تَحْدُثْ لَهُمْ شَرِيعَةٌ غَيْرُ
الشَّرِيعَةِ الَّتِي عَلَّمَهُمْ إيَّاهَا فِي حَيَاتِهِ . وَهُوَ لَمْ
يَأْمُرْهُمْ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ حَاجَةٌ أَنْ يَذْهَبَ إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ
أَوْ صَالِحٍ فَيُصَلِّيَ عِنْدَهُ وَيَدْعُوَهُ أَوْ يَدْعُوَ بِلَا صَلَاةٍ أَوْ
يَسْأَلَ حَوَائِجَهُ أَوْ يَسْأَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ . فَقَدْ عَلَّمَ
الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُمْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا
أَمَرَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا قَبْرَهُ أَوْ حُجْرَتَهُ لَا بِصَلَاةِ وَلَا دُعَاءٍ
لَا لَهُ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ . بَلْ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْتَهُ
عِيدًا . فَلَمْ يَقِلْ لَهُمْ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْجُهَّالِ
لِأَصْحَابِهِ : إذَا كَانَ لَكُمْ حَاجَةٌ فَتَعَالَوْا إلَى قَبْرِي بَلْ
نَهَاهُمْ عَمَّا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ أَوْ
قَبْرَ غَيْرِهِ مَسْجِدًا يُصَلُّونَ فِيهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَسُدَّ
ذَرِيعَةَ الشِّرْكِ . فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا وَجَزَاهُ أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ قَدْ بَلَّغَ
الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ
حَقَّ جِهَادِهِ وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ .
وَكَانَ إنْعَامُ اللَّهِ بِهِ أَفْضَلَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ
.
وَقَدْ دَلَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ
وَأَفْضَلِ الْبِقَاعِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الصَّلَاةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . قَالَهُ سَأَلْته عَنْهُنَّ وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي } . وَفِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَه عَنْ ثوبان عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ } . وَالصَّلَاةُ قَدْ شُرِعَ لِلْأُمَّةِ أَنْ تَتَّخِذَ لَهَا مَسَاجِدَ وَهِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ وَأَبْغَضُ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ الْأَسْوَاقُ } . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ وَهُوَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ نَصِيحَةً لِلْأُمَّةِ وَحِرْصًا مِنْهُ عَلَى هُدَاهَا . كَمَا نَعَتَهُ اللَّهَ بِقَوْلِهِ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } وَفِي رِوَايَةٍ : { وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } . وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا : { لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا . وَمِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ صَاحِبَةَ الْحُجْرَةِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْوِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَقَدْ سَمِعْتهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا يَرْوِيهَا : كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُولَئِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ : إنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا . أَلَا وَإِنَّ مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الغنوي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } . وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . وَقَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ عِيدًا . فَلَمَّا عَلِمَ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَتَّخِذُوهُ مُصَلًّى لِلْفَرَائِضِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَهَا وَيُصَلُّونَ لَهَا وَيَنْذِرُونَ لَهَا : كَانَ نَهْيُهُمْ عَنْ دُعَائِهَا أَعْظَمَ وَأَعْظَمَ . كَمَا أَنَّهُ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِمَنْ يَسْجُدُ لِلشَّمْسِ : كَانَ نَهْيُهُمْ عَنْ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ أَوْلَى وَأَحْرَى . فَكَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ وَالذِّكْرَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ لِلَّهِ دُونَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّتِي نُهُوا أَنْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاجِدَ وَإِنَّمَا هِيَ بُيُوتُ الْمَخْلُوقِينَ . وَكَانُوا يَفْعَلُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَرَاهَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ قَصْدَهُمْ الْقَبْرَ إذَا دَخَلُوا أَوْ خَرَجُوا مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ
وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ مُجَرَّدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاء رَاكِبًا وَمَاشِيًا كُلَّ سَبْتٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا } وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ . زَادَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَيَذْهَبُ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء فَيُصَلِّي فِيهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَكِلَاهُمَا أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَهْلَ قُبَاء عَنْ هَذَا الطَّهُورِ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ قَالَ { نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَسْجِدِ أَهْلِ قُبَاء { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } قَالَ : كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ . فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { سَعْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَهُوَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ : هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ } . فَتَبَيَّنَ أَنَّ كِلَا الْمَسْجِدَيْنِ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى لَكِنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَكْمَلُ فِي هَذَا النَّعْتِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ . وَمَسْجِدُ قُبَاء كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ
مُجَاوِرٌ
لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي نُهِيَ عَنْ الْقِيَامِ فِيهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إتْيَانَ قُبَاء كُلَّ أُسْبُوعٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ كَانَ
ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ
بِالْمَدِينَةِ يَأْتُونَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَا فِي الْأُسْبُوعِ وَلَا فِي غَيْرِ الْأُسْبُوعِ . وَإِنَّمَا كَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَأْتِي الْقَبْرَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ . وَكَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
أَوْ أَكْثَرُهُمْ كَانُوا يَقْدَمُونَ مِنْ الْأَسْفَارِ وَلَا يَأْتُونَ
الْقَبْرَ لَا لِسَلَامِ وَلَا لِدُعَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . فَلَمْ يَكُونُوا
يَقِفُونَ عِنْدَهُ خَارِجَ الْحُجْرَةِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ
يَفْعَلُ . وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَدْخُلُ الْحُجْرَةَ لِذَلِكَ ؛ بَلْ
وَلَا يَدْخُلُونَهَا إلَّا لِأَجْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا
كَانَتْ مُقِيمَةً فِيهَا . وَحِينَئِذٍ فَكَانَ مَنْ يَدْخُلُ إلَيْهَا يُسَلِّمُ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانُوا يُسَلِّمُونَ
عَلَيْهِ إذَا حَضَرُوا عِنْدَهُ . وَأَمَّا السَّلَامُ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ
فَذَلِكَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهِ عَشْرًا كَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي
الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ . وَهَذَا
السَّلَامُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ . وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ
السَّلَامِ الْمُخْتَصِّ بِقَبْرِهِ . فَإِنَّ هَذَا الْمُخْتَصَّ بِقَبْرِهِ مِنْ
جِنْسِ تَحِيَّةِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا .
وَأَمَّا السَّلَامُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ فَالْأَمْرُ بِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ
كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ مِنْ خَصَائِصِهِ . وَإِنْ كَانَ فِي
الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى غَيْرِهِ عُمُومًا وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِ
خُصُوصًا نِزَاعٌ . وَقَدْ عَدَّى بَعْضُهُمْ ذَلِكَ إلَى السَّلَامِ
فَجَعَلَهُ
مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا اخْتَصَّ بِالصَّلَاةِ . وَحُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي
مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي ؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ
لَا يَخْتَصُّ بِهِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَفِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَذَلِكَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ
مَخْصُوصًا بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فَهُنَا أَخْبَرَ وَأَمَرَ . وَأَمَّا فِي حَقِّ عُمُومِ
الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْبَرَ وَلَمْ يَأْمُرْ فَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ } . وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ الْخُطَبَاءُ
ذَلِكَ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرِ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ
وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ وَأَيَّهَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَرِيَّتِهِ أَيْ قَالَ
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } . فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَعَالَى عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ بَدَأَ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ لَكِنْ لَمْ
يُؤَيِّهْ فِيهَا بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَرِيَّتِهِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
: { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ
} .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَفِي غَيْرِ
الصَّلَاةِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي
الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ . وَفِي الْخُطَبِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
وَلَمْ يُوجِبْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد
رِوَايَتَانِ . وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهَا فَهَلْ هِيَ رُكْنٌ أَوْ تَسْقُطُ
بِالسَّهْوِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الصَّلَاةَ
وَاجِبَةٌ مَعَ الدُّعَاءِ فَلَا نَدْعُو حَتَّى نَبْدَأَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ
فِي التَّشَهُّدِ الَّذِي هُوَ
رُكْنٌ
فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ
فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا . وَالتَّشَهُّدُ
الْأَخِيرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي
الْمَشْهُورِ عَنْهُ : إذَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ عَمْدًا بَطَلَتْ
صَلَاتُهُ وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ . وَهَذَا
يُسَمِّيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَاجِبًا وَيُسَمِّيهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ سُنَّةً
وَاجِبَةً . وَيَقُولُونَ : سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ
مَعْنَوِيٌّ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ يُعِيدُ وَمَنْ
تَرَكَهُ سَهْوًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ . وَمَالِكٌ وَأَحْمَد عِنْدَهُمَا
الْأَفْعَالُ فِي الصَّلَاةِ أَنْوَاعٌ كَأَفْعَالِ الْحَجِّ . وَأَبُو حَنِيفَةَ
يَجْعَلُهَا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ ؛ لَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ النَّوْعَ الْوَاجِبَ
يَكُونُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا
أَوْ سَهْوًا . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَعِنْدَهُ الْوَاجِبُ فِيهَا هُوَ الرُّكْنُ
بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ بِاتِّفَاقِهِمْ فِيهِ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ
غَيْرُ الرُّكْنِ وَغَيْرُ الْمُسْتَحَبِّ .
وَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى
غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى . { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } وَكَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } .
وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ { قَالَ لِامْرَأَةِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَعَلَى
زَوْجِك } وَكَانَتْ قَدْ طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا وَعَلَى
زَوْجِهَا . وَأَيْضًا لَا نِزَاعَ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى آلِهِ تَبَعًا كَمَا
عَلَّمَ أُمَّتَهُ أَنْ يَقُولُوا : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى
آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ
مَجِيدٌ
وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ
إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .
وَأَمَّا صَلَاةُ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ مُنْفَرِدًا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ :
صَلَّى اللَّهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيٍّ .
فَفِيهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرِ : صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْك . وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ
عَقِيلٍ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ نِزَاعًا .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُمَا وَهُوَ الَّذِي
ذَكَرَهُ جَدُّنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ لَمْ يَذْكُرْ
غَيْرَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَا
أَعْلَمُ الصَّلَاةَ تَنْبَغِي مِنْ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ مَنْ مَنَعَ : أَمَّا
صَلَاتُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا
لِغَيْرِهِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِهِ تَبَعًا فَقَدْ يَجُوزُ تَبَعًا
مَا لَا يَجُوزُ قَصْدًا . وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِالْخَلِيفَتَيْنِ
الرَّاشِدَيْنِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَبِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَحَدٍ كَمَا يَجِبُ فِي
حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَتَخْصِيصُهُ كَانَ
بِالْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ لَا بِالْجَوَازِ وَالِاسْتِحْبَابِ . قَالُوا : وَقَدْ
ثَبَتَ أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ } . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ ؟ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهَذَا ذَكَرَهُ لَمَّا صَارَ أَهْلُ الْبِدَعِ يَخُصُّونَ بِالصَّلَاةِ عَلِيًّا أَوْ غَيْرَهُ وَلَا يُصَلُّونَ عَلَى غَيْرِهِمْ . فَهَذَا بِدْعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ الْعَبَّاسِيِّينَ وَلَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَلَا عَلَى أَزْوَاجِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ } . فَحِينَئِذٍ لَا حُجَّةَ لِمَنْ خَصَّ بِالصَّلَاةِ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ دُون سَائِرِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَدُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ . وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَنْ قَالَ إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِهِ مَمْنُوعٌ مِنْهَا طَرَدَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي فَقَالُوا : لَا يُسَلَّمُ عَلَى غَيْرِهِ . وَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْكَرُوهُ . فَإِنَّ السَّلَامَ عَلَى الْغَيْرِ مَشْرُوعٌ سَلَامَ التَّحِيَّةِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدٌ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالرَّدُّ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ إمَّا عَلَى الْأَعْيَانِ وَإِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ . وَالْمُصَلِّي إذَا خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ فَيَقُولُوا : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ } . فَاَلَّذِينَ جَعَلُوا السَّلَامَ مِنْ خَصَائِصِهِ لَا يَمْنَعُونَ مِنْ السَّلَامِ عَلَى الْحَاضِرِ لَكِنْ يَقُولُونَ : لَا يُسَلَّمُ عَلَى الْغَائِبِ . فَجَعَلُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ مَعَ الْغَيْبَةِ مِنْ خَصَائِصِهِ . وَهَذَا حَقٌّ . لَكِنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ وَإِيجَابَهُ هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ . فَلَيْسَ فِيهِ سَلَامٌ عَلَى مُعَيَّنٍ إلَّا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ السَّلَامَ كَالصَّلَاةِ كِلَاهُمَا وَاجِبٌ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا . وَغَيْرُهُ فَلَيْسَ وَاجِبًا إلَّا سَلَامُ التَّحِيَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَكَّدٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَهَلْ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ أَنَّهُ وَاجِبٌ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ وَيَعُودُهُ إذَا مَرِضَ وَيُشَيِّعُهُ إذَا مَاتَ وَيُجِيبُهُ إذَا دَعَاهُ وَرُوِيَ وَيُشَمِّتُهُ إذَا عَطَسَ } . وَقَدْ أَوْجَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ . وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِإِجْمَاعِهِمْ وَالسَّلَامُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَوْكَدُ مِنْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ . وَكَذَلِكَ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَالشَّرُّ الَّذِي يَحْصُلُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَمْ يَعُدْهُ إذَا مَرِضَ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يُجِبْ دَعْوَتَهُ . وَالسَّلَامُ أَسْهَلُ مِنْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَمِنْ الْعِيَادَةِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ سَلَامَ التَّحِيَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فِي الْمَحْيَا وَفِي الْمَمَاتِ إذَا زَارَ قَبْرَ الْمُسْلِمِ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَهُ حَيًّا أَوْ زَارَ قَبْرَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ . فَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا السَّلَامَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَا فِيهِ فَضِيلَةٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ . بَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ " حَيٍّ وَمَيِّتٍ . وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ . وَهَذَا لَيْسَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ إذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ . وَهَكَذَا إذَا زَارَ الْقَبْرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْمَيِّتِ . لَا أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَاللِّقَاءِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ . وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ هُوَ مِنْ السَّلَامِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَمَنْ سَلَّمَ يُسَلِّمُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ عَشْرًا . فَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمَأْمُورُ بِهِ الْأَفْضَلُ الْأَنْفَعُ الْأَكْمَلُ الَّذِي لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ . وَذَاكَ جَهْدٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا يُؤْمَرُ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لِمُجَرَّدِهِ ؛ بَلْ قَصْدُ نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَالدُّعَاءِ هُوَ اتِّخَاذٌ لَهُ عِيدًا وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا } . فَلِهَذَا كَانَ الْعَمَلُ الشَّائِعُ فِي الصَّحَابَةِ - الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَسْجِدَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ
فِي
الصَّلَاةِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَيَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا اخْتَارُوا مِنْ الدُّعَاءِ
الْمَشْرُوعِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا عَلَّمَهُ
التَّشَهُّدَ قَالَ : { ثُمَّ لِيَتَخَيَّر بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الدُّعَاءِ
أَعْجَبَهُ إلَيْهِ } . وَلَمْ يَكُونُوا يَذْهَبُونَ إلَى الْقَبْرِ لَا مِنْ
دَاخِلِ الْحُجْرَةِ وَلَا مِنْ خَارِجِهَا ؛ لَا لِدُعَاءِ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا
سَلَامٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ
فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْصِدُوهَا لِحَوَائِجِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ
الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ يُعْرَفْ فِي الْقُرُونِ
الثَّلَاثَةِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِ لَا فِي زَمَنِ
الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ إذَا
تَصَوَّرَهَا ذُو الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ عَرَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ
الْأُمُورِ . وَفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُ التَّوْحِيدَ وَالسُّنَّةَ
وَالْإِيمَانَ وَمَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ
الرَّاشِدِينَ وَجُمْهُورَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ
وَيُصَلُّونَ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا
يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَ الْقُدُومِ
مِنْ السَّفَرِ بَلْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ فَيُصَلُّونَ فِيهِ وَيُسَلِّمُونَ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَأْتُونَ الْقَبْرَ
وَمَقْصُودُ بَعْضِهِمْ التَّحِيَّةُ .
وَأَيْضًا فَقَدْ اُسْتُحِبَّ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يُسَلِّمَ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولَ : بِسْمِ اللَّهِ
وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ
لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك . وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ يَقُولُ :
بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِك . فَهَذَا السَّلَامُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ كُلَّمَا يَدْخُلُ يُغْنِي عَنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ . وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ فَيُصَلُّونَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ إذَا سَمِعُوا الْأَذَانَ وَيَطْلُبُونَ لَهُ الْوَسِيلَةَ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ ؛ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ . } وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الَّذِي يُسْتَحَبُّ عِنْدَ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ مِنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ هُوَ سَلَامُ التَّحِيَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ كَمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِ كُلِّ مُسْلِمٍ وَعِنْدَ لِقَائِهِ فَيُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَقَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَكَانَ إذَا أَتَى الْمَقَابِرَ قَالَ : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ . أَنْتُمْ لَنَا فَرْطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ . أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَة لَنَا وَلَكُمْ } وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا
{ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ } . وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ . وَاَللَّهُ يُسَلِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَاحِدَةً سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا . وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ وَمَقْصُودُهُ مِنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ فَلَمْ يَبْقَ فِي إتْيَانِ الْقَبْرِ فَائِدَةٌ لَهُمْ وَلَا لَهُ بِخِلَافِ إتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاء فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَهُ كُلَّ سَبْتٍ فَيُصَلُّونَ فِيهِ اتِّبَاعًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ كَعُمْرَةِ . وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ إذْ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنَ لَا يُغْنِي عَنْ الْآخَرِ بَلْ يَحْصُلُ بِهَذَا أَجْرٌ زَائِدٌ . وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إلَى الْبَقِيعِ وَأَهْلِ أُحُدٍ كَمَا كَانَ يَخْرُجُ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَهُمْ كَانَ حَسَنًا لِأَنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا وَهُمْ لَا يَدْعُونَ لَهُمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يُقَالَ : هَذَا يُغْنِي عَنْ هَذَا . وَمَعَ هَذَا فَقَدَ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ اتِّخَاذِ ذَلِكَ سُنَّةً . وَلَمْ يَأْخُذْ فِي هَذَا بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا لَمْ يَأْخُذْ بِفِعْلِهِ فِي التَّمَسُّحِ بِمَقْعَدِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَا بِاسْتِحْبَابِ قَصْدِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا لِكَوْنِ الصَّلَاةِ أَدْرَكَتْهُ فِيهَا فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ قَصْدَهَا لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَكَانَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ لَا يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَسْتَحِبُّونَ مَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِبُّهُ
وَهُوَ
أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ وَكَانَ أَبُوهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ يَنْهَى مِنْ يَقْصِدُهَا لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَيَقُولُ : إنَّمَا
هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا فَإِنَّهُمْ اتَّخَذُوا آثَارَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ فَلْيُصَلِّ
وَإِلَّا فَلْيَذْهَبْ . فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِمَا سَنَّهُ
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كَانَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ
أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِمْ وَلَهُ خُصُوصُ الْأَمْرِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ
وَبِأَبِي بَكْرٍ حَيْثُ قَالَ : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ } . فَالْأَمْرُ بِالِاقْتِدَاءِ أَرْفَعُ مِنْ الْأَمْرِ
بِالسُّنَّةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ .
وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ الْمَجِيءِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
خَشْيَةَ أَنْ يُتَّخَذَ السَّفَرُ إلَيْهِ سُنَّةً فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ
لَمَّا جُعِلَ لِهَذَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَوَقْتِ الْحَجِّ الَّذِي يَذْهَبُ
إلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَفْعَلْ هَذَا لَا فِي قُبَاء وَلَا فِي قُبُورِ الشُّهَدَاءِ وَأَهْلِ
الْبَقِيعِ وَلَا غَيْرِهِمْ كَمَا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ وَفِي
الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ . فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ هَذَا .
مَعَ أَنَّهُ صَلَّى التَّطَوُّعَ فِي جَمَاعَةٍ مَرَّاتٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ
وَوَقْتَ الضُّحَى وَغَيْرِهِ وَلَكِنْ لَمْ يُجْعَلْ الِاجْتِمَاعُ مِثْلَ
تَطَوُّعٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ سُنَّةً كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَكَصَلَاةِ
الْكُسُوفِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجُمْعَةِ . وَأَمَّا إتْيَانُ الْقَبْرِ لِلسَّلَامِ
عَلَيْهِ فَقَدْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ
وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَفِي إتْيَانِهِ بَعْد
الصَّلَاةِ مَرَّةً بَعْد مَرَّةٍ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يُتَّخَذَ عِيدًا وَوَثَنًا
وَقَدْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدْفُونٌ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَكَانَتْ حُجْرَةُ عَائِشَةَ وَسَائِرُ حُجَرِ أَزْوَاجِهِ مِنْ جِهَةِ شَرْقِيِّ الْمَسْجِدِ وَقِبْلَتُهُ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي مَسْجِدِهِ بَلْ كَانَ يَخْرَجُ مِنْ الْحُجْرَةِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَكِنْ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ وُسِّعَ الْمَسْجِدُ وَكَانَ يُحِبُّ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ وَعَمَّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَسْجِدَ دِمَشْقَ وَغَيْرَهُمَا فَأَمَرَ نَائِبَهُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ مِنْ أَصْحَابِهَا الَّذِينَ وَرِثُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ . فَمِنْ حِينَئِذٍ دَخَلَتْ الْحُجَرُ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الصَّحَابَةِ : بَعْدَ مَوْتِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَبَعْدَ مَوْتِ عَائِشَةَ ؛ بَلْ بَعْدَ مَوْتِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ فِي الْمَدِينَة مِنْهُمْ أَحَدٌ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ كَرِهَ ذَلِكَ . وَقَدْ كَرِهَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ بِالْحِجَارَةِ وَالْقَصَّةِ وَالسَّاجِ وَهَؤُلَاءِ لِمَا فَعَلَهُ الْوَلِيدُ أَكْرَهُ . وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ وَسَّعَهُ لَكِنْ بَنَاهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ بِنَائِهِ مِنْ اللَّبِنِ وَعُمُدُهُ جُذُوعُ النَّخْلِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ . وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا كَرِهَ مَا فَعَلَ عُمَرُ ؛ وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ وَالْوَلِيدُ . وَكَانَ مِنْ أَرَادَ السَّلَامَ عَلَيْهِ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَأْتِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَرْبِيِّ الْحُجْرَةِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إمَّا مُسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةِ
وَإِمَّا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ . وَالْآنَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ . فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةَ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . فَإِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ تَوَلَّى بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَمَانِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَكَانَ قَدْ مَاتَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ وَتُوَفِّي عَامَّةُ الصَّحَابَةِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ . وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بِالْأَمْصَارِ إلَّا قَلِيلٌ جِدًّا : مِثْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِالْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ سَنَةَ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا . وَالْوَلِيدُ أَدْخَلَ الْحُجْرَةَ بَعْد ذَلِكَ بِمُدَّةِ طَوِيلَةٍ نَحْوَ عَشْرِ سِنِينَ . وَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ جَابِرٍ فَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ . وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَزَادَ فِي الْمَسْجِدِ وَالصَّحَابَةُ كَثِيرُونَ وَلَمْ يُدْخِلْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْحُجْرَةِ بَلْ تَرَكَ الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ خَارِجَةً عَنْ الْمَسْجِدِ مُتَّصِلَةً بِهِ مِنْ شَرْقِيِّهِ كَمَا كَانَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهَا . وَلَمْ تَزَلْ عَائِشَةُ فِيهَا إلَى أَوَاخِرَ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ . وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ اسْتَأْذَنَهَا فِي أَنْ يُدْفَنَ فِي الْحُجْرَةِ فَأَذِنَتْ لَهُ لَكِنْ كَرِهَ ذَلِكَ نَاسٌ آخَرُونَ وَرَأَوْا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يُدْفَنْ فِيهَا فَلَا يُدْفَنُ غَيْرُهُ . وَكَادَتْ تَقُومُ فِتْنَةٌ . وَلَمَّا احْتَضَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ مَعَ
صَوَاحِبَاتِهَا
بِالْبَقِيعِ وَلَا تُدْفَنَ هُنَاكَ . فَعَلَتْ هَذَا تَوَاضُعًا أَنْ تُزَكَّى
بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَلِهَذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيمَا
فَعَلَهُ الْوَلِيدُ هَلْ هُوَ جَائِزٌ أَوْ مَكْرُوهٌ إلَّا التَّابِعُونَ
كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَمْثَالِهِ . وَكَانَ سَعِيدٌ إذْ ذَاكَ مِنْ
أَجَلِّ التَّابِعِينَ قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : أَيُّ التَّابِعِينَ
أَفْضَلُ ؟ قَالَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ . فَقِيلَ لَهُ : فَعَلْقَمَةُ
وَالْأُسُودُ ؟ فَقَالَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ . وَعَلْقَمَةُ وَالْأُسُودُ
هَذَانِ كَانَا قَدْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةِ . وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ
دَخَلَتْ فِي الْمَسْجِدِ . وَكَانَ الْمَسْجِدُ قَبْلَ دُخُولِ الْحُجَرِ فِيهِ
فَاضِلًا وَكَانَتْ فَضِيلَةُ الْمَسْجِدِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَاهُ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يُصَلِّي فِيهِ هُوَ
وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَفُضِّلَ بِبِنَائِهِ لَهُ . قُلْت
قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي أَقَامَ قِبْلَتَهُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَبِأَنَّهُ كَانَ هُوَ الَّذِي
يَقْصِدُ فِيهِ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ إلَى أَنْ مَاتَ وَمَا صَلَّى جُمْعَةً
بِغَيْرِهِ قَطُّ لَا فِي سَفَرِهِ وَلَا فِي مُقَامِهِ . وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ
فَكَانَ يُصَلِّيهَا حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ .
وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ
بِأَنْ نُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَنُطِيعَهُ فِي كُلِّ مَا
أَوْجَبَهُ وَأَمَرَ بِهِ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِهِ إلَّا بِهَذَا وَهَذَا .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي يُشْرَعُ لَنَا أَنْ
نَقْتَدِيَ بِهِ فَمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ
أَوْ الْإِبَاحَةِ نَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ
الْإِبَاحَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ
إلَّا مَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ . فَإِذَا قَصَدَ عِبَادَةً فِي مَكَانٍ شُرِعَ لَنَا أَنْ نَقْصِدَ تِلْكَ الْعِبَادَةَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ . فَلَمَّا قَصَدَ السَّفَرَ إلَى مَكَّةَ وَقَصَدَ الْعِبَادَةَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ وَالطَّوَافَ بِهِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالصُّعُودَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَبِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَرَمْيَ الْجِمَارِ وَالْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ دُونَ الثَّالِثَةِ الَّتِي هِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَشْرُوعًا لَنَا إمَّا وَاجِبًا وَإِمَّا مُسْتَحَبًّا . وَلَمْ يَذْهَبْ بِمَكَّةَ إلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَا سَافَرَ إلَى الْغَارِ الَّذِي مَكَثَ فِيهِ لَمَّا سَافَرَ سَفَرَ الْهِجْرَةِ وَلَا صَعِدَ إلَى غَارِ حِرَاءَ الَّذِي كَانَ يَتَحَنَّثُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ وَكَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً لِأَهْلِ مَكَّةَ قِيلَ إنَّهُ سَنَّهَا لَهُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَصَلَّى عَقِبَ الطَّوَافِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُصَلِّ عَقِبَ الطَّوَافِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ شَيْئًا . وَحِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ طَافَ بِالْبَيْتِ وَكَانَ الطَّوَافُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُ تَحِيَّةً كَمَا تُصَلَّى فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ كَمَا أَنَّهُ افْتَتَحَ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ حِينَ أَتَى مِنًى وَتِلْكَ هِيَ الْعِبَادَةُ وَبَعْدَهَا نَحَرَ هَدْيَهُ ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ . وَلِهَذَا صَارَتْ السُّنَّةُ أَنَّ أَهْلَ مِنًى يَرْمُونَ ثُمَّ يَذْبَحُونَ وَالرَّمْيُ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ لِغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ بِمِنًى صَلَاةُ عِيدٍ وَلَا جُمْعَةٌ لَا بِهَا وَلَا بِعَرَفَةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ بِهِمَا صَلَاةَ عِيدٍ وَلَا صَلَّى يَوْمَ عَرَفَةَ جُمْعَةً وَلَا كَانَ فِي أَسْفَارِهِ يُصَلِّي جُمْعَةً وَلَا عِيدًا . وَلِهَذَا
كَانَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تُصَلَّى فِي السَّفَرِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا نِزَاعٌ شَاذٌّ . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعِيدَ أَيْضًا لَا يَكُونُ إلَّا حَيْثُ تَكُونُ الْجُمْعَةُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . لَمْ يُصَلِّ عِيدًا فِي السَّفَرِ وَلَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِهِ إلَّا عِيدًا وَاحِدًا . وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُصَلِّي الْعِيدَ مُنْفَرِدًا . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَلِهَذَا صَارَ الْمُسْلِمُونَ بِمِنًى يَرْمُونَ ثُمَّ يَذْبَحُونَ النُّسُكَ اتِّبَاعًا لِسُنَّتِهِ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ كَانَ عِبَادَةً تُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ وَمَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً وَلَا مُسْتَحَبًّا . وَمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّعَبُّدِ بِهِ كَانَ مُبَاحًا . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ مُشَابَهَتَهُ فِي هَذَا فِي الصُّورَةِ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ : إنَّمَا تَكُونُ الْمُتَابَعَةُ إذَا قَصَدْنَا مَا قَصَدَ وَأَمَّا الْمُشَابَهَةُ فِي الصُّورَةِ مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ فِي الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ فَلَا تَكُونُ مُتَابَعَةً . فَمَا فَعَلَهُ عَلَى غَيْرِ الْعِبَادَةِ فَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَابَعَةِ ؛ بَلْ مُخَالَفَةٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ سَأَلَهُ : أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ ؟ فَقَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ثُمَّ حَيْثُ مَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ } . وَرُوِيَ فِي
الصَّحِيحِ : { فَإِنَّ فِيهِ الْفَضْلَ } . فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَانِ فَتَرَكُوا الصَّلَاةَ فِيهِ وَذَهَبُوا إلَى مَكَانٍ آخَرَ لِكَوْنِهِ فِيهِ أَثَرٌ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ خَالَفُوا السُّنَّةَ . وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمًا يَنْتَابُونَ مَكَانًا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : وَمَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ ؟ إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ بِمِثْلِ هَذَا فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ فَلْيُصَلِّ فِيهِ وَإِلَّا فَلْيَذْهَبْ . فَمَسْجِدُهُ الْمُفَضَّلُ لَمَّا كَانَ يُفَضِّلُ الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ مُسْتَحَبًّا فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } وَقَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ ثَابِتَةٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ الْحُجْرَةُ : بَلْ كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِيهِ أَفْضَلَ مِمَّنْ صَلَّى فِيهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ بَعْدَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ صَارَ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ . بَلْ الْفَضِيلَةُ إنْ اخْتَلَفَتْ الْأَزْمِنَةُ وَالرِّجَالُ فَزَمَنُهُ وَزَمَنُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَفْضَلُ وَرِجَالُهُ أَفْضَلُ . فَالْمَسْجِدُ حِينَئِذٍ قَبْلَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ كَانَ أَفْضَلَ إنْ اخْتَلَفَتْ الْأُمُورُ وَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ
فَلَا فَرْقَ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ صَارَ بِدُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ . وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا دُخُولَ الْحُجْرَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا قَصَدُوا تَوْسِيعَهُ بِإِدْخَالِ حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَتْ فِيهِ الْحُجْرَةُ ضَرُورَةً مَعَ كَرَاهَةِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا بُنِيَ لِلَّهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ فَضِيلَتُهَا بِعِبَادَةِ اللَّهِ فِيهَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِمَنْ عَبَدَ اللَّهَ فِيهَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَبِبِنَائِهَا لِذَلِكَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } . وَالْأَعْمَالُ تُفَضَّلُ بِنِيَّاتِ أَصْحَابِهَا وَطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } . وَبِذَلِكَ يُثَابُونَ وَعَلَى تَرْكِ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ يُعَاقَبُونَ وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ بَلَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْمَصَائِبِ فَبِذُنُوبِهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : أَيْ مَا أَصَابَك مِنْ نَصْرٍ وَرِزْقٍ وَعَافِيَةٍ فَهُوَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْك وَمَا أَصَابَك مِنْ الْمَصَائِبِ فَبِذُنُوبِك . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَلَا يَكُونُ التَّوَكُّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَلَا تَكُونُ الْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حَقٌّ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ مِثْلُ وُجُوبِ طَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا يُوجِبُ وَيَأْمُرُ . قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } . وَلِهَذَا كَانَتْ مُبَايَعَتُهُ مُبَايَعَةً لِلَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } فَإِنَّهُمْ عاقدوه عَلَى أَنْ يُطِيعُوهُ فِي الْجِهَادِ وَلَا يَفِرُّوا وَإِنْ مَاتُوا . وَهَذِهِ الطَّاعَةُ لَهُ هِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ . وَعَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا وَآبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَأَهْلِنَا وَأَمْوَالِنَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ : { وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ } . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فَإِنَّك الْآنَ وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ يَا عُمَرُ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ } . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا نَجَاةَ لِأَحَدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا وُصُولَ لَهُ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ : بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَاتِّبَاعِهِ . وَهُوَ الَّذِي يُنْجِيهِ اللَّهُ بِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَهُوَ الَّذِي يُوصِلُهُ إلَى خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَأَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَنْفَعُهَا نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ أَنْصَحُ وَأَنْفَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ . فَإِنَّهُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا هُوَ . وَأَمَّا نَفْسُهُ وَأَهْلُهُ فَلَا يُغْنُونَ عَنْهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا . وَهُوَ دَعَا الْخَلْقَ إلَى اللَّهِ بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } وَالْمُخَالِفُ لَهُ يَدْعُو إلَى غَيْرِ اللَّهِ بِغَيْرِ إذْنِ اللَّهَ . وَمَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدْعُو إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وقَوْله تَعَالَى { بِإِذْنِهِ } أَيْ بِأَمْرِهِ وَمَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } فَمَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ دَعَا إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَيْ عَلَى بَيِّنَةٍ وَعِلْمٍ يَدْعُو إلَيْهِ بِمَنْزِلِ مِنْ اللَّهِ بِخِلَافِ الَّذِي يَأْمُرُ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَوْ بِمَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ وَحْيًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } . وَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَدَبَ إلَيْهِ مِنْ حُقُوقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِحُجْرَتِهِ لَا مِنْ دَاخِلٍ وَلَا مِنْ خَارِجٍ . بَلْ يُفْعَلُ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا . فَلَيْسَ فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَتَبْلِيغِ الْعِلْمِ عَنْهُ وَالْجِهَادِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُتَقَرَّبُ إلَيْهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ حُجْرَتِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ فِيمَا بَعُدَ عَنْ الْحُجْرَةِ لَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ ؛ بَلْ قَدْ نَهَى هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْعَلَ بَيْتُهُ عِيدًا . فَنَهَى أَنْ يُقْصَدَ بَيْتُهُ بِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . فَمَنْ قَصَدَ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ
فِعْلَ
ذَلِكَ عِنْدَ الْحُجْرَةِ أَفْضَلُ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا مِمَّا كَانَ مَشْرُوعًا كَالْإِيمَانِ بِهِ .
وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
عَلَيْهِ . وَأَمَّا مَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا
إلَيْهِ بَلْ نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَدُعَاءِ غَيْرِ
اللَّهِ وَعِبَادَتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَلَائِكَةِ
وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَالْحَجِّ إلَى الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَى
قُبُورِهِمْ : فَهَذِهِ إنَّمَا يَأْمُرُ بِهَا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ
عِلْمٌ وَلَا وَحْيٌ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ فَهُمْ يُضَاهُونَ الَّذِينَ
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونَ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ
لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أَوْ هُمْ نَوْعٌ مِنْهُمْ .
وَقَدْ مَيَّزَ اللَّهُ بَيْنَ حَقِّهِ وَحَقِّ الرَّسُولِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ :
{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ } فَالطَّاعَةُ
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْخَشْيَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ
وَحْدَهُ لَا يُخْشَى مَخْلُوقٌ وَلَا يُتَّقَى مَخْلُوقٌ لَا مَلَكٌ وَلَا
نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُمَا . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا
إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } {
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ
اللَّهِ تَتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ
وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } . وَكَذَلِكَ مَيَّزَ بَيْنَ
النَّوْعَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا
آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَفِي الْإِيتَاءِ قَالَ : { آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ . فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وَلَمْ يَقُلْ هُنَا : " وَرَسُولُهُ " ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ حَسْبُ جَمِيعِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ هُوَ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } ذَكَرَ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ } { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } . عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هُمْ الَّذِينَ لَا يَعْدِلُونَ بِاَللَّهِ فَيَتَوَلَّاهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ وَلَا تَضُرُّهُمْ عَدَاوَةُ مَنْ عَادَاهُمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مِمَّا يَأْمُرُهُمْ : { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَجْعَلُوا الرَّغْبَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وَهَذَا لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَمْلِكُ لِلْمَخْلُوقِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا . وَهَذَا عَامٌّ فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَالْمَسِيحِ وَعُزَيْرَ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : كَانَ قَوْمٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ قَوْمًا مِنْ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَبَقِيَ أُولَئِكَ عَلَى عِبَادَتِهِمْ . فَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ دَعَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ هُوَ صَالِحٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ قَالَ تَعَالَى : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَعَوْتُمُوهُمْ { فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ : أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ يَطْلُبُونَ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ وَالتَّزَلُّفَ إلَيْهِ وَأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةُ حَالِهِمْ . وَالضَّمِيرُ فِي ( رَبِّهِمْ لِلْمُبْتَغِينَ أَوْ لِلْجَمِيعِ . و ( الْوَسِيلَةُ هِيَ الْقُرْبَةُ وَسَبَبُ الْوُصُولِ إلَى الْبُغْيَةِ وَتَوَسَّلَ الرَّجُلُ إذَا طَلَبَ الدُّنُوَّ وَالنَّيْلَ لِأَمْرِ مَا وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ } الْحَدِيثُ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ذَكَرَ سَائِرَ الْمُفَسِّرِينَ نَحْوَهُ إلَّا أَنَّهُ بَرَزَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَقَالَ : و { أَيُّهُمْ } ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ { أَقْرَبُ } و { أُولَئِكَ } يُرَادُ بِهِمْ الْمَعْبُودُونَ وَهُوَ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ { يَبْتَغُونَ } . وَالضَّمِيرُ فِي { يَدْعُونَ } لِلْكُفَّارِ وَفِي { يَبْتَغُونَ } لِلْمَعْبُودِينَ . وَالتَّقْدِيرُ نَظَرُهُمْ وَذِكْرُهُمْ { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } . وَهَذَا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الرَّايَةِ بِخَيْبَرِ : فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا أَيْ يَتَبَارَوْنَ فِي طَلَبِ الْقُرْبِ . قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَطَفَّفَ الزَّجَّاجُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَتَأَمَّلْهُ . وَلَقَدْ صَدَقَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الزَّجَّاجَ ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ وَتَابَعَهُ المهدوي والبغوي وَغَيْرُهُمَا . وَلَكِنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ كَانَ أَقْعَدَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْمَعَانِي مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَخْبَرَ بِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ فَعَرَفَ تَطْفِيفَ الزَّجَّاجِ مَعَ عِلْمِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَسَبْقِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا يَعْرِفُهُ مِنْ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ . وَأُولَئِكَ لَهُمْ بَرَاعَةٌ وَفَضِيلَةٌ فِي أُمُورٍ يَبْرُزُونَ فِيهَا عَلَى ابْنِ عَطِيَّةَ . لَكِنَّ دِلَالَةَ الْأَلْفَاظِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ بِهَا أَخْبَرُ وَإِنْ كَانُوا هُمْ أَخْبَرَ بِشَيْءِ آخَرَ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ أَوْ غَيْرِهَا . وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمَسِيحَ وَإِنْ كَانَ رَسُولًا كَرِيمًا فَإِنَّهُ عَبَدَ اللَّهَ فَمَنْ عَبَدَهُ فَقَدْ عَبَدَ مَا لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { أَفَلَا يَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . وَقَدْ أَمَرَ تَعَالَى أَفْضَلَ الْخَلْقِ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُ لِغَيْرِهِ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ : { قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } { قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } { إلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ } يَقُولُ : لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ إنْ عَصَيْته كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } { وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } أَيْ مَلْجَأً أَلْجَأُ إلَيْهِ . { إلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ } أَيْ لَا يُجِيرُنِي مِنْهُ أَحَدٌ إلَّا طَاعَتُهُ أَنْ أُبَلِّغَ مَا أُرْسِلْت بِهِ إلَيْكُمْ فَبِذَلِكَ تَحْصُلُ الْإِجَارَةُ وَالْأَمْنُ . وَقِيلَ أَيْضًا : { لَا
أَمْلِكُ
لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } لَا أَمْلِكُ إلَّا تَبْلِيغَ مَا أُرْسِلْت بِهِ
مِنْهُ . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْنَ
مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَحُصُولَ السَّعَادَةِ إنَّمَا هُوَ بِطَاعَتِهِ تَعَالَى
لِقَوْلِهِ : { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ }
وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } أَيْ
لَوْ لَمْ تَدْعُوهُ كَمَا أَمَرَ فَتُطِيعُوهُ فَتَعْبُدُوهُ وَتُطِيعُوا
رُسُلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِكُمْ شَيْئًا . وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي
أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُبْتَغَى إلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } قَالَ
عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالْفَرَّاءِ :
الْوَسِيلَةُ الْقُرْبَةُ . قَالَ قتادة : تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِمَا
يُرْضِيهِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : تَوَسَّلْت إلَيْهِ أَيْ تَقَرَّبْت .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : تَحَبَّبُوا إلَى اللَّهِ .
وَالتَّحَبُّبُ وَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ إنَّمَا هُوَ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ .
فَالْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَطَاعَتُهُ هُوَ وَسِيلَةُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ
لَيْسَ لَهُمْ وَسِيلَةٌ يَتَوَسَّلُونَ بِهَا أَلْبَتَّةَ إلَّا الْإِيمَانُ
بِرَسُولِهِ وَطَاعَتُهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ وَسِيلَةٌ إلَى
اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَّا بِوَسِيلَةِ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرَّسُولِ
الْكَرِيمِ وَطَاعَتِهِ . وَهَذِهِ يُؤْمَرُ بِهَا الْإِنْسَانُ حَيْثُ كَانَ مِنْ
الْأَمْكِنَةِ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ . وَمَا خُصَّ مِنْ الْعِبَادَاتِ بِمَكَانِ
كَالْحَجِّ أَوْ زَمَانٍ كَالصَّوْمِ وَالْجُمْعَةِ فَكُلٌّ فِي مَكَانِهِ
وَزَمَانِهِ . وَلَيْسَ لِنَفْسِ الْحُجْرَةِ مِنْ دَاخِلٍ - فَضْلًا عَنْ
جِدَارِهَا مِنْ خَارِجٍ - اخْتِصَاصٌ بِشَيْءِ فِي شَرْعِ ==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق